الفصل الأول

ماذا يعني علم الاستغراب؟

أولًا: المشروع وجبهاته الثلاثة

(١) مشروع «التراث والتجديد»: الجبهات الثلاثة

يتكون مشروع «التراث والتجديد» من جبهات ثلاثة: موقفنا من التراث القديم، موقفنا من التراث الغربي، موقفنا من الواقع (نظرية التفسير). ولكل جبهة بيان نظري. ولما كان البيان النظري للجبهة الأولى «موقفنا من التراث القديم» قد صدر منذ عشر سنوات تقريبًا، كما صدر الجزء الأول منها «من العقيدة إلى الثورة» في طبعتيه المصرية والعربية العام الماضي ١٩٨٨م، آثرت إصدار هذا البيان النظري للجبهة الثانية «موقفنا من التراث الغربي» أو «مقدمة في علم الاستغراب» دون انتظارٍ لباقي أجزاء الجبهة الأولى التي أعيدُ فيها بناء العلوم القديمة العقلية النقلية الأربعة، والعلوم النقلية الخمسة، والعلوم العقلية الخالصة، الرياضية والطبيعية والإنسانية،١ وهي علوم الدوائر والأسهم التي نشأت حول المركز، وهو الوحي، أو انطلاقًا منه صعودًا أو هبوطًا؛ علوم الدوائر لإنشاء النظريات، وعلوم الأسهم لتأسيس المناهج.٢ وقد يغني هذا البيان النظري الثاني «موقفنا من التراث الغربي» عن تنفيذه في أجزائه الثلاثة مؤقتًا حتى تكتمل الأجزاء السبعة للجبهة الأولى. أما البيان النظري الثالث عن الجبهة الثالثة «موقفنا من الواقع» (نظرية التفسير) فإنه مؤجل إلى حينٍ حتى تتحقق الأجزاء السبعة للجبهة الأولى والأجزاء الثلاثة للجبهة الثانية. بعد ذلك يتم تنفيذ البيان النظري الثالث في أجزائه الثلاثة، وبالتالي يكتمل المشروع على النحو الآتي:
وتبدو الجبهة الأولى أضخم وأكثر تفصيلًا لأنها أعمق في التاريخ؛ إذ إنها تمتد إلى ما يزيد على ألف وأربعمائة عام. وهي الأكثر حضورًا في وعينا القومي وتاريخنا الثقافي. معظم أجزائها انتقال من مرحلة إلى أخرى باستثناء الجزأين الأخيرين اللذين يؤكدان الأبعاد الغائبة في وعينا القومي الحالي وهي العقل والطبيعة والإنسان والتاريخ.٣ أما أجزاء الجبهة الثانية فقد تم ضمها في أقل قدر ممكن بحيث يتم التركيز على بنية الموضوع ذاته، وهو الوعي الأوروبي، أكثر من التركيز على مراحله التاريخية: العصر الوسيط (عصر آباء الكنيسة والعصر المدرسي المتقدم والمتأخر)، والإصلاح الديني وعصر النهضة (القرنان الخامس عشر والسادس عشر)، والعقلانية والتنوير (القرنان السابع عشر والثامن عشر)، والعلمية والوجودية (القرنان التاسع عشر والعشرون). أما الجبهة الثالثة فقد بدأت أجزاؤها الثلاثة من الحاضر إلى الماضي على نحو تراجعي لا زماني، فالحاضر هو الذي يكشف الماضي، واكتمال الوحي إنما يكشف عن مراحله. كما أن قصر العمر جعل «المنهاج» يسبق «العهد الجديد» و«العهد القديم». وكنا قد حددنا هذا المشروع الثلاثي الجبهات من قبلُ، منذ ربع قرن من الزمان، منذ ١٩٦٥-١٩٦٦م في رسائلنا الجامعية الثلاثة: «مناهج التفسير، محاولة في علم أصول الفقه»، «تفسير الظاهريات، الحالة الراهنة للمنهج الظاهرياتي وتطبيقه في ظاهرة الدين»، «ظاهريات التفسير، محاولة لتفسير وجودي للعهد الجديد».٤

وتشير هذه الجبهات الثلاثة إلى جدل الأنا والآخر في واقع تاريخي محدد. فالجبهة الأولى «موقفنا من التراث القديم» تضع الأنا مع تاريخها الماضي وموروثها الثقافي. والجبهة الثانية «موقفنا من التراث الغربي» تضع الأنا في مواجهة الآخر المعاصر وهو الوافد الثقافي الغربي أساسًا، والجبهة الثالثة «موقفنا من الواقع (نظرية التفسير)» تضع الأنا في خضم واقعها المباشر تحاول تنظيره تنظيرًا مباشرًا فتجد النص جزءًا من مكوناته، سواء كان نصًّا دينيًّا مدونًا من الكتب المقدسة، أو نصًّا شعبيًّا شفاهيًّا من الحكم والأمثال العامية. الجبهتان الأوليان حضاريتان بينما الجبهة الثالثة واقع مباشر. ويمكن رؤية الجبهات الثلاثة وكأنها أضلاع مثلث والأنا في وسطها. الأول للتراث القديم (الماضي)، والثاني للتراث الغربي (المستقبل)، والثالث للواقع المباشر (الحاضر)، على النحو الآتي:

فإذا كانت الجبهة الأولى تتعامل مع الموروث فإن الجبهة الثانية تتعامل مع الوافد. وكلاهما يصبان في الواقع الذي نعيش فيه. وفي كل موقف حضاري توجد ثلاثة عوامل للإبداع فيه: الموروث، والوافد، ومواطن الإبداع أو بوتقته التي ينصهر فيها الموروث والوافد.

كما تطابق هذه الجبهات الثلاثة أبعاد الزمان الثلاثة: الماضي والمستقبل والحاضر. فإذا كانت الجبهة الأولى تمثل الماضي الذي يشدنا إليه فإن الجبهة الثانية تمثل المستقبل الذي نرنو إليه. والجبهة الثالثة تمثل الحاضر الذي نعيش فيه.

والواقع أن الجبهات الثلاثة تُردُّ إلى جبهتين اثنتين فقط: النقل والإبداع، الزمان (الماضي والمستقبل) والمكان (الحاضر)، الفكر والواقع، الحضارة والتاريخ؛ فالجبهتان الأولى والثانية بالرغم من اختلافهما من حيث المصدر الثقافي، التراث القديم أو التراث الغربي، إلا أن كليهما نقل، نقل من القدماء أو نقل من المعاصرين، كلاهما تراث، تراث الأنا أو تراث الآخر، قال ابن تيمية أو قال ماركس، قال الغزالي أو قال جون ستيوارت مِل. كلاهما بهذا المعنى حركتان سلفيتان تجعلان النقل أساس العقل كما هو الحال في الحركة السلفية المعاصرة أو الاتجاهات العلمانية أو الحديثة. والتحدي أمام كليهما هو غياب الطرف الآخر، أي الواقع الحالي الذي هو أساس الإبداع، وتصور أن كلًّا منهما طرف للآخر ينافسه على الواقع الغائب مع أن كليهما طرف واحد أمام الطرف الثاني الغائب. وغياب الطرف الحقيقي، أي الواقع الحالي، يخلق طرفًا وهميًّا فيظهر الصراع بين الإخوة الأعداء، وينشق الصف، وتنفصم العروة الوثقى، عروة الوحدة الوطنية.

والجبهات الثلاثة ليست منفصلة بعضها عن بعضٍ بل تتداخل فيما بينها، ويخدم بعضها بعضًا. فإعادة بناء التراث القديم بحيث يكون قادرًا على الدخول في تحديات العصر الرئيسية يساعد على وقف التغريب الذي وقعت فيه الخاصة. وهي لا تعلم من التراث إلا التراث المضاد لمصالح الأمة، والذي أفرزته فرقة السلطان، فلم تجد حلًّا إلا في التراث الغربي. وأخْذُ موقفٍ من الغرب يساعد المتغربين على أخذ موقفٍ نقدي من التراث بدلًا من الهروب إليه وعلى إعادة اكتشاف التراث القديم بدلًا من الهروب منه. ولما كانت التحديات العصرية هي الواقع المباشر الذي يعاد فيه بناء التراثين القديم والغربي معًا، فإن أخذ موقف نقدي منهما يساعد على إبراز الواقع ذاته وفرض متطلباته على قراءة التراثين معًا.٥ وتتداخل هذه الأبعاد الثلاثة فيما بينها. فقد يكون للوعي الفردي الحضاري موقف إيجابي من التراث القديم يسبب موقفًا آخر سلبيًّا من التراث الغربي. وقد يكون له موقف إيجابي من التراث الغربي يسبب موقفًا آخر سلبيًّا من التراث القديم. أما الذي يأخذ موقفًا إيجابيًّا من الواقع فإنه قد يسأم المدخلين التراثيين ويتهمهما عن حقٍّ أحيانًا بالنظريات المجردة وبالصراع على السلطة، والواقع هو الضحية. وعادةً ما يغيب التوازن في وعينا القومي بين هذه الأبعاد الثلاثة. فقد يكون للوعي الفردي الحضاري موقفٌ نافٍ بالنسبة للتراث القديم مما يجعله يتوجه إلى التراث الغربي يجد فيه نفسه. وكلما ازداد الشعور بالقطيعة مع القديم ازداد التغريب. فينشأ وعي حضاري معاكس، كرد فعل على الوعي الحضاري الأول، يتمسك بالقديم كله، ويرفض المعاصرة كلها. فتنقسم الأمة إلى فريقين: فريق يرى أن صلته بالتراث صلة انقطاع ثم قطيعة، وفريق آخر يرى أن صلته بالتراث صلة اتصال ثم وصال، والواقع في كلتا الحالتين هو الخاسر.

(٢) الجبهة الثانية: موقفنا من التراث الغربي

وقد بدأ التراث الغربي يكون أحد الروافد الرئيسية لوعينا القومي، وأحد مصادر المعرفة المباشرة لثقافتنا العلمية والوطنية. وقد كان الآخر باستمرارٍ حاضرًا في وعينا القومي وفي موقفنا الحضاري منذ قدماء اليونان حتى محدَثي الغرب. لم تحدث بيننا وبينه قطيعة إلا في الحركة السلفية. ولم تقُم حتى الآن حركةُ نقدٍ له إلا في أقل الحدود وبمنهج الخطابة أو الجدل دون منهج النقد ومنطق البرهان. وقد يتم التركيز على هذا المصدر وحده فتنشأ ثقافتنا العلمية العلمانية وحركاتنا الإصلاحية والتحديثية وتعليمنا العصري ونُظمنا الحديثة اقتناعًا وإيمانًا أو دفاعًا عن مصالح الحكام.

وبالرغم من أن هذه الجبهة الثانية أقصر عمرًا، حوالَي مائتي عامٍ، في وعينا القومي، في مقابل الجبهة الأولى، حوالَي أربعة عشر قرنًا، إلا أنها بدأت تأخذ حجمًا في وعينا القومي أكثر من حجمها الحقيقي وهو ما نسميه بظاهرة «التغريب». وبالتالي بدأ وعينا القومي يسير على قدمين: الأولى طويلة وقوية وربما رفيعة نظرًا لأننا نجهل تراثنا القديم، والثانية قصيرة ومتورمة نظرًا لانتشار الثقافة الغربية في وعينا القومي لدرجة الانبهار بها والتبعية لها. وكان ذلك أحد الدوافع التي كانت وراء هذا الاستباق لكتابة البيان النظري الثاني عن هذه الجبهة الثانية دون انتظار لإكمال الأجزاء السبعة المتتالية للجبهة الأولى. فقد كثر الحديث عن هذه الجبهة في جيلنا هذه الأيام وبعد الصحوة الإسلامية، وأخْذ موقفٍ من الغرب ومن «التغريب» بالرفض المطلق الانفعالي كنوع من الدفاع عن الذات وتأكيدًا للهُوية، وسهولة نقد هذا الموقف بحجة مضادة، وهي أن كل ما في الغرب ليس مرذولًا، وأننا في كل لحظة من حياتنا نتمتع بما ينتجه الغير. وكلاهما موقفان جدليان، والجدل غير البرهان. كلاهما خاطئان، ومجموع الخطأين لا يكوِّن صوابًا. موقف الرفض صحيح من حيث المبدأ De Jure، فلا بداية إلا من الأنا، ولكنه خاطئ من حيث الواقع De Facto أي ترك الغرب كموضوع دراسة. وموقف القبول خاطئ من حيث المبدأ فعَلاقة الأنا بالآخر عَلاقة تضاد وليست عَلاقة تماثل، ولكنه صحيح من حيث الواقع، أي ضرورة التعلم والتعرف على حضارات الآخر، بصرف النظر عن مصدرها، ثم تمثُّلها واحتوائها وإكمالها. وقد آن الأوان لتصحيح هذين الخطأين، ونقل الموضوع من مستوى الانفعال إلى مستوى الفعل، ومن ردود الأفعال إلى التحليل العلمي الرصين.
وتشمل الجبهة الثانية أيضًا بعد هذا البيان النظري الثاني عدة أجزاء لإعادة وصف الوعي الأوروبي منذ مصادره الأولى، ونشأته وتطوره حتى اكتماله وانهياره ونهايته. والخلاف في المنهجين بين الجبهة الأولى عن التراث القديم والجبهة الثانية عن التراث الغربي ناتج عن طبيعة الحضارتين الإسلامية والغربية؛ فالأولى حضارة مركزية نشأت علومها انطلاقًا من مركز واحد كدائرتين متداخلتين، الصغرى تمثل علم أصول الدين وتتعامل مع الداخل أساسًا، وهو الموروث، تنظيرًا للمركز في مواجهة الواقع. والكبرى تتعامل مع الخارج أساسًا، وهو الوافد، تمثُّلًا له في مواجهة الداخل الموروث، وحمايةً له من الجمود والتقوقع على الذات. وسهمان منطلقان أيضًا من المركز؛ الأول صاعد من العالم إلى الله وهي علوم التصوف، والثاني نازل من الله إلى العالم وهو علم أصول الفقه. وتطوُّر هذه العلوم إنما يكشف عن بنائها. فالتطور جزء من البناء كما أن البناء يكتمل بالتطور.٦
أما الحضارة الغربية فإنها حضارة طردية، أي أنها نشأت تحت أثر الطرد المستمر من المركز ورفضًا له، بعد اكتشاف عدم اتساقه مع العقل أو تطابقه مع الواقع، ثم إنشاء علوم عقلية وطبيعية وإنسانية تقوم على أدوات جديدة للمعرفة، العقلية أو الحسية، وابتداءً من بؤرة جديدة وهي الإنسان. نشأت الحضارة الأوروبية كتطور صرف دون بناء. لذلك غلب عليها المنهج التاريخي كما ظهر في المدرسة التاريخية وفي الماركسية وفي العلوم التاريخية التي سُمِّيَت فيما بعد العلوم الاجتماعية ثم العلوم الإنسانية قبل إعادة النظر في أسسها المعرفية في الفترة الحالية كما هو الحال في البنيوية وفلسفة الاختلاف … إلخ. وبالتالي خرجت أجزاء الجبهة الثانية تصف الوعي الأوروبي في لحظاته التاريخية المتتالية وليست في بنية علومه كما هو الحال في الجبهة الأولى. وقدَّمَت تكوينَ الوعي الأوروبي أكثر مما قدَّمَت بنيته. وهذا لا يمنع من تحول هذا التاريخ نفسه إلى بنية أو عقلية ترى الظواهر والحقائق كلها تاريخًا وتطورًا، وتنكر الثبات لحساب التغير أولًا ثم تنكر التغير لحساب لا شيء ثانيًا. ولقد تم الإعلان من قبلُ عن هذه الأجزاء الخمسة على النحو الآتي:
  • (١)

    آباء الكنيسة والعصر المدرسي (من القرن الأول حتى القرن الرابع عشر).

  • (٢)

    الإصلاح الديني وعصر النهضة (القرنان الخامس عشر والسادس عشر).

  • (٣)

    العقلانية والتنوير (القرنان السابع عشر والثامن عشر).

  • (٤)

    الوضعية والعلمية (القرن التاسع عشر).

  • (٥)
    الوجودية والتحليلية (القرن العشرون).٧
ونظرًا لقصر العمر وطول المهمة رأيت إدماج هذه الأجزاء الخمسة في ثلاثة فقط، وربما أيضًا للتخفيف من الطابع التاريخي للجبهة الثانية بالرغم من تاريخية الوعي الأوروبي، أي كونه من صنع التاريخ Diachronic في مقابل الوعي الإسلام الماهوي Synchronic. وهي ثلاثية الوعي الأوروبي على النحو الآتي:
  • (١)

    مصادر الوعي الأوروبي. وفيه الكشف عن مصادره المعلنة والخفية؛ المعلنة مثل المصدر اليوناني الروماني والمصدر اليهودي المسيحي، والخفية مثل المصدر الشرقي القديم والبيئة الأوروبية نفسها، وذلك في فترة التكوين من القرن الأول حتى القرن الرابع عشر. ويضم عصر آباء الكنيسة اليوناني واللاتين في القرون السبعة الأولى ثم العصر المدرسي المتقدم والمتأخر في القرون السبعة التالية.

  • (٢)

    بداية الوعي الأوروبي. وفيه يتم الكشف عن بداية تكوُّن الوعي الأوروبي في عصرَي الإصلاح الديني وعصر النهضة في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، ثم وضع البداية في الكوجيتو والعقلانية في القرن السابع عشر، وانفجاره في التنوير والثورة في القرن الثامن عشر.

  • (٣)

    نهاية الوعي الأوروبي. وفيه يتم الكشف عن التحول الرئيسي في مسار الوعي الأوروبي من الأنا أفكر إلى الأنا موجود وبداية نقد الوعي الأوروبي لنفسه ونقد ماضيه وما وضعه بنفسه، نقد المثالية والوضعية واكتشاف طريق ثالث يضم «الفم المفتوح» ويغلقه في الظاهريات.

ومع ذلك فقد حوى هذا البيان النظري الثاني قسمة رباعية للموضوع في أربعة فصول: الأول «ماذا يعني علم الاستغراب؟» لتحديد الجبهات الثلاثة لمشروع التراث والتجديد وبيان الجبهة الثانية، ثم محاولة تعريف العلم الجديد «علم الاستغراب» في مقابل «الاستشراق» وبيان دوافعه، والرد على المركزية الأوروبية، وضرورة التحول من النقل إلى الإبداع، ثم بيان نتائج العلم المتوقعة، ثم تحديد جذوره التاريخية ووصف الحالة الراهنة لإرهاصات هذا العلم سواء عند المعاصرين لي أو في مؤلفاتي السابقة، وأخيرًا الرد مسبقًا على بعض الشبهات والمخاوف.

والثاني تكوين الوعي الأوروبي، ويشمل تاريخيته كلها؛ مصادره، وبدايته، ونهايته من أجل اكتشاف التكوين التاريخي لهذا الوعي والقضاء على أسطورة الثقافة العالمية، والحضارة الممثلة للحضارات البشرية جميعًا، مطبقًا المنهج التاريخي الذي طالما طبقه الاستشراق على الحضارة الإسلامية، وكذلك منهج الأثر والتأثر ومنهج التحليل ومنهج الإسقاط التي طالما عانينا منها في دراسات المستشرقين الأوروبيين للحضارات اللاأوروبية.٨

والثالث «بنية الوعي الأوروبي»: وفيه يتم التحول من التكوين إلى البنية، وبيان العناصر الثابتة في «العقلية الأوروبية» التي تراكمت عبر التكوين والتي طبعتها بطابع خاص، وأعطتها سمات ثابتة دون الوقوع في العنصرية البيولوجية أو الشعوبية أو الحضارية، وتطبيق «علم اجتماع المعرفة» على هذا الوعي الفريد الذي طالما أوحى أنه خَلْق عبقري على غير منوال. والتكوين يسبق البنية لأن البنية حصيلة التاريخ وليست مستقلة عنه.

والرابع «مصير الوعي الأوروبي»: وفيه يتم استبصار مسار الوعي الأوروبي المستقبلي، وتحديد مسار الآخر في تداخله وتقابله مع مسار الأنا في الجبهة الأولى، وتبادل الأدوار عبر التاريخ بين المعلم والمتعلم، بين الأستاذ والتلميذ. فإذا كانت «مصادر الوعي الأوروبي» تمثل الماضي فإن «تكوين الوعي الأوروبي» و«بنية الوعي الأوروبي» يمثلان الحاضر. أما «مصير الوعي الأوروبي» فإنه بُعد المستقبل.٩

ويخرج مشروع «التراث والتجديد» في مرحلة التحول من قرن إلى قرن. فإذا كان البيان النظري الأول للجبهة الأولى «موقفنا من التراث القديم» قد ظهر في نهاية القرن الرابع عشر وبداية القرن الخامس عشر الهجريين فإن البيان النظري الثاني للجبهة الثانية «موقفنا من التراث الغربي» يصدر أيضًا بالنسبة للغرب في نهاية القرن العشرين وعلى مشارف قرن جديد وهو القرن الواحد والعشرون الذي كثر الحديث عنه في الغرب، خاصة في اليابان، امتداد الغرب في الشرق واحتواء الشرق للغرب. وإذا كان البيان النظري الأول إعلانًا لميلاد نهضة جديدة بالنسبة للأنا فإن البيان النظري الثاني إعلان لنهاية نهضة قديمة نشأت وتطورت واكتملت وبدأت في الأفول بالنسبة للآخر.

وتؤسَّس العلوم الجديدة في لحظات التحول التاريخي. تم ذلك في التراث الغربي ذاته وهو في بداية تحوله من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة في «المنطق العظيم» أو «الشامل» Ars Magna, Ars Universalis لريمون لول (١٢٣٥–١٣١٥م) لتأسيس فن الجدل والحوار مع الخصوم؛ «الآلة الجديدة» Novum Organum لفرنسيس بيكون (١٥٦١–١٦٢٦م) لتأسيس المنطق التجريبي الجديد في مقابل المنطق الصوري القديم؛ «العلم الجديد» New Science لجاليليو (١٥٦٤–١٦٤٢م) لتأسيس علم الفلك الجديد؛ العلم الجديد Scieza Nouova لفيكو (١٦٦٨–١٧٤٤م) لتأسيس فلسفة التاريخ … إلخ. وهناك نماذج عديدة من تراثنا القديم تأسست فيها أيضًا العلوم ببيانات نظرية ومقدمات منهجية مثل: «الرسالة» للشافعي لتأسيس علم أصول الفقه، و«كتاب سيبويه» لتأسيس علم النحو، و«كتاب العروض» للخليل بن أحمد الفراهيدي لتأسيس علم العروض، و«مقدمة» ابن خلدون لتأسيس علم العمران. فهذا البيان النظري عن الجبهة الثانية إنما يهدف إلى تأسيس «علم الاستغراب».

ولا يدخل هذا العلم الجديد كجزء من أدبيات الشرق والغرب، سواء من منظور الصراع والتقابل والتضاد، أو من منظور التعاون والحوار والالتقاء. إذ يغلب على هذه الأدبيات الطابع الشعبي الصحفي الإعلامي، وكما يبدو ذلك في الأحاديث اليومية أو الطابع الأدبي الفلسفي، رُوحانية الشرق في مقابل مادية الغرب، «عصفور من الشرق» أو «ظلام من الغرب» كما هو الحال في الأعمال الأدبية والفنية، أو الطابع السياسي المذهبي كما يبدو في الصراعات السياسية والحروب الباردة أو الساخنة بين الكتلتين. إنما يهدف هذا العلم الجديد إلى تحويل هذه المادة القديمة إلى إطار نظري محكم ومنطق حضاري دقيق.

وقد تأتي مادة مشابهة للاستغراب من داخل الحضارة الأوروبية ذاتها، خاصة في الآونة الأخيرة عندما بدأ الوعي الأوروبي يؤرخ لذاته، يراجع نفسه، وينقد مساره، يكشف عن مصادره التي طالما ضرب حولها مؤامرة صمت، يعترف بقلقه وتوتره، ويعبر عن حيرته المستمرة بين صورية فارغة ومادية غليظة حتى انتهى به الأمر إلى النسبية والشك في كل شيء، وإلى تكافؤ الأدلة والعدمية. هذه المادة التي يأتي بها الوعي الأوروبي لذاته كنوع من النقد الذاتي واضعًا نفسه في مرآة نفسه، تختلف عن مادة الاستغراب التي يتم فيها رؤية الغرب من منظور اللاغرب، ورؤية الآخر من منظور الأنا. هذه المادة الثانية مادة أولى وليست مادة جاهزة، نتيجة لوصف الأنا للآخر وليس وصف الآخر لنفسه تنقلها الأنا عنه، مادة من جهد الأنا وإبداعه وليست من إفراز الآخر وقيئه.١٠ مادة الاستغراب محلية صرفة من صنع الأنا وتنظيرها وتحديدها لعَلاقتها بالآخر وجدلها معه، وليست من نقد الآخر لنفسه ثم تُقلِّده الأنا وتستعير نقده لنفسه باعتباره نقْدَها، وبالتالي تُقلِّد الأنا حتى وهي ترغب في التحرر، وكأن التقليد أصبح في رُوحها، تتوهم الحياة وهي تموت بالتفاف الآخر من جديد حول عنقها.

ثانيًا: الاستغراب والاستشراق

(١) «الاستغراب» في مواجهة «التغريب»

وقد نشأ «علم الاستغراب» Occidentalism في مواجهة التغريب Westernization الذي امتد أثره ليس فقط إلى الحياة الثقافية وتصوراتنا للعالم وهدد استقلالنا الحضاري، بل امتد إلى أساليب الحياة اليومية ونقاء اللغة ومظاهر الحياة العامة وفن العمارة. صاحب الانفتاحَ الاقتصادي في الرأسمالية العالمية الانفتاحُ اللُّغوي على الألفاظ الأجنبية. فكل كلمة عربية تتجاوز عقدة نقصها بإلحاقها بكلمة غربية، أو تُنقل الألفاظ الإفرنجية إلى الحروف العربية.١١ وضاعت اللغة الفصحى، وازدوجت مع العامية. ولم يعد أحد قادرًا، لا من القادة ولا من رجال الإعلام ولا حتى من المثقفين وأساتذة الجامعات، على الحديث بلغة عربية سليمة دون لحن. وأصبحت صورتنا في العالم العربي الذي حافظنا على عروبته من خلال بعثاتنا التعليمية، أننا آخر من يتكلم العربية على نحو سليم، وسبقنا في ذلك المغرب والشام. وأصبحنا نُعرف بلهجاتنا العامية المصرية وليس بلغتنا العربية الفصحى إلا في قراءة القرآن الكريم. وهروبًا من الإعراب نسكِّن آخر الكلمات، وهو أضعف الإيمان.

وتحولت مدننا إلى خليط من أساليب العمارة لا هُوية لها. فلا هي تقليدية حافظت على الطابع القديم، ولا هي حديثة لها طابع الحداثة، ولا هي عملية ناتجة عن مقتضيات البيئة. كما غاب الزي الوطني، وبدأ رد الفعل بالزي الإسلامي، واللحية والجلباب كأحد مظاهر التمسك بالهُوية. وإذا ما ذهبنا إلى باقي العالم العربي، إلى تونس أو المغرب أو اليمن أو السودان، أو حتى إلى الدول النفطية في الحجاز أو الخليج، وجدنا أقل قدر من الطابع العربي القديم أو المتجدد، وأصدرنا حكمًا على أننا في بلد عربي زيًّا، وعمارة، وأسلوب حياة، إلا في مصر. لم يعد لدينا زي وطني نلبسه في الأعياد الوطنية. وكلما زاد التغريب في أساليب الحياة العامة زاد التمسك بالزي الوطني أو الإسلامي كرد فعل، وكما حدث في الثورة الإسلامية في إيران ولدى الجماعات الإسلامية المعاصرة في مصر، والتمسك بالطب النبوي في مواجهة الطب الحديث، وبعلوم القرآن في مواجهة العلوم العصرية. وفي الجَمَل غِنًى عن وسائل المواصلات الحديثة، وفي الخَيمة بديل عن المساكن. كل ذلك يعبر عن أزمة ضِيق بمظاهر التغريب أكثر مما يعبر عن تخلف في رؤية، مجرد رد فعل على فعل. ومعظم النقد لرد الفعل هذا يتوجه للنتيجة ويترك السبب، يدهش من المعلول ويترك العلة، يسخر من النتائج ويستسلم للمقدمات. كما بدأت الهجرة إلى الغرب تشكل أحد البواعث الدفينة لدى جموع الناس، وانفك الارتباط بالأرض الذي كان السمة الغالبة في الشخصية الوطنية، ووقف الناس أمام أبواب السفارات طلبًا للهجرة، وضاع احترام المواطنين. كما أصبح الاستيراد هو هم التاجر والمستهلك، وتحول الاقتصاد الوطني إلى اقتصاد تابع، وفي عصر الانفتاح ظهر طلعت حرب وكأنه حُلم مجهَض، وعبد الناصر وكأنه كان كثيرًا علينا.

كما تحولت مساحة كبيرة من ثقافتنا المعاصرة إلى وكالات حضارية للغير، وامتداد لمذاهب غربية اشتراكية، ماركسية، ليبرالية، قومية، وجودية، وضعية، شخصانية، بنيوية، سيريالية، تكعيبية … إلخ. حتى لم يعد أحد قادرًا على أن يكون مفكرًا أو عالمًا أو فنانًا إن لم يكن له مذهب ينتسب إليه. ووضعنا أنفسنا أطرافًا في معارك لسنا أطرافًا فيها، وتفرقنا شيعًا وأحزابًا كما تفرق القدماء من ذواتهم، ولكن فُرقتنا هذه المرة لم تكن موقفًا من الذات بل تبعية للآخر. ضاعت وحدة الثقافة الوطنية، والكل يبحث عن الأصالة الضائعة ويجدها البعض في الفنون الشعبية. وتكون هذه البؤر الثقافية جسر انتقال لثقافة الآخر في ثقافة الأنا. وعادةً ما يتحول التغريب الثقافي إلى موالاة سياسية للغرب مما يسبب فيما بعدُ ثورات الشعوب الوطنية تأكيدًا للهُوية والثقافة الوطنية في جدل تاريخي مستمر بين الأنا والآخر. وعلى الرغم من ذلك لم تنشأ لدينا في مصر مشكلة هُوية في الأعماق، ولم تَثُر لدينا قضية عروبة الثقافة كما هو الحال في تونس، أو عروبة اللغة كما هو الحال في الجزائر، أو عروبة الوطن كما هو الحال في لبنان، أو عروبة الشعب كما هو الحال في الخليج.١٢ لم يهتم الاستعمار البريطاني في مصر بالشعب والثقافة والتاريخ قدر اهتمامه بالقناة والطريق إلى الهند، قدر اهتمام الاستعمار الفرنسي في تونس والجزائر والمغرب بالتوجه إلى ثقافة الشعب ولغته وتاريخه من أجل طمسها ومحوها، وإخفاء معالم الشخصية الوطنية، والقضاء على الهُوية، ومحو اللغة العربية والمدارس العربية وتعليم الدين الإسلامي. ومع ذلك أصبحت مصر من أشد البلاد الإسلامية تغريبًا، وهي التي حافظت على عروبة بقية الأقطار العربية، وفرطت فيما لم يقضِ الاستعمار عليه. ربما لأن الهجمة الاستعمارية لم تكن قوية عليها فلم يشد الناس على العروبة بالنواجذ كما فعل المسلمون في الشمال الأفريقي عندما ولَّد الفعلُ، أي الاستعمار الفرنسي ومحاولته طمس معالم الهُوية العربية الإسلامية، ردَّ الفعل، أي التمسك بالعروبة والإسلام. ومع ذلك، قضية الهُوية بالنسبة لنا هي إحدى قضايانا الرئيسية في مواجهة التغريب، نتفاوت فيها من منطقة إلى منطقة تبعًا لشدة الاستعمار وتغلغله في النفوس وما تبقى منه في العقول. إذ تتفاوت المجتمعات الإسلامية فيما بينها في حدة المشكلة. فالمجتمعات التي داهمها الاستعمار كانت إحدى وسائل المقاومة فيها إثبات الهُوية في مقابل التغاير، والأنا في مواجهة الآخر، والأصالة في مواجهة التحديث والاغتراب المرتبط به. فالتغريب Westernization نوع من الاغتراب Alienation بالمعنى الاشتقاقي للَّفظ، أي تحوُّل الأنا إلى آخر. ولكن بعد الاستقلال الوطني عاد المستعمر من خلال الثقافة، وانتشر التغريب. استقلت البلاد ولكن احتُلت الأذهان. وقد ولَّد الفعل، وهو التوجه نحو الآخر، ردَّ فعل، وهو الرجوع إلى الأنا، كما هو الحال في الثورة الإسلامية في إيران والحركة الإسلامية المعاصرة في شتى أنحاء العالم العربي والإسلامي. وقعنا في ازدواجية الثقافة، وتخاصمت ثقافتان، كل منهما تكفِّر الأخرى، ترى كل منهما بقاءها وحياتها في فناء الأخرى وموتها. لذلك أكثرنا من الإشارة إلى التحديات السبعة التي تواجهها الأمة في لحظتها الحالية والتي تكوِّن جوهر الجبهة الثالثة، الموقف من الواقع أو نظرية التفسير، وهي: تحرير الأرض من الغزو الخارجي، الاستعمار والصهيونية، الحريات العامة ضد صنوف القهر والتسلط والطغيان الداخلي، العدالة الاجتماعية في مواجهة هذا التفاوت الضخم بين الأغنياء والفقراء، وحدة الأمة في مواجهة التجزئة والتشتت والتشرذم، التنمية الشاملة في مقابل التخلف الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي، الهُوية ضد التغريب والتبعية والتقليد، وأخيرًا تعبئة الجماهير وحشد قواها وتجنيد طاقاتها في مقابل اللامبالاة والفتور وعدم الاكتراث.
صحيح أن التغريب متفاوت في قوته من قطر إلى قطر، ومن فترة إلى فترة، ومن طبقة إلى طبقة. فهو أكثر انتشارًا في الطبقة العليا منه في الطبقات الدنيا. ولو أن هذه الطبقات الدنيا أيضًا، نظرًا لعائدات النفط، بدأت من خلال تملكها لأجهزة الإعلام تخضع لأثر الغرب ووسائل الرفاهية. إن التحدي الأعظم لكل فِرق الأمة حاليًّا هو: كيف يمكن المحافظة على الهُوية دون الوقوع في مخاطر الانغلاق على الذات ورفض كل مساهمة للغير؟ وكيف يمكن مواجهة ثقافات العصر دون الوقوع في مخاطر التقليد والتبعية؟ هذه هي القضية التي نثيرها جميعًا باسم «الأصالة والمعاصرة». وهي موجودة منذ نشأة الوحي عندما أبقى الإسلام على الهُوية العربية وبعض قيم الجاهلية وأعرافها، وطوَّرها في منظوره الجديد. وهي القضية التي عرض لها الحكماء فظلوا مفكرين إسلاميين متمثلين لثقافات الغير وفي مقدمتها ثقافة اليونان. وهي القضية الأساسية التي تعالجها العلوم الاجتماعية الغربية الآن لدراسة تطور المجتمعات النامية.١٣
ومما لا شك فيه أن قضية الهُوية أو الأصالة تكمن وراء مشاكلنا الاجتماعية والسياسية؛ لأنها هي المشكلة الحضارية. وما زلنا منذ فجر نهضتنا العربية الحديثة نطرحها، وندعو لها، وننبه عليها، ولم نحلَّها بعد. وربما كانت معظم تياراتنا الفكرية الحديثة أقرب إلى التغريب منها إلى الأصالة. فالإصلاح الديني (الأفغاني) والليبرالية السياسية (الطهطاوي) والعقلانية العلمية (شبلي شميل) كلها ترى الغرب نمطًا للتحديث ونموذجًا للتقدم، ترى صورتها في مرآة الآخر، مما ولَّد الحركة السلفية حتى أصبحت وريثة الإصلاح، وقضينا على الليبرالية بأيدينا باسم الثورات العربية الأخيرة. وانتهى العقل والعلم من حياتنا بذيوع مسوح الإيمان والخرافة. ولما تولَّدت أحزابنا السياسية الحالية عن تياراتنا الفكرية الحديثة فإنها تعثرت في رؤيتها للواقع وفي حشدها للجماهير؛ إذ لا يوجد عمل سياسي إبداعي دون أصالة بعيدًا عن التغريب. وما زالت أحزابنا السياسية حتى الآن، خاصة العلمانية منها، تصوغ القضية السياسية على نحوٍ مغترب، وتجد الحل عند الآخر وليس بتحليل الأنا.١٤
وتستطيع الجبهة الأولى «موقفنا من التراث القديم» أن تساعد في إيقاف التغريب، بداية من إعادة بناء الأنا على نحو يقضي على اغترابها، ولوقف التغريب الذي حدث للخاصة التي انفصلت عن التراث لأنها لم تجد نفسها فيه، ولم تستطع تجاوز لغته القديمة أو اعتبار نفسها مسئولة عنه، فلم تغير مستوياته، أو تعدِّل محاوره، أو تعيد الاختيار بين البدائل. بل قبلت، كضرورة لا مفر منها، مزاحمةَ الفكر الغربي لتراث الأمة ومكونها الرئيسي حتى نشِب العداء بين أنصار القديم وأنصار الجديد. يمكن إذن عن طريق هذا الموقف من التراث القديم القضاء على الازدواجية في الشخصية القومية وعلى هذا «الفِصام النكِد» في ثقافتها الوطنية.١٥ كما يستطيع الفكر الإسلامي أن يعطي نماذج عديدة دفاعًا عن الهُوية ضد التغريب مثل:
  • (أ)
    تحريم القرآن موالاة الغير، والتقرب إلى الأعداء، والتودد إليهم، ومصالحتهم. فغاية الأعداء القضاء على هُوية الأنا، وإيقاعها في التقليد، والقضاء عليها حتى لا يوجد إلا الآخر.١٦ والاعتماد على القرآن هنا إنما هو اعتماد على موروث شعبي ومصدر سلطة وتوجيه في وعي الناس.
  • (ب)
    رفض التقليد والتبعية في السلوك الفردي وفي العقائد من أي فردٍ كان، وإثبات المسئولية الفردية. فإيمان المقلِّد لا يجوز، والاعتذار بالتقليد غير مقبول يوم الحساب.١٧
  • (جـ)
    نموذج الفكر الإسلامي القديم الذي استطاع تمثل الحضارات السابقة دون أن يفقد هُويته وقام بنقدها، مطورًا لها، ومكملًا لإنجازاتها. فظل إسلاميًّا معاصرًا، ذاتيًّا قادرًا على التعامل مع الآخر، وممثلًا للحضارات الإنسانية كلها.١٨
  • (د)
    بالرغم من انبهار الفكر الإسلامي الحديث بالغرب وأخذه كنَموذج للتحديث من حيث الصناعة والتعليم والنظُم البرلمانية والدستورية والعمران، إلا أنه أيضًا استطاع أن يكون ناقدًا للغرب في دهريته وإباحيته ودنيويته (الأفغاني، إقبال … إلخ)، ولم يفقد خصوصيته وهو في أول التعامل معه بالرغم من الاستقلال أو الاستقلال المنقوص.١٩
  • (هـ)

    الاعتماد على موقف الحركة الإسلامية الآن من الغرب، في هذا التمايز بين الأنا والآخر، بين الإيمان والكفر، بين الإسلام والجاهلية، بين الله والطاغوت، ثم ترشيد العَلاقة إلى نقد مستنير، وتحويل عَلاقة العداوة بين الأنا والآخر إلى عَلاقة عالِمٍ بمعلوم، ذاتٍ بموضوع، دارسٍ بمدروس، راءٍ بمرئي، ملاحِظٍ بملاحَظ.

  • (و)

    الاعتماد على الموقف السلفي القديم الذي انعكف على الذات معاديًا الآخر نظرًا لظروف العدوان الخارجي على الأمة من الغرب (الصليبيون) أو الشرق (التتار والمغول)، فالظروف متشابهة الآن بين الغزو الاستعماري الحديث والغزو الاستعماري القديم.

(٢) من «الاستشراق» إلى «الاستغراب»

الاستغراب هو الوجه الآخر والمقابل بل والنقيض من «الاستشراق». فإذا كان الاستشراق هو رؤية الأنا (الشرق)٢٠ من خلال الآخر (الغرب)، فإن «علم الاستغراب» يهدف إذن إلى فك العقدة التاريخية المزدوِجة بين الأنا والآخر، والجدل بين مركب النقص عند الأنا ومركب العظمة عند الآخر. فمنذ الاستشراق القديم الذي نشأ واكتمل في عنفوان المد الاستعماري الأوروبي لِجَمْع أكبر قدر ممكن من المعلومات عن الشعوب المستعمَرة، أخذ الغرب دور الأنا فأصبح ذاتًا واعتبر اللاغرب هو الآخر فأصبح موضوعًا. فالاستشراق القديم يعني رؤية الأنا الأوروبي للآخر اللاأوروبي، عَلاقة الذات الدارس بالموضوع المدروس. وكان نتيجةً لذلك أن نشأ لدى الأنا الأوروبي مركَّبُ عظمةٍ من كونه ذاتًا دارسًا، كما نشأ لدى الآخر اللاأوروبي مركَّبُ نقصٍ من كونه موضوعًا مدروسًا. أما في «الاستغراب» فقد انقلبت الموازين، وتبدلت الأدوار، فأصبح الأنا الأوروبي الدارس بالأمس هو الموضوع المدروس اليوم، كما أصبح الآخر اللاأوروبي المدروس بالأمس هو الذات الدارس اليوم. وبالتالي تحول جدل الأنا والآخر من جدل الغرب واللاغرب إلى جدل اللاغرب والغرب. مهمة علم «الاستغراب» هو فك عقدة النقص التاريخية في عَلاقة الأنا بالآخر، والقضاء على مركب العظمة لدى الآخر الغربي بتحويله من ذات دارس إلى موضوع مدروس، والقضاء على مركب النقص لدى الأنا بتحويله من موضوع مدروس إلى ذات دارس مهمته القضاء على الإحساس بالنقض أمام الغرب، لغة وثقافة وعلمًا، مذاهب ونظريات وآراء، مما يخلق فيهم إحساسًا بالدونية، وقد ينقلب إلى إحساس وهمي بالعظمة كما هو الحال لدى الجماعات الإسلامية المعاصرة وفي الثورة الإسلامية في إيران. وليس هذا إلا رد على مركب العظمة الدفين في الثقافة الغربية والذي لا يخلو من عنصرية ثقافية، صريحة أو ضمنية.٢١
والفرق بين «الاستشراق» القديم «والاستغراب» الحالي هو خلاف في اللحظة التاريخية للحضارة الأوروبية التي نشأ فيها الاستشراق سابقًا واللحظة التاريخية التالية التي ينشأ فيها «الاستغراب» الآن وعلى النحو الآتي:
  • (أ)

    ظهر الاستشراق قديمًا إبان المد الاستعماري الأوروبي، والشعوب الأوروبية منتصرة بعد مرحلة الهجوم منذ سقوط غرناطة «والاستكشافات» الجغرافية، في حين يظهر «الاستغراب» الآن في عصر الردة وبعد حركات التحرر العربية، والشعوب مهزومة في مرحلة الدفاع. لذلك يظهر «الاستغراب» كدفاع عن النفس، وخير وسيلة للدفاع الهجوم، والتحرر من عقدة الخوف تجاه الآخر، وقلب الموازين رأسًا على عقب، وقلب المائدة في وجه الخصوم.

  • (ب)

    ظهر «الاستشراق» قديمًا محملًا بأيديولوجية مناهج البحث العلمي أو المذاهب السياسية التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر خاصةً من وضعية، وتاريخية، وعلمية، وعنصرية، وقومية. في حين يظهر «الاستغراب» اليوم في أيديولوجية مناهج علمية مخالفة مثل مناهج اللغة، وتحليل التجارِب المعيشة، وأيديولوجيات التحرر الوطني.

  • (جـ)

    «الاستشراق» الآن قد تغير شكله، وورثته العلوم الإنسانية، خاصة الأنثروبولوجيا الحضارية، وعلم اجتماع الثقافة. في حين أن «الاستغراب» ما زال بادئًا، ولم يطور أي شكل له بعد. فإذا كانت بدايات «الاستشراق» في القرن السابع عشر، وبدايات «الاستغراب» في أواخر القرن العشرين فإن «الاستشراق» يكون سابقًا على «الاستغراب» بأربعة قرون، هي عمر النهضة الأوروبية الحديثة.

  • (د)

    لم يكن الاستشراق القديم محايدًا، بل غلبت عليه مناهج تعبر عن بنية الوعي الأوروبي التي تكونت عبر حضارته الحديثة، مثل المناهج التاريخية، والتحليلية، والإسقاطية، والأثر والتأثر. في حين أن وعي الباحث الآن في علم «الاستغراب» أقرب إلى الشعور المحايد؛ نظرًا لأنه لا يبغي السيطرة أو الهيمنة، بل يبغي فقط التحرر من إسار الآخر حتى يوضع الأنا والآخر على نفس المستوى من الندية والتكافؤ.

فإذا كان «الاستشراق» هو دراسة الحضارة الإسلامية من باحثين ينتمون إلى حضارة أخرى ولهم بناء شعوري مخالف لبناء الحضارة التي يدرسونها، فإن «الاستغراب» هو العلم المقابل بل والمضاد له. وتكون الجبهة الثانية «موقفنا من التراث الغربي» هي التعبير عن وعينا بهذا العلم ومادته الأساسية. وبالتالي يضيع الخطر الماثل من اعتبار الحضارة الأوروبية مصدر كل علم، وما سواها من حضارات تعيش عليها، وتنتظر منها المذاهب والنظريات. لقد خلق هذا الموقف انحراف الحضارات اللاأوروبية كلها وانحسارها عن واقعها، وبترها من جذورها، والارتباط بالحضارة الأوروبية، والدخول في فلكها باعتبار أنها الحصيلة النهائية للتجرِبة البشرية. وبلغة هيجل نقول إن كل حضارة أصبحت مغتربة خارج نفسها، مرتبطة بشيء آخر سواها.٢٢ مهمة هذا العلم الجديد هي إعادة الشعور اللاأوروبي إلى وضعه الطبيعي، والقضاء على اغترابه، وإعادة ربطه بجذوره القديمة، وإعادة توجيهه إلى واقعه الخاص من أجل التحليل المباشر له، وأخذ موقف بالنسبة لهذه الحضارة التي يظنها الجميع مصدر كل علم، وهي في الحقيقة حضارة غازية لحضارة أخرى ناشئة نشأة ثانية أو تعيش عصر إحيائها ونهضتها.٢٣
وإذا كان «الاستشراق» قد وقع في التحيز المقصود إلى درجة سوء النية الإرادية والأهداف غير المعلنة فإن «الاستغراب» يعبر عن قدرة الأنا باعتبارها شعورًا محايدًا على رؤية الآخر، ودراسته، وتحويله إلى موضوع. وهو الذي طالما كان ذاتيًّا يحول كل آخر إلى موضوع. ولكن الفرق هذه المرة هو أن «الاستغراب» يقوم على أنا محايد لا يبغي السيطرة، وإن بَغَى التحرر، ولا يريد تشويه ثقافات الآخر، وإن أراد معرفة تكوينها وبنيتها. إن «أنا» الاستغراب أكثر نزاهة وموضوعية وحيادًا من «أنا» الاستشراق. بل إنه يبدو أحيانًا أن «الأنا» الغربي وما كان يدعيه سلفًا منذ القرن الماضي من شروط الموضوعية والحياد كشرطين للعلم إنما كان يستعملهما كوسيلة لإخفاء الذاتية والتحيز كما بدا ذلك في الاستشراق.٢٤

بل إنه من الأمور الأكثر فائدة بالنسبة للتراث الغربي ذاته دراستُه من باحثين غير منتمين له يمكنهم إلقاء وجهات نظر جديدة عليه. وذلك لأن الباحث الأوروبي مشبع بتراثه، وله نفس البناء الشعوري الذي له. ومن ثَم لا توجد بينه وبين موضوعه مسافة كافية. وبالتالي تصعب عليه الرؤية. في حين أن الباحث غير الأوروبي له بناء شعوري مخالف، وبينه وبين موضوعه، أعني الشعور الأوروبي، مسافة كبيرة تمكنه من الرؤية عن بعد. صحيح أن هناك خطورة الإسقاط من ذات الباحث على موضوعه، فيرى ما في نفسه أكثر مما يرى ما في الواقع. وصحيح أيضًا أن هناك خطورة الوقوع في الخطابة أو في التعصب للذات والهجوم على الحضارة الأخرى موضوع دراسته، خاصة إذا كان قد قاسى منها، سواء من الاستعمار المباشر أو من الاستعمار الثقافي، حينئذٍ تكون فرصة فريدة للانتقام. ولكن وعي الباحث وأصالته يحفظانه من الوقوع في مثل هذه الأخطار. في حين أن الخطر الأكبر هو في ترديد الباحثين الأوروبيين أشياء كثيرة، وتدقيقهم في البحث لدرجة المتناهي في الصغر دون استطاعتهم إدراك الموضوع ككل؛ وذلك لأن الباحث الأوروبي بعد طول تعوده على البحث، وبعد رفضه لكل نظرة كلية شاملة بعد أن اكتشف عيوب هذا اللون من الفكر الذي ورثه عن العصر الوسيط، رفض الكل وآمن بالجزء، وأراد إعادة تكوين الكل ابتداءً من الأجزاء التي يصل إليها هو بطريقه الخاص وبمناهجه الحسية.

ولا يعني ذلك الوقوع في تصور قومي للعلم أو في نظرة قومية للحضارة، بل يعني بدء حضارتنا في مرحلتها الحالية، مرحلة الإحياء لتراثها، والتجديد والتطوير في وعيها بذاتها، وأخذ مواقف بالنسبة لما يحيط بها من أفكار ولما يتسرب إليها من مذاهب. كما يعني أيضًا إفادة التراث الغربي بدراسته من باحثين محايدين كما يفعل الباحثون الأوروبيون مع غيرهم من الحضارات غير الأوروبية. ولا يعني ذلك أيضًا ما تدعو إليه بعض الطوائف الرجعية لدينا من الحديث عن فكر مرتبط بالأرض ونابع من البيئة، ومرتبط بالعادات والتقاليد لمعارضة كل فكر علمي أو كل نظام تقدمي له نموذج مشابه في التراث الغربي. بل يعني إعطاء النظرة العلمية أساسًا متينًا من التحليل المباشر للواقع.٢٥

وعلم «الاستغراب» في مقابل الاستشراق ضرورة ملحة في عصر الثورة المضادة بعد أن عاد الغرب بهجمته الاستعمارية الثانية بعد هجمته الاستعمارية الأولى، إثر حركات التحرر الوطني. كان السؤال: لماذا نجحت حركات التحرر الوطني في التخلص من الاستعمار العسكري ثم تم إجهاض نتائجها في الاستقلال الوطني اقتصاديًّا وسياسيًّا وثقافيًّا وحضاريًّا؟ لماذا زادت معظم البلاد المتحررة حديثًا بعد الاستقلال تبعيةً في الغذاء والتسليح والتعليم وتحديث المجتمعات؟ كان الصراع بين الأنا والآخر في المواجهة الأولى بين حركات التحرر والاستعمار صراعَ وجود، صراعًا عضليًّا يعتمد على الغلبة المادية، أيهما أقوى. ولكن ظل اقتداء المستعمَر بالمستعمِر قائمًا. ثم جاءت الردة الحاليَّة، وانقلبت الثورات الحديثة إلى ثورات مضادة من داخلها. فلا ثقافات ثارت، ولا شعوب تحركت؛ لأن عَلاقة الأنا بالآخر، بالرغم من الاستقلال السياسي الظاهري، ما زالت عَلاقة تبعية وليست عَلاقة استقلال، ولأن عقدة النقص التاريخية أمام الآخر ما زالت قابعة في الشعور، ولأن العَلاقة بينهما ما زالت بين ندين غير متكافئين، عَلاقة المركز بالأطراف، عَلاقة السيد بالعبد، عَلاقة أحادية الطرف غير متبادلة المواقع، طرف ينتج والآخر يستهلك، طرف يأمر والثاني يطيع. الأول لديه إحساس بالعظمة والثاني لديه إحساس بالنقص، عقدة تاريخية في صراع الحضارات. يهدف علم «الاستغراب» إذن إلى إقالة الثورات الحديثة من عثراتها، واستكمال عصر التحرر من الاستعمار، والانتقال من التحرر العسكري إلى التحرر الاقتصادي والسياسي والثقافي، وقبل كل شيء التحرر الحضاري. فما دام الغرب قابعًا في قلب كلٍّ منا كمصدر للمعرفة وكإطار مرجعي يُحال إليه كل شيء للفهم والتقييم فسنظل قاصرين في حاجة إلى أوصياء.

لقد استطاعت الشعوب غير الأوروبية أن تقدم تجرِبة فريدة في تاريخ البشرية، وهي تجرِبة التحرر الوطني من الاستعمار، والتي غيرت موازين القوى في العالم. وظهرت الشعوب المتحررة حديثًا كمركز ثقل جديد في العالم تحفظ العالم من ويلات الحروب، وتدعو لإقامة إنسانية جديدة وقواعد للتعاون الدولي أكثر عدالة وإنصافًا للشعوب غير الأوروبية. وكان من حصيلة تجرِبتها إنهاء عصر الهيمنة الأوروبية على الشعوب غير الأوروبية، وبداية تاريخ جديد للبشرية، يبدأ بعصر التحرر الذي يواكب أزمة القرن العشرين في الغرب، وبداية الانكماش الأوروبي داخل حدود الغرب الطبيعية، وانحسار ثقافته وآثاره على الغير. ونشأت أيديولوجيات العالم الثالث في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية مثل «الزنجية»، «الوجدانية»، «الوحدة الإسلامية»، «القومية العربية»، «الاشتراكية العربية»، «الاشتراكية الأفريقية»، «الساتياجراها»، «لاهوت التحرر» … إلخ. لقد قام عديد من حركات التحرر على التراث القومي للشعوب في مواجهة حضارة الرجل الأبيض وغزوه، مثل حركة «ماوماو»، «أنبياء بانتو» … إلخ. وغيرها من الحركات الثورية المحلية ووضعها أسس الاشتراكية الطبيعية المستقلة التي تقوم على الملكية الجماعية للأرض كجزء من التراث المحلي، وتحويل بعض هذه التقاليد والأعراف إلى أيديولوجيات كاملة مثل «الوجدانية» و«الزنجية» … إلخ.٢٦ وتم إنشاء منظمات عديدة لذلك: «التضامن الآسيوي الأفريقي»، «اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا»، «القارات الثلاث»، «مؤتمر عدم الانحياز»، «منظمة الوحدة الأفريقية»، من أجل بلورة عالم جديد. وأصبحت أصوات شعوب العالم الثالث في المحافل الدولية تجسد وعيًا جديدًا بنظام عالمي جديد. «علم الاستغراب» يستأنف كل ذلك وينقله من مستوى الأماني الطيبة والنيات الحسنة إلى مستوى العلم الدقيق، ومن مستوى الخطابة السياسية إلى مستوى التحليل العلمي،٢٧ وقد يحتاج ذلك إلى عدة أجيال، فما زلت أنتسب إلى جيل المخضرمين، جيل عصر النهضة العربي الذي يتم فيه التحول من القديم إلى الجديد. ما زلت في إطار فلسفات التاريخ التي تعبر عن حركة الوعي المكبوت. ونحتاج إلى عدة أجيال أخرى كي تتحول فلسفات التاريخ إلى علوم اجتماعية دقيقة.

ثالثًا: المركز والأطراف

(١) علم «الاستغراب» والرد على المركزية الأوروبية

مهمة علم «الاستغراب» هي القضاء على المركزية الأوروبية Eurocentricity، Eurocentrism، بيان كيف أخذ الوعي الأوروبي مركز الصدارة عبر التاريخ الحديث داخل بيئته الحضارية الخاصة. مهمة هذا العلم الجديد رد ثقافة الغرب إلى حدوده الطبيعية بعد أن انتشر خارج حدوده إبَّان عنفوانه الاستعماري من خلال سيطرته على أجهزة الإعلام وهيمنته على وكالات الأنباء، ودُور النشر الكبرى، ومراكز الأبحاث العلمية، والاستخبارات العامة. مهمته القضاء على أسطورة الثقافة العالمية التي يتوحد بها الغرب، ويجعلها مرادفة لثقافته، وهي الثقافة التي على كل شعب أن يتبناها حتى ينتقل من التقليد إلى الحداثة. فالفن فنه، والثقافة ثقافته، والعلم علومه، والحياة أساليبه، والعمارة طرازه، والعمران نمطه، والحقيقة رؤيته. مع أن الثقافات بطبيعتها متنوعة، ولا توجد ثقافة أم، وثقافات أبناء وبنات. ومن هنا أتت عمليات المثاقفة Acculturation التي تحدث عنها علماء الأنثروبولوجيا الثقافية، والتي يوهم الغرب بأنها تعني الحوار الثقافي أو التبادل الثقافي أو التثقيف، وهي في الحقيقة تعني القضاء على الثقافات المحلية من أجل انتشار الثقافة الغربية خارج حدودها، وهيمنتها على غيرها، واعتبار الغرب النمط الأوحد لكل تقدم حضاري، ولا نمط سواه، وعلى كل الشعوب تقليده، والسير على منواله. وقد أدى ذلك إلى إلغاء خصوصيات الشعوب وتجارِبها المستقلة، واحتكار الغرب وحده حق إبداع التجارِب الجديدة والأنماط الأخرى للتقدم.٢٨
والتراث الغربي، وكما هو معروف عادة، ليس تراثًا إنسانيًّا عامًّا يحتوي على نموذج التجرِبة البشرية، وليس فقط وريث خبراتها الطويلة تراكمت فيه المعارف انتقالًا من الشرق إلى الغرب، بل هو فكر بيئي محض نشأ في ظروف معينة هو تاريخ الغرب، وهو نفسه صدًى لهذه الظروف. ويعبر الكتاب الغربيون أنفسهم عن ذلك بقولهم: فلسفتنا، حضارتنا، فكرنا، أدبنا، فننا، تاريخنا، موسيقانا، علومنا بل حتى ديننا، إلهنا! فعند الكتاب الأوروبيين إحساس واضح بأنهم ينتمون إلى حضارة بعينها فيقولون دائمًا: أما نحن، نحن الآخرون، Nous autre، بالنسبة لنا … إلخ. إحساس منهم بالتمييز، وبأنهم قوم لهم حضارتهم الخاصة المتميزة عن الحضارات الأخرى بل لهم جنسيتهم الخاصة، وتاريخهم الخاص المختلف عن باقي الحضارات والأجناس والشعوب. لذلك كان خطؤنا، نحن الكتاب غير الأوروبيين الذين ترجموا مؤلفاتهم وشرحوها وعرضوها، بل وانتسبوا إليها واعتنقوها، اعتبارَ الحضارة الأوروبية حضارةً عامة للناس جميعًا، ولم نرَ نوعيتها، أو رأيناها وتغافلنا عنها رغبة في الحصول على الجديد بأي ثمن، وفي فترة لم نكن فيها على وعيٍ كافٍ بتراثنا القديم، أو كان هذا الوعي محصورًا في فئة معينة من المصلحين والإحيائيين.
ولا يعني ربط الحضارة الأوروبية ببيئتها تطبيق أي مذهب وضعي أو منهج اجتماعي، بل تقرير الواقع من كتابات الأوروبيين أنفسهم واعترافاتهم، وما تكشفه أعمالهم الأوروبية والفنية والعلمية والفكرية عن بناءٍ واحد متجانس للشعور. لم يكن في الإمكان التعرف على هذا البناء في بداية الشعور الأوروبي في العصور الحديثة، بل أمكن ذلك في نهايته في العصر الحاضر بعدما تكررت المواقع وتقاربت وجهات النظر، وظهر البناء الشعوري الواحد كمصدر لكل المذاهب والتيارات والاتجاهات الفكرية. كما لا يعني الربطُ بين الحضارة وبيئتها الرغبةَ في القضاء على عموميتها أو التقليل من أهميتها، بل يعني وضعَها في مكانها الصحيح كحضارة نوعية خاصة نشأت في ظروف معينة، وشكلت شعورًا ذا طابع معين على فترة من الزمن حتى أصبح المكتسب طبيعة، والواقع مبدأ.٢٩
مهمة علم «الاستغراب» هي القضاء على ثنائية المركز والأطراف على مستوى الثقافة والحضارة. فمهما حاول رجال السياسة والاقتصاد القضاء على هذه الثنائية في ميدان السياسة والاقتصاد دون القضاء عليها مسبقًا في الثقافة فإن تبعية الأطراف للمركز في السياسة والاقتصاد قائمة. وما دامت الثقافة الغربية هي المركز والثقافات اللاغربية في الأطراف ستظل هذه العَلاقة أحادية الطرف، من المركز إلى الأطراف، عَلاقة المعلم بالتلميذ، والسيد بالعبد. فالغرب هو المعلم الأبدي، واللاغرب هو التلميذ الأبدي، والعَلاقة بينهما أحادية الطرف، أخذ مستمر من الثاني وعطاء مستمر من الأول، استهلاك دائم من الثاني وإبداع دائم من الأول. ومهما تعلم التلميذ فإنه يكبر تلميذًا، ومهما شاخ الأستاذ فإنه يظل معلمًا. ولن يلحق التلميذ بالأستاذ لأن معدل الإبداع عند الأستاذ أسرع بكثير من معدل الاستهلاك عند التلميذ، فيجري التلميذ لاهثًا وراء المعلم ولن يلحق به. وكلما جرى ازدادت المسافة اتساعًا حتى تدركه الصدمة الحضارية فيقع، ويدرك قدره، ويرى مصيره، ويقبل وضعه في التاريخ.٣٠
مهمة علم «الاستغراب» هو إعادة التوازن للثقافة الإنسانية بدل هذه الكفة الراجحة للوعي الأوروبي والكفة المرجوحة للوعي اللاأوروبي. فما دامت الكفتان غير متعادلتين سيظل الوعي الأوروبي هو الذي يمد الثقافة الإنسانية بنتاجه الفكري والعلمي، وكأنه هو النمط الوحيد للإنتاج. وبالتالي يستمر هذه الظلم التاريخي الواقع على الثقافات غير المتميزة في سبيل الثقافة المتميزة. وبين الحين والآخر تعطَى جوائز نوبل لمفكرين وعلماء وأدباء آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ذرًّا للرماد في العيون، والذي في النهاية لا يغير من عدم التوازن بين الكفتين شيئًا، بالرغم من الطبول والمزامير والأفراح تعويضًا عن عقدة النقص لدى الشعوب اللاأوروبية، وغرورًا من الوعي الأوروبي أنه أخيرًا وبعد طول جهد وبحث طويل وصل مستهلك من الشعوب اللاأوروبية إلى مستوى الإبداع الأوروبي. ولا يتضمن هذا العلم الجديد مجرد إعلان لنوايا وتعبير عن أمانيَ لدينا جميعًا، بل إنه يمكن أن يحتوي على بحوث عديدة ومراجعات للمفاهيم والتصورات من أجل إيجاد رؤًى بديلة عن رؤى الوعي الأوروبي. فمثلًا من ضمن هذه المفاهيم «الكشوف الجغرافية» أو «الاستكشافات الجغرافية» وهو مفهوم يدل على عدة أمور:
  • (أ)

    النظرة الذاتية الخالصة التي تنم عن عنصرية دفينة، وكأن العالم يوجد عندما يعرفه الوعي الأوروبي، ولا يوجد عندما يجهله. فالمعرفة تساوي الوجود. في حين أنه من منظور أمريكا وأفريقيا، البلاد المستكشفة موجودة سواء عرَفها الوعي الأوروبي أم لم يعرف. كما أن الأوروبيين بالنسبة للهنود الحمر وسكان أفريقيا لم يكونوا موجودين قبل حلولهم سواحل أمريكا وأفريقيا طبقًا للمنطق الأوروبي للاستكشافات الجغرافية.

  • (ب)

    إنكار التاريخ الحضاري للشعوب اللاأوروبية في أفريقيا وآسيا وأمريكا، وكأنها كانت حضارات ما قبل التاريخ، يبدأ تاريخها منذ حضور المستعمر، فالتاريخ هو تاريخ المعرفة بالموضوع وليس تاريخ الموضوع كما يعرف نفسه، وكأن الوعي التاريخي للعارف هو الوعي التاريخي للمعروف.

  • (جـ)

    هي بداية الاستعمار التقليدي القديم الذي خرج فيه الوعي الأوروبي ممتدًّا خارج حدوده ليحوط بالعالم القديم بحرًا حول أفريقيا جنوبًا وإلى الهند شرقًا وإلى أمريكا غربًا، لما كانت أوروبا في الشمال، أي خروج الشمال من نطاقه الجغرافي إلى نطاقه الحضاري جنوبًا وشرقًا وغربًا.

  • (د)
    بداية القضاء على الثقافات المحلية بعد تعلُّمها وجمع أكبر قدرٍ ممكن من المعلومات حولها، ثم زرع الثقافة الأوروبية محلها كثقافة بديلة ووحيدة، ممثلةً الثقافةَ العالمية، وهي ما سُمي في علوم الأنثروبولوجيا الحضارية، للتعمية والتغطية، المثاقفة أو التثاقف Acculturation.
  • (هـ)

    بداية نهب ثروات الشعوب اللاأوروبية ونقل سكانها في أكبر حركة نهب بشري عرَفها التاريخ؛ عبيد أفريقيا إلى أمريكا، وثروات آسيا إلى أوروبا، وتركزت الثورة البشرية والمادية وانتقلت من الأطراف إلى المركز.

  • (و)
    التشويه المتعمد لثقافات الشعوب «المستكشفة» حديثًا، مع أنها هي الشعوب التاريخية، وقسمة الشعوب إلى حضارية وبدائية أو متقدمة ومتخلفة أو صناعية وزراعية أو عقلية وأسطورية أو موضوعية وذاتية. وقد وجدت كل هذه التقسيمات صياغاتها المتطرفة في النظريات العنصرية وتقسيم الشعوب إلى آريَّة وساميَّة في العلوم الإنسانية، خاصة الأنثروبولوجيا الاجتماعية وعلم الحضارات وفلسفة التاريخ.٣١

ومَثَل آخر مما يهدف إليه علم «الاستغراب» من تصحيح المفاهيم المستقرة، والتي تكشف عن المركزية الأوروبية، من أجل إعادة كتابة تاريخ العالم من منظورٍ أكثر موضوعية وحيادًا وأكثر عدلًا بالنسبة لمدى مساهمة كل الحضارات البشرية في تاريخ العالم، هو مفهوم «العالمية» كما هو الحال في «الحرب العالمية الأولى» أو «الحرب العالمية الثانية»، وهي حروب أوروبية صرفة نشأت بين القوى الأوروبية بسبب أطماعها فيما بينها وأطماعها في غيرها. وروسيا بلد أوروبي وإن كانت امتدادًا جغرافيًّا في آسيا. وتركيا وإن كان بلدًا آسيويًّا جغرافيًّا إلا أنه بلد أوروبي تاريخيًّا. والحرب العالمية الثانية صراع بين قوًى أوروبية صرفة من أجل السيطرة على المواد الأولية وعلى البحار والمحيطات. أما اليابان فبالرغم من وجودها الجغرافي في آسيا إلا أنها كانت تتعامل بمنطق الدول الأوروبية من أجل السيطرة على الأرض شرق آسيا وعلى المحيط الهادي شرق الجزر اليابانية. أما أفريقيا فقد انجرت إلى الحرب وتم استعمار أجزاء منها بعد الحرب الأولى، ودارت فوقها أهم معارك الحرب الثانية، فهي الخطوط الخلفية للجبهات الرئيسية، أطراف تخدم القلب، ومحيط يدور في فلك المركز.

ومن نتائج هذه المركزية الأوروبية «تحقيب» التاريخ في ثلاثة عصور وجعل أوروبا مواطنها: العصور القديمة (اليونان والرومان)، والعصور الوسطى (المسيحي واليهودي والإسلامي)، والعصور الحديثة. الأول يمتد من هوميروس على أقصى تقدير أو من طاليس أبي الفلسفة اليونانية حتى ظهور المسيح. والثاني من ظهور المسيح حتى عصر النهضة مع تخوم في البداية بين اليونانية والمسيحية في العصر الهِلِّنيستي، وتخوم في النهاية بين الوسيط والحديث في عصر الإحياء (القرن الرابع عشر)، والإصلاح الديني (القرن الخامس عشر) والنهضة (القرن السادس عشر). والثالث من العصور الحديثة ابتداءً من القرن السابع عشر حتى القرن العشرين. ويدل ذلك على عدة أشياء:
  • (أ)

    إلحاق الحضارات كلها بالتاريخ الأوروبي. ويمكن عمل ذلك من منظور كل حضارة تضع نفسها في المركز، وبالتالي يضيع التاريخ العام للحضارات البشرية جميعًا. وقد قام الوعي الأوروبي بذلك واستقر؛ لأنه هو الذي له الريادة في العصر الحديث، وهو الذي قام بالتدوين له.

  • (ب)

    إنكار دور الحضارات القديمة، الصين، والهند، وفارس، ومصر القديمة، وكأن تاريخها سابق على تاريخ البشرية، وكأن البشرية لم تكن قد وُجدت في هذه الفترة، أو وُجدت وكانت ما زالت في مرحلة الطفولة، ولم تبلغ بعدُ درجة النضج والرجولة.

  • (جـ)

    الحضارة الإسلامية بالنسبة لنا ليست في العصر الوسيط، بل لها مسارها الخاص. فهي ممتدة عبر خمسة عشر قرنًا من الزمان في مرحلتين كبيرتين، كل منها سبعة قرون؛ الأولى: الحضارة الإسلامية في عصرها الأول: النشأة (القرنان الأول والثاني)، والازدهار (القرنان الثالث والرابع) والاكتمال (القرنان الخامس والسادس)، ثم بداية الانهيار بعد ذلك، وظهور ابن خلدون في نهاية هذه الفترة ليؤرخ لها. والفترة الثانية: عصر الشروح والملخصات وتدوين الموسوعات الكبرى إبان الحكم المملوكي العثماني منذ القرن السابع حتى القرن الرابع عشر بما في ذلك القرنين الأخيرين، فجر النهضة الحديثة، وحركة الإصلاح الديني، وحركة التحرر الوطني المعاصرة.

  • (د)

    لما كانت العصور الوسطى بالنسبة للغرب هي بالنسبة لنا عصرنا الذهبي، فإن العصور الحديثة بالنسبة للغرب هي عصورنا الوسطى، أي الفترة الثانية من مسار الحضارة الإسلامية التي توقف فيها الإبداع ثم استمر في الحضارة الأوروبية.

  • (هـ)
    ويظهر هذا الارتباط والتردد والاشتباه في تداخل التاريخين الأوروبي والإسلامي في وعينا الحالي لدرجة زحزحة الوعي التاريخي الإسلامي كليةً لحساب الوعي التاريخي الأوروبي. فإذا سُئلنا: في أي قرن نحن نعيش؟ لأجبنا: في القرن العشرين! أي أننا نجيب بحضور الوعي التاريخي الأوروبي ونحن لسنا أوروبيين. ولو سُئلنا: في أي عصر نحن نعيش؟ لأجبنا: في عصر العلم والتكنولوجيا، مع أننا ما زلنا في عصر النهضة، نحاول الخروج من العصر الوسيط، وننقل الإصلاح الديني إلى نهضة شاملة.٣٢
يهدف علم «الاستغراب» إلى إنهاء أسطورة كون الغرب ممثلًا للإنسانية جمعاء، وأوروبا مركز الثقل فيه. تاريخ العالم هو تاريخ الغرب، وتاريخ الإنسانية هو تاريخ الغرب، وتاريخ الفلسفة هو تاريخ الفلسفة الغربية. في الغرب يصب كل شيء. ما قبله وهو الشرق بدايات التاريخ البشري كما يقول هردر وكانط، وما بعده عصر الفضاء الذي يمتلكه الغرب. عصور الغرب هي عصور الكل. العصر الوسيط هو كذلك لكل الشعوب، العصر الحديث هو كذلك لكل العالم مع أن وسيطنا هو حديثهم وحديثنا هو وسيطهم، وسقوط الغرب حاليًّا هو نهضتنا، ونهضتنا هي أفول الغرب.٣٣ إن مهمة مفكرينا وباحثينا هي إعادة صياغة فلسفات التاريخ الأوروبي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر خاصة، والتي صاغت التاريخ كله بحيث يصب في النهاية في الحضارة الغربية، ووضع الحضارة الغربية في مكانها الطبيعي كمرحلة من مراحل تطور الإنسانية والتي تكوِّن مرحلة واحدة، مجرد قوس صغير.٣٤ ولكن ما زال وعينا بالتاريخ غائبًا. بل إننا لم نبحث بعدُ أسباب الغياب.٣٥ ولم نعرف بعد مقومات الحضور. ولا يوجد شعب ينهض أو يأفل دون أن تظهر لديه فلسفة في التاريخ تعلن عن نهضته كما نفعل الآن، أو تعلن عن نهايته كما هو الحال في فلسفات التاريخ المعاصرة. فلسفة التاريخ هي المؤشر على حركة الشعوب إقدامًا أم إحجامًا، تقدمًا أو نكوصًا.

(٢) من نقل الغرب إلى إبداع «الاستغراب»

وإن أحد الدوافع الرئيسية لإصدار هذا البيان النظري عن الجبهة الثانية «موقفنا من التراث الغربي» أو «مقدمة في علم الاستغراب» هو استمرار الإحالة لها. وأنا بصدد إعادة بناء الجبهة الأولى «موقفنا من التراث القديم» منذ بيانها النظري الأول منذ عشر سنوات، أو بعد تحقيق الجزء الأول منها العام الماضي «من العقيدة إلى الثورة».٣٦ وقد جعلني ذلك أتوقف عن كتابة الصياغة النهائية للجزء الثاني «من النقل إلى الإبداع» وهي المحاولة الثانية لإعادة بناء علوم الحكمة. ففي كل مرة يتم فيها النقاش حول الجبهة الأولى، سواء البيان النظري أو الجزء الأول منها، يُقال: أثر البنيوية، ألتُوسر، فُوكو، الظاهراتية، هوسِرْل، هِيجل، اسبِينوزا، لسنج، دِلتاي! فأُضطَر إلى بيان التمايز بين الجبهتين، وأنني لا أريد نقاش الجبهة الأولى «موقفنا من التراث القديم»، خاصة في جزئه الأول عن علم أصول الدين، وهو العلم المحلي الخالص القائم أساسًا على الموروث قبل نقد الوافد، وذلك بالإحالة المستمرة إلى الجبهة الثانية. فهذه أيضًا لها منطقها وعَلاقتنا المحكمة بها في علم دقيق آخر. وقد كشف ذلك عن مدى اغتراب المناقشين والمحاورين والدارسين والمفكرين، بإحالة الأنا باستمرار إلى الآخر، مما يقضي على إبداعها وأصالتها. أردت أن أقوم بالحركة العكسية لصالحهم، وكرَدٍّ على مواقفهم التي تعودوا عليها، وذلك بإحالة الآخر إلى الأنا، وهو موضوع علم «الاستغراب». أردت تحديد منطق هذه العَلاقة منذ البداية، عَلاقة الجبهة الأولى، التراث القديم، بالجبهة الثانية، التراث الغربي، حتى لا يُحال تراث الأنا إلى تراث الآخر، وأنا ما زلت بصدد بناء الجبهة الأولى والدخول في معاركها بإعادة بناء العلوم القديمة فيها.
وكنت قد نبهت على ذلك من قبل وأنا بصدد إعدادي المحاولة الثانية «من النقل إلى الإبداع» بمراجعة أحد مؤلفات مفكر عربي مرموق عن «الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي» واعتبرته نموذجًا لدراسة الأنا من منظور الآخر، وهو عكس ما كنت أقوم به وما أفعله حتى الآن، وهو أساس علم «الاستغراب»، وهو دراسة الآخر من منظور الأنا.٣٧ فاعتبار التاريخ الأوروبي والثقافة الغربية كإطار نظري مرجعي لفهم الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي تتم الإحالة إليه باستمرار هو نوع من التغريب النظري والمنهجي. بل إن استعمال التاريخ الغربي والثقافة الغربية كإطار مرجعي تتم الإحالة إليه باستمرار إنما يكشف عن موقف حضاري أبعد وأعمق، وهو فهم الأنا أو الذات بالإحالة المستمرة إلى الآخر أو الغير، وكأن الأنا أو الذات ليس لها إطارها النظري الخاص ولا يمكن فهمها بتكويناتها الداخلية وبالإحالة إلى الإطار النظري الخاص بها من داخل حضارتها التي تكونت فيها، وكأن الأنا لا تعكس نفسها إلا في مرآة الآخر، لا تعي ذاتها بذاتها إلا من خلال الآخر كمقياس ومعيار للحكم.٣٨ ألا يستطيع القارئ الذي لا يعرف كل هذا التاريخ الأوروبي والثقافة الغربية أن يفهم ذاته وشخصيته؟ وإذا كان المثقفون العرب أنفسهم لا يعلمون هذا الإطار المرجعي الغربي بالدرجة الكافية فكيف تعرف جماهير القراء ذلك؟ بل إن القارئ العربي الذي يعرف التاريخ الأوروبي والثقافة الغربية لقادر أيضًا أن يعرف ذاته بالإحالة إلى مكوناتها الشخصية ومخزوناتها النفسية ورواسبها القديمة. لا يقع المؤلف فقط في نوع من التغريب يعترف به بادئ ذي بدء، بل إن التغريب لديه يتحول إلى نوع من الاغتراب، اغتراب الأنا في الآخر، مع أن مكونات الشخصية العربية الإسلامية، كما فهمها القدماء، فهم الآخر من خلال الأنا، وإعادة بناء حضارات الآخر يونانية ورومانية وفارسية وهندية وصينية وعبرانية ابتداءً من حضارة الأنا. بل لقد استمر ذلك عند رواد النهضة العربية الحديثة، وفي مقدمتهم الطهطاوي سواء في «مناهج الألباب» أو في «تخليص الإبريز» وهم الرواد الذين أسقطهم المؤلف من الحساب، كما أسقط التراث القديم، بعد أن اختار التاريخ الأوروبي والثقافة الغربية كأساس نظري لفهم الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي، وكإطار مرجعي تتم الإحالة إليه باستمرار.٣٩ وتبدو مظاهر التغريب في دراسة الشخصية العربية سواء في الأحكام العامة أو في النظرة إلى التاريخ والعصور أو في بعض المصطلحات أو في المراجع العامة. فمن الأحكام العامة أن المشرق العربي لم ينهل من الثقافة الغربية قدر المغرب العربي، وبالنسبة للتاريخ والعصور يكون الإسلام جزءًا من تاريخ العصر الوسيط، وكأن الغرب مقياس لكل الحضارات، وتاريخ الغرب وعصوره الوسطى والحديثة والمعاصرة تاريخ لكل الحضارات وعصورها تبعًا لعَلاقة المركز بالأطراف. إن أهم نقد يمكن إذن توجيهه لأمثال هذه الدراسات هو استعمال التاريخ الغربي والثقافة الغربية كإطار مرجعي تتم الإحالة إليه باستمرار لفهم الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي، أي التغريب كأساس نظري لتحليل الموضوع. وقد يرجع ذلك، في هذه الحالة، إلى سببين؛ الأول: أن طول العَلاقة بين الإخوة المثقفين في المغرب العربي والثقافة الأوروبية، خاصة الفرنسية، جعل الغرب يظهر في الثقافة كإطار مرجعي أوحد تتم الإحالة إليه باستمرار، كما هو الحال لدى الإخوة في الشام، خاصة في لبنان، والثاني: أن الكتاب أصلًا باللغة الفرنسية يهدف إلى مخاطبة الجمهور الفرنسي. وربما لو كان الكتاب أصلًا باللغة العربية للجمهور العربي لما ظهرت هذه الإحالة المستمرة إلى الثقافة الغربية، وظهرت الثقافة العربية الإسلامية التي يعرفها القارئ العربي، التي يسهل إحالة الموضوعات إليها تقريبًا للأفهام.٤٠
ويصدر هذا البيان النظري الثاني حرصًا على الإبداع الذاتي ومنعًا لإحالة إبداع الأنا إلى ثقافة الآخر، وإيقافًا لمنهج الأثر والتأثر الخارجي الذي يهدف إلى تفريغ الأنا من كل طاقاتها، وجعلها أسيرة الظلم الحالي للتاريخ نتيجةً لعدم تكافؤ الأطراف مع المركز. فكل دعوة تظهر في حضارة الأنا يتم إرجاعها بالضرورة إلى حضارة الآخر، لما كانت الأنا على علم بالآخر، وكان الآخر منتجًا والأنا مستهلكًا، الآخر مبدع والأنا ناقل، الآخر مسيطر على أجهزة الإعلام وموجه لدُور النشر والأنا واقع تحت الهيمنة والسيطرة. كل دعوة للعقل ولإعمال الفكر هي ديكارتية بالضرورة. وكل دعوة إلى الحرية، حرية القول والفعل، هي ليبرالية شئنا أم أبينا. وكل دعوة إلى الاشتراكية والعدالة الاجتماعية فهي ماركسية بالحتم، وكل نداء إلى الاعتزاز بالإنسان والتأكيد على الوجود الإنساني هي وجودية بالقسر، وكل مطالبة بالفعل وتحقيق للنفع هي برجماتية منقولة، وكل تحليل للتجارِب الحية ووصف للظواهر الشعورية هي فينومينولوجيا مستعارة. لم يعد المفكر منا قادرًا على الإبداع قولًا أو فعلًا إلا إذا تمت إحالة إبداعه إلى مصادره الخارجية في الحضارة الغربية، وكأننا محكوم علينا بالنقل، عاجزون عن الإبداع، دورنا في التاريخ هو دور التلميذ والمتعلم والصبي أمام الأستاذ والمعلم والأسطى الكبير. أصبح الغرب هو الإطار المرجعي الأول والأخير لكل إبداع ذاتي غير أوروبي، كما كان الحال مع الحكماء الأولين بالنسبة لليونان. فخرج ابن رشد أرسطيًّا، ولقبه «الشارح الأعظم» أي التابع للآخر، ولا تخرج أصالته عن حدود الشرح والتبعية والقراءة لنص الآخر، استشراق في البداية الأولى والبداية الثانية، تابعون لليونان قديمًا، وتابعون للغرب حديثًا.٤١
وهناك الآن ظلم واقع على الوعي اللاأوروبي إذا أراد أن يكون مبدعًا، نظرًا للحضور المستمر للآخر في الأنا على النحو الآتي:
  • (أ)

    الكم الهائل من المعلومات التي على الأنا معرفتها من الآخر، والتي على الوعي المستهلِك أن يعرفها من الوعي المنتِج، مما يضِيق عمر المبدع عن الإحاطة به واستيعابه.

  • (ب)

    وفي حالة الإحاطة به فإن جانب النقل لديه يكون مثقلًا للغاية بحيث يئن تحت المنقول الذي يَثقُل على وعيه الحر، ويغطي الواقع ذاته، بل ويصبح بديلًا عنه، فيغترب الباحث، ويتعامل مع الظلال دون التعامل مباشرة مع الأشياء.

  • (جـ)

    وفي حالة حدوث الإبداع فإنه يحال إلى الثقافة الغربية وكأنها مصدره الأول ليس فقط في الشكل بل أيضًا في المضمون. فالإبداع أيضًا لا يتم إلا في إطار التبعية، وبالتالي يتحول الكل الإبداعي عند جميع الشعوب اللاأوروبية إلى الجزء الإبداعي الأوروبي ويلحق به بدعوى أن الكل الإبداعي قد تم في المركز وأن الأجزاء الإبداعية في الأطراف كلها تنبع من المركز كي تعود إليه وتصب فيه.

  • (د)

    وإذا ما توقف الإبداع كليةً فإن ذلك يُعزى إلى فقر الاطلاع على آخر الإبداعات الغربية. فلا إبداع بلا تعرف على مواطن الإبداع، وكأنه لا إبداع في كلتا الحالتين. إذا أبدع المبدع اللاأوروبي شيئًا فإنه يُحال إلى مثيله في الغرب، وإن لم يبدع مثله فإن السبب يكون عدم معرفته بالإبداعات المماثلة في الغرب، وبالتالي ارتبطت الأطراف بالمركز إلى الأبد، إيجابًا أم سلبًا، وجودًا أو عدمًا، حياة أو موتًا.

  • (هـ)

    وإذا ما أبدع المبدع في بداية نهضته فإن إبداعه يحال باستمرار إلى إبداع مماثل في الغرب المبدع منذ العصور الحديثة وعلى أكثر من خمسمائة عام، وبالتالي يكون الغرب أسبق باستمرار في وضع المناهج العقلانية والتجريبية والتحليلية والبنيوية والوصفية. أما كيف تكونت هذه الإبداعات في الغرب وما مصادرها من خارج الغرب فذاك يُضرَب حوله مؤامرات الصمت. فإبداعات الأطراف الآن تُحال إلى إبداعات المركز السابقة عليها. أما إبداعات المركز فلا تحال إلى إبداعات مراكز أخرى سابقةٍ خارج الوعي الأوروبي وهو في بداية تكوينه عندما كان يمثل أطرافًا لها.

ومع ذلك فعَلاقة الأنا بالآخر، عَلاقة الأنا المتغرب Westernized ﺑ الاستغراب Occidentalism أي الرغبة في التحرر من حضور الآخر في الأنا، عَلاقة مزدوِجة. ففي الوقت الذي ترغب فيه الأنا في التحرر من الآخر في إبداعاتها، بالرغم من إحالة الآخر لهذه الإبداعات إليه، فإن الأنا يُضطَر لا محالة لاستعمال ثقافة الآخر كأمثلة وكمادة تحليلية حاضرة في وعيه وفي وعي الآخرين. فتحرر الأنا من ثقافة الآخر إنما يتم عبر تحليل ثقافة الآخر في الأنا، وكأن تحرر العبد من طوق السيد إنما يتم من خلال هذا الطوق نفسه. فكل باحث اليوم ذو شعور مغترب alienated نظرًا لسيادة الحضارة الأوروبية وانتشارها خارج حدودها. يجد نفسه لا محالة بصدد تحليل الشواهد والأمثلة التاريخية من داخل الحضارة الأوروبية، وكأن الغرب هو العالم كله، وكأن تاريخ الفكر الأوروبي هو تاريخ الفكر الإنساني، وكأن الحضارة الغربية، خاصة في العصور الحديثة، هي الممثلة الوحيدة للحضارات البشرية كلها في مصر والصين وفارس وما بين النهرين وفي أفريقيا وفي خليج المِكسيك. وحرصًا على هذا التحرر من هذا التحيز الحضاري المسبق، ونحن ما زلنا ضحيته، فإن الشواهد والأمثلة التاريخية يمكن أن تتنوع قدر الإمكان كنوع من التحرر من حضور ثقافة الآخر في الأنا كمادة وحيدة للتحليل عند الأنا، وكإطار مرجعي نظري وحيد عند الآخر، حتى تشمل أكبر قدر ممكن من الحضارات الأخرى، وفي مقدمتها الحضارة الإسلامية التي تكوِّن مخزوننا النفسي، ورصيدنا الفلسفي، والتي ما زلنا نعيشها وتعيش فينا حتى الآن. ولما كان الباحث ذو الوعي المتحرر من الغرب لم يعِ بما فيه الكفاية إحدى دوائره الحضارية الكبرى، وأعمُّها دائرة الشرق، فذلك لأن الغرب ما زال يمثل لنا التحدي الأكبر، ليس فقط عسكريًّا واقتصاديًّا، بل ثقافيًّا وحضاريًّا. يكفينا في جدل الأنا والآخر تأسيس علم الاستغراب في مقابل «التغريب»، أي نقل الغرب، التخلص من آثاره. يكفينا تحجيمه وردُّه داخل حدوده الطبيعية حتى يَحدث التوازنُ في وعينا القومي بين حضارتنا وحضارات الغير، في الغرب أولًا، ثم في الشرق ثانيًا.٤٢

وتظهر هذه المقدمة عن علم «الاستغراب» في نفس الوقت الذي يتم فيه الإعداد للجزء الثاني «من النقل إلى الإبداع» من الجبهة الأولى «موقفنا من التراث القديم». إذ إن موضوع هذا الجزء هو عَلاقة الأنا بالآخر، الحضارة الناشئة بالحضارة القديمة، الحضارة الإسلامية في مواجهة الحضارة اليونانية أساسًا. وهو النموذج القديم لعَلاقتنا بالغرب حاليًّا. كما أن عَلاقتنا بالغرب حاليًّا استمرارٌ لنفس العَلاقة القديمة وإن اختلف النموذج. فإذا كان القدماء قد استطاعوا قراءة الآخر من منظور الأنا، فإننا حاليًّا نقرأ الأنا من منظور الآخر ولم نستطع بعد أن نرد على الاستشراق، وهو قراءة الغرب للَّاغرب من منظور الغرب، باستشراق مضاد أو استغراب، وهو قراءة الغرب من منظور اللَّاغرب. لذلك ستتم الإحالة باستمرارٍ إلى هاتين اللحظتين التاريخيتين في عَلاقة الأنا بالآخر، اللحظة القديمة في عَلاقتنا باليونان، واللحظة الحاليَّة في عَلاقتنا بالغرب. فالتحدي في كلتا اللحظتين كان من الغرب. أما الجناح الشرقي فكان أضعف في كلتا الحالتين من الجناح الغربي، ولو أن الجناح الشرقي في اللحظة القديمة (فارس والهند) كان أقوى من الجناح الشرقي الحالي (روسيا والصين) وأكثر حضورًا. الغاية إذن من هذا البيان النظري ليس فقط دراسة عَلاقتنا بالغرب حاليًّا، بل البحث في جذورها التاريخية في اللحظة الأولى في عَلاقتنا باليونان. وبالتالي يكون هذا البيان النظري الثاني نوعًا من البحث في أعماق الوعي التاريخي لمعرفة منطق الجدل الحضاري، ولماذا نجح القدماء في احتواء الآخر وتمثُّله، والرد عليه، وإكمال النقص فيه، وحذف الزيادة منه، ولماذا لم ننجح نحن بعدُ في اللحظة الحاليَّة فاحتوانا الآخر وذوَّبنا فيه؟

(٣) نتائج «الاستغراب»

فإذا ما تم تأسيس علم «الاستغراب»، وتناوله فريق من الباحثين على عدة أجيال، وتحول إلى تيار عام في البلاد، يساهم في خلق الثقافة الوطنية، تحدث النتائج الآتية:
  • (أ)

    السيطرة على الوعي الأوروبي، أي احتواؤه بدايةً ونهاية، نشأةً وتكوينًا، وبالتالي يقل إرهابه لأنه ليس بالوعي الذي لا يقهر، فيتحول الدارس إلى مدروس، والذات إلى موضوع، ولا نصبح ضائعين فيه. يمكن للإنسان أن يراه مرة واحدة، وأن ينظر إليه من أعلى بدلًا من أن يقبع أسفل منه. يتحول تلميذ اليوم إلى أستاذ الغد، وأستاذ الأمس إلى تلميذ اليوم. ومن يدري لمن تكون الريادة في المستقبل؟

  • (ب)

    دراسة الوعي الأوروبي على أنه تاريخ وليس خارج التاريخ. صحيح أنه تاريخ تَحقق على مراحل لا يمكن القفز عليها أو تجاوُز مراحلها المتوسطة، لكنه مع ذلك تجرِبة بشرية ومسار حضاري مثل غيره من التجارِب. إنه ليس التجرِبة الوحيدة أو المسار الحضاري الأوحد. هو إحدى مراحل تاريخ الوعي الإنساني الطويل ابتداءً من مصر والصين وحضارات الشرق القديم. إن الحضارة التي أبدعت فلسفة التاريخ، وأسست المنهج التاريخي، وسادتها النزعة التاريخية، وزهت بها على غيرها من الحضارات ذات النزعة اللاتاريخانية، وقدمت الماركسية كمادية تاريخية، وأسست علم اجتماع المعرفة، وعلم اجتماع الثقافة، والأنثروبولوجيا الحضارية، لَأَوْلى أن تطبق إبداعها على ذاتها. ويُثْبت علم «الاستغراب» أن الوعي اللاأوروبي الذي طالما تم إتهام الوعي الأوروبي له بأنه لا تاريخاني، قادرٌ على دراسة هذا الوعي الأوروبي ذاته في التاريخ، ويعيده إلى التاريخ بعد أن خرج منه بدعوى الاستقلال عنه وتمثيله لكل التاريخ. فالشعوب التاريخية، شعوب الشرق، قد تكون أكثر قدرة على تمثُّل الوعي التاريخي، نظرًا لعمقها في التاريخ، من الشعوب الحديثة، شعوب الغرب، نظرًا لحداثتها في التاريخ. فماذا تستطيع خمسة قرون وهو عمر الوعي الأوروبي في العصور الحديثة منذ الإصلاح الديني وعصر النهضة حتى الآن أمام ثلاثة آلاف سنة أو يزيد؛ عمر الوعي الشرقي في مصر والصين؟

  • (جـ)

    رد الغرب إلى حدوده الطبيعية، وإنهاء الغزو الثقافي، وإيقاف هذا المد الذي لا حدود له، وإرجاع الفلسفة الأوروبية إلى بيئتها المحلية التي منها نشأت، حتى تظهر خصوصيتها التي أمكن تعميمها من خلال الاستعمار والسيطرة وأجهزة الإعلام في لحظة ضعف الأنا وتقليده للآخر، واقتصار تحرره على الأرض دون الثقافة، إرجاع الثقافة والحضارة إلى الجغرافيا والتاريخ، إذ إن المسافة بين البيئة الجغرافية والتاريخية وبين الثقافة والحضارة الأوروبية متباينة للغاية، فالأولى محددة والثانية لا محددة. وإذا كان العامُّ قد انتقل من الخاص في عصر الريادة الأوروبية بالأمس، فإن العامَّ يمكن أن يعود إلى الخاص في عصر الانحسار الأوروبي اليوم.

  • (د)
    القضاء على أسطورة الثقافة العالمية، واكتشاف خصوصيات الشعوب، وأن لكل شعبٍ نمطَه الحضاري الخاص ووعيه المتميز، بل وعلومه الطبيعية وتقنيته الخاصة، كما هو الحال في الهند والصين وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وتطبيق مناهج علم اجتماع المعرفة والأنثروبولوجيا الحضارية على الوعي الأوروبي ذاته الذي أخرجها ويطبقها على كل الثقافات إلا ثقافته، الخَلق العبقري الأصيل الذي على غير منوال. وبالتالي تنتهي عَلاقة المركز بالأطراف. الحضارة الرئيسية والحضارات الفرعية، الحضارة بألف ولام التعريف والحضارات النكرة. وتتعدد الحضارات المركزية، وتتباين المراكز، وتصبح الحضارات كلها على مستوًى واحد، فيقع التبادل والتفاعل الحضاري، دون أن تقضي الحضارة الكبيرة على الحضارات الصغيرة باسم «التثاقف» أو «التحاضر» Acculturation.
  • (هـ)
    إفساح المجال للإبداع الذاتي للشعوب غير الأوروبية وتحريرها من هذا الغطاء الذهني، وهذه البنية العقلية حتى تفكر الشعوب بعقلياتها الخاصة وأطرها المحلية، فتتعدد الأنماط، وتتنوع النماذج. فليس هناك نموذج واحد لكل الشعوب، لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا (٥: ٤٨). وتصير العَلاقات بين الحضارات عَلاقات متبادلة وليست عَلاقات ذات اتجاه واحد وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا (٤٩: ١٣) فلا إبداع ذاتي دون تحرر من هيمنة الآخر، ولا إبداع أصيل دون العودة إلى الذات الخاصة بعد أن تقضي على اغترابها في الآخر. وتتجاوز هذه الأصالة مستوى الفنون الشعبية والمظاهر الخارجية إلى مستوى القوالب الذهنية والتصورات للعالم.
  • (و)

    القضاء على عقدة النقص لدى الشعوب غير الأوروبية بالنسبة للغرب، وقيامها بإبداعها الخلاق بدلًا من أن تكون مستهلكة للثقافة والعلم والفن، بل وتصير قادرة على التفوق على غيرها. وقد يتحول مركَّب النقص إلى مركب عظمة يساعد على الخلق والإبداع. وتبدو هاتان العقدتان عند تيارين رئيسيين في حياتنا الثقافية. فالعلمانية تشعر بهذا المركب للنقص أمام الغرب، شبانًا وشيوخًا، وكأن الإنسان لا يستطيع أن يكون عالمًا أو مفكرًا أو فنانًا أو حتى إنسانًا إلا إذا كان غربيًّا. والحركة السلفية تشعر بدورها بهذا المركب للعظمة، كرد فعل على الأول، بالنسبة للغرب، شبانًا وشيوخًا أيضًا، وكأن الإنسان لا يستطيع أن يكون إسلاميًّا إلا إذا نهل من القدماء، وتمسك بكل معطيات التراث دون نقد أو تمحيص أو إعادة اختيار بين البدائل، وكأن الإنسان في الحالتين لا يستطيع أن يكون إلا تابعًا، مرة للمحدَثين، ومرة للقدماء، مرة للعلمانية ومرة للحركة السفلية، وكأنه غير قادر على أن يعيش واقعه، ويعمل له، ينظِّره قدر إمكاناته، ويطوِّره قدر احتياجاته، ويبدع أصالته بصرف النظر عن مصادرها وأطرها النظرية المسبقة.

  • (ز)

    إعادة كتابة التاريخ بما يحقق أكبر قدر ممكن من المساواة في حق الشعوب بدلًا من النهب الأوروبي لثقافات العالم، واكتشاف دور الحضارات التي ساهمت في تكوين حضارة الغرب، والتي حاك الغرب حولها مؤامرة الصمت، ودون أن يكون الغرب هذه المرة، وبموضوعية تاريخية، مركز الثقل في العالم، فيه تصب كل الحضارات. فلكل حضارة دورها في الريادة في إحدى فترات التاريخ، ولكل منها دورها في التراكم المعرفي الذي اقترن أخيرًا في اللحظة الراهنة في الحضارة الغربية. فهناك اليوم حضارة، هي الحضارة الأوروبية، تأخذ كل شيء، وحضارات أخرى طواها النسيان؛ الأولى تأخذ أكثر مما تستحق، والثانية تنال أقل مما تستحق. الأولى تطور البشرية واكتمالها، والثانية بدايات البشرية. سبعة آلاف عام تنال في أي مؤلَّف في تاريخ الحضارات أقل من ربع الكتاب، وخمسمائة عام تنال الثلاثة أرباع!

  • (ﺣ)
    بداية فلسفة جديدة للتاريخ، تبدأ من ريح الشرق، واكتشاف الدوائر الحضارية وقانون تطورها أشمل وأعم من البيئة الأوروبية، وإعادة النظر في وضع الشعوب الشرقية كبدايات للتاريخ، كما هو الحال عند هردر وكانط وهيجل. وكما بدأت الحضارات من الشرق ثم انتقلت إلى الغرب فقد تعود إلى الشرق من جديد. قد ينتج عن هذا العلم الجديد تحول جذري في تاريخ العالم، فيكون على مشارف الانتقال من مرحلة قديمة إلى مرحلة جديدة، من عصر ريادة لحضارة إلى عصر ريادة لحضارة أخرى. فإذا كانت الاستكشافات الجغرافية هي البداية فإن رد الغرب إلى حدوده الطبيعية هي النهاية. وما حدث في الفلسفة من قبل، من الانتقال من «الأنا أفكر» إلى «الأنا موجود»، من ديكارت إلى هُوسِرْل، قد تكون دلالته أعمق ليس فقط من حيث تطور الفلسفة الأوروبية، واكتمال المثالية الترنسندنتالية، وتكوين الوعي الأوروبي والكشف عن بنيته، بل من حيث الوعي الأوروبي وريادته للعالم، وربما من حيث الوجود الأوروبي ذاته، وكما كشفت عن ذلك «فلسفة الوجود» المعاصرة.٤٣
  • (ط)
    انتهاء «الاستشراق» وتحول حضارات الشرق من موضوع إلى ذات، ومن أحجار إلى شعوب، وتصحيح الأحكام التي ألقاها الوعي الأوروبي وهو في عنفوان يقظته على حضارات الشرق وهي في عمق نومها وخمولها. فالاستشراق يكشف عن طبيعة العقلية الأوروبية ونظرتها إلى الآخر أكثر مما يكشف عن طبيعة الموضوع المدروس. فهو موضوع دراسة وليس دراسة موضوع. هو المرآة التي يكشف فيها الوعي الأوروبي عن ذاته للآخرين. وقد بدأ «الاستشراق» في جيلنا يتحول من دراسة موضوع إلى موضوع دراسة.٤٤ كما بدأ يتحول داخل الغرب ذاته من «الاستشراق» إلى «العلوم الإنسانية في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية». أما اليابان فما زالت ترعى الاسم القديم وتمارس «الاستشراق» التقليدي وتقبله. وقد آن الأوان أن يتحول رفض الاستشراق من مستوى الخطابة والعداء الساذج إلى مستوى العلم الدقيق. كما يتحول من مرحلة تصحيح الأحكام الخاطئة السابقة التي ألقاها الاستشراق على ظواهره، إلى أخذ هذه الأحكام ذاتها واعتبارها دوال تكشف عن عقلية الحاكم، تكوينًا وبنية.
  • (ي)

    إنشاء علم «الاستغراب» كعلم دقيق بعد أن ظهرت إرهاصاته لدى جيلنا ودون أن تتحول إلى علم، وتحويل الحضارة الأوروبية أيضًا من دراسة موضوع إلى موضوع دراسة، والكشف عن مسار هذه الحضارة، مصدرًا وبيئة، وبداية ونهاية، نشأة وتطورًا، بنية وتكوينًا كما فعلت مع غيرها عندما حولتها إلى مواضيع للدراسة فلم تسلم من التحيز والمحاباة. وقد يكون علم «الاستغراب» أسعد حظًّا في الموضوعية والحياد، معطيًا معاني جديدة لهما بعد أن يقضي عليهما وأسطورة ويكشف عنهما كخداع وتحايل. لقد آن الأوان لجيلنا أن يرى الحضارة الغربية عن بعد دون الالتصاق بها حتى يمكن رؤيتها في شمولها، ودون الابتعاد عنها فتختفي عن الأنظار، أو التوحد بها فيختفي الناظر.

  • (ك)
    تكوين الباحثين الوطنيين الذين يدرسون حضاراتهم الخاصة من منظور وطني، وحضارة الغير بطريقة أكثر حيادًا وإنصافًا مما فعل الغرب مع غيره. وبالتالي تنشأ العلوم الوطنية، وتتكون الثقافة الوطنية، ويتأسس التاريخ الوطني، وينتهي الفِصام في الثقافة والسياسة، بين العلم والوطن، بين الباحث والمواطن.٤٥ «علم الاستغراب» هو في حقيقة الأمر تحليل الثقافة الوطنية ووصف تفاعل الجبهات الثلاثة فيها: «التراث القديم» و«التراث الغربي» و«الواقع المباشر» الذي تبدو النصوص التراثية فيه متداخلة مع أزمات العصر وتحدياته سلبًا أكثر منها إيجابًا، وعائقًا أكثر منها دافعًا.٤٦
  • (ل)
    بداية جيل جديد من المفكرين بعد جيل الرواد الأوائل في عصر النهضة يمكن أن نسميهم فلاسفة بدلًا من هذا الصخب الدائر والضجيج المسموع حول سؤال: «هل لدينا فلاسفة؟» فكل تعامل مع الغرب بهذا المعنى هو فلسفة. وكل من يأخذ موقفًا من الآخر هو فيلسوف. وقد كان الحال كذلك في عصر النهضة الأوروبي عندما بدأ التعامل مع أرسطو على أيدي الشراح المسلمين ونقد الرشدية اللاتينية، وكان الحال كذلك أيضًا عندما تعاملت الحضارة الإسلامية مع الفلسفات الواردة، خاصة اليونانية، فخرج الحكماء يعيدون بناء الآخر من منظور الأنا.٤٧
  • (م)
    إذا كان جيلنا قد أكمل من قبل التحرر المباشر من الاستعمار، الاحتلال العسكري، ثم حاول بعد ذلك أن يحوِّل الثورة إلى دولة ويحقق الاستقلال الاقتصادي، فإن مهمة التحرر لم تكتمل بعد. لقد حاول البعض منا الانتقال من التحرر العسكري والاقتصادي إلى التحرر الثقافي والعلمي، ولكن الشوط ما زال بعيدًا بالرغم من كثرة الحديث عن الغزو الثقافي والنقل العلمي. والحقيقة أن علم «الاستغراب» قادر على أن يقوم بالتحرر من أساسه «الأُنطولوجي» وليس المعرفي، وذلك بتحرر الأنا من سيطرة الآخر، وهو التحرر الحضاري، حتى تبدأ الأنا في وضع ذاتها كأنا. «أنا لا أغترب» «إذن، أنا موجود» أو «أنا لست آخر»، «إذن أنا موجود». فالكوجيتو في عصرنا وعند جيلنا نافٍ، سالب، فيه يسبق السلب الإيجاب، والنفي الإثبات مثل الشهادة في «لا إله إلا الله».٤٨
  • (ن)
    وقد ينتج عن علم «الاستغراب» أخيرًا أن تشهد الإنسانية عصرًا جديدًا يختفي منه داء العنصرية الدفين الذي نشأ إبان تكوُّن الوعي الأوروبي حتى أصبح جزءًا من بنيته، وبالتالي تختفي عدوانية الشعوب بعضها على البعض بعد أن عانت الإنسانية من جراء حربين أوروبيتين في المركز والمحيط على السواء بينهما عشرون عامًا! وقد ورثت الصهيونية هذا الداء الدفين، وما زالت تمارس أساليب الاستعمار القديم والنازية الحديثة.٤٩ هذه ليست طوباوية يقع فيها علم «الاستغراب» بل تغيير جذري في الوعي الإنساني، إذ يرى الوعي الأوروبي حدوده، كما يرى الوعي اللاأوروبي إمكاناته، فلعل كلًّا منهما يصل إلى منتصف الطريق لخلق وعي إنساني جديد.

رابعًا: الجذور والامتداد

(١) جذور علم «الاستغراب»

وعلم «الاستغراب» ليس حديثًا؛ لأن عَلاقتنا بالغرب أيضًا ليست فقط وليدة العصر الحديث، بل تمتد جذورها منذ نشأة الأنا الحضاري المتمثل للتراث الإسلامي عبر أربعة عشر قرنًا أو يزيد. ففي عَلاقتنا باليونان كما فعل القدماء تمتد جذور علم «الاستغراب». اليونان جزء من الغرب، جغرافيًّا، وتاريخيًّا وحضاريًّا، وإلى اليونان والرومان تمتد مصادر الوعي الأوروبي. ولهذا الأنا الحضاري الجديد المتمثل للتراث الإسلامي القديم جذور أخرى أعمق في الماضي، في حضارات الشرق القديم في مصر، وكنعان، وآشور وبابل، وفارس، والهند، والصين، وهي الحضارات التي ورثها الإسلام، وتَمثَّلها الأنا الحضاري، الإسلامي الجديد. ولكن ذلك هو البعد الشرقي للأنا الحضاري الجديد وتطور التوحيد من ديانات الصين إلى الهند وإلى فارس ثم إلى ما بين النهرين وإلى كنعان وإلى مصر. واليهودية والمسيحية في جذور الأنا الحضاري الجديد من الشرق. فحضارات الشرق القديم على هذا النحو أصبحت مكونًا من مكونات الأنا الحضاري الجديد. بل إن عَلاقات الأنا الحضاري بالغرب قبل الإسلام مثل عَلاقات مصر باليونان والأثر المتبادل بين الحضارتين المصرية واليونانية، فإن ذلك أيضًا أقرب إلى مصادر الوعي الأوروبي، المصدر الشرقي وراء المصدر اليوناني الروماني. فهو بهذا المعنى جزء من علم الاستغراب فيما يتعلق بمصادر الوعي الأوروبي. ولكن لا يبدأ علم «الاستغراب» من جذوره إلا بعد بعث الأنا الحضاري الجديد وتمثُّل الثقافة اليونانية بعد عصر الترجمة.

تمتد جذور علم «الاستغراب» إذن في نموذجه القديم في عَلاقة الحضارة الإسلامية بالحضارة اليونانية. عندما كانت الحضارة الإسلامية ذاتًا دارسًا استطاعت أن تحوِّل الحضارة اليونانية إلى موضوع دراسة. فظهر الجدل بين الأنا والآخر جدلًا صحيحًا، الأنا ذات دارس، والآخر موضوع مدروس.٥٠ وقد تم ذلك على عدة مراحل:
  • (أ)

    النقل الحرفي وإعطاء الأولوية للفظ على المعنى حرصًا على اللغة المنقول منها، وهي اليونانية، مع العناية بنشأة المصطلح الفلسفي.

  • (ب)

    النقل المعنوي وإعطاء الأولوية للمعنى على اللفظ حرصًا على اللغة المنقول إليها، وهي العربية، مع بداية التأليف الفلسفي غير المباشر.

  • (جـ)

    الشرح، وهو إعطاء الأولوية للموضوع ذاته، أي الشيء على اللفظ والمعنى، ومحاولة التعبير عنه مباشرة مع ضم عبارة الآخر داخل الخطاب الجديد، ثم العناية بالبنية والكشف عن الموضوع ذاته. الشرح الأصغر يبدأ من النقل في منطلقه اللفظي الأول الجزئي، ثم يحاول أن يبني عليه رؤية جديدة. والشرح الأوسط يبدأ بالخطاب المنقول في معناه لينسج حوله خطابًا إبداعيًّا جديدًا أكلم وأشمل وأعم. والشرح الأكبر يبدأ بالخطاب المنقول ذاته ويبتعد عنه ثم يحلل الموضوع ذاته ويؤلف خطابًا موازيًا فيصبح الخطاب المنقول الأول مجرد موقف محدود داخل الموقف الفلسفي الأعم للخطاب الإبداعي الجديد.

  • (د)

    التلخيص، وهو دراسة الموضوع ذاته مع التركيز على اللب دون المحاجَّة والبرهان، الحد الأدنى من القول فيه بلا زيادة أو نقصان، يتجاوز النص إلى الشيء، والقول إلى الموضوع.

  • (هـ)

    التأليف في الوافد بالعرض والإكمال، وكأن نص الآخر قد تم احتواء لفظه ومعناه وموضوعه، وأصبح الموضوع هو موضوع الأنا المستقل.

  • (و)

    التأليف في موضوعات الوافد بالإضافة إلى موضوعات الموروث. وهنا تكتمل الصورة الكلية، وتصبح ثقافة الآخر متمايزة عن ثقافة الأنا.

  • (ز)

    نقد الوافد، وبيان محليته وارتباطه ببيئته، وبتعبيرنا: رده إلى حدوده الطبيعية، وبيان تاريخيته، وكيف أنه حالة خاصة ليس لديه من العموم والشمول ما يمكن أن يصبح وريثًا للحضارة البشرية جمعاء على عكس حضارة الأنا وقدرتها على ذلك.

  • (ﺣ)

    رفض الوافد كلية على أساس عدم الاحتياج إليه، والاكتفاء بنص الأنا الخام دون رغبة في الخروج منه وتعقيله والدخول في تفاعل مع ثقافات الآخر، وهو موقف بعض الفقهاء القدماء أو السلفيين المعاصرين.

وفي نفس الوقت أسست الأنا الحضاري الاستشراق القديم كما أنشأت الاستغراب، وتمثلت حضارات الشرق كما تمثلت حضارات الغرب، وقرأ النص الشرقي. وأشهر مَثلين على ذلك دراسة البيروني عن ديانات الهند،٥١ وابن مسكويه عن حكمة فارس.٥٢ واستمرت عَلاقة الأنا الحضاري بالشرق في العصر البيزنطي، ولكن العَلاقة كانت من الأنا إلى الآخر في عصر الترجمة من العربية إلى لغات الغرب، أكثر مما كانت من الآخر للأنا في عصر الترجمة من لغات الغرب إلى اللغة العربية.

وبعد الغزوات الصليبية والوعي الإسلامي في أوج الصراع بين الأنا المدافع والآخر الغازي ظهرت مرحلة جديدة من علم «الاستغراب»، صورة الآخر في وعي الأنا في أتون المعارك: التعصب، الجهل، الغزو، الفتن … إلخ. كما ظهر استشراق مضاد، صورة الوعي الإسلامي في الوعي الأوروبي: التحضر، التمدن، العلم، التسامح، الشجاعة، الشهادة … إلخ. كان الآخر هم الفرنجة، حاملو الصليب في أول محاولة للغرب للتوجه نحو الشرق تحت ستار الدين، أول محاولة للاستعمار عبر البحر الأبيض المتوسط، والانطلاق من الغرب إلى الشرق، نحو قلب الشرق، في فلسطين. وهو ما استأنفته الصهيونية بعد ذلك في هذا القرن. وما زالت هذه الفترة وما تتضمنه من صورتين متبادلتين بين الأنا والآخر لم تُدرس بعد كفكر، وإن كان بعض جوانبها قد دُرس من قبل في التاريخ والأدب.

ثم أتت مرحلة ثالثة في نهاية الوعي الإسلامي في نهاية القرون السبعة الأولى عندما صور ابن خلدون في «المقدمة» أهل الشمال. فقد كان معاصرًا لبدايات النهضة الأوروبية الحديثة. تحدث عن الفرنجة، بلادهم وتاريخهم وعمرانهم خاصة وقد كان بالمغرب، وقريب الصلة بهم من خلال الأندلس. كان الوعي الإسلامي في ذلك الوقت يقوم بدور الأستاذ والوعي الأوروبي بدور التلميذ. ولا غرابة أن يسأل الإمبراطور فردريك الثاني عبدا لحق بن سبعين عن أمهات المسائل الميتافيزيقية وكما هو معروف في «المسائل الصقلية». وقد نشأ الاتصال هذه المرة عبر صقلية وجنوب إيطاليا.

ثم بدأت صورة الغرب من جديد تظهر بقدوم الحملات الاستعمارية الحديثة، سواء حملة فريزر عام ١٨٠٧م، ثم الحملة الفرنسية وكما بدت صورتها في الأنا في «عجائب الآثار» ولدى علماء الأزهر مثل الشيخ حسن العطار.٥٣ وبدأت «صدمة الحداثة»، وبدأ الجدل بين الأنا والآخر، بين التخلف والتقدم، بين الجهل والعلم، أو بلغة القدماء بين علوم العرب وعلوم العجم، بين علوم الأواخر وعلوم الأوائل، بين علوم النقل وعلوم العقل، بين علوم الغايات وعلوم الوسائل، وبلغة جيلنا: بين التراث والتجديد أو بين الأصالة والمعاصرة. وعادت الحضارة السلامية من جديد تستأنف دورة ثانية، ودخلت في عَلاقة مع الآخر، مرة في صيغة اليونان القديمة ومرة مع أوروبا الحديثة، مرة من موضع قوة ومرة أخرى من موضع ضعف. كانت الجيوش فاتحة للبلدان والآن الجيوش مهزومة متقهقرة أمام الغزاة. كان الخطر قديمًا يهدد النظر، عقيدة التوحيد، بعد أن كان النصر على الأرض. أما اليوم فإن الخطر يهدد العمل بعد أن تمت المحافظة على التوحيد ولكن ضاعت الأرض تحت الأقدام. استطاع القدماء تمثل الآخر واحتواءه، واستطاع الآخر اليوم احتواءنا وإذابتنا فيه.٥٤
وكان الانفتاح الثقافي في بداية فجر نهضتنا الحديثة له ما يبرره على النحو الآتي:
  • (أ)

    بداية الصدمة الحضارية مع الغرب العلمي مما جعل الأنا تفقد التوازن، وتلهث وراء ما تجهله كي تتعلمه وتسيطر عليه، وتنجذب نحو الآخر، وفي غمرة هذا الانجذاب نسيت الأنا، ونسيت ذاتها، فتحول الأنا إلى آخر، ووقع في الاغتراب.

  • (ب)
    بداية اليقظة من صدمة الاستعمار، والدعوة إلى الأخذ بأساليب القوة التي بها تمكَّن الاستعمار منا فيتم التحرر بنفس الأدوات والعلوم التي تم بها الاستعمار. وبالتالي تتم محاربة الغرب بسلاحه، العلم والمدنية، لا فرق في ذلك بين إسلام ونصرانية.٥٥
  • (جـ)
    حركات الإصلاح، والرغبة في الخروج من العثمانية والتصوف والتراث السلطوي القديم، والدعوة إلى الأخذ بأساليب النهض الحديثة أسوة بالغربيين. فلماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟٥٦
  • (د)
    تأسيس الدولة الحديثة بعد الانفصال عن الدولة العَلِيَّة، وحاجة الدولة إلى منظِّرين ومهندسين وعلماء وإداريين لملء جهاز الدولة. وقد كان الطهطاوي على رأس هذا البناء.٥٧
  • (هـ)

    بداية البعثات العلمية للغرب، وإرسال الوطنيين للتعلم من الغرب، وعودة هذه البعثات كي تحدِّث المجتمع، وتبنيَ الدولة، وتخلق نمطًا جديدًا في الفكر والثقافة بجوار النمط القديم.

  • (و)
    الرحلات المتبادلة بين الشرق والغرب، ورؤية الأنا للآخر فيصبح الآخر مرآة للأنا، ويبدأ الانبهار بالغرب حتى يصبح هو النمط الوحيد للتحديث.٥٨
  • (ز)
    الترجمات عن الغرب منذ إنشاء «مدرسة الألسن»، وتحوُّل الترجمة — كما كان الحال في «ديوان الحكمة» سابقًا في عصر المأمون — من جهود فردية إلى عملٍ منظم تشرف عليه الدولة، واستمرار النقل حتى الآن دون توقف ودون أن تبدأ مرحلة الإبداع.٥٩
  • (ﺣ)

    بداية التأليف في موضوعات غربية عديدة في الفكر والسياسة والاجتماع والأخلاق والقانون … إلخ. فانتشرت المذاهب الغربية فوق الواقع وأصبحت تمثل بؤر جذب ثقافي للناس، وانتشرت المؤلفات حول الوضعية والوجودية والبرجماتية والماركسية. كما كثرت المؤلفات حول أسماء الأعلام مثل ديكارت، وكانط، وهيجل، وبركلي، ورسل، ووليم جيمس، وبرجسون، وهوايتهد، وفتجنشتين، وهيوم، ولوك، وكيركجارد من «نوابغ الفكر الغربي».

ثم بدأت إرهاصات علم «الاستغراب» في جيلنا. وتحدث الكثير منا عن إمكانية إنشاء هذا العلم، بل ضرورة ذلك، حتى يساعدنا على الخروج من نطاق التبعية الثقافية للغرب.٦٠ ولكن الغالب عليها أنها تعبير عن نوايا نعلنها جميعًا دون أن تتحول هذه النوايا إلى علم دقيق. «الاستغراب» ليس فقط مجرد نقيض الاستشراق أو الاستشراق المضاد أو الاستشراق معكوسًا. هو رد فعل على التغريب ومحاولة انتشال الأنا الحضاري من الاغتراب في الآخر. يغلب على البعض منها الكتابات الصحفية فالموضوع المثير لها، ومفيد لرواجها، لما يمثله من تحدٍّ وإثارة للأذهان ولحب استطلاع جماهير القراء وكأحد نماذج التحدي. فإذا كان الغرب قد استطاع وضع الاستشراق فلماذا لا يستطيع الشرق وضع «الاستغراب»؟ ومن المفيد المراجعة النقدية لهذه الإرهاصات الأولى دون ادعاء بأسبقية، سواء في استعمال المصطلح أو اشتقاقه.

ولكن خروج هذه المقدمة في «علم الاستغراب» في هذه اللحظة يدل على أن لحظة الإعلان عن النوايا قد تم تجاوزها، وأن الإرهاصات الأولى قد تم تحويلها إلى علم دقيق أو كاد. إنما هي مهمة مجموعة من المثقفين لإعطاء مزيد من الأحكام، مهمة فريق عمل يغرس كل باحث فيها نبتًا. وقد تكون مهمة عدة أجيال برؤًى مختلفة ولكن يظل التأسيس الأول لهذا الجيل، والمحاولة الكاملة الأولى هي هذه المقدمة في «علم الاستغراب».

(٢) الغرب كنمط للتحديث

وقد شاع في فكرنا المعاصر بروافده الثلاث: الإصلاح الديني عند الأفغاني ومدرسته، والفكر الليبرالي عند الطهطاوي وخلفائه، والتيار العلمي العلماني عند شبلي شميل ورفاقه، أن الغرب نمط للتحديث على مدى قرنين من الزمان.٦١ فبعد الصدمة الحضارية الأولى في فجر النهضة الحديثة، ومنذ الحملة الفرنسية على مصر، بدأ الأنا يقرأ ذاته في الآخر فوقعت صدمة الحداثة. وبدأ البون الشاسع بين الأنا والآخر، وضرورة لَحاق الأول بالثاني. ولكن سرعان ما أصبح الغرب نمطًا للتحديث عند التيارات الثلاثة بما مثله من نماذج في العلم والقوة والصناعات العسكرية والنظم البرلمانية والمَلَكيات المقيدة من منظور الإصلاح الديني (الأفغاني)، ومظاهر العمران وبناء الدولة الحديثة من منظور الفكر السياسي الاجتماعي الليبرالي (الطهطاوي)، والعلم الطبيعي والعلمانية من منظور التيار العلماني (شبلي شميل). بالرغم، إذن، من التمايز بين روافد النهضة الثلاث إلا أنها في واقع الأمر أخذت موقفًا متشابهًا من الغرب، وهو أنها جميعًا اعتبرت الغرب نمطًا للتحديث. والخلاف بينها مجرد اختلاف في الدرجة لا خلاف في النوع. فبالرغم من هجوم الحركة الإصلاحية على الماديين «النيتشريين» سواء في الهند أو في الغرب ممثَّلين في الاشتراكيين (السوسياليست) والشيوعيين (الكومونيست) والعدميين (النهيليست)، وبالرغم من رفضنا أطر الغرب النظرية المادية ومظاهر تقليده في الفكر والثقافة كما في السلوك والممارسة، إلا أن الإعجاب بالإنجازات العلمية والتفوق العلمي والعمران في الغرب دفع الإصلاح الديني إلى اعتبار الغرب من هذه الناحية نمطًا للتحديث. فمواجهة الاستعمار الغربي من الناحية العلمية لم تمنع من تبني الوسائل التي استعملها الغرب نفسه فأدت إلى تفوقه على غيره، وفي مقدمتها العلم والصناعة. وقد أدى كلاهما إلى القوة والغلبة. كما دافع الغرب عن الحرية وما تؤدي إليه من نظم برلمانية ومجالس نيابية ودساتير ومَلكيات مقيدة. وبالتالي استطاع الغرب أن يحقق العمران، ويبني المدن، ويراعي النظافة، ويتقدم ويكتشف علوم الإنسان والتاريخ. ولا يحارَب العدوُّ إلا بسلاحه، ولا سبيل إلى مواجهة الغرب إلا بأساليب الغرب، «وداوني بالتي كانت هي الداء». واستمر الحال كذلك في الجيلين الثالث والرابع على مستوى الفكر والمذاهب الفلسفية، خاصة بعد أن خفت حدة مقاومة الاستعمار بعد بدايات الحصول على الاستقلال الوطني. ولكن في نفس الوقت بدأت ظاهرة التغريب، ولم يلتفت إليها أحد إلا كرد فعل مضاد في الحركة السلفية المتهمة لدينا بالرجعية والتخلف والارتداد إلى الماضي. ولم يحاول الجيل الخامس تغيير النمط القديم «الغرب كنمط للتحديث» إلى «تحجيم الغرب» ورده إلى حدوده الطبيعية لإفساح المجال للإبداع الذاتي للشعوب ولتجارِبها الخاصة. بل لم يحاول أحد مراجعة «الرد على الدهريين» والموقف من المادية، وأن المادية ليست مذهبًا تاريخيًّا ظهر عند اليونان في القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد، بل بنية فكرية وموقف طبيعي للإنسان، وأنها تصور علمي للطبيعة، وليس تصورًا أخلاقيًّا يدعو إلى المشاركة في الأموال والأبضاع. بل إن الطبيعة ليست ضد الدين، فهناك الدين الطبيعي الذي كان عنصر تحرر في القرن الثامن عشر في الغرب، والذي كان عليه إبراهيم، وهو دين الإسلام. وقد ظهر تحليل العلل المادية في أبحاث الأصوليين القدماء، وكانت الطبيعيات باستمرار مقدمة للإلهيات عند الحكماء والمتكلمين، وكان الخلق هو الحق عند فلاسفة الصوفية.٦٢
أما التيار العلمي العلماني فإنه دعا صراحة إلى أخذ الغرب كنمط للتحديث دفاعًا عن الحداثة والمدنية. فالغرب هو مصدر المعرفة. وليس لدى غيره إلا الجهل. الغرب هو آخر مرحلة من تطور الإنسانية وليس لدى غيره إلا البدايات الأولى. الغرب هو العلم والاجتماع والعلوم الطبيعية والإنسانية، ولا حرج من تقليد الغرب في العادات والتقاليد، فالمدنية لا وطن لها. روج شبلي شميل للفكر العلمي وبيان أهمية التحليل العلمي والمنهج العلمي كي تحدث الصدمة الحضارية الثقافية بعد أن حدثت الأولى إبان الحملة الفرنسية على مصر في مشاهدة علماء الأزهر للتجارِب العلمية التي أجراها علماء الحملة. وقامت جريدة «المقتطف» التي أسسها يعقوب صروف بذلك خير قيام. واستمر فرح أنطون في الدعوة إلى العلم من خلال ابن رشد. استمر الجيل الأول في الدعوة إلى العلم الذي لا وطن له أو إلى العلم القومي حتى الجيل الثاني في القرن الماضي. ولكن خبت الدعوة على يد الجيل الثالث عند سلامة موسى ثم الجيل الرابع عند إسماعيل مظهر وزكي نجيب محمود، وانتهت إلى عزلة التيار عن الثقافة الوطنية السائدة ومكونها الرئيسي، وارتمائه كلية في أحضان الغرب أو بالردة عنه والعودة إلى تراث الأمة لإيجاد نوع من الاتساق الحضاري والاستمرارية في التاريخ. فما إن أتى الجيل الخامس حتى ظهر الاضطراب لدرجة الصراع بين العلم والإيمان ونشأة رد الفعل على العلم في الاتجاهات اللاعلمية واللاعقلانية المنتشرة في مجتمعاتنا اليوم.٦٣
وبالرغم من مشاركة أنصار هذا التيار في الحركة الوطنية باسم الليبرالية والحرية إلا أن اعتبار الغرب نمطًا للتحديث قد أدى عند الجيل الخامس إلى الوقوع الكلي في التغريب حيث أصبحنا وكلاء حضاريين للغرب، نخلط بين المعرفة والعلم، نجمع المعارف ونكرسها نقلًا عن الغرب، ولا ننشئ علمًا أو يكون لدينا تصور علمي للعالم. وأصبح حامل العلم لدينا هو الذي يبدأ حياته الفكرية بذكر أكبر قدر ممكن من أسماء الأعلام في الغرب والمذاهب الفكرية من الغرب منتسبًا إلى إحداها، داخلًا في معاركها، وهو لم ينشئها، وليس طرفًا فيها، ولا تعبر عن أي واقع لديه. ويبدو أن توقف الإبداع الذاتي كطابع متميز لمرحلة تاريخية أفسح المجال للنقل بصرف النظر عن مصدره، نقل من القدماء ونقل من المحدثين، نقل من القديم فتنشأ السلفية ونقل من الغرب فتنشأ العلمانية. وبالرغم من محاصرة العلمانية وعزلتها وظهور تراث الجماهير كعاملٍ مكون لثقافتها لم يحاول الجيل الخامس تغيير الغرب كنمط للتحديث، ولم يلتفت إلى تراث الشعب إلا كنوع من الفن الشعبي مطورًا إياه أيضًا بأسلوب غربي وأدوات غربية.٦٤
أما الفكر السياسي الليبرالي فإن الغرب لديه أيضًا، في إحدى لحظاته التاريخية، هي الثورة الفرنسية، كان نمطًا للتحديث. بدأت حركة الترجمة فيه، وتأسس ديوان الحكمة الثاني «مدرسة الألسن» لأجله ابتداءً من العلوم الطبيعية والإنسانية. وكانت «الشرطة» La Charte نموذجًا للدستور، وباريس مثالًا للعمران عند الطهطاوي. ودعا لطفي السيد لترجمة اليونان، وطه حسين لوضع مصر في ثقافة البحر الأبيض المتوسط.٦٥ ولم يحاول أحد منا أبناء الجيل الرابع أو الخامس مراجعة الغرب كنمط للتحديث في التيار الليبرالي بعد أن بانت حدوده، وتكشفت سلبياته. فبالرغم من عظمة الثورة الفرنسية إلا أنها أدت إلى غزو نابليون لأوروبا، وانتهت إلى عودة الملكية. وبالرغم من أهمية الفكر الحر الثاني الذي حمله الهيجليون الشبان إلا أنه أدى أيضًا إلى فشل ثورة ١٨٤٨م. وبالرغم من أهمية باريس كنموذج للعمران الحديث إلا أن ذلك قد أدى إلى اعوجاج في وعينا القومي كان سبب طوفان الهجرة. أصبح المواطن يعيش في قلب الغرب، ليس باريس وحدها بل أمريكا وأستراليا وكندا، واجدًا في الغرب أمله وحياته، حاضره ومستقبله، كسبه ومعاشه، حتى حدثت أكبر عملية لاستنزاف العقول. وأصبحنا نبني ونعمر في الغرب وبيتنا خراب. واستمرت الترجمة حتى الآن مما جعل أقصى مشروع لدينا هو ترجمة «الألف كتاب»، وأن الكتاب يُترجم لدينا أو يقرأ في نفس العام بعد صدوره في بلده الأصلي! فطالت فترة الترجمة إلى قرنين من الزمان، ولم يحدث إبداع بعد. في حين أن الترجمة الأولى في نشأة الحضارة الإسلامية لم يمر عليها قرن واحد، وهو القرن الثاني، حتى بدأ الإبداع بعدها في القرن الثالث. وتم الترويج بيننا لنظرية الصدمة الحضارية، ومؤداها أن معدل إنتاج الغرب أسرع بكثير من معدل ترجمتنا له. وبالتالي فإن الهوة بيننا تزداد اتساعًا على مر الأيام. مهما ترجمنا فإننا لن نلحق به حتى نظل نجري وراء الغرب، ولاءً للغرب، لاهثين. ثم بالصدمة الحضارية، أي باليأس من التقدم والتمدن، حتى على مستوى الترجمة والنقل دون أن نصل إلى مستوى الخلق والإبداع. وبالرغم من جهاد أنصار هذا التيار في الحركة الوطنية إلا أن الليبرالية أدت في النهاية إلى الإقطاع، وأدى الإقطاع إلى ثورات عسكرية انتهت بالقمع، أي بالقضاء على الليبرالية كمنطلق أول. ولم يمنع ذلك أيضًا، بنقل الغرب كنمط للتحديث في بعض البلدان، من الانتقال منه إلى موالاة الغرب والتحالف مع الغرب على المستوى السياسي والعسكري، والوقوع في مناطق النفوذ وسياسة المحاور. لم يحاول أحد منا، نحن أبناء الجيل الخامس، مراجعة هذا النمط للتحديث الذي كان متفقًا مع ظروف عصره داعيًا إلى تحجيم الغرب ورده إلى حدوده الطبيعية لإفساح المجال للإبداع الذاتي للشعوب، وتعدد أنماط التحديث طبقًا لخصوصياتها، والاستفادة من عمقها التاريخي وتجارِبها الوطنية وإمكانات شعوبها.٦٦
فبالرغم من تمايز هذه التيارات الثلاثة إلا أنها تبنت موقفًا واحدًا من الغرب وهو الغرب كنمط للتحديث. وكبا الإصلاح لاستمرار هذا النمط عبر أربعة أجيال دون أن يتغير على يد الجيل الخامس. فنشأت ظاهرة التغريب، وظهر رد الحركة السلفية بمعاداة الغرب المبدئية دون رد الغرب إلى حدوده الطبيعية وجعله موضوع دراسة في علم الاستغراب.٦٧
ثم استمرت مادة علم «الاستغراب» في الظهور عند الأجيال الثانية والثالثة والرابعة لجيل الرواد قبل الجيل الحالي، وفي الروافد الثلاثة دون منطق محكم، بل مجرد رؤية الأنا في مرآة الآخر مرة، ورؤية الآخر في مرآة الأنا مرة أخرى عن طريق منطق الحضور والغياب أو جدل الإيجاب والسلب. فما عندهم ليس لدينا، وما لدينا ليس عندهم.٦٨

وقد أدى ذلك إلى تحديث المجتمعات وتنمية مواردها على النمط الغربي. وتم الانتقال من الفكر إلى الواقع بنفس النموذج. فأصبحت التنمية مجرد زيادة في معدل الإنتاج. وانتقال من الزراعة إلى الصناعة، وتكوين القطاع العام من أجل ملكية الدول لوسائل الإنتاج، وهي النظريات السائدة في الفكر التنموي الغربي. فما إن غابت القيادة الثورية حتى انتهت التنمية وغاب التخطيط، وكأن النمط الغربي للتحديث كان مجرد فقاعة هواء، سواء في الثقافة أو في الممارسة العملية في القيام بعمليات التحديث.

وإذا كان الغرب كنمط للتحديث يبدو عند المثقفين في «فلسفة التنوير» كما كان الحال عند الطهطاوي نظرًا لما يطمحون إليه من عقلانية وحرية وديمقراطية ومساواة وعدالة اجتماعية وتقدم، فإن هذا النمط قد تحول عند «رجال الأعمال» إلى رأسمالية فجة، خاصة في عصر الردة عن الثورة العربية وانقلابها من داخلها إلى ثورة مضادة، بل وإلى رأسمالية تقوم على الغش والسرقة والمضاربات، وتهريب الأموال، والتجارة في السوق السوداء، والربح السريع، والرشاوي، والعمولات؛ نظرًا لأن الرأسمالية خارج الغرب لم تقم على مُثُلها السابقة ولا على قوانينها التي تحمي المنافسة وترشِّد حرية المعاملات. تحولت إلى رأسمالية تابعة للرأسمالية الغربية، رأسمالية بلا وطن ولا هدف إلا تراكم الأموال وتهريبها.

وكان من الطبيعي أن ينشأ رد فعل عنيف على ذلك، الغرب كنمط للتحديث، لدى الحركة السلفية التي ما زالت ترفض التعامل مع الآخر، مكتفية بذاتها من تراثها القديم. ولكنها لم ترفض الرأسمالية الناجمة عن هذا النمط، بل قبِلته على أسسها، وكما وضح في شركات توظيف الأموال. فالأساس النظري سلفية محافظة يغيب عنها العقل والتخطيط وقيم الليبرالية التي تستند إليها الرأسمالية، والممارسات العملية رأسمالية إقطاعية مرتبطة بالرأسمالية العالمية. فأخذت أسوأ ما في الأمرين. فلا هي استفادت من قيم الليبرالية التي تقوم عليها الرأسمالية، وهي قيم التنوير، ولا هي عرَفت العدالة الاجتماعية في الإسلام وتوزيع الثروة وحق الفقراء في أموال الأغنياء، وشيوع الماء والكلأ والنار، والاستخلاف، وحق الإمام في المصادرة والتأميم دفاعًا عن المصالح العامة، وأن الأرض لمن يفلحها، وأن من أحيا أرضًا مواتًا فهي له.٦٩

خامسًا: الغرب في فكرنا المعاصر

(١) الحالة الراهنة للثقافة الغربية في ثقافتنا المعاصرة

وقد أصبحت الثقافة الغربية في ثقافتنا المعاصرة ظاهرة تدعو للانتباه. فالعالِم هو الذي يعلم التراث الغربي، والعلم هي المعلومات الوافدة من الغرب. بل ولا يستطيع الإنسان أن يكون مجدِّدًا إلا إذا تعلم الوسائل الغربية. أصبح العلم نقلًا، والعالِم مترجِمًا، والمفكر عارضًا لبضاعة الغير. ووُجدت طبقة هشة من الأفكار والمذاهب والنظريات طائرةً فوق الواقع، لا هي مستمدة من الموروث القديم ولا هي نابعة من الواقع المباشر وتنظير له. تتضارب المعلومات، وتتعارض النظريات، ينفي بعضها البعض، ويحتار الباحث أمام العديد من هذه الأفكار والمذاهب المنتشرة فوق الواقع، المجتثة الجذور من أرضها، والمنتزعة من واقعها الخاص الذي نبتت فيه، كيف يختار؟ وما هي مقاييس الاختيار؟ زاد الكم بدرجة رهيبة، وما زالت الفكرة الأساسية التي يمكن أن تتخلله غائبة مع أنه يمكن إحياء هذا الكم السميك من المعلومات بوجهة نظر تحييه، تضمه وتلمه في فكره واحدة، تثبت شيئًا وترفض شيئًا آخر. فالفكرة ذات وجهين، وجه رافض ووجه قابل، وجه نافٍ ووجه مُثْبت، وجه سالب وآخر موجب. يمكن عن طريق أخذ المواقف إحياء المعلومات، وربطها بوجدان جمهور القراء وبالتيارات الأساسية في ثقافتهم الوطنية. ويستطيع الفكر بموقف واضح وبأقل عدد ممكن من المعلومات إحداثَ ثقافة، وإنشاء حضارة كما كان الحال في تراثنا القديم.٧٠
ومنذ أكثر من قرنين ونصف من الزمان نترجم، ونعرض، ونشرح، ونفسر التراث الغربي دون أن نأخذ منه موقفًا صريحًا واضحًا. ما زال موقفنا حتى الآن موقف الناقل. عصر الترجمة لدينا لم يتوقف بعد، أو على أكثر تقدير ما زال موقفنا هو موقف العارض للنظريات، وكأن هناك علمًا للعلم، أو كأن العلم يُنقل من بيئة إلى بيئة، له وجود مستقل عن واقعه. وهل يصبح المترجم أو العارض مثقفًا أم مفكرًا أم عالمًا؟ العلم موجود في الكتب، والكتب في المكتبات. ولكن يحدث العلم حين يأخذ العالِم المواقف بالنسبة للمترجَم أو المعروض، إما بيانًا لنشأة الفكرة أو المذهب في بيئته الخاصة من أجل التعرف على مسار الفكر وتطور البحوث الاجتماعية، أو من أجل تطبيق مباشر لهذه الفكرة في بحوثنا الخاصة، مع أنه من الأفضل أيضًا حتى في هذه الحالة خلق نظرية مباشرة لواقعنا المباشر. يتم أخذ الموقف إذن بالوعي بمتطلبات الواقع، وبإرجاع الأفكار والمذاهب الغربية إلى واقعها الخاص أو اعتبارها سابقة في حضارة أخرى كتجرِبة إنسانية عامة تُعرف ولا تُنقل.٧١
وكان إصدار هذا البيان الثاني ملحًّا نظرًا لأن فترة النقل الحالية عن الغرب قد طالت أكثر مما ينبغي، وتأخرت فترة الإبداع. فما زلنا ننقل عن الغرب منذ فجر النهضة الحديثة، أي ما يزيد على المائتي عام، ولم يتوقف النقل بعد. وما زال أكبر مشروع لدينا وإلى وقت قريب هو النقل، والذي سميناه ترجمة الأعمال الكاملة لكبار المفكرين والأدباء والعلماء في الغرب. ولما كان معدل الإنتاج في الغرب أكثر من معدل النقل فإن الهوة تزداد اتساعًا بين المنتج والمستهلك، والمستهلك واقع تحت وهم اللَّحاق بالركب وتقليل المسافة. وكلما اتسعت الهوة دب اليأس حتى يُصاب اللاهث بالصدمة الحضارية فيتوقف تمامًا، ويقبل مصيره التاريخي، وقدره كطرف لمركز، وفلك يدور حوله.٧٢
فإذا بدأ التأليف فإنه يكون أيضًا عرضًا لمادة مستقاة من الغرب حول موضوع ما، وإعادة ترتيبها، وكأن ما يُقال عن الشيء نفسه، يكفي الجامع معرفته باللغات الأجنبية، وقدرته في الحصول على المصادر، وجهده وتعبه في الفهم والتحصيل، ووقته الذي وهبه للعلم، وهو لا يعلم أنه واقع ضحية وهم أن العلم هو جمع المعلومات وليس قراءتها، أو استنباط علم جديد منها، أو معرفة كيفية نشأتها في بيئتها، أو التنظير المباشر لواقعه الخاص؛ ليُنشئ منه علمًا جديدًا يضاف إلى المعلومات القديمة. إن التأليف لا يكون إلا دراسة لموضوع وصياغة قول فيه، ونقد المنقول عنه بعد إرجاعه إلى العقل الصريح أو إلى الواقع ذاته من أجل إكماله وضبطه. حذف الزائد أو إكمال الناقص كما كان يفعل قدماء الشراح. ولكن عادة ما تكون حتى موضوعاتنا غربية أو شخصيات غربية وليست موضوعات محلية من واقعنا المَعيش، وكأن موضوعات العلم، وليس فقط مناهجه وتصوراته، لا بد وأن تكون كلها غربية بالضرورة. تراكمت فوق الواقع طبقات فوق طبقات من العلوم، ولم نَزدْ عليها حرفًا. المعلومات نقل، والعلم إبداع. المعلومات موجودة في المكتبات، والعلم هو ما يُستنبط من بين السطور أو ما ينتج عن مراجعة الفكر لنفسه بنفسه أو بإرجاعه إلى الواقع الذي نشأ منه. لذلك كثرت المؤلفات وقل العلم. زخرت المكتبات، وعز ما يُقرأ.٧٣

وكثرت الرسائل العلمية حول الموضوعات الغربية عرضًا وتقديمًا للمذاهب والمناهج الغربية حتى أصبحت مرادفة للعلم. فالعالِم هو الحامل لها، المتحدث عنها، المؤلف فيها. كثر الوكلاء الحضاريون في مجتمعنا، وتنافسوا فيما بينهم في المعروض والمنقول. وتكثر الدعاية بالرجوع إلى المصادر والمراجع بلغتها الأصلية، وكتابة المصطلحات بالإفرنجية أمام المصطلحات العربية خوفًا من سوء الاجتهاد، والشكوى من عدم طواعية اللغة العربية لمقتضيات المصطلحات الحديثة. وكثر تأليف الكتب الجامعية في المذاهب الغربية، ويظل أضخم مشروع لنا في ثورتنا الحديثة هو ترجمة «الألف كتاب» نقلًا عن المؤلفات الغربية. وما زالت برامج الكتب التابعة للسفارات الأجنبية ومراكزها الثقافية هو ترجمة الثقافة الغربية في هذا البلد أو ذاك إلى اللغة العربية. وتنال الكتب جوائز الدولة، ويحصل مؤلفوها على الدرجات الجامعية والترقيات الوظيفية. ويشار إلى الكتاب بأنه أحسن ما أُلف في الموضوع، وأن الناقل نقل أفضل ما لدى المنقول عنه من بضاعة لأفضل سوق، ولأطوع جمهور، وبأرخص سعر حتى يزيد الرواج. وتنشأ المَجلات الثقافية المتخصصة لنشر الثقافة الغربية، كما تقوم بذلك مراكز الأبحاث العلمية الغربية في البلاد. وتنتشر العلوم والأسماء الجديدة أمام شباب الباحثين فيشعرون بضآلتهم أمامها: الهرمنيوطيقا، السميوطيقا، الأستطيقا، الأسلوبية، البنيوية، الفينومينولوجيا، الأنثروبولوجيا، الترنسندنتالية … وتكثر عبارات التمفصلات، التمظهرات، الإبستيمية، إبوخية، الدياكرونية، السنكرونية … إلخ. أصبح المثقف هو الذي يلوك بلسانه معظم أسماء الأعلام المعاصرين في علوم اللسانيات والاجتماع، ويطبق هذا المنهج أو ذاك، متأثرًا بهذه الدراسة أو تلك.

ثم ظهر في جيلنا «استغراب» مقلوب، بدلًا من أن يرى المفكر والباحث صورة الآخر في ذهنه رأى صورته في ذهن الآخر. بدل أن يرى الآخر في مرآة الأنا رأي الأنا في مرآة الآخر. ولما كان الآخر متعدد المرايا ظهر الأنا متعدد الأوجه، نبدأ بمرآة الآخر ثم صورة الأنا فيها، مثل «الشخصانية الإسلامية»، «الماركسية العربية» أو «النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية» أو «الإنسانية والوجودية في الفكر العربي» أو «الجَوَّانية».٧٤ ويمكن أن يُستعار المنهج الغربي وحده بدلًا من المذهب، وبالتالي يُدرس التراث بمنهج ماركسي أو بنيوي أو ظاهراتي أو تحليلي. يُضحَّى بالموضوع في سبيل المنهج، وكأن الموضوع لا يفرض منهجه من داخله، وكأن الحضارة التي ينتمي إليها الموضوع لا منهج لها.٧٥ بل إنه يصعب في الفلسفة الأوروبية ذاتها التفرقة بين المذهب والمنهج.
وعيوب هذا «الاستغراب» المعكوس، وهذه العَلاقة المقلوبة هي الآتي:
  • (أ)

    اختيار جزئي من التراث الغربي، تراث الآخر، في أحد مذاهبه الشخصانية أو الماركسية أو الإنسانية والوجودية أو المثالية أو الوصفية وليس الغرب ككل، وابتسار الحضارة الأوروبية وردها إلى أحد أجزائها مع ضياع جدل الكل والأجزاء.

  • (ب)

    نزع هذه الأجزاء خارج بيئتها، مع أنها نشأت كرد فعل على مذاهب أخرى؛ فالماركسية رد فعل على المثالية الألمانية، والوجودية رد فعل على المثالية والوضعية، والمثالية رد فعل على الفلسفة المدرسية في العصر الوسيط، والإنسانية رد فعل على التمركز حول الله في الفلسفة المسيحية، والشخصانية رد فعل على الفلسفات المثالية المطلقة، والوضعية رد فعل على سوء استعمال اللغة في الميتافيزيقا الغربية، والظاهراتية رد فعل على النزعتين الصورية والمادية في الفلسفة الغربية؛ فالأجزاء يفسر بعضها بعضًا.

  • (جـ)

    قراءة التراث الإسلامي، تراث الأنا، كله من منظور المذهب الغربي الجزئي، وتأويل الكل الأصيل من منظور الجزء الدخيل، مما يطمس خصوصية التراث المقروء. وبالتالي يصبح التراث الغربي هو الإطار المرجعي لكل قراءة لتراث آخر، وجعل المركز هو المقياس، والأطراف هي المقيس، وبالتالي تضيع هُوية الأطراف التي يتم إحالتها باستمرار إلى المركز. وعلم «الاستغراب» إنما يهدف أساسًا إلى تغيير عَلاقة المركز بالأطراف حتى تتعدد المراكز، وتتباين النماذج، حتى يتم الحوار والتبادل بين أنداد.

  • (د)

    ابتسار الكل، تراث الأنا، ورده إلى جزء مشابه في تراث الآخر حتى يحدث التلقيح والتشابه. فتظهر الحضارة الإسلامية في نزعاتها المادية عند الطبائعيين الأوائل أو في مثاليات الفارابي أو في وجودية أبي حيان التوحيدي أو في إنسانية الصوفية أو في شخصانية القرآن أو في لسانيات علم الأصول.

  • (هـ)
    تكريس مركب النقص عند الأنا في مقابل مركب العظمة عند الآخر تحت وهم أن تجديد الأنا لا يتم إلا في مرآة الآخر، وأنه لا يتم رفع الأنا إلا على مستوى الآخر في أحد جوانبه إذا كان الباحث من المتمثلين لثقافة الآخر. أما إذا كان متمثلًا لثقافة الأنا فإنه يبين أن ما ظهر عند الآخر من فلسفات ومذاهب ومناهج إن هو إلا تطوير لبعض جوانب من تراث الأنا، في التصوف أو الأصول أو الفلسفة أو الكلام أو في العلوم العقلية الخالصة كالرياضيات والطبيعيات، أو حتى في العلوم النقلية مثل علم مصطلح الحديث. أما علم الاستغراب فإنه يقوم بدراسة التراث الغربي على النحو الآتي:
    • (١)

      لا يُدرس التراث الغربي في ذاته كي ننقل منه علمًا أو معرفة، بل لنأخذ منه موقفًا حتى في العلوم المضبوطة. فقد كان بإمكان الصين أخذ الجانب النظري من البحوث الذرية من حليفتها، ولكنها، حتى في هذا الجانب، آثرت القيام بأبحاثها المستقلة. يمكن اعتبار التراث الغربي من علوم الوسائل، على ما يقول القدماء، لا من علوم الغايات. التراث الغربي جزء من الثقافة العصرية يمكن استعماله كأحد أشكال التعبير كما استخدم الحكماء من قبلُ الفلسفة اليونانية قديمًا كوسيلة للتعبير ولغة للأداة وليس كعلم يُنقل، وذلك إجراء لعملية «تشكل كاذب» جديدة، هذه المرة مع التراث الغربي وليس مع التراث اليوناني.

    • (٢)

      دراسة التراث الغربي كجزء من تحليل واقعنا المعاصر باعتبار أن التراث الغربي قد أصبح أحد روافد ثقافتنا المعاصرة، بل أثر عند البعض في طرق تفكيرنا وتصوراتنا للعالم، وأن ما نسميه بالاستعمار الثقافي كشعار في الحقيقة موضوع دراسة علمية مستفيضة، خاصة وأن هذا الأثر قد طال وأصبح لا شعوريًّا. وربما يدخل، إن لم يكن قد دخل بالفعل، كجزء من تكوين عقليتنا المعاصرة.

    • (٣)

      دراسة التراث الغربي كجزء من دراسة تراثنا القديم؛ لأن فكرنا المعاصر ومنذ أكثر من مائة عام نقطة التقاء بين حضارتين، تراثنا القديم الذي يعاد بناؤه من جديد والتراث الغربي الذي هو امتداد للتراث اليوناني القديم كما كانت دراسة الفلسفة اليونانية القديمة جزءًا من دراسة الفكر الإسلامي القديم. وبالتالي استمرار العملية الواحدة التي انقطعنا عنها وجعلناها حلقة واحدة غير متصلة الحلقات عندما نظرنا إلى التراث باعتباره مجرد تاريخ انقضى ولم يعد حيًّا في شعور المعاصرين الفردي والجماعي.

    • (٤)

      دراسة التراث الغربي كجزء من المساهمة في الدراسات الإنسانية العامة لإفادة الغربيين أنفسهم، والمساهمة معهم في فهم تراثهم كما حاولوا هم في «الاستشراق» دراسة تراثنا وتعريفنا به. وقد نكون أسعد حظًّا في محاولتنا هذه، نظرًا لما يمكن أن نتمتع به من شعور محايد ونظرة متكاملة، نظرًا لانقضاء عصر الاستعمار، وبداية عصر التحرر والمساواة بين الشعوب.

(٢) الموقف من الغرب في دراستنا الوطنية

ومن دوافع تأسيس علم «الاستغراب» في جيلنا عدم وضوح العَلاقة بين الأنا والآخر، بين تراثنا القديم وتراث الغرب. إذ إننا بالنسبة لكل تراث نقوم بأخطاء ثلاثة. فبالنسبة للتراث القديم نقوم بالأخطاء الثلاثة الآتية:
  • (أ)

    ننزع أنفسنا من بيئتنا الثقافية، إما إحساسًا بالعار أمامها أو خجلًا منها أو جهلًا بها أو تقليدًا للغير أو انبهارًا به أو رغبة في اللَّحاق بركابه.

  • (ب)

    نزرع أنفسنا في بيئة ثقافية أخرى، ندخل في معاركها ونحن لسنا أطرافًا فيها، وبالتالي نحوِّل أنفسنا إلى وكلاء حضاريين للغرب. هذا مثالي، وذاك واقعي، هذا عقلي وذاك حسي، هذا وجودي وذاك وضعي، هذا تحليلي وذلك بنيوي، هذا ماركسي وذلك برجماتي … إلخ.

  • (جـ)

    نهرب من الواقع ذاته فلا نرى أوضاعه ولا أزماته، ولا ندخل في تحدياته، نراه من غير ثقافة أصيلة فيه أو كثقافات طائرة فوقه تحل محل الأولى، فيظل بلا حَراك لا يتغير، بعد أن صُفِّي دمه الأصيل ونُقل إليه دم غريب.

ونقوم بالنسبة لتراث الغرب بأخطاء ثلاثة كذلك:
  • (أ)

    إخراج الثقافة الغربية من بيئتها المحلية وظروفها التاريخية، وكأنها مذاهب مطلقة، وثقافة عامة لا أرض لها ولا وطن، وجعل أنفسنا أطرافًا في معاركها.

  • (ب)

    إعطاء الثقافة الغربية نوعًا من الإطلاق والتعميم ليس لها، ونشرها خارج حدودها، وبالتالي تحقيق مآرب ثقافة المركز باعتبارها ثقافة مهيمنة وموجهة للأطراف.

  • (جـ)

    محاربة الثقافة المحلية في حالة مقاومتها للثقافة الوافدة، وبالتالي إحداث الصراع بين الوافد والموروث، وشق الثقافة الوطنية، والوقوع في الازدواجية الثقافية.

أما في فكرنا المعاصر فقد تباينت المواقف بالنسبة للغرب على أنحاء ثلاثة طبقًا للتيارات الرئيسية الثلاثة وعلى نقيض المواقف الثلاثة من التراث القديم. وتبدو هذه المواقف خاصةً ابتداءً من الجيلين الثالث والرابع عندما كبا الإصلاح وتحول الإصلاح الديني في الجيلين الأول والثاني إلى سلفية في الجيلين الثالث والرابع، وعندما تحولت الليبرالية في الجيلين الأول والثاني إلى تسلط الدولة وغياب مؤسساتها المستقلة في الجيلين الثالث والرابع، وعندما انقلب التيار العلمي العلماني لدى الجيلين الأول والثاني إلى دينية تراثية لدى الجيلين الثالث والرابع.٧٦ لقد كان الغرب نمطًا للتحديث عند جيل الرواد في التيارات الثلاثة. ثم تباينت المواقف فيه عندما كبا الإصلاح كله وانتهى إلى ضد ما بدأ منه، وبدلًا من منطق التمثل والاستيعاب بدأ جدل الدفاع والهجوم. فأخذت الحركة الإصلاحية على يد جيلين، الثالث (رشيد رضا) والرابع (الإخوان المسلمون والجماعات الإسلامية خاصة) من التراث القديم موقف الدفاع ومن التراث الغربي موقف الهجوم. والتيار العلمي العلماني الذي أخذ من التراث القديم موقف الهجوم خاصة في الجيلين الثالث والرابع أيضًا (سلامة موسى … إلخ)، أخذ من الغرب موقف الدفاع، بل والتقليد، بدعوى الثقافة العالمية التي ليس لها وطن. أما الفكر السياسي الليبرالي الذي أخذ من التراث موقف الانتقاء لما يتفق مع بناء الدولة الحديثة فوجدها في نوع الأشعرية المخففة، أخذ من الغرب أيضًا موقف الانتقاء لفلسفة التنوير والليبرالية الغربية وما يتفق مع الحرية والدستور وحقوق المواطن. وبالتالي تراوحت المواقف من الغرب في فكرنا المعاصر بين مواقف ثلاثة: طرفان ووسط، الهجوم والدفاع والانتقاء.
وإن الموقف الحضاري الآن، بناءً على الوعي التاريخي، يقتضي أخذ موقف نقدي من القديم وليس الدفاع عنه أو الهجوم عليه، وهذه مهمة الجبهة الأولى، موقفنا من التراث القديم. كما يتطلب ثانيًا أخذ موقف نقدي من الغرب وليس الدفاع عنه أو الهجوم عليه، وهذه مهمة الجبهة الثانية، موقفنا من التراث الغربي. كما يقضي ثالثًا بأخذ موقف نقدي من الواقع لتغييره وتطويره وليس انعزالًا عنه. فالماضي ليس موطن دفاع أو هجوم بل إعادة بناء، والمستقبل كذلك ليس موضوع دفاع أو هجوم بل إعداد وتخطيط، والحاضر لا يمكن إرجاعه إلى الماضي (السلفية) أو دفعه نحو المستقبل (العلمانية)، بل هو الموطن الذي تتفاعل فيه الجبهات الثلاثة.٧٧ إن هذا الموقف النقدي من الغرب بدلًا من الهجوم عليه أو الدفاع عنه له ما يبرره في الآتي:
  • (أ)

    مظاهر التغريب في حياتنا الثقافية وأساليب الحياة اليومية مما يسبب أزمة هُوية وأصالة.

  • (ب)

    الاستعمار الثقافي وسطوته واستمراره من خلال سيطرة الغرب على أجهزة الإعلام والترويج لأسطورة الثقافة العالمية، ووقوع عديد من المثقفين ضحية لها.

  • (جـ)

    رد فعل الحركة الإسلامية العنيف، وعن حق، ضد التغريب حتى عادت بعض احتياجاتها، وخرجت على سنة القدماء في أخذ الحق من حيث أتى حتى ولو كان من الأمم القاصية عنا.

  • (د)

    بداية النهضة الإسلامية الجديدة، وإقالة الإصلاح من كبوته، مما يعطي تفاؤلًا بإمكانية الاستقلال الحضاري.

  • (هـ)

    كشف أزمة الغرب، وبأنه ليس بالحضارة التي لا تُقهر، وضياع الرهبة من الآخر، والتحرر من عقدة الخوف منه، وبأنه ليس الأستاذ الأبدي، أزمات في الوعي، وأزمات في الإنتاج.

وإلى الآن ما زالت الحيرة تقع في الدراسات الوطنية بالنسبة للحضارات الأوروبية نظرًا لسيادة جدل الهجوم والدفاع وليس منطق النقد وإعادة البناء على النحو الآتي:
  • (أ)

    الإغراق التام في الحضارة الغربية كتعبير عن تقليد الأنا للغير مما يؤدي إلى التجاهل التام لخصوصية الموضوع الوطني وإمكانية العثور على منهج وطني ملائم له. يتم التضحية بالموضوع الوطني في سبيل تطبيق منهج غربي، فالأولوية للمنهج على الموضوع. كما يكشف عن الإحساس بالنقص المنهجي أمام الغرب وعن غياب الوعي المنهجي العام والمستمر من التراث القديم. ويتم الاختيار عشوائيًّا طبقًا للمزاج أو درجة الحداثة للمنهج الغربي، خاصة وأنها متجددة ومتعددة بإيقاع سريع: عقلية، تجريبية، اجتماعية، بنيوية، تحليلية … إلخ. وعلى هذا النحو يكون الغرب المنهجي هو الإطار المرجعي الوحيد لأية دراسة وطنية.

  • (ب)

    التجاهل التام كرد فعل نفسي انفعالي غاضب من الأنا ضد الآخر مما يصيب الدراسة المحلية ذاتها بالعقم والتحجر والتَّكرار وفقدان الدلالة، والاكتفاء بعلوم الغايات دون علوم الوسائل. وبالتالي يبقى التراث القديم كما هو بلغته وتصوراته وواقعه منعزلًا تمامًا عن الواقع الحالي الذي يتطلب لغة جديدة ومفاهيم جديدة نظرًا لتغير متطلبات الواقع الجديد. فيدفع ذلك العلمانيين إلى مزيد من الإغراق في علوم الوسائل دون علوم الغايات. ويظل الفعل ورد الفعل يغذي بعضهما بعضًا في جدل دائري للنفي والإثبات.

  • (جـ)
    محاولة التوفيق بين الإطار المحلي والإطار الغربي عن طريق المنهج المقارن والتعامل بين ثقافتين «عربي بين ثقافتين». وقد يحدث ذلك بطرق عدة؛ أولًا: بيان أسبقية الموضوع المحلي على الحضارة الغربية في الاكتشافات العلمية الإنسانية أو الطبيعية مما يرضي غرور الأنا أو يعوضها عن الإحساس بالنقص أمام الآخر. ثانيًا: بيان أوجه التشابه بين حضارة الأنا وحضارة الآخر كمعلومات عامة غير موجهة مما يرضي فقط رغبة الباحث في إظهار أنه ذو حضارتين، وصاحب ثقافتين، ويعرف لغتين. وفي كلتا الحالتين تحدث نتيجتان:
    • (١)

      الإيحاء بأن التطوير لا يتم إلا من الخارج، وأن رؤية دلالات الموضوعات الوطنية لا تتم إلا باستعارة أدوات تحليلية من الآخر وكأن الموضوع نفسه مصمت، مجرد شيء، مع أن الموضوعات الوطنية النابعة من التراث هي مناهج، وأن التراث كله إنما أتى من مصدر منهجي ليؤسس علومًا منهجية.

    • (٢)

      الاعتراف بالعجز المنهجي للثقافة الوطنية عن أن تبدع أدوات تحليل ملائمة قادرة على تطوير الموضوعات الوطنية، وأنها مجرد تابع لمناهج الآخرين، ثقافة عمياء في حاجة إلى مبصرين، وبالتالي تأكيد غياب المنهج في رسائلنا الجامعية وفي حياتنا اليومية وفي إدارتنا لشئون البلاد.

إن أقصى ما استطعنا في عَلاقتنا بالتراث الغربي هو «الاستغراب المعكوس» أي تبني مذهب غربي مسبق بناء على المزاج أو الاختيار الأيديولوجي والوعي السياسي ثم محاولة قراءة الأنا خلاله مثل المثالية الغربية، الشخصانية، الظاهراتية، الماركسية، الوضعية، الوجودية، البنيوية، العلمية. وهي مقاييس فردية للاختيار أو اجتهادات جزئية وليست موقفًا حضاريًّا كليًّا شاملًا. تنتهي إلى تضارب بينها، كل منها يكفر الآخر، فوقعنا في تاريخ جديد للفرق بالإضافة إلى تاريخ الفرق الكلامية القديمة، كلٌّ منها يدَّعي أنه الفرقة الناجية. وتنتهي جميعها بتكافؤ الأدلة، إذ تتساوى جميعًا في شرعية الاختيار وشرعية رد الكل إلى الجزء.

لقد حاولنا في حياتنا العلمية السابقة أخذ موقف كلي من التراث الغربي، بدايةً بعرض كبار مفكريه. إذ قد يكون الهدف من الحديث عن مفكر غربي هو مجرد التعريف به وتقديمه للمواطنين بكل ما فيه من موضوعية تامة دون الفصل فيه بين ما له وما عليه. وهذا هو الطابع العام الغالب على دراساتنا وأبحاثنا وتعليقاتنا على المفكرين الغربيين. قد يكون ذلك مفيدًا للغاية في بداية تعرف ثقافة على أخرى. فقد شرح الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد الفلاسفة اليونان قبل أن يأخذوا منهم موقفًا أو يتمثلونهم أو يتجاوزونهم. ولكنه قد يكون مضرًّا للغاية إذا استمر هذا التعريف بعد مرحلة التعرف دون أن ينتقل إلى التمثل أو الرفض أو التحليل المباشر للواقع. وقد يكون الهدف أيضًا هو الدراسة الأكاديمية العلمية التي لا بد وأن تحدث في مجتمع نامٍ يقوم رواد البحث فيه بهذه المهمة للحصول على الدرجات العلمية أو لتعزيز التراث الإنساني بمزيد من الأبحاث. ولكن قد يُعتبر ذلك من قبيل الترف إذ يقوم بهذه المهمة عديد من الباحثين من كل أنحاء العالم مع تمتع بإمكانيات كبيرة قد لا تتوافر في المجتمعات النامية. كما أن مفكري البلاد النامية مرتبطون وجدانيًّا بواقعهم. وقد تكون لديهم إمكانيات واقعية في التحليل المباشر للواقع قد لا تتوافر لدى غيرهم من الباحثين، تمكنهم من إعطاء وجهات نظر جديدة، وإثراء الدراسات الفلسفية. فالانتساب إلى مستوًى حضاري تاريخي أو إلى مرحلة تاريخية معينة يمر بها شعب معين هو وطن الباحث كالانتساب إلى أيديولوجية سياسية أو مذهب فكري، يتيح فرصًا كثيرة لإلقاء وجهات نظر جديدة غير الدراسة العلمية الموضوعية الغامضة التي لا تنم عن موقف، ولا تدل على وضع تاريخي معين لشعب معين لباحث ينتمي إلى قوم وأرض وأمة. كان اختيارنا لفلاسفة بعينهم: اسبينوزا، فيكو، كانط، هيجل، وفيورباخ، ياسبرز، أورتيجا، ماركوز، هُوسِرل، ماكس فيبر … إلخ اختيارًا مقصودًا لمعالجة إحدى القضايا المعاصرة في واقعنا المعاصر عن طريق توجيه ثقافة الآخر نحوها. ربما تتشجع الأنا وتعالج قضيتها على نحو مستقل بعد أن تكون قد استفادت من تجارِب الآخرين. كان أقرب إلى التأليف غير المباشر ووضع الحق على لسان الآخرين في مجتمع يرى أن ناقل الكفر ليس بكافر. وهو نوع من القياس الشرعي. إذا كانت هذه ظروف الفكر الغربي وهذه اجتهاداته (الأصل) وإذا كانت هذه هي ظروفنا (الفرع)، وإذا كانت تلك الظروف وهذه الظروف متشابهة (العلة) فلماذا لا يكون لدينا نفس الاجتهاد؟ (الحكم). كان الهدف بيان الاتفاق أكثر من الاختلاف حتى يمكن أن تتشجع الأنا بعد ذلك لرصد أوجه الاختلاف وتطويرها.٧٨
وعلى هذا النحو يمحى كل أساس للتقليد، فالنمط الفني الأوروبي أو الفكري الغربي له ظروفه الخاصة التي نشأ فيها ولا يمكن نقله إلى بيئة أخرى باسم التجديد والمعاصرة دون إعادة تمحيص ونقد يقوم على وعي بتراث الأنا وبحاجة العصر وبتراث الغير. ويكون كل موقف في فكرنا الإصلاحي المعاصر يدعو إلى نبذ التقليد موقفًا سليمًا قائمًا على ضرورة الإبداع العصري، وعلى حكم شرعي قديم بأن إيمان المقلد لا يجوز، وبأن التقليد ليس مصدرًا من مصادر العلم. وعندما يتحدث مبدعونا عن العصر الحاضر والرُّوح المعاصرة والفن المعاصر، ويعنون الموجات الجديدة في الحضارات الأوروبية، فإن ذلك ليس تعبيرًا عن رُوح العصر في كل حضارة. وإن اختفاء الزمان من الفن الحديث الغربي في الرواية أو السينما له ما يبرره في تطور الحضارة الغربية ومرحلتها النهائية، وإن ظهور الفن التجريدي أو الموسيقى الإلكترونية أو الإيقاعات البدائية كل ذلك له أيضًا ما يبرره في الحضارة الأوروبية، ولكنه لا يعبر عن حضارات أخرى وشعوب في مرحلة النهضة، أي البداية الثانية والميلاد الجديد. وقد تكون الرُّوح المعاصرة في حضارة أخرى غير الرُّوح المعاصرة في الحضارة الأوروبية ومخالفة لها تمامًا بل على نقيضها. قد يكون ما يعبر عنها في المضمون لا في الشكل أو في الفن الواقعي وليس في الفن التجريدي أو إبراز مشكلة الزمان وليس إسقاطها من الحساب. لا يمكن نقل تراث من حضارة إلى أخرى إلا بعد عملية إعادة بناء للمنقول على أساس من رُوح العصر للحضارة الناشئة. وذلك ما يحدده الموقف الواعي باحتياجات العصر وبالتراث الغربي المعاصر في آنٍ واحد.٧٩ وإذا كان لا يجوز النقل من تراث الأنا القديم إلا بعد إعادة بنائه طبقًا لحاجات العصر الجديدة فالأَولى أن يتم ذلك بالنسبة لتراث الآخر.

(٣) علم «الاستغراب» في مؤلفاتنا السابقة

ليس الموضوع سبقًا صحفيًّا، أي منا استعمل المصطلح أولًا، فذاك خارج عن نطاق العلم الرصين وأقرب إلى الدعاية والإعلان. ولكن مضمون العلم كما بدا هَمُّ المعاصرين جميعًا منذ أكثر من مائتي عام حتى الآن. ويمكن القول بلا أدنى مبالغة أن مشروع «التراث والتجديد» كان هو همي الأول والوحيد منذ رسائلنا العلمية الثلاثة الأولى بالفرنسية حتى الآن. ويبدو أن هذا الاختيار الثلاثي منذ البداية وأنا في الثلاثينيات كان له دلالته على جبهات المشروع الثلاثة. فالرسالة الأولى «مناهج التفسير، محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه»، تتناول الجبهة الأولى «موقفنا من التراث القديم» في محاولة تطبيقية في أحد العلوم العقلية النقلية القديمة، إذ كنت أبحث عن منهج للناس جميعًا، منهج فكر وتطبيق، نظر وعمل، حقيقة وشريعة.٨٠ وكنت أسأل دائمًا لماذا لم أترجمها إلى اللغة العربية؟ وكان جوابي: لقد مضى عليها الآن أكثر من ربع قرن، وما زالت تحتاج إلى إعادة كتابة من جديد. صحيح أن الرُّوح باقية لا تتغير، ولكن كنت فيها أغوص في أعماق الوعي الفردي أكثر مما أصف الوعي الاجتماعي. كما أن مقدمتها النظرية دخل كثير منها في البيان النظري عن الجبهة الأولى «التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم» عام ١٩٨٠م، أي بعد كتابتها بخمسة عشر عامًا. ولكن سأعيد كتابتها من جديد بعد إعادة بناء علوم الحكمة في «من النقل إلى الإبداع»، وإعادة بناء علوم التصوف في «من الفناء إلى البقاء» ثم آتي من جديد إلى إعادة بناء علم أصول الفقه بعد ثلاثين عامًا من محاولتي الأولى، وذلك في «من النص إلى الواقع».٨١
والرسالة الثانية «تفسير الظاهريات (الفينومينولوجيا)، الحالة الراهنة للمنهج الظاهرياتي (الفينومينولوجي) وتطبيقه في الظاهرة الدينية» تتناول الجبهة الثانية «موقفنا من التراث الغربي». وما زالت تحمل جديدًا بالنسبة للدراسات الفينومينولوجية باعتبار الفينومينولوجيا نظرية في الوعي الفردي والوعي الحضاري الأوروبيَّين، خاصة فيما يتعلق بمحاولة لوضع قواعد للمنهج الظاهرياتي في ثلاث: التوقف عن الحكم، والبناء، والإيضاح، بعد أن عرَف الأوروبيون اثنتين فقط، وكذلك فيما يتعلق بالتأويل الديني للظاهريات اعتمادًا على حياة هُوسِرل الشخصية ورُوح الظاهريات كعَود إلى «العهد الجديد»، وهو ما يتفق مع تأويلي للفلسفة الغربية كلها، خاصةً المثالية الترنسندنتالية بأنها عَود من جديد إلى «المواعظ على الجبل» للسيد المسيح، وما كانط أو فشته إلا مسيح جديد. وستظل الرسالة بلغتها الأصلية (الفرنسية) لأنها كُتبت لجمهور أوروبي وبمصطلحات العلم، ولو أننا حاولنا إعادة التعبير عن بعض من نتائجها في دراسات سابقة.٨٢ إنما أقوم بالمحاولة كلها من جديد ليس كدراسة للفينومينولوجيا عند هُوسِرل ولكن بدراسة الموضوع ذاته، بناء الوعي الأوروبي وتكوينه، وهو موضوع علم الاستغراب، مع إظهار مصادره التي أخفاها الفلاسفة الأوروبيون. وفي تمهيد الرسالة توجد محاولة أولى لتأسيس علم «الاستغراب» تحت عنوانين: (١) ظاهرة الوعي الأوروبي. (٢) الشعور المحايد والشعور المغترب، الأول لبيان ظهور موضوع الوعي الأوروبي في الفلسفة المعاصرة كموضوع بنيوي مستقل عن التاريخ وكموضوع دراسة. يبرز الوعي الأوروبي كموضوع يؤرخ لنفسه كعلامة على بداية النهاية كما ظهر أرسطو من قبل مؤرخًا للحضارة اليونانية، يبرز تاريخ الموضوع قبل أن يكشف عن بنيته واكتماله، وكما ظهر ابن رشد وهو يؤرخ للفلسفة الإسلامية وللفلسفة اليونانية مبينًا اكتمال كل منهما، الأولى من الكندي إلى الفارابي وابن سينا ثم إلى ابن رشد، والثانية من سقراط إلى أفلاطون ثم إلى أرسطو،٨٣ وكما فعل ابن خلدون من قبل مؤرخًا للحضارة الإسلامية في فترتها الأولى على مدى سبعمائة عام. والثاني لبيان ضرورة أن يقوم شعور غير أوروبي أي شعور محايد بتأسيس هذا العلم وليس الشعور الأوروبي المغترب حيث لا يتم فيه التمايز بين الذات والموضوع. فالشعور الأوروبي لا يُدرس إلا بشعور لا أوروبي حتى يحدث التمايز بين الذات والموضوع. وكيف يستطيع الشعور الأوروبي أن يكون ذاتًا لتأسيس هذا العلم، وهو نفسه موضوع العلم؟٨٤
والرسالة الثالثة: «ظاهريات التفسير، محاول لتفسير وجودي ابتداء من العهد الجديد». وتتناول الجبهة الثالثة «موقفنا من الواقع أو نظرية التفسير»، حاولت فيها إيجاد الصلة بين النص والواقع في حالة العهد الجديد، والتي من خلالها بدأ التعرف على علم النقد التاريخي للكتب المقدسة، وأنواع النقد خاصة المحافظ، والليبرالي، ومدرسة «تاريخ الأشكال الأدبية».٨٥ ظهرت نشأة النص في الوعي الفردي والوعي الجماعي في الجماعات الدينية الأولى، وبداية التقنين بقرار من السلطة الدينية بناء على مقاييس عقائدية صرفة، وليس بناء على نقد تاريخي علمي كما حدث عند المسلمين، وكما حدث بعد ذلك في التراث الغربي الحديث. ظهر الواقع أساس النص ومتطورًا بتطوره، وهو ما عرَفناه قديمًا باسم «أسباب النزول» و«الناسخ والمنسوخ». كما ظهرت التجرِبة الإنسانية وراء النص، وأن كلام الله هو في الحقيقة كلام الإنسان طبقًا لتجارِبه وخبراته. فالوجود الإنساني الفردي والجماعي هو منشئ النص.٨٦

وتمثل ترجماتنا الأربعة:

(١) «نماذج من الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط: أوغسطين، أنسيلم، توما الأكويني»،٨٧ (٢) اسبينوزا: «رسالة من اللاهوت والسياسة»، (٣) لسنج: «تربية الجنس البشري»، (٤) جان بول سارتر «تعالي الأنا موجود»، نوعًا من تأسيس علم «الاستغراب» عن طريق إعطاء نماذج تطبيقية لكيفية قراءة حضارة الآخر من خلال حضارة الأنا، وكيفية التعبير عن حضارة الأنا من خلال لغة ومفاهيم الآخر كما كان يفعل الشراح القدماء. وذلك لتحقيق عدة أهداف:
  • (أ)

    القضاء على الازدواجية بين المورث والوافد من أجل خلق وحدة ثقافية وطنية، ووحدة شخصية قومية ليدرك القراء أن الثقافة واحدة إذا ما تشابهت الظروف في مجتمعين مختلفين.

  • (ب)

    تحديث الموروث تلقائيًّا وطبيعيًّا من خلال الإبقاء على المضمون والرُّوح مع تغيير الشكل والحرف، وكما فعل القدماء بتحديث موروثهم الجديد من خلال ثقافة اليونان الجديدة.

  • (جـ)

    ضياع رهبة الجديد وعدم الإحساس بالنقص أمامه والتعامل معه تعامل الند للند، بل ونقده، وبيان أوجه توجهه ثم إكماله. فقد كان الحكماء القدماء أرسطيين أكثر من أرسطو. وقد تم الإعلان عن بداية الوعي الأوروبي في «الأنا أفكر» (ديكارت) ونهايته في «الأنا موجود» (هُوسِرل) وانحسار التطور بين البداية والنهاية في «تعالي الأنا موجود».

  • (د)

    عدم تعود العصر على أمثال هذه الدراسات، إعمال العقل في النص وفي الواقع، جعَل تقديم اجتهادات الآخرين مرحلة تمهيدية قبل الدراسة المباشرة كما فعل المترجمون القدماء قبل الشراح حتى تتعود البيئة على أمثال هذه الدراسات بلسان الغير، وما الأنا إلا مجرد عارض لبضاعة ليس هو منتجها.

وبعد هزيمة ١٩٦٧م ظهر المشروع في بدايته من جديد على مستوى جماهير القراء وليس على مستوى المتخصصين على أنه جدل بين الأنا والآخر في قضايا معاصرة بجزأيه: الأول «في فكرنا المعاصر» عن الأنا، والثاني «في الفكر الغربي المعاصر» عن الآخر. وتكاد لا تخلو دراسة واحدة عن الإعلان عن احتمال قيام مثل هذا العلم. وكانت أول دراسة مفصلة لذلك «موقفنا من التراث الغربي» وإعطاء نماذج لكيفية قراءة الآخر من منظور الأنا وطبقًا لحاجاته مثل العقلانية والتنوير وفلسفات الدين وفلسفات الثورة.٨٨ وقد تم نفس الشيء في دراساتنا باللغة الإنجليزية التي ألقيت في مؤتمرات خارجية كنموذج لقراءة الآخر من منظور الأنا، سواء فيما يتعلق بالنص الديني، والقرآن، أي الأنا، إنما قرأ اليهودية والمسيحية، أي الآخر، من منظوره، أو فيما يتعلق بمسائل التحرر والثورة على مستوى الفكر ومقابلة عقيدة بعقيدة، وثورة بثورة.٨٩ واستمر هذا الجدل بين الأنا والآخر عنصرًا دائمًا في مؤلفاتنا التالية، سواء بإعطاء نماذج من القدماء: كيف كان الفارابي وابن رشد شارحَين لأرسطو، أو بالقيام بنفس المحاولة من جديد مع المعاصرين مباشرة، ولإبراز التمايز بين الموقفين الحضاريين.٩٠
وبعد الردة، وفي عصر الثورة المضادة، صدر البيان النظري عن الجبهة الأولى «التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم» لتحديد طرق النظر في ثقافة الأنا دون أن يغيب عن الذهن أن هذا التحديد أيضًا يتم بالنسبة لثقافة الآخر على نحو غير مباشر. وقد تم ذلك صراحة في نقد التغيير بواسطة الجديد وبيان بعض أخطائه، مثل التبعية الفكرية للغرب، وهو ما سمي فيما بعد «الاستغراب المعكوس»، والإشارة إلى الجبهة الثانية كجبهة مستقلة، وبيان أن منهج الأثر والتأثر الذي استعمله المستشرقون إنما هو عَلاقة أحادية الطرف من الآخر إلى الأنا ليقضي على إبداعها الذاتي.٩١ ولكن تظل المحاولة الأخيرة لهذه الصياغة قبل الآن هي «العلم الاجتماعي الجديد» بالإنجليزية حاولت أن أقدمه مشروعًا لجامعة الأمم المتحدة في خطتها الخمسية الثانية وأنا أحدد معالم هذا العلم الجديد، وأربطه بفترة التحولات التاريخية الرئيسية في تاريخ الشعوب والحضارات وأجدد دوافعه وأقسامه وموضوعاته ومناهجه ونتائجه. ولكن تم إلغاء قسم الدراسات الإنسانية كليةً بالجامعة بعد أن عصفت بها الهيمنة الغربية كما عصفت باليونسكو بعد مشروع «النظام الإعلامي الجديد».٩٢ ويتم الآن جمع دراسات عديدة باللغة الإنجليزية والفرنسية عن نفس الموضوع، جدل الأنا والآخر، وإن كان التركيز على الأنا أكثر من التركيز على الآخر. فالموضوع يهمنا ولذلك أكتب بالعربية، ويهمهم ولذلك أكتب بلغاتهم.٩٣

ويصدر الآن هذا البيان النظري عن الجبهة الثانية «موقفنا من التراث الغربي» بعد أن ازداد مشروع «التراث والتجديد» إحكامًا، خاصة بعد إصدار الجزء الأول من الجبهة الأولى أعني «من العقيدة إلى الثورة» ومعرفة بعض العيوب، إما في منهج التحليل أو في طريقة التعبير أو في أسلوب الإخراج. كما ازددت وعيًا بالاعتراضات إثر المناقشات المستمرة منذ إخراج البيان النظري الأول، والعديد من المراجعات النقدية له. وقد أكون ازددت نضجًا، على الرغم من أنه في هذه السن تكون الاختيارات قد تمت من قبل، ويكون هامش التغيير محدودًا للغاية، وفي الشكل أكثر منه في المضمون.

سادسًا: شبهات واعتراضات

(١) شبهات ومخاوف

وقد تثار بعض الشبهات، ويُبدي بعض المخاوف من هذه الجبهة الثانية وبيانها النظري بعد أن تعود الناس على الجبهة الأولى والموقف الناقد من التراث القديم. ويمكن صياغة بعض هذه الشبهات والمخاوف على النحو الآتي:
  • (أ)
    تمثل هذه الجبهة الثانية «موقفنا من التراث الغربي» خطوة إلى الوراء عن الجبهة الأولى «موقفنا من التراث القديم». فإذا كانت الجبهة الأولى تحاول قراءة الماضي من منظور الحاضر، وعلى فرض نجاحه في ذلك ولم يقع في قراءة الحاضر من منظور الماضي، فإن الجبهة الثانية تمثل خطوة إلى الوراء ورفضًا للآخر وتحجيمًا له. إذا كانت الجبهة الأولى تمثل الخروج من الأنا الماضي إلى الحاضر فإن الجبهة الثانية تمثل الخروج من الحاضر والعودة إلى الأنا. إذا كانت الجبهة الأولى خروجًا من التراث إلى التجديد فإن الجبهة الثانية عود من التجديد إلى التراث. إذا كانت الجبهة الأولى قراءة الأنا من منظور الآخر فإن الجبهة الثانية قراءة الآخر من منظور الأنا. إذا كانت الجبهة الأولى دعوة إلى المعاصرة فإن الجبهة الثانية دعوة إلى الأصالة. فالجبهتان إذن تمثلان خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف «محلك سر». والمشروع يثبت شيئًا ثم ينفيه بعد ذلك، يشتمل في جوهره على تناقص في الموقف. فلماذا لا نختار بين «إما … أو» بمنطق التبادل وليس بمنطق الإلغاء؟٩٤

    والحقيقة أنه لا يوجد أي تراجع عن مواقف سابقة، خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف، بل هناك موقفان متمايزان:

    الأول: دعوة إلى المعاصرة وقراءة الماضي من خلال متطلبات الحاضر، وهو ما يتفق مع أهداف التقدميين، خاصة العلمانيين منهم. والثاني: دعوة إلى الأصالة، وكشف قدرات الذات على الإبداع، ورد الآخر إلى حدوده الطبيعية للتحرر من غزوه الثقافي والقضاء على تقليده. وهو أقرب إلى النظرة العلمية التي ترى كل حضارة داخل إطارها، نشأت في ظروفها تلبية لحاجاتها، وهو ما يتفق مع موقف الإسلاميين دعاة الهُوية والعودة إلى الذات في مواجهة غزو الآخر. هما خطوتان متمايزتان في جبهتين متمايزتين. فالتقدم ليس أحادي الطرف أو الاتجاه. في مرحلة الانغلاق الحضاري يكون الانفتاح الثقافي تقدمًا. وفي مرحلة الانفتاح الثقافي إلى درجة التقليد والتبعية تمثل العودة إلى الذات والدفاع عن الهُوية تقدمًا. فلا يوجد تقدم مستمر في خط واحد إلا من منظور مذهبي أيديولوجي وليس على أساس علمي عقلاني. وهناك فرق بين العودة إلى الذات وأخذ موقف من الآخر وبين الرفض الانفعالي للآخر واتهام كل واحد بأنه مستورِد يجب رفضه. هذا هو الموقف الرجعي لأنه يرفض الوافد عن غير علم، بل من مجرد عبارات متناثرةٍ القصدُ منها تشويه الوافد لحصاره واستبعاده وسط جماهير أكثر جهلًا من نخبتها ووسط شعوب محاصرة من قادتها. والهدف من محاصرة الوافد هو الدفاع عن الوضع القائم نظرًا لما يتضمنه هذا الوافد من إمكانية تنوير الأذهان وتثوير الواقع. كما أن الذات التي يتم المطالبة بالعودة إليها هي الذات المتحجرة في التاريخ، وتراث السلطة الذي مثلته ورعته بعد أن أفرزته وزينته فرقة السلطان، والذي تستعمله الأنظمة الحاليَّة كوسيلة لتدعيم النظام باسم الشرعية، وكسلاح أيديولوجي ضد الخصوم السياسيين. لا تعني إذن الدعوة إلى تحجيم الغرب ورده إلى حدوده الطبيعية والقضاء على أسطورة الثقافة العالمية وبيان محلية ثقافته مثل أية ثقافة أخرى، أيَّ دعوة إلى الانغلاق أو العودة إلى جنون الذات أو رفض التعرف على الغير، بل تعني أن فترة التعلم قد طالت وأن فترة الإبداع قد تأخرت، وأنه قد آن الأوان للانتقال من النقل إلى الإبداع.٩٥
  • (ب)
    وكثيرًا ما تُستعمل حجة إحراجية يصعب الرد عليها، وإلا اتُّهم الرافض لها بأنه ضد العصر الحديث رافضًا بديهياته وواقعه، وهي أن رفض الغرب يقتضي بالضرورة رفض العلم والتكنولوجيا والمخترعات الحديثة التي يستعملها الإنسان كل يوم حتى في أبسط الأشياء، الأجهزة الكهربائية والإلكترونية، ووسائل المواصلات والاتصالات … إلخ، مع أن هذه المخترعات الحديثة قد أصبحت من مكتسبات العصر. كيف إذن يمكن تركها أو رفضها أو حتى التشكك فيها أو النيل منها أو السؤال عنها والعودة إلى الصحراء وعصر الجِمال وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً (١٦: ٨)؟

    والحقيقة أن مثل هذه الحجة إنما تكشف عن بنية شعور قائلها مثل أخذ القشور والمظاهر وترك الأسس والتصورات. فالتكنولوجيا إنما تقوم على أسس نظرية وتصورات للعالم تأتي معها حين نقلها، متضمنة غير صريحة، الهدف من نقلها أعمق من مجرد تيسير الخدمات، وتسهيل شئون الدنيا. كما تقوم الحجة على الانبهار بالغرب وبمخترعاته الحديثة وفهم الحياة على أنها مجرد تمتع بوسائل الرفاهية. ويتمثل الإحراج في كون الجمهور مع الحجة، وأن الرافض لها سيقابل بمعارضة الجمهور الذي لا يستطيع الاستغناء عن الراديو والتليفزيون والسينما وأجهزة التسجيل وأشرطة الكاسيت. كما لا تستطيع النخبة الاستغناء عن الطائرات والتليفونات والحاسبات الآلية. وما أسرع اتهام الرافض لها بالرجعية ورفض مظاهر الحداثة والدفاع في النهاية أضعف من الهجوم.

    وهذه الحجة ضعيفة للغاية لأن تحديث المجتمعات لا يتم عن طريق نقل التكنولوجيا، ولكن عن طريق إعادة بناء الموروث الثقافي بحيث يكون قادرًا على إعطاء تصور علمي للعالم وموجهات دوافع السلوك الوطني. كما أن التكنولوجيا الغربية ذاتها ليست اختراعًا غربيًّا صرفًا، ولكنها نتيجة تراكم تاريخي طويل لتطور العلوم عبر مسار طويل من الشرق القديم، الصين والهند وفارس ومصر القديمة وبابل وآشور حتى اليونان والرومان بالإضافة إلى إبداعات المسلمين، ثم انتقال ذلك كله إلى أوروبا في العصر الوسيط قبل إبداعات العصور الحديثة. فكل حضارة قديمة أو حديثة قد ساهمت في العلم والتكنولوجيا الحديثة عبر العصور. وقد يكون الهدف من التمييز بين العلم وتاريخ العلم وجعل تاريخ العلم خارجًا عن العلم هو إخفاء هذه المصادر القديمة لتركيز أسطورة الخَلق العبقري الأوروبي الذي على غير منوال سابق. كما أن التكنولوجيا التي ارتبطت في الشرق بالدين والسياسة والأخلاق أصبحت في الغرب عالمًا مستقلًّا بذاته، وتكشف عن موقف من العالم يقوم على أن الطبيعة مادة وليست مجرد خَلق أو جمال أو ميدان للفعل، وأن المادة مصطنعة وليست طبيعية، فكل شيء قابل للصنعة، وأن الاصطناع يؤدي إلى منفعة عاجلة، وأن هذه المنفعة منفصلة عن القيمة، والقيم متغيرة، وأنه يمكن بواسطتها السيطرة على الآخرين، وأنها موضوع للاحتكار حتى لا تعم المنفعة على كل الناس، وتظل الصناعة في أيدي مخترعي التكنولوجيا لتصدير المنتجات الصناعية دون التكنولوجيا، وأنها موضوع تجارة وربح أو استيلاء وسرقة، بدليل الحروب العلنية والخفية بين مراكز التكنولوجيا في العالم شرقًا وغربًا، أو بين مراكز الغرب نفسه، وأنه يمكن استغلالها للزيف والبهتان وترويج الكذب والشائعات والسيطرة على إذهان الناس كما يحدث في أجهزة الإعلام والاتصال، وأنها تحتوي على عناصر التدمير في ذاتها، بدليل آلات الحرب الجهنمية والقنابل الذرية، وأنها من مظاهر القوة والغلبة والعظمة والتفوق، بدليل ما يحدث الآن في الغرب الحديث وفي اليابان، ما بعد الحرب. فالتكنولوجيا ليست بهذا الرونق الذي تُروَّج به خارج مراكزها إلى الأطراف.

  • (جـ)

    فإن قيل: علم «الاستغراب» هو أقرب إلى الأيديولوجيا منه إلى العلم، وإلى العاطفة منه إلى العقل، وإلى الحماس منه إلى التحليل العلمي الرصين، وإلى الخطاب السياسي منه إلى التحليل الاجتماعي والوصف التاريخي، يعبر عن أزمة المهزوم تجاه المنتصر، ورغبة العبد في التحرر من السيد، مجرد صرخة في وادٍ لا ترجع إلا الصدى.

    والحقيقة أن علم «الاستغراب» يحاول أن ينقل الخطابة السياسية التي تعود عليها جيلنا إلى مستوى الخطاب العلمي الرصين. فما حاولناه منذ فجر النهضة العربية الإسلامية الحديثة، وما قامت باسمه حركات التحرر الوطني في جلينا، وما روَّج له قادتنا السياسيون باسم «فلسفة الثورة»، «الكتاب الأخضر»، «الوجدانية»، «الزنجية»، «المعذبون في الأرض»، «مقال في الاستعمار»، «أوجاما» … إلخ، هو الذي يحاول علم «الاستغراب» صياغة دقيقة له، مع الاعتراف كلية بأن علم «الاستغراب» ليس فقط علمًا نظريًّا، بل هو ممارسة عملية لجدل الأنا والآخر، تحرر الأنا ثقافيًّا وحضاريًّا وعلميًّا من هيمنة الآخر. وما دام الأمر يتعلق بعملية تحرر فإن الصوت قد يعلو وربما لدرجة الصراخ. فأرجو عدم عيب حماسي للأنا وبدايته، وإعلاني نهاية الآخر؛ فأنا مستعمَر منذ أمد طويل، ومهزوم مرات عدَّةً في جيلي. ظاهرة الوعي الأوروبي ظاهرة علمية وليست موقفًا خطابيًّا دينيًّا سياسيًّا. وعلم «الاستغراب» ليس تحريضًا للأنا ضد الآخر، ليس شجارًا، ولو أن ذلك وارد أيضًا. فقد كانت الفلسفة باستمرار تعبيرًا عن أزمات حضارية، رغبة في السيطرة والاحتواء أو في التحرر والفِكاك. وإذا استمر السؤال: هل علم «الاستغراب» أيديولوجيا أم علم؟ تكون الإجابة أن هذه التفرقة في الحقيقة لا وجود لها فالأيديولوجيا علم لأنها تقوم على تحليل الواقع بأكبر قدر ممكن من الحياد والموضوعية، والعلم الدقيق أيديولوجيا لأنه ضد الأحكام المسبقة والمواقف الانفعالية. علم «الاستغراب» علم لأنه يقوم على دراسة الوعي الأوروبي من شعور محايد، وبالتالي يكون البعد المكاني والزماني بين الذات والموضوع متوافرًا. أما الشعور المنتمي، أي دراسة الوعي الأوروبي من الباحث الأوروبي نفسه، فإن هذه المسافة الضرورية للرؤية تغيب كلية، وتلتصق الذات بالموضوع فلا ترى شيئًا، ولا تظهر إلا التحيزات والمواقف ووجهات النظر لأن الذات جزء من الموضوع وطرف فيه. وهنا تبدو التجرِبة المعيشة عاملًا سلبيًّا أكثر منها عاملًا إيجابيًّا على عكس الشعور المحايد الذي تكون معايشته للغرب عاملًا إيجابيًّا أكثر منها عاملًا سلبيًّا لأنه ليس طرفًا. قد تظهر الأيديولوجيا في الرغبة في التحرر من الهيمنة الثقافية للآخر على الأنا، ولكن هذه الرغبة في التحرر في الحقيقة ليست أيديولوجية ولا علمًا، بل هو الوجود ذاته الذي يوجد نفسه على نحو طبيعي حر، وهو أساس العلم والأيديولوجيا. فالتحرر علم الحركة كما أن الأيديولوجيا نظرية في التحرر.

  • (د)
    وقد يقال إن «علم الاستغراب» هو مجرد أمنيات الشعوب المتحررة حديثًا من أجل اللَّحاق بركب الحضارة دفاعًا عن الهُوية، وكرد فعل على مرحلة الاستعمار، وكنوع من إيجاد دور لها في التاريخ عن طريق إزاحة مستعمر الأمس، طبقًا لجدل السيد والعبد. إنه مجرد أحلام مضطهد مثل «رؤيا يوحنا» التي يتصور فيها يوحنا أن الخلاص من الاضطهاد الروماني أصبح قريبًا، وأن ملكوت السماوات قريب، وأن المسيح ابن مريم سيقتل في النهاية المسيح الدجال. والجواب: وما المانع في أن يكون ذلك صحيحًا؟ لطالما كان التحرر شوقًا عند القادة والجماهير ولم يمنع ذلك من التحرر بالفعل، وطالما كان إيمان الناس حلمًا عند الأنبياء ولم يمنع ذلك من إيمان الناس بالفعل. لقد نشأت العلوم الأوروبية من هذه الأحلام؛ «حلم راءٍ …» لكانط، وليلة ١٠ نوفمبر ١٦١٩م عند ديكارت، «والعلم الجديد» عند فيكو … إلخ. قد يقال إنه مجرد أمل يراود الشعوب المتحررة حديثًا ولكن شتان ما بين الأمل الحلو والواقع المرير. والحقيقة أيضًا أنه لا ييأس من رَوح الله أحد إلا الذي ضعفت ثقته بنفسه، ولم تتضح رؤيته لإمكانياته، ولم يسبر قوانين التاريخ. قد يقال إنه تفاؤلٌ مغرِق أو رؤًى مشرقة لمستقبل يخبئ مزيدًا من أزمات الطاقة والغذاء، والديون، والإسكان، والثورات المجهضة والأحلام الضائعة. ومع ذلك، فالناظر في إنجازات هذا الجيل: التحرر الوطني، بناء الدولة المستقلة، التصنيع، التعليم، الاشتراكية … إلخ، يرى إمكانية تكوين وعي عالمي جديد، ويكون تفاؤله قائمًا على أساس. لقد عُرفنا بالخيال الأدبي والخيال الديني وبقي لجيلنا أن يحوِّله إلى الخيال السياسي والاجتماعي والتاريخي.٩٦
  • (هـ)

    فإن قيل: سيظل «علم الاستغراب» في هذا البيان النظري الثاني علمًا اجتهاديًّا خالصًا أقرب إلى إعلان النوايا والفروض منه إلى تحقيقه. هو مجرد بيان نظري، يوحي أكثر مما يبرهن، ويفترض أكثر مما يثبت. والحقيقة أن هذا البيان النظري مجرد برنامج عمل لفريق من الباحثين. إنه ميدان للدراسة يقوم به الباحثون الوطنيون وليس موضوعًا يقوم به فرد واحد. إنه مجرد دليل للفكر الفلسفي الأوروبي، مجرد سجل لأبحاث طلاب الدراسات العليا، دليل للطالب وللرسائل العلمية المقترحة في خطة قومية عامة. لذلك كثرت أسماء الأعلام والتواريخ من أجل الإرشاد والتوجيه. هدف هذا البيان عملي لتوجيه طلاب الدراسات العليا وتخطيط الأبحاث والرسائل العلمية ي نظرة شاملة للتراث الغربي. كما أنه يساعد على انتظام حبات العِقد في خيط واحد للكشف عن مسار الوعي الأوروبي، تكوينه وبنائه. فما زال اختيارنا للرسائل عشوائيًّا، تتناثر أسماء الأعلام طائرةً فوق الواقع طبقًا لظروف الأساتذة المشرفين وإمكانيات الطلاب وتوافر المادة العلمية. كما يساعد هذا البيان على اكتشاف الوعي الأوروبي باعتباره وعيًا «تاريخانيًّا» له مسار في التاريخ وليس خارج التاريخ. كما أنه بحث في الوعي التاريخي للأنا في عَلاقاتها بالآخر. وإن اكتشاف تاريخانية الآخر لهو مقدمة لتحرر الأنا ووضعها في مسارها الطبيعي في التاريخ بعد أن كانت ملحقًا للآخر وأحدَ مَصابِّه. وأخيرًا يهدف هذا البيان النظري إلى التحرر من الخوف، خوف الأنا من الآخر، بعد اكتشاف حدوده وإثبات محدوديته. وبالتالي فإنه لا يرعب أحدًا، لا بإبداع عبقري ولا بسيطرة دائمة. وبالتالي يمكن للأنا أن تكتشف قدراتها في السيطرة عليه وأن تتعامل معه من منطق القوة وليس من منطق الضعف، من فوقه وليس من تحته. إن المحاولة قد تخطئ وتصيب من حيث النتائج الجزئية، هنا أو هناك، ولكن مجرد المحاولة أحد عوامل التحرر بعد أن تكتسب الأنا مهارات متتالية في التعامل مع الآخر حتى تكون في محاولاتها التالية أكثر توفيقًا وسدادًا. وإن مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة.

(٢) اعتراضات وردود

إن الشبهات والمخاوف السابقة إنما تتعلق بفكرة المشروع ككل، أما الاعتراضات والردود فتدور حول إمكانيات التحقق على فرض التسليم بمشروعية الفكرة. وتتلخص هذه الاعتراضات في الآتي:
  • (أ)

    إن هذا الموقف التراجعي بالنسبة للغرب إنما يتم عن جهل به أو على أكثر تقدير عن قلة دراسة. إنه أخذ بالشبهات، واقتصار على العموميات، واعتماد على الملخصات، بل وترديد للشائعات، وإذاعة للمشهورات. وكل ذلك خارج نطاق اليقين العلمي والبحث الرصين.

    والحقيقة أن هذا الاعتراض يقل إلى حده الأدنى. فقد أوتي لقلة من الباحثين التعرف على الحضارتين معًا، حضارة الأنا وحضارة الآخر. هم أصحاب الصناعتين، المتوغلون في التأله والبحث بتعبير السُّهْرَوَردي المقتول، والذين أتيحت لهم في نفس الوقت الدراسة في الغرب والتعرف على التراث القديم. وهكذا كان حكماؤنا القدماء عندما كانوا أصحاب ثقافتين: الثقافة الإسلامية الموروثة خاصة من علم أصول الدين، والثقافة الفلسفية الوافدة خاصة من اليونان. ولا يمكن اتهام هؤلاء بالجهل بتراث الآخر، اليونان سابقًا، والغرب حاليًّا. فنحن ما زلنا نعيش، وكما عاش غيرنا، على شرح القدماء لليونان، وما زال الآخر يعتز بقدرتنا على شرح تراثه وفلسفته.٩٧ وتكشف تهمة الجهل عن مزايدة في العلم وادعاءٍ بمعرفة التراث الغربي بكثرة الجمع منه والنهل من مصادره. وتلك مباراة لا نهاية لها. فمن حيث الكم فوق كل ذي علم عليم، خاصة في حضارة متشعبة الجوانب، غزيرة الإنتاج. وهي حجة في النهاية ضد الشخص Argumentum ad Hominem وليست ضد الموضوع. فإن قيل: فلْنسلِّم بأنه يمكن أخذ موقف بالنسبة للتراث الغربي ككلٍّ وكتعبير عن عملية حضارية طبيعية تأخرت حتى الآن وآن لها الظهور. ولكن هل يمكن لمفكر واحد أن يستوعبه كله وقد استغرق أكثر من خمسة قرون؟ والحقيقة أن المفكرين الأوروبيين المعاصرين قد أخذوا موضوع الحضارة الأوروبية كلها كوحدة واحدة، وكجزء من فلسفة الحضارة أو فلسفة التاريخ أو كتحليل لرُوح العصر. وتحدثوا عن التراث الغربي، والحضارة الأوروبية، والعلوم الأوروبية. سياسيًّا واقتصاديًّا وتاريخيًّا يمكن الحديث عن الوحدة الأوروبية، البرلمان الأوروبي، التاريخ الأوروبي، السوق الأوروبية المشتركة، وما أكثر المنظمات التي تأخذ صفة الأوروبية، باعتبارها وحدة واحدة تكوِّن موضوعًا واحدًا للدراسة. فقد حاول هُوسِرل مثلًا دراسة الشعور الأوروبي، بداية وتطورًا ونهاية. كما حاول برجسون ونيتشه واشبنجلر وشيلر نفس الشيء. يمكن إذن دراسة التراث الغربي كوحدة واحدة وكموضوع متجانس، خاصة وأنه يكشف عن بناء واحد للشعور الأوروبي. ويمكن عن طريق فلسفة الحضارة أو فينومينولوجيا التاريخ التعرف على بناء الشعور الأوروبي وتطوره كموضوع فلسفي واحد. وقد درس سولوفييف soloviev (١٨٥٣–١٩٠٠م) في رسالته للدكتوراه «أزمة الفلسفة الغربية» ولم يتجاوز بعدُ سنَّ الواحد وعشرين عامًا، ولم يقل له أحد شيئًا، ولم يعترض عليه أحد بصغر سنه وعِظم موضوعه.٩٨ وقد تعودنا في رسائلنا الجامعية أن نرضى بأقل القليل بدعوى الدقة العلمية والتدقيق في الاختيار، وكان ذلك على حساب الذات، والتراجع عن أخذ المواقف بدعوى صغر السن ونقص الثقافة، وانتمائنا إلى حضارة آخذة وليست معطية أو إلى بيئة ناقلة وليست مبدعة. فلا نحن حرصنا على الدقة ولا نحن كوَّنَّا لنا رؤية. والمعروف عنا أيضًا أننا كثيرًا ما ننسى الأساسيات، ونلجأ إلى الفرعيات فيما يعرض لنا من مشاكل حاسمة، سواء فيما يتعلق بالعلم والثقافة أو بمشاكل الحياة اليومية.٩٩
  • (ب)

    هل يمكن تناول التراث الغربي ككل؟ التراث الغربي كلمة عامة وشاملة، تشمل العلم والدين والفلسفة، ويشمل العلم الطبيعي والرياضي والإنساني. الرياضي والطبيعي لا يختلف عليه اثنان. ومن العلم الإنساني هناك علوم النفس والاقتصاد والاجتماع والتاريخ والسياسة والقانون والجمال. وفي كل علم عديد من التيارات والمذاهب، فأيها نقصد؟ ومن الدين هناك أنماط عديدة من الفكر الديني، فأيها نعني؟ ومن الفلسفة هناك مذاهب كثيرة متعارضة لا توضع في بوتقة واحدة، ولا يمكن إصدار حكم واحد عليها أو أخذ موقف موحد منها، فأيها نريد؟ التراث الغربي كلمة شاملة لا تعني شيئًا محددًا فكيف يكون لنا موقف منه؟

    والحقيقة أن الموقف يتم دائمًا بالنسبة للكل. وهي عملية حضارية تمت من قبل في تراثنا القديم بالنسبة للتراث اليوناني وليست عملًا علميًّا بالمعنى الدقيق إلا إذا اعتبرنا التقاء الحضارات موضوعًا علميًّا يدخل في فلسفة التاريخ أو في فلسفة الحضارة أو في علم الاجتماع الحضاري أو في علم اجتماع المعرفة … إلخ. ففي كل لحظة تتقابل فيها حضارتان، حضارة موروثة ناشئة كما هو الحال في حضارتنا القديمة، وحضارة وافدة غازية كما كان الحال بالنسبة للحضارة اليونانية بعد عصر الترجمة، يحدث بسرعة فائقة أن تأخذ الحضارة الناشئة موقفًا بالنسبة للحضارة الغازية، ويقع الجدل بين القديم والجديد، وتنشأ ظواهر حضارية عديدة يمكن تتبعها في تراثنا القديم أو لدى كل الحضارات في طور النشوء والالتقاء بحضارات أخرى عتيدة. وهو ما سميناه من قبل وفصَّلناه باسم «التشكل الكاذب» عندما تأخذ الحضارة الناشئة لغة الحضارة القديمة دون مضمونها، وذلك للتعبير بها عن مضمونها الخاص الذي لا تفقده. فالثعبان عندما يكبر يسقط جلده القديم ويتخذ جلدًا جديدًا وإلا تقوقع وتناقص وانقرض.١٠٠ قد يختلف الموقف بالنسبة للعلم عنه بالنسبة للفلسفة أو الدين. ولكن بالرغم من هذا الاختلاف النوعي في المواقف (مثلًا رفض حضارتنا القديمة الأدب اليوناني وقبولها الفلسفة، ورفضها ميتافيزيقا أرسطو وقبولها منطقه، ورفضها مُثُل أفلاطون وقبولها جمهوريته) فإن هناك موقفًا أعم أخذه الفلاسفة ويتضح في فلسفتهم التي أنشَئُوها في مقابل الفلسفة اليونانية وفي التراث الفلسفي الذي خلفوه وراءهم. صحيح أن المفكرين القدماء ترجموا ولكن الترجمة لم تستغرق أكثر من قرن من الزمان (القرن الثاني) ثم بدأ التأليف، أي أخذ المواقف ابتداءً من القرن الثالث عند الكندي. وصحيح أيضًا أنهم شرحوا ولخصوا وفسروا ولكن الشروح والتلخيصات والتفسيرات لم تكن إلا إعادة بناء الفكر واحتواءً له وإضافةَ ما نقص منه أو حذفَ ما هو زائد عنه أو مرتبط أشد الارتباط ببيئته الخاصة كما هو الحال في شروح ابن رشد على أرسطو، ولكنهم أنتجوا وألَّفوا، أي أنهم خلَّفوا لنا تراثًا في مواجهة التراث المنقول. أما فيما يتعلق بالتراث العلمي فإنهم نقلوا ثم جربوا على الطبيعة وقاموا بأبحاث مستقلة، وأضافوا على المادة القديمة مادة جديدة. كانوا نقَلةً أولًا ثم علماءَ ثانيًا. يمكننا إذن أخذ موقف بالنسبة للتراث الغربي ككل أو بالنسبة لبعض جوانبه. تلك عملية حضارية طبيعية تكشف الحضارة فيها عن أصالتها وصلابتها. وقد آن لها أن تتم الآن بعد أن تشبعت بيئتنا الثقافية المعاصرة بالعرض والتحليل، بالشرح والتفسير.١٠١

    ومع ذلك، فالوعي الحضاري بالنسبة لنا هو الوعي الفلسفي. فالفلسفة أم العلوم. الوعي الأوروبي بالنسبة لنا فلسفي خالص، ليس السياسي أو الاقتصادي، وذلك مثل مفهوم التراث عندي، ديني حضاري خالص. الوعي الفلسفي هو أساس الوعي السياسي والاقتصادي والاجتماعي. فالوعي الأوروبي لديَّ يشير إلى منطقة الوعي الخالص الذي يحمل التصورات للعالم. وهو أساسًا الوعي الفلسفي أو الوعي النظري. الوعي الحضاري بهذا المعنى سابق على الوعي بسائر العلوم الإنسانية أو الطبيعية. وهو يشابه مفهوم التراث في الجبهة الأولى وكيف أنه يغلب عليه مفهوم التراث الديني قبل التراث الأوروبي والعلمي. ومع ذلك فالمجال مفتوح لمزيد من الدراسات التطبيقية على باقي العلوم الأخرى الإنسانية أو الطبيعية للانتهاء إلى نفس النتيجة، سواء بالنسبة إلى مصادر الوعي الأوروبي أو بالنسبة لتكوينه وبنيته. ويتم ذلك بناءً على تخصص دقيق. ولما كنت متخصصًا في الفلسفة فإني أدرس ظاهرة الوعي الأوروبي باعتباره ظاهرة فلسفية شكلًا ومضمونًا. وليأتِ متخصصون آخرون في فروع المعرفة الإنسانية الأخرى للقيام بنفس المهمة ابتداءً من تخصصات أخرى.

  • (جـ)

    إن التراث الغربي ليس كلًّا واحدًا بل هو تراث متعدد الجوانب والاتجاهات، أفرزته طبقات متعارضة المصالح وقوًى متصارعة الاتجاهات. هناك تراث الغرب الرأسمالي، وتراث الغرب الاشتراكي. هناك تراث الغرب المسيطر القاهر المهيمن وهناك تراث الغرب المقهور المسيطَر والمهيمَن عليه. لذلك لا يمكن وضع التراث الغربي كله في سلة واحدة، ولا بد من التمايز بين تراث وتراث. كيف يُنظر إلى هذا التراث المتنوع على أنه كل واحد؟

    والحقيقة أن هذا الاعتراض له ما يبرره. فهناك نماذج عديدة من التراث أفرزتها قوًى اجتماعية مختلفة، وطبقات اجتماعية متصارعة، وقوًى سياسية متباينة. فكل تراث يعبر عن وضع اجتماعي ومصالح معينة. ومع ذلك هناك سمات عامة مشتركة تتخلل كل هذا النتاج التراثي بالرغم من تعدده، لا فرق في ذلك بين تراث الغرب الرأسمالي وتراث الغرب الاشتراكي، فكلاهما تراث سيطرة وهيمنة، بين تراث الطبقة المسيطرة وتراث الطبقة المسيطَر عليها، فكلاهما تراث عنصري. وهي السمات المشتركة التي توجد في أعماق اللاوعي الأوروبي الحضاري بل وفي وحدة شعور الأوروبي الذي يُكشف عنه بعد ذلك في مظاهره المتعددة على مستوى الوعي الأوروبي. والتحدي العلمي هو القدرة على التعميم وعلى إصدار أحكام عامة لا تنقصها الجزئيات. وإذا كان موضوع الوعي الأوروبي قد أصبح موضوعًا علميًّا في الفلسفة المعاصرة، وصدرت عليه أحكام علمية من قبلُ من الفلاسفة أنفسهم، وأصبحت موضوعًا للنقاش وللحوار الفلسفي، وأصبحت أحكامًا علمية أو كادت، أو على أقل تقدير افتراضات علمية يمكن التحقق من صدقها فيما بعدُ بمزيد من الشواهد العلمية، فلا غرو أن يصبح الوعي الأوروبي موضوعًا للدراسة يتم الاجتهاد فيها، وتصدر عليه أحكام علمية قدر الإمكان. ويكون التحدي هو كيف يمكن احتواء الشواهد المعارضة، والحجج المناقضة، والأحكام المضادة؟

  • (د)

    فإن قيل: ومع ذلك، فإن مفهوم «الوعي الأوروبي» مفهوم مثالي لا يقبله الجميع، ولا تسلم به كل التيارات الفكرية، مجرد افتراض بالرغم من تناول الفلاسفة المعاصرين له. ومع ذلك يمكن القول بأن كثرة ترداده في الفلسفة الأوروبية المعاصرة تبين أن له رصيدًا شعوريًّا أو مخزونًا نفسيًّا في الوعي الأوروبي ذاته (هُوسِرل، برجسون، شيلر، أورتيجا). كما أن ظهوره كموضوع معاصر يدل على أن الوعي الأوروبي قد حوَّل نفسه من ذات إلى موضوع، وتموضُع الذات دليل على وجودها كشيء يمكن ملاحظته من ذات أخرى تصدر الأحكام عليه. كما أن له رصيدًا تاريخيًّا طويلًا منذ «تاريخ العقل الخالص» في نهاية «نقد العقل الخالص» لكانط، وفي «ظاهريات الرُّوح» عند هيجل، وفي فلسفات التاريخ عند هردر، وفيكو، وتورجو، وكوندرسيه، وكورنو، وكومت، وماركس، واشبنجلر، وتوينبي، وبروديل. والمثالية ليست اتهامًا إلا في الوضعية الاجتماعية في القرن التاسع عشر وبقاياها في الوضعية المنطقية في القرن العشرين. بل إن المثالية أقرب إلى الواقعية من الواقعية الحسية الساذجة. المثال واقع، والواقع مثال.

    إن «علم الاستغراب» ليس تاريخ وقائع بل وصف ماهيات. إذ لا يمكن لفرد واحد أن يصف تاريخ أوروبا الحديث. إنما الهدف منه بيان وحدة الوعي الأوروبي الذي صاغ وحدة المشروع الأوروبي مع توخي الوضوح والسهولة والدقة في التعبير حتى يسهل الفهم، وتصل الرسالة. يُقدم عموميات أقرب إلى افتراضات البحث والإيحاءات لإجراء بحوث مقابلة موازية أو معارضة. الغرض منه إثارة الأذهان، وإيجاد البدائل، والحث على أخذ المواقف، والانتقال من المعلومات إلى العلم، والتحول من النقل إلى الإبداع. وفي مثل هذه المقدمة العامة في علم «الاستغراب» يصعب الاستقرار على أسلوب معين يجمع بين عموم التحليلات وخصوص الشواهد، بين الاتجاهات العامة والتوثيق بالمصادر، بين العمل الذهني الفكري الخالص والتحليل العلمي التاريخي الصرف. الأول وحده عموميات لا دليل عليها، والثاني وحده شروح وحواشي وتخريجات. الأول ماهيات دون وقائع، والثاني وقائع دون ماهيات. ومع ذلك حاولت الجمع بينهما في أسلوب وسط متفاديًا الأسلوب الأحادي الطرف. ومع ذلك لم تتم الإحالة فيه إلى المراجع أو المصادر إلا بالقدر القليل. ولما كان علم «الاستغراب» هو تاريخ الوعي الأوروبي، مصادرَ وتكوينًا وبنيةً ومصيرًا فإنه جمع قدر الإمكان بين التحليل الماهوي والوصف التاريخي. وظهرت فيه أسماء الأعلام والعصور والمذاهب على طريقة «الاستشراق» ضحية النزعة التاريخية.١٠٢
    ومع ذلك، فإن التجارِب المعيشة لجيلنا وأزمة وجوده في الأطراف هي التي تنير له طريقه لفهم النصوص وقراءتها وموضعتها بحيث تدل على تكوين الآخر وبنيته في مواجهة الأنا. النصوص الخام صامتة لا تتكلم، ولا توحي بشيء، والتجارِب المعيشة مجرد حركات لا يأتي منها إلا رجع الصدى. أما قراءة النص من خلال التجرِبة المعيشة فهي التي تكشف عن الدلالات، وتعطي المعاني.١٠٣ وقد عشنا التراث الغربي ولدينا تجارِبنا المعيشة في عَلاقة الأنا بالآخر على مدى ثلاثين عامًا، قراءة ودراسة ونقلًا وتأليفًا. وبالرغم من ضعف منهج الأثر والتأثر وتفريغه كل إبداع ذاتي من مضمونه عن طريق إحالته إلى الآخر، وبالرغم من تنبيهي على ذلك أكثر من مرة إلا أنه سيأتي باحثون يبينون أثر ظاهريات هُوسِرل سواء في منهج تحليل الشعور أو في الموضوع، وهو ما يسمى بأزمة الوعي الأوروبي.١٠٤ لقد درس هُوسِرل الموضوع نفسه كما درسه غيره: شيلر، برجسون، أورتيجا، اشبنجلر، توينبي، بول هازار … إلخ، باعتبارهم باحثين ينتمون إلى الوعي الأوروبي. كما درسه آخرون من العالم الثالث في الاقتصاد والسياسة والاجتماع. وهذه دراسة لنفس الموضوع ولكن في الفلسفة.
  • (هـ)

    بالرغم من أن علم «الاستغراب» يعبر عن رغبة الأطراف في الاستقلال الفكري والعلمي والحضاري عن المركز إلا أنه سيظل باستمرار دائمًا في فلكه لأنه يستعمل مناهج ويتعامل مع موضوعات كلها نابعة من المركز. فمهما أبدعت الأطراف فإن إبداعها سيظل باستمرار بفضل المركز ومن خلاله، حلقة لا يمكن الخروج منها، وقيد لا يمكن الفِكاك عنه، دائرة جهنمية لا خلاص منها.

    والحقيقة أن هذا الاعتراض يمثل نموذج الإحالة المستمرة من الأنا إلى الآخر، وهذا القدر الذي جعل الأطراف باستمرار في دور التلميذ والمركز في دور الأستاذ. ومع ذلك يمكن الخروج من هذه الحلقة المفرغة: لن يتم استقلال الأطراف إلا بالخروج من المركز، ولن يتم الخروج من المركز إلا باستقلال الأطراف. حلقة مفرغة في البداية ولكن تدريجيًّا يمكن الانتقال من هذه الدوامة إلى خارجها، جيلًا بعد جيل حتى يصبح للأطراف مناهجها وموضوعاتها فتكون مركزًا ثانيًا وثالثًا ورابعًا … إلخ، حتى تتعدد المراكز، وتتنوع مصادر الإبداع. إن الغرض من هذا الاعتراض هو الحط من العزائم أو قلة ثقة بقدرات الأنا، ومزيد من الثقة بعظمة الآخر طبقًا لعَلاقة مركب النقص بمركب العظمة. ولكن مظاهر التحرر الذاتي عديدة في تاريخنا المعاصر منذ حركة التحرر الوطني حتى إبداعات الجيل في الحرب والسلام، في الجيش والمصنع، في الحقول والصحراء. وإذا كان في أحد جناحي الذبابة الداء وفي الآخر الواء كما يروي التراث الشعبي الديني فقد يكون ذلك أحد المخارج من هذه الحلقة المفرغة. وإن لم يكن ذلك صحيحًا فهناك المثل الشعبي المستقى من الشعر العربي «وداوني بالتي كانت هي الداء.»

١  هذه الأجزاء على التوالي، وكما تم الإعلان عنها قبل ذلك في نهاية البيان النظري الأول، سبعة على النحو الآتي:
  • (١)

    «من العقيدة إلى الثورة»، محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين، الطبعة الأولى، مكتبة مدبولي، القاهرة، ١٩٨٨م، الطبعة العربية الثانية، دار التنوير، بيروت، ١٩٨٨م.

  • (٢)

    «من النقل إلى الإبداع»، محاولة لإعادة بناء علوم الحكمة (قريبًا).

  • (٣)

    «من الفناء إلى البقاء»، محاولة لإعادة بناء علوم التصوف.

  • (٤)

    «من النص إلى الواقع»، محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه.

  • (٥)

    «من النقل إلى العقل»، محاولة لإعادة بناء العلوم النقلية (القرآن، الحديث، التفسير، السيرة، الفقه).

  • (٦)

    «العقل والطبيعة»، محاولة لإعادة بناء العلوم العقلية (العلوم الرياضية والطبيعية).

  • (٧)

    «الإنسان والتاريخ»، محاولة لإعادة بناء العلوم الإنسانية (اللغة، الأدب، الجغرافيا، التاريخ).

(انظر أيضًا وصف أجزاء المشروع في «التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم» ص٢١٣–٢١٦، المركز العربي للبحث والنشر، القاهرة، ١٩٨٠م؛ وأيضًا «الدين والثورة في مصر، ١٩٥٢–١٩٨١م»، الجزء السادس، الأصولية الإسلامية ص٢٨٩-٢٩٠، مكتبة مدبولي، القاهرة ١٩٨٩م.
٢  التراث والتجديد، ص١٧٧–١٩٢؛ وأيضًا رسالتنا الأولى:
Les Méthodes d’Exégèse, essai sur la science des fondement de la compréhension, ilm usul al-fiqh, pp. 535–543, Imprimerie nationale, Le Caire, 1965.
٣  انظر بحثينا: «لماذا غاب مبحث الإنسان في تراثنا القديم؟» «لماذا غاب مبحث التاريخ في تراثنا القديم؟» في «دراسات إسلامية» ص٣٩٣–٤٥٦ الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٨١م.
٤  Les Méthodes d’Exégèse, essai sur la science des fondements de la compréhension, ilm Usul al-Fiqh, Le censeil superieur des arts, des letters et des sciences sociales, Imprimerie Nationale, Le Caire, 1965.
L’Exégèse de la phénomènologie, L’etat actuel de la méthode phénomènologique et son application au phénomèce religieux, (Paris, 1966), Dar al-Fikr al-Arabi, Le Caire, 1979.
La phénomènologie de l’Exégèse, essai d’une herméneutique existentielle à partir du Nouveau Testament, Paris, 1966, Anglo-Egyptian Bookshop, Le Caire, 1990.
٥  في مؤلفاتي السابقة إشارات دائمة إلى هذه الجبهات الثلاثة؛ منها: «دراسات إسلامية»، «موقفنا الحضاري» ص٩–٥٠، «التراث والنهضة الحضارية» ص٥١–٩١، «كبوة الإصلاح» ص١٧٧–١٩٠؛ وأيضًا «الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م»، الجزء الأول «الدين والثقافة الوطنية» موضوع «المسئوليات الراهنة للثقافة العربية» ص١٦٣–١٧٢، «الموقف الحضاري العربي» ص٢٨٥–٢٩١؛ وأيضًا الجزء السادس «الأصولية الإسلامية»، «محاولة مبدئية لسيرة ذاتية» ص٢٨٨–٢٩٠، «التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم» ص٢١٣–٢١٦. وتجدر الملاحظة أن إشاراتنا المستمرة إلى مؤلفاتنا السابقة لا تعني بأية حال أي تمركُز حول الذات وإغماضٍ للآخرين حقَّهم، وبأنني مرجع نفسي، ذاتية متضخمة وإنكار لجهود الآخرين، بل القصد من ذلك بيان وحدة العمل الفلسفي، وتكشف المشروع شيئًا فشيئًا على مراحل العمر المتعددة، فهي أقرب إلى السيرة الذاتية منها إلى الإشارات العلمية. أما مراجعة أدبيات العصر حول الموضوع فذاك ما أقوم به بين الحين والآخر كموضوع مستقل. انظر مراجعتنا لكتاب د. صادق جلال العظم «نقد الفكر الديني» بعنوان «التجديد والترديد في الفكر الديني المعاصر»، (قضايا معاصرة، الجزء الأول ص٧٠–٩٠، الطبعة الأولى، دار الفكر العربي، القاهرة، ١٩٧٦م)؛ وأيضًا مراجعتنا لكتاب ماكسيم رودنسون «الإسلام والرأسمالية» بعنوان «الأيديولوجية والدين» (نفس المصدر، ص١٢٨–١٤٦)، ومراجعتنا لكتاب هشام جعيط «الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي»: «هل يمكن تحليل الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي من منظور إقليمي وفي إطار نظري غربي استشراقي؟» في «دراسات إسلامية» ص٢٢٨–٢٥٥.
٦  انظر: التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم، العلوم الإسلامية الأربعة ص١٧٧–١٩٢؛ وأيضًا «من العقيدة إلى الثورة»، المجلد الأول، المقدمات النظرية، الفصل الثاني: بناء العلم ص١٤١–٢٢٧، الطبعة الأولى، مدبولي، القاهرة، ١٩٨٨م. لذلك قد يكون العيب الرئيسي بمشروع أخينا وصديقنا الطيب تيزيني «مشروع رؤية جديدة للفكر العربي منذ بداياته حتى المرحلة المعاصرة في اثني عشر جزءًا» هو تناوله الحضارة الإسلامية باعتبارها حضارة طردية مثل الحضارة الأوروبية وليس باعتبارها حضارة مركزية، وذلك بدعوى التاريخانية كنتيجة طبيعية للماركسية.
٧  التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم، ص٢٠٩–٢١٢. وكانت الأجزاء الخمسة:
  • (١)

    عصر آباء الكنيسة.

  • (٢)

    العصر المدرسي.

  • (٣)

    الإصلاح الديني وعصر النهضة.

  • (٤)

    العصر الحديث.

  • (٥)

    العصر الحاضر.

٨  التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم، ثالثًا: أزمة المناهج في الدراسات الإسلامية.
  • (١)

    المنهج التاريخي.

  • (٢)

    المنهج التحليلي.

  • (٣)

    المنهج الإسقاطي.

  • (٤)

    منهج الأثر والتأثر ص٧٥–١٠٨.

٩  وبالتالي يكون مشروع أخينا وصديقنا المفكر اللامع محمد عابد الجابري «نقد العقل العربي» قد طبق مناهج التكوين ووصْف البنية على العقل العربي وليس على الوعي الأوروبي، على الأنا وليس على الآخر، في حين أني أطبق ذلك على الآخر وليس على الأنا. فالأنا تنتسب إلى حضارة مركزية، في حين أن الآخر ينتسب إلى حضارة طردية. وتشيؤ الوعي إنما يتم عادة في لحظة تفوق الأنا «لتحجير» الآخر. وهو ما فعله الغرب في حديثه عن «العقلية البدائية» و«الفكر البري». فكيف تقوم الأنا «بتحجير» نفسها وتشيؤ وعيها وهي في مرحلة التحرر من الاستعمار؟ إلا إذا كان الأنا لا ينتسب إلى حضارته بل إلى حضارة أخرى في الأعماق، ثم يحيل نفسه وحضارته السطحية إلى موضوع.
١٠  وذلك في كتابات اشبنجلر، وهُوسِرل، وشيلر، وبرجسون، وتوينبي، وجارودي، وغيرهم من الفلاسفة المعاصرين الذين سيرد ذكرهم في «تكوين الوعي الأوروبي»، الفصل السادس (بداية النهاية).
١١  وذلك مثل: إسلامكو، منصور شفروليه، محمد موتورز، أو: تيك أواي، شو إن، بوتيك، داي آند نايت، همبورجر، سناكس، أفتر إيت، سولت آند بر، سويت آند لو، كايرو سنتر، كايرو بلازا، ميتر، جارسون، كافيتيريا، هابي داي، هوليداي إن … إلخ. وهو ما تمَّت الإشارة إليه أيضًا في بعض المقالات الصحفية. والظواهر الفكرية في النهاية ظواهر اجتماعية دلالية.
١٢  انظر مراجعتنا لكتاب الأخ الصديق هشام جعيط «الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي» بعنوان «هل يمكن تحليل الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي من منظور إقليمي وفي إطار نظري غربي استشراقي؟» في «دراسات إسلامية» ص٢٢٨–٢٥٥.
١٣  انظر «موقفنا الحضاري» في «دراسات إسلامية» ص٤٦.
١٤  «التراث والعمل السياسي»، نفس المصدر، ص١٧١-١٧٢؛ وأيضًا «مأساة الأحزاب التقدمية في البلاد المتخلفة» في «الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م»، الجزء الثامن «اليسار الإسلامي والوحدة الوطنية» ص١٨٩–٢١٤.
١٥  «موقفنا الحضاري» في «دراسات إسلامية» ص٣٠. وتعبير «الفِصام النكِد» للمفكر الشهير سيد قطب في «المستقبل لهذا الدين» ص٢٧–٥٤، دار الشروق، القاهرة، ١٩٨٠م.
١٦  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ (٥: ٥١)؛ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ (٢: ١٢)؛ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (٣: ١٠٠). وأقوى تعبير عن هذا التضاد سورة الكافرون: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ. انظر أيضًا دراستنا «هل يجوز شرعًا الصلح مع بني إسرائيل؟» اليسار الإسلامي، ص٤٩–١٢٧، العدد الأول، القاهرة، ١٩٨٠م؛ وأعيد نشرها في «الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م»، الجزء السابع «اليمين واليسار في الفكر الديني»؛ وأيضًا «هل تجوز الصلاة في الدار المغصوبة؟»، نفس المصدر، ص٢٧٠-٢٧١، القاهرة، مدبولي، ١٩٨٩م.
١٧  إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (١٣: ٢٣)؛ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (٢٥: ٢٧-٢٨). وكذلك الحديث الشهير عن أبي هريرة والذي صدَّرنا به الكتاب في الصفحة الأولى بدل الإهداء. وأيضًا «من العقيدة إلى الثورة»، محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين، المجلد الأول، المقدمات النظرية: (٣) التقليد، ص٢٦١–٢٦٨، القاهرة، مدبولي، ١٩٨٨م.
١٨  وهذا هو موضوع الجزء الثاني «من النقل إلى الإبداع»، محاولة لإعادة بناء علوم الحكمة.
١٩  «الفكر الإسلامي والتخطيط لدوره الثقافي المستقبلي» في «دراسات إسلامية»، ص٢١٥-٢١٦.
٢٠  عرضنا من قبل لنقدنا للاستشراق ومناهجه المختلفة: التاريخي، والتحليلي، والإسقاطي، والأثر والتأثر، في «التراث والتجديد»، موقفنا من التراث القديم، ثالثًا: أزمة المناهج في الدراسات الإسلامية: (١) النعرة العلمية ص٧٧–١٠٨.
٢١  «موقفنا الحضاري»، في «دراسات إسلامية» ص٣٤.
٢٢  يمكن من الآنَ بدايةً ذكرُ أسماء الأعلام دون خشية كسر اتساق الخطاب. فموضوع علم «الاستغراب» هو التراث الغربي الذي تكوَّن من خلال أعلامه، بدليل نسبة مذاهبه إلى أصحابها مثل الديكارتية، الكانطية، الهيجلية، الماركسية، البرجسونية … إلخ.
٢٣  «موقفنا من التراث الغربي» في «قضايا معاصرة»، الجزء الأول: «في الفكر الغربي المعاصر»، ص٧، دار الفكر العربي، الطبعة الأولى، القاهرة، ١٩٧٦م.
٢٤  انظر مقدمة الجزء الأول من رسالتنا الثانية عن «ظاهرة الوعي الأوروبي»:
«الشعور المحايد والشعور المغترب».
L’Exégèse de la phénomènologie, Avant-propos: 1-Le phénomène de la conscience Européene. 2-La conscience neutre et la conscience alienée, pp. 3–12.
٢٥  «موقفنا من التراث الغربي» في «قضايا معاصرة»، الجزء الأول: في الفكر الغربي المعاصر، ص٧–٩.
٢٦  «التراث والنهضة الحضارية» في «دراسات فلسفية» ص٧٩–٨١.
٢٧  انظر دراستنا بالإنجليزية التي قُدمت كإحدى مشروعات البحث في جامعة الأمم المتحدة في طوكيو ١٩٨٧م بعنوان The New Social science والمزمع نشرها في هذا العام Islam: Religion, Ideology and Development.
٢٨  «موقفنا الحضاري» في «دراسات فلسفية» ص٣٢.
٢٩  «موقفنا من التراث الغربي» في «قضايا معاصرة»، الجزء الأول: في الفكر المعاصر، ص٩.
٣٠  «موقفنا الحضاري» في «دراسات فلسفية» ص٣٢.
٣١  «موقفنا من التراث الغربي» في «قضايا معاصرة»، الجزء الأول: في الفكر الغربي المعاصر، ص٨.
٣٢  «جمال الدين الأفغاني» في «قضايا معاصرة»، الجزء الأول: في فكرنا المعاصر، ص٩٢–٩٧، الطبعة الأولى، دار الفكر العربي، القاهرة ١٩٧٦م.
٣٣  «موقفنا الحضاري» في «دراسات فلسفية» ص٣٢.
٣٤  «موقفنا من التراث الغربي» في «قضايا معاصرة»، الجزء الثاني: في الفكر الغربي المعاصر، ص٣٢.
٣٥  «لماذا غاب مبحث التاريخ في تراثنا القديم؟» في «دراسات إسلامية»، ص٤١٦–٤٥٦، الأنجلو المصرية، القاهرة ١٩٨١م.
٣٦  «التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم»، الطبعة الأولى، المركز العربي للبحث والنشر، القاهرة ١٩٨٠م؛ الطبعة الثانية، دار التنوير بيروت ١٩٨١م؛ الطبعة الثالثة (مصورة عن الثانية)، الأنجلو المصرية، القاهرة ١٩٨٧م؛ «من العقيدة إلى الثورة، محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين»، خمسة مجلدات، الطبعة الأولى، مدبولي، القاهرة ١٩٨٨م؛ الثانية، دار التنوير، بيروت ١٩٨٨م.
٣٧  هو كتاب الأخ الصديق هشام جعيط «الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي»، نقله إلى العربية د. المنجي الصيادي، وقام المؤلف بتدقيقه وتنقيحه، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، آيار (مايو) ١٩٨٤م. والأصل الفرنسي Hichem Djait: La Personnalité Le Devenir Arabo-Islamique, Ed. du Seuil, Paris, 1974.
٣٨  «هل يمكن تحليل الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي من منظور إقليمي وفي إطار نظري غربي استشراقي؟» المَجلة العربية للعلوم الإنسانية، الكويت، خريف ١٩٨٧م؛ وأيضًا في «دراسات فلسفية» ص٤٤.
٣٩  المصدر السابق ص٢٤٤-٢٤٥.
٤٠  المصدر السابق ص٢٥٢.
٤١  «موقفنا الحضاري» في «دراسات فلسفية» ص٣٢.
٤٢  انظر دراستنا: «متى تموت الفلسفة ومتى تحيا؟» في «دراسات فلسفية» ص٢٦٢-٢٦٣.
٤٣  لذلك قمنا بترجمة «تعالي الأنا موجود» لجان بول سارتر لتحقيق هذا الهدف والإعلان عن هذه النهاية؛ الطبعة الأولى، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، ١٩٧٧م؛ الطبعة الثانية، دار التنوير، بيروت، ١٩٨٢م.
٤٤  أشهرها على الإطلاق كتاب إدوارد سعيد: «الاستشراق».
Edward W. Said: Orientalism, Vintage Books, Random House, New York 1979.
وقد ترجمه إلى العربية كمال أبو الديب بعنوان «الاستشراق، المعرفة، السلطة، الإنشاء»، مؤسسة الأبحاث العلمية، بيروت، ١٩٨١م؛ وأيضًا صادق جلال العظم: «الاستشراق، والاستشراق معكوسًا»، دار الحداثة، بيروت، ١٩٨١م؛ وكتابي «التراث والتجديد»، النزعة العلمية، ص٧٥–١٠٨.
٤٥  «موقفنا الحضاري»، دراسات فلسفية ص٣٩–٤١.
٤٦  لذلك خصصنا الجزء الثاني من سلسلة «الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م» لموضوع «الدين والثقافة الوطنية» خاصة دراسات «في الثقافة الوطنية» ص١١–٥٨، «مخاطر في فكرنا القومي» ص٥٩–٩٦، «مخاطر في سلوكنا القومي» ص٩٧–١١٨، «مخاطر في وجداننا القومي» ص١١٩–١٤٠، «الفلسفة كمشروع قومي» ص٢٦٥–٢٨٤، «أحاديث في الثقافة الوطنية» ص٢٨٥–٣١٦.
٤٧  «متى تموت الفلسفة ومتى تحيا؟» في «دراسات فلسفية» ص٣١٦.
٤٨  «ماذا تعني: لا إله إلا الله» في «الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م» الجزء السابع: «اليمين واليسار في الفكر الديني» ص١٤٧–١٥٤.
٤٩  لذلك خصصنا الجزء الثالث وهو «الدين والنضال الوطني» من سلسلة «الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م» لموضوع الصراع ضد الصهيونية.
٥٠  هذا هو موضوع الجزء الثاني «من النقل إلى الإبداع»، محاولة لإعادة بناء علوم الحكمة، والمرجو إصداره في أواخر ١٩٩١م وأوائل ١٩٩٢م.
٥١  أبو الريحان البيروني: تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن، الهند، ١٣٢٧ﻫ/١٩٥٨م.
٥٢  ابن مسكويه: الحكمة الخالدة (جاويدان خرد) حققه وقدم له عبد الرحمن بدوي، النهضة المصرية، القاهرة ١٩٥٢م.
٥٣  عبد الرحمن الجبرتي: تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار (ثلاثة أجزاء)، دار الفارس، بيروت.
٥٤  انظر هذا التقابل بين اللحظتين في «موقفنا الحضاري»، «قضايا معاصرة»، الجزء الأول: «في فكرنا المعاصر» ص٤٦–٥٠؛ وأيضًا «موقفنا الحضاري» في «دراسات فلسفية» ص٣٢.
٥٥  محمد عبده: الإسلام والنصرانية بين العلم والمدينة.
٥٦  شكيب أرسلان: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟
٥٧  رفاعة رافع الطهطاوي: مناهج الألباب المصرية في مناهج الآداب العصرية.
٥٨  الطهطاوي: تخليص الإبريز في تلخيص باريز؛ خير الدين التونسي: أقوم المسالك؛ ابن أبي الضياف: إتحاف أهل الزمان؛ المويلحي: حديث عيسى بن هشام.
٥٩  الشيال: البعثات التعليمية في عصر محمد علي.
٦٠  وأقرب المحدَثين لذلك هو صديقنا د. أنور عبد الملك في دراساته العديدة.
٦١  نستعمل تعبير «فكرنا المعاصر» دون تحديد هويته واكتفاءً بضمير المتكلم الجمع «نا» حتى لا نقع في إشكال «الفكر العربي المعاصر» أو «الفكر الإسلامي المعاصر» وتضيع أشكال الفكر بسبب تداخل الهويتين. ولذلك أيضًا سمينا الجزء الأول من «قضايا معاصرة»: «في فكرنا المعاصر»، كما نكثر استعمال «نا» في عديد الدراسات مثل: «موقفنا الحضاري».
٦٢  «كبوة الإصلاح» في «دراسات فلسفية» ص١٨٤-١٨٥.
٦٣  فرح أنطون: ابن رشد وفلسفته، دار الطليعة، بيروت، ١٩٨١م. ويتضح الارتماء الكلي في أحضان الغرب عند سلامة موسى في كتابه «هؤلاء علموني» وهم: فولتير، جوته، دارون، فايسمان، إبسن، نيتشه، رينان، دوستويفسكي، ثورو، تولستوي، فرويد، سميث، جوركي، شو، غاندي، ويلز، شفيتزر، جون ديوي، سارتر. ويلاحَظ أن كلهم غربيون، ولا يوجد معلم واحد من تراثنا القديم، ولا يوجد شرقي واحد إلا غاندي وتولستوي. أما التراجع عن الغرب فواضح في كتابات إسماعيل مظهر المتأخرة عن الإسلام بعد كتاباته عن دارون ونظرية النشوء والارتقاء، وكذلك عند زكي نجيب محمود بعد السبعينيات في مقالاته العديدة عن تجديد الفكر العربي بعد مرحلة الوضعية المنطقية السابقة على ذلك في «المنطق الوضعي» و«خرافة الميتافيزيقا». انظر أيضًا «كبوة الإصلاح» في «دراسات فلسفية» ص١٧٨.
٦٤  المصدر السابق، ص١٨٥.
٦٥  أرسطوطاليس: السياسة، ترجمة أحمد لطفي السيد، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة ١٩٧٩م؛ طه حسين: مستقبل الثقافة في مصر، مطبعة المعارف ومكتبتها بمصر، ١٩٤٤م.
زكي نجيب محمود: حياة الفكر في العالم الجديد، الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٥٦م.
٦٦  «كبوة الإصلاح» في «دراسات فلسفية»، ص١٨٥-١٨٦.
٦٧  «كبوة الإصلاح» في «دراسات فلسفية»، ص١٨٥-١٨٦.
٦٨  توفيق الحكيم: عصفور من الشرق؛ محمد الغزالي: ظلام من الغرب.
٦٩  انظر دراستينا: «نحن والتنوير»، «من التراث إلى التحرر» في «الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م»، الجزء الثاني: «الدين والتحرر الثقافي» ص٤٧–٧٨.
٧٠  «موقفنا من التراث الغربي» في «قضايا معاصرة»، الجزء الثاني: في الفكر الغربي المعاصر، ص٣.
٧١  المصدر السابق، ص٣-٤.
٧٢  «موقفنا الحضاري»، المصدر السابق، الجزء الأول: في فكرنا المعاصر، ص٤٦–٥٠.
٧٣  «رسالة الفكر»، المصدر السابق، ص٣–١٦.
٧٤  محمد عزيز الحبابي: الشخصانية الإسلامية، دار المعارف، القاهرة ١٩٦٩م.
عبدالله العروي: العرب والفكر التاريخي، دار الحقيقة، بيروت ١٩٧٣م.
حسين مروة: النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية (جزءان)، دار الفارابي، ١٩٧٨-١٩٧٩م؛ زكريا إبراهيم: أبو حيان التوحيدي، أديب الفلسفة وفيلسوف الأدباء، المؤسسة المصرية العامة، القاهرة؛ عبد الرحمن بدوي: الإنسانية والوجودية في الفكر العربي، دار النهضة العربية، القاهرة؛ عثمان أمين: الجَوَّانية، أصول عقيدة وفلسفة ثورة، دار القلم، القاهرة ١٩٦٤م، وأيضًا: رواد الوعي الإنساني؛ زكي نجيب محمود: تجديد الفكر العربي، دار الشروق، القاهرة ١٩٧١م.
٧٥  الطيب تيزيني: من التراث إلى الثورة، حول نظرية مقترحة في قضية التراث العربي، دار دمشق ١٩٧٩م؛ صادق جلال العظم: نقد الفكر الديني؛ محمد عابد الجابري: نقد العقل العربي (جزءان) (١-١) تكوين العقل العربي، دار الطليعة، بيروت ١٩٨١م.
(١-٢) بنية العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ١٩٨٦م؛ كمال أبو الديب: جدلية الخفاء والتجلي؛ أدونيس: الثابت والمتحول، بحث في الاتباع والإبداع عند العرب (ثلاثة أجزاء):
(١) الأصول، (٢) تأصيل الأصول، (٣) صدمة الحداثة، دار العودة، بيروت ١٩٧٤م، ١٩٧٧م؛ طه عبد الرحمن: في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، المؤسسة الحديثة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء ١٩٨٦م؛ المنطق والنحو الصوري، دار الطليعة، بيروت، ١٩٨٣م. انظر أيضًا ما قلناه من قبل عن «التجديد من الخارج»، «التجديد من الداخل» في «التراث والتجديد» موقفنا من التراث القديم ص٣١–٣٤.
٧٦  انظر دراستنا «كبوة الإصلاح» في «دراسات فلسفية» ص١٧٧–١٩٠ (ابتداء من هذا الجزء (٢) الموقف من الغرب في فكرنا المعاصر وحتى كانط في الفصل الثالث، تمت صياغة الأجزاء التالية في صنعاء).
٧٧  المصدر السابق ص١٨٩.
٧٨  وقد قمنا كنموذج صريح على ذلك في دراستنا «هيجل وحياتنا المعاصرة» بتحديد ملامح هذه العَلاقة في: تعقيل الواقع، البحث عن منهج، الدين والحياة، الجمال تعبير حي عن المثال، دولة الوحدة والاستقلال، تحليل الذاتية وتطورها، الشعور الأوروبي وشعور العالم الثالث. «قضايا معاصرة»، الجزء الثاني في «الفكر الغربي المعاصر» ص٢٤٥–٢٧١.
٧٩  «موقفنا من التراث الغربي»، المصدر السابق، ص٩-١٠.
٨٠  انظر ظروف اختيار موضوع الرسالة في «محاولة مبدئية لسيرة ذاتية» في «الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م»، الجزء السادس: «الأصولية الإسلامية» ص٢٢٧–٢٣٧.
٨١  Les Méthodes d’Exégèse, essai sur la science des fondements de la compréhension, ilm usul al-fiqh, Paris, 1966 Impremerie Nationale. La Caire, 1965.
٨٢  انظر دراستنا: «الظاهريات وأزمة العلوم الأوروبية»، «فينومينولوجيا الدين عند هُوسِرل» في «قضايا معاصرة»، الجزء الأول: في الفكر الغربي المعاصر ص٢٩٥–٣٣٩.
٨٣  انظر دراستنا لبيان ذلك: «ابن رشد شارحًا أرسطو» في «دراسات إسلامية» ص٢٠٣–٢٧٢.
٨٤  L’Exégèse de la phénoménologie, l’était actuel de la méthode phénoménologique et son application au phénomène religieux, pp. 3–12, Paris, 1965, Dar al-fikr al-Arbi, Le Caire, 1979.
٨٥  «مدرسة تاريخ الأشكال الأدبية» في «دراسات فلسفية» ص٤٨٧–٥٢٢.
٨٦  La Phénoménologie de l’Exégèse, essai d’une herméneutique existentielle à partir du Nouveau Testament, Paris 1966, Anglo-Egyptian Bookshop, Le Caire 1990.
٨٧  «نماذج من الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط: أوغسطين، أنسيلم، توما الأكويني»، الطبعة الأولى، دار الكتب الجامعية، الإسكندرية ١٩٦٨م، الطبعة الثانية، دار التنوير، بيروت، ١٩٨٢م، الطبعة الثالثة، الأنجلو المصرية ١٩٧٩م. اسبينوزا: «رسالة في اللاهوت والسياسة»، الطبعة الأولى، الهيئة العامة للكتاب القاهرة ١٩٧٣م، الطبعة الثانية، دار الطليعة، بيروت ١٩٧٩م، الطبعة الثالثة، مصورة عن الثانية، الأنجلو المصرية ١٩٧٩م.
لسنج: تربية الجنس البشري، الطبعة الأولى، دار الثقافة الجديدة، القاهرة ١٩٧٦م، الطبعة الثانية، دار التنوير، بيروت ١٩٨٢م.
سارتر: تعالي الأنا موجود، الطبعة الأولى، دار الثقافة الجديدة، القاهرة: ١٩٧٧م، الطبعة الثانية، دار التنوير، بيروت ١٩٨٢م.
٨٨  يمكن الرجوع كنماذج من هذه الدراسات في الجزء الأول «في فكرنا المعاصر» مثل: ثقافتنا المعاصرة بين الأصالة والتقليد ص٥١–٦٩، خاصة أولًا: ثلاثة مواقف بالنسبة للتراث الغربي ص٥٢–٥٦، ثانيًا: بعض مظاهر التقليد في فكرنا المعاصر ٥٦–٧٧، ثالثًا: الشعور الأوروبي وشعور العالم الثالث ص٦٦. وأيضًا: موقفنا الحضاري ص٤٦–٥٠، التجديد والترديد في الفكر الديني المعاصر ص٧٠–٩٠. ومن الجزء الثاني «في الفكر الغربي المعاصر» يمكن الرجوع إلى: «موقفنا من التراث الغربي» ص٣–٣٣، أزمة العقل أم انتصار العقل؟ ص٣٤–٦٠، رسالة في اللاهوت والسياسة لاسبينوزا ص٦١–٩٩، القاموس الفلسفي لفولتير ص١٠٠–١٣٠، الدين في حدود العقل وحده لكانط ص١٣١–١٧٠، محاضرات في فلسفة الدين لهيجل ص١٦٠–١٧١، هيجل والفكر المعاصر ص٢١٧–٢٤٣، هيجل وحياتنا المعاصرة ص٢٤٤–٢٧٢، الدين والرأسمالية، حوار مع ماكس فيبر ص٢٧٣–٢٩٤، الظاهريات وأزمة العلوم الأوروبية ص٢٩٥–٣٢١، فينومينولوجيا الدين عند هُوسِرل ص٣٢٢–٣٣٩، أونامونو والمسيحية المعاصرة ص٣٤٠–٣٥٥، وداع الفيلسوف، كارل ياسبرز يرثي نفسه ص٣٥٦–٣٧٤، بين ياسبرز ونيتشه ص٣٧٥–٣٩٧، كارل ياسبرز: الرجعية والاستعمار في فكر الفيلسوف الراحل ص٣٩٨–٤٤١، كارل ياسبرز: التواطؤ النازي الأمريكي عند الفيلسوف الراحل ص٤٤٢–٤٤٦، هربرت ماركوز: العقل والثورة ص٤٦٦–٥٠٢، هربرت ماركوز: الفلسفة والثورة ص٥٠٣–٥٢٥.
٨٩  وقد جمعنا هذه الدراسات في كتاب Religious Dialogue and Revolutions, Anglo-Egyptian Bookshop, Cairo, 1977 ونخص بالذكر الجزء الأول عن «الحوار».
٩٠  «الفارابي شارحًا أرسطو»، «ابن رشد شارحًا أرسطو» في «دراسات إسلامية» ص١٤٥–٢٧٠؛ وأيضًا «موقفنا الحضاري» في «دراسات فلسفية» ص٩–٥٠.
٩١  «التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم»، مثلًا: التبعية للغرب ص٤٤-٤٥، الجبهة المستقلة ص٦٠ هامش ٣٠، الأثر الخارجي ص٦٤، الاستشراق والاستغراب في النعرة العلمية ص٧٩–٨٢، أقسام المشروع، القسم الثاني، موقفنا من التراث الغربي ص٢٠٩–٢١٢.
٩٢  The New social science, Tokyo 1987 وقد قامت الدكتورة علا مصطفى أنور بترجمته إلى اللغة العربية لنشره في مَجلة المركز القومي للبحوث الاجتماعية الجنائية بالقاهرة. كما تم تغيير العنوان إلى «من الاستشراق إلى الاستغراب» لنشره في مَجلة «دراسات شرقية» بباريس.
٩٣  Islam: Religion, Ideology and Development, Anglo Egyptian Bookshop, Cairo 1992, Islam: reponse à notre temps (sous-press).
٩٤  ظهرت كثير من الدراسات حول الجبهة الأولى «موقفنا من التراث القديم» وتحكم فيه بالتراجع عن المواقف الأولى بعد هزيمة ١٩٦٧م، وتثبت تحولي من الستينيات إلى الثمانينيات، من التقدم العلماني إلى الاستنارة الإسلامية. والبعض صنفني سلفيًّا أو تراثيًّا جديدًا مثل: فيصل دراج، أديب ديمتري، عبد العظيم أنيس، الأب جورج شحاتة قنواتي، ناهض حتر، ومعظم الدارسين الماركسيين. انظر مثالًا على ذلك: محمود أمين العالم: الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي المعاصر، دار الثقافة الجديدة، القاهرة ١٩٨٦م.
٩٥  «موقفنا الحضاري» في «دراسات فلسفية» ص٣٢.
٩٦  انظر دراستنا «الخيال السياسي» في «الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م»، الجزء الثاني: «الدين والتحرر الثقافي» ص١٩١–١٩٦.
٩٧  من هؤلاء: د. عثمان أمين، د. طه حسين، د. محمد غنيمي هلال، د. عبد الرحمن بدوي … إلخ. وقد قضى المؤلف سبعة عشر عامًا من حياته في الغرب طالبًا وأستاذًا: عشر سنوات في فرنسا طالبًا (١٩٥٦–١٩٦٦م)، وأربع سنوات في أمريكا أستاذًا (١٩٧١–١٩٧٥م)، وثلاث سنوات في اليابان أستاذًا (١٩٨٤–١٩٨٧م). ومؤلفاته العلمية بالإنجليزية والفرنسية بالإضافة إلى العربية. وشارك في العشرات من المؤتمرات الدولية. وحاضر في عشرات أخرى من الجامعات الأوروبية. وأقيمت عليه عدة رسائل في الجامعات الأوروبية والآسيوية (أمستردام، ماجيل، نيجاتا … إلخ) وفي الجامعات العربية (عمان). وصدرت عنه عدة مؤلفات أخرى في تونس وسوريا، وعدة مقالات أخرى بالعشرات. ومع ذلك فإني أجتهد رأيي وعرضة للخطأ. انظر «محاولة مبدئية لسيرة ذاتية» في «الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م»، الجزء السادس: الأصولية الإسلامية ص٢٠٧–٢٩١.
٩٨  Soloviev: La crise de la Philosophie occidentale, Aubier, Paris, 1947.
٩٩  «موقفنا من التراث الغربي» في «قضايا معاصرة»، الجزء الثاني: في الفكر الغربي المعاصر ص٥-٦؛ وأيضًا «لماذا نصمت عن الأساس ونتكلم في الفرع؟» في «الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م» الجزء الثاني.
١٠٠  «التراث والتجديد»، «موقفنا من التراث القديم» ص١٩٤–١٩٦.
١٠١  «موقفنا من التراث الغربي» في «قضايا معاصرة»، الجزء الثاني: في الفكر الغربي المعاصر ص٤-٥.
١٠٢  «التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم» (١) النزعة العلمية، (٢) المنهج التاريخي، ص٨٢–٩٥.
١٠٣  «قراءة النص» في «دراسات فلسفية» ص٥٢٣–٥٤٩.
١٠٤  «التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم» (د) منهج الأثر والتأثر ص١٠٢–١٠٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥