الفصل التاسع

كان طريقُ لاربورو-لندن امتدادًا مُستقيمًا أسودَ اللون في ضوء الشمس، ينبعث منه شَررٌ مُتلألئٌ كلما بلغَت حركة السير المزدحمة الضوءَ ثم فقدته مرةً أخرى. وفي وقتٍ قريب، كان سيصير كلٌّ من المجال الجويِّ والطرق البرية مُزدحِمَين لدرجةٍ تُعجز أيَّ أحدٍ عن التنقل بسهولة، وسيُضطرُّ الجميع إلى العودة إلى قطارات السكة الحديدية للسفر سريعًا. كان ذلك هو التقدم.

أشار كيفين الليلةَ الماضية إلى أنه، بفضلِ تيسُّر وسائلِ النقل حاليًّا، من المحتمل بدرجةٍ كبيرة أن تكون بيتي كين قد قضَت شهر إجازتها في سيدني، بولاية نيو ساوث ويلز. كانت فكرةً مُرعبة. ومن الممكن أنها كانت في أي مكانٍ من شبه جزيرة كامتشاكا إلى بيرو، وكان كلُّ ما على بلير أن يفعله هو شيء صغير؛ وهو إثبات أنها لم تكن في منزلٍ على طريق لاربورو-ميلفورد. لو لم يكن الصباحُ مشمسًا، ولو لم يكن يشعر بالأسف على سكوتلاند يارد، ولو لم يكن كيفين قد سانده، ولو لم يكن يُبلي بلاءً حسنًا وحده إلى حدٍّ كبير، لكان قد شعر باكتئاب.

إن الشعور بالأسف على سكوتلاند يارد كان آخِرَ شيء قد توقَّعه. لكنه كان أَسِفًا. كُرِّسَت كافة جهود سكوتلاند يارد لإثبات أن السيدتَين شارب مذنبتان وأن قصة بيتي كين حقيقية؛ لسببٍ وجيه وهو أنهم اعتقَدوا أن السيدتين شارب مذنبتان بالفعل. لكن ما كانت تشتاق إليه أنفسُهم لفعله هو إثبات كذب صحيفة «أك-إيما» فيما يتعلق ببيتي كين، ولم يكن بإمكانهما فِعلُ ذلك إلا بإثبات أن قصتها غيرُ منطقية. أجل، إن قدرًا كبيرًا من الإحباط كان يسري في تلك الأجساد الضخمة الهادئة في سكوتلاند يارد.

كان جرانت مُبهرًا بأسلوبه الحكيم تمامًا — وبدا الأمر أشبهَ نوعًا ما بالذَّهاب لمقابلة طبيب، ذلك ما خطر في باله حينها — وقد وافق بمحضِ إرادته تمامًا على ضرورة إخبار روبرت بأمر أي رسائل قد تُثيرها صحيفة «أك-إيما».

وقال، بلهجةِ تنبيهٍ وُدِّية: «لا تُعلِّقْ آمالك بشدةٍ على ذلك. مقابل رسالةٍ واحدة مهمة تتلقَّاها سكوتلاند يارد فإنها تتلقَّى خمسَة آلافٍ من الرسائل التافهة. إن كتابة الرسائل هي وسيلةُ تعبير طبيعية «لِغَريبي الأطوار». وللفضوليِّين والتافهين، والمُنحرفين والحانقين، والمُتصنِّعين بأن ذلك واجب عليهم …»

««من أجل الصالح العام» …»

قال جرانت بابتسامة: «لصالحه ولصالح المواطن.» وتابع: «وكذلك للمُنحلِّين بكل وضوح. جميعهم يكتبون رسائل. فهي مُتنفَّسُهم «الآمن»، كما تعلم. ربما يكونون مُتطفلين، مُستفيضين، بَذيئين، مُبالِغين، يتحدثون عن فكرة واحدة، بقدْر ما يشاءون على الورق، وليس لأحدٍ أن يُعاقبهم على ذلك. هكذا يكتبون. يا إلهي، يا لها من كتابة!»

«لكن هناك فرصة للحصول على معلومة حقيقية …»

«أجل. هناك فرصة. ويجب استخلاصها من بينِ كل تلك الرسائل، بالرغم من سخافتها. وأي شيء ذو أهمية سينقل إليك، أعدُك بذلك. لكني أُذكِّرك بأن احتمال قيام المواطن الذكي العادي بالكتابة هو واحد من بين خمسة آلاف. فهو لا يُحب أن يؤخَذ ما يُفكر فيه على أنه «يُقحِم أنفَه في الأمر» — ولهذا السبب يجلس صامتًا في عرَبة قطار ويفضح الأمريكيِّين، الذين لا يزالون لديهم اهتمامٌ ساذَج بالآخرين — وعلى أي حال فهو شخصٌ مشغول، مُنشغلٌ بأموره الشخصية، ومن المخالِف لفطرتِه أن يجلس ليكتب رسالةً إلى الشرطة عن شيءٍ لا يهمه.»

بهذا كان روبرت قد انصرَف مسرورًا من سكوتلاند يارد، وأسِفًا عليهم. على الأقل كان روبرت لديه مسارٌ مباشرٌ سيسلُكه. وهو لن ينظر جانبًا من حينٍ لآخر ويتمنَّى لو كان قد سلَك المسارَ الآخر. وعلاوةً على ذلك لقد حصل على تأييد كيفين للمسار الذي قد اختاره.

كان كيفين قد قال: «أنا أعني ذلك، عندما أقول لو كنتُ أنا الشرطة لكان عليَّ أن أُجازف بالأمر. إذ إن لديهم قضيةً مقبولة بما يكفي. كما أن إدانةً بسيطة لطيفة هي دائمًا سببٌ لارتقاءِ شخصٍ ما على سُلَّم الترقيات. ولسوء الحظ — أو من حُسن حظ المواطن — أن الرجل الذي يُقرِّر ما إذا كان الأمر سيُحال إلى القضاء أم لا هو الرجل صاحب الرتبة الأعلى، وهو لا يهتمُّ بأي ترقية سريعة لمرءوسيه. من المذهل أن تكون الحكمة هي نِتاج ثانويٌّ للقوانين المُنظِّمة للإدارات العُليا.»

كان روبرت، وهو ثَمِل قليلًا من الويسكي، قد سمح للتشاؤم أن يتجاوزَه.

«لكن دعهم يصلون إلى دليلِ تأييدٍ واحد، وسيأتون بأمر إحالة للقضاء إلى باب منزل فرنتشايز في وقتٍ أسرعَ مما يمكنك أن ترفع فيه سماعة الهاتف.»

قال روبرت الثمِل: «لن يحصلوا على أي دليل تأييد. لماذا يجب عليهم ذلك؟ كيف يُمكنهم أن يفعَلوا ذلك؟ ما نُريد أن نفعله هو دحضُ قصة الفتاة بأنفسنا، وبذلك لا تتعرَّض حياةُ السيدتَين شارب إلى اللعنة طوال الحياة. بمجرد أن أقابل عمَّتها وزوج عمتها غدًا، ربما نحصل على معلوماتٍ عامة عن الفتاة حتى نُوجِدَ مُبررًا لنقطة انطلاق التحريات التي سنعمل عليها.»

في تلك اللحظة كان يُسرع عبر طريق لاربورو الأسودِ اللامع في طريقه لمقابلة قريبَي بِيتي في ضاحية مينشيل؛ هذين الشخصَين اللذين كانت قد أقامَت لديهما في الإجازة المشهودة. وهما السيد والسيدة تيلسيت. منزل تيلسيت، ٩٣ تشيريل ستريت، مينشيل، لاربورو، وكان الزوج وكيلًا متنقلًا لصالح شركة لصناعة الفُرَش في لاربورو ولم يكن لديهما أطفال. كان ذلك كلَّ ما عرَفه روبرت عنهما.

توقَّف لوهلةٍ بينما كان ينحرفُ عن الطريق الرئيسي في ضاحية مينشيل. كانت تلك هي الناصيةَ التي انتظرَت عندها بيتي كين حافلتَها. أو قالت إنها انتظرت. لا بد أنها كانت هناك على الجهة الأخرى. إذ لا يُوجَد أيُّ منعطفٍ جانبي على ذلك الجانب؛ لا شيء سوى الامتدادِ الطويل لرصيفٍ مُتواصل بقدْر ما يمكن لشخصٍ أن يُدرِكه ببصره في أي اتجاه. إنه شارع مزدحمٌ بما يكفي في هذا الوقت من اليوم؛ لكنه خالٍ بما يكفي، حسَب افتراض روبرت، في ساعةٍ غير حافلة بالنشاط في وقتٍ مُتأخِّر من وقتِ ما بعد الظهر.

كان تشيريل ستريت عبارةً عن سلسلةٍ طويلة من نوافذَ بارزة بزاوية من طوبٍ أحمرَ متَّسخ، واجِهتُها الأمامية تكاد تُلامس السور المُنخفض من الطوب الأحمر الذي يُحيط بها من الرصيف. أما التربة السيئة على جانبَي النافذة التي تُستخدَم كحديقة فلم تكن قد ظهرت عليها أيٌّ من مزايا الأرض المزروعة حديثًا لميدوسايد لين، بإيلزبري؛ لم ينمُ بها سوى نباتاتٍ رقيقة من كاسر الحجر، وزهور برِّية هزيلة، وزهور أذن الفأر التي تأكلها فراشة الليل. والاعتزاز نفسه لربَّات المنازل المُلاحَظ في تشيريل ستريت لا يختلف عن ذلك الموجود في إيلزبري، بالطبع، ونفس الستائر المتموِّجة المُعلقة على النوافذ؛ لكن إن كان هناك شُعراء في تشيريل ستريت لوجَدوا مُتنفَّسًا آخَر لأرواحهم غير الحدائق.

عندما دقَّ جرس المنزل رقم ٩٣ — الذي يتعذَّر تمييزه من المنازل الأخرى بقدرِ ما تمكَّن من المُلاحظة إلَّا من خلال رقمَيه المَطليَّين — بلا جدوى، ثم طرَق بابه، اندفعَت سيدةٌ من نافذة غرفة النوم بالمنزل المجاور، ومدَّت جسمَها إلى الخارج ثم قالت:

«هل تبحث عن السيدة تيلسيت؟»

أجاب روبرت مؤكدًا ذلك.

«ذهبَت لتشتريَ بقالتها. في المتجر عند الناصية.»

«حقًّا، شكرًا لكِ. إن كان ذلك ما في الأمر، سأنتظرها.»

«عليك ألا تنتظر إن كنتَ تتطلَّع لمقابلتها في وقتٍ قريب. عليك أن تذهب وتأتيَ بها.»

«فعلًا! أستَذهب إلى مكانٍ آخر؟»

«لا، ليس سوى إلى متجر البقالة، المتجر الوحيد القريب هنا. لكنها تقضي نصف وقتِ الصباح في الاختيار بين صِنفَين تِجاريَّين لرقائق القمح. خُذ عبوةً واحدة بحزمٍ ثم ضعها في حقيبتها وستُصبح سعيدة تمامًا.»

شكَرها روبرت وشرَع في الانصراف إلى نهاية الشارع، عندما نادته مرةً أخرى.

«يجب ألا تتركَ سيارتك. خذها معك.»

«لكن المسافة قصيرةٌ بالفعل، أليس كذلك؟»

«ربما، لكنه يوم السبت.»

«السبت؟»

«إجازة المدرسة.»

«أتفهم ذلك. لكن لا يُوجَد شيء بداخلها …»؛ كان سيقول «عُرضة للسرقة»، لكنه عدلها لتُصبح «لا شيء بداخلها يمكن نقلُه.»

«يمكن نقله! أها! هذا جيد. كان لدَينا أُصُص زرع للنافذة فيما مضى. والسيدة لافيرتي على الجهة المقابلة من الطريق كان لدَيها بوابة. السيدة بيدوس كان لديها قائمان خشبيَّان رفيعان وثماني عشرة ياردةً من الحبل لنشر الغسيل. وجميعهن ظنُّوا أنها أشياءُ لا يمكن نقلُها. إذا تركتَ سيارتك هناك عشرَ دقائق فستصير محظوظًا لو وجدتَ هيكلها المعدني!»

لهذا استقلَّ روبرت سيارته واستجاب لنصيحتها، وقادها نحو متجر البقالة. وبينما كان يقود تذكَّر شيئًا، وما تذكَّره حيَّره. كان هذا هو المكانَ الذي كانت فيه بيتي كين في غاية السعادة. هذا الشارع الكئيب بعضَ الشيء، والمُتَّسخ نوعًا ما؛ إحدى متاهات الشوارع التي تُشبه بعضها كثيرًا. كانت في غاية السعادة لدرجة أنها قد كتبَت لتقول بأنها كانت ستمكثُ فيه ما تبقَّى من إجازاتها.

ما ذاك الذي وجدَتْه هنا جذابًا لهذه الدرجة؟

كان لا يزال يتساءل أثناء سَيره نحو المتجر وتأهُّبه لاستكشاف السيدة تيلسيت من بين زبائن الصباح. لم يكن هناك داعٍ لأي تخمين. فلم يكن بالمتجر سوى سيدةٍ واحدة، واتَّضح بنظرةٍ واحدة على الوجه الصبور للبقَّال والعلبة من الورق المُقوَّى في كل يدٍ من يدَيها، أنها كانت السيدة تيلسيت.

قال البقال مُبعدًا نفسه للحظةٍ عن تأمُّلات السيدة — فلم يكن الاختيار خاصًّا برقائق القمح هذا الصباح، بل الصابون المبشور — ومتجهًا نحو روبرت: «هل لي أن أحضر لك شيئًا، يا سيدي؟»

قال روبرت: «لا، شكرًا». وأضاف: «أنتظر فقط هذه السيدة.»

قالت السيدة: «أتنتظرني أنا؟» ثم أضافت قائلة: «إن كان لأمر الغاز، فإذن …»

أسرع روبرت بقول إن الأمر لا علاقة له بالغاز.

قالت، ثم استعدَّت للرجوع إلى مشكلتها: «لديَّ مكنسة كهربائية، وهي تعمل بكفاءة.»

قال روبرت إنه قد ترك سيارتَه في الخارج وسينتظر حتى تنتهيَ من التسوُّق، وكان سينسحِب مسرعًا؛ لكنها قالت: «سيارة! يا إلهي. عظيم، بإمكانك أن تُوصِّلني إلى المنزل، ألا يمكنك ذلك، وتُنقذني من حمل كلِّ تلك الأشياء. ما الحساب، يا سيد كار، من فضلك؟»

السيد كار، الذي أخذ منها عبوةَ الصابون المبشور أثناء إبداء اهتمامها بروبرت ثم دسَّها في حقيبة تسوُّقِها، أخَذ النقود منها، وأعطاها الباقي، وتمنَّى لها يومًا سعيدًا، ثم رمَق روبرت بنظرة شفقة بينما كان يتبع السيدة نحو الخارج إلى سيارته.

كان روبرت قد أدرك أنه من المُستبعَد للغاية أن يُعلِّق أملًا على إيجاد سيدةٍ أخرى تحمل الموضوعية والذكاءَ اللذَين تتمتَّع بهما السيدة وين، لكن قلبه انقبَض عندما فكَّر في السيد تيلسيت. إذ إن السيدة تيلسيت هي واحدةٌ من النساء اللاتي تكون عقولهنَّ دائمًا منشغلةً بشيء آخر. يتحدَّثن بابتهاجٍ معك، يتَّفقن معك في الرأي، يُبدين إعجابهن بما ترتديه، يُسدين نصيحةً لك، لكن انتباههنَّ الحقيقي مُنصبٌّ على ما ستفعلن مع السمك، أو على ما أخبرتهن به فلوري عن الابن الأكبر لميني، أو في أيِّ مكانٍ ترَكن قائمة الغسيل، أو حتى رَداءة الحشو في السِّنِّ الأمامية على اليمين لدَيك، فينشغلنَ بأي شيء، وبكل شيء، عدا الموضوع المطروح.

بدَت مُعجَبةً بمظهر سيارةِ روبرت، ودَعَتْه إلى الدخول وتناوُل فنجانٍ من الشاي — إذ بدا واضحًا أنها تتناولُ الشاي في أي وقتٍ من اليوم، وليس في وقتٍ مُحدَّد مثل الساعة الخامسة في وقتِ ما بعد الظهر. شعر روبرت أنه من غير الممكن أن يشرب معها — حتى ولو فنجان شاي — من دون أن يُوضِّح موقفه بصفته محاميَ الخَصم، إذا صحَّ القول. بذل قُصارى جهدِه، لكن كان أمرًا مشكوكًا فيه إن كانت فهمته؛ كان عقلها بالفعل يُقرر بوضوحٍ إذا كانت ستُقدم له مع فنجانه من الشاي بسكويت «ريتش تي» أم «ميكسد فانسي». فإنَّ ذِكْر ابنة أخيها لم يُثِر أي زوبعة متوقَّعة في مشاعرها.

قالت: «ذلك الذي حدث، لا يُوجَد ما يُضاهيه في غَرابته، أليس كذلك؟» ثم أردفَت قائلة: «أن يأخذاها بعيدًا ويَضرباها. ما الفائدة في ظنِّهما التي كانت ستعود عليهما من ذلك؟ اجلس، سيد بلاين، ادخل واجلس. أما أنا فسوف …»

صرخة تقشعرُّ لها الأبدان سُمع صَداها في المنزل. صراخ عاجل، مُجلجل، مُستميت استمر، بلا مُهلةٍ لالتقاط الأنفاس.

حمَلَت السيدة تيلسيت مشترَياتها في حركةِ غضب. ومدَّت جسمها قريبًا من روبرت بما يكفي لتضعَ فمَها على مسافةٍ قريبة من أذنه. صرخت: «برادي. سأعود سريعًا.»

جلس روبرت وتمعَّن مرة أخرى في المكان المحيط به ثم تساءل لمَ كانت بيتي كين قد وجَدَته مُستحسنًا للغاية. كانت الغرفة الأمامية للسيدة وين غرفةً للمعيشة؛ غرفة جلوس دافئة حافلة بنشاطٍ بشري وحركة بشرية. لكن كانت بوضوح «أفضل» غرفة، ولذلك، خُصِّصت للزائرين الذين لم يكونوا على صلةٍ قريبة تسمح لهم بدخول المناطق الخلفية؛ أما الحياة الحقيقية للمنزل فكانت في غرفةٍ ضيقة بالجهة الخلفية. إما المطبخ أو غرفة الجلوس الملحقة بالمطبخ. ورغم ذلك كانت بيتي كين قد اختارت أن تمكث هنا. هل وجدَت صديقًا؟ فتاةً في المنزل المجاور؟ صبيًّا في المنزل المجاور؟

عادت السيدة تيلسيت في غضونِ ما يبدو أنه دقيقتان، تحمل صينية عليها الشاي. تعجَّب روبرت قليلًا من سرعتها حتى رأى محتويات الصينية. لم تكن السيدة تيلسيت قد انتظرت حتى تتَّخذ قرارًا، فأحضرَت كِلَيهما معًا؛ بسكويت «ثين واين» وبسكويت «سويت شورتبريد». على الأقل، فكَّر، مراقبًا إيَّاها وهي تصبُّه، أن هذه السيدة فسَّرَت أحد الأمور الغريبة في القضية: حقيقة أن أُسرة وين كانت قد كتبَت لتطلب رجوع بيتي كين في الحال، ولم تكن عمتها قد ركضَت إلى مكتب برقياتٍ لإبلاغهما بأن بيتي كانت قد غادرَت إلى المنزل منذ قرابة أسبوعَين. وبيتي التي كانت قد انصرفَت منذ أسبوعَين سابقًا ربما كانت أقلَّ أهميةً بكثيرٍ في عقل السيدة تيلسيت من حلوى الهُلام التي كانت تبرد على حافة النافذة الخلفية.

قالت السيدة تيلسيت، وكأنها تُجيب عن أفكاره: «لم أكُن قلقةً بشأنها.» وتابعَت: «عندما أرسلا خطابًا بشأنها من إيلزبري، كنتُ أعرف أنها ستظهر. وعندما عاد السيد تيلسيت كان مُنزعجًا بشدة حيال الأمر، وهو يُسافر بعيدًا أسبوعًا أو عشرة أيام في كل مرة؛ حيث إنه وكيلٌ لصالح شركة ويكسس، وظل كالمجنون، هكذا كان، لكني قلتُ تحديدًا انتظر وستظهر وهي بخير، وهكذا فعلت. حسنًا، كانت تقريبًا بخير.»

«قالت إنها استمتعَت بشدةٍ بإجازتها هنا.»

قالت بذهنٍ شارد، دون أن تبدوَ راضيةً كما كان روبرت قد توقَّع: «أفترض أنها استمتعَت.» نظر إليها وتبيَّن له أن عقلَها كان منشغلًا بشيءٍ آخَر. قوة تركيز الشاي الذي قدَّمَته له، إن جاز الحكم عليها من اتجاهِ عينَيها.

«كيف كانت تقضي وقتَها؟ هل أقامت صداقات؟»

«أوه، لا، كانت في لاربورو أغلب الوقت.»

«لاربورو!»

قالت، وهي تبدو مُرتابة: «أوه، حسنًا، عندما أقول أغلب الوقت، فإني أظلمُها. ساعدت في المنزل وقتَ الصباح، لكن في منزلٍ بهذا الحجم ومع اعتيادي على فعل كل شيءٍ بنفسي فليس هناك الكثيرُ لتُنجزه. وهي كانت هنا لقضاء الإجازة، ألم تكن كذلك، مسكينة، بعد كلِّ تلك الواجبات المدرسية. ما فائدة كلِّ تلك الواجبات لفتاةٍ صغيرة، لا أدري. ابنة السيدة هاراب في الجهة المقابلة من الطريق تستطيع أن تكتبَ اسمَها بصعوبةٍ لكنها تزوَّجَت الابنَ الثالث لأحد اللوردات.» ثم أضافت وقد بدا عليها أنها مُتشككة: «أو ربما كان ابنَ الابنِ الثالث.» ثم أردفت: «لقد نسيتُ الآن. هي …»

«كيف كانت تقضي وقتها في لاربورو؟ إنني أتحدَّث عن بيتي.»

«في مشاهدة الأفلام، عادةً.»

«الأفلام؟ آه، السينما. فهمت.»

«يمكنك أن تفعل ذلك، في لاربورو، من الصباح حتى الليل إذا كانت لديك ميولٌ في ذلك الاتجاه. تفتح السينمات الكبيرة في الساعة العاشرة والنصف ثم تُغيِّر أفلامها عادةً في منتصف الأسبوع وهناك نحو أربعين منها؛ لهذا يمكنك أن تذهب من واحدة إلى الأخرى حتى يحينَ وقت العودة إلى المنزل.»

«أهذا ما كانت تفعله بيتي؟»

«أوه، لا. هي عاقلةٌ تمامًا، هذا هو حال بيتي. اعتادت الدخولَ في الوقت الصباحي لأنك تدخل بثمنٍ أرخص من وقتِ الظهر، ثم تذهب في نزهةٍ بالحافلة.»

«نزهة بالحافلة. إلى أين؟»

«أوه، أي مكان يأخذها إليه خَيالُها. تفضِّل قطعةً أخرى من ذلك البسكويت، سيد بين؛ فهي طازجة من العلبة. ذهبَت لترى القلعة في نورتون ذات يوم. نورتون عاصمة المقاطعة كما تعرف. الجميع يتخيل أن لاربورو هي العاصمة لأنها كبيرةٌ للغاية، لكن نورتون كانت دائمًا …»

«ألم تكن تعود إلى المنزل حتى تتناول الغداء؟»

«ماذا؟ أوه، بيتي. لا، كانت تتناول غداءً خفيفًا في أي مكان. دائمًا ما نتناول وجبتنا الرئيسية في المساء على أي حال، كما ترى، نظرًا إلى أن السيد تيلسيت في الخارج طَوال اليوم، فكانت هناك دائمًا وجبةٌ في الانتظار عند عودتها. كان دائمًا مصدرَ فخرٍ لي أن أُعدَّ وجبة شهية مغذية على المائدة من أجل …»

«في أي وقت قد يكون ذلك؟ السادسة؟»

«لا، السيد تيلسيت لا يصل عادةً إلى المنزل قبل السابعة والنصف.»

«وأظن أن بيتي كانت تعود إلى المنزل قبل ذلك بوقتٍ طويل؟»

«على الأغلب كانت تفعل ذلك. تأخرَت مرةً واحدة لأنها ذهبَت إلى حفلة ما بعد الظهر في السينما، لكن السيد تيلسيت أقام الدنيا وأقعدَها بسبب ذلك — رغم أني واثقةٌ أنه لم يتوجَّب عليه ذلك، فأي ضررٍ قد يُصيب المرءَ في السينما؟ — ومن بعدِ ذلك كانت تعود إلى المنزل دومًا قبله. ذلك عندما يكون هنا. لكنها لم تكن حريصةً بالدرجة نفسِها أثناء سفره.»

بهذا كانت الفتاةُ هي سيدةَ نفسِها طيلة الأسبوعين المُمتِعَين. لها مطلقُ الحرية أن تجيء وتذهب دون سؤال، ولم يُقيدها سوى مبلغ المال المُخصَّص للإجازة في جيبها. كانا أسبوعين بريئين، وفي حالة أغلب الفتيات في مثلِ عمرها فإنه بلا شكٍّ كان سيسير اليوم على هذا المنوال. السينما في الصباح، أو الوقوف في النافذة، ثم غداء خفيف، ثم نزهة بالحافلة داخل الريف في وقتِ بعد الظهر. إجازة سعيدة لمراهقة، والتجرِبة الأولى للاستمتاع بحرِّيةٍ من دون رقابة.

لكن بيتي كين لم تكن مُراهقةً عادية. إنها الفتاة التي كانت قد سرَدَت للشرطة تلك القصةَ الطويلة المُفصَّلة من دون أن ترتجفَ ولو مرة. الفتاة التي قضَت أربعةَ أسابيع من حياتها بلا سببٍ يُبرِّر غيابها. الفتاة التي قد انتهى الحال معها بشخصٍ ضربَها بلا رحمة. كيف، إذن، قضت بيتي كين تلك الفترة التي كانت فيها حُرة بلا رقابة؟

«هل ذهبَت إلى ميلفورد بالحافلة، حسَب معرفتك؟»

«لا، سألوني هم عن ذلك، بالطبع، لكن لم أتمكن من التأكيد أو النفي.»

«هم؟»

«الشرطة.»

صحيح، بالتأكيد؛ كان قد نسي لوهلةٍ أن الشرطة كانت ستتأكَّد من كل جملة قالتها بيتي كين بكل ما أوتيَت من قوة.

«أنت لستَ من الشرطة، أظنك قلتَ ذلك.»

قال روبرت مرةً أخرى: «لا. أنا محامٍ. مُوكل عن السيدتَين اللتين يفترض بأنهما حبَسَتا بيتي.»

«أوه، أجل. أخبرتَني بذلك. أعتقد أنهما سيَلجآن إلى محامٍ مثلهما كمثل أي شخصٍ آخر، هاتين المسكينتَين. من أجل إجراء استجوابٍ من أجلهما. آمُل أني أخبرك بالأمور التي تريد معرفتها، سيد بلاين.»

احتسى فنجانًا آخَر من الشاي على أمل أنها مع الوقت قد تُخبره بشيء أراد أن يعرفه. لكن الأمر كان مجردَ تَكرار لما قيل في تلك اللحظة.

سأل: «هل عرَفَت الشرطة أن بيتي كانت تقضي اليوم في الخارج بمفردها؟»

فكَّرَت بالفعل في ذلك. قالت: «ليس بوُسعي أن أتذكَّر ذلك. سألوني كيف كانت تقضي وقتَها وقلتُ إنها أغلب الوقت كانت تذهب إلى السينما أو في نُزهة بالحافلة، وسألوني إن كنتُ أرافقها فأجبت — حسنًا، عليَّ أن أعترف بأني أخبرتُهم بكذبة بيضاء عن ذلك الأمر وقلت إني كنت أفعل ذلك من حينٍ لآخَر. لم أُرِد أن يعتقدوا أن بيتي ذهبَت إلى أماكنَ بمفردها. رغم أن لا ضرر من ذلك بكل تأكيد.»

يا له من عقل!

سأل روبرت بينما كان يستأذن للانصراف: «هل كانت تتسلَّم أيَّ رسائل أثناء وجودها هنا؟»

«من المنزل فحسب. أوه، أجل، كنتُ سأعرف. كنت دائمًا أتسلَّم الرسائل. على أي حال لم يكونوا ليكتبوا رسائلَ إليها، أليس كذلك؟»

«مَن؟»

«تلكما السيدتان اللتان اختطفتاها.»

قاد روبرت سيارته متجهًا إلى لاربورو وهو يحمل شعورًا بالهروب. تساءل إن كان السيد تيلسيت يغيب دائمًا عن منزله «عشَرةَ أيام في كل مرة»، أم أنه كان قد حصل على وظيفةٍ تتطلب السفرَ باعتباره بديلًا عن الهروب أو الانتحار.

في لاربورو، بحَث بلير عن المرأب الرئيسي الخاص بشركة الحافلات لاربورو آند ديستريكت موتور سيرفيسز. طرق باب المكتب الصغير الذي يحرس جانبًا واحدًا من المدخل، ثم دخل. فوجد رجلًا في زيِّ مفتش حافلة كان يُقلب في الأوراق على المكتب. رفع الرجل بصرَه إلى روبرت ومن دون أن يسأل عن أمره استمرَّ في متابعة شئونه.

قال روبرت إنه أراد أن يُقابل شخصًا قد يعرف معلوماتٍ عن خدمة حافلات ميلفورد.

قال الرجل من دون أن يرفعَ بصره إليه: «جدول المواعيد مُعلَّقٌ على الجدار في الخارج.»

«لا أريد معرفة المواعيد. فأنا أعرفها. أعيش في ميلفورد. أريد معرفة إن كان سبق لكم تشغيلُ حافلة ذات طابقَين على ذلك الطريق.»

ساد صمتٌ مدةً طويلة؛ صمتٌ محسوب ببراعة حتى نهاية اللحظة التي كان روبرت على وشك أن يفتحَ فيها فمَه مرةً أخرى.

قال الرجل: «لا.»

سأل روبرت: «أبدًا؟»

هذه المرة لم تكن هناك إجابةٌ على الإطلاق. أوضح المفتشُ أن وقته قد انتهى معه.

قال روبرت: «استمع إليَّ. هذا أمرٌ مهم. أنا شريكٌ في مكتب محاماةٍ في ميلفورد، وأنا …»

التفتَ إليه الرجل. وأضاف عندما ظهَر ميكانيكي ضئيلُ الحجم وراء روبرت في المدخل: «لا يَعنيني إن كنتَ شاه إيران؛ لا تُوجَد أيُّ حافلة ذات طابقَين على طريق ميلفورد! وأنت ماذا تريد؟»

تردَّد الميكانيكي، وكأنَّ المهمة التي كان قد أقبل من أجلها كانت قد كدَّرَها اهتمامٌ أحدث. لكنه تمالكَ نفسه تمامًا وبدأ في توضيح الأمر الذي أتى من أجله. «الأمر بخصوص قطع الغيار الخاصة بنورتون. هل ينبغي عليَّ …»

بينما كان روبرت يقترب متجاوزًا إيَّاه إلى خارج المكتب شعَر بشَدٍّ في معطفه فأدرك أن الميكانيكيَّ الضئيل أراد منه أن يبقى حتى يتمكنَ من التحدث إليه. خرج روبرت وانحنى فوق سيارته، وبعد مدةٍ قليلة ظهر الميكانيكي بجواره.

«أتسألُ عن الحافلات ذات الطابقَين؟ لم يكن بيدي مناقضةُ كلامه صراحة، كما تعرف؛ في الحالة المِزاجية التي هو فيها الآن ربما يُكلِّفني الأمر أن أخسَر وظيفتي. أتريد استخدام حافلة ذات طابقَين، أو مجرد معرفة إن كان سبق لها أن عملَت على هذا الطريق؟ لأنه لا يمكن لك أن تجد حافلة ذات طابقَين على ذلك الطريق، ليس للسفر فيها؛ لأن الحافلات على هذا الطريق جميعها …»

«أعرف، أعرف. فهي ذات طابقٍ واحد. ما أردتُ معرفته إن سبق وكانت هناك حافلةٌ ذات طابقَين على طريق ميلفورد.»

«حسنًا، من المفترض ألا تُوجَد، كما تفهم، لكنْ مرةً أو مرتَين هذا العام كنا قد استخدمنا حافلةً ذاتَ طابقَين عندما تعطَّلت فجأةً إحدى الحافلات القديمة ذات الطابق الواحد. عاجلًا أم آجلًا ستصبح جميع الحافلات بطابقَين، لكن حركة السير في ميلفورد ليست كافيةً بالدرجة التي تُبرِّر استخدام الحافلات ذات الطابقَين؛ لهذا فجميع الحافلات العتيقة ذات الطابق الواحد ينتهي بها الأمرُ في النهاية على ذلك الطريق وبعض الطرق الأخرى التي على شاكلته. وهكذا …»

«لقد أفدتَني كثيرًا. هل من الممكن أن تعرف تحديدًا متى سارت الحافلةُ ذات الطابقَين على ذلك الطريق؟»

قال الميكانيكي، بقليلٍ من الاستياء: «بالطبع.» وتابع: «في هذه الشركة يُسجَّل كل مرة تبصق فيها.» وأضاف وهو يُميل رأسه إلى الوراء ليشير إلى المكتب: «لكن السجلَّات في الداخل هناك، وما دام هو هناك فلا يمكن فعل أي شيء.»

سأل روبرت عن الساعة التي ربما خلالها يمكن فعلُ شيء.

«حسنًا، ينصرف هو في موعد انصرافي؛ في السادسة. لكن بإمكاني الانتظار دقائقَ معدودات، وابحَثْ في جداول المواعيد عندما ينصرفُ إذا كان الأمر مهمًّا بالنسبة إليك.»

لم يكن روبرت يدري كيف سينتظر خلال تلك المدة حتى الساعة السادسة، لكن يجب أن ينتظر حتى السادسة.

«اتفقنا. سأُقابلك في بيل، تلك الحانة التي في نهاية الشارع، في نحو الساعة السادسة والربع. أذلك مناسب؟»

قال روبرت إن ذلك مناسبٌ على نحوٍ مثالي. تمامًا.

ثم انصرفَ ليرى ما الذي بوُسعه أن يَرشوَ به نادلَ ردهة فندق ميدلاند ليمنحَه بعض الشراب خارج ساعات العمل الرسمية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤