الفصل الخامس

شعراؤهم!

وما رأيك في أنْ ندع اليوم شعرنا الحديث وشعراءنا المحدثين؛ لنقف عند طائفة من شعراء الفرنجة، نرى كيف يشعرون، وكيف يعلنون شعورهم إلى الناس، وكيف يلائمون بين أذواقهم الخاصة وبين أذواق من يتحدثون إليهم من القراء، وأنا أعلم أنْ ليس هذا بالشيء اليسير، فلو أني حدثتك عن هؤلاء الشعراء دون أنْ أنقل إليك شيئًا من شعرهم لأضعت وقتك ووقتي، ولكان حديثنا عبثًا لا خير فيه، وإذن فلا بُدَّ من أنْ أترجم لك طائفة من هذا الشعر الأجنبي وأعرضه عليك نماذج أتخذها موضوعًا لأحاديث مقبلة.

ولكن أتظن أمر هذه الترجمة يسيرًا؟ أما أنا فأعترف بأنه أشق وأعسر مما كنت أقدِّر، فالذوق الغربي مخالف من وجوه كثيرة لذوقنا الحديث على تغيره وتطوره، وفي اللغات الأجنبية مرونة ويسر لم يُتاحا بعدُ للغتنا العربية، ومن هنا كانت في الشعر الأجنبي خاصة، والأدب الأجنبي عامة صور قد يعسر جدًّا نقلها إلى اللغة العربية، حتى إذا نقلت لم نسغها، ولم تطمئن إليها نفوسنا وآذاننا، ومع ذلك فهي تعجبنا وترضينا كل الرضا حين نراها في لغاتها الأجنبية الخاصة، ومصدر ذلك فيما نعتقد؛ أننا لم نتعوَّد أنْ نرى في لغتنا العربية مثل هذه الصور، وما هي إلَّا أنْ نكثر الترجمة والنقل، ونجدُّ فيهما حتى نألف هذه الصورة، ويتأثر بها ذوقنا، ونحاول أنْ نحتذيها ونحاكيها، فلنبدأ غير خائفين ولا مترددين.

•••

ولن أترجم اليوم إلَّا مقطوعات قصارًا قصد بها أصحابها تصوير طائفة من عواطفهم الخاصة في ظروفٍ خاصة، حتى إذا أسغت هذا النوع من الشعر وألفت قراءته والاستماع له كان من اليسير أنْ ننتقل بك إلى ترجمة القصائد الطوال توضع في الأغراض ذات الخطر.

وأنا أقف بك الآن عند هذه المقطوعة القصيرة من شعر بودلير Baudelaire التي سماها: «خلوة إلى النفس» والتي تحدث فيها إلى ألمه. وأحب أنْ تقرأها في شيءٍ من التفكير والرويَّة، وأنْ ترى معي كيف استطاع الشاعر أنْ يتحدث إلى ألمه في هذه الدعة والإذعان والازدراء، وأنْ يصور أثناء هذا الحديث الطبيعة التي تحيط به، ويمثل ما بين هذه الطبيعة وبين نفسه في هذه اللحظة التي يصفها، فهو إذن عندما يخلو إلى نفسه لا يقطع الصلة بينها وبين الطبيعة، بل كل ما يستطيع أنْ يصل إليه هو أنْ يحاول اعتزال الناس لحظة، ولكنه يعتزل الناس ليتصل بالطبيعة اتصالًا قويًّا، قال بودلير:

خلوة إلى النفس!

شيئًا من الهدوء والدعة أيها الألم!
لقد كنت تبتغي المساء، فها هو ذا يهبط، فانظر إليه!
هذا جو مظلم يغمر المدينة، يحمل الطمأنينة إلى قومٍ والهمَّ إلى آخرين!
بينما أوشاب الناس يجنون الندم من اللهو الدنيء، يدفعهم إليه سوط اللذة، هذا الجلَّاد الذي لا رحمة له، أعطني أيها الألم يدك وتعال هنا بعيدًا منهم!
انظر إلى السنين الخالية مطلة في أثواب بالية من طنف السماء!
وانظر إلى الأسف المبتسم تنشق عنه أعماق الماء! وإلى الشمس المحتضرة تنام تحت قوس من أقواس هذا الحبور، واسمع أيها الألم العزيز لليل الحلو يمشي وكأنه كفن طويل ينسحب في الشرق!

وانظر إلى هذه المقطوعة الأخرى للشاعر نفسه، وقد سماها «النافورة» وهي من مشهور شعره الذي تناوله الموسيقيون فأبدعوا في توقيعه، كما أبدع هو في تصويره. ولا تحكم عليه بهذه الترجمة فتظلمه، ولكن احكم عليه إنْ شئت بنصه في الفرنسية، وبالصورة الموسيقية التي استطاع الموسيقيون أنْ يحمكوا بها، وأحب أنْ تقف بنوع خاص عند هذا التشبيه الذي تدور عليه المقطوعة كلها، فصاحبنا قد رأى النافورة ورأى الماء يَصَّاعد منها في قوة كأنه باقة من الزهر حتى إذا انتهى به التصعيد إلى أقصاه، عاد فتساقط على الأرض قطرات عراضًا كل ذلك على تأثره بضوء القمر. رأى هذا فأعجبه، وإذا هو يثير في نفسه معنًى آخر متصلًا بحبه وحزنه لهذا الحب، وإذا هو يشبه نفس صاحبته حين يحفزها الهوى وتملكها العاطفة فتسمو إلى أسمى أطوار الشوق، ثم يأخذها القصور الإنساني فتعصف وتهبط، وإذا هي قد انتهت إلى هذا النوع من اللذة الذي ينتهي إليه الحب عادة شبه هذه النفس بهذا الماء المندفع من النافورة، وعسير علينا نحن أنْ نتصور النفس كما تصوَّرها بودلير.

ولكننا مع ذلك عندما نقرأ هذا الشعر، ولا سيما في نصه الفرنسي لا نملك أنفسنا من الإعجاب والرضا، ثم انظر إلى آخر هذه المقطوعة كيف تحدث الشاعر فيه إلى الطبيعة في طور من أطوارها، وكيف اتخذها مرآة لحبه الحزين!

النافورة

في عينيك الجميلتين سقم أيتها العاشقة المسكينة!
دعيهما كذلك زمنًا لا تفتحيهما … دعيهما في هذه الهيئة الفاترة كما فاجأتهما اللذة!
هذه النافورة في الفِناء لها أزيز لا ينقطع في الليل ولا في النهار، يستبقي في هدوء هذا الذهول الذي غمرني به الحب منذ الليلة!
هذه الباقة التي تتفتح في زهرٍ لا يحصى، والتي يزينها القمر المبتهج بألوانه، تساقط كأنها مطر من دموع ثقال!
كذلك نفسك التي يحرقها برق اللذة الملتهب، تصعد سريعة جريئة نحو السماوات الواسعة المشرقة، ثم ترتد وقد أحالها الضنى موجة من الفتور الحزين تنحدر من طريقٍ خفية إلى أعماق قلبي!
هذه الباقة … من دموعٍ ثقال!
إيهِ أيتها التي يخلع الليل عليها هذا الجمال، أحبب إليَّ بأن أسمع — مائلًا نحو ثدييك — هذه الشكاة المتصلة التي تنوح في الحوض!
أيها القمر، أيها الماء المصطفق، أيتها الليلة المباركة، أيها الشجر يهتز في خفة، إنما اكتئابكن النقي مرآة ما أجد من حب!
هذه الباقة … من دموع ثقال!
ثم لندع الآن بودلير، ولننتقل إلى شاعر آخر، هو سولي بريدوم Sully Prudhmme، ولنبدأ من شعره بهذه المقطوعة المشهورة التي ترجمتها لك، دون أنْ أغير شيئًا من وضعها الفرنسي، محمِّلًا لغتنا العربية في ذلك بعض المشقة، وقد أراد الشاعر أنْ يصوِّر في هذه الأبيات إعجابه بالعيون الحسان، وحزنه على ما يملؤها من الظلمة حين يدركها الموت:

العيون

زرق أو سود، كلهن محبوبات، وكلهن حسان! عيون لا تحصى رأين الفجر، قد انطوت عليهن أعماق القبور والشمس ما تزال تشرق!
ليال أودع من النهار أبهجن عيونًا لا تحصى، وهذه النجوم ما تزال تلمع، وقد ملأت الظلمة تلك العيون!
لهفي! أتراها فقدت لحظها …؟! كلا كلا، ليس إلى هذا سبيل، إنما تحولت إلى بعض الوجوه، نحو سبيل ما يسمونه الغيب!
وكما أنَّ النجوم تفارقنا حين تنحدر، ولكنها تظل في السماء، فللحدق غروبها، ولكن ليس حقًّا أنها تموت!
زرق أو سود كلهن محبوبات، وكلهن حسان ناظرات من وراء القبر إلى فجرٍ عريض، تلك الأعين التي أغمضت ما تزال ترى!

وهذه المقطوعة الأخرى التي يمثل فيها الشاعر في لفظ عذب وقوة لا حد لها؛ طموحه إلى المثل الأعلى وعجزه عن الوصول إليه وثقته بمستقبل الإنسان:

المثل الأعلى

القمر مكتمل والسماء مشرقة تملؤها النجوم، والأرض شاحبة، ونفس الكون تملأ الفضاء!
وأنا أتبع النجم الأعلى ذلك الذي لا يُرى، ولكن ضوءه يعبر الأجواء، حتى يصل إلى حيث نحن، فتبتهج به عيون جيل آخر!
فإذا لمع يومًا هذا النجم الذي هو أزهى النجوم وأنآها فقل له: إني أحببته يا آخر أجيال الناس.

ثم هذه الأبيات التي يشبه فيها الشاعر صدور البكاء عما يستكن في أنفسنا من الحزن والحنان اللذين تهيجهما بعض العواطف بتساقط الندى الذي يتكون في الهواء، ثم تسقط به رطوبة الجو!

السهل الندى

أنا ذاهل في قطرات الندى التي وضعتها يد الليل الرطبة على خمل الزهر، تأتلف لآلئ في خفة!
من أين جاءت هذه القطرات المضطربة؟ ليست السماء ممطرة! والجو صحو! ذلك أنها كانت كلها في الهواء قبل أن تتكون!
من أين جاءت دموعي؟ كل شعلة في أعماق السماء حلوة هذا المساء! ذلك أنِّي كنت أضمرهن في نفسي قبل أنْ أحسهن في عيني!
إنَّ في نفوسنا لحنانًا تضطرب فيه الآلام جميعًا، ورب مسة رفيقة هاجتها فأنبتت فيها البكاء!

وهذه المقطوعة الأخرى التي يمثل فيها الشاعر أحب أوقات الحب إليه، وأشدها أثرًا في نفسه، وأبقاها ذكرى في قلبه:

ساعات الحب

ليست خير ساعات الحب تلك التي تقول فيها إني أحبك
إنما هي ساعة الصمت المتصل الذي لا يكاد ينقطع
إنما هي فيما بين القلوب من توافق سريع خفيف
إنما هي في القسوة المتكلفة والعفو الخفي
إنما هي في قشعريرة الذراع توضع عليها اليد المضطربة
وفي الصحيفة يقلبها المحبَّان معًا، على أنهما لا يقرآنها
ساعة فذة يقول فيها الفم المطبق بحيائه وحده شيئًا كثيرًا
يتفتح فيها القلب على رفق كما ينشق الكم عن الوردة!
يتنسم فيها المحب أرج الشعر، فكأنما فاز بأعظم الزلفى!
ساعة الحنان الحلو حين يكون الإجلال نفسه اعترافًا بالحب!

وقد أطلت عليك، ولا بُدَّ مع ذلك من العودة إلى هذين الشاعرين وشعراء آخرين بالنقل عنهم حينًا، والتحدث عن شعرهم حينًا آخر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤