عيون ناقصة

الوقت يقترب من منتصف الليل، فيما الميكروباص يشق شارع فيصل، أغنية لا أفهمها تفجر الكاسيت، تتحدث عن العبد والشيطان، أواصل انكفائي على كتاب في يدي قد يقطع ملل الطريق، فيما صوت السائق يردد متصاعدًا: الأستاذ أبو نضارة.

انتبهت فجأة إلى الصوت الذي تكرر، أتلفت، كانت السيارة خالية إلا مني، لم أهتم كثيرًا بصوت السائق الذي تابَع:

سلامة السمع، الآخِر يا أستاذ.

فقط انتبهت إلى أنني «الأستاذ أبو نضارة».

كان قد مر عام تقريبًا منذ ارتديت نظارة طبية لأول مرة في حياتي، لكنها كانت المرة الأولى التي يناديني فيها أحد بهذا اللقب «أبو نضارة»، وألتفت إلى أن الأمر يلفت اهتمام الناس إلى هذا الحد.

ما قاله الرجل كان طبيعيًّا، غير الطبيعي كان هو اهتمامي المبالغ، لدرجة أن أعود إلى المنزل وأنظر إلى نفسي في المرآة: هل أنا بنظارة فعلًا؟

حين ذهبت لطبيب العيون للمرة الأولى، بعد ألمٍ طال طويلًا، وزغللة في العينين، قال لي: «المفروض كنت لبست نضارة من زمان.»

لكن حينما تسلَّمت النظارة من البائع، وسرت بها لأول مرة في الشارع، شعرت أن هناك فاصلًا بيني وبين الحياة، أن ما يجري في الحياة من خلف النظارة شيء، وأنا وعالمي الذي يتزاحم خلفها، شيء آخر. وحين عبرت الشارع المزدحم لأول مرة بها، كنت مترددًا كطفل يخطو خطواته الأولى، أو خائفًا من أن أخطئ حساب المسافات من خلف النظارة فتصدمني سيارة.

أحد الأصدقاء الطيبين قال لي: «ده شيء طبيعي، لكن هتتعود بعد كده.»

في مرحلةٍ ما من العمر كانت النظارة من مكملات «الشياكة»، وأذكر أنني في الصف الثالث الإعدادي اشتريت نظارة بخمسة جنيهات، حتى أكون شبيهًا بالكتَّاب الذين أقرأ لهم، كنت أطمح لأن أصبح واحدًا منهم فيما أقضي جُلَّ يومي في القراءة، لكنني أدركت بعد فوات الأوان، أنه ليس شرطا أن يرتدي الكاتب نظارة حتى يصبح كذلك.

ما أذكره أيضًا، أن النظارة كانت تتحول في قريتنا، التي ترقد في جنوب البلاد، أحيانًا إلى سبب للمعايرة، بأن لابسها قد فقد بصره، أو كاد. أذكر أيضًا أن أحد أعمامي ضعفت عيناه بسبب السن، ونصحه الطبيب بأن يرتدي نظارة، لكن خوفه من كلام الناس جعله يرفض ذلك، فماذا يملك الرجل في الريف سوى صحته وعينيه، لكن مع تراجع البصر اضطر إلى لبس نظارة، لكنه كان يلبسها فقط حين يكون في البيت بين أبنائه، ويخلعها إذا خرج ليجلس على المقهى.

لم أفرح بالنظارة، ولم أعلقها في جيب القميص كما كان يفعل بعض الزملاء في المرحلة الثانوية، أو أضعها في الجراب، وأضع الجراب أمامي كما كان يفعل الكثيرون في الجامعة؛ لأنني ببساطة، أكتشف ذلك الآن، لا أرتدي نظارة شمس، بل عندما أنظر إلى الذين يرتدونها الآن أكاد أقول: يا لكم من مرفهين!

بعد عام ونصف تقريبًا، من ارتدائي النظارة، ذهبت لإجراء كشف صحي، طلبوه مني في العمل، فاكتشفت أن الدوائر غير المكتملة عند طبيب العيون عادت لتهتز مرة أخرى، ولا تَبِين نهاياتها، أحكي للأصدقاء فينصحونني بالذهاب مرة أخرى إلى الطبيب؛ لأنه من الطبيعي أن أغير النظارة كل عام ونصف.

أبحث عن رقم الطبيب، لا يرد، في اليوم التالي يرد الممرض بعد ممانعة: من فضلك دي عيادة دكتور فلان؟

– …

– طيب أنا كنت كشفت من سنة وعاوز أعيد الكشف.

– …

– قصدي عاوز أكشف تاني، عشان نظري ضعف أكتر.

يقول الممرض إنه من الممكن أن أكشف عند ابن الطبيب، فهو متخصص في العيون أيضًا.

أسأله: طيب بالنسبة إلى الدكتور فلان؟

يرد بحيادية: تعيش إنت.

البصر الذي يذهب رويدًا أكتشف أهميته وأنا أحدِّق في شاشة الكمبيوتر وأكاد لا أرى، أو حين أضطر للنوم من الثامنة مساء بسبب ألم حارق في العينين، أو حين أضطر لترك متابعة فيلم أحبه لأنني لا أميز الوجوه جيدًا، أو حين يناديني سائق ميكروباص: الأستاذ أبو نضارة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤