فنِّيَّةُ الغناءِ في «الحمَّام»

في إحدى حلقات برنامج المواهب «أرابس جوت تالنت Arabs Got Talent»، في موسمه الرابع، قدَّم أحد المتسابقين نفسه، بأن موهبته أنه «يأخذ حمَّامًا»؛ كان يقصد أنه يغنِّي وهو يقوم بالاستحمام. وبالفعل، دخل «حمَّامًا» مغلقًا لا يظهر منه إلا رأسه، وبدأ الغناء وسط انهمار المياه عليه، ووسط سخرية لجنة الحكام وضحكات الجمهور.

هذا المشهد، رأيناه من قبل في فيلم «إلى روما مع الحب» الذي أخرجه وقام ببطولته «وودي آلان»، وكان يقوم فيه بدور منتج أوبرا معتزل، يُفاجأ بأن هناك متعهد جنائز يتمتع بصوت عذب عندما يغني أثناء «الاستحمام»، ويصبح صوته سيئًا إذا حاول الغناء خارج حدود ذلك، فيقرِّر أن يقدِّمه للجمهور على خشبة المسرح، وهو يغنِّي أسفل «الدش»، داخل حمَّام متنقِّل، مثل الذي قدَّمه متسابق البرنامج الشهير.

لاقى الفيلم نجاحًا كبيرًا، ولفتت شخصية «مُغنِّي الحمَّام» الانتباه، بفنِّيَّتها وطرافتها وغرائبيَّتها، لكن لم تفعل ذلك الشخصيةُ الحقيقية في برنامج المواهب. هل هذا يعني أن الفن يُضفي هالة على الشخصية، ويمنح متعة إضافية للمتلقي، حتى لو كانت الشخصية غير اعتيادية في الواقع؟

ثمَّة مثال آخر: فقبل أعوام أمطرت السماء ضفادع في اليابان، ووقعت أحداثٌ مشابهة تُعرَف بتسمية «فافروتسكايز» (مختصر السقوط من السماء) في أماكن أخرى حول العالم؛ حيث حملت زوابع عابرة ضفادع وقناديل بحر. وبعيدًا عن التفسير العلمي لذلك؛ فإن استقبال المتلقي كان مختلفًا عن مشهد سقوط الضفادع نفسه في الفيلم المهم «ماجنوليا» الذي كتبه وأخرجه «بول توماس أندرسون»، أو مشهد سقوط الأسماك من السماء في رواية «هاروكي موراكامي» الأشهر «كافكا على الشاطئ».

ربما يبدو الاحتفاء بما يتناوله الفن — رغم وجود مثيل له في الواقع — جوابًا على من يقولون إن الحياة صارت أكثر غرائبية من الخيال، وربما يُجيب أيضًا عن أسئلة حول دور الفن، وما يفعله ويُغيِّره، وربما يصلح أيضًا جوابًا لسؤال يتكرَّر لمعظم الكُتَّاب في حواراتهم، عن مدى تقاطع حياتهم الشخصية مع النص الروائي؛ لأن الفنان عمومًا عندما يعيد تقديم مشهد واقعي اعتيادي، سواء في الشعر أو الرواية أو المسرح أو السينما، فإنما يضيف إليه تلك اللمسة السحرية، التي اسمها الفن، التي تضيف إليه رُوحًا تجعله مختلفًا عن ذلك الاعتيادي الذي تعوَّدنا على رؤيته كل يوم، فتحوِّله من جثة ممدَّدة على الأرض إلى عدَّاءٍ في سباق تنافسي، من حكاية اعتيادية إلى كرة ثلج من الأسئلة تتدحرج على الجميع بحثًا عن الإجابة.

في رواية «لو أن مسافرًا في ليلة شتاء»، للروائي الإيطالي «إيتالو كالفينو»، نجد نصًّا مؤسَّسًا بالكامل على الفانتازيا، كان هدفه أن يتحدث عن حقيقةٍ لم يكن بوُسعه أن يرويها بأية طريقة أخرى، ويقول «كالفينو» إن الروائيين «يحكون عن ذلك الجزء من الحقيقة القابع في أعماق كل كذبة، وبالنسبة إلى الروائي — كما للمحلل النفسي — ليس بالأمر المهم النظر فيما إذا كنتَ تقول صدقًا أو كذبًا؛ لأن الأكاذيب يمكن لها أن تكون ممتعة وبليغة وكاشفة، شأنها شأن أية حقيقة ندَّعي قولها بصدق.»

ما بين الصدق والكذب، الواقع والخيال، يبني الكاتب عالَمه، فيبدو كصانع عرائس ماريونيت، قد يضع يد شخصية، مع رأس شخصية أخرى، مع قدم شخصية ثالثة، لكي يصنع شخصية رابعة. إنها لُعبة «البازل» التي تصنع في النهاية شكلًا مختلفًا عندما يكتمل، رغم عاديَّته. لذا يحدد الشاعر والروائي الأمريكي «وليم فوكنر» ثلاثة أشياء يحتاجها الكاتب لرسم الشخصية: ‬الخبرة، ‬والرصد، ‬والخيال، معتبرًا أن أي اثنين منها — وفي بعض الأحيان أي واحد منها — ‬يمكنهما تعويض نقص الصفات الأخرى. ويقول:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

معي، ‬يبدأ الأمر ‬غالبًا مع فكرة وحيدة أو ذكرى أو صورة رمزية. ‬كتابة القصة ليست إلا مسألة عمل للوصول لتلك اللحظة من البدايات؛ ‬لتفسير لماذا حدث هذا، أو ما تسبَّب به لاحقًا. ‬فالكاتب ‬يحاول خلق شخصيات ذات مصداقية ضمن مواقف انتقالية منطقية في أكثر طريق متنقل ‬يمكنه الحصول عليه. ‬من الواضح أنه لا بد له من استخدام البيئة التي ‬يعرفها باعتبارها واحدةً من أدواته.

لا نتحدَّث هنا عن القصة الواقعية، أو نَقْل الواقع إلى الورق؛ فصفحات الحوادث في الصحف تمتلئ بآلاف القصص الواقعية «المفجعة» والرديئة في كتابتها، وصفحات الأخبار نائمة تحت آلاف الجثث، لكن الفرق بين هذا الواقع والواقع الذي يقدِّمه الأدب، هو الفن؛ تلك اللمسة السحرية التي لا يملكها أحد دون مَنْ ضربَتْه تلك اليدُ العملاقة التي اسمها الفن.

في رأي «فوكنر» أيضًا أن الموسيقى أسهل وسيلة للتعبير منذ أن اكتُشِفت بدايةً ‬في خبرة وتاريخ المرء، «ولكن لأن الكلمات هي موهبتي، ‬فلا بد أن أحاول التعبير من خلال الكلمات عن الموسيقى الصافية التي قد تفعل ذلك بشكل أفضل.» الموسيقى لا يشبهها شيء؛ لذا تبدو خارج المنافسة، لكن الكلمات تشبه الحياة؛ ومن هنا تبدو الصعوبة في أنها تقوم بعمل الموسيقى، وتضاهي الحياة، وتنتصر عليها، وتحوِّلها من قطعة معدن ملقاة في الأرض إلى طائرة تحلِّق في السماء، من ريشة بلا قيمة في جناح دجاجة إلى أداة لنسخ آلاف الكتب ورسم آلاف اللوحات، من امرأة قد تُدعى «الموناليزا»، إلى لوحة مبهرة تثير آلاف الأسئلة لسنوات طويلة.

الأمر يُشبه إلى حَدٍّ كبير المغنِّي «وودي آلان» الأوبرالي، الذي لا يتمتع بصوت جميل إلا بين جدران أربعة وتحت زَخَّات الماء. تستطيع أن تعتبر أن تلك الزخَّات، وتلك الجدران، هي الفن الذي يعيد صياغة الاعتيادي — أو حتى غير الاعتيادي — ويقدِّمه بشكل مختلف، بحثًا عن جوهره الحقيقي، وإجابةً عن الأسئلة التي يطرحها؛ الأسئلة التي صدئت لأنَّ أحدًا لم يُجِبْ عنها من قبل. إن الأمر أشبه بإشعال نار نائمة تحت الرَّمَاد في وجه عاصفة قاسية. إنه جوهر الحقيقة، الغائص في عمق الكذبة.

لا يوجد شيء — في ظني — اسمه أن الواقع أكثر خيالًا من الفن؛ لأن الفن قادر على جعل الحياة — بحكاياتها الغريبة والعادية — أكثر جمالًا، والأهم: أكثر احتمالًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤