لماذا يا روبن؟

١

كانت حالة الحزن التي عَمَّتِ الجميع على رحيل الفنان الأمريكي روبن ويليامز (الذي انتحر يوم ١١ أغسطس ٢٠١٤) مفاجِئةً للجميع، ربما لأنهم لم يتوقعوا أنهم يحبونه لهذه الدرجة، حتى الذين شاهدوا له فيلمًا واحدًا أصابتهم نفس الحالة بسبب رحيل الرجل، حتى الذين كانوا يعرفون صورته فقط، شعروا في ملامحه بعضًا ممَّن يعرفونه.

لم تكن هذه هي الحالة الأولى؛ فقد تكرر الأمر من قَبل عند رحيل الفنان الأمريكي سيمور هوفمان، الذي كان انتحاره مفاجئًا للجميع، وملأت صورُه صفحات التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت، وقبله حدث الأمر ذاته مع الممثل هيث ليدجر، والمدهش أنهم جميعًا لم يكونوا من أبطال الصف الأول، وهو ما تكرر قبلهم مع كثيرين من الذين قرَّروا الانتحار وترك العالم بإرادتهم، دون أن يدركوا كم هم مؤثرون، وكم تركوا خلفهم من ملايين المحبين في شتى بقاع الأرض!

٢

في ندوة أخيرة، سألني أحد المشاركين السؤال المتكرر: لماذا تكتب؟ وقلت إجابتي التي أكررها كثيرًا أيضًا: إن الكتابة هي الحياة بالنسبة إليَّ، وإنني في اللحظة التي سأتوقف فيها عن الكتابة ستنتهي الحياة بالنسبة إليَّ، كأنَّ مداد القلم هو الدَّمُ بالنسبة إليَّ، وقلت أيضًا إنني أكتب ربما لقارئ في القطب الشمالي في الجانب الآخر من القارة، قد يتأثر بما أكتبه، ربما لفلاح في الريف، أو طفل في الصعيد، أو مراهق في سيبيريا، أو أرملة على مقربة من غابات الأمازون قد تُهدي لها كتابتي جزءًا من الحياة والأمل، أكتب دائمًا من أجل هذا القارئ المجهول الذي لا أعرفه ولا أظنني سألتقيه أبدًا، لكن ربما كانت كتابتي كلها معلَّقةً من أجل سطر واحد سيقرؤه لي، وسيغير شيئًا في حياته للأفضل، تمامًا كما قرأت لكُتَّابٍ عالميِّين لم أعد أذكر أسماء بعضهم، لكنهم أثَّروا فيَّ، ودفعوني لاتخاذ قرارات، ربما من دونهم ما كنت لأتخذ تلك القرارات.

قلت إن كل قراءة للنص هي إضافة جزء من الحياة إليه، كل قارئ يضيف جزءًا من رُوحه إلى النص فيظل النص حيًّا حتى لو رحل كاتبه، تمامًا كما يضيف الكاتب/الفنان جزءًا من رُوحه إلى عمله فتتناثر رُوحُه في أرواح من قرءوا أو سمعوا أو شاهدوا النص.

لماذا أروي هذا الكلام؟ ربما لأن هذا هو تفسيري لحالة الحزن الشديدة على روبن ويليامز التي ما زالت مستمرة، ربما لأننا جميعًا نشعر بالامتنان لروبن الذي ترك قطعةً من رُوحه في كل عمل قام به، فشعرنا أننا أمام شخصيات حية. لا يعرف روبن هؤلاء الملايين الذين أُصِيبوا بالحزن عليه، لا يعرف ذلك المراهق في سيبيريا، ولا العجوز في جنوب أفريقيا، ولا الأرملة في إندونيسيا الذين اكتئبوا حزنًا عليه، لكن هذا هو دور الفن الحقيقي، الذي يجمع الجميع حول نصٍّ نؤمن أنه كُتب بإتقان، وخرج إلى الناس كما يجب أن يكون، فتشعر أن الكاتب جزء من حياتك أو من عائلتك.

جزء من حالة الحزن على روبن، على ذلك الأثر الذي تركه من قبلُ في نفوسنا؛ لأننا أدركنا وقت مشاهدتنا لتلك الأعمال أنه صادق. والفن الصادق لا يموت، حتى لو مات صاحبه.

٣

لا أبحث عن مبرِّرات لانتحار روبن، تمامًا كما لم أبحث عن مبرِّرات من قبلُ لرحيل هيث ليدجر، وسيمور هوفمان، وصلاح جاهين، وداليدا، وإرنست همنجواي، وفرجينيا وولف، وفان جوخ؛ فهناك الآلاف ينتحرون بشكل دائم. هناك دومًا من يقرر قطع عَلاقته بهذا العالم الذي لم يعُد يستحق معاناة العيش فيه؛ بحثًا عن عالم آخر. لكن ربما لأن المشاهير يصيرون جزءًا من حياتنا يصير الأمر مختلفًا.

حياة الفنان مختلفة حتمًا؛ فهو يعيش بمشاعره، يكتب ويغني ويمثل بمشاعره، يعيش على حافة العالم بهذه المشاعر التي تجعله في أية لحظة على أُهْبَةِ السقوط، إذا أُصيبت هذه المشاعر بإحساس بعدم التقدير أو فقدت الاهتمام بها فقد تنهار في أية لحظة، تمامًا كما حدث مع فيرجينيا وولف التي أصيبت باكتئاب بعد أن كتبت روايتها الأخيرة، وزادت حالتها سوءًا بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية وتدمير منزلها في لندن، والاستقبال البارد الذي حظيت به السيرة الذاتية التي كتبتها لصديقها الراحل روجر فراي، فقررت أن ترتدي معطفها وملأته بالحجارة وأغرقت نفسها في نهر أوس القريب من منزلها، بعد أن تركت رسالة لزوجها قالت فيها: «عزيزي، أنا على يقين بأني سأُجَنُّ، ولا أظن بأنني سأتعافى هذه المرة. لقد بدأت أسمع أصواتًا وفقدت قدرتي على التركيز؛ لذا سأفعل ما أراه مناسبًا. لست قادرةً على المقاومة بعد الآن، وأعلم أنني أفسد حياتك، ومن دوني ستحظى بحياة أفضل. أنا متأكدة من ذلك، أترى؟ لا أستطيع حتى أن أكتب هذه الرسالة بشكل جيد، لا أستطيع أن أقرأ.» ولا يختلف معنى الرسالة عن تلك التي وُجِدت بجوار داليدا وكتبت فيها: «الحياة لا تُحتمَل … سامحوني.»

الشاعرة سيلفيا بلاث التي انتحرت في الثلاثين من عمرها بأن فتحت الغاز ثم حشرت رأسها في الفرن ووضعت مناشف مبللة تحت الأبواب لتكون حاجزًا بين المطبخ وبين غرف أطفالها، تقول في قصيدة أخيرة لها: «لا أستطيع الحديث معك، فقد علق لساني بفكي.» أما صديقتها الشاعرة آن ساكستون التي انتحرت في السادسة والأربعين من عمرها، فتقول في قصيدة لها: «حتَّى وإن لم يكن لديَّ شيءٌ ضد الحياة، فأنا أعرف جيِّدًا شفير الأعشاب التي تذكرون، ذاك الأثاث الذي وضعتم تحت حرقة الشمس. الانتحارات لها لغتها الخاصَّة. تمامًا مثل النجَّار، يريد أن يعرف كيف يستخدم الأدوات، لكنَّه لم يسأل مطلقًا لماذا يبني!»

هذا ليس دفاعًا عن المنتحرين، وليس بحثًا عن مبررات لهم، لكن بقراءة نصوصهم الأخيرة، وبالاطِّلاع على تفاصيل حياتهم يمكن أن ندرك كم يعانون، بعيدًا عن الصور المبهرة لهم كفنانين، ومع عيشهم بمشاعر حادَّة كحد السكين، يصبح أقل شيء مبرِّرًا للاكتئاب والموت، مبرِّرًا للسقوط من أعلى الهوة المسماة بالحياة، حتى الشعور بأنهم لن يستطيعوا تقديم المزيد وأنهم أَدَّوْا مهمتهم في الحياة، تمامًا مثل روبن الذي أصيب بالشلل الرعاش قبل وفاته، فلم يكن يستطيع أن يفعل شيئًا، سوى أن يوثِّق حياته بالانتحار، كأنه عمله الفني الأخير.

هنا لا أقول: لماذا يا روبن؟ بل: أنت ما زلت معنا يا روبن. تمامًا مثل الآخرين الذين أودعوا حياتهم في أعمالهم الفنية، ثم غادرونا. فَنُّك هو حياتك يا روبن، فَنُّك هو حياتنا. وداعًا يا روبن!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤