الفصل السابع

إن منزل آل وين بالقُرب من إيلزبري كان يقع في ضاحية ريفية؛ ذلك النوع من المناطق التي تزحف فيها صفوفٌ من المنازل شِبهِ المنفصلة على حدود حقولٍ لا تزال تحتفِظ بطبيعتها النقيَّة؛ فهم واعون ومُدركون أنهم دُخلاء، أو مُعتدُّون بأنفسهم، أو غيرُ مُبالِين وفقًا للصفات التي أطلقَها عليهم بَنَّاءوها. عاش آل وين في واحدٍ من الصفوف التي تستوجِب الاعتذار؛ سلسلةٌ من المنازل المُتداعِية التي بالطوب الأحمر التي جعلَت روبرت يجزُّ مُنزعجًا على أسنانه؛ كانت بدائيةً للغاية، وشديدةَ البساطة، وفي غاية البؤس. لكن عندما قاد سيارتَه في بطءٍ عبر الطريق، باحثًا عن رقم المنزل الصحيح، استهواه الحبُّ الذي قد كُرِّس في تزيين تلك الأشياء المؤسِفة. لم يكن الحبُّ قد كُرِّس إلى بِنائها؛ هذا ليس إلا افتراضًا. لكن في نظر كلِّ صاحب منزل، وهو يتملَّكُه، أن المنزل الصغير الأجرَد قد أظهر «جماله الكافي» وبعد أن وجَده عكَف على تزيينه. كانت الحدائقُ آيةً صغيرة من الجمال، وكل حديقة تالية هي تجلٍّ جديد لم يتصوَّره قلب شاعر.

لا بد لنيفيل أن يأتيَ هنا ليُشاهد المكان، هكذا فكَّر روبرت، مُتهاديًا في سَيره مرةً أخرى عندما التقطت عيناه منظرًا بديعًا جديدًا؛ إذ يُوجَد هنا شِعر أكثر مما كان يُوجَد طوال الاثني عشَر شهرًا الماضية في مجلته المُفضَّلة «ذا ووتشمان». فجميع عباراته الشائعة كانت موجودة هنا: الصياغة، والإيقاع، واللون، والإيماءات الكاملة، والتصميم، والتأثير …

أم أن نيفيل ربما لن يرى سوى صفٍّ من حدائق الضاحية؟ ليس سوى ميدوسايد لين، وإيلزبري، مع بعض نباتات متجر وولوورث في الحدائق؟

ربما.

المنزل رقم ٣٩ كان منزلًا ذا عُشب أخضر مُنبسط والذي كان مُحاطًا بصخور. ميَّزه كذلك أنَّ ستائره كانت غير موجودة. كانت لا تُوجَد تلك الشبكة الأنيقة التي تُبسَط عبر زجاج النافذة، ولا يُوجَد قماشٌ أبيض مُعلَّق على الجوانب. كانت النوافذ مكشوفةً للشمس والهواء ومَرْأى البشر. هذا أدهشَ روبرت كثيرًا بقدرِ ما أدهش الجيرانَ على الأرجح. فهذا يُنذر بحالةٍ من الاختلاف لم يكن قد توقَّعها.

دقَّ الجرس، مُتمنِّيًا ألا يبدوَ بائعًا متجولًا. كان طالبًا للمعلومات؛ إذ إن الدور كان جديدًا على روبرت بلير.

أدهشَته السيدة وين أكثرَ ممَّا أدهشته نوافذُها. لم يكن — إلا حينما قابلها — قد أدرك الصورة الكاملة التي قد رسَمَها في مخيلته عن السيدة التي قد تبنَّت الطفلةَ بيتي كين وربَّتها: الشعر الشائب، الهيئة المُريحة الهادئة الوقورة، والوجه الرزين العريض الواضح؛ ربما، كذلك، المئزر، أو واحدة من بدلات العمل المزيَّنة بالورود التي ترتديها رباتُ المنازل. لكن السيدة وين لم تكن تُشبه تلك الصورة على الإطلاق. فكانت سيدةً نحيفة لطيفة، شابَّةً عصرية، ذاتَ بشرة سمراء ووجنتَين مُتورِّدتَين، ولا تزال تحتفِظ بجمالها، ولها زوجٌ من العيون البُنِّية لم يرَ روبرت مثيلًا لهما في لمعانهما وذكائهما.

وعندما رأت شخصًا غريبًا بدَت في موقفٍ دفاعي، فاقتربَت من الباب الذي كانت تُمسك به في حركة تلقائيَّة وأغلقَته قليلًا؛ لكن النظرة الثانية بدا أنها بثَّت الطمأنينةَ في نفسها. وضَّح روبرت مَن هو، فاستمعَت إليه دون أن تُقاطعه بأسلوبٍ وجدَه مثيرًا للإعجاب تمامًا. قلةٌ قليلة من موكِّليه يستمِعون من دون مقاطعة؛ رجالٌ أو نساء على حدٍّ سواء.

أنهى حديثَه قائلًا، بعد أن وضَّح سبب حضوره: «لستِ مُجبرةً تمامًا على التحدُّث إليَّ.» ثم أردف قائلًا: «لكني أتمنَّى من أعماقي ألا ترفُضي. لقد أخبرتُ المُحقق جرانت بأني سأذهب لمقابلتك عصر اليوم، بالنيابة عن موكلتيَّ.»

«حسنًا، إذا كانت الشرطة تعلم بهذا ولا تمانع …» ثم تراجعَت إلى الوراء لتسمحَ له بالمرور بجانبها. «أتوقَّع أن عليك بذْلَ قصارى جُهدكَ لصالح هاتَين السيدتَين إذا كنتَ محاميًا لهما. وليس لدَينا ما نُخفيه. لكن إذا كنت تريد حقًّا مقابلة بيتي، فأخشى ألا يُمكنك ذلك. لقد أرسلناها إلى أصدقاءَ لقضاء يومٍ في الريف؛ تجنبًا لكل الصخب. أراد ليزلي الخير، لكن ما فعله كان شيئًا أحمق.»

«ليزلي؟»

«ابني. اجلس، من فضلك.» قدَّمت إليه أحدَ الكراسيِّ المريحة في غرفة جلوسٍ مبهجة، ومرتَّبة. «كان غاضبًا بشدةٍ من الشرطة لدرجةٍ أعجزَته عن التفكير بوضوح — أقصد غاضبًا من إخفاقهم في فعل أيِّ شيء عندما بدا الأمر مؤكدًا للغاية. كان مُخلصًا طَوال الوقت لبيتي. في الواقع لم يفترِقا إلى أن خطب.»

أصغى روبرت بإمعانٍ. كان هذا نوعَ الشيء الذي قد جاء لسماعه.

«خَطب؟»

«أجل. خطب بعد رأس السنة الجديد فتاةً لطيفة للغاية. نحن جميعًا مسرورون.»

«هل كانت بيتي مسرورة؟»

أجابت، وهي تنظر إليه بعينَيها الذكيَّتَين: «لم تشعُر بالغيرة، إن كان ذلك ما ترمي إليه.» ثم تابعَت قائلةً: «أتوقَّع أنها افتقدَت كونها الأولويةَ الأولى له كما اعتادت، لكنها كانت تتعامل بمُنتهى اللُّطف مع الأمر. هي فتاةٌ لطيفة بلا شك، يا سيد بلير. صدِّقني. كنتُ أعمل مُعلِّمةً قبل الزواج — لم أكن ناجحةً للغاية؛ ولهذا السببِ تزوجتُ مع أول فرصةٍ أتتني — وأعرف الكثيرَ عن شأن الفتيات. وبيتي لم تتسبَّب لي في الشعور بالقلق للحظةٍ.»

«صحيح. أعرف ذلك. يحكي الجميعُ عنها على نحوٍ ممتاز. هل خطيبة ابنك زميلتُها في المدرسة؟»

«لا، لم تكن من دائرة المعارف والأصدقاء. جاءت أُسرتها لتعيشَ قريبًا من هنا والتقى بها في حفل رقصٍ.»

«وهل تذهب بيتي إلى حفلاتِ رقصٍ؟»

«ليست حفلاتِ رقص البالِغين. فهي لا تزال صغيرةً للغاية.»

«إذن هي لم تلتقِ من قبلُ بخطيبته أليس كذلك؟»

«صراحةً، لم يكن أحدٌ منَّا قد التقى بها من قبل. فاجأَنا بها نوعًا ما. لكننا أحببناها كثيرًا ولم نُمانع.»

«لا بد أنه صغيرٌ للغاية على الاستقرار، أليس كذلك؟»

«أوه، الأمر برُمته عبثيٌّ، بكل تأكيد. هو في العشرين من عمره وهي في الثامنة عشرة. لكنهما رائعان معًا. وكنتُ عن نفسي صغيرةً للغاية عندما تزوَّجتُ وغمَرَتني سعادةٌ بالِغة. الأمر الوحيد الذي افتقدتُه كانت الابنة، وبيتي ملأَت تلك الفجوة.»

«ما الشيء الذي تريد فعله عندما تغادر المدرسة؟»

«لا تعرف. ليس لديها موهبةٌ خاصة تجاه أيِّ شيءٍ بقدْرِ ما أُلاحظ. لديَّ تصورٌ بأنها ستتزوَّج مبكرًا.»

«أهذا بسبب جمالها الجذاب؟»

«لا، بسبب …»، وتوقفَت وغيَّرت بوضوحٍ ما كانت ستقوله. «الفتيات اللاتي ليس لديهن ميولٌ مُحدَّدة يجنحن بشدة إلى الزواج.»

تساءل إذا كان ما أرادت قوله له أيُّ صلة بعيدة بعينَيها الزرقاوَين المائلتَين إلى الرمادي.

«عندما أخفقَت بيتي في الظهور في الموعد المُحدَّد حتى تُعاود الذَّهاب إلى المدرسة، هل ظننتِ أنها كانت تتهرَّب من المدرسة؟ على رغم أنها طفلة فسلوكها حسَن.»

«أجل؛ كان يزداد شعورها بالملل تجاه المدرسة، وكانت تقول دائمًا — وهو صحيح تمامًا — أن اليوم الأول للعودة إلى المدرسة هو يومٌ بلا فائدة. لهذا ظننَّا أنها تنتفع من اليوم ولو لمرةٍ. «تُجرِّب الأمر» كما قال ليزلي، عندما سمع أنها لم تكن قد عادت.»

«أتفهَّمُ ذلك. أكانت ترتدي زيَّ المدرسة في إجازتها؟»

نظرَت السيدة وين لأول مرة في ريبةٍ إليه؛ مُتشكِّكةً في دافعه من السؤال.

«لا. لا، كانت ترتدي ملابسَها المُخصَّصة لعطلة نهاية الأسبوع … أتعرف أنها لمَّا عادت كانت لا ترتدي سوى فستانٍ وحذاء؟»

أومأ روبرت بالإيجاب.

«أشعر أنه من الصعب تصورُ سيدتَين تصل بهما الوضاعة لدرجة أن تُعامِلا طفلةً ضعيفة بتلك المعاملة.»

«إذا كان بوُسعكِ مقابلةُ السيدتَين، يا سيدة وين، فربما تجدين أن تصوُّر الأمر لا يزال يزداد صعوبة.»

«لكن أكثر المُجرمين شرًّا يبدون أبرياءَ وغيرَ مؤذِين، أليس كذلك؟»

سمح روبرت لذلك بأن يمرَّ مرور الكرام. وأراد أن يعرف عن الكدمات التي بدَت في جسد الفتاة. أكانت كدمات جديدة؟

«آه، جديدة تمامًا. أغلبها لم يبدأ في «تغيير» لونها.»

هذا أدهش روبرت قليلًا.

«لكن أعتقد أن هناك كدماتٍ أقدمَ كذلك.»

«إن كانت هناك، فإنها قد اختفَت كثيرًا لدرجةٍ تحولُ دون ملاحظتها وسط جميع الكدمات الجديدة البشعة.»

«كيف تبدو الكدمات الجديدة؟ كضربٍ بالسياط؟»

«يا إلهي، لا. كانت في الواقع قد ضُربت في أماكنَ مُتفرِّقة. حتى وجهها الصغير الضعيف. كان أحدُ فكَّيها مُتورمًا، وكدمةٌ كبيرة وُجِدت على صدغِها الآخر.»

«تقول الشرطة بأنها دخلت في حالة هيستيرية لمَّا أوعز إليها بأن تُخبر الشرطة بقصتها.»

«كان ذلك لمَّا كانت لا تزال مريضة. وبمجرد أن حصلنا على القصة منها وحَظِيَت بوقتِ راحة طويلٍ، أصبح من السهل بدرجة كافية إقناعُها بإعادة سردِها على الشرطة.»

«أعلمُ أنكِ ستُجيبين بصراحة عن هذا السؤال يا سيدة وين. ألم يُساوِرْك أيُّ شكٍ قط بأن قصة بيتي ربما تكون غيرَ حقيقية؟ أي شكٍّ ولو للحظة؟»

«ولا للحظةٍ واحدة. ولِمَ من المُفترَض أن يُساورني شك؟ كانت دومًا طفلةً صادقة. حتى وإن لم تكن، كيف لها أن تختلِق قصةً مُفصَّلة تفصيلًا طويلًا مثل تلك من دون أن تُكشَف؟ سألتها الشرطة كلَّ الأسئلة التي أرادت أن تطرحَها؛ لم يكن هناك أيُّ اقتراح قطُّ بعدم قَبول إفادتها كما هي.»

«عندما أخبرَتكِ بقصتها، هل قصَّتها بالكامل دفعةً واحدة؟»

«أوه، لا؛ سردتها على يومٍ أو يومَين. الخطوط العريضة، أولًا. ثم أخذَت تُضيف تفاصيلَ كلما تذكَّرَتها. تفاصيل مثل أن النافذة في العلية كانت دائرية.»

«لم تكن الأيام التي قضَتها في غيبوبةٍ قد شوَّشَت على ذاكرتها.»

«لا أظن أنها أثَّرَت بأي حالٍ من الأحوال. أقصد، مع نوعيةِ عقل بيتي. فهي تتمتَّع بذاكرة فوتوغرافية.»

تساءل روبرت في نفسه عما إذا كانت كذلك حقًّا، وقد انتبهَت كِلتا أُذناه وأصغَتا بتمعُّن.

«حتى وهي طفلةٌ صغيرة كان بإمكانها أن تُلقي نظرةً على صفحةٍ من أي كتاب — كتاب أطفال، بالتأكيد — ثم تُكرر أغلبَ المحتويات من الصور التي اختزَنَتها في عقلها. وعندما كنَّا نلعبُ لعبة كيم — أتعرفها؟ لعبة الأشياء على الصينية — كان علينا أن نُقصِيَ بيتي من اللعبة لأنها تفوز دائمًا. يا إلهي، غير معقول، كانت ستتذكَّر ما رأته.»

حسنًا، تذكر روبرت لعبة أخرى كان الهتاف فيها «ازدَدْ حماسةً!»

«تقولين إنها كانت دومًا طفلةً صادقة — والجميع يؤيدكِ في ذلك — ألم تكن تستمتعُ بإضفاء طابَعٍ رومانسي على حياتها الخاصة، كما يفعل الأطفالُ أحيانًا؟»

قالت السيدة وين، بحزمٍ: «أبدًا.» بدَت الفكرة أنها لا تستحوذ على اهتمامها. أضافت قائلةً: «لم يكن بوُسعها ذلك. ما لم يكن الشيء حقيقيًّا، فلا فائدة منه في نظر بيتي. حتى لعبة حفلات الشاي مع الدُّمَى، لم يكن لها أن تتخيَّل أبدًا الأشياءَ على الأطباق مثلما يسعد أغلبُ الأطفال أن يفعلوا ذلك؛ كان لا بد أن تكون الأشياء حقيقية، حتى ولو كان مجرد مكعبات صغيرة من الخبز. عادة كان شيئًا أكثرَ لطفًا، بالطبع؛ وكانت طريقةً جيدة لطلَب مزيدٍ من الأشياء، فكانت دائمًا طماعة نوعًا ما.»

أُعجِب روبرت بالحيادية التي فكَّرَت بها في ابنتِها التي أحبَّتها كثيرًا واشتاقت إليها طويلًا. أهي آثارُ النزعة المُتشكِّكة التي تنتهِجها معلماتُ المدرسة؟ على أي حال، هذا أمرٌ أكثر أهميةً بالنسبة إلى طفلٍ من الحب الأعمى. من المُثير للشفقة أن ذكاءها وتفانيَها لم يَلقيا تقديرًا.

قال روبرت: «لا أريد الاستمرار في موضوعٍ لا بد أنه مُزعجٌ لكِ.» ثم تابع قائلًا: «لكن لعلَّ بإمكانكِ أن تُخبريني بشيءٍ عن والدَيها.»

سألت السيدة وين، متفاجئة: «والديها؟»

«أجل. هل تعرفينَهما جيدًا؟ كيف كانا؟»

«لم نعرِفْهما مطلقًا. ولم يسبق لنا رؤيتهما قط.»

«لكنكِ استقبلتِ بيتي لمدة … كم كانت؟ — تسعة شهور؟ — قبل أن يُقتَل والداها، أليس كذلك؟»

«صحيح، لكن والدتها كتَبَت خلال مدة قصيرة بعد أن جاءت بيتي إلينا وأخبرتنا بأن مجيئها لرؤيتها لن يتسبَّب سوى في إزعاج الطفلة وسيجعلها تعيسةً وأن أفضل شيء للجميع سيكون تركها معنا إلى حينِ تمكُّنِها من العودة إلى لندن. وقالت إن كان من الممكن أن أتحدث إلى بيتي عنها ولو مرةً واحدةً كل يوم.»

انقبَض قلبُ روبرت شفقةً على هذه السيدة المجهولة المُتوفَّاة التي كانت على استعدادٍ أن يُنتزعَ قلبها من أجل طفلتها الوحيدة. يا لهذا الكَنز من الحب والاهتمام الذي انهمَر أمام بيتي كين، الطفلة اللاجئة!

«هل استقرَّت بسهولةٍ عندما جاءت؟ أو هل بكَت من أجل والدتها؟»

«بكَت لأن الطعام لم يُعجبها. لا أتذكر أنْ بكت من أجل والدتها. أُغرِمَت بليزلي من الليلة الأولى — لم تكن سوى طفلة صغيرة، كما تعرف — أعتقد أن اهتمامها به أنساها أيَّ حزن ربما شعَرَت به. وكان هو، لِكونه يَكبُرها بأربع سنوات، في عمرٍ مناسب تمامًا ليشعر بأنه حاميها. ولا يزال كذلك — ولذلك فنحن في هذا المأزق اليوم.»

«كيف وقع أمرُ صحيفة «أك-إيما»؟ أعرف أن ابنك هو الذي ذهب إلى الصحيفة، لكن هل وافقتِه الرأي في النهاية …»

قالت السيدة وين بسخطٍ: «يا إلهي، لا». وتابعَت: «حدَث الأمر قبل أن نتمكَّن من فعل أي شيء حياله. كنتُ أنا وزوجي في الخارج لمَّا جاء ليزلي والصحفي — حيث أرسلوا معه رجلًا عندما سمِعوا قصتَه، حتى يحصلوا على القصة مباشرة من بيتي — وعندما …»

«وهل أخبرَته بيتي بمحض إرادتها تمامًا؟»

«لا أعلم مدى رغبتها. لم أكن هناك. لم أعلم أنا وزوجي أيَّ شيءٍ عن الأمر حتى صباح اليوم، عندما ألقى ليزلي صحيفة «أك-إيما» أمامَنا مباشرةً. ربما أُضيف، في تحدٍّ قليلًا. لم يشعر بشعورٍ جيد للغاية حيالَ ما تمَّ الآن. إن صحيفة «أك-إيما»، أودُّ أن أؤكد لك يا سيد بلير، ليست عادةً اختيارَ ابني. لو لم يكن ثائرًا …»

نهض قائلًا: «أعرف. أعرفُ تمامًا كيف حدث ذلك. وأنَّ «أخبِرينا عن مأزقك وسنتأكَّد من فعل الشيء المناسب» هي حيلةٌ ماكرة للغاية». ثم أضاف قائلًا: «كنتِ في غاية اللطف حقًّا، يا سيدة وين، ممتنٌّ إليكِ إلى أبعدِ حد.»

كان واضحًا أنَّ نبرة صوته صادرةٌ من القلب أكثرَ مما قد توقَّعَت؛ ولهذا نظرَت إليه في رِيبةٍ. بدَت أنها تسأل نفسها، مُرتبكةً قليلًا: ماذا قلته ليُساعدك؟

سأل أين كان يعيش والدا بيتي في لندن، فأخبرَته. وأضافت قائلةً: «ليس هناك أيُّ أثرٍ للمبنى الآن. ليس إلا مساحة مفتوحة. من المتوقَّع أنها ستصبح جزءًا من تصميم مبنًى جديد؛ لهذا لم يكونوا قد فعَلوا أي شيءٍ فيه حتى الآن.»

على عتبة الباب قابل ليزلي صدفةً.

كان ليزلي شابًّا ذا مظهرٍ حسَن على نحوٍ استثنائي وبدا أنه غيرُ مدركٍ كليًّا لهذه الحقيقة — وهي صفة جعَلَته محبوبًا عند روبرت، الذي لم يكن في حالةٍ مزاجية تسمح له بالنظر إليه بلُطف. كان روبرت قد رسَم له صورةً في مخيلته بأنه من الشخصيات المُخربة المندفعة؛ لكن على النقيض كان شابًّا ضعيف البِنية قليلًا، طيبًا، له عينان صادقتان خجولتان وشعرٌ ناعم غير مهذَّب. رمق روبرت بنظرةِ عداوة صريحة عندما قدَّمَته إليه أمُّه وقد أوضحَت مُهمته في القضية؛ لكن، كما قد قالت أمُّه، بدا شيءٌ من التحدي في نظرته؛ كان واضحًا أن ليزلي لم يكن ضميرُه مرتاحًا هذا المساء.

قال بنبرةٍ حادَّة عندما كان روبرت قد عبَّر بلطفٍ عن استهجانه لتصرُّفه: «ليس لأحدٍ أن يضرب أختي ثم ينجوَ من العقاب.»

قال روبرت: «أنا مُتعاطفٌ مع وجهة نظرك. لكني شخصيًّا أفضِّل أن أُضرَب كل ليلة مدةَ أسبوعَين على أن تُوضَع صورتي على الصفحة الأولى من صحيفة «أك-إيما». لا سيما إذا كنت فتاةً صغيرة.»

علَّق ليزلي قائلًا في صميم الموضوع: «لو كنتَ قد تعرَّضتَ للضرب كلَّ ليلة مدةَ أسبوعين ولم يفعل أحدٌ أيَّ شيء حيال ذلك، لكان مُمكنًا أن تشعر بسعادة غامرة أن تجدَ صورتك منشورةً في أيِّ صحيفة صفراء إذا كان ذلك سيأتي لك بحقِّك.» ثم انصرَف عنهما إلى داخل المنزل.

استدارت السيدة وين إلى روبرت بابتسامة اعتذارٍ صغيرة، وقال روبرت، مُستغلًّا تلك اللحظةَ الهادئة لها: «سيدة وين، إذا خطر في بالك في أيِّ وقتٍ أن أي شيءٍ في قصة بيتي لا يبدو صحيحًا، فإني آمُل ألا تُقرِّري أن أفضلَ شيء للكلاب النائمة هو تركُها على حالها.»

«لا تضع أملًا على ذلك يا سيد بلير.»

«ستتركين الكلابَ نائمة، والبريءَ في معاناته؟»

«أوه، لا؛ لم أقصد ذلك. أقصد أمَل التشكيك في قصة بيتي. إذا كنتُ صدَّقتها منذ البداية، فمِن غير المُحتمل أن أشكَّ فيها بعد ذلك.»

«مَن يدري. ربما يخطر ببالك يومًا ما أنَّ هذا أو ذاك غيرُ «متوافق». تتمتَّعين بعقلٍ مُحللٍ بالفطرة، وربما يَعرض لكِ جزءٌ من العقل اللاواعي عندما يصبح أبعدَ شيء تتوقَّعينه. شيء قد أصابك بالحيرة في أعماقِك ربما يأبى أن يُكتمَ أكثرَ من ذلك.»

كانت قد سارت إلى البوابة برفقته، وعندما قال جُملته الأخيرة التفتَ ليُودِّعها. ما أثار دهشتَه أن شيئًا أُثير في عقلها وبدا على عينَيها عند نطقه بهذه الجملة البسيطة.

كانت غيرَ واثقة رغم كل ذلك.

نقطةٌ ما، في القصة، في الأحداث، ثمة شيءٌ صغير ترك سؤالًا في عقلها المُحلِّل المتَّزن.

فماذا كان هو؟

وعندئذٍ، وبسبب ما كان يتذكَّره دائمًا في تجرِبته فيما بعدُ على أنه نموذج مثالي على التخاطُر، توقفَ بينما يخطو داخل سيارته، وقال: «أكانت تحمل أيَّ شيءٍ في جيوبها عندما عادت إلى المنزل؟»

«لم يكن لديها سوى جيبٍ واحد؛ ذلك الجيب في فستانها.»

«هل كان بداخله أيُّ شيء؟»

ظهر شدٌّ طفيف في العضلات المحيطة بفمِها. وقالت، بهدوء: «ليس إلا أحمرَ شفاه.»

«أحمر شفاه! إنها صغيرة قليلًا على ذلك، أليس كذلك؟»

«يا عزيزي السيد بلير، تبدأ الفتياتُ في تجرِبة أحمر الشفاه من سنِّ العاشرة. وللترويح عن النفس في يومٍ مُمطر حلَّ ذلك محل ارتداء بعضٍ من ملابس الأم.»

«صحيح، ربما؛ متجر وولوورث هو المستفيدُ الأكبر.»

ابتسمَت وودَّعَته مرةً أخرى ثم تحركَت نحو المنزل عندما سار مُبتعدًا بسيارته.

ما الذي أثار استغرابَها فيما يتعلق بأحمر الشفاه؟ هكذا تساءل روبرت، وهو ينعطف من السطح غير المستوي لميدوسايد لين نحو السطح المُمهَّد الأسود لطريق إيلزبري-لندن الرئيسي. أكان فقط حقيقة تركه مع الفتاة من جانب الشيطانتَين في منزل فرنتشايز؟ أكان ذلك ما وجدَتْه أمرًا غريبًا؟

كم هو مدهش أنَّ القلق الذي ساورَها في عقلها الباطن كشف عن نفسه في التوِّ إليه! لم يكن قد عرَف أنه سيقول تلك الجملة عن جيوب الفتاة حتى سمع نفسَه يقولها. لم يكن ليخطرَ بباله أبدًا، من تلقاءِ نفسه، أن يتساءل عمَّا كان بداخل جيب فستانها. ولم يكن يخطر بباله على الإطلاق أن الفستان ربما به جيب.

إذن كان هناك أحمرُ شفاه.

ووجودُه كان أمرًا أثار استغرابَ السيدة وين.

حسنًا، كانت تلك قشَّةً يمكن إضافتها إلى الكومة الصغيرة التي قد جمَعها. إلى حقيقة أن الفتاة كانت تتمتَّع بذاكرةٍ فوتوغرافية. إلى حقيقة أنها أصبحَت مُحبطةً بعد أن حلَّ محلَّها شخصٌ آخر ليُصبح محلَّ اهتمام أخيها دون سابقِ إنذار فقط منذ شهر أو شهرَين. إلى حقيقة أنها تتَّسم بالطمع. إلى حقيقة أنها كانت تمَلُّ من المدرسة. إلى حقيقة أنها كانت تحب الحياة «الواقعية».

إلى حقيقة أن — وقبل كل شيء — لم يعرف أحدٌ في ذلك المنزل ما كان يجول في عقل بيتي كين، ولا حتى السيدة وين الرزينة الحيادية. كان أمرًا غيرَ قابل للتصديق تمامًا أن فتاةً في عمر الخامسة عشرة كانت محورَ حياة رجلٍ شابٍّ ترى أحدًا يحلُّ محلَّها بين ليلةٍ وضُحاها من دون أن تُبديَ ردَّ فعلٍ عنيفًا تجاه الموقف. لكن بيتي كانت «تتعامل بمنتهى اللطف مع الأمر».

شعر روبرت أن هذا مُشجِّع. كان ذلك دليلًا على أن ذلك الوجه الصغيرَ العفويَّ لم يكن دليلًا مرشدًا بأي شكلٍ من الأشكال على شخصية بيتي كين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤