الفصل الرابع عشر

حافظ وشوقي

١

في أقل من ثلاثة أشهر فقدت مصر لسانيها الناطقين، وفقد الشرق العربي شاعريه العظيمين حافظًا وشوقي، وكأنما أراد القضاء أنْ يمهل أمير الشعراء شهرين وبعض شهر؛ ليرثي حافظًا، وينصفه بعد موته كما مدحه حافظ وأثنى عليه، وأعلن إمارته للشعر في حياته!

فلما قضى شوقي من ذلك حق الوفاء والإنصاف والعدل ألحقه الله بصاحبه في حيث لا تنافس ولا تفاخر، وفي حيث لا غل، ولا حقد، ولا موجدة. وقد كان شوقي يرجو — كما قال — أن يرثيه حافظ، ولو قد تأخر حافظ عن شوقي لقال إنه كان يرجو أنْ يكون السابق وأن يرثيه شوقي. وأمر الله نافذ، وكلمة الله هي العليا، فقد أراد أنْ يموت حافظ، وأن يتبعه شوقي بعد شهرين وبعض شهر، وأن يفقد الأدب العربي الحديث عَلَمَيه ولسانيه وشاعريه، وأن ترزأ مصر في ابنيها العزيزين دون أنْ تجد في أحدهما خلفًا من فقد صاحبه.

ولست أكتب هذا الفصل لأصف حزن مصر أو حزن الشرق العربي على الشاعرين، ولا لأصور هذه اللوعة التي ملأت عليهما قلوب الأصدقاء والأحبة. فقد عرف الناس ذلك حق معرفته، وقد كثر الكلام فيه، وما أظن أنَّ الناس سيفرغون منه قبل زمنٍ طويل. إنما أريد في هذا الفصل أنْ أكون مؤرخًا للشعر المصري الحديث، وأن أكون منصفًا في هذا التاريخ ما وسعني الإنصاف، ومُدَّت لي أسبابه، وهيئت لي وسائله، ولعل أول الإنصاف أنْ أعترف بأني قد عرفت الشاعرين، وكان بيني وبينهما ما يكون بين الناس من قربٍ وبعد، ومن مودة وإعراض، وأني لم أكد أشيع كلًّا من الرجلين إلى حيث أراد الله له أنْ يكون، حتى أخذت نفسي بأن أنسى ما كان بين شخصيهما وبيني من هذه الخصومات الباطلة التي تعرض للناس في الحياة، وألا أستبقي منهما إلا الخير الذي يدعو إلى الحب، ويثير في النفس عاطفة الحزن والألم، ويطلق اللسان والقلب بهذا الدعاء الخالص الصادق البريء الذي نسميه الاستغفار.

فرحم الله هذين الراحلين الكريمين! كلمة أطلقها خالصة، قد ملأها البر والحب والوفاء، ولكن حافظًا وشوقي ليسا شخصين فحسب، وإنما هما شاعران كانا في حياتهما مِلْكًا خالصًا للنقد، وهما بعد موتهما ملك خالص للتاريخ، وقد قال النقد فيهما حيَّين ما استطاع أنْ يقول، فعرفا وأنكرا ورضيا وسخطا، ولعل النقد لم يستطع أنْ يبرأ من تأثير رضاهما وسخطهما، ولعل النقد أنْ يكون قد حرص على أنْ يغيظهما، فأسرف في الطعن، أو على أنْ يرضيهما فغلا في الثناء، ولعلهما أنْ يكونا قد رضيا عن ثناء المادح فتلطفا له حتى أغرياه بالغلو في المديح، أو سخطًا على نقد الناقد فتنكرا له حتى أغرياه بالإفراط في اللوم، والإغراق في التجريح. وكذلك يعجز الأحياء عن أن ينصف بعضهم بعضًا؛ لأن شهوات الرضى والسخط وعواطف الحب والبغض وأهواء التعصب والتحزب تفسد عليهم أعمالهم، فتدفعهم راضين أو كارهين إلى الغلو حينًا، وإلى التقصير حينًا آخر. وإذا لم يستطع الأحياء أنْ يظفروا من شركائهم في الحياة بالإنصاف والعدل، فخليق بالموتى أنْ يظفروا بهذا العدل وذلك الإنصاف؛ لأن الموت ينبغي أنْ يجبَّ ما قبله، وأن يمحو ما في الصدور من غِلٍّ، وما في النفوس من موجدة، وما يتعلق به بعض الناس على بعض من أسباب الخصومة والمنافسة والكيد.

وأنا أريد أنْ أعترف أيضًا بأني كنت أوثر حافظًا على شوقي في حياتهما، وكنت أختص شاعر النيل من المودة والحب بما لم أختص به أمير الشعراء؛ لأن روح حافظ وافق روحي؛ ولأن كثيرًا من أخلاق حافظ وافق أخلاقي، ولكني على ذلك أريد — وأستعين الله على ما أريد — أريد أنْ أنسى الآن حبي لحافظ وإيثاري إياه بالمودة الصادقة والحب الخالص، وأن أجعل الرجلين سواء أمام النقد الأدبي الذي أريد أنْ أعرض له في هذا الفصل. وأنا أعلم أنَّ من العسير جدًّا أنْ يخلص المؤرخ ومؤرخ الأدب بنوع خاص من عواطفه وشهواته، ومن ميوله وأهوائه، ومن ذوقه في الأدب والفن، فهو خليق أنْ يخضع لهذا كله قليلًا أو كثيرًا حين يدرس الشعراء والكتاب، أو يوازن بينهم، أو يحكم عليهم. أعلم أنَّ هذا عسير، ولكني أعلم أني سأجدُّ فيه ما استطعت، وأعلم بعد ذلك أني إنما ذكرت عواطفي التي كانت تعطفني على حافظ بالحب والمودة، وتصرفني عن شوقي بعض الشيء؛ لتتمَّ أنت ما قد أعجز عنه أنا من الإنصاف، ولتمحو أنت ما قد أتورط فيه أنا من الغلوِّ والإغراق.

وأنا أشد الناس رثاء للكُتَّاب والشعراء والأدباء وأصحاب الفن الجميل عامة، فحظوظهم سيئة في حياتهم من غير شك، وقلما ينصفهم التاريخ بعد الموت، هم يثيرون في نفوس الأحياء ضروبًا من الحقد وألوانًا من الضغينة. هذا ينفس عليهم؛ لأنه لم يوفق إلى حظهم من الإجادة، ولم يظفر بمثل ما ظفروا به من إعجاب الناس، وكان خليقًا — أو كان يرى نفسه خليقًا — بالإجادة والإعجاب. وهذا يتنكر لهم؛ لأن الحسد قد رُكِّب في طبعه، ولأن غريزته قد فُطِرَت على الشر وحب الأذى. وهذا يتنقَّصهم؛ لأنه لم يفهمهم أو لم يذقهم، ولأن فنهم لم يقع من قلبه موقع الرضى، ولم ينزل من نفسه منزلة الموافقة، وهم يحتملون ذلك، ويتعرضون له، ويعللون أنفسهم بأن المرء لن يكفر بحقه من الإنصاف والعدل ما عاش، ولكن التاريخ قائم ينصف المظلوم، ويقضي في أمره بالعدل والقسط، يعللون أنفسهم بهذا، ويتعزون به عما يلقون في حياتهم من الأذى، وما يحتملون فيها من الألم. وهذا خير؛ لأنه يعصمهم من اليأس، ويحميهم من القنوط، ويذود عنهم عوادي الضعف والفشل، ولكن التاريخ ليس أشد إنصافًا، ولا أدنى إلى العدل من آراء الأحياء المعاصرين؛ لأن الناس دائمًا طوع شهواتهم وعبيد أهوائهم، وهم متأثرون بهذه المؤثرات المختلفة التي تضطرهم إلى ظلم الأحياء، ولا تعفيهم من ظلم الموتى. ولقد وجدت شيئًا غير قليل من الألم اللاذع والحزن المضني، حين قرأت فصلًا لأناتول فرانس يصور هذا اللون القاتم من يأس الأديب.

كتب أناتول فرانس هذا الفصل حين استقبل الشاعر الفرنسي المعروف لكونت دي ليل في المجمع اللغوي الفرنسي. وكان هذا الشاعر قد دخل هذا المجمع معينًا لا منتخبًا، كما هي العادة، أو قل — إنْ كنت تريد التحقيق — دخله بوصية من فكتور هوجو، أوصى له بكرسيه في المجمع قبل أنْ يموت، ولم يستطع المجمع أنْ ينكر وصية الشاعر العظيم فأنفذها، وقبل لكونت دي ليل بين أعضائه، مع أنه كان قد رفضه قبل ذلك بإجماع لم يشذ عنه إلا فيكتور هوجو نفسه، وآن موعد استقبال العضو الجديد في المجمع، فكتب أناتول فرانس قبل هذا الاستقبال بأسبوع فصلًا لاذعًا في جريدة الطان — تجده في الجزء الأول من الحياة الأدبية — سخر فيه من الشاعر سخرية مرة مضحكة، وتنبأ بما سيقوله في خطبته. وأنت قد تعرف أسلوب أناتول فرانس ومذهبه في السخرية والاستهزاء، فلما كان يوم الاستقبال نهض ألكسندر دوماس الصغير — كما يقولون — لاستقباله، فلم يكن أقل من أناتول فرانس سخرية ولا استهزاء، كان لكونت دي ليل متشائمًا، ينكر الحياة ويؤثر الفناء، فاسمع لخطيب المجمع اللغوي وهو يستقبله ويرحب به، كيف يسأله: إذا كنت تكره الحياة فما بقاؤك فيها؟! وإذا كنت تؤثر الفناء فما إحجامك عنه وامتناعك عليه؟!

وتكلم المستقبل، وتكلم العضو الجديد عن فيكتور هوجو، فأما العضو الجديد فزعم أنَّ الأجيال المقبلة ستعجب بآثار فيكتور هوجو كلها، وأما المستقبل فزعم أنَّ الأجيال ستقضي في هذه الآثار قضاءً قاسيًا، فتقبل منها وترفض. فلما انصرف أناتول فرانس من هذه الجلسة كتب هذا الفصل المحزن الذي أشرت إليه آنفًا، والذي أنكر فيه أنْ تكون الأجيال المقبلة أحق بالإنصاف، وأقدر عليه من الأجيال المعاصرة، وانتهى إلى أنَّ فكتور هوجو كان صاحب فن في الألفاظ، قليل الحظ من التفكير، فلسفته سخف، وأنبأنا بأن الذين أعجبوا بفكتور هوجو حيًّا، قد أخذت تخيب آمالهم فيه بعد أن مات، وتنبأ بأن الأجيال المقبلة لن تستبقي من شعر فكتور هوجو إلا شيئًا قليلًا.

كذلك كان يتحدث أناتول فرانس وأمثاله عن فكتور هوجو، ولما يمض على موته أكثر من عامين، أرأيت حظ الأدباء؟! يتعرضون لسخط الأحياء، ويصلون نار النقد ما عاشوا، فإذا ماتوا فإما أن يتعرضوا للنسيان، وإما أنْ يتعرضوا للظلم والجور، وقليل منهم من ينصفه التاريخ، فيعرف له مكانته وحقه من الإعجاب.

ما أجدر الذين ينقدون الأدباء، ويؤرخونهم بعد الموت أنْ يكونوا رحماء! لولا أنَّ العلم لا يعرف الرحمة، وهو يخشى على نفسه الفساد إنْ طمع فيها أو اطمأن إليها.

ليس للأديب أمل في الإنصاف، فليتخير بين حياةٍ خيرها شر وحلوها مر، وبين الإعراض عن الأدب والانصراف عنه إلى غيره من فنون الحياة.

٢

ظهر الشعر العربي حين عرفه التاريخ في نجد، لا يكاد يتجاوزه إلى الحجاز أو إلى العراق إلا قليلًا، حين يرتحل الشعراء غربًا إلى الأسواق والحج، أو شرقًا إلى أمراء الحيرة، وربما زار شعراء نجد أمراء غسان في أطراف الشام مما يلي جزيرة العرب، فلما ظهر الإسلام، وانبسط سلطانه على الأرض ظلت دوحة الشعر في نجد، ومدت ظلها إلى العراق شرقًا، وإلى الحجاز غربًا، ولكنها لم تمد هذا الظل إلى الشام، ولا إلى مصر، ولم تتجاوز به العراق إلى فارس وما يليها من بلاد الشرق. وإنما كان شعراء نجد والعراق والحجاز يفدون إلى الشام وفودًا يمدحون الخلفاء، ويأخذون جوائزهم، وربما وفدوا إلى مصر يمدحون أمراءها، وربما دفعت الأحداث ببعضهم إلى خراسان. ولكن الشعر العربي لم يستوطن شرقي الدولة الإسلامية ولا غربيها، ولم يتجاوز الجزيرة العربية إلا إلى العراق الذي كان يعد جزءًا منها أو كالجزء. فلما أُديل لبني العباس من بني أمية نشأ في العراق شعر، لم يثبت له شعر نجد، ولا شعر الحجاز، فاستأثر العراق بالشعر طوال القرن الثاني، وظلت بلاد الشام ومصر كما كانت يزورها الشعر، ولا يُستقر فيها، ثم ظهر في الشام شعر شامي مثَّله أبو تمام، وأخذ الشام منه ذلك الوقت بحظه من الزعامة في الشعر، وكان القرن الرابع، وكانت دولة الحمدانيين، وكان سيف الدولة فاستأثر الشام بما كان العراق قد استأثر به في القرن الثاني، وبما كان موزعًا بين العراق ونجد والحجاز في القرن الأول، وبما كان نجد قد استأثر به قبل ظهور الإسلام.

وظلت مصر طوال هذه القرون ضعيفة الحظ من الشعر، ضعيفة الحظ من الأدب كله، يفد أهلها إلى الحجاز أو العراق أو الشام، فيصيبون من ذلك حظًّا، وقد ينتقل إليهم نفر من أدباء الحجاز أو العراق أو الشام فيلمون إلمامًا، أو يطيلون المقام، ولكن لم يكد يضعف أمر العباسيين في العراق والشام، ولم تكد تظهر القوة السياسية لمصر أيام الفاطميين حتى أخذ كل شيءٍ يدل على أنَّ القاهرة تتهيَّأ في القرون الوسطى لما تهيأت له الإسكندرية في العصر القديم، تتهيأ لإيواء الحضارة الإسلامية بما فيها من علم وأدب وفن وفلسفة ودين، كما تهيأت الإسكندرية لحماية الحضارة اليونانية، تتهيأ لتكون قبلة الشرق الإسلامي، كما تهيأت الإسكندرية لتكون قبلة الشرق الوثني والمسيحي، وتمَّ لها ذلك لسوء حظ الإسلام والأدب العربي.

كانت العجمة والجهل يدفعان الأدب العربي من الشرق إلى مصر، وكانت المسيحية والجهل يدفعانه من الغرب إلى مصر. وكانت مصر ثابتة باسمة، تستقبل ما يأتيها من الشرق، وتستقبل ما يأتيها من الغرب، فتئويه وتحميه وتحوطه، وتتيح له أنْ يحيا ويثمر، وكذلك ظلت مصر رافعة لواء الحياة الإسلامية والأدب العربي تُظِلُّ به العلماء والأدباء، حتى كان سلطان الترك العثمانيين وإغارته على كل شيء، وإفساده لكل شيء، وقضاؤه على حضارتين في أقل من قرن: على الحضارة الإسلامية في مصر، وعلى الحضارة البيزنطية في قسطنطينية، فأما الحضارة البيزنطية فقد هربت جذوتها من الترك إلى إيطاليا، حيث أشعلت أوروبا كلها فأحيتها، وأما الحضارة الإسلامية فلم تمعن في الهرب، ولم تعبر البحر، ولكنها اختبأت في الأزهر إلى أنْ يأذن الله لها أنْ تخرج منه، فتشعل الشرق وترد إليه الحياة.

وكذلك ظل في مصر شعر وأدب، كما ظل في مصر علم وفلسفة. وأنا أعلم أنَّ الشعر المصري طوال هذه القرون لا يستطيع أنْ يثبت لشعر نجد والحجاز والعراق والشام، ولكنه — على كل حال — شعر كان يقال ويتأرج عبيره، ويرف نسيمه، فيحيي النفوس والقلوب في عصر ماتت فيه النفوس والقلوب أو كادت تموت، وأنا أعلم أنَّ الشعر المصري في ذلك الوقت كان ضئيلًا نحيفًا خفيف النفس، لا يكاد يُسمع صوته، ولكنه على كل حال كان شعرًا حيًّا يمثل أمة حية، ويعطف على شعوب بائسة.

لجأت آلهة الشعر إلى مصر، فاستظلت بظلها، واطمأنت إلى هذا النسيم العليل الذي كان ينبعث من ضفاف النيل، فيحفظ عليها ما كان قد بقي فيها من رمق، وأراد الله أنْ تكون مصر أسبق البلاد الشرقية إلى التخلص من سلطان الترك قليلًا أو كثيرًا، وأراد الله أيضًا أنْ تكون مصر أسبق البلاد الشرقية إلى تنظيم العلاقات بينها وبين أوروبا، وكان من ذلك أنْ سبقت مصر غيرها من البلاد الشرقية إلى النهضة الأدبية، وكان من ذلك أنْ خرجت تلك الجذوة التي كانت مختبئة في الأزهر، فلقيت بونابرت وأصحابه، ولم تلبث أنْ تبعتهم إلى أوروبا، فأقامت ما شاء الله أنْ تقيم، ثم عادت قوية ملتهبة، ولم تعد وحدها، بل عشقها كثير من الأوروبيين، فتبعوها واستقروا معها في مصر يحيونها وتحييهم، يبعثون فيها القوة والنشاط، وتفتح لهم أبوابًا من العلم والفن، لم تكن لتُفتح عليهم لولا أن اتصلوا بها واتصلت بهم، وكذلك ظلت القاهرة في العصر الحديث — كما كانت في القرون الوسطى — ملجأ الحضارة الإسلامية، وميدان الالتقاء والاتصال بينها وبين الحضارة الأوروبية.

ويجيء عصر إسماعيل، فإذا تياران مختلفان يتنازعان مصر؛ أحدهما يأتي من أوروبا في كتب العلم والأدب التي يحملها الوافدون، وينقلها المبعوثون، فلا تلبث أنْ تدرس وتترجم، والآخر يأتي من القاهرة نفسها، يأتي من المساجد والأضرحة ودور الأعيان والأغنياء، يخرج من مستقره مجلدات نحيفة أو ضخمة قد علاها الغبار وعبث بها البلى، ولكنه لا يكاد يصل إلى بولاق أو إلى غيرها من أحياء القاهرة، حيث استقرت المطابع حتى يستحيل، فإذا هو سيل غزير قوي عنيف، فيه كثير من الصفو، وفيه قليل من الكدر. ويلتقي التياران في عقول الشباب المصري، في الأزهر حينًا، وفي المدارس المدنية حينًا آخر، فينتج من التقائهما هذا الجيل الأدبي الجديد الذي ظهر على رأسه البارودي، والذي نشأ في حجره شوقي وحافظ في الثلث الأخير من القرن الماضي.

٣

وقد تقارب مولد الشاعرين، ولد أحدهما «شوقي» سنة ١٨٦٨، وولد الآخر «حافظ» سنة ١٨٧١ تقارب مولدهما في الزمان، ولكن نشأتهما اختلفت أشد الاختلاف؛ ولد أحدهما بباب إسماعيل حيث البأس والعزة، وحيث الغنى والثروة، وحيث الترف والنعيم، وحيث هذه العناصر الكثيرة المتباينة، التي تبعث الحياة في ناحية من أنحاء النفس، وتبعث الموت منها في ناحية أخرى، وحيث هذا الاعتزاز بالنفس والازدراء للشعب، وحيث هذه الأثرة التي تخيل إلى صاحبها أن كل شيء مسخر له، وأنه هو لم يسخر إلا ليستأثر بنعيم العيش.

وولد الآخر في ناحية مظلمة متواضعة من نواحي مصر، في أسرة مصرية لا حَظَّ لها من غنًى ولا ثروة، لا نصيب لها من بأس ولا سلطان، أسرة من هذه الأسر التي تمتلئ بها مدن مصر وقُرَاها، والتي تعودت منذ أيام المماليك أو قبل أيام المماليك أنْ تشقى ليسعد غيرها، وأن تعمل ليكسل غيرها، وأن تتألم في صمت، وتحتمل المكروه في صبر وإذعان. ولكن أمر هذه الأسر كان قد أخذ يتغير في هذا الوقت، فأُتيح لهذه الظلمة التي كانت تغمرها، وتحيط بها أنْ تنقشع عنها بعض الشيء، وأتيح لهذا الشعور الذي كان مفلولًا أنْ يجد شيئًا من الحدة، وأتيح لهذا العقل الذي كان مغلولًا أنْ ينطلق من عقاله بعض الشيء.

نشأ شاعرنا الأول في بيئته تلك فذهب إلى الكُتَّاب، ثم إلى المدرسة، ونشأ شاعرنا الآخر في بيئته هذه، فذهب إلى الكُتَّاب ثم إلى المدرسة. كانا جميعًا يلقيان الفقيه في الكُتَّاب والمعلم في المدرسة، ولكن كلًّا منهما كان يعود إلى بيئته الخاصة، فأما شوقي فقد كان يجد من بيئته الأرستقراطية ما يضعف في نفسه أثر الكُتَّاب والمدرسة، وأما حافظ فقد كان يجد من الفقيه والمعلم صدًى لحياة أسرته الخاصة، ومن هنا كانت نفس شوقي أرستقراطية رغم ديمقراطية الكُتَّاب والمدرسة، وكانت نفس حافظ ديموقراطية خالصة.

وجهت الظروف حافظًا نحو الحرب، ووجهت السياسة شوقي نحو القصر، والتقى الشاعران آخر القرن الماضي في ميدان واحد هو ميدان الشعر، وكان أحدهما قد تعلم، ولكن في عزة ونعيم، وارتحل ولكن إلى حيث اللهو واللذة، وإلى حيث العلم والأدب والفن، وإلى حيث الطبيعة المبتسمة والجمال المضيء. وكان الآخر قد تعلم، ولكن في فقر وبؤس، وارتحل ولكن إلى حيث الكد الذي لا يفيد، والعناء الذي لا يغني، إلى حيث الشمس المشرقة أبدًا، المحرقة أبدًا، إلى حيث الطبيعة المظلمة، إلى حيث الجمال الجافي الغليظ — إنْ صح أنْ يكون الجمال جافيًا غليظًا — إلى حيث الجهل الذي لا غَوْر له، والظلمة التي لا يتميز فيها شيء. مضى كل من الشاعرين في طريقه؛ هذا مبتسم سعيد يتغنى، وهذا مكتئب محزون يشكو، ثم عاد كل من الشاعرين إلى القاهرة، فأما أحدهما فإلى حيث كان ينتظره المنصب واللقب والثروة والترف وفراغ البال، وأما الآخر فإلى حيث كانت تنتظره البطالة والشوارع والقهوات المنحطة والفقر والشظف وسوء الحال، وهذا الهم الثقيل الكالح الذي يضاجع الفقير إذا أوى إلى سريره، ويكشر له عن أنيابه إذا أراد أنْ ينظر إلى وجه الصبح، ثم يجالسه على مائدته المتواضعة، ويعينه على أنْ يلبس ثيابه الرثة، ويرافقه حيث ذهب، ويرافقه حيث جاء، ويبعث في صوته — مهما يكن حلوًا عذبًا — رنة حزينة مظلمة، ويلقي على نفسه — مهما تكن صافية — غشاء مظلمًا مفسدًا لصور الأشياء والناس جميعًا.

نعم، عاد الشاعران إلى القاهرة في هذه الحال، واستقبل كل منهما أهل القاهرة بما أمكن أنْ تتغنى به نفسه من الشعر، وسمع أهل القاهرة غناء حافظ وغناء شوقي؛ فأعجبوا بشوقي وأحبوا حافظًا، وكذلك انتقل إعجاب القاهرة بشوقي إلى أهل مصر، ثم إلى أهل الشرق العربي، وانتقل حب القاهرة لحافظ إلى أهل مصر، ثم إلى أهل الشرق العربي، ثم مات حافظ فحزنت عليه مصر والشرق حزن المحب، ومات شوقي فحزنت عليه مصر والشرق حزن المعجب.

٤

كنت مرة عائدًا مع الأستاذ لطفي السيد بعد أنْ حضرنا اجتماعًا لتخليد ذكرى حافظ قبل أنْ يموت شوقي، وكنا نتحدث في أمر الشاعرين فقال لطفي بك: «لقد خدعني حافظ عن نفسه كما خدعني شوقي عنها! كنت ألقى حافظًا أول عهده بالشعر، وكان يسمعني كثيرًا من شعره فلا يعجبني، فقلت له ذات يوم: أرح نفسك من هذا العناء، فلم يخلقك الله لتكون شاعرًا! ولكنه لم يقبل نصحي وحسنًا فعل، فما زال يجد ويكدح حتى أرغم الشعر على أنْ يذعن له، وأصبح شاعرًا، وكنت شديد الإعجاب بشعر شوقي أقرؤه في لذة تكاد تشبه الفتنة، وأثني عليه كلما لقيته، فما زال شوقي يكسل ويقصر في تعهد شعره حتى ساء ظني بشعره الأخير!»

كذلك كان يتحدث إليَّ الأستاذ لطفي السيد في حافظ وشوقي، وكذلك يتحدث إليَّ ديوان حافظ وديوان شوقي، لا أكاد أبدأ الجزء الأول من ديوان حافظ حتى أجد تلميذًا ضعيفًا شديد الضعف، مضطربًا عظيم الاضطراب، مقلدًا مسرفًا في التقليد، ولا أكاد أقرأ الديوان القديم لشوقي حتى أجد طبيعة خصبة، وقلبًا فُطر على الذكاء، وخيالًا حرًّا أُريد له أنْ يكون مطلقًا فأبت له البيئة والظروف إلا أنْ يكون مقيدًا مغلولًا. ومن الغريب أنك تقرأ الديوانين، فترى حافظًا يقلد ويشعر بأنه مقلد، ويلتمس الإجادة في هذا التقليد نفسه، ولا يتحرج من إعلان ذلك إلى الناس، بل لا يتحرج من التمدح به.

وتقرأ ديوان شوقي فترى شوقي يبتكر أو يحاول أنْ يبتكر، وهو يشعر بذلك، ويعلنه إلى الناس ويتمدح به، ولكنك تجد في هذا نفسه عنصر الفساد الذي سيقص من جناح شوقي، ويضطره إلى أنْ يكون أشبه بالطيور الداجنة منه بالطيور التي تسبح في الهواء ما اتسع لها الجو. تقرأ مقدمة ديوان حافظ فإذا هي تحصر المثل الأعلى في محاكاة الشعراء المتقدمين من شعراء العصر الأموي والعباسي، وتقرأ مقدمة شوقي فإذا هو يلم بالشعراء المتقدمين إلمامًا، ويعجب بهم إعجابًا لا يخلو من التحفظ، ولا يبرأ من التردد، ويعلن إعجابًا عريضًا بالأدب الأوروبي، وينبئنا بأنه مجدد لا يقلد إلا كارهًا، ولكنه ينبئنا في الوقت نفسه بأنه قد وضع لنفسه في حياته الأدبية قاعدة ذكرها نثرًا في هذه المقدمة، وذكرها شعرًا في الديوان حيث يقول:

إن الأراقم لا يطاق لقاؤها
وتنال من خلف بأطراف اليد

فهو لا يستقبل التجديد ولكن يستدبره، وهو لا يدخل البيوت من أبوابها، ولكن يأتيها من ظهورها، وهو لا يجدد في صراحة وشجاعة وثبات للخصوم، ولكنه يجدد في لباقة ومداورة والتواء على المناهضين، وكأن هذه القاعدة قد صيغت من طبع شوقي، فسيطرت على حياته الأدبية، وسيطرت على حياته الشخصية أيضًا، فهو لم يواجه الناس بتجديد عنيف في الأدب قط، وهو لم ينهض لخصومة ناقد من نقاده، بل لم يجرؤ على أنْ يلقى نقاده بالعتب، وإنما كان يعاملهم معاملة الأراقم لا يلقاهم، ولكنه يأخذهم من خلف بأطراف اليد؛ يغري بهم ويؤلب عليهم، ثم يلقاهم باسمًا وادعًا، ولا يتحرج من زيارتهم واستزارتهم كأنهم من أحب الناس إليه، ولم يكن في حياته اليومية عدوٌّ ظاهر، إنما الناس جميعًا أصدقاؤه وخلصاؤه، يظهر لهم صفحة واضحة نقية، ومن وراء هذه الصفحة صفحات بيض وصفحات سود، تلقاه في الجهاد، وتلقاه في الاتحاد، وتراه في السياسة، وتراه في الأهرام، وتراه في بار اللواء، وتراه في «البعكوكة» هادئًا دائمًا لا يضطرب، منخفض الصوت قلَّما تسمعه دون إصغاء إليه.

كانت هذه القاعدة صورة لطبيعته، وأي غرابة في هذا؟! لقد ولد بباب القصر، ونشأ في ظل القصر، وقضى شبابه وكهولته عاملًا للقصر، وفي القصر. حين كان سلطان القصر مطلقًا أو كالمطلق، ثم حين كانت حياة القصر مداورة مستمرة بين الشعب الطامع في الحرية والإنجليز المعتدين عليها، فليس غريبًا أنْ يكسب شوقي في حياته الأدبية والشخصية هذه السياسة التي تحمي صاحبها، وتضمن له الظفر والسلامة معًا.

وعلى عكس هذا كان حافظ أقل الناس حظًّا من المهارة، وأيسرهم نصيبًا من المداورة، وأعظمهم قسطًا من الصراحة ما وسعته الصراحة، فإن ضاقت به فالخوف الصريح، والإشفاق الذي لا غبار عليه.

لقيته مرة عند صاحب الدولة محمد محمود باشا، فأنشدني شعرًا له يمدح به صاحب الدولة، ويثني فيه على جهوده وبلائه في مفاوضة الإنجليز، وكنت أعرف منه هذا الضعف، وأحب أنْ أداعبه، فقلت له — والرئيس يسمع ومن حوله جماعة من الأحرار الدستوريين: «ما أجمل هذا الشعر وما أقواه!»

قال: «أتسمعون؟ سجلوا عليه فإنه خليق بعد ذلك أن ينقدني.»

قلت: «اشهدوا على أني مستعد للثناء على حافظ في غير تحفظ إذا نشر هذا الشعر.»

قال مقهقهًا: «اذممني ما شئت في غير تحفظ، فلن أنشر هذا الشعر؛ لأني لا أريد أنْ أحال على المعاش الآن.» قلت: «فإني سأنشر فصلًا عنك كله ثناء، وسأستشهد ببعض هذا الشعر.» وكنت قد حفظت منه شيئًا، قال: «ولا هذا أيضًا.» وقضى المجلس وقتًا طويلًا في الضحك من إشفاق حافظ.

وكذلك كان حافظ مع النقاد يخافهم كما كان يخافهم شوقي، ولا يثبت لخصومتهم كما لم يكن شوقي يثبت لخصومتهم، ولكنه لم يكن يغري بهم أحدًا، ولا يؤلب عليهم أحدًا، ولا يأخذهم من خلق بأطراف اليد، وإنما كان يعبث بهم إذا تحدَّث إلى أصحابه، ويعبث بهم إذا لقيهم، ويتلطف لهم في كل حال.

كان شوقي مجددًا ملتوي التجديد، وكان حافظ مقلدًا صريح التقليد. ويمضي الزمن على حافظ وشوقي، فإذا تقليد حافظ يستحيل لا أقول إلى تجديد، بل أقول إلى نضوج غريب، وقوة بارعة، وشخصية تفرض نفسها على الأدب فرضًا، وإذا تجديد شوقي يستحيل شيئًا فشيئًا إلى تقليد، حتى إذا كانت أعوامه الأخيرة كانت قصائده كلها تقليدًا ظاهرًا للقدماء من الشعراء، لا يتستر فيه ولا يحتاط، ينشئ القصيدة فلا تحتاج إلى تعب أو مشقة لتجد القصيدة القديمة التي يحاكيها، سمِّ هذا معارضة أو محاكاة أو تقليدًا، فذلك عندي سواء؛ لأنه ينتهي إلى نتيجة واحدة، وهي أنَّ الشاعر قد رجع إلى القدماء يلتمس عندهم مثله الأعلى. ومع ذلك فمن الخير أنْ نتعرف طبيعة الشاعرين ومزاجهما الفني، والينبوع الذي كانا يستقيان منه.

٥

فأما طبيعة حافظ فيسيرة جدًّا، لا غموض فيها، ولا عسر، ولا التواء، وهذا اليسر هو الذي يحببها إلينا، وهو الذي يجعلها في الوقت نفسه فقيرة قليلة الحظ من الخصب والغنى؛ حافظ تلميذ صريح للبارودي قلده منذ نشأ، ثم تشجع فقلد المتقدمين الذين كان يتأثرهم البارودي نفسه، وكما كان علم البارودي بالأدب محدودًا، لا يتجاوز الأدب القديم يحفظه، وقلما يفقه عميقه، فقد كان علم حافظ محدودًا كذلك؛ كان حافظ يلم بالفرنسية، ولكنه لم يكن يتقنها لا نطقًا ولا فهمًا، ستقول ولكنه ترجم البؤساء، واشترك في ترجمة كتاب في علم الاقتصاد مع صديقه مطران. وهذا حقٌّ، فقد ترجم البؤساء أو مقدارًا من البؤساء، ولكن في أي مشقة ومع أي جهد! رحم الله حافظًا، لقد لقي في ترجمة البؤساء عناء عظيمًا؛ عناء في الفهم، عناء في استشارة المعاجم، وعناء في الصيغة العربية نفسها، وكثيرًا ما كان حافظ يعجز عن فهم فكتور هوجو، فيقيم نفسه مقامه، ويعوضنا من معنى الكاتب الفرنسي لفظه هو بما فيه من جمال وجزالة وروعة. أما كتاب الاقتصاد فسل صديقه مطران ينبئك بالخبر اليقين. لم يستفد حافظ إذن لأدبه وشعره من اللغة الفرنسية شيئًا يذكر، فهو غير مدين لأوروبا بشيءٍ من أدبه، ثم لم يكن حافظ فقيهًا بالأدب العربي إذا توسعنا في معنى هذا الأدب. لم يكن يحسن علوم العرب ولا فلسفتهم، بل لم يكن يعرف من هذه العلوم والفلسفة شيئًا، إنما كانت ثقافته من كتاب الأغاني ودواوين الشعراء، وكان يفهم الأغاني والدواوين بقدر ما يستطيع، فيصيب كثيرًا ويخطئ أحيانًا، ويكفي أنْ تقرأ مقدمة ديوانه، وتراه يزعم أنَّ السفاح قد أفنى أمَّة بأسرها لبيتين من الشعر قالهما سديف؛ لتعلم إلى أي حد بلغت ثقافة حافظ، فلم يفن السفاح أمَّة، وإنما نكل بالأسرة الأموية تنكيلًا شديدًا لم يفنها ولم يبدها، ولكن حافظًا كان يظن في أول هذا القرن أنَّ إفناء الأمويين إفناء لأمَّة.

غنيتْ ذاكرة حافظ، ولكن عقله ظل فقيرًا، فاعتمدت شاعريته على الذاكرة من جهة، وعلى الحياة المحيطة به من جهة أخرى. استمدت موضوع شعره من هذه الحياة، واستمدت صورة شعره من تلك الذاكرة، وكانت ثقافة حافظ العقلية محدودة، فلم ينفذ عقله إلى طبائع الأشياء، ولم يصل إلى أسرارها، فعجز عن إجادة الموضوع، ولكن ذاكرته كانت قوية جدًّا، وكان حظه من الحفظ غريبًا، وكان قد ابتكر لنفسه سليقة عربية، أو قل سليقة أعرابية، فأتقن الصورة وبرع فيها، وكان أقرب تلاميذ البارودي إلى البارودي.

تجد هذا الشعور حين تقرأ الفنون الشعرية التي برع فيها حافظ، حين تقرأ رثاءه وشكواه للزمان، وتصويره للسياسة والاجتماع، لن تجد في هذا الشعر عمقًا، ولئن حللته وأخرجته من صورته الرائعة، فلن يترك في نفسك أثرًا، ولكنك واجد في صورته نفسها، في الألفاظ التي يتخيرها الشاعر في الأسلوب الذي يلائم به بين هذه الألفاظ، ما يملأ نفسك لوعة وحزنًا وحبًّا وإعجابًا. كانت نفس حافظ بسيطة يسيرة، لا حَظَّ لها من عمق ولا تعقيد، وكانت لهذه الخصال نفسها محبَّة إلى الناس مؤثرة فيهم. وكان شعر حافظ صورة صادقة لهذه النفس البسيطة اليسيرة، فأحبوه كما أحبوا مصدره، وأُعجبوا به كما أعجبوا بينبوعه.

ولما كانت نفس حافظ في جوهرها نفسًا مصرية كانت قطعة من هذه النفس المصرية الإسلامية، التي تجد بساطتها وسذاجتها في كل أثر من آثار المصريين المسلمين، فلِمَ لا يحبها الناس، وإنما يرون فيها أنفسهم؟ ولم لا يعجب بها الناس، وإنما ينظرون فيها إلى صورهم تعكسها مرآة صافية وضيئة نقية، لا يشوبها صدأ ولا يغشاها غبار؟

٦

هذه طبيعة حافظ يسيرة كما ترى، أما طبيعة شوقي فشيء آخر؛ معقدة ينبئنا شوقي نفسه بتعقيدها، فيها أثر من العرب، وأثر من الترك، وأثر من اليونان، وأثر من الشركس. التقت كل هذه الآثار وما فيها من طبائع واصطلحت على تكوين نفس شوقي، فكانت هذه النفس بحكم هذه الطبيعة أو الطبائع أبعد الأشياء عن البساطة وأنآها عن السذاجة، وهي بحكم هذا التعقيد والتركيب خصبة كأشد ما يكون الخصب، غنية كأوسع ما يكون الغنى، ثم لم تكد هذه النفس الخصبة الغنية المتوقدة تتصل بالحياة حتى لقيت من حوادثها وتجاربها، ومن كنوزها وغناها ما يزيدها خصبًا إلى خصب، وثروة إلى ثروة.

كان شوقي يحسن التركية، وكان متقنًا للفرنسية، قد برع فيها نطقًا وفهمًا، وكان في أول أمره كثير القراءة حريصًا على الفهم، فقرأ كثيرًا، وفهم كثيرًا، وتمثلت نفسه ما قرأ وما فهم، وانضم إلى هذه العناصر التي كانت تركب طبيعته عنصر جديد هو العنصر الفرنسي الذي عمل في عقله وخياله ومزاجه كله، ونمت العناصر الأخرى بالقراءة وبالحياة. عاشر شوقي العرب في شعرهم وأدبهم، فعظم حظه من العربية، وعاشر الترك في حياته اليومية، واتصل بهم أشد اتصال، فعظم العنصر التركي فيه. ولسوء حظ الأدب الحديث لم يعاشر شوقي قدماء اليونان كما عاشر قدماء العرب، ولو قد فعل لأهدى إلى مصر شاعرها الكامل.

كان شوقي في أول أمره مثقفًا يحب الثقافة، ويشتد في طلبها والتزيد منها، ولكنه كان كغيره من الشبان المصريين يسيرون في الدرس والتحصيل على غير هدى، ولا سيما حين يدرسون في أوروبا، لا يقرءون من الأدب الفرنسي مثلًا إلا ما لابد للرجل المثقف من قراءته، من هذه الآثار العليا التي فرضت نفسها على الناس فرضًا، فأما التأنق في الثقافة والتماس الترف في الأدب فلا حظَّ لهم منه، وكذلك كان شوقي حين ذهب إلى فرنسا آخر القرن الماضي، إذا ذكر الشعر الفرنسي ذكر لامارتين وبحيرته التي ترجمها إلى العربية، أو ذكر لافونتين وأساطيره التي قلدها في العربية، وإذا ذكر الفلسفة ذكر جول سيمون، ومن المحقق أنَّ آثار لامارتين ولافونتين آيات في الأدب الفرنسي، وأن فلسفة جول سيمون لها قيمتها، ولكنك لا تلاحظ أنَّ شوقي يذكر بودلير أو فرلين أو سولي بريدوم أو مالرميه من الشعراء الفرنسيين، ولا تراه يذكر تين أورينان أو برجسن من الفلاسفة؛ ذلك لأنه لم يكن يسير في ثقافته على هدًى، وإنما كان يأخذ من الأدب الفرنسي أيسره وأدناه إلى متناول اليد.

وكذلك كان تجديد شوقي متأثرًا بهذا الحظ من الثقافة الفرنسية؛ أي إنه كان يتأثر بالقديم الفرنسي أكثر مما كان يتأثر بالجديد، ولو قد اتصل شوقي بالمجددين الذين عاصروه في شبابه من شعراء الفرنسيين لسلك شعره سبيلًا أخرى، ولكنه لم يفعل، ولكنه لم يطلق لطبيعته على ما هي عليه حريتها، بل قيدها وردها كارهةً على أنْ تتأثر في إنتاجها الأدبي بسياسة القصر حينئذٍ، وما كان يحيط به من الظروف، ولو قد أطلقها أو أرسل لها العنان بعض الشيء لغيرت حياة الشعر العربي الحديث. ولست في حاجة إلى أنْ أتكلف المشقة في الاستدلال على ذلك، فقد كانت طبيعة شوقي من الخصب والقوة بحيث لم تكن تذوق أثرًا أدبيًّا يمكن محاكاته إلا حاولت هذه المحاكاة وجدَّت فيها، وكانت توفق أكثر الأحيان في هذه المحاكاة توفيقًا عظيمًا، فلو أنَّ شوقي قرأ الإلياذة والأودسا كاملتين وفهمهما حق الفهم، وأطلق لنفسه حريتها لحاول أنْ ينشئ الشعر القصصي في اللغة العربية، لا أقول على نحو ما كانت الإلياذة والأودسا من الطول، ولكن على نحو ما كانت الإلياذة والأودسا من الفن. ولو أنَّ شوقي قرأ تمثيل اليونان وتمثيل المحدثين، وأطلق لطبيعته حريتها لعنى بالتمثيل شعرًا ونثرًا في شبابه، ولأعطى اللغة العربية من هذا الفن حظًّا له قيمة صحيحة.

ولو أنَّ شوقي قرأ شعر الشعراء الفرنسيين الذين عاصروه في شبابه، ولو أنه اختلف إلى أنديتهم في باريس حين كان يقيم فيها — ولم تكن أنديتهم مغلقة — لتغير مثله الأعلى في الشعر، ولما نظر إلى القدماء من العرب، ولا إلى لامارتين ولافونتين وأضرابهما من الفرنسيين إلا كما ينبغي أنْ ينظر إليهم الشاعر الحديث؛ أي من حيث إنهم يكونون أصل الثقافة، ومن حيث إنهم يمتعون القارئ باللذة الفنية، لا من حيث إنهم المثل العليا للشاعر في هذه الأيام، ولكن شوقي قصر بنفسه عن هذه المنزلة أو قصرت به الظروف، إما لأنه لم يقرأ كما كان ينبغي أنْ يقرأ، وإما لأنه لم يعمل كما كان ينبغي أنْ يعمل، تقصير في القراءة ومجاراة الإنتاج الأدبي الأجنبي من جهة، وتفريط في ذات الحرية الأدبية، وخضوع لأحكام السياسة من جهة أخرى، هاتان الخصلتان هما اللتان قصَّتا جناحي شوقي، فلم يستطع أنْ يرتفع إلى حيث كانت تعده طبيعته من سماء الشعر والخيال.

وأغرب من هذا، وأبلغ في الحزن والأسى أنَّ هذه الطبيعة البارعة التي لم تعرف مصر مثلها في عصرها الإسلامي العربي، والتي لم يعرف التاريخ الأدبي العربي مثلها منذ كان أبو العلاء؛ لم تُوجه إلى فهم الآيات الأدبية الخالدة في الآداب الأجنبية، ولم تتعمق في درسها، واستكشاف أسرارها كما ينبغي، وإنما علم شوقي بهذه الآيات العليا من آداب اليونان والرومان والفرس والأوروبيين على اختلافهم كان ضئيلًا رقيقًا، لا هو بالعريض، ولا هو بالعميق.

كان شوقي يجهل حقيقة هذه الآيات، فإذا عرف شيئًا منها فإنما يعرفه بالشهرة، وعلى نحو ما يتعلم الناس الذين يكتفون بدوائر المعارف، أو بما يكتب للطلاب في الكتب المدرسية، وليس هناك دليل على ذلك أوضح من هذه القصيدة التي أنشأها شوقي في شكسبير، ونشرها في الجزء الثاني من ديوانه صفحة «٥»، فأقل ما يحسه قارئها أنَّ شاعرنا لم يعلم من أمر شاعر الإنجليز إلا شيئًا ضئيلًا جدًّا يعرفه المثقف العادي، وهو — على كل حال — لم يفهم روح شكسبير، ولم يتمثله، ولم يحسن بل لم يحاول تصوير هذا الروح، وكل ما في القصيدة مدح لإنجلترا أول الأمر، ثم ثناء على شكسبير غريب، يشبه فيه أبيات شكسبير بالآيات المنزلة، ويشبه معاني شكسبير بعيسى. ولست أدري ما هذا الحسن المشترك بين معاني شكسبير وبين المسيح، بل لست أدري كيف يذكر شكسبير المتأثر بوثنية القدماء وآداب الشمال الأوروبي إلى جانب المسيح، وكيف يشبه أدب شكسبير بالإنجيل؟! إنما هو كلام يقال ويعتمد صاحبه على أنَّ الذين سيقرءونه ستروعهم الألفاظ دون أنْ يبحثوا عن المعاني؛ لأنهم لا يعرفون من أمر شكسبير، ولا من أمر المسيح والإنجيل شيئًا كثيرًا، ثم يقول شوقي: إنَّ قصص شكسبير تمثل الحياة. وكل مثقف يعرف هذا ويقوله، بل كل مادح لشاعر من الشعراء الممثلين يقول فيه هذا، بالحق حينًا وبالباطل أحيانًا، ثم يتجه شوقي إلى شكسبير فيسأله أسئلة عادية قد أَلِفَها الناس منذ قرءوا رثاء أبي العلاء، وعرفوا تصويره لبلى الأجساد في القبور، ثم يطلب إلى شكسبير الذي أجرى الدم أنهارًا في قصصه أنْ ينهض ليرى كيف جرى الدم بحارًا في ظل الحضارة الحديثة، ويذم الحرب كما يذمها كل إنسان. هذا علم شاعرنا بشكسبير، وهذا تصوير شاعرنا له ورأيه فيه.

وأين يقع هذا كله من آراء الشعراء الفرنسيين والألمان المحدثين في شكسبير، وإني لأعرف محاورات لجوت حول بعض القصص التي تركها شكسبير، حول هملت مثلًا في ولههلم ما يستر، لا يذكر معها ما قاله شوقي من الشعر، ومع ذلك فقد كان من الحق على شاعرنا أنْ يكون علمه بشكسبير أوضح من علم الألمان والفرنسيين به في القرن الثامن عشر؛ لأن فقه هذا الشاعر العظيم قد تقدم في قرن ونصف قرن تقدمًا عظيمًا. ومثل هذا ما يقال في علم شاعرنا بأفلاطون وأرستطاليس، وقد لاحظت قديمًا أن شوقي أراد أن يثني على الأستاذ لطفي السيد، حين ترجم كتاب الأخلاق لأرستطاليس، فنسب إلى المعلم الثاني آراء أستاذه أفلاطون؛ لأنه لم يقرأ هذا ولا ذاك، وإنما عرف أطرافًا من فلسفة هذا وذاك في دوائر المعارف، وفي الكتب المدرسية. هذا التقصير في الدرس والتحصيل، وهذا الكسل العقلي أصاب شوقي، وأصاب حافظًا، وقصر بالشاعرين عن المكانة العليا التي كانا خليقين أن يبلغاها بطبيعتيهما القويتين. وكثيرًا ما نعيت عليهما ولوَّمْتهما في ذلك. ولكن حظ شوقي من هذا التقصير أعظم من حظ حافظ؛ لأن شوقي هُيئ له من وسائل الثقافة العربية والأجنبية ما لم يهيأ لحافظ — كما رأيت — ولأن شوقي هُيئ له من النعيم، وأسباب الترف والراحة ما كان يستطيع معه أنْ يفرغ للدرس ساعات من نهار بين حين وحين، على حين حُرم حافظ كل شيء، أو كاد يُحرم كل شيء، وعلى حين لم يكن حافظ يزعم لنفسه ما كان يطمح إليه شوقي من مكانة ومنزلة في الشعر.

٧

وتمضي الأيام على حافظ وشوقي بعد أنْ عرفهما جمهور الأدباء في أواخر القرن الماضي، وأوائل هذا القرن، ويسلك كل منهما طريقه في التطور الأدبي.

فأما حافظ فقد لقي الأستاذ الإمام، واتصل به، وأصبح له صفيًّا، وما هي إلا أنْ يتصل بأصدقاء الأستاذ، وفيهم العالم الأزهري كالشيخ عبد الكريم سلمان، وفيهم المجدد في الاجتماع كقاسم أمين، وفيهم القاضي الثبت الذي أدرك حظًّا عظيمًا من المجد، ولكن أستار الغيب ما زالت مسدلة بينه وبين مستقبل عظيم كسعد زغلول، وفيهم رؤساء العشائر والأسر الكبرى كحسن عبد الرازق وعلي شعراوي ومحمود سليمان، فيهم كل هؤلاء على اختلاف نزعاتهم وميولهم وأهوائهم ومنازلهم الاجتماعية، وهم جميعًا متفقون على أنَّ حال الشعب سيئة، وعلى أنَّ استنقاذ الشعب من هذه الحال فُرِضَ عليهم هم قبل غيرهم من الناس، وهم يسلكون إلى هذا سبلًا مختلفة، ويتصل حافظ بغير هؤلاء من زعماء السياسة الحادة والملتوية في أول هذا القرن؛ يعرف مصطفى كامل وعلي يوسف، يتحدث إلى هؤلاء جميعًا، يأنس إلى بعضهم، وينفر من بعضهم الآخر، وأولئك وهؤلاء يحبونه ويؤثرونه بالمودة والبر.

فانظر إلى ابن الشعب وقد رفعه الشعر إلى أعلى مكانة، حيث تتنافس فيه الأرستقراطية الشعبية، وتحرص على قربه والأنس به، وهو على ذلك لم يقطع صلته، ولن يقطعها بأترابه من أوساط الناس، بل هو شديد الاتصال بجماعة من الشعراء والأدباء والبائسين، يأنس إليهم، ويعطف عليهم، ويصفيهم مودته، ويبحث عنهم إنْ طال عهدهم به، وهم يعرفون منه ذلك ويرضون، ثم يتجنون، ثم يسرفون في التجني والتحكم، وأخبار إمام العبد مع حافظ — رحمهما الله — لا تزال معروفة، يتفكه بها الناس، ومجالس حافظ في قهوة متاتيا، وقهوات باب الخلق، وقهوات الناصرية معروفة مذكورة أيضًا.

هو إذن صديق الشعب كله؛ صديق الفقراء والأغنياء وأوساط الناس، صديق العلماء المستنيرين، وصديق غيرهم من الذين لا حظَّ لهم من ثقافة، أو ليس لهم من الثقافة إلا حظٌّ ضئيل، تراه في كل بيئة، وتراه في كل مكان، تراه في حديقة الأزبكية يقرض الشعر، وتراه في الشوارع يماشي أصدقاءه باسم الثغر مشرق الوجه، مظلم النفس، ضاحكًا مما يحزن ومما يسر.

خالط الناس جميعًا، فأصبح هو الناس جميعًا، وصوَّر نفسه في شعره فصور بها الناس جميعًا، ثم يموت الأستاذ الإمام ويتبعه قاسم، ويتبعهما مصطفى كامل، ويظهر نبوغ حافظ في الرثاء بموت هؤلاء الناس الذين كانوا أصدقاءه؛ لأنهم كانوا أعلام الأمة وذخرها، جزع أنصار الإصلاح الديني والاجتماعي لموت الأستاذ الإمام وموت قاسم، فكان شعر حافظ أصدق صورة لهذا الجزع لا غلو فيها ولا تقصير، ولا ضعف فيها ولا وهن. وجزع الشعب كله لموت مصطفى كامل، فكان شعر حافظ صورة صادقة لهذا الجزع، نارٌ ملتهبةً، ولوعة لا حدَّ لها، وأخذت حياة حافظ تقفر من حوله بموت الأصدقاء وسوء الحال، فَنُفي ولكن في مصر، وأبعد ولكن في القاهرة، وأسند إليه منصب في دار الكتب فأصابه مثل ما أصاب شوقي، واضطُر إلى أنْ يصانع، ويداري، ويحسب للقول حسابًا، ويكظم نفسه على ما تكره، ويترك شعبه من غير ترجمان.

رحم الله حشمت باشا! أراد أنْ يبر بصديقه ويحميه من البؤس والشقاء، ويمهد له حياة ناعمة راضية، فحرم أمته شاعرها وطمر أو كاد يطمر هذا الينبوع الصافي العذب؛ ذلك أنَّ حافظًا كان لا يزال ناشئًا في الشعر على تفوقه وبراعته ونبوغه في السياسة، كان في حاجة إلى أنْ تحفظ له حريته واسعة مطلقة؛ ليبلغ شعره أشده، ولينبسط ظله على مصر كلها، فجاء هذا المنصب عقبة في سبيل النبوغ! خيِّل إلى حافظ، وإلى الذين أسندوا إليه هذا المنصب أنه سيخلص من البؤس فيفرغ للشعر، ولم لا؟ لقد عرفت فرنسا كيف تستثمر شعراءها، ألم تسند إلى لكونت دي ليل منصبًا كمنصب حافظ في مكتبة مجلس الشيوخ، فلم يؤثر ذلك في شعره إلا أحسن الأثر جودة ونموًّا وخصبًا، فلِمَ لا يكون حافظ مثل غيره من الشعراء؟ آه! لأن مصر ليست كغيرها من البلاد، ولأن البيئة المصرية ليست كغيرها من البيئات. مصر في حاجة إلى المحن، لم تألم بعد كما ينبغي، ولم تصهرها الهموم كما ينبغي، مصر في حاجة إلى العلم، مصر في حاجة إلى الثروة الأدبية، مصر في حاجة إلى النشاط المتصل. أشد أعدائها الراحة! وكذلك أبناؤها جميعًا، وكذلك شعراؤها بنوعٍ خاص. كان بؤس حافظ في نفسه شرطًا لاتصال شعره، ونمو نبوغه، كان حافظ محتاجًا إلى أنْ يظل بائسًا ليرى بؤس الشعب من حوله وليحسه وليصوره، ولكن حافظًا غني بعد فقر، واطمأن بعد اضطراب، فهدأت نفسه، ثم اشتد بها هذا الهدوء، فضاق بالحياة وضاقت به الحياة أيضًا.

وليت حافظًا وقد فقد البؤس الذي كان سبيله إلى المجد لم يفقد الحرية! فقد كان يستطيع مع الحرية أنْ يجد له في القول مذهبًا، ولكن الموظفين في مصر عبيد مهما تكن الحكومات القائمة، يجب أنْ يقدروا لأرجلهم موضعًا قبل الخطو، وألا يقولوا إلا بمقدار!

ولم يكن حافظ عظيم الثقافة ولا عميقها، فلم يكن من الممكن ولا من اليسير أنْ يتجه إلى تلك الفنون الشعرية الخالصة التي تصل بين الشاعر وبين الطبيعة، والتي ليس للسياسة ولا للنظام عليها سلطان. لم تكن النجوم في السماء، ولا الرياض في الأرض، ولا النيل ولا الصحراء تلهم حافظًا شيئًا؛ لأن حافظًا لم يكن شاعر الطبيعة، وإنما كان شاعر الناس.

في سبيل الله هذه الأعوام الطوال التي قضاها حافظ في دار الكتب لا يعمل شيئًا، ولا يقول شيئًا، وإنما يقضي صباحه في الدار يعبث بالموظفين ويتندَّر عليهم، أو على باب الدار يدخن سيجاره الضخم، أو في قهوة دار الكتب يدخن الشيشة، فإذا كان المساء أنفق وقته بين أصدقائه في الأندية الخاصة أو العامة!

على هذا النحو قضى حافظ ثلث حياته، يرثي من مات ولكن بحساب، ويقول هذا الشعر الذي يقال في المناسبات، والذي لا يدل عادة على شيء، ولا تكاد ترد الحرية إلى حافظ بإحالته على المعاش حتى يتنفس، وإذا هو قد اتصل بالشعب من جديد، وإذا هو يتأهب لينفجر وليرسل زفرات الشعب نارًا مضطرمة تلتهم ما حولها، ولكنه شيخ قد تقدمت به السن، وذهبت بقوته الراحة في دار الكتب، وضاع نشاطه هباءً مع دخان الشيشة والسيجار، فلا تثبت قواه الفانية لهذه الأمانة الثقيلة التي نهض بها شابًّا وكهلًا، وكان يستطيع أنْ يستقل بحملها حين بلغ الأربعين، وحين أسند إليه المنصب في دار الكتب فيقضي! وإن أصدق ما يقال فيه لقول الشاعر القديم في عمر:

قضيت أمورًا ثم غادرت بعدها
بوائق في أكمامها لم تفتق

٨

وأما شوقي فيمضي في طريقه التي رسمها لنفسه، منذ أرسل من باريس همزيته التي يمدح بها الخديوي:

خدعوها بقولهم حسناء
… … … … … …

فطلب القصر إلى الجريدة الرسمية أنْ تسقط الغزل وتنشر المدح، وود الشيخ عبد الكريم سلمان لو أُسقط المدح ونشر الغزل، فلم ينشر من القصيدة شيء، وعرف شوقي أنْ لابُدَّ من الاحتياط في التجديد.

يمضي شوقي في هذه الطريق موظفًا في القصر، شاعرًا للأمير يمدحه كلما دعا إلى ذلك داع، وحين لا يدعو إلى ذلك داع يتفنن في هذا المدح، فيجيد مقدماته غزلًا ووصفًا، ولا يجيد في المدح نفسه إلَّا قليلًا.

وكان شوقي — كما يقول — في مقدمة ديوانه القديم يكره المدح، وينكره على الشعراء المتقدمين، ويود لو برئ الشعر من التهالك عليه والتنافس فيه، ولكنه نشأ راغبًا في أنْ يتصل بالأمير، حريصًا على أنْ يكون شاعرَه، حاسدًا للمتنبي على سيف الدولة، وقد اتصل بالأمير وأصبح شاعره، فهو سعيد بذلك، يعتز به ويفاخر ويتمدح:

شاعر الأمير وما
بالقليل ذا اللقب!

نعم، ليس قليلًا هذا اللقب في رأي شوقي، فقد كان أمنيته صبيًّا، وقد كان أمنيته شابًّا يطلب العلم في مصر، ويطلبه في أوروبا، ليس بالقليل وقد رأى شوقي مكانة «عليِّ الليثي» من الأمير ومن الناس، ليس بالقليل في هذه البيئة التي لا تزال تذكر عهد إسماعيل، وما كان فيه من رفع وخفض، ومن عزٍّ وذلٍّ، ومن سلطان للحاشية، والمقربين ليس بالقليل، بل هو قد يكون مفيدًا، قد يكون مُذكيًا لنار الشعر، ممهدًا سبيل التفوق والنبوغ إذا كان الأمير أديبًا كسيف الدولة، أو كان همُّ الأمير بعيدًا في الإمارة والسياسة، ولكن أمير شوقي لم يكن أديبًا، فلم يفهم شوقي من هذه الناحية، ولم يكن أمير شوقي بعيد الهمة؛ لأنه جرب بُعْد الهمَّة فساءت عاقبة التجربة، وعرف صدق المثل القائل: «أفلح من طار بجناح، أو استسلم فأراح.» وآثر السلامة والراحة، وعكف على أموره الخاصة يُعنى بها، وعلى ثروته الخاصة ينمِّيها، وأين يكون ذلك من شعر شاعر الأمير؟

شوقي إذن كحافظ يوم نُفي إلى دار الكتب، ربَّة شعره سجينة، ولكنها سجينة في قفص ذهبي هو القصر، تتغنى ولكن بغناء فاتر متشابه بالمدح، وقد قيد شوقي ربة شعره هذه بنفسه منذ كان في باريس، فلما عاد إلى مصر ظهر أنَّ القيد الباريسي لم يكن ثقيلًا كما ينبغي، فأُضيفت إليه قيود وأغلال، وأصبحت ربة الشعر أسيرة الأمير، لا تنطق إلَّا بما يريد وحين يريد، وكان الأمير ذكيًّا، وكان الشاعر ذكيًّا أيضًا، وإذا لم يُتح للأمير أنْ يجعل من شوقي أبا الطيب كما فعل سيف الدولة، أو فرجيل كما فعل أغسطس، فقد يستطيع الأمير أنْ يستعين بشوقي الذكي على تدبير أموره الخاصة، ويستطيع شوقي الذكي أنْ ينال حظوة الأمير بالسياسة إنْ لم يستطع أنْ يحبب إليه الشعر، وكذلك يصبح الشعر سمة لشوقي لا صناعة، ويستحيل الشاعر إلى رجل من الحاشية، ورجل القصر يدور حول الأمير، ويلتوي ما التوت سياسة الأمير، يتحفظ في حديثه العادي، فكيف به إذا مات الأستاذ الإمام أو قاسم أمين أو مصطفى كامل؟! وكيف به إذا جزع الشعب لدنشواي؟! وكيف به إذا طالب الشعب بالدستور؟!

هو شاعر الأمير فخير له أنْ يسكت، فإذا لم يكن بدٌّ من القول فحق عليه أنْ يحتاط، ثم هو شاعر الأمير يجب أنْ يفكر، ويتدبر فيما يحدث بينه وبين الناس من صلة، يجب أنْ يقيس صداقته وعداوته وقربه وبعده برضى الأمير وسخطه. وإذن فلن تكون بينه وبين طبقات الشعب المختلفة هذه الصلة الواضحة الصريحة، هذه الصلة التي تجمع بين قلب الشاعر، وقلب الشعب الصافية، لن يحس شوقي ما كان يحس حافظ من حياة الشعب، وإنْ أحسه فلن يستطيع إلَّا الإعراض عنه، ليس شوقي ترجمان الشعب ولسانه، وإنما هو ترجمان الأمير ولسان الأمير، وما أشد ما كانت تتسع مسافة الخلف بين الشعب وبين الأمير. ومن هنا تستطيع أنْ تقرأ رثاء حافظ وشوقي لمصطفى كامل، فستحس في شعر حافظ قلب الشعب يخفق، وسترى نفسه تضطرم، وستجد في شعر شوقي هذا البيت الذي سخر منه الأستاذ مصطفى صادق الرافعي بحق؛ لأنه لا يدل على شيء إلَّا على أنَّ الشاعر مجامل يريد أنْ يقول شيئًا:

أو كان للذكر الحكيم بقية
لم تأت بعد رثيت في القرآن!

ومع أنَّ ثقافة شوقي أخصب وأغنى من ثقافة حافظ فلم يستطع شوقي أنْ يفرغ للشعر الخالص في قفصه الذهبي، كما أنَّ حافظًا لم يستطع أنْ يفرغ لهذا الشعر في دار الكتب، لا لأن شوقي كان يؤثر الفراغ وتدخين الشيشة والسيجار؛ بل لأن الشخصية القوية التي كان يمتاز بها الأمير استطاعت أنْ تستأثر بشوقي، وتفنيه في السياسة وتدبير أمور القصر، ويريد الله وتريد الأحداث أنْ تُطلق ربَّة الشعر من عقالها، وأنْ تخرج من هذا القفص الذهبي فلا تعود إليه، ولكن بعد ماذا؟ بعد أنْ أنفق شوقي ربع قرن سجينًا في كنف الأمير أو في قصره!

حيل بين الأمير وبين الإمارة والقصر، وحيل بين حاشية الأمير وبين القصر أيضًا، فمنهم من تبع الأمير، ومنهم من تخلف عنه، وكان شوقي من المتخلفين.

أفرحت ربة الشعر بحريتها؟ أرضيت ربة الشعر بهذا الهواء الطلق تتنسمه متى شاءت، وبهذا الجو الفسيح تطير فيه كيف أحبت؟ وبهذه الأشجار الباسقة والحدائق النضرة تنزل منها حيث أرادت مغردة بصوتها العذب، مصفقة بجناحيها القويين؟ لست أدري، ولكن الذي يكرره الناس ويؤكدونه أنَّ ربة الشعر ضاقت بحريتها أول الأمر، وودت لو تعود إلى سجنها الجميل الذي ألِفته واستعذبت المقام فيه، ويقال إنها استفتحت باب القصر بتلك القصيدة المشهورة الجميلة:

الملك فيكم آل إسماعيلا
لا زال بيتكم يظل النيلا

والتي يقول فيها هذا البيت المشهور:

أأخون إسماعيل في أبنائه
ولقد ولدت بباب إسماعيلا؟!

ولكن باب القصر لم يفتح، وأعرض الشاعر عن أميره، فلم يلحق به، وأعرض القصر عن شاعر الأمير فلم يفتح له، وما هي إلَّا أنْ يظلم الشاعر، يظلمه الأجنبي فتضيق به أرض مصر ويؤمر بالرحيل، فإلى أين يذهب؟ أيذهب إلى قسطنطينية حيث أخواله وعمومته من الترك، وحيث الأمير؟ أم يذهب إلى فرنسا حيث الشباب الغض والذكرى المبتهجة؟ ولكن الحرب في قسطنطينية والأمير في قسطنطينية، ولكن الحرب في فرنسا، والحرب في أكثر بلاد أوروبا. هنا اختارت ربة الشعر وطنًا من أوطانها، ففكرت في إسبانيا واستقرت في الأندلس، ولم تكن ربة الشعر فرحة ولا مبتهجة، وإنما كانت محزونة عميقة الحزن، محزونة على القصر، محزونة على الوطن، محزونة على هذه الآمال التي قضبت قضبًا، وربة الشعر تحيي النفوس دائمًا متى تغنت، تحييها بالغناء الفرح وتحييها بالغناء الحزين، وقد تغنت ربة الشعر في الأندلس، فأحيت نفوس المصريين، وأذكت في هذه النفوس جذوة الوطنية، ووصلت قديم العرب في الأندلس بجديدهم في مصر. إيه يا ربة الشعر! احزني على سجنك ما استطعت، وابكي عليه ما شئت، فإن حزنك يملأ نفوسنا بهجة، ودموعك تنقع ما في قلبنا من ظمأ. لقد وجدناك بعد أنْ فقدناك، لقد رضيت في ظل القصر فغضبنا، فتعلمي الآن شيئًا من الإيثار في المنفى، اغضبي أنت واسخطي لنبتهج نحن ونرضى!

وكذلك حياة الشعراء، قد صورها العباس بن الأحنف، فأحسن تصويرها في هذا البيت:

كنت كأني ذبالة نصبت
تضيء للناس وهي تحترق

وتضع الحرب أوزارها، ويؤذن للشاعر أنْ يعود إلى وطنه، فيعود قويًّا شديد النشاط، ولكنه لا يكاد يبلغ القاهرة حتى يرى القصر فيحن إليه ويدنو منه، والقصر لا يعرفه ولا ينكره، لا يدنيه ولا يقصيه. إيه ربة الشعر! ليس إلى السجن سبيل. اقنعي إذن بهذه الحياة الحرة، انظري، إنَّ همك لبعيد وإنك لمسرفة في الطمع. ماذا؟ أتضيقين بالحرية؟! وإنَّ الشعب المصري من حولك ليسفك دمه في سبيل الحرية! لا ترفعي بصرك إلى السماء، فإن النجوم باقية والشمس باقية، وقد تستطيعين أنْ تنظري إلى النجوم والشمس بعد حين، ولكن اخفضي بصرك، انظري إلى الأرض، لن تري عليها ذهب إسماعيل، ولكنك ستجدين عليها دم أبناء النيل يراق في سبيل هذه الحرية التي تضيقين بها وتنفرين منها! ويخفض الشاعر بصره إلى الأرض، ويرى الشاعر أمته تراق دماؤها وتنتهك حرماتها، وتأمل في كل شيء، ولكنها ترتقب الأمل من كل شيء! يا للطبيعة الخصبة! يا للقلب الذكي! هذا شاعر القصر يصبح شاعر الشعب!

نعم، لقد عز على شوقي فراق سجنه الذهبي، لقد حنَّ إلى هذا السجن مرة ومرة، وما أرى أنه كان يذكر هذا السجن والحنين إليه، وهو يقول هذا البيت من قصيدته في مشروع ملنر:

من يخلع النير يعش برهة
في أثر النير وفي ندبه

ولكنه قد ذاق الآن لذة الحرية، وظهر فيه عنصره العربي وعنصره اليوناني؛ فهو يحب الهواء الطلق، وهو يحب الديمقراطية، وهو ينزل إلى الشارع، ويطوف فيه حيث يلقى الناس ويتحدث إليهم، ويسمع منهم ويشاركهم في لذاتهم وآلامهم، ثم يرقى إلى سماء الشعر، فإذا هو ترجمانهم الصادق ومرآتهم المجلوة الصافية. وكذلك الشعب قوي دائمًا، جذاب دائمًا، منه رفعة العظيم، وبه خمول الخامل؛ رفع حافظًا حتى تنافس في قربه العظماء، وجذب شوقي حتى فتن بعامة الناس وأغمارهم، وكانت هذه الفتنة مصدر عظمته الباهرة ونبوغه الصحيح، لقد كان شوقي في أول أمره شاعرًا أثِرًا، يحب نفسه ويلتمس لها أسباب اللذة والنعمة، ثم شاعرًا موظفًا يقف ملكاته على الأمير والسلطان، ثم عاد إلى نفسه، ثم رُدَّ إلى شعبه فأصبح شاعر الفن، وأصبح شاعر الشعب. ماذا؟ بل وسع شعر شوقي في هذا الطور من أطوار حياته مصر والشرق العربي الناهض كله، لقد كان في شبابه يذكر الشرق والإسلام، ولكن الشرق والإسلام في ذلك الطور كانا أسيرين في يد السلطان من آل عثمان، أما الآن فالإسلام دين الحرية والعدل والمساواة بين الأمم والشعوب، لا دين الملوك والأمراء وحدهم. والشرق أمم مضطربة ناهضة تسمو إلى المثل العليا، وتجد في السموِّ إليها، والشاعر يلتمسها عند نفسها، يلتمسها في الصحف، يلتمسها في الكتب، يلتمسها في الأندية، يلتمسها في الشوارع والقهوات والأسواق والحوانيت، يلتمسها حيث تعيش وحيث تنمو، لا حيث كان يلتمسها من قبل في قصر الأمير وفي ظل السلطان، أصبح شوقي شاعر مصر، كما أصبح شاعر الشرق العربي.

وصَل شوقي في شيخوخته إلى ما وصل إليه حافظ في شبابه؛ لأن شوقي سكت حين كان حافظ ينطق، ونطق حين اضطُر حافظ إلى الصمت، يا لسوء الحظ! ليت حافظًا لم يوظف قط، وليت شوقي لم يكن شاعر الأمير قط! ولكن هل تنفع شيئًا ليت؟! لقد أسكت حافظ ثلث عمره، وسجن شوقي ربع قرن، وخسرت مصر والأدب بسعادة هذين الشاعرين العظيمين شيئًا كثيرًا. وتتقدم السن بشوقي وتكثر الحوادث من حوله، ويشتد بشاعريته النشاط، فإذا جناح شعره ينبسط، وينبسط حتى إذا أظل الشرق العربي كله عاد شوقي فرفع بصره إلى السماء بعد أنْ ملأ عينيه مما في الأرض، وإذا هو يرى في السماء الفن الخالص؛ يرى التمثيل ويرى الغناء، فينفق بقية عمره في التمثيل والغناء، أما في الغناء فقد أجاد من غير شك، وأما في التمثيل فقد غنى فأطرب وأثَّر في القلوب، ولكن لم يمثل شيئًا؛ لأن التمثيل لا يُرتجل ارتجالًا، ولا يهجم عليه في آخر العمر، وإنما هو فن يحتاج إلى الشباب، ويحتاج إلى الدرس، ويحتاج إلى القراءة الكثيرة، وقد أضاع شوقي شبابه في القصر، وقد أضاع شوقي نشاطه وحدة ذهنه قبل أنْ يفرغ للدرس، وقد كان شوقي قليل القراءة، فكان تمثيله صورًا ينقصها الروح، وإنْ حببها إلى الناس ما فيها من براعة في الغناء.

٩

ثم يقبل صيف هذا العام فيخترم حافظًا، وهو يتأهب للحرب، كما تأهب أخيل بعد أن انحاز تحت الخيمة دهرًا. ويقبل خريف هذا العام فيطفئ جذوة شوقي في هدوء ودعة يلائمان ما كان يمتاز به شوقي في حياته من هدوء ودعة. وكلا الشاعرين قد رفع لمصر مجدًا بعيدًا في السماء، وكلا الشاعرين قد غذى قلب الشرق العربي نصف قرن، أو ما يقرب من نصف قرن بأحسن الغذاء، وكلا الشاعرين قد أحيا الشعر العربي، ورد إليه نشاطه ونضرته ورواءه، وكلا الشاعرين قد مهد أحسن تمهيد للنهضة الشعرية المقبلة التي لابُدَّ من أنْ تقبل، هما أشعر أهل الشرق العربي منذ مات المتنبي وأبو العلاء من غير شك، هما ختام هذه الحياة الأدبية الطويلة الباهرة التي بدأت في نجد وانتهت في القاهرة، وعاشت خمسة عشر قرنًا أو أكثر، والتي ستستحيل وتتطور وتستقبل لونًا جديدًا من ألوان الفن، وضربًا جديدًا من ضروب المثل العليا في الشعر. هما أشعر العرب في عصرهما، ولكن أيهما أشعر من صاحبه؟

أفترى أن ليس من هذا الحكم بدٌّ؟ أفترى أنَّ تفضيل أحد الرجلين على صاحبه يغني أو يفيد؟ نعم، ليس من هذا الحكم بدٌّ؛ لأنه تقرير الحق الواقع، وفي هذا الحكم نفع عظيم؛ لأنه وضعٌ للأشياء في نصابها، ولأنه يبين للمبتدئين في الشعر من الشبان أين يكون المثل الأعلى. أما أنا فلا أستطيع أنْ أقول إنَّ أحد الشاعرين خير من صاحبه على الإطلاق، ولكن شوقي لم يبلغ ما بلغ حافظ من الرثاء، ولم يحسن ما أحسن حافظ من تصوير نفس الشعب وآلامه وآماله، ولم يتقن ما أتقن حافظ من إحساس الألم، وتصوير هذا الإحساس وشكوى الزمان، لم يبلغ شوقي من هذا ما بلغ حافظ، وهو بعد هذا أخصب من حافظ طبيعة، وأغنى منه مادة، وأنفذ منه بصيرة، وأسبق منه إلى المعاني، وأبرع منه في تقليد الشعراء المتقدمين؛ لأن حافظًا كان يقلد في الألفاظ والصور، وكان شوقي يقلد فيها وفي المعاني أيضًا، ولشوقي فنون لم يحسنها حافظ، وما كان يستطيع أنْ يحسنها. شوقي شاعر الغناء غير مدافع، وشوقي شاعر الوصف غير مدافع، وشوقي منشئ الشعر التمثيلي في اللغة العربية. يلتقي الرجلان في كثير، ويفترق الرجلان في كثير، ولكنهما — على كل حال — أعظم المحدَثين حظًّا في إقامة مجدنا الحديث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤