بيوت بيضاء للموت

– كيف تريد أن تموت؟

– في حادث تصادم، في سقوط طائرة فوق جبال الألب، بعد إغفاءة طويلة لا أستيقظ منها، الآن وأنا أكتب.

– كيف لا تريد أن تموت؟

– مريضًا، على سرير في مستشفًى، أنتظر نهايةً لم يُحدَّد موعدٌ لها.

١

أكره المستشفيات، لا تعني بالنسبة إليَّ الشفاء والعلاج بقدرِ ما تعني الموت. لم أدخل مستشفًى لأزور أحدًا، إلا وغادرتُ دونَه، وعيني ترمق الممر الخالي خلفي، منتظرًا خبرًا كالصاعقة يصطدم بوجهي. أرى نفسي دائمًا واقفًا في ممر طويل، وحيدًا أجلس على مقعد خشبي في انتظار ذلك الذي يَبِين شبحه من بعيد لكنه لا يتحرك. أول مرة ذهبت فيها إلى مستشفًى كانت لرؤية «بكر»، آخِر مرة رأيتُ فيها ذلك الصديقَ كانت في مستشفًى، وكلما مررتُ بعدها أمام ذلك المبنى الأبيض «الحالك»، أحاوِل أن أسترقَ السمع منصتًا إلى تلك الأنَّات التي ما زالت ترنُّ في الغرفة الضيقة ذات الطلاء المتساقط، وأُوهم نفسي أنها حقيقة، أن شخصًا ما سيفتح النافذة ذات الإطار الصدئ ويلوِّح لي، وقد ينادي باسمي. لأيام عديدة ظللتُ أحلم بهذا؛ أني أقف أمام الشجرة التي على الكورنيش، وأن الصوت قادم في الطريق، لكن السيارات المارقة بسرعة بيننا تخيفه فيعود مرة أخرى.

٢

الذين يرحلون فجأةً يظلون في الذاكرة، لكن الذين يظلون طويلًا في سرير المرض يدرِّبون مَن حولهم على الفقد، ليس لأن أحدهما كان رحيمًا بالآخَر، بل لأن الموت يتحوَّل إلى «صديق العائلة»، يفتح الباب ويجلس على المقعد المجاور للسرير، بجوار المحاليل المعلَّقة وعلب الأدوية، يدخل المطبخ ويسخن الطعام، يفتح الثلاجة ويرفع علبة الدواء إلى فمه مرة واحدة. يصبح الموت واحدًا من أفراد العائلة، يعرف سريره في البيت، ومكانه المفضَّل على الكنبة الطويلة أمام التليفزيون، شيئًا فشيئًا يتحوَّل إلى بديل للمريض، حتى إذا مات لا تعرف أيهما افتقدوا: المريض أم شبح المريض، وربما شعروا بالراحة لأن الخفاش الأسود القاتم الذي حطَّ بجناحَيْه رفعهما فعادت إضاءة الشقة.

٣

المستشفيات كالمقابر؛ بيضاء وجميلة من الخارج، موحشة وقاتمة من الداخل. المستشفيات قرينة الألم، عدوة البهجة، فرحتها مسروقة غير كاملة، يصحبها الخوف والقلق والتوتر، والضحكات المتكلَّفة، والألم المكتوم، والأمل المُجامل الذي يعرف الجميع أنه مجامل. فيها يمشي المرض منتصب القامة ملكًا متوَّجًا، يزيح بيده اليمنى الأطباءَ والممرضات، وبيده اليسرى الأجهزة الطبية، وعلب الأدوية، وأشعة إكس، وأجهزة التحاليل، والروشتات الطويلة، وبرودة البلاط، ولسعة الخبر الذي ينتظره الجميع، والحائط الذي يستند إليه الجميع في يأس؛ ويواصل طريقه، يتسلَّق الحائط كقرد شقي، وينظر من أعلى للمريض المدفوع على كرسي متحرك، يقفز ويطل من الشرفة إلى طفل في حضَّانة يتأرجح بين الموت والحياة، يتنصت على الوصايا الأخيرة التي تقال خلف الغرف المغلقة، يتأمَّل خيوطَ الدموع الهابطة من الأعين، والصراخ الخارج من الفم دون وجهة، والأيدي الموضوعة على الأفواه كي لا يزعج نحيبهم الموتى الجدد، يطرق على زجاج العناية المركزة ثم يخبئ وجهه ساخرًا من المريض الذي تتسارع دقاتُ قلبه فيصرخ الجهاز بجانبه، كجدار ينهار، كصراخ سيارة إسعاف، دون أن يتمكَّن من أن يرفع قناعَ الأوكسجين للمرة الأخيرة.

٤

يؤلمني صوت صراخ سيارة الإسعاف في الشارع، عربة دفن الموتى الواقفة خلف المستشفى، الوجوه المنكسرة الخارجة من الباب الأمامي للمستشفى دون أمل، الوجوه المرفوعة لأعلى أمام باب المستشفى الخلفي تقول «يا رب»، الجنازات المتأهبة، صراخ الأمهات، الغصَّات في حلوق الرجال، صراخ الأطفال وهم يمسكون عيونهم وأنوفهم وآذانهم، وهم لا يستطيعون أن يشرحوا ماذا ألَمَّ بهم، زجاجات الدواء الفارغة على المنضدة المجاورة التي تُستبدَل يومًا بعد يوم، فقدان الأمل، وانتظار النهاية، تعليق الذنب في النجفة كي يضيء وجه الجميع، ورغم ذلك لا نعرف مَن المذنب. تؤلمني الحُمَّى، الهذيان الليلي، النوم المتواصل، آلام الظهر من طول النوم على السرير، التحديق في السقف، الأرق الذي لا ينتهي، وسؤال «كيف النهاية؟»، الرغبة في الموت كراحةٍ، والهروب من الموت بسبب احتياج مَن حولك إليك، غُرَف العمليات المظلمة، الممرضات المتجهِّمات، الأطباء الصامتون، ومصطلحاتهم الطبية الطويلة واعتيادهم الموت، الكرسي المتحرك الذي يحمل مريضًا لا يعرف إلى أين سينتهي الطريق، أو حتى متى سينتهي.

٥

أريد أن أموت مبكرًا، عصرَ يوم هادئ، فجأةً وبلا مقدِّمات، أجلس على المكتب، وعيني تلتهم كتابًا بسرعة، يدي تجري بقلم على ورقةٍ تكتب شيئًا أخيرًا، أصابعي تدق الكيبورد كمَعاول تنحت في الجبل شيئًا أخيرًا، ثم عند آخِر حرف يسقط رأسي أمامي، على الكتاب، على الورقة، على الكيبورد؛ مِيتة مثالية، بلا ألم لي ولا للآخرين. لا أريد أن أموت في مستشفًى، لا أريد أن يتحلَّق أحدٌ حولي، لا أريد أن ينتظر أحدٌ ميعاد دوائي ليهرول به إليَّ، لا أريد أن تملأ جسدي وخزاتُ الإبر، لا أريد أن ينتظر أحد موتي، أريدهم أن يقرءوا آخِرَ كتاب، آخِرَ حرف على الورقة، آخِرَ كلمة على شاشة الكيبورد، أن يقفوا طويلًا أمام الجبل يتأمَّلون ما نحته المِعْوَل، ثم ينصرفوا لا يلوون على شيء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤