الفصل الثاني

سادت فترة صمت قصيرة.

فقال روبرت: «أهذه هي الفتاة التي تجلس في سيارة خارج بوابة منزل فرنتشايز حاليًّا؟»

«أجل.»

«أعتقد أنَّ لديك أسبابًا لإحضارها إلى هنا.»

«صحيح. عندما تعافَت الفتاةُ بالدرجة الكافية استُدعِيَت إلى الشرطة لتُدلِيَ بروايتها. ثم دُوِّنت على نحوٍ مختزل مثلما أدْلَت بها، ثم قرأَت النسخة المكتوبة ووقَّعَت عليها. في تلك الإفادة أمران ساعدا الشرطة كثيرًا. ها هما المقتطفان ذوا الصلة:

«لمَّا قطَعنا مسافةً بعض الوقت مرَرنا بحافلةٍ تحمل اسم ميلفورد على لافتةٍ مضيئة. لا، لا أدري أين تقع ميلفورد. لا، لم أزُر ميلفورد قط.»

هذا هو المقتطف الأول. والآخر هو:

«من نافذةِ العِلية، كان بإمكاني أن أرى سورًا عاليًا من الطوب في منتصَفه بوابةٌ حديدية ضخمة. كان يُوجَد طريق على الجانب الآخر من السور؛ لأني رأيت أعمدة خطوط الهاتف والبرق. لا، لم يكن بوُسعي ملاحظةُ أيِّ حركة سَير عليه لأن السور كان مرتفعًا للغاية. فقط بعض أسطح الأحمال المنقولة على الشاحنات في بعض الأحيان. ولا تسَعُك الرؤية عبر البوابة حيث ثُبِّتت ألواحٌ حديدية عليها من الداخل. وداخل البوابة هناك مسارٌ للسيارات يسير في اتجاهٍ مُستقيم قليلًا ثم ينقسِم إلى مسارَين يُشكِّلان دائرةً تُفْضي إلى الباب. لا، لم تكن حديقة، إنما هي مجرد عُشب. أجل، أظن أنها أرضٌ عُشبية. لا، لا أتذكَّر أيَّ شُجيرات؛ مجرد عشب ومسارات.»»

أغلق جرانت مُفكرته الصغيرة التي كان يسرد منها.

«على حدِّ علمنا — وعلاوةً على إجراء بحثٍ دقيق — لم يستوفِ أيُّ منزلٍ آخرَ يقع بين لاربورو وميلفورد وصْفَ الفتاة، باستثناء منزلِ فرنتشايز. يزيد على ذلك، أن منزل فرنتشايز يستوفي الوصفَ في كل تفاصيله. وعندما رأت الفتاةُ السورَ والبوابة اليوم كانت على يقينٍ بأن ذلك هو المكان، لكنها لم ترَ ما داخل البوابة إلى الآن، بالطبع. وكان لا بد أن أشرحَ للآنسة ماريون شارب أولًا، وأرى إذا كان لدَيها استعدادٌ لمواجهتها بالفتاة. وطلبَت بما يحقُّ لها ضرورةَ حضور شاهدٍ قانوني.»

قالت ماريون شارب، وهي تلتفتُ إلى روبرت: «هل تستعجب أني أردتُ مساعدةً عاجلة؟» ثم تابعَت قائلة: «هل بإمكانك أن تتخيَّل كابوسًا سخيفًا أكثر من ذلك؟»

قال روبرت: «إن رواية الفتاة قطعًا هي مزيجٌ لا مثيلَ له في غرابته بين أمورٍ واقعية وأخرى غير منطقية. أُدرك أن الخادمات المنزليات غير مُتاحات بسهولة، لكن أيُمكن لأحدٍ أن يتوقَّع إقناع خادمة بالعمل لدَيه بحبسِها قسرًا، ناهيك عن ضربها وتجويعها.»

وافقه جرانت في الرأي، وعيناه ثابتتان لا تَحيدان عن عينَي روبرت متحاشيًا النظرَ إلى ماريون شارب: «لا يُوجَد شخصٌ سَويٌّ يفعل ذلك، بكل تأكيد.» ثم أضاف قائلًا: «لكن صدِّقني في أول اثنَي عشَر شهرًا لي في الشرطة واجهتُ عشَرات الأحداث يستحيل تصديقُها أكثرَ من ذلك. فلا حدَّ للمُبالَغات في تصرُّفات البشر.»

«أتفق معك، لكن من المُحتمل أن المبالغةَ هي في سلوك الفتاة تحديدًا. ففي نهاية الأمر، تبدأ المبالغةُ من طرَفها هي. فهي الشخص الذي ظلَّ مفقودًا لمدة …» ثم توقف مستفسرًا.

فأجابه جرانت: «شهر واحد.»

«لشهرٍ واحد، ولا يُوجَد دليلٌ على أن سَير الحياة في منزل فرنتشايز قد حادَ عن نظامه السائد مطلقًا. ألا يُمكن للآنسة شارب أن تُقدِّم دليلًا على وجودها في مكانٍ آخَر يوم الحدث الذي نحن بصدده؟»

قالت ماريون شارب: «كلَّا لا يمكن.» ثم أضافت: «إن ذلك اليوم، طبقًا للمُحقق، هو الثامن والعشرون من مارس. هذا قد مضى عليه كثيرًا، وأيامنا هنا تختلف اختلافًا طفيفًا، إن لم يكن لا تختلف على الإطلاق. قد يُصبح مستحيلًا تمامًا لنا أن نتذكرَ ما كنَّا نفعلُه في الثامن والعشرين من مارس، وأكثر شيءٍ مُستبعَد أن يتذكَّر أحدٌ نيابةً عنا.»

سأل روبرت: «وخادمتك؟» ثم تابع قائلًا: «إن الخدَم لهم طرُقهم لتمييز سير الحياة في المنزل بدرجةٍ مُذهلة في أغلب الأحيان.»

فقالت: «ليس لدَينا خادمة.» ثم أردفَت قائلةً: «نحن نجد صعوبةً في أن نُبقِيَ خادمةً هنا؛ فمنزل فرنتشايز يقع في مكان ناءٍ.»

وللحظةٍ بدا أن الأمور ستُصبح مُريبة فسارع روبرت بتوضيحها.

«هذه الفتاة — لا أعرف اسمها، بالمناسبة.»

«إليزابيث كين، وهي مشهورة باسم بيتي كين.»

«صحيح، حقًّا؛ أخبرَتني بالفعل به. معذرة. هذه الفتاة — هل لنا أن نعرف أيَّ تفاصيل عنها؟ أعتقد أن الشرطة أجْرَت تحرِّياتٍ عنها قبل أن تقبلَ الكثير من قصتها. لماذا تعيش مع وصيَّين وليس والدَين، على سبيل المثال؟»

«هي طفلةٌ يتيمة فقَدَت والدَيها في الحرب. لقد أُجلِيَت إلى ضاحية إيلزبري وهي طفلةٌ صغيرة. لم يكن لدَيها إخوة، فأُسكِنَت مع أسرة وين، التي كانت قد وُهِبَت طفلًا يَكبُرُها بأربع سنوات. بعد قرابة اثنَي عشر شهرًا قُتل الوالدان، على إثر الحرب، وأصبحَت أسرة وين، التي أرادت دائمًا أن تكون لها ابنةٌ وأُغرِمَت بالطفلة كثيرًا، سعيدةً بضمِّ الطفلة إليها. واعتبرَتْهما الطفلةُ والدَيها؛ نظرًا إلى أنها لا تذكُر أبوَيها الحقيقِيَّين.»

«مفهوم. وماذا عن سِجلِّها الدراسي؟»

«ممتاز. فهي فتاة هادئة تمامًا، بشهادة الجميع. جيدةٌ في إنجاز الفروض المدرسية، لكنَّ ذكاءها لم يكن مميزًا. لم تتسبَّب في أي نوعٍ من المشكلات، سواءٌ في المدرسة أو خارجها. «صادقة بشدة» كانت الجملةَ التي استخدمتها المُعلِّمة في وصفها.»

«وعندما ظهرَت في النهاية عند منزلها، بعد مدةِ غيابها، أكان هناك أيُّ أثر للضرب الذي تعرَّضَت له كما كانت قد أدْلَت في قصتها؟»

«أجل. قطعًا. فحصها طبيبُ أسرة وين في ساعةٍ باكرة من صباح اليوم التالي، ويفيد تقريره بأنها تعرَّضَت لضربٍ مُبرح في أماكنَ متفرقة. وبالفعل، كانت لا تزال بعض الكدمات واضحةً بعدها بمدةٍ كبيرة عندما أدلت بأقوالها أمامنا.»

«هل يُوجَد أيُّ تاريخ مرَضي عن إصابتها بصرَع؟»

«لا؛ لقد فكَّرنا في ذلك في بداية الاستجواب. وأودُّ ذِكر أن أُسرة وين مُتزنة للغاية. أصابها حزنٌ شديد، لكنهم لم يُحاولوا تهويل الأمر، أو السماحَ للفتاة بأن تَصير هي مِحورَ الاهتمام أو الشفقة. بل استقبَلوا الأمر بطريقةٍ تستحقُّ الإعجاب بها.»

قالت ماريون شارب: «وكل ما تبقَّى هو أن أتلقَّى مصيري بهذه اللامبالاة المثيرة للإعجاب.»

«لعلكِ تُدركين موقفي، يا آنسة شارب. لم تكتفِ الفتاة بوصف المنزل الذي تقول إنها حُبِسَت فيه؛ بل وصفت ساكِنتَيه، ووصفتهما بدقة شديدة. «امرأة عجوزٌ نحيفة لها شعر أبيض ناعم، لا ترتدي قبعةً لكن ملابس سوداء؛ وسيدةٌ شابة، نحيفة طويلة ومتجهِّمة كالغجريِّين، لا ترتدي قبعة وإنما وشاحًا زاهيًا من الحرير حول رقبتها.»»

«هذا صحيح. ليس بإمكاني التفكيرُ في أي تعليلٍ لذلك، لكني أتفهَّم موقفك. وأظنُّ الآن أنه من الأفضل إحضارُ الفتاة، لكن قبل أن نفعل ذلك أودُّ قول …»

انفتح الباب دون أن يُصدر صوتًا، فظهرَت السيدة شارب عند عتبة الباب. وقد بدا الشعر الأبيض القصيرُ حول وجهها غريبَ المظهر حيث وقفَت أطرافُه منتصبةً؛ إذ إن الوسادة قد جعلَتها تبدو هكذا، فأصبحت تُشبه عرَّافةً أكثرَ من أي وقتٍ مضى.

دفعَت الباب وراءها وتفحَّصَت الحاضرين باهتمامٍ ماكر.

قالت، وهي تُصدر صوتًا يُشبه نَقيقَ دجاجة من الحلق: «ها!» ثم أضافت قائلةً: «ثلاثة رجال غرباء!»

قالت ماريون، بينما نهَض الثلاثة واقِفين: «اسمحي لي أن أُقدِّمهم إليكِ يا أمي.»

«هذا السيد بلير، من مكتب بلير وهيوارد وبينيت — ذلك المكتب الواقع في المنزل الجميل في بداية هاي ستريت.»

بينما كان روبرت ينحني احترامًا، حدَّقَت السيدة العجوز فيه بعينَيها اللتَين تُشبهان عيني النورس.

وقالت: «يحتاج إلى تغيير بلاطه.»

كانت الملاحظة صحيحة، لكن ذلك لم يكن الترحيبَ الذي كان قد توقَّعه.

أراحه قليلًا أن ترحيبها بالسيد جرانت كان أكثرَ بُعدًا عن التقليدي. بعيدًا عن اندهاشِها أو اضطرابها من حضور شرطة سكوتلاند يارد في قاعة الاستقبال بمنزلها في عصر أحد أيام الربيع، اكتفَت بأن تقول له بصوتها الجافِّ: «عليك ألَّا تجلس على ذلك المقعد؛ بدَنُك ثقيلٌ للغاية عليه.»

عندما قدَّمَت ابنتُها المُحقِّق المحليَّ رمَقَته بنظرةٍ، ثم حرَّكَت رأسها مسافةَ بوصة، فمن الواضح أنها أقْصَته من دائرة الاهتمام. وهذا ما اعتبره هالم، بالحكم من خلال تعبيره، مُهينًا على نحوٍ غريب.

نظر جرانت إلى الآنسة شارب مُستفسرًا.

فقالت: «سأخبرها.» ثم تابعَت قائلةً: «يا أمي، يريد المُحقِّق منَّا أن نُقابل فتاةً صغيرة تنتظر في سيارةٍ خارجَ البوابة. تغيَّبَت الفتاة مدة شهر عن منزلها بالقرب من إيلزبري، وعندما ظهرَت مرةً أخرى — في وضعٍ يُرثى له — قالت إنها حُبِسَت على يد شخصين أرادا أن يتَّخذا منها خادمةً لهما. ثم حبَساها عندما رفضت، وانهالا عليها ضربًا وحرَماها من الطعام والشراب. وقد أدلت الفتاة بأوصافٍ دقيقة للمكان والشخصين، وقد تصادفَ أن الأوصاف تنطبقُ عليكِ وعليَّ بما يَدْعو إلى العجب. وكذلك على منزلنا. كما تدَّعي أنها قد حُبست في العِلية ذات النافذة الدائرية في منزلنا.»

قالت السيدة العجوز، وهي تجلس بحرصٍ على أريكة أنيقة: «أمرٌ مُثير للاهتمام بدرجةٍ كبيرة.» ثم أضافت قائلةً: «وبمَ ضربناها؟»

«سَوط كلبٍ، حسبما فهِمت.»

«هل لدَينا سوطُ كلب؟»

«لدَينا شيءٌ من الأشياء التي «نَقود» بها، حسَب ظني. ويمكن استخدامها كسَوطٍ عند الضرورة. لكن القصد هو أن المُحقِّق يريد منَّا أن نُقابل هذه الفتاة، حتى يُمكن لها التأكيدُ إذا ما كنَّا نحن مَن احتجزناها أم لا.»

سأل جرانت: «هل تُمانِعين يا سيدة شارب؟»

«على العكس تمامًا، أيها المُحقِّق. أتطلَّع إلى المقابلة على أحرَّ من الجمر. أؤكِّد لك أنه أمرٌ لا يتكرَّر في كل عصرٍ أن أذهب إلى فراشي امرأة عجوزًا شاحبة، ثم أستيقِظَ كوحشٍ كاسر.»

«إذن إن تسمحي لي، فسأُحضر …»

أومأ هالم ليتولَّى دور المِرسال، لكن جرانت هزَّ رأسه. بدا واضحًا أنه أراد أن يشهدَ اللحظة الأولى من رؤية الفتاة لما هو خلف البوابة.

أثناء خروج المُحقق وضَّحَت ماريون شارب لوالدتِها سببَ حضور بلير. وأضافت: «إنه لطفٌ فوق العاديِّ منه أن يأتيَ عقب إخطاره بمدةٍ قصيرة وبهذه السرعة»، فاستشعر روبرت مرةً أخرى تغييرًا في عينَي العجوز اللامعتَين ذواتَي اللون الفاتح. في رأيه، أن السيدة شارب كانت قادرةً تمامًا على ضرب سبعةِ أشخاص مُختلفين بين الفطار والغداء، وفي أي يومٍ من الأسبوع.

قالت، بلا تعاطف: «أنا مُشفقةٌ عليك سيد بلير.»

«لِمَ يا سيدة شارب؟»

«أعتقد أن برودمور بعيدةٌ قليلًا عن مجال اهتمامك.»

«برودمور!»

«الاضطراب العقلي للمجرمين.»

قال روبرت، رافضًا أن تُرهبه: «بل أجدُه مثيرًا للغاية.»

حينها ظهَر عليها شعورٌ مفاجئ بالتقدير؛ شيءٌ أشبهُ بخيال ابتسامة. وانتاب روبرت شعورٌ غريب بأنها أُعجبت به فجأة؛ لكن إن كان الأمر هكذا فهي لم تُبدِ أي اعتراف صريح بذلك. فقالت بصوتها الحاد: «أجل، أتوقَّع أن وسائل الترفيه في ميلفورد نادرةٌ وبسيطة. ابنتي تسير وراءَ كرةٍ من المطَّاط حول ملعب الجولف …»

قاطعَتها الابنةُ قائلةً: «لم تَعُد مطاطًا يا أمي.»

«لكن في مثل سنِّي لا توفر ميلفورد حتى ذلك النوعَ من الترفيه. أكتفي بأن أسكبَ مُبيدًا على الأعشاب الضارة — شكل قانوني من الساديَّة يُعادل إغراق البراغيث. هل تُغرق البراغيثَ لديك، يا سيد بلير؟»

«لا، بل أسحقُها. لكنْ لي أختٌ اعتادت على مطاردتها بقالب صابون.»

قالت السيدة شارب، باهتمام حقيقي: «صابون؟»

«أظن أنها تصفعُها بالجانب الناعم فتلتصقُ بها.»

«يا له من شيء مثير! أسلوبٌ لم أرَه من قبل. لا بد أن أُجرِّبه في المرة التالية.»

بأذنِه الأخرى سمع أن ماريون كانت تتعامل بلُطفٍ مع المُحقق المنبوذ. كانت تقول: «أنت تؤدي دورًا رائعًا للغاية، أيها المُحقق.»

كان مدركًا لشعورٍ يأتيك عند اقتراب نهاية حلم، عندما يُصبح الاستيقاظ قريبًا، وأن لا شيء من الأحداث اللامنطقية يَعنيك في شيء؛ لأنك ستعود إلى العالم الواقعي بعد قليل.

كان هذا مضللًا؛ إذ إن العالم الواقعي أقبلَ من الباب مع عودة المُحقق جرانت. وقد دخل جرانت أولًا، حتى يُصبح في وضعٍ يُمكِّنه من ملاحظة تعبيرات وجوه جميع الأطراف المعنيَّة، وأبقى البابَ مفتوحًا حتى تدخل الشرطية والفتاة.

نهضت ماريون شارب ببطءٍ، وكأن من الأفضل أن تُواجه أيَّ شيءٍ ربما سيُقبِل عليها، لكن والدتَها ظلَّت جالسةً على الأريكة وكأنها شخص يُعير أذنًا واعية، وجلست جلسةً مثل تلك التي تنتمي للعصر الفيكتوري مع ظهرٍ مستوٍ كما كانت وهي فتاة صغيرة، ويداها مُسترخيتان بثباتٍ في حجرها. حتى شعرها غير المُصفَّف لم يستطع أن ينتقصَ من انطباعِ أنها سيدة الموقف.

كانت الفتاة ترتدي معطفها المدرسي، وحذاءً مدرسيًّا أسودَ له كعبٌ سَميك قصير ذا طابع طفولي؛ ولذلك بدَت أصغرَ سنًّا مما سبق أنْ توقَّعه بلير. لم تكن فارعةَ الطول، ولا جميلة بكل تأكيد. لكن كان لها — ما الكلمة المناسبة التي تُعبر عنها؟ — طلَّةٌ جذابة. كان لعينَيها لونٌ أزرق داكن، وتبدوان مُتباعدتَين في وجهٍ من النوع الذي تنتشرُ الإشارة إليه بأنه وجهٌ له شكل القلب. تلوَّنَ شعرُها بلون بُنيٍّ فاتح، وكان ينتشر على جبهتها في خطٍّ بديع. أدنى كلِّ عظمةٍ من عظام الوجنتَين تجويفٌ طفيف، آيةٌ على طابَع الحُسن، أضفى على وجهها جاذبيةً وإحساسًا بالتعاطُف. كانت شفتها السُّفلية مُمتلئة، لكنَّ ثغرها منمنَم. وكذلك كانت أذناها. فهما صغيرتان للغاية وأقربُ ما تكونان إلى رأسها.

رغم كل ذلك، فهي نوعٌ مألوف من الفتيات. ليس من النوع الذي قد يجذب انتباهك وسط جمعٍ من الناس. وليسَت مطلقًا واحدةً من الفتيات المُثيرات. فتساءلَ روبرت كيف ستصير هيئتها في ثيابٍ أخرى.

وقعَت نظرةُ الفتاة أولًا على السيدة العجوز، ثم انتقلَت ببصرها إلى ماريون. لم تكن نظرتُها تحمل شعورًا بالمفاجأة ولا بالانتصار، ولم تعكس كثيرًا من الاهتمام.

ثم قالت: «أجل، هاتان هما السيدتان.»

سألها جرانت: «ألا يُساروكِ شكٌّ في ذلك؟»، ثم أضاف قائلًا: «إنه اتهامٌ خطير، كما تعرفين.»

«لا، ليس لديَّ شك. كيف لي أن أشكَّ في ذلك؟»

«هاتان السيدتان هما مَن قاما بحبسِكِ، وتجريدِك من ملابسكِ، وإجبارك على رَتْق الملاءات، وضرباكِ بالسوط؟»

«أجل، هاتان هما السيدتان.»

قالت السيدة شارب العجوز: «كذَّابة مذهلة»، فنطقَتها بنبرة وكأنَّ أحدًا يقول: «تشابُهٌ مُذهل.»

قالت ماريون: «تقولين إننا أخذناكِ إلى المطبخ لنشربَ قهوة.»

«صحيح، فعلتما ذلك.»

«هل لكِ أن تَصِفي المطبخ؟»

«لم أنتبه كثيرًا له. لكنه مطبخٌ كبير — أرضيته من الحجر، حسَب ظني — وبه صفٌّ من الأجراس.»

«وما نوع الموقد؟»

«لم ألحظ الموقد، لكن الوعاء الذي سخَّنَت فيه السيدةُ العجوز القهوةَ كان مطليًّا بطبقةٍ زرقاء شاحبة من الإينامل وله حافَةٌ لونها أزرق داكن وأجزاء مُقشَّرة عديدة حول الحافة السفلية منها.»

قالت ماريون: «أشكُّ إن وُجد مطبخٌ في إنجلترا ليس به وعاءٌ مثل هذا بالضبط.» ثم أضافت قائلة: «لدينا ثلاثةٌ منه.»

قالت السيدة شارب: «هل الفتاة عذراء؟»، بنبرة قليلة الاهتمام كما لو كانت لشخصٍ يسأل: «هل هذه من ماركة شانيل؟»

أثناء التوقُّف المباغِت الذي أحدثَه هذا السؤالُ لاحظ روبرت وجْهَ هالم المصدوم، وتدفَّق الدمُ الساخن في وجه الفتاة، وحقيقة أنه لم يَصدر اعتراضٌ من الابنة مثل كلمة «أماه!» مثلما كان يتوقَّع، بلا وعي منه، لكن على نحوٍ مؤكد. فتساءل إن كان صمتُها هو موافقةً ضمنية أو أنها بعد زمنٍ من العيش مع السيدة شارب صارت مُحصَّنة من الصدمات.

قال جرانت باستنكار هادئ: إن تلك النقطة غيرُ ذات صلة بالموضوع.

قالت السيدة العجوز: «أتظن ذلك؟» ثم أردفَت قائلة: «لو كنتُ قد تغيَّبت عن منزلي مدةَ شهرٍ لكان ذلك أولَ شيءٍ أرادت أُمي أن تعرفَه عنِّي. على أي حال. الآن بعد أن تعرَّفَت الفتاةُ علينا، ماذا تنوي فعله؟ إلقاء القبض علينا؟»

«لا، أبدًا. الإجراءات بعيدةٌ عن ذلك في الوقت الراهن. أريد أن أصطحبَ الآنسة كين إلى المطبخ والعلية، حتى يمكن التحقُّقُ من صِحة وصفِها. إن كان صحيحًا، فسأرفع تقريرًا عن القضية إلى رئيسي وسيُقرِّر هو في اجتماعٍ الخطواتِ الأخرى الواجب اتخاذُها.»

«حسنًا. أكثرُ إجراء احترازي رائع، أيها المُحقق.» ثم نهضَت للوقوف ببطءٍ. وتابعت قائلة: «آه، حسنًا، إن كنتَ ستسمح لي فسأعاود الذَّهاب إلى نومي الذي قُطع.»

قال جرانت من دون سابقِ تفكير، متفاجئًا وقد خرج عن رباطة جأشه: «لكن ألا ترغبين في الحضور بينما تُعاين الآنسة كين المكان … حتى تسمعي اﻟ…»

«لا يا عزيزي.» ثم هندمَت ثيابها السوداء مع شيءٍ من العبوس. وعلَّقَت بحدة: «إنها تتجعَّد لتصنعَ خطوطًا دقيقة.» ثم تابعت قائلة: «لم يبتكر أحدٌ إلى الآن خامةً لا تتجعَّد.» وأضافت: «ليس لديَّ أدنى شكٍّ أن الآنسة كين ستتعرَّف على العِلية. وبالفعل، سأندهش لدرجة لا يُصدقها عقل إن أخفقت.»

شرعَت السيدة العجوز في التوجُّه ناحيةَ الباب، ومن ثَم ناحية الفتاة؛ ولأول مرة تبرق عينا الفتاة بتعبير. حيث ارتسم على وجهها انفعال حذِر. فتقدَّمَت الشرطية خطوةً للأمام، في إجراءٍ احترازي. وواصلت السيدة شارب حركتها المُتمهِّلة حتى توقَّفَت على بُعد ياردةٍ تقريبًا من الفتاة، وبذلك صارتا وجهًا لوجهٍ. ولخمسِ ثوانٍ كاملة ساد صمتٌ وهي تتفحَّص وجه الفتاة باهتمام.

قالت، في النهاية: «أما بالنسبة إلى الشخصَين المتورطَين بالضرب، فلسْنا على علمٍ بهما بكلِّ أسف.» ثم تابعَت قائلة: «أتمنَّى أن أتعرَّف عليكِ بشكلٍ أفضل قبل انتهاء هذا الأمر يا آنسة كين.» استدارت إلى روبرت وانحنَت احترامًا له. ثم قالت: «إلى اللقاء يا سيد بلير. أتمنَّى أن نظلَّ محلَّ اهتمامٍ في نظرك.» متجاهلةً بقية الحاضرين، انصرفَت خارج الباب الذي أمسكه هالم مفتوحًا من أجلها.

ساد شعورٌ واضح بخيبة الأمل الآن بعد أن أصبحَت غيرَ موجودة معهم، وأشاد روبرت بها مع إعجابٍ مُتحفِّظ. فلم يكن إنجازًا يُستهان به أنها خطفَت الاهتمامَ من البطلة الغاضبة.

سأل جرانت: «يا آنسة شارب، هل لدَيكِ أيُّ اعتراضٍ على أن تُعاين الآنسة كين الأماكنَ المَعنيَّة من المنزل؟»

«بالطبع لا. لكن قبل أن نمضيَ أودُّ أن أؤكد على ما كنتُ سأقوله قبل حضور الآنسة كين. ويُسعدني حضور الآنسة كين لتسمعَه الآن. وهو ما يلي. على حدِّ علمي أنا لم أرَ قط هذه الفتاةَ من قبل. ولم أتولَّ توصيلها إلى أي مكان، ولا في أي مناسبة. ولم يأتِ بها إلى المنزل هنا أحدٌ سواءٌ أنا أو والدتي، ولم تُحبَس هنا. أود أن يُفهَم ذلك بكل وضوح.»

«حسنًا، يا آنسة شارب. مفهومٌ أن موقفك هو الإنكار التامُّ لرواية الفتاة.»

«إنكار تامٌّ منذ البداية وحتى النهاية. والآن، أتأتون لمُعاينة المطبخ؟»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤