الفصل الثالث عشر

الرثاء في شعر حافظ

رحم الله حافظًا! ما أرى أنَّ الذين سيعرضون لرثائه من الكُتَّاب والشعراء سيوفونه حقه أو يبلغون من ذلك ما كان يبلغه هو حين كان يعرض لرثاء الأعلام الذين كان يفقدهم هذا البلد من حينٍ إلى حين!

فقد كانت نفس حافظ — رحمه الله — تمتاز بشيئين أتاحا لها إجادة الرثاء وإتقانه والبراعة فيه، كانت قوية الحس كأشد ما تكون النفوس الممتازة قوةَ حسٍّ، وصفاء طبع، واعتدال مزاج، وكانت إلى ذلك وفية رضية، لا تستبقي من صلاتها بالناس إلا الخير، ولا تحتفظ إلا بالمعروف، ولا ترى للإحسان والبر جزاء يعدل الإشادة به، والثناء عليه، ونصبه للناس مثلًا يُحتذى ونموذجًا يُتأثر، وكانت إلى هذا وذاك ترى دَينًا عليها — لا أقول لنفسها ولا أقول للناس، وإنما أقول للفن والحق والتاريخ — ألَّا ترى خيرًا إلا سجلته، ولا تحس معروفًا إلا أذاعته، كأنما كان الذين يحسنون إلى أنفسهم، أو إلى خاصتهم، أو إلى جماعة من الناس قليلة أو كثيرة يحسنون إلى حافظ نفسه! وكأنما كان حافظ يؤمن بأن من الحق عليه أنْ يشكر للمحسن إحسانه، ويسجل لصاحب المعروف معروفه، مهما يكن مصدر هذا الإحسان والمعروف، ومهما يكن موضوعهما! فهذا أحد الأمرين الذين كانت تمتاز بهما نفس حافظ: حسٌّ قوي دقيق، وخلق رضيٌّ كريم، فأما الأمر الآخر فصلة غريبة متينة بين هذه النفس القوية الكريمة، وبين نفوس الشعب وميوله وأهوائه وآماله ومثله العليا.

رحم الله حافظًا! لم يكن فردًا يعيش لنفسه بنفسه، وإنما كانت مصر كلها، بل الشرق كله، بل الإنسانية كلها في كثيرٍ من الأحيان تعيش في هذا الرجل، تحس بحسه، وتألم بقلبه، وتفكر بعقله، وتنطق بلسانه، لا أعرف بين شعراء هذه الأيام شاعرًا جعلته طبيعته مرآة صافية صادقة لحياة نفسه ولحياة شعبه كحافظ — رحمه الله — فالذين يقرءون شعره الآن، والذين كانوا يقرءون شعره في حياته، والذين كانوا يستمعون له إذا أنشد الشعر في المجالس الخاصة والمجامع العامة؛ يؤخذون بهاتين الصورتين الواضحتين كل الوضوح: صورة الشعب وما يجد من ألم وأمل، وصورة حافظ وما يحس من يأس أو رجاء. كذلك كان حافظ، وكذلك كانت نفسه، وكذلك كانت الصلة بينه وبين الناس، فليس غريبًا أنْ تقع الكوارث من نفسه أشدَّ وقع، وأن تثير فيها عواطف لذاعة من الألم والحسرة، ومن الحزن واللوعة، وليس غريبًا أنْ ينطلق لسانه بالشعر في تصوير هذه العواطف، فيبلغ من ذلك ما يريد في غير مشقة ولا عناء، ويصل إلى هذه المنزلة التي لا يصل إليها الشعراء إلا أنْ يكونوا مطبوعين، أو أنْ تكون الظروف قد واتتهم، وأتاحت لهم من أسباب القدرة والبراعة ما يقربهم من المطبوعين، وهي أنْ يبلغوا بالذين يقرءونهم ويستمعون لهم مثل ما في أنفسهم من الحزن واللوعة، ومن الحسرة والأسى، فإذا بكوا بكى معهم الناس صادقين، وإذا جزعوا جزع معهم الناس مخلصين.

هذه منزلة لا أعرف كثيرًا من شعراء العربية في العصر الحديث قد بلغوا منها ما بلغ حافظ، فبين شعرائنا في هذه الأيام من يرثون فيحسنون الرثاء، ويجيدون وصف الفقيد الراحل، وتعديد خلاله ومآثره، ويتقنون وصف الحزن عليه والأسى لفراقه، ويبلغون البراعة في ضرب الأمثال السائرة، وإرسال الحكم البالغة، ويجمعون من هذا كله ما يحسن وقعه في القلوب، وما يلذ الأسماع والعقول معًا، ولكنهم لا يثيرون على ذلك كله ما في النفوس من عواطف الحزن الكامنة، ولا يذرفون من العيون هذه الدموع الغزيرة كما كان يفعل حافظ؛ لأن أكثر هؤلاء الشعراء يرثون، ولكن عن غير حزن صادق، ويندبون ولكن عن غير لوعة محرقة، هم يقصدون من الرثاء على أنه فن من فنون الشعر، يجب أنْ يساهموا فيه، وعلى أنَّ مكانتهم الأدبية تضطرهم إلى أنْ تكون لهم في الرثاء كلمة مسموعة، أما حافظ فكان يرثي لأنه يحزن، وكان يحزن لأنه يحب، وكان يحب لأن الله قد وهبه نفسًا رضية مؤثرة، لم تبرأ من شيءٍ قط كما برئت من الأثرة، وكما برئت من الضغينة والحقد.

كان حافظ ينتهي من حب أصدقائه إلى حيث لا يقدِّر أنَّ بينه وبينهم فرقًا، إلى حيث يراهم جزءًا من نفسه. وكان حافظ — كما قدمت — يحب الشعب، ويحس بحسه، ويشعر بشعوره، فكان إذا رثى علمًا من أعلام مصر كأنما يرثي نفسه أولًا، وكأنما يرثي أمته ثانيًا. وقد أتيح لحافظ أنْ يكون صديقًا وفيًّا لهؤلاء الأعلام الذين سعدت مصر بحياتهم، وشقيت بوفاتهم منذ أول هذا القرن، وقد تقول إنَّ هذه الصداقة أتيحت لغير حافظ من الشعراء، ولكني حدثتك عن وفاء حافظ وإيثاره، وزهده في متاع الدنيا، واشتغاله عن المنافع العاجلة بالمثل العليا، فلا بدع أنْ يمتاز رثاء حافظ بصدق اللهجة، وأن يبلغ من نفوس الناس ما لا يبلغه رثاء غيره من الشعراء المعاصرين.

أراد قُدامة في أواخر القرن الثالث للهجرة أنْ يضع للشعر أصولًا ونظمًا، لا يجوز للشعراء أنْ يتعدوها ويخرجوا عنها، فلما بلغ الرثاء زعم وزعم معه النقاد الذين جاءوا من بعده أنَّ الرثاء والمدح فنٌّ واحد في حقيقة الأمر، وأن الفرق بينهما أنْ أحدهما يتناول الميت، والآخر يتناول الحيَّ، وأن مظهر هذا الفرق أنْ من ذكر الميت لجأ إلى الفعل الماضي فحكى عنه، وقال كان كريمًا أو كنت كريمًا، ومن ذكر الحيَّ لجأ إلى الفعل المضارع، أو إلى ما في حكمه من أنواع الجمل، فقال هو كريم، أو أنت كريم وما يشبه هذا، ولم يهتد قدامة وأصحابه في الرثاء إلى أكثر من هذا المقدار، أو قل إنهم لم يهتدوا إلى شيء، فإن العواطف التي تبعث على الرثاء غير العواطف التي تبعث على المدح قِوام تلك الحزن واليأس، وقوام هذه البهجة والرجاء، وقد يكون الإعجاب مشتركًا بين الرثاء والمديح، ولكن قلَّما يكون الإعجاب وحده مصدرًا لمدح أو رثاء حتى تصحبه رغبة أو رهبة، أو أمل أو حسرة، أو لوعة أو قنوط. وأكبر الظن أنَّ كثيرًا من الشعراء المعاصرين الذين يذهبون مذهب البارودي وحافظ في الشعر، ويحيون فيه سنة للقدماء لا يزالون يرون المدح والرثاء كما كان يراهما قدامة وابن رشيق وغيرهما من النقاد المتقدمين تعديدًا للمآثر والمفاخر، ولونًا من ألوان المدح للأموات. وكان حافظ — رحمه الله — في أول عهده بالشعر يذهب هذا المذهب، ويغلو فيه؛ لأنه كان يقلد القدماء تقليدًا، ويحاكيهم محاكاة تذهب بشخصيته أو تكاد تذهب بها. فأنت إذا قرأت رثاءه لبعض الأباظيين في الجزء الأول من ديوانه أعجبت باللفظ أكثر مما تعجب بالمعنى، ولم تجد في هذا الرثاء حزنًا صادقًا، ولا لوعة محرقة، وإنما أحسست كأنك تقرأ شعر طالب وضع أمامه نماذج من الشعر القديم، وأراد محاكاتها، فأخذ معاني القدماء، وذهب مذهبهم في الغلوِّ السقيم أحيانًا، وكأنه لم يُدفع إلى هذا الرثاء بطبيعته الرقيقة المحزونة، وإنما دفع إليه بمجاملة أصدقائه من الأباظيين، فانظر إلى هذه الدالية مثلًا، فسترى أنَّ حافظًا — رحمه الله — قد كان فيها عيالًا على دالية أبي العلاء التي مطلعها:

غير مجد في ملتي واعتقادي
نوح باك ولا ترنم شادي

أخذ معنى من معانيها، فجعل يطوِّله، ويمد فيه، ويقلبه على وجوهٍ عدة، ولكنه لم يجوده، ولم يأت فيه بطائل، ولم يبلغ منه بعض ما بلغ أبو العلاء، قال حافظ:

أيهذا الثرى إلام التمادي
بعد هذا أأنت غرثان صادي؟
أنت تروى من مدمع كل يوم
وتغذى من هذه الأجساد
قد جعلت الأنام زادك في الدهـ
ـر وقد آذن الورى بالنفاد
فالتمس بعده المجرة وردًا
وتزود من النجوم بزاد

فانظر إلى هذين البيتين الأخيرين، فسترى فيهما مبالغة أشبه بمبالغة الناشئين في الشعر، لا تستقيم مع العقل، ولا تكاد تدل على شيء. وكيف بشاعر يزعم أنَّ التراب قد أكل الناس حتى كاد يأتي عليهم، وشرب الدموع حتى كاد يستغرقها، وينصح له أنْ يلتمس شرابه في المجرة وطعامه في النجوم؟! وحافظ يمضي في التفصيل والتطويل دون أنْ يبلغ قول أبي العلاء:

خفف الوطْءَ ما أظن أديم الـ
أرض إلا من هذه الأجساد
وقبيح بنا وإن قدُمَ العهـ
ـدُ هوانُ الآباء والأجداد

ولكنك تلمح هذا النوع من القصور في أكثر القسم الأول من شعر حافظ، لا في الرثاء وحده، بل في فنونه الشعرية كلها، فحافظ لم ينشأ شاعرًا، وإنما اكتسب الشعر اكتسابًا، وأنفق حياته كلها في تجويد شعره وتحسينه. على أنه لم تكد تتقدم به الحياة حتى ظهرت فيه هذه الخصال التي أشرت إليها، والتي قضت له بالتفوق في الرثاء؛ فانظر إليه حين رثى الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده: كيف غلبت طبيعته صناعتَه؟ وكيف تحدث قلبه وإيمانه إلى قلوب المسلمين وإيمانهم؟ وكيف انتقل حزنه ووفاؤه إلى نفوس الناس، فعلمهم كيف يجدون لذع الحزن، وكيف يستعذبون لذة الوفاء؟ وهو على ذلك لم يخلَّ بأصول الفن — كما عرفها المتأدبون القدماء من تعديد المآثر والمفاخر — وهو متين رصيد اللفظ، بديع الأسلوب، لا يعرف الضعف ولا الوهن إلى شعره سبيلًا:

سلام على الإسلام بعد محمد
سلام على أيامه النضرات
على الدين والدنيا، على العلم والحجى
على البر والتقوى، على الحسنات
لقد كنت أخشى عادِيَ الموت قبله
فأصبحت أخشى أنْ تطول حياتي!
فوا لهفي والقبر بيني وبينه
على نظرة من تلكم النظرات!
وقفت عليه حاسر الرأس خاشعًا
كأني حِيال القبر في عرفات!
لقد جهلوا قدر الإمام فأودعوا
تجاليده في موحش بفلاة
ولو ضرَّحوا بالمسجدين لأنزلوا
بخير بقاع الأرض خير رفات

في لفظ هذه الأبيات من الروعة والرصانة ما عرفناه في شعر حافظ كله أو أكثره، ومعاني هذه الأبيات مألوفة شائعة، ليس فيها غرابة ولا ابتكار، ولكن في الأبيات مع ذلك شيئًا لا أدري ما هو! يملأ النفوس لوعةً والقلوب أسًى، بل أنا أدري ما هو: هو قبس من هذه النار، التي كانت تضطرم في نفس حافظ حزنًا صادقًا على صديقه ووليه وأستاذه، نفذ هذا القبس الصادق في هذا الشعر العادي فجعله حزنًا كله، ثم انظر إلى هذا الجزع العظيم، كيف تصور كأنه طوفان مهلك يغمر كل شيء، ويأتي على كل نفس، حتى فزع الشاعر منه، وقد ملكه الذهول، واستأثر به اليأس فقال:

تباركت هذا الدين دين محمد
أيترك في الدنيا بغير حماة!
تباركت هذا عالِم الشرق قد قضى
ولانت قناة الدين للغمزات

ثم انظر إلى هذين البيتين كيف يصوران اليأس اللاذع والقنوط المميت:

مددنا إلى «الأعلام» بعدك راحنا
فرُدَّت إلى أعطافنا صفرات
وجالت بنا تبغي سواك عيوننا
فعدْنَ وآثرن العمى شرقات

ولو أني ذهبت أحلل القصيدة كلها وأختار منها لما تركت منها بيتًا واحدًا فكلها جيد، إما لجدة المعنى، وإما لرصانة اللفظ، وإما لصدق اللهجة، وإما لهذه الخلال كلها مجتمعات، وانظر إلى هذه الأبيات التي وصف فيها حافظ حزن الشرق على الأستاذ الإمام، وهي الآن أصدق ما يقال في حزن الشرق على حافظ نفسه:

بكى الشرق فارتجت له الأرض رجة
وفاضت عيون الكون بالعبرات
ففي الهند محزون، وفي الصين جازع
وفي مصر باك دائم الحسرات
وفي الشام مفجوع، وفي الفرس نادب
وفي تونس ما شئت من زفرات!

ولست أقف عند ما في هذه القصيدة من وصف للأستاذ الإمام من نواحيه المختلفة، لا لأني عجل، بل لأني أكره أنْ أظلم غيري من الأصدقاء الذين يكتبون عن حافظ، ولكني أحب أنْ تقرأ معي هذه الأبيات، التي ختم بها حافظ رثاءه للأستاذ الإمام؛ لتتمثل ما فيها من الحزن الصادق والاعتراف بالجميل، وكان حافظ أشد الناس اعترافًا بالجميل، وأحرصهم على شكر من أحسن إليه، أو شملته منه يد مهما تكن يسيرة ضئيلة.

قال حافظ:

فيا منزلًا في عين شمس أظلَّني
وأرغم حسادي وغمَّ عداتي
دعائمه التقوى وآساسه الهدى
وفيه الأيادي موضع اللبنات
عليك سلام الله مالك موحشًا
عبوسَ المغاني، مُقْفِرَ العرَصَات؟
لقد كنت مقصود الجوانب آهلا
تطوف بك الآمال مبتهلات
مثابة أرزاق ومهبط حكمة
ومطلع أنوار وكنز عظات

هذه قصيدة خالدة من غير شكٍّ، وهي لا تستمد خلودها ممن قيلت فيه وحده، ولا ممن قالها وحده، وإنما تستمد هذا الخلود من الرجلين جميعًا؛ فقد كانت حياة الأستاذ الإمام شيئًا رائعًا، واستطاع حافظ أنْ يعطي منها صورة رائعة، وما أكثر ما قال الشعراء في الأستاذ الإمام بعد موته! ولكنك تستطيع أنْ تقرأ هذا الشعر الكثير، فستجد منه الحسن الجميل، وستجد منه المتوسط، وستجد منه الرديء دون أنْ تظفر بمثل هذه القصيدة روعة وجمالًا وصدق لهجة واستحقاقًا للخلود.

ورثى حافظ أستاذه البارودي فيمن رثاه من الشعراء، فوفِّق إلى جودة اللفظ ورصانته، ووفِّق إلى إحياء الأسلوب القديم في رثاء هو بالمدح أشبه، ولكنه على ذلك لم يبلغ أنْ يمس القلوب بهذا الحزن اللاذع، ومع أنه لم يكن يريد الصدق في أول هذه القصيدة حين يقول:

ردوا عليَّ بياني بعد محمود
إني عَيِيتُ وأعيا الشعر مجهودي
ما للبلاغة غَضْبَى لا تطاوعني
وما لحبل القوافي غير ممدود؟!

فليس من شك أنه قد صدق، وقال الحق، فعيي وأعيا الشعرُ مجهوده، وامتنعت عليه البلاغة، وقصر عليه حبل القواقي على ما حاول من تقليد مسلم بن الوليد في داليته المشهورة:

لا تدع بي الشوق إني غير معمود
… … … … … …

ومصدر ذلك — فيما يظهر — أنَّ حافظًا تهيَّب إمام الشعراء ميتًا كما كان يتهيبه حيًّا، وأعتقد أنه مهما يقل في البارودي، فلن يبلغ من رثائه ما يريد، ففلَّ ذلك من حده، وفتَّ في عضده، وقصر به عن غايته. ومصدر ذلك أيضًا — فيما يظهر — أنَّ موت البارودي لم يكن رُزءًا شعبيًّا، أو لم يره الناس كذلك في وقته، وإنما كان رزءًا للأدباء، وأبرع ما يكون حافظ في الرثاء حين يصور حزن الشعب وألمه؛ لذلك أجاد كل الإجادة في رثاء الأستاذ الإمام، وفي رثاء مصطفى كامل؛ لأن الأول كان فقده رزءًا في عظيم من عظماء الدين، ومن عظماء النهضة الفكرية؛ ولأن الثاني كان فقده رزءًا في عظيم من عظماء السياسة، فكان حافظ في رثائهما ناطقًا بلسان الجماهير.

وبراعة حافظ في تصوير آلام الشعب أكسبت شعره السياسي ورثاءه لأصحاب السياسة لونًا من الخطابة، يمنحه قوة غريبة تسيطر حقًّا على نفوس الجماعات، فتفعل فيهما الأعاجيب.

انظر إلى قوله في رثا مصطفى كامل:

إني أرى وفؤادي ليس يكذبني
روحًا يحف به الإكبار والعظم
أرى جلالًا، أرى نورًا، أرى ملكًا
أرى محيًّا يحيينا ويبتسم
الله أكبر هذا الوجه أعرفه
هذا فتى النيل هذا المفرد العلم
غضوا العيون وحيوه تحيته
من القلوب إذا لم تسعد الكلم
وأقسموا أنْ تذودوا عن مبادئه
فنحن في موقف يحلو به القسم
لبيك نحن الأُلى حرَّكتَ أنفسهم
لمَّا سكنْتَ ولما غالكَ العدم
جئنا نؤدي حسابًا عن مواقفنا
ونستعد ونستعدي ونحتكم

ألا ترى إلى هذه الأبيات، كيف استحضر الشاعر فيها شخص الزعيم يحف به الجلال والعظمة؟ وكيف مهد لهذا الاستحضار بهذا البيت الأول الذي خرج فيه عن طوره العادي، وأخرج الناس معه عن أطوارهم، وهيَّأهم لموقفٍ غير مألوف، ثم أخذ يدفعهم إلى هذا الموقف دفعًا، ويملأ قلوبهم هيبة وإجلالًا بهذا البيت الذي أَلَّفه من جمل منقطعة قصيرة، وختمه بصورة خلابة رائعة:

أرى جلالًا، أرى نورًا، أرى ملكًا
أرى محيًّا يحيينا ويبتسم

ثم انظر إليه كيف استأثر به الذهول، وغلبه على نفسه، وملك عليه كل أمره فصاح:

الله أكبر هذا الوجه أعرفه
هذا فتى النيل هذا المفرد العلم

ثم انظر إليه بعد ذلك، وقد أكدَّ الجمهور وأنساه نفسه، وملك عليه شعوره وحسه، وأقنعه بأنه أمام الزعيم، كيف يتحدث إلى هذا الجمهور بهذا الحديث الذي تملؤه المهابة والروعة والحب معًا فيقول:

غضوا العيون وحيوه تحيته
من القلوب إذا لم تسعد الكلم

ثم يتجه بعد ذلك إلى الزعيم نفسه، فيصيح صيحة كلها إيمان وطاعة ويقين وإعجاب.

لبيك نحن الألى حركت أنفسهم
لما سكنت ولما غالك العدم

هذه أبيات لو قرأها أرستطاليس — صاحب الخطابة ومنشئ علم البيان — لما تردد في أنْ يتخذها مثلًا لما يسميه في الكتاب الثالث من الخطابة وضع الشيء تحت العين.

ورثى حافظ قاسمًا، فلم يكن في رثائه إيَّاه شعبيًّا، ولا شاعر جمهور بالمعنى الذي نراه في رثائه للأستاذ الإمام ولمصطفى كامل، وإنما كان إنسانًا حساسًا قوي الحس، محزونًا صادق الحزن، ومصريًّا مشفقًا على مصر من هذه الأحداث التي تلمُّ بها سراعًا، فتنتزع أعلامها انتزاعًا، انظر إلى قوله:

مالي أرى الأجداث حالية
وأرى ربوع النيل في عطل
فإذا الكنانة أطلعت رجلًا
طاح القضاء بذلك الرجل
أو كلما أرسلت مرثية
من أدمعي في إثر مرتحل
هاجت بي الأخرى دفين أسى
فوصلت بين مدامع المُقَل
وإن خانني فيما فجعت به
شعري فهذا الدمع يشفع لي

وانظر إلى هذه الأبيات، وإلى ما أدرك الشاعر فيها من المعنى الخصب الكثير في اللفظ العذب القليل:

قد كنت أشقانا بنا وكذا
يشقى الأبيُّ بصحبة الوكل
لهفي عليك قضيت مرتجلًا
لم تشكُ، لم تستوص، لم تنل
غال القضاء يد القضا فذا
يبكي عليك، وذاك في جدل

وقد عرض حافظ في هذه القصيدة لرأي قاسم في السفور والحجاب فتحفظ، ولم يقطع، ولم يعلن مناصرة صاحبه. وكان في ذلك مصورًا — سواء أراد أو لم يرد — لموقف كثير من المستنيرين في ذلك العصر، كانوا يرون رأي قاسم، ولكنهم يشفقون من الجهر به، ويرجئون الأمر إلى الأيام تقضي فيه بالحق، فانظر إلى حافظ كيف يقول:

إن ريت رأيًا في الحجاب ولم
تعصم فتلك مراتب الرسل
الحكم للأيام مرجعه
فيما رأيت فنم ولا تسل
وكذا طهاة الرأي تتركه
للدهر ينضجه على مهل
فإذا أصبت فأنت خير فتى
وضع الدواء مواضع العلل
أو لا فحسبك ما شرفت به
وتركت في دنياك من عمل

ثم أثار موت قاسم في نفس حافظ ذكرى أصدقائه، الذين ذهبوا من أعلام مصر وقارة الرأي فيها، ومن الذين كان يسعد حافظ بمودتهم له، وعطفهم عليه، وكانوا يسعدون بلقائه، وحديثه الحلو، وأدبه العذب؛ فقال هذه الأبيات التي تفيض حزنًا وأسًى، وتملأ نفوسنا حزنًا وأسًى كلما قرأناها، وأيُّنا لا يجد نفسه في هذه المنزلة، التي وجد حافظ فيها نفسه يوم مات قاسم، فذكر حافظ به موت الذين سبقوه، ولقد مات أصدقاء لحافظ بعد قاسم، فذكر بهم قاسمًا، ومات حافظ الآن فحزنَّا لموته، ونحن نذكر به موت أصدقائنا الذين سبقوه. وكذلك يريد الله أنْ يجعل قلوب الأحياء قبورًا لأصدقائهم الذين يسبقونهم إلى الموت، ومن خير ما في هذه الأبيات يأس حافظ مما انتهت إليه الحياة بعد أصدقائه هؤلاء، ومما انتهت إليه مصر من فساد الحال واعوجاج الأمر بعد أنْ رحل عنها أولئك المصلحون، والغريب أنَّ ما قاله حافظ بعد موت قاسم نستطيع أنْ نردده الآن بعد موت الذين ماتوا من زعماء مصر وقادتها، فليس مصر بالبلد الذي يمكن أنْ يتمثل فيه بقول الشاعر القديم:

إذا مات منا سيد قام سيد
قئول لما قال الكرام فعول

وإنما يمضي الزعيم أو المصلح فيخلو مكانه، ويظل خاليًا وينساه الناس، ولا يذكره منهم إلا الأقلون.

قال حافظ:

واهًا على دار مررت بها
قفرا وكانت ملتقى السبل
أرخصت فيها كل غالية
وذكرت فيها وقفة الطلل
ساءلتها عن قاسم فأبت
رد الجواب فرحت في خبل
متعثرًا ينتابني وهن
مترنحًا كالشارب الثمل
متذكرًا يوم الإمام به
يوم انتويت بذلك البطل
يوم احتسبت وكنت ذا أمل
تحت التراب بقية الأمل
جاور أحبتك الألى ذهبوا
بالعزم والإقدام والعمل
واذكر لهم حاج البلاد إلى
تلك النهى في الحادث الجلل
إنَّ الحقيقة أصبحت هدفًا
للراكبين مراكب الزلل
لله آثار لكم خلدت
صاح الزوالُ بها فلم تزل
لله أيام لكم درجت
طالت عورافها ولم تطل
نعْم الظلال لو أنها بقيت
أو أن ظلًّا غير منتقل!

أترانا نحمل حافظًا — رحمه الله — شيئًا غير هذا لو أردناه على أنْ يصور لأصحابه الأكرمين حال مصر بعد أنْ تركوها! ألسنا نحمله مثل هذا إلى الأستاذ الإمام، وإلى قاسم ومصطفى كامل، وإلى سعد وثروت؟ بلى، لقد قلت لك إني لا أرى أنَّ الذين سيرثون حافظًا من الكتاب والشعراء سيبلغون من رثائه ما كان يبلغ هو من رثاء الذين رثاهم من زعماء مصر وأئمتها.

على أنَّ لحافظ رثاء تقليديًّا أو قل رثاء اضطُر إليه اضطرارًا للمجاملة، أو لأن مكانته كانت تضطره إليه، ومن هذا الرثاء التقليدي ما قاله الشاعر قبل أنْ ينضج فنه كهذا الرثاء الذي قاله في بعض الأباظيين — والذي أشرت إليه منذ حين — وكقصيدته التي يعزي بها الإنجليز عن فقدهم لملكتهم فيكتوريا، ومن هذا الرثاء التقليدي ما قاله الشاعر وقد نضج فنه، وتمت له أداة الشعر فأجاد اللفظ، وَوُفِّق إلى معانٍ حسان، منها المبتكر ومنها المستعار، ولكنه — على كل حال — لم يستطع أنْ يمس القلوب وإن استطاع أنْ يثير الإعجاب، وربما كان رثاؤه لرياض باشا أصدق مثال لهذا النوع من الشعر الذي بكى فيه الشاعر بلسانه وعقله، ولم يَبْكِ فيه بقلبه ولا وجدانه.

ولحافظ في رثائه — بل في شعره كله — صور يقلد فيها القدماء، ولكنه لم يحققها، ولم يمحصها، ولم يكن حافظ يحفل بمثل هذا التحقيق والتمحيص؛ لأنه كان يؤمن بروعة اللفظ وأثرها في نفس السامع والقارئ، وكان يعتقد — ولعله كان مصيبًا — أنَّ كثيرًا من قرائه وسامعيه كانوا مثله، لا يعنيهم التحقيق ولا التمحيص، ولا يكلفون الشعر ما يكلفون النثر من الدقة وتجنب المحال، فحافظ يُجْري الدموع أنهارًا، ويخيل إلى نفسه وإلى الناس أنَّ هذه الدموع الجارية تستطيع أنْ تحمل الفقيد إلى قبره، وحافظ يؤجج الأنفاس نارًا، ويخيل إلى نفسه وإلى الناس أنَّ هذه النار تستطيع أنْ تحرق المشيعين لولا ما يقاومها مع الدموع، وحافظ — كما رأيت — يكلف تراب الأرض أنْ يشرب من المجرة، ويأكل من النجوم، وحافظ يطلب إلى قبر مصطفى كامل أنْ يكبِّر ويهلل، وأن يلقى ضيفه جاثيًا. وقد سألته — رحمه الله — ذات يوم: كيف تتصور القبر جاثيًا؟ فقال: دعني من نقدك وتحليلك، ولكن حدثني أليس يحسن وقع هذا البيت في أذنك؟ أليس يثير في نفسك الحزن؟ أليس يصور ما لمصطفى من جلال؟ قلت: بلى، ولكن … قال: دعني من لكن، واكتفِ مثلي بهذا.

رحم الله حافظًا، لم يكن رثاؤه صورة لما يثور في نفسه ونفس الناس من حزن فحسب، وإنما رثاؤه يصلح مصدرًا من مصادر التاريخ السياسي والاجتماعي في هذا العصر؛ فقد كان حافظ يبالغ ويغلو، ويطبع الخيال، ويضطر إلى المحال، ولكنه رغم هذا كله، لم يكن يفسد الحقائق، ولا يعبث بها، وإنما كان مؤرخًا صادقًا للحوادث في رثائه وشعره السياسي، كما كان مصورًا متقنًا للنفوس.

رحم الله حافظًا! إنَّ فصلًا قصيرًا — كهذا الفصل — لا يسع رثاءه، ولا ينهض بنقده وتحليله كما ينبغي أن يكون النقد والتحليل، وإني لأرجو أنْ نبلغ من ذلك ما نريد في الكتاب الذي سيهيأ الآن لدرس شاعر النيل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤