الفصل العاشر

النظم

قصيدة حافظ الأخيرة

كل شعر نظمٌ، وليس كل نظم شعرًا، وقد يشعر الناظم وينظم الشاعر، بل الشاعر ناظم دائمًا، وليس الناظم شاعرًا في كل وقت.

ولست أشك ولا يشك أحد في أنَّ حافظًا قد شعر كثيرًا، فأجاد الشعر وأحسنه، ولست أشك ولعل حافظًا لا يشك أيضًا في أنه كان ناظمًا في الأسبوع الماضي، حين أنشد بين يدي صاحب الجلالة هذه القصيدة التي لم أكن أريد أنْ أعرض لها، لولا أنَّ شوقي تكلم وتناول في قصيدته التي نقدتها أمس موضوعًا تناوله حافظ، وهو الدستور.

نعم، لم أكن أريد أنْ أعرض لقصيدة حافظ؛ لأنها لم تبعث في نفسي ميلًا إلى أنْ أصفها بخير، ولعلها بعثت في نفسي ميلًا إلى أنْ أنقدها، وإلى أنْ أكون شديدًا قاسيًا في هذا النقد.

وقد استطعت أنْ أوثر اللين على الشدة، وأعدل عن القسوة إلى الرفق؛ لأن بيني وبين حافظ صلات مودة دعتني أو أكرهتني على أنْ أميل مع الهوى، فأكتم حقًّا كان يجب أن لا يكتم.

وأنا أعتذر من هذا الصمت إلى حافظ أولًا، وإلى القراء ثانيًا، وإلى الأدب بعد حافظ والقراء.

أعتذر إلى حافظ من هذا الصمت، فأنا أعلم أنَّ النقد صنيعة يسديها الناقد إلى الكُتَّاب والشعراء؛ لأن هؤلاء الكُتَّاب والشعراء يستفيدون من النقد أكثر مما يخسرون، يعرفون رأي الناس فيما يكتبون ويقولون، وليست هذه المعرفة قليلة الفائدة، يعرفون رأي الناس، ويعرفون رأي الأخصائيين؛ فيقفون على مواضع القوة والضعف في فصولهم وقصائدهم، فينفعهم هذا ويزيدهم قوة إلى قوة، ويعصمهم من السقوط والإسفاف، ثم في النقد إقرار للحق في نصابه، ودفاع عن الفن، وتبصرةً لما في الآثار الفنية من جمال أو عيب.

ولست أريد أنْ أدافع عن النقد، ولا أنْ أثبت أنه حق، وأنه نافع، فالناس لا ينكرون ذلك ولا يشكون فيه.

ولست أريد أنْ أزعم أنَّ حافظًا ينكر على الناس أنْ ينقدوه، فليس في ذلك شك، وكثيرًا ما دعا حافظ أصحابه وخصومه إلى نقده، ودلالته على مواضع ضعف، ومواطن نقص في قصائده قبل أنْ تنتشر، وبعد أنْ تنشر على الجمهور.

إذن فقد كان من الحق عليَّ لحافظ أنْ أنقده، ولكن سكتُّ فقصرت في ذات حافظ، وأنا مصلح اليوم هذا التقصير.

وقد كان من الحق عليَّ للقراء أنْ أنقد حافظًا، حتى لا يخلط كثير منهم بين جيد هذا الشاعر — وهو كثير — وبين رديئه وهو قليل، ولكني سكت وأنا مصلح اليوم هذا السكوت.

وقد كان من الحق عليَّ للأدب أنْ أنقد حافظًا حتى لا يضاف إلى الشعر ما ليس منه، ولا يحسب على الفن أثر ليس من آثاره في شيء، وللأدب على أهله حق المراقبة والنصح، وليس يعذر المقصر في هذا الحق؛ لأن الأدب يحيا من إنتاج الشعراء والكُتَّاب، كما يحيا من إصلاح النقاد لآثار الكُتَّاب والشعراء، فكما أنَّ سكوت الكُتَّاب والشعراء عن الكتابة والشعر إماتة للأدب كذلك سكوت النقاد، وقد أعرضت عن نقد هذه القصيدة، وأنا مصلح الآن هذا الإعراض.

ولو أنك أردت أنْ تتبين دخيلة نفسي، لقلتُ لك بعد أنْ ترددت أسبوعًا: إنَّ هذه القصيدة لا ينبغي أنْ تحسب على حافظ، ولا أنْ تضاف إليه؛ لأن حافظًا قد قال من الشعر، ونظم من القصائد ما ملك القلوب، وخلب العقول، واستأثر بالألباب ما ليس إلى نسيانه من سبيل، ويخيل إليَّ أنَّ إضافة هذه القصيدة إلى هذا الشاعر المتقن إساءة إلى إتقانه، وأنَّ وضع هذه القصيدة بين قصائده الجياد إزراء لهذه القصائد، وأحسب أنَّ حافظًا يحسن الإحسان كله إذا لم يضع هذه القصيدة فيما سينشر من أجزاء ديوانه، فليس لها موضع في هذا الديوان.

بحثت عن الشعر في هذه القصيدة فلم أجد شيئًا، وأنا أزعم أنْ ليس بين النقاد من يستطيع أنْ يجد ما عجزت أنا عن الوصول إليه، بل أزعم أكثر من هذا، بل أزعم أنَّ حافظًا عاجز نفسه عن أنْ يجد شيئًا من الشعر في هذه القصيدة، وما أشك في أنه فيما بينه وبين ضميره مقتنع بهذا الرأي مطمئن إليه.

لقد قرأت القصيدة وقرأتها، وردَّدت أبياتها، رددتها وسألت فيها كل بيت، بل كل شطر، بل كل كلمة عن شيء من جمال الشعر، أو قليل من روعة الفن، فلم أوفق إلى شيء.

ولست آسف؛ لأن حافظًا لم يُجِدْ في هذه القصيدة، فقد يرتفع الشاعر، وقد يهوي، وقد يعلو الفني، وقد يسقط، ولئن لم يُوفق حافظ في هذه القصيدة إلى الإحسان، فقد وفق إليه في قصائد أخرى كثيرة، وقد يوفق إليه في قصائد أخرى كثيرة، وإنما آسف؛ لأن حافظًا سكت عصرًا طويلًا أطول مما ينبغي أنْ يسكت الشاعر، ولما قال لم يحسن القول، وما مصدر هذا؟ وما أصله؟ وعلى من تقع التبعة؟ أحق أنَّ العصر الذي نعيش فيه ليس عصر شعر ولا فن؟ وأنَّ انصراف الناس عن الشعر والفن إلى هذه الحياة، وإلى هذه الحياة السريعة العملية التي تنهك القوى، وتسئم النفوس قد ثبط من همم الشعراء والكُتَّاب، وصرفهم عن الشعر إلى النظم، وعن النثر الرائع الجميل إلى هذه الكتابة المألوفة التي تقرؤها في كل يوم، قد يكون هذا حقًّا، وقد لا يكون، ولكن هناك حقًّا لا شك فيه، وهو أنَّ الشعر الجيد في هذا العصر قليل لا يكاد يوجد، ولا يعثر به، وهذه القلة نفسها هي التي بعثتنا إلى أنْ نعجب أمس بقصيدة شوقي، مع أنها — كما قلنا — لا تفوق غيرها من قصائده.

الشعراء إذن مكرهون على أنْ يسكتوا؛ لأن في حياتنا الاجتماعية شيئًا يضطرهم إلى السكوت، وقد يُكره الشعراء على أنْ يتكلموا فيتكلمون، لكن أي قيمة لشعر مصدره الإكراه؟!

فالشعر الجيد يمتاز قبل كل شيء بأنه مرآة لما في نفس الشاعر من عاطفة، مرآة تمثل هذه العاطفة تمثيلًا فطريًّا بريئًا من التكلف والمحاولة، فإذا خلَت نفس الشاعر من عاطفة، أو عجزت هذه العاطفة عن أنْ تنطق لسان الشاعر بما يمثلها فليس هناك شعر، وإنما هناك نظم لا غناء فيه، ولست أدري أخلت نفس حافظ من العاطفة القوية، أم عجزت هذه العاطفة عن أنْ تُجري لسان حافظ بالشعر الجيد، ولكني أعلم أنْ ليس في هذه القصيدة من هذا الشعر شيء.

أول ما يؤذيك حين تقرأ هذه القصيدة خلوُّ أبياتها جميعًا من كل معنى رائع أو تصور بديع، فإنك تنتقل من البيت إلى البيت، فلا تجد إلَّا ألفاظًا مرصوفة وكلمًا منظومة يتلو بعضها بعضًا، وتدل على معانيها اللغوية لا أكثر ولا أقل، فإذا عمد الشاعر إلى التشبيه أو المبالغة، أو أي حيلة من هذه الحيل اللفظية التي يخلص الشعراء بها من المأزق لم يجد إلَّا ألفاظًا مألوفة، ومعاني كثيرًا ما رددها الشعراء، وطرقًا من التعبير قد سئمها الناس.

فانظر إليه حين أراد أنْ يقول إنَّ صاحب الجلالة قد رفع شأن الأزهر الشريف حين زاره، كيف لم يستطع أنْ يقول إلَّا شيئًا عاديًّا مبتذلًا يردده الناس جميعًا، ويسمعه الناس جميعًا، فلا يجدون فيه غرابة ولا لذة؟! فقال:

قضيت به الصلاة فكاد يزهى
بزائره على ركن الحطيم

فهل تجد في هذا البيت معنًى طريفًا أو وصفًا رائعًا؟ وهل تجد في هذه المبالغة شيئًا من الجمال؟ وانظر إلى مبالغة أخرى كيف أساء الشاعر أداءها، فقال يريد أنْ يصف قوة النهضة المصرية، وأنْ يستنبط هذه القوة من شدة الخمول القديم:

أفقنا بعد نوم فوق نوم
على نوم كأصحاب الرقيم

فهل تجد جمالًا أو شعرًا في كثرة هذا النوم؟ أليس يذكرك هذا البيت بيتًا مثله قديمًا وهو قوله:

فما للنوى جذ النوى قطع النوى
كذاك النوى قطاعة لوصالي

سمع الأصمعي هذا البيت فقال: لو سلط الله على كل هذا النوى شاة فأكلته!

فماذا عسى أنْ نقول في نوم حافظ؟! وهل تجد لأصحاب الرقيم هنا موضعًا يلائم قصيدة حافظ، أليس الناس جميعًا يذكرون الكهف، وأصحاب الكهف، ونوم أصحاب الكهف؟! وانظر إلى مبالغة ثالثة أساء فيها حافظ الإساءة كلها حين أراد أنْ يذكر اغتباط مصر إذ صدر الدستور:

فيا مصر اسجدي لله شكرًا
وتيهي واقعدي طربًا وقومي

إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا أجاب حافظ: صدر الدستور! وإلَّا فهل ترى مصر تتيه وتقعد، وتقوم طربًا دون أنْ يكون هناك زلزال؟! ثم ما قوله: «اسجدي لله شكرًا» وماذا ترك للعامة؟! ومثل هذه المبالغات التي تخلو من كل روعة، ومثل هذه الألفاظ التي ابتذلت على ألسنة العامة كثير في القصيدة، وفي الحق أنَّ ابتذال الألفاظ من أشد عيوب هذه المنظومة، فانظر إلى قوله:

فقد تم البناء وعن قريب
تزف لك البشائر من «نسيم»

أليس من كلام الأسواق؟! أليس غريبًا أنْ يكون هذا الكلام من آثار حافظ الذي استعمل أشد ألفاظ اللغة غرابة، وأكثرها وحشية في كتاب البؤساء، الذي استعمل «مِسْلاخ الشِّرَّة»، وما يشبه «مسلاخ الشرة» من غريب الألفاظ، وهل عجز حافظ عن أنْ يتخير متين الكلام ورصينه في غير وحشية ولا ابتذال، وانظر إلى هذا البيت الذي ربما خيل إلى الشاعر أنه خفيف الروح:

أيأذن لي المليك البَرُّ أني
أهنئ مصر بالأمر الكريم

أترى فيه لفظًا من ألفاظ الشعر، أو معنًى من معاني الشعر، ومن أشد عيوب هذه القصيدة أنَّ قوافيها غير مستقرة في مواضعها؛ فقد تجد هذه القافية قلقة مضطربة، وتشعر بأنها لم تأت إلَّا لأن الشاعر قد احتاج إليها، لم يدعها المعنى، وإنما دعاها التكلف. انظر إلى هذا البيت:

رأى فيك «المعز» زمان أعلى
قواعده على ظهر الأديم

ما تقول في «ظهر الأديم» وقد أراد الشاعر أنْ يقول الأرض بل لم يرد أنْ يقول شيئًا إلَّا في «المعز» رفع قواعد الأزهر؟ ولعل قواعد المساجد والعمارات لا ترفع على ظهر الهواء، وانظر إلى هذا البيت:

فشرفها بركبك وافتتحها
وأسعدها بدستور تميم

فانظر إلى «تميم» هذه، أليست نابية في موضعها؟ أليست تذكرك قول العامة «دستور تمام» ثم ما «شرفها بركبك» هذه؟ وما «افتتحها»؟

وانظر إلى قوله:

فدار البرلمان أعز دار
تشاد لطالب المجد الصميم

أليس «المجد الصميم» لفظًا دعت إليه القافية؟ وهل تجد للصميم هنا فضلًا على الطريف، أو التليد، أو الأثيل؟

وانظر إلى قوله:

بها يتجمل العرش المفدى
وتحيا مصر في عيشٍ رخيم

أترى إلى «العيش الرخيم» ألست تجد فيه أثر التكلف؟! ثم أليس في «الرخيم» شيء من الأنوثة قد لا يليق بهذا المقام؟! ثم ما قيمة البيت في نفسه إذا قرأت بعده قول شوقي:

بنى الدار التي لا عز إلَّا
على جنباتها للمالكينا

وقد ذكرت شوقي، وكنت أود ألَّا أذكره الآن! فإن الموازنة بين ما قال في الدستور، وبين ما قال حافظ في الدستور أيضًا مُرَّة، مؤلمة النتيجة؛ تقرأ أبيات شوقي فلا تشك في أنه يصف ما يشعر به، وما تشعر به أنت أيضًا، وتقرأ أبيات شوقي فتجد فيها المعاني الغالية القيِّمة قد أديت في اللفظ العذب الرشيق، ليس فيها للبحث أثر ولا للتكلف مظهر. فإذا قرأت أبيات حافظ لم تجد شيئًا، وإنما آذتك ألفاظ متكلفة وقوافٍ أُنزلت في غير منازلها، وأكرهت على أنْ تستقر حيث لا تحب.

لأمر ما أبت شياطين الشعر أنْ تسعد حافظًا، فأخلفنا في هذه المرة، ولكنا لا نيأس من لقاء حافظ، ومن لقائه في وقت قريب!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤