أفكِّرُ في النهايات

١٢

كل قصص الحب ستنتهي بالفشل، العشَّاق الواقفون على الكورنيش سيُلقُون بأنفسهم في النهر بعد قليل، الطيور المحلِّقة ستهوي بمجرد أن تفرغ بطارياتها، كل الحكايات مُرَّة والقصائد تخطو على زجاج مبشور. «الكيبورد» ستأكل أصابعي، ولن تترك سوى جثةٍ تحدِّق في الشاشة، في انتظار النهاية.

١١

وُلِدْتُ في آخِر يومٍ من عمري، كُنتُ عجوزًا، بلا وجهٍ للبطاقة الشخصية وكارنيه التأمين الصحي، بلا تقويم على الحائط، بلا لفافة تبغ في فمي. تنهرني البدايات وتفتك بي، فأهرب للنهايات. أنادي السيارةَ لتصدمني، وأغنِّي للطبيب: لا بد أنني مصاب بالسرطان. سينتهي الفيلم، وتُسدَل ستائرُ المسرح، ويهوي لاعب السيرك على رقبته. هذه الوردة ستذبل بعد قليلٍ، وتُلقَى في سلة المهملات، ومصاص الدماء الخالد ستسقط أسنانه ويموت متسوِّلًا على الرصيف، هذا الطريق سينتهي بهاوية، أما النسيم العليل فمقدِّمة لريحٍ صَرْصَرٍ عاتيةٍ، ربطة العنق ستكون مشنقةً مناسبةً، وعود الكبريت سيحرق الشقةَ ذات يوم. هذه الابتسامة ستتجعَّد مع الزمان وتُخيف الأطفال، والأطفال أنفسهم سيصبحون كهولًا محنيي الأظهر كقوس قزح. قوس قزح سيسقط في يد صيادٍ ويرتدي الأسود، أما الصياد فسيصرخ في فم تنين يتسكَّع على النهر ولن يجد مَن ينقذه، فقط الموتى وحدهم أسفل الأرض، ينظرون إلى المارين فوقهم ويبتسمون في حكمةٍ، حكمة مَن أدرك الحقيقةَ ولا يصرِّح بها.

١٠

ذات مرة كنتُ في قاع البحر، لم أفكِّر في النجاة، فكَّرْتُ في الغرق. مرةً كنتُ في السماء، لم أفكِّر في القفز، فكَّرت في النيران التي عانقَتْني. مرةً كنتُ في البر، لم أفكِّر في الأطفال، فكَّرت في الموتى. أزور الجنازات وأكره الأعراس، أشدُّ على أيدي المعزِّين وأبكي، أبشُّ في وجوه الموتى، الموتى الذين يسيرون حولي في كل مكان؛ فقد عرفوا نهايةَ الطريق وسبقوني.

٩

في هذا الشارع، هذه البناية، هذه الغرفة، هذا الحيِّز من الهواء، سبقني الآلاف، جلسوا نفسَ الجِلسة، نفس التحديقة في الحائط، نفس التمدُّد على السرير وعدم فعل شيء، أي شيء. فكَّروا في النهايات وساروا إليها؛ ساروا كذئابٍ تطارد كلابَ الراعي، ساروا كظامئ ظنَّ السرابَ ماءً، فلما دَنَا وجده فراغًا فمات.

٨

لم يكن بإمكاني أن أقول: نعم؛ لأن «لا» تُقرِّبُ النهايةَ، تدنيها، تلمسها، تتحسَّس أصابعَها وفمَها وشعرَها المشعَّث، تدفئها بإشعال النار في حقل الذرة، ومراقبة الموت يقترب كصديقٍ قديمٍ ضلَّ الطريق، فلما رأى النارَ خلع نعلَيْه ودخل.

٧

أخرُج من باب الدخول من مراكز التسوُّق، وأهبط على السُّلَّم الكهربائي الصاعد لأعلى، أسكن الأدوارَ السفلى، وأتلمَّس الأرض، أحفر، أحفر، أحفر؛ فربما أجد نفقًا يوصلني إلى هناك، إلى النهاية، حيث لا شيء، فقط النهاية، حيث نقف وجهًا لوجه، عينًا أمام عين، ربما أجهش بالبكاء، ربما أفرح، أرقص، أغني، لكنها النهاية التي طالما حلمتُ بها. النهاية. النهاية.

٦

ذات مرة أعطيتُ يدي لأسدٍ فأكَلَها، وقدمي لتمساح فالتهَمَها، وعيني لصقر ففقَأَها، فقرَّرْتُ ألَّا آتَمِنُ العصافيرَ على ما تبقَّى مني، لكن لماذا تأتي أصواتُ العصافير على شرفتي أشبه بالنُّواح، لماذا أُطلِقُ الرصاصَ على الفراشات وألوك الندمَ، لماذا أشعرُ بالألم كلما ابتسَمَ طفلٌ على كتف أمه وأتحسَّس قلبي.

٥

لا أعرف كيف بدأ الأمر، ربما حين استيقظتُ صباحًا فوجدتُ الدبابات فوق سريري، ربما حين سقطَتْ غيمةٌ على رأسي ولم ينبِّهني أحد، ربما حين ركبتُ قطارًا لا يصل أبدًا، ربما حين صرتُ طائرًا، أرمق الجثثَ من أعلى وأغنِّي للخلود، فصدَّقني المارة، وساروا ورائي إلى الهاوية.

٤

كنتُ أتمنَّى أن أكون هناك؛ على النهر، بين الغزلان والسماء القريبة، التي أُصلِح نجومها كل ليلة، أُغيِّرُ المنطفئةَ بأخرى جديدة، وألفُّ القمرَ في ثوبٍ ثقيلٍ في ليالي الشتاء خوفًا من العواصف، كنتُ أتمنَّى أن أكون هناك، حيث لا بدايات ولا نهايات، لا زمان ولا مكان، لا أرض ولا سماء ولا قمر ولا نجوم، حيث أكذب بالشعر وأهرب للنوم من الحب، حيث أصدق بالشعر وأهرب من النوم للحب، حيث لا نوم ولا حب، لا أفتِّشُ عن معنًى للمعنى، ولا أسئلة للأجوبة البرَّاقة كمرآة، لكنني هنا الآن، على رأسي إكليل الشوك، وأمامي حائط أسود، ويهوذا يضحك في وجهي، ويجرُّني من لساني إلى الحرب، وأنا هادئ تمامًا كمَن تورَّطَ في الحياة رغمًا عنه، ولا يعرف ماذا يفعل.

٣

أنا قاطع طريق الحياة، أساوِمُ أم كلثوم على صوتها، وأنصب الفخاخَ لنفسي، دفنتُ ساعي البريد بيدي، ورسائلي لم تَعُدْ تصل إلى أحدٍ. أعرف الألم، أعرف الحزن، أعرف الفقد، أعرف الموت أكثر من أي شيء آخَر، كصديق، كحبيب، كلعبة في فيلم كارتون، كرسم على كراسة طفل، كنهاية تطلُّ من النافذة وتبتسم في وجهي، تمدُّ يدها لترفع جانبَيْ فمي إلى أعلى لأبدو كالمهرِّج. كنَّا طفلَيْن، خطونا العتبةَ معًا، ركبنا القطار والباص والطائرة معًا، لوَّحْنَا للمودِّعين معًا، ومن يومها لم نَعُدْ. أكتب الشعرَ ويحصد الأرواحَ، نلتقي آخِرَ الليل على المقهى، أُحصي هزائمي، ويُخرِج صُرَّةَ الموتى من جيبه، أنتظر فقط اليوم الذي سيقلب لعبةَ النرد من أمامي ويقترب، ادنُ مني يا صديقي. ادنُ مني يا صديقي. ادنُ مني.

٢

لم يكن أحدٌ سواي هناك، و١٩٩ مقعدًا فارغًا في السينما، ننتظر كلمةَ النهاية منذ سنوات، أُطفِئ السيجارة ثم أُشعِلها، وأربِّتُ على المقاعد كأطفالٍ يتامى، عامِل السينما يمرُّ على وجهي بكشَّافه كلَّ يوم، ثم يواصِل السير. اصطحبتُ ذات مرة قطةً سوداءَ، فأخافَتْني، ومرةً كيس شيبسي فامتلأ بالدود. ظلُّوا يراقبوننا طويلًا، حتى مللنا فغفونا، صوَّبَ بطلُ الفيلم مسدسَه فسقط جاري ميتًا، رصاصة أخرى فتَّتَتْ كيسَ الشيبسي، مدُّوا أيديهم وخطفوا القطة … وهكذا، لا أعرف كم مضى من الوقت، لكنني أدرك أنه المشهد الأخير.

١

أوصد النافذة كي لا أرى العالم، أغلق قميصي حتى الزرِّ الأخير لأحمي نفسي منه، لم أستطع يومًا أن أقفز سورَ الحياة الواطئ، أجرُّ عَرَجي ورائي وأنظر. لم أستطِعْ أن أضغط زرَّ المصعد، لم أمدَّ يدي، أسحب شَلَلي وأحملق؛ فقط وقفتُ هنا حيث لا شيء، أفكِّر في النهايات، أترك الشاي حتى يتجمَّد، والناقة حتى تطير، والزومبي حتى يغيِّر أسنانه اللبنية، أعلِّق روحي من قدمَيْها في السقف، وأدفئ قلبي بالمكواة، أُنصِتُ للريح التي تعوي في الخارج، وأقول ستصمت بعد قليلٍ، لكنها تحطِّم نافذتي، ثم أضلعي واحدًا وراء الآخَر، وأنا جالس، مستسلِم تمامًا للنهاية. كم خسرتُ؟ لا شيء، فلم أبدأ شيئًا، أفكِّرُ في النهايات فأتهاوى، أفكِّر في النهايات فأسقط، أفكِّر في النهايات فأَذْوِي، أفكِّر في النهايات فأتلاشى، لا يتبقَّى مني سوى شبحٍ عجوزٍ كُنتُهُ دومًا، يحني رأسَه مثل جثةٍ معلَّقةٍ على الحائط، وأصابعها لا تصل إلى شيء، أي شيء.

٠

أي شيء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤