ماذا يعني علم الاستغراب؟
أولًا: المشروع وجبهاته الثلاثة
(١) مشروع «التراث والتجديد»: الجبهات الثلاثة

وتشير هذه الجبهات الثلاثة إلى جدل الأنا والآخر في واقع تاريخي محدد. فالجبهة الأولى «موقفنا من التراث القديم» تضع الأنا مع تاريخها الماضي وموروثها الثقافي. والجبهة الثانية «موقفنا من التراث الغربي» تضع الأنا في مواجهة الآخر المعاصر وهو الوافد الثقافي الغربي أساسًا، والجبهة الثالثة «موقفنا من الواقع (نظرية التفسير)» تضع الأنا في خضم واقعها المباشر تحاول تنظيره تنظيرًا مباشرًا فتجد النص جزءًا من مكوناته، سواء كان نصًّا دينيًّا مدونًا من الكتب المقدسة، أو نصًّا شعبيًّا شفاهيًّا من الحكم والأمثال العامية. الجبهتان الأوليان حضاريتان بينما الجبهة الثالثة واقع مباشر. ويمكن رؤية الجبهات الثلاثة وكأنها أضلاع مثلث والأنا في وسطها. الأول للتراث القديم (الماضي)، والثاني للتراث الغربي (المستقبل)، والثالث للواقع المباشر (الحاضر)، على النحو الآتي:

فإذا كانت الجبهة الأولى تتعامل مع الموروث فإن الجبهة الثانية تتعامل مع الوافد. وكلاهما يصبان في الواقع الذي نعيش فيه. وفي كل موقف حضاري توجد ثلاثة عوامل للإبداع فيه: الموروث، والوافد، ومواطن الإبداع أو بوتقته التي ينصهر فيها الموروث والوافد.
كما تطابق هذه الجبهات الثلاثة أبعاد الزمان الثلاثة: الماضي والمستقبل والحاضر. فإذا كانت الجبهة الأولى تمثل الماضي الذي يشدنا إليه فإن الجبهة الثانية تمثل المستقبل الذي نرنو إليه. والجبهة الثالثة تمثل الحاضر الذي نعيش فيه.
والواقع أن الجبهات الثلاثة تُردُّ إلى جبهتين اثنتين فقط: النقل والإبداع، الزمان (الماضي والمستقبل) والمكان (الحاضر)، الفكر والواقع، الحضارة والتاريخ؛ فالجبهتان الأولى والثانية بالرغم من اختلافهما من حيث المصدر الثقافي، التراث القديم أو التراث الغربي، إلا أن كليهما نقل، نقل من القدماء أو نقل من المعاصرين، كلاهما تراث، تراث الأنا أو تراث الآخر، قال ابن تيمية أو قال ماركس، قال الغزالي أو قال جون ستيوارت مِل. كلاهما بهذا المعنى حركتان سلفيتان تجعلان النقل أساس العقل كما هو الحال في الحركة السلفية المعاصرة أو الاتجاهات العلمانية أو الحديثة. والتحدي أمام كليهما هو غياب الطرف الآخر، أي الواقع الحالي الذي هو أساس الإبداع، وتصور أن كلًّا منهما طرف للآخر ينافسه على الواقع الغائب مع أن كليهما طرف واحد أمام الطرف الثاني الغائب. وغياب الطرف الحقيقي، أي الواقع الحالي، يخلق طرفًا وهميًّا فيظهر الصراع بين الإخوة الأعداء، وينشق الصف، وتنفصم العروة الوثقى، عروة الوحدة الوطنية.
(٢) الجبهة الثانية: موقفنا من التراث الغربي
وقد بدأ التراث الغربي يكون أحد الروافد الرئيسية لوعينا القومي، وأحد مصادر المعرفة المباشرة لثقافتنا العلمية والوطنية. وقد كان الآخر باستمرارٍ حاضرًا في وعينا القومي وفي موقفنا الحضاري منذ قدماء اليونان حتى محدَثي الغرب. لم تحدث بيننا وبينه قطيعة إلا في الحركة السلفية. ولم تقُم حتى الآن حركةُ نقدٍ له إلا في أقل الحدود وبمنهج الخطابة أو الجدل دون منهج النقد ومنطق البرهان. وقد يتم التركيز على هذا المصدر وحده فتنشأ ثقافتنا العلمية العلمانية وحركاتنا الإصلاحية والتحديثية وتعليمنا العصري ونُظمنا الحديثة اقتناعًا وإيمانًا أو دفاعًا عن مصالح الحكام.
- (١)
آباء الكنيسة والعصر المدرسي (من القرن الأول حتى القرن الرابع عشر).
- (٢)
الإصلاح الديني وعصر النهضة (القرنان الخامس عشر والسادس عشر).
- (٣)
العقلانية والتنوير (القرنان السابع عشر والثامن عشر).
- (٤)
الوضعية والعلمية (القرن التاسع عشر).
- (٥) الوجودية والتحليلية (القرن العشرون).٧
- (١)
مصادر الوعي الأوروبي. وفيه الكشف عن مصادره المعلنة والخفية؛ المعلنة مثل المصدر اليوناني الروماني والمصدر اليهودي المسيحي، والخفية مثل المصدر الشرقي القديم والبيئة الأوروبية نفسها، وذلك في فترة التكوين من القرن الأول حتى القرن الرابع عشر. ويضم عصر آباء الكنيسة اليوناني واللاتين في القرون السبعة الأولى ثم العصر المدرسي المتقدم والمتأخر في القرون السبعة التالية.
- (٢)
بداية الوعي الأوروبي. وفيه يتم الكشف عن بداية تكوُّن الوعي الأوروبي في عصرَي الإصلاح الديني وعصر النهضة في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، ثم وضع البداية في الكوجيتو والعقلانية في القرن السابع عشر، وانفجاره في التنوير والثورة في القرن الثامن عشر.
- (٣)
نهاية الوعي الأوروبي. وفيه يتم الكشف عن التحول الرئيسي في مسار الوعي الأوروبي من الأنا أفكر إلى الأنا موجود وبداية نقد الوعي الأوروبي لنفسه ونقد ماضيه وما وضعه بنفسه، نقد المثالية والوضعية واكتشاف طريق ثالث يضم «الفم المفتوح» ويغلقه في الظاهريات.
ومع ذلك فقد حوى هذا البيان النظري الثاني قسمة رباعية للموضوع في أربعة فصول: الأول «ماذا يعني علم الاستغراب؟» لتحديد الجبهات الثلاثة لمشروع التراث والتجديد وبيان الجبهة الثانية، ثم محاولة تعريف العلم الجديد «علم الاستغراب» في مقابل «الاستشراق» وبيان دوافعه، والرد على المركزية الأوروبية، وضرورة التحول من النقل إلى الإبداع، ثم بيان نتائج العلم المتوقعة، ثم تحديد جذوره التاريخية ووصف الحالة الراهنة لإرهاصات هذا العلم سواء عند المعاصرين لي أو في مؤلفاتي السابقة، وأخيرًا الرد مسبقًا على بعض الشبهات والمخاوف.
والثالث «بنية الوعي الأوروبي»: وفيه يتم التحول من التكوين إلى البنية، وبيان العناصر الثابتة في «العقلية الأوروبية» التي تراكمت عبر التكوين والتي طبعتها بطابع خاص، وأعطتها سمات ثابتة دون الوقوع في العنصرية البيولوجية أو الشعوبية أو الحضارية، وتطبيق «علم اجتماع المعرفة» على هذا الوعي الفريد الذي طالما أوحى أنه خَلْق عبقري على غير منوال. والتكوين يسبق البنية لأن البنية حصيلة التاريخ وليست مستقلة عنه.
ويخرج مشروع «التراث والتجديد» في مرحلة التحول من قرن إلى قرن. فإذا كان البيان النظري الأول للجبهة الأولى «موقفنا من التراث القديم» قد ظهر في نهاية القرن الرابع عشر وبداية القرن الخامس عشر الهجريين فإن البيان النظري الثاني للجبهة الثانية «موقفنا من التراث الغربي» يصدر أيضًا بالنسبة للغرب في نهاية القرن العشرين وعلى مشارف قرن جديد وهو القرن الواحد والعشرون الذي كثر الحديث عنه في الغرب، خاصة في اليابان، امتداد الغرب في الشرق واحتواء الشرق للغرب. وإذا كان البيان النظري الأول إعلانًا لميلاد نهضة جديدة بالنسبة للأنا فإن البيان النظري الثاني إعلان لنهاية نهضة قديمة نشأت وتطورت واكتملت وبدأت في الأفول بالنسبة للآخر.
ولا يدخل هذا العلم الجديد كجزء من أدبيات الشرق والغرب، سواء من منظور الصراع والتقابل والتضاد، أو من منظور التعاون والحوار والالتقاء. إذ يغلب على هذه الأدبيات الطابع الشعبي الصحفي الإعلامي، وكما يبدو ذلك في الأحاديث اليومية أو الطابع الأدبي الفلسفي، رُوحانية الشرق في مقابل مادية الغرب، «عصفور من الشرق» أو «ظلام من الغرب» كما هو الحال في الأعمال الأدبية والفنية، أو الطابع السياسي المذهبي كما يبدو في الصراعات السياسية والحروب الباردة أو الساخنة بين الكتلتين. إنما يهدف هذا العلم الجديد إلى تحويل هذه المادة القديمة إلى إطار نظري محكم ومنطق حضاري دقيق.
ثانيًا: الاستغراب والاستشراق
(١) «الاستغراب» في مواجهة «التغريب»
وتحولت مدننا إلى خليط من أساليب العمارة لا هُوية لها. فلا هي تقليدية حافظت على الطابع القديم، ولا هي حديثة لها طابع الحداثة، ولا هي عملية ناتجة عن مقتضيات البيئة. كما غاب الزي الوطني، وبدأ رد الفعل بالزي الإسلامي، واللحية والجلباب كأحد مظاهر التمسك بالهُوية. وإذا ما ذهبنا إلى باقي العالم العربي، إلى تونس أو المغرب أو اليمن أو السودان، أو حتى إلى الدول النفطية في الحجاز أو الخليج، وجدنا أقل قدر من الطابع العربي القديم أو المتجدد، وأصدرنا حكمًا على أننا في بلد عربي زيًّا، وعمارة، وأسلوب حياة، إلا في مصر. لم يعد لدينا زي وطني نلبسه في الأعياد الوطنية. وكلما زاد التغريب في أساليب الحياة العامة زاد التمسك بالزي الوطني أو الإسلامي كرد فعل، وكما حدث في الثورة الإسلامية في إيران ولدى الجماعات الإسلامية المعاصرة في مصر، والتمسك بالطب النبوي في مواجهة الطب الحديث، وبعلوم القرآن في مواجهة العلوم العصرية. وفي الجَمَل غِنًى عن وسائل المواصلات الحديثة، وفي الخَيمة بديل عن المساكن. كل ذلك يعبر عن أزمة ضِيق بمظاهر التغريب أكثر مما يعبر عن تخلف في رؤية، مجرد رد فعل على فعل. ومعظم النقد لرد الفعل هذا يتوجه للنتيجة ويترك السبب، يدهش من المعلول ويترك العلة، يسخر من النتائج ويستسلم للمقدمات. كما بدأت الهجرة إلى الغرب تشكل أحد البواعث الدفينة لدى جموع الناس، وانفك الارتباط بالأرض الذي كان السمة الغالبة في الشخصية الوطنية، ووقف الناس أمام أبواب السفارات طلبًا للهجرة، وضاع احترام المواطنين. كما أصبح الاستيراد هو هم التاجر والمستهلك، وتحول الاقتصاد الوطني إلى اقتصاد تابع، وفي عصر الانفتاح ظهر طلعت حرب وكأنه حُلم مجهَض، وعبد الناصر وكأنه كان كثيرًا علينا.
- (أ) تحريم القرآن موالاة الغير، والتقرب إلى الأعداء، والتودد إليهم، ومصالحتهم. فغاية الأعداء القضاء على هُوية الأنا، وإيقاعها في التقليد، والقضاء عليها حتى لا يوجد إلا الآخر.١٦ والاعتماد على القرآن هنا إنما هو اعتماد على موروث شعبي ومصدر سلطة وتوجيه في وعي الناس.
- (ب) رفض التقليد والتبعية في السلوك الفردي وفي العقائد من أي فردٍ كان، وإثبات المسئولية الفردية. فإيمان المقلِّد لا يجوز، والاعتذار بالتقليد غير مقبول يوم الحساب.١٧
- (جـ) نموذج الفكر الإسلامي القديم الذي استطاع تمثل الحضارات السابقة دون أن يفقد هُويته وقام بنقدها، مطورًا لها، ومكملًا لإنجازاتها. فظل إسلاميًّا معاصرًا، ذاتيًّا قادرًا على التعامل مع الآخر، وممثلًا للحضارات الإنسانية كلها.١٨
- (د) بالرغم من انبهار الفكر الإسلامي الحديث بالغرب وأخذه كنَموذج للتحديث من حيث الصناعة والتعليم والنظُم البرلمانية والدستورية والعمران، إلا أنه أيضًا استطاع أن يكون ناقدًا للغرب في دهريته وإباحيته ودنيويته (الأفغاني، إقبال … إلخ)، ولم يفقد خصوصيته وهو في أول التعامل معه بالرغم من الاستقلال أو الاستقلال المنقوص.١٩
- (هـ)
الاعتماد على موقف الحركة الإسلامية الآن من الغرب، في هذا التمايز بين الأنا والآخر، بين الإيمان والكفر، بين الإسلام والجاهلية، بين الله والطاغوت، ثم ترشيد العَلاقة إلى نقد مستنير، وتحويل عَلاقة العداوة بين الأنا والآخر إلى عَلاقة عالِمٍ بمعلوم، ذاتٍ بموضوع، دارسٍ بمدروس، راءٍ بمرئي، ملاحِظٍ بملاحَظ.
- (و)
الاعتماد على الموقف السلفي القديم الذي انعكف على الذات معاديًا الآخر نظرًا لظروف العدوان الخارجي على الأمة من الغرب (الصليبيون) أو الشرق (التتار والمغول)، فالظروف متشابهة الآن بين الغزو الاستعماري الحديث والغزو الاستعماري القديم.
(٢) من «الاستشراق» إلى «الاستغراب»
- (أ)
ظهر الاستشراق قديمًا إبان المد الاستعماري الأوروبي، والشعوب الأوروبية منتصرة بعد مرحلة الهجوم منذ سقوط غرناطة «والاستكشافات» الجغرافية، في حين يظهر «الاستغراب» الآن في عصر الردة وبعد حركات التحرر العربية، والشعوب مهزومة في مرحلة الدفاع. لذلك يظهر «الاستغراب» كدفاع عن النفس، وخير وسيلة للدفاع الهجوم، والتحرر من عقدة الخوف تجاه الآخر، وقلب الموازين رأسًا على عقب، وقلب المائدة في وجه الخصوم.
- (ب)
ظهر «الاستشراق» قديمًا محملًا بأيديولوجية مناهج البحث العلمي أو المذاهب السياسية التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر خاصةً من وضعية، وتاريخية، وعلمية، وعنصرية، وقومية. في حين يظهر «الاستغراب» اليوم في أيديولوجية مناهج علمية مخالفة مثل مناهج اللغة، وتحليل التجارِب المعيشة، وأيديولوجيات التحرر الوطني.
- (جـ)
«الاستشراق» الآن قد تغير شكله، وورثته العلوم الإنسانية، خاصة الأنثروبولوجيا الحضارية، وعلم اجتماع الثقافة. في حين أن «الاستغراب» ما زال بادئًا، ولم يطور أي شكل له بعد. فإذا كانت بدايات «الاستشراق» في القرن السابع عشر، وبدايات «الاستغراب» في أواخر القرن العشرين فإن «الاستشراق» يكون سابقًا على «الاستغراب» بأربعة قرون، هي عمر النهضة الأوروبية الحديثة.
- (د)
لم يكن الاستشراق القديم محايدًا، بل غلبت عليه مناهج تعبر عن بنية الوعي الأوروبي التي تكونت عبر حضارته الحديثة، مثل المناهج التاريخية، والتحليلية، والإسقاطية، والأثر والتأثر. في حين أن وعي الباحث الآن في علم «الاستغراب» أقرب إلى الشعور المحايد؛ نظرًا لأنه لا يبغي السيطرة أو الهيمنة، بل يبغي فقط التحرر من إسار الآخر حتى يوضع الأنا والآخر على نفس المستوى من الندية والتكافؤ.
بل إنه من الأمور الأكثر فائدة بالنسبة للتراث الغربي ذاته دراستُه من باحثين غير منتمين له يمكنهم إلقاء وجهات نظر جديدة عليه. وذلك لأن الباحث الأوروبي مشبع بتراثه، وله نفس البناء الشعوري الذي له. ومن ثَم لا توجد بينه وبين موضوعه مسافة كافية. وبالتالي تصعب عليه الرؤية. في حين أن الباحث غير الأوروبي له بناء شعوري مخالف، وبينه وبين موضوعه، أعني الشعور الأوروبي، مسافة كبيرة تمكنه من الرؤية عن بعد. صحيح أن هناك خطورة الإسقاط من ذات الباحث على موضوعه، فيرى ما في نفسه أكثر مما يرى ما في الواقع. وصحيح أيضًا أن هناك خطورة الوقوع في الخطابة أو في التعصب للذات والهجوم على الحضارة الأخرى موضوع دراسته، خاصة إذا كان قد قاسى منها، سواء من الاستعمار المباشر أو من الاستعمار الثقافي، حينئذٍ تكون فرصة فريدة للانتقام. ولكن وعي الباحث وأصالته يحفظانه من الوقوع في مثل هذه الأخطار. في حين أن الخطر الأكبر هو في ترديد الباحثين الأوروبيين أشياء كثيرة، وتدقيقهم في البحث لدرجة المتناهي في الصغر دون استطاعتهم إدراك الموضوع ككل؛ وذلك لأن الباحث الأوروبي بعد طول تعوده على البحث، وبعد رفضه لكل نظرة كلية شاملة بعد أن اكتشف عيوب هذا اللون من الفكر الذي ورثه عن العصر الوسيط، رفض الكل وآمن بالجزء، وأراد إعادة تكوين الكل ابتداءً من الأجزاء التي يصل إليها هو بطريقه الخاص وبمناهجه الحسية.
وعلم «الاستغراب» في مقابل الاستشراق ضرورة ملحة في عصر الثورة المضادة بعد أن عاد الغرب بهجمته الاستعمارية الثانية بعد هجمته الاستعمارية الأولى، إثر حركات التحرر الوطني. كان السؤال: لماذا نجحت حركات التحرر الوطني في التخلص من الاستعمار العسكري ثم تم إجهاض نتائجها في الاستقلال الوطني اقتصاديًّا وسياسيًّا وثقافيًّا وحضاريًّا؟ لماذا زادت معظم البلاد المتحررة حديثًا بعد الاستقلال تبعيةً في الغذاء والتسليح والتعليم وتحديث المجتمعات؟ كان الصراع بين الأنا والآخر في المواجهة الأولى بين حركات التحرر والاستعمار صراعَ وجود، صراعًا عضليًّا يعتمد على الغلبة المادية، أيهما أقوى. ولكن ظل اقتداء المستعمَر بالمستعمِر قائمًا. ثم جاءت الردة الحاليَّة، وانقلبت الثورات الحديثة إلى ثورات مضادة من داخلها. فلا ثقافات ثارت، ولا شعوب تحركت؛ لأن عَلاقة الأنا بالآخر، بالرغم من الاستقلال السياسي الظاهري، ما زالت عَلاقة تبعية وليست عَلاقة استقلال، ولأن عقدة النقص التاريخية أمام الآخر ما زالت قابعة في الشعور، ولأن العَلاقة بينهما ما زالت بين ندين غير متكافئين، عَلاقة المركز بالأطراف، عَلاقة السيد بالعبد، عَلاقة أحادية الطرف غير متبادلة المواقع، طرف ينتج والآخر يستهلك، طرف يأمر والثاني يطيع. الأول لديه إحساس بالعظمة والثاني لديه إحساس بالنقص، عقدة تاريخية في صراع الحضارات. يهدف علم «الاستغراب» إذن إلى إقالة الثورات الحديثة من عثراتها، واستكمال عصر التحرر من الاستعمار، والانتقال من التحرر العسكري إلى التحرر الاقتصادي والسياسي والثقافي، وقبل كل شيء التحرر الحضاري. فما دام الغرب قابعًا في قلب كلٍّ منا كمصدر للمعرفة وكإطار مرجعي يُحال إليه كل شيء للفهم والتقييم فسنظل قاصرين في حاجة إلى أوصياء.
ثالثًا: المركز والأطراف
(١) علم «الاستغراب» والرد على المركزية الأوروبية
- (أ)
النظرة الذاتية الخالصة التي تنم عن عنصرية دفينة، وكأن العالم يوجد عندما يعرفه الوعي الأوروبي، ولا يوجد عندما يجهله. فالمعرفة تساوي الوجود. في حين أنه من منظور أمريكا وأفريقيا، البلاد المستكشفة موجودة سواء عرَفها الوعي الأوروبي أم لم يعرف. كما أن الأوروبيين بالنسبة للهنود الحمر وسكان أفريقيا لم يكونوا موجودين قبل حلولهم سواحل أمريكا وأفريقيا طبقًا للمنطق الأوروبي للاستكشافات الجغرافية.
- (ب)
إنكار التاريخ الحضاري للشعوب اللاأوروبية في أفريقيا وآسيا وأمريكا، وكأنها كانت حضارات ما قبل التاريخ، يبدأ تاريخها منذ حضور المستعمر، فالتاريخ هو تاريخ المعرفة بالموضوع وليس تاريخ الموضوع كما يعرف نفسه، وكأن الوعي التاريخي للعارف هو الوعي التاريخي للمعروف.
- (جـ)
هي بداية الاستعمار التقليدي القديم الذي خرج فيه الوعي الأوروبي ممتدًّا خارج حدوده ليحوط بالعالم القديم بحرًا حول أفريقيا جنوبًا وإلى الهند شرقًا وإلى أمريكا غربًا، لما كانت أوروبا في الشمال، أي خروج الشمال من نطاقه الجغرافي إلى نطاقه الحضاري جنوبًا وشرقًا وغربًا.
- (د) بداية القضاء على الثقافات المحلية بعد تعلُّمها وجمع أكبر قدرٍ ممكن من المعلومات حولها، ثم زرع الثقافة الأوروبية محلها كثقافة بديلة ووحيدة، ممثلةً الثقافةَ العالمية، وهي ما سُمي في علوم الأنثروبولوجيا الحضارية، للتعمية والتغطية، المثاقفة أو التثاقف Acculturation.
- (هـ)
بداية نهب ثروات الشعوب اللاأوروبية ونقل سكانها في أكبر حركة نهب بشري عرَفها التاريخ؛ عبيد أفريقيا إلى أمريكا، وثروات آسيا إلى أوروبا، وتركزت الثورة البشرية والمادية وانتقلت من الأطراف إلى المركز.
- (و) التشويه المتعمد لثقافات الشعوب «المستكشفة» حديثًا، مع أنها هي الشعوب التاريخية، وقسمة الشعوب إلى حضارية وبدائية أو متقدمة ومتخلفة أو صناعية وزراعية أو عقلية وأسطورية أو موضوعية وذاتية. وقد وجدت كل هذه التقسيمات صياغاتها المتطرفة في النظريات العنصرية وتقسيم الشعوب إلى آريَّة وساميَّة في العلوم الإنسانية، خاصة الأنثروبولوجيا الاجتماعية وعلم الحضارات وفلسفة التاريخ.٣١
ومَثَل آخر مما يهدف إليه علم «الاستغراب» من تصحيح المفاهيم المستقرة، والتي تكشف عن المركزية الأوروبية، من أجل إعادة كتابة تاريخ العالم من منظورٍ أكثر موضوعية وحيادًا وأكثر عدلًا بالنسبة لمدى مساهمة كل الحضارات البشرية في تاريخ العالم، هو مفهوم «العالمية» كما هو الحال في «الحرب العالمية الأولى» أو «الحرب العالمية الثانية»، وهي حروب أوروبية صرفة نشأت بين القوى الأوروبية بسبب أطماعها فيما بينها وأطماعها في غيرها. وروسيا بلد أوروبي وإن كانت امتدادًا جغرافيًّا في آسيا. وتركيا وإن كان بلدًا آسيويًّا جغرافيًّا إلا أنه بلد أوروبي تاريخيًّا. والحرب العالمية الثانية صراع بين قوًى أوروبية صرفة من أجل السيطرة على المواد الأولية وعلى البحار والمحيطات. أما اليابان فبالرغم من وجودها الجغرافي في آسيا إلا أنها كانت تتعامل بمنطق الدول الأوروبية من أجل السيطرة على الأرض شرق آسيا وعلى المحيط الهادي شرق الجزر اليابانية. أما أفريقيا فقد انجرت إلى الحرب وتم استعمار أجزاء منها بعد الحرب الأولى، ودارت فوقها أهم معارك الحرب الثانية، فهي الخطوط الخلفية للجبهات الرئيسية، أطراف تخدم القلب، ومحيط يدور في فلك المركز.
- (أ)
إلحاق الحضارات كلها بالتاريخ الأوروبي. ويمكن عمل ذلك من منظور كل حضارة تضع نفسها في المركز، وبالتالي يضيع التاريخ العام للحضارات البشرية جميعًا. وقد قام الوعي الأوروبي بذلك واستقر؛ لأنه هو الذي له الريادة في العصر الحديث، وهو الذي قام بالتدوين له.
- (ب)
إنكار دور الحضارات القديمة، الصين، والهند، وفارس، ومصر القديمة، وكأن تاريخها سابق على تاريخ البشرية، وكأن البشرية لم تكن قد وُجدت في هذه الفترة، أو وُجدت وكانت ما زالت في مرحلة الطفولة، ولم تبلغ بعدُ درجة النضج والرجولة.
- (جـ)
الحضارة الإسلامية بالنسبة لنا ليست في العصر الوسيط، بل لها مسارها الخاص. فهي ممتدة عبر خمسة عشر قرنًا من الزمان في مرحلتين كبيرتين، كل منها سبعة قرون؛ الأولى: الحضارة الإسلامية في عصرها الأول: النشأة (القرنان الأول والثاني)، والازدهار (القرنان الثالث والرابع) والاكتمال (القرنان الخامس والسادس)، ثم بداية الانهيار بعد ذلك، وظهور ابن خلدون في نهاية هذه الفترة ليؤرخ لها. والفترة الثانية: عصر الشروح والملخصات وتدوين الموسوعات الكبرى إبان الحكم المملوكي العثماني منذ القرن السابع حتى القرن الرابع عشر بما في ذلك القرنين الأخيرين، فجر النهضة الحديثة، وحركة الإصلاح الديني، وحركة التحرر الوطني المعاصرة.
- (د)
لما كانت العصور الوسطى بالنسبة للغرب هي بالنسبة لنا عصرنا الذهبي، فإن العصور الحديثة بالنسبة للغرب هي عصورنا الوسطى، أي الفترة الثانية من مسار الحضارة الإسلامية التي توقف فيها الإبداع ثم استمر في الحضارة الأوروبية.
- (هـ) ويظهر هذا الارتباط والتردد والاشتباه في تداخل التاريخين الأوروبي والإسلامي في وعينا الحالي لدرجة زحزحة الوعي التاريخي الإسلامي كليةً لحساب الوعي التاريخي الأوروبي. فإذا سُئلنا: في أي قرن نحن نعيش؟ لأجبنا: في القرن العشرين! أي أننا نجيب بحضور الوعي التاريخي الأوروبي ونحن لسنا أوروبيين. ولو سُئلنا: في أي عصر نحن نعيش؟ لأجبنا: في عصر العلم والتكنولوجيا، مع أننا ما زلنا في عصر النهضة، نحاول الخروج من العصر الوسيط، وننقل الإصلاح الديني إلى نهضة شاملة.٣٢
(٢) من نقل الغرب إلى إبداع «الاستغراب»
- (أ)
الكم الهائل من المعلومات التي على الأنا معرفتها من الآخر، والتي على الوعي المستهلِك أن يعرفها من الوعي المنتِج، مما يضِيق عمر المبدع عن الإحاطة به واستيعابه.
- (ب)
وفي حالة الإحاطة به فإن جانب النقل لديه يكون مثقلًا للغاية بحيث يئن تحت المنقول الذي يَثقُل على وعيه الحر، ويغطي الواقع ذاته، بل ويصبح بديلًا عنه، فيغترب الباحث، ويتعامل مع الظلال دون التعامل مباشرة مع الأشياء.
- (جـ)
وفي حالة حدوث الإبداع فإنه يحال إلى الثقافة الغربية وكأنها مصدره الأول ليس فقط في الشكل بل أيضًا في المضمون. فالإبداع أيضًا لا يتم إلا في إطار التبعية، وبالتالي يتحول الكل الإبداعي عند جميع الشعوب اللاأوروبية إلى الجزء الإبداعي الأوروبي ويلحق به بدعوى أن الكل الإبداعي قد تم في المركز وأن الأجزاء الإبداعية في الأطراف كلها تنبع من المركز كي تعود إليه وتصب فيه.
- (د)
وإذا ما توقف الإبداع كليةً فإن ذلك يُعزى إلى فقر الاطلاع على آخر الإبداعات الغربية. فلا إبداع بلا تعرف على مواطن الإبداع، وكأنه لا إبداع في كلتا الحالتين. إذا أبدع المبدع اللاأوروبي شيئًا فإنه يُحال إلى مثيله في الغرب، وإن لم يبدع مثله فإن السبب يكون عدم معرفته بالإبداعات المماثلة في الغرب، وبالتالي ارتبطت الأطراف بالمركز إلى الأبد، إيجابًا أم سلبًا، وجودًا أو عدمًا، حياة أو موتًا.
- (هـ)
وإذا ما أبدع المبدع في بداية نهضته فإن إبداعه يحال باستمرار إلى إبداع مماثل في الغرب المبدع منذ العصور الحديثة وعلى أكثر من خمسمائة عام، وبالتالي يكون الغرب أسبق باستمرار في وضع المناهج العقلانية والتجريبية والتحليلية والبنيوية والوصفية. أما كيف تكونت هذه الإبداعات في الغرب وما مصادرها من خارج الغرب فذاك يُضرَب حوله مؤامرات الصمت. فإبداعات الأطراف الآن تُحال إلى إبداعات المركز السابقة عليها. أما إبداعات المركز فلا تحال إلى إبداعات مراكز أخرى سابقةٍ خارج الوعي الأوروبي وهو في بداية تكوينه عندما كان يمثل أطرافًا لها.
وتظهر هذه المقدمة عن علم «الاستغراب» في نفس الوقت الذي يتم فيه الإعداد للجزء الثاني «من النقل إلى الإبداع» من الجبهة الأولى «موقفنا من التراث القديم». إذ إن موضوع هذا الجزء هو عَلاقة الأنا بالآخر، الحضارة الناشئة بالحضارة القديمة، الحضارة الإسلامية في مواجهة الحضارة اليونانية أساسًا. وهو النموذج القديم لعَلاقتنا بالغرب حاليًّا. كما أن عَلاقتنا بالغرب حاليًّا استمرارٌ لنفس العَلاقة القديمة وإن اختلف النموذج. فإذا كان القدماء قد استطاعوا قراءة الآخر من منظور الأنا، فإننا حاليًّا نقرأ الأنا من منظور الآخر ولم نستطع بعد أن نرد على الاستشراق، وهو قراءة الغرب للَّاغرب من منظور الغرب، باستشراق مضاد أو استغراب، وهو قراءة الغرب من منظور اللَّاغرب. لذلك ستتم الإحالة باستمرارٍ إلى هاتين اللحظتين التاريخيتين في عَلاقة الأنا بالآخر، اللحظة القديمة في عَلاقتنا باليونان، واللحظة الحاليَّة في عَلاقتنا بالغرب. فالتحدي في كلتا اللحظتين كان من الغرب. أما الجناح الشرقي فكان أضعف في كلتا الحالتين من الجناح الغربي، ولو أن الجناح الشرقي في اللحظة القديمة (فارس والهند) كان أقوى من الجناح الشرقي الحالي (روسيا والصين) وأكثر حضورًا. الغاية إذن من هذا البيان النظري ليس فقط دراسة عَلاقتنا بالغرب حاليًّا، بل البحث في جذورها التاريخية في اللحظة الأولى في عَلاقتنا باليونان. وبالتالي يكون هذا البيان النظري الثاني نوعًا من البحث في أعماق الوعي التاريخي لمعرفة منطق الجدل الحضاري، ولماذا نجح القدماء في احتواء الآخر وتمثُّله، والرد عليه، وإكمال النقص فيه، وحذف الزيادة منه، ولماذا لم ننجح نحن بعدُ في اللحظة الحاليَّة فاحتوانا الآخر وذوَّبنا فيه؟
(٣) نتائج «الاستغراب»
- (أ)
السيطرة على الوعي الأوروبي، أي احتواؤه بدايةً ونهاية، نشأةً وتكوينًا، وبالتالي يقل إرهابه لأنه ليس بالوعي الذي لا يقهر، فيتحول الدارس إلى مدروس، والذات إلى موضوع، ولا نصبح ضائعين فيه. يمكن للإنسان أن يراه مرة واحدة، وأن ينظر إليه من أعلى بدلًا من أن يقبع أسفل منه. يتحول تلميذ اليوم إلى أستاذ الغد، وأستاذ الأمس إلى تلميذ اليوم. ومن يدري لمن تكون الريادة في المستقبل؟
- (ب)
دراسة الوعي الأوروبي على أنه تاريخ وليس خارج التاريخ. صحيح أنه تاريخ تَحقق على مراحل لا يمكن القفز عليها أو تجاوُز مراحلها المتوسطة، لكنه مع ذلك تجرِبة بشرية ومسار حضاري مثل غيره من التجارِب. إنه ليس التجرِبة الوحيدة أو المسار الحضاري الأوحد. هو إحدى مراحل تاريخ الوعي الإنساني الطويل ابتداءً من مصر والصين وحضارات الشرق القديم. إن الحضارة التي أبدعت فلسفة التاريخ، وأسست المنهج التاريخي، وسادتها النزعة التاريخية، وزهت بها على غيرها من الحضارات ذات النزعة اللاتاريخانية، وقدمت الماركسية كمادية تاريخية، وأسست علم اجتماع المعرفة، وعلم اجتماع الثقافة، والأنثروبولوجيا الحضارية، لَأَوْلى أن تطبق إبداعها على ذاتها. ويُثْبت علم «الاستغراب» أن الوعي اللاأوروبي الذي طالما تم إتهام الوعي الأوروبي له بأنه لا تاريخاني، قادرٌ على دراسة هذا الوعي الأوروبي ذاته في التاريخ، ويعيده إلى التاريخ بعد أن خرج منه بدعوى الاستقلال عنه وتمثيله لكل التاريخ. فالشعوب التاريخية، شعوب الشرق، قد تكون أكثر قدرة على تمثُّل الوعي التاريخي، نظرًا لعمقها في التاريخ، من الشعوب الحديثة، شعوب الغرب، نظرًا لحداثتها في التاريخ. فماذا تستطيع خمسة قرون وهو عمر الوعي الأوروبي في العصور الحديثة منذ الإصلاح الديني وعصر النهضة حتى الآن أمام ثلاثة آلاف سنة أو يزيد؛ عمر الوعي الشرقي في مصر والصين؟
- (جـ)
رد الغرب إلى حدوده الطبيعية، وإنهاء الغزو الثقافي، وإيقاف هذا المد الذي لا حدود له، وإرجاع الفلسفة الأوروبية إلى بيئتها المحلية التي منها نشأت، حتى تظهر خصوصيتها التي أمكن تعميمها من خلال الاستعمار والسيطرة وأجهزة الإعلام في لحظة ضعف الأنا وتقليده للآخر، واقتصار تحرره على الأرض دون الثقافة، إرجاع الثقافة والحضارة إلى الجغرافيا والتاريخ، إذ إن المسافة بين البيئة الجغرافية والتاريخية وبين الثقافة والحضارة الأوروبية متباينة للغاية، فالأولى محددة والثانية لا محددة. وإذا كان العامُّ قد انتقل من الخاص في عصر الريادة الأوروبية بالأمس، فإن العامَّ يمكن أن يعود إلى الخاص في عصر الانحسار الأوروبي اليوم.
- (د) القضاء على أسطورة الثقافة العالمية، واكتشاف خصوصيات الشعوب، وأن لكل شعبٍ نمطَه الحضاري الخاص ووعيه المتميز، بل وعلومه الطبيعية وتقنيته الخاصة، كما هو الحال في الهند والصين وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وتطبيق مناهج علم اجتماع المعرفة والأنثروبولوجيا الحضارية على الوعي الأوروبي ذاته الذي أخرجها ويطبقها على كل الثقافات إلا ثقافته، الخَلق العبقري الأصيل الذي على غير منوال. وبالتالي تنتهي عَلاقة المركز بالأطراف. الحضارة الرئيسية والحضارات الفرعية، الحضارة بألف ولام التعريف والحضارات النكرة. وتتعدد الحضارات المركزية، وتتباين المراكز، وتصبح الحضارات كلها على مستوًى واحد، فيقع التبادل والتفاعل الحضاري، دون أن تقضي الحضارة الكبيرة على الحضارات الصغيرة باسم «التثاقف» أو «التحاضر» Acculturation.
- (هـ) إفساح المجال للإبداع الذاتي للشعوب غير الأوروبية وتحريرها من هذا الغطاء الذهني، وهذه البنية العقلية حتى تفكر الشعوب بعقلياتها الخاصة وأطرها المحلية، فتتعدد الأنماط، وتتنوع النماذج. فليس هناك نموذج واحد لكل الشعوب، لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا (٥: ٤٨). وتصير العَلاقات بين الحضارات عَلاقات متبادلة وليست عَلاقات ذات اتجاه واحد وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا (٤٩: ١٣) فلا إبداع ذاتي دون تحرر من هيمنة الآخر، ولا إبداع أصيل دون العودة إلى الذات الخاصة بعد أن تقضي على اغترابها في الآخر. وتتجاوز هذه الأصالة مستوى الفنون الشعبية والمظاهر الخارجية إلى مستوى القوالب الذهنية والتصورات للعالم.
- (و)
القضاء على عقدة النقص لدى الشعوب غير الأوروبية بالنسبة للغرب، وقيامها بإبداعها الخلاق بدلًا من أن تكون مستهلكة للثقافة والعلم والفن، بل وتصير قادرة على التفوق على غيرها. وقد يتحول مركَّب النقص إلى مركب عظمة يساعد على الخلق والإبداع. وتبدو هاتان العقدتان عند تيارين رئيسيين في حياتنا الثقافية. فالعلمانية تشعر بهذا المركب للنقص أمام الغرب، شبانًا وشيوخًا، وكأن الإنسان لا يستطيع أن يكون عالمًا أو مفكرًا أو فنانًا أو حتى إنسانًا إلا إذا كان غربيًّا. والحركة السلفية تشعر بدورها بهذا المركب للعظمة، كرد فعل على الأول، بالنسبة للغرب، شبانًا وشيوخًا أيضًا، وكأن الإنسان لا يستطيع أن يكون إسلاميًّا إلا إذا نهل من القدماء، وتمسك بكل معطيات التراث دون نقد أو تمحيص أو إعادة اختيار بين البدائل، وكأن الإنسان في الحالتين لا يستطيع أن يكون إلا تابعًا، مرة للمحدَثين، ومرة للقدماء، مرة للعلمانية ومرة للحركة السفلية، وكأنه غير قادر على أن يعيش واقعه، ويعمل له، ينظِّره قدر إمكاناته، ويطوِّره قدر احتياجاته، ويبدع أصالته بصرف النظر عن مصادرها وأطرها النظرية المسبقة.
- (ز)
إعادة كتابة التاريخ بما يحقق أكبر قدر ممكن من المساواة في حق الشعوب بدلًا من النهب الأوروبي لثقافات العالم، واكتشاف دور الحضارات التي ساهمت في تكوين حضارة الغرب، والتي حاك الغرب حولها مؤامرة الصمت، ودون أن يكون الغرب هذه المرة، وبموضوعية تاريخية، مركز الثقل في العالم، فيه تصب كل الحضارات. فلكل حضارة دورها في الريادة في إحدى فترات التاريخ، ولكل منها دورها في التراكم المعرفي الذي اقترن أخيرًا في اللحظة الراهنة في الحضارة الغربية. فهناك اليوم حضارة، هي الحضارة الأوروبية، تأخذ كل شيء، وحضارات أخرى طواها النسيان؛ الأولى تأخذ أكثر مما تستحق، والثانية تنال أقل مما تستحق. الأولى تطور البشرية واكتمالها، والثانية بدايات البشرية. سبعة آلاف عام تنال في أي مؤلَّف في تاريخ الحضارات أقل من ربع الكتاب، وخمسمائة عام تنال الثلاثة أرباع!
- (ﺣ) بداية فلسفة جديدة للتاريخ، تبدأ من ريح الشرق، واكتشاف الدوائر الحضارية وقانون تطورها أشمل وأعم من البيئة الأوروبية، وإعادة النظر في وضع الشعوب الشرقية كبدايات للتاريخ، كما هو الحال عند هردر وكانط وهيجل. وكما بدأت الحضارات من الشرق ثم انتقلت إلى الغرب فقد تعود إلى الشرق من جديد. قد ينتج عن هذا العلم الجديد تحول جذري في تاريخ العالم، فيكون على مشارف الانتقال من مرحلة قديمة إلى مرحلة جديدة، من عصر ريادة لحضارة إلى عصر ريادة لحضارة أخرى. فإذا كانت الاستكشافات الجغرافية هي البداية فإن رد الغرب إلى حدوده الطبيعية هي النهاية. وما حدث في الفلسفة من قبل، من الانتقال من «الأنا أفكر» إلى «الأنا موجود»، من ديكارت إلى هُوسِرْل، قد تكون دلالته أعمق ليس فقط من حيث تطور الفلسفة الأوروبية، واكتمال المثالية الترنسندنتالية، وتكوين الوعي الأوروبي والكشف عن بنيته، بل من حيث الوعي الأوروبي وريادته للعالم، وربما من حيث الوجود الأوروبي ذاته، وكما كشفت عن ذلك «فلسفة الوجود» المعاصرة.٤٣
- (ط) انتهاء «الاستشراق» وتحول حضارات الشرق من موضوع إلى ذات، ومن أحجار إلى شعوب، وتصحيح الأحكام التي ألقاها الوعي الأوروبي وهو في عنفوان يقظته على حضارات الشرق وهي في عمق نومها وخمولها. فالاستشراق يكشف عن طبيعة العقلية الأوروبية ونظرتها إلى الآخر أكثر مما يكشف عن طبيعة الموضوع المدروس. فهو موضوع دراسة وليس دراسة موضوع. هو المرآة التي يكشف فيها الوعي الأوروبي عن ذاته للآخرين. وقد بدأ «الاستشراق» في جيلنا يتحول من دراسة موضوع إلى موضوع دراسة.٤٤ كما بدأ يتحول داخل الغرب ذاته من «الاستشراق» إلى «العلوم الإنسانية في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية». أما اليابان فما زالت ترعى الاسم القديم وتمارس «الاستشراق» التقليدي وتقبله. وقد آن الأوان أن يتحول رفض الاستشراق من مستوى الخطابة والعداء الساذج إلى مستوى العلم الدقيق. كما يتحول من مرحلة تصحيح الأحكام الخاطئة السابقة التي ألقاها الاستشراق على ظواهره، إلى أخذ هذه الأحكام ذاتها واعتبارها دوال تكشف عن عقلية الحاكم، تكوينًا وبنية.
- (ي)
إنشاء علم «الاستغراب» كعلم دقيق بعد أن ظهرت إرهاصاته لدى جيلنا ودون أن تتحول إلى علم، وتحويل الحضارة الأوروبية أيضًا من دراسة موضوع إلى موضوع دراسة، والكشف عن مسار هذه الحضارة، مصدرًا وبيئة، وبداية ونهاية، نشأة وتطورًا، بنية وتكوينًا كما فعلت مع غيرها عندما حولتها إلى مواضيع للدراسة فلم تسلم من التحيز والمحاباة. وقد يكون علم «الاستغراب» أسعد حظًّا في الموضوعية والحياد، معطيًا معاني جديدة لهما بعد أن يقضي عليهما وأسطورة ويكشف عنهما كخداع وتحايل. لقد آن الأوان لجيلنا أن يرى الحضارة الغربية عن بعد دون الالتصاق بها حتى يمكن رؤيتها في شمولها، ودون الابتعاد عنها فتختفي عن الأنظار، أو التوحد بها فيختفي الناظر.
- (ك) تكوين الباحثين الوطنيين الذين يدرسون حضاراتهم الخاصة من منظور وطني، وحضارة الغير بطريقة أكثر حيادًا وإنصافًا مما فعل الغرب مع غيره. وبالتالي تنشأ العلوم الوطنية، وتتكون الثقافة الوطنية، ويتأسس التاريخ الوطني، وينتهي الفِصام في الثقافة والسياسة، بين العلم والوطن، بين الباحث والمواطن.٤٥ «علم الاستغراب» هو في حقيقة الأمر تحليل الثقافة الوطنية ووصف تفاعل الجبهات الثلاثة فيها: «التراث القديم» و«التراث الغربي» و«الواقع المباشر» الذي تبدو النصوص التراثية فيه متداخلة مع أزمات العصر وتحدياته سلبًا أكثر منها إيجابًا، وعائقًا أكثر منها دافعًا.٤٦
- (ل) بداية جيل جديد من المفكرين بعد جيل الرواد الأوائل في عصر النهضة يمكن أن نسميهم فلاسفة بدلًا من هذا الصخب الدائر والضجيج المسموع حول سؤال: «هل لدينا فلاسفة؟» فكل تعامل مع الغرب بهذا المعنى هو فلسفة. وكل من يأخذ موقفًا من الآخر هو فيلسوف. وقد كان الحال كذلك في عصر النهضة الأوروبي عندما بدأ التعامل مع أرسطو على أيدي الشراح المسلمين ونقد الرشدية اللاتينية، وكان الحال كذلك أيضًا عندما تعاملت الحضارة الإسلامية مع الفلسفات الواردة، خاصة اليونانية، فخرج الحكماء يعيدون بناء الآخر من منظور الأنا.٤٧
- (م) إذا كان جيلنا قد أكمل من قبل التحرر المباشر من الاستعمار، الاحتلال العسكري، ثم حاول بعد ذلك أن يحوِّل الثورة إلى دولة ويحقق الاستقلال الاقتصادي، فإن مهمة التحرر لم تكتمل بعد. لقد حاول البعض منا الانتقال من التحرر العسكري والاقتصادي إلى التحرر الثقافي والعلمي، ولكن الشوط ما زال بعيدًا بالرغم من كثرة الحديث عن الغزو الثقافي والنقل العلمي. والحقيقة أن علم «الاستغراب» قادر على أن يقوم بالتحرر من أساسه «الأُنطولوجي» وليس المعرفي، وذلك بتحرر الأنا من سيطرة الآخر، وهو التحرر الحضاري، حتى تبدأ الأنا في وضع ذاتها كأنا. «أنا لا أغترب» «إذن، أنا موجود» أو «أنا لست آخر»، «إذن أنا موجود». فالكوجيتو في عصرنا وعند جيلنا نافٍ، سالب، فيه يسبق السلب الإيجاب، والنفي الإثبات مثل الشهادة في «لا إله إلا الله».٤٨
- (ن) وقد ينتج عن علم «الاستغراب» أخيرًا أن تشهد الإنسانية عصرًا جديدًا يختفي منه داء العنصرية الدفين الذي نشأ إبان تكوُّن الوعي الأوروبي حتى أصبح جزءًا من بنيته، وبالتالي تختفي عدوانية الشعوب بعضها على البعض بعد أن عانت الإنسانية من جراء حربين أوروبيتين في المركز والمحيط على السواء بينهما عشرون عامًا! وقد ورثت الصهيونية هذا الداء الدفين، وما زالت تمارس أساليب الاستعمار القديم والنازية الحديثة.٤٩ هذه ليست طوباوية يقع فيها علم «الاستغراب» بل تغيير جذري في الوعي الإنساني، إذ يرى الوعي الأوروبي حدوده، كما يرى الوعي اللاأوروبي إمكاناته، فلعل كلًّا منهما يصل إلى منتصف الطريق لخلق وعي إنساني جديد.
رابعًا: الجذور والامتداد
(١) جذور علم «الاستغراب»
وعلم «الاستغراب» ليس حديثًا؛ لأن عَلاقتنا بالغرب أيضًا ليست فقط وليدة العصر الحديث، بل تمتد جذورها منذ نشأة الأنا الحضاري المتمثل للتراث الإسلامي عبر أربعة عشر قرنًا أو يزيد. ففي عَلاقتنا باليونان كما فعل القدماء تمتد جذور علم «الاستغراب». اليونان جزء من الغرب، جغرافيًّا، وتاريخيًّا وحضاريًّا، وإلى اليونان والرومان تمتد مصادر الوعي الأوروبي. ولهذا الأنا الحضاري الجديد المتمثل للتراث الإسلامي القديم جذور أخرى أعمق في الماضي، في حضارات الشرق القديم في مصر، وكنعان، وآشور وبابل، وفارس، والهند، والصين، وهي الحضارات التي ورثها الإسلام، وتَمثَّلها الأنا الحضاري، الإسلامي الجديد. ولكن ذلك هو البعد الشرقي للأنا الحضاري الجديد وتطور التوحيد من ديانات الصين إلى الهند وإلى فارس ثم إلى ما بين النهرين وإلى كنعان وإلى مصر. واليهودية والمسيحية في جذور الأنا الحضاري الجديد من الشرق. فحضارات الشرق القديم على هذا النحو أصبحت مكونًا من مكونات الأنا الحضاري الجديد. بل إن عَلاقات الأنا الحضاري بالغرب قبل الإسلام مثل عَلاقات مصر باليونان والأثر المتبادل بين الحضارتين المصرية واليونانية، فإن ذلك أيضًا أقرب إلى مصادر الوعي الأوروبي، المصدر الشرقي وراء المصدر اليوناني الروماني. فهو بهذا المعنى جزء من علم الاستغراب فيما يتعلق بمصادر الوعي الأوروبي. ولكن لا يبدأ علم «الاستغراب» من جذوره إلا بعد بعث الأنا الحضاري الجديد وتمثُّل الثقافة اليونانية بعد عصر الترجمة.
- (أ)
النقل الحرفي وإعطاء الأولوية للفظ على المعنى حرصًا على اللغة المنقول منها، وهي اليونانية، مع العناية بنشأة المصطلح الفلسفي.
- (ب)
النقل المعنوي وإعطاء الأولوية للمعنى على اللفظ حرصًا على اللغة المنقول إليها، وهي العربية، مع بداية التأليف الفلسفي غير المباشر.
- (جـ)
الشرح، وهو إعطاء الأولوية للموضوع ذاته، أي الشيء على اللفظ والمعنى، ومحاولة التعبير عنه مباشرة مع ضم عبارة الآخر داخل الخطاب الجديد، ثم العناية بالبنية والكشف عن الموضوع ذاته. الشرح الأصغر يبدأ من النقل في منطلقه اللفظي الأول الجزئي، ثم يحاول أن يبني عليه رؤية جديدة. والشرح الأوسط يبدأ بالخطاب المنقول في معناه لينسج حوله خطابًا إبداعيًّا جديدًا أكلم وأشمل وأعم. والشرح الأكبر يبدأ بالخطاب المنقول ذاته ويبتعد عنه ثم يحلل الموضوع ذاته ويؤلف خطابًا موازيًا فيصبح الخطاب المنقول الأول مجرد موقف محدود داخل الموقف الفلسفي الأعم للخطاب الإبداعي الجديد.
- (د)
التلخيص، وهو دراسة الموضوع ذاته مع التركيز على اللب دون المحاجَّة والبرهان، الحد الأدنى من القول فيه بلا زيادة أو نقصان، يتجاوز النص إلى الشيء، والقول إلى الموضوع.
- (هـ)
التأليف في الوافد بالعرض والإكمال، وكأن نص الآخر قد تم احتواء لفظه ومعناه وموضوعه، وأصبح الموضوع هو موضوع الأنا المستقل.
- (و)
التأليف في موضوعات الوافد بالإضافة إلى موضوعات الموروث. وهنا تكتمل الصورة الكلية، وتصبح ثقافة الآخر متمايزة عن ثقافة الأنا.
- (ز)
نقد الوافد، وبيان محليته وارتباطه ببيئته، وبتعبيرنا: رده إلى حدوده الطبيعية، وبيان تاريخيته، وكيف أنه حالة خاصة ليس لديه من العموم والشمول ما يمكن أن يصبح وريثًا للحضارة البشرية جمعاء على عكس حضارة الأنا وقدرتها على ذلك.
- (ﺣ)
رفض الوافد كلية على أساس عدم الاحتياج إليه، والاكتفاء بنص الأنا الخام دون رغبة في الخروج منه وتعقيله والدخول في تفاعل مع ثقافات الآخر، وهو موقف بعض الفقهاء القدماء أو السلفيين المعاصرين.
وبعد الغزوات الصليبية والوعي الإسلامي في أوج الصراع بين الأنا المدافع والآخر الغازي ظهرت مرحلة جديدة من علم «الاستغراب»، صورة الآخر في وعي الأنا في أتون المعارك: التعصب، الجهل، الغزو، الفتن … إلخ. كما ظهر استشراق مضاد، صورة الوعي الإسلامي في الوعي الأوروبي: التحضر، التمدن، العلم، التسامح، الشجاعة، الشهادة … إلخ. كان الآخر هم الفرنجة، حاملو الصليب في أول محاولة للغرب للتوجه نحو الشرق تحت ستار الدين، أول محاولة للاستعمار عبر البحر الأبيض المتوسط، والانطلاق من الغرب إلى الشرق، نحو قلب الشرق، في فلسطين. وهو ما استأنفته الصهيونية بعد ذلك في هذا القرن. وما زالت هذه الفترة وما تتضمنه من صورتين متبادلتين بين الأنا والآخر لم تُدرس بعد كفكر، وإن كان بعض جوانبها قد دُرس من قبل في التاريخ والأدب.
ثم أتت مرحلة ثالثة في نهاية الوعي الإسلامي في نهاية القرون السبعة الأولى عندما صور ابن خلدون في «المقدمة» أهل الشمال. فقد كان معاصرًا لبدايات النهضة الأوروبية الحديثة. تحدث عن الفرنجة، بلادهم وتاريخهم وعمرانهم خاصة وقد كان بالمغرب، وقريب الصلة بهم من خلال الأندلس. كان الوعي الإسلامي في ذلك الوقت يقوم بدور الأستاذ والوعي الأوروبي بدور التلميذ. ولا غرابة أن يسأل الإمبراطور فردريك الثاني عبدا لحق بن سبعين عن أمهات المسائل الميتافيزيقية وكما هو معروف في «المسائل الصقلية». وقد نشأ الاتصال هذه المرة عبر صقلية وجنوب إيطاليا.
- (أ)
بداية الصدمة الحضارية مع الغرب العلمي مما جعل الأنا تفقد التوازن، وتلهث وراء ما تجهله كي تتعلمه وتسيطر عليه، وتنجذب نحو الآخر، وفي غمرة هذا الانجذاب نسيت الأنا، ونسيت ذاتها، فتحول الأنا إلى آخر، ووقع في الاغتراب.
- (ب) بداية اليقظة من صدمة الاستعمار، والدعوة إلى الأخذ بأساليب القوة التي بها تمكَّن الاستعمار منا فيتم التحرر بنفس الأدوات والعلوم التي تم بها الاستعمار. وبالتالي تتم محاربة الغرب بسلاحه، العلم والمدنية، لا فرق في ذلك بين إسلام ونصرانية.٥٥
- (جـ) حركات الإصلاح، والرغبة في الخروج من العثمانية والتصوف والتراث السلطوي القديم، والدعوة إلى الأخذ بأساليب النهض الحديثة أسوة بالغربيين. فلماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟٥٦
- (د) تأسيس الدولة الحديثة بعد الانفصال عن الدولة العَلِيَّة، وحاجة الدولة إلى منظِّرين ومهندسين وعلماء وإداريين لملء جهاز الدولة. وقد كان الطهطاوي على رأس هذا البناء.٥٧
- (هـ)
بداية البعثات العلمية للغرب، وإرسال الوطنيين للتعلم من الغرب، وعودة هذه البعثات كي تحدِّث المجتمع، وتبنيَ الدولة، وتخلق نمطًا جديدًا في الفكر والثقافة بجوار النمط القديم.
- (و) الرحلات المتبادلة بين الشرق والغرب، ورؤية الأنا للآخر فيصبح الآخر مرآة للأنا، ويبدأ الانبهار بالغرب حتى يصبح هو النمط الوحيد للتحديث.٥٨
- (ز) الترجمات عن الغرب منذ إنشاء «مدرسة الألسن»، وتحوُّل الترجمة — كما كان الحال في «ديوان الحكمة» سابقًا في عصر المأمون — من جهود فردية إلى عملٍ منظم تشرف عليه الدولة، واستمرار النقل حتى الآن دون توقف ودون أن تبدأ مرحلة الإبداع.٥٩
- (ﺣ)
بداية التأليف في موضوعات غربية عديدة في الفكر والسياسة والاجتماع والأخلاق والقانون … إلخ. فانتشرت المذاهب الغربية فوق الواقع وأصبحت تمثل بؤر جذب ثقافي للناس، وانتشرت المؤلفات حول الوضعية والوجودية والبرجماتية والماركسية. كما كثرت المؤلفات حول أسماء الأعلام مثل ديكارت، وكانط، وهيجل، وبركلي، ورسل، ووليم جيمس، وبرجسون، وهوايتهد، وفتجنشتين، وهيوم، ولوك، وكيركجارد من «نوابغ الفكر الغربي».
ولكن خروج هذه المقدمة في «علم الاستغراب» في هذه اللحظة يدل على أن لحظة الإعلان عن النوايا قد تم تجاوزها، وأن الإرهاصات الأولى قد تم تحويلها إلى علم دقيق أو كاد. إنما هي مهمة مجموعة من المثقفين لإعطاء مزيد من الأحكام، مهمة فريق عمل يغرس كل باحث فيها نبتًا. وقد تكون مهمة عدة أجيال برؤًى مختلفة ولكن يظل التأسيس الأول لهذا الجيل، والمحاولة الكاملة الأولى هي هذه المقدمة في «علم الاستغراب».
(٢) الغرب كنمط للتحديث
وقد أدى ذلك إلى تحديث المجتمعات وتنمية مواردها على النمط الغربي. وتم الانتقال من الفكر إلى الواقع بنفس النموذج. فأصبحت التنمية مجرد زيادة في معدل الإنتاج. وانتقال من الزراعة إلى الصناعة، وتكوين القطاع العام من أجل ملكية الدول لوسائل الإنتاج، وهي النظريات السائدة في الفكر التنموي الغربي. فما إن غابت القيادة الثورية حتى انتهت التنمية وغاب التخطيط، وكأن النمط الغربي للتحديث كان مجرد فقاعة هواء، سواء في الثقافة أو في الممارسة العملية في القيام بعمليات التحديث.
وإذا كان الغرب كنمط للتحديث يبدو عند المثقفين في «فلسفة التنوير» كما كان الحال عند الطهطاوي نظرًا لما يطمحون إليه من عقلانية وحرية وديمقراطية ومساواة وعدالة اجتماعية وتقدم، فإن هذا النمط قد تحول عند «رجال الأعمال» إلى رأسمالية فجة، خاصة في عصر الردة عن الثورة العربية وانقلابها من داخلها إلى ثورة مضادة، بل وإلى رأسمالية تقوم على الغش والسرقة والمضاربات، وتهريب الأموال، والتجارة في السوق السوداء، والربح السريع، والرشاوي، والعمولات؛ نظرًا لأن الرأسمالية خارج الغرب لم تقم على مُثُلها السابقة ولا على قوانينها التي تحمي المنافسة وترشِّد حرية المعاملات. تحولت إلى رأسمالية تابعة للرأسمالية الغربية، رأسمالية بلا وطن ولا هدف إلا تراكم الأموال وتهريبها.
خامسًا: الغرب في فكرنا المعاصر
(١) الحالة الراهنة للثقافة الغربية في ثقافتنا المعاصرة
وكثرت الرسائل العلمية حول الموضوعات الغربية عرضًا وتقديمًا للمذاهب والمناهج الغربية حتى أصبحت مرادفة للعلم. فالعالِم هو الحامل لها، المتحدث عنها، المؤلف فيها. كثر الوكلاء الحضاريون في مجتمعنا، وتنافسوا فيما بينهم في المعروض والمنقول. وتكثر الدعاية بالرجوع إلى المصادر والمراجع بلغتها الأصلية، وكتابة المصطلحات بالإفرنجية أمام المصطلحات العربية خوفًا من سوء الاجتهاد، والشكوى من عدم طواعية اللغة العربية لمقتضيات المصطلحات الحديثة. وكثر تأليف الكتب الجامعية في المذاهب الغربية، ويظل أضخم مشروع لنا في ثورتنا الحديثة هو ترجمة «الألف كتاب» نقلًا عن المؤلفات الغربية. وما زالت برامج الكتب التابعة للسفارات الأجنبية ومراكزها الثقافية هو ترجمة الثقافة الغربية في هذا البلد أو ذاك إلى اللغة العربية. وتنال الكتب جوائز الدولة، ويحصل مؤلفوها على الدرجات الجامعية والترقيات الوظيفية. ويشار إلى الكتاب بأنه أحسن ما أُلف في الموضوع، وأن الناقل نقل أفضل ما لدى المنقول عنه من بضاعة لأفضل سوق، ولأطوع جمهور، وبأرخص سعر حتى يزيد الرواج. وتنشأ المَجلات الثقافية المتخصصة لنشر الثقافة الغربية، كما تقوم بذلك مراكز الأبحاث العلمية الغربية في البلاد. وتنتشر العلوم والأسماء الجديدة أمام شباب الباحثين فيشعرون بضآلتهم أمامها: الهرمنيوطيقا، السميوطيقا، الأستطيقا، الأسلوبية، البنيوية، الفينومينولوجيا، الأنثروبولوجيا، الترنسندنتالية … وتكثر عبارات التمفصلات، التمظهرات، الإبستيمية، إبوخية، الدياكرونية، السنكرونية … إلخ. أصبح المثقف هو الذي يلوك بلسانه معظم أسماء الأعلام المعاصرين في علوم اللسانيات والاجتماع، ويطبق هذا المنهج أو ذاك، متأثرًا بهذه الدراسة أو تلك.
- (أ)
اختيار جزئي من التراث الغربي، تراث الآخر، في أحد مذاهبه الشخصانية أو الماركسية أو الإنسانية والوجودية أو المثالية أو الوصفية وليس الغرب ككل، وابتسار الحضارة الأوروبية وردها إلى أحد أجزائها مع ضياع جدل الكل والأجزاء.
- (ب)
نزع هذه الأجزاء خارج بيئتها، مع أنها نشأت كرد فعل على مذاهب أخرى؛ فالماركسية رد فعل على المثالية الألمانية، والوجودية رد فعل على المثالية والوضعية، والمثالية رد فعل على الفلسفة المدرسية في العصر الوسيط، والإنسانية رد فعل على التمركز حول الله في الفلسفة المسيحية، والشخصانية رد فعل على الفلسفات المثالية المطلقة، والوضعية رد فعل على سوء استعمال اللغة في الميتافيزيقا الغربية، والظاهراتية رد فعل على النزعتين الصورية والمادية في الفلسفة الغربية؛ فالأجزاء يفسر بعضها بعضًا.
- (جـ)
قراءة التراث الإسلامي، تراث الأنا، كله من منظور المذهب الغربي الجزئي، وتأويل الكل الأصيل من منظور الجزء الدخيل، مما يطمس خصوصية التراث المقروء. وبالتالي يصبح التراث الغربي هو الإطار المرجعي لكل قراءة لتراث آخر، وجعل المركز هو المقياس، والأطراف هي المقيس، وبالتالي تضيع هُوية الأطراف التي يتم إحالتها باستمرار إلى المركز. وعلم «الاستغراب» إنما يهدف أساسًا إلى تغيير عَلاقة المركز بالأطراف حتى تتعدد المراكز، وتتباين النماذج، حتى يتم الحوار والتبادل بين أنداد.
- (د)
ابتسار الكل، تراث الأنا، ورده إلى جزء مشابه في تراث الآخر حتى يحدث التلقيح والتشابه. فتظهر الحضارة الإسلامية في نزعاتها المادية عند الطبائعيين الأوائل أو في مثاليات الفارابي أو في وجودية أبي حيان التوحيدي أو في إنسانية الصوفية أو في شخصانية القرآن أو في لسانيات علم الأصول.
- (هـ) تكريس مركب النقص عند الأنا في مقابل مركب العظمة عند الآخر تحت وهم أن تجديد الأنا لا يتم إلا في مرآة الآخر، وأنه لا يتم رفع الأنا إلا على مستوى الآخر في أحد جوانبه إذا كان الباحث من المتمثلين لثقافة الآخر. أما إذا كان متمثلًا لثقافة الأنا فإنه يبين أن ما ظهر عند الآخر من فلسفات ومذاهب ومناهج إن هو إلا تطوير لبعض جوانب من تراث الأنا، في التصوف أو الأصول أو الفلسفة أو الكلام أو في العلوم العقلية الخالصة كالرياضيات والطبيعيات، أو حتى في العلوم النقلية مثل علم مصطلح الحديث. أما علم الاستغراب فإنه يقوم بدراسة التراث الغربي على النحو الآتي:
- (١)
لا يُدرس التراث الغربي في ذاته كي ننقل منه علمًا أو معرفة، بل لنأخذ منه موقفًا حتى في العلوم المضبوطة. فقد كان بإمكان الصين أخذ الجانب النظري من البحوث الذرية من حليفتها، ولكنها، حتى في هذا الجانب، آثرت القيام بأبحاثها المستقلة. يمكن اعتبار التراث الغربي من علوم الوسائل، على ما يقول القدماء، لا من علوم الغايات. التراث الغربي جزء من الثقافة العصرية يمكن استعماله كأحد أشكال التعبير كما استخدم الحكماء من قبلُ الفلسفة اليونانية قديمًا كوسيلة للتعبير ولغة للأداة وليس كعلم يُنقل، وذلك إجراء لعملية «تشكل كاذب» جديدة، هذه المرة مع التراث الغربي وليس مع التراث اليوناني.
- (٢)
دراسة التراث الغربي كجزء من تحليل واقعنا المعاصر باعتبار أن التراث الغربي قد أصبح أحد روافد ثقافتنا المعاصرة، بل أثر عند البعض في طرق تفكيرنا وتصوراتنا للعالم، وأن ما نسميه بالاستعمار الثقافي كشعار في الحقيقة موضوع دراسة علمية مستفيضة، خاصة وأن هذا الأثر قد طال وأصبح لا شعوريًّا. وربما يدخل، إن لم يكن قد دخل بالفعل، كجزء من تكوين عقليتنا المعاصرة.
- (٣)
دراسة التراث الغربي كجزء من دراسة تراثنا القديم؛ لأن فكرنا المعاصر ومنذ أكثر من مائة عام نقطة التقاء بين حضارتين، تراثنا القديم الذي يعاد بناؤه من جديد والتراث الغربي الذي هو امتداد للتراث اليوناني القديم كما كانت دراسة الفلسفة اليونانية القديمة جزءًا من دراسة الفكر الإسلامي القديم. وبالتالي استمرار العملية الواحدة التي انقطعنا عنها وجعلناها حلقة واحدة غير متصلة الحلقات عندما نظرنا إلى التراث باعتباره مجرد تاريخ انقضى ولم يعد حيًّا في شعور المعاصرين الفردي والجماعي.
- (٤)
دراسة التراث الغربي كجزء من المساهمة في الدراسات الإنسانية العامة لإفادة الغربيين أنفسهم، والمساهمة معهم في فهم تراثهم كما حاولوا هم في «الاستشراق» دراسة تراثنا وتعريفنا به. وقد نكون أسعد حظًّا في محاولتنا هذه، نظرًا لما يمكن أن نتمتع به من شعور محايد ونظرة متكاملة، نظرًا لانقضاء عصر الاستعمار، وبداية عصر التحرر والمساواة بين الشعوب.
- (١)
(٢) الموقف من الغرب في دراستنا الوطنية
- (أ)
ننزع أنفسنا من بيئتنا الثقافية، إما إحساسًا بالعار أمامها أو خجلًا منها أو جهلًا بها أو تقليدًا للغير أو انبهارًا به أو رغبة في اللَّحاق بركابه.
- (ب)
نزرع أنفسنا في بيئة ثقافية أخرى، ندخل في معاركها ونحن لسنا أطرافًا فيها، وبالتالي نحوِّل أنفسنا إلى وكلاء حضاريين للغرب. هذا مثالي، وذاك واقعي، هذا عقلي وذاك حسي، هذا وجودي وذاك وضعي، هذا تحليلي وذلك بنيوي، هذا ماركسي وذلك برجماتي … إلخ.
- (جـ)
نهرب من الواقع ذاته فلا نرى أوضاعه ولا أزماته، ولا ندخل في تحدياته، نراه من غير ثقافة أصيلة فيه أو كثقافات طائرة فوقه تحل محل الأولى، فيظل بلا حَراك لا يتغير، بعد أن صُفِّي دمه الأصيل ونُقل إليه دم غريب.
- (أ)
إخراج الثقافة الغربية من بيئتها المحلية وظروفها التاريخية، وكأنها مذاهب مطلقة، وثقافة عامة لا أرض لها ولا وطن، وجعل أنفسنا أطرافًا في معاركها.
- (ب)
إعطاء الثقافة الغربية نوعًا من الإطلاق والتعميم ليس لها، ونشرها خارج حدودها، وبالتالي تحقيق مآرب ثقافة المركز باعتبارها ثقافة مهيمنة وموجهة للأطراف.
- (جـ)
محاربة الثقافة المحلية في حالة مقاومتها للثقافة الوافدة، وبالتالي إحداث الصراع بين الوافد والموروث، وشق الثقافة الوطنية، والوقوع في الازدواجية الثقافية.
- (أ)
مظاهر التغريب في حياتنا الثقافية وأساليب الحياة اليومية مما يسبب أزمة هُوية وأصالة.
- (ب)
الاستعمار الثقافي وسطوته واستمراره من خلال سيطرة الغرب على أجهزة الإعلام والترويج لأسطورة الثقافة العالمية، ووقوع عديد من المثقفين ضحية لها.
- (جـ)
رد فعل الحركة الإسلامية العنيف، وعن حق، ضد التغريب حتى عادت بعض احتياجاتها، وخرجت على سنة القدماء في أخذ الحق من حيث أتى حتى ولو كان من الأمم القاصية عنا.
- (د)
بداية النهضة الإسلامية الجديدة، وإقالة الإصلاح من كبوته، مما يعطي تفاؤلًا بإمكانية الاستقلال الحضاري.
- (هـ)
كشف أزمة الغرب، وبأنه ليس بالحضارة التي لا تُقهر، وضياع الرهبة من الآخر، والتحرر من عقدة الخوف منه، وبأنه ليس الأستاذ الأبدي، أزمات في الوعي، وأزمات في الإنتاج.
- (أ)
الإغراق التام في الحضارة الغربية كتعبير عن تقليد الأنا للغير مما يؤدي إلى التجاهل التام لخصوصية الموضوع الوطني وإمكانية العثور على منهج وطني ملائم له. يتم التضحية بالموضوع الوطني في سبيل تطبيق منهج غربي، فالأولوية للمنهج على الموضوع. كما يكشف عن الإحساس بالنقص المنهجي أمام الغرب وعن غياب الوعي المنهجي العام والمستمر من التراث القديم. ويتم الاختيار عشوائيًّا طبقًا للمزاج أو درجة الحداثة للمنهج الغربي، خاصة وأنها متجددة ومتعددة بإيقاع سريع: عقلية، تجريبية، اجتماعية، بنيوية، تحليلية … إلخ. وعلى هذا النحو يكون الغرب المنهجي هو الإطار المرجعي الوحيد لأية دراسة وطنية.
- (ب)
التجاهل التام كرد فعل نفسي انفعالي غاضب من الأنا ضد الآخر مما يصيب الدراسة المحلية ذاتها بالعقم والتحجر والتَّكرار وفقدان الدلالة، والاكتفاء بعلوم الغايات دون علوم الوسائل. وبالتالي يبقى التراث القديم كما هو بلغته وتصوراته وواقعه منعزلًا تمامًا عن الواقع الحالي الذي يتطلب لغة جديدة ومفاهيم جديدة نظرًا لتغير متطلبات الواقع الجديد. فيدفع ذلك العلمانيين إلى مزيد من الإغراق في علوم الوسائل دون علوم الغايات. ويظل الفعل ورد الفعل يغذي بعضهما بعضًا في جدل دائري للنفي والإثبات.
- (جـ) محاولة التوفيق بين الإطار المحلي والإطار الغربي عن طريق المنهج المقارن والتعامل بين ثقافتين «عربي بين ثقافتين». وقد يحدث ذلك بطرق عدة؛ أولًا: بيان أسبقية الموضوع المحلي على الحضارة الغربية في الاكتشافات العلمية الإنسانية أو الطبيعية مما يرضي غرور الأنا أو يعوضها عن الإحساس بالنقص أمام الآخر. ثانيًا: بيان أوجه التشابه بين حضارة الأنا وحضارة الآخر كمعلومات عامة غير موجهة مما يرضي فقط رغبة الباحث في إظهار أنه ذو حضارتين، وصاحب ثقافتين، ويعرف لغتين. وفي كلتا الحالتين تحدث نتيجتان:
- (١)
الإيحاء بأن التطوير لا يتم إلا من الخارج، وأن رؤية دلالات الموضوعات الوطنية لا تتم إلا باستعارة أدوات تحليلية من الآخر وكأن الموضوع نفسه مصمت، مجرد شيء، مع أن الموضوعات الوطنية النابعة من التراث هي مناهج، وأن التراث كله إنما أتى من مصدر منهجي ليؤسس علومًا منهجية.
- (٢)
الاعتراف بالعجز المنهجي للثقافة الوطنية عن أن تبدع أدوات تحليل ملائمة قادرة على تطوير الموضوعات الوطنية، وأنها مجرد تابع لمناهج الآخرين، ثقافة عمياء في حاجة إلى مبصرين، وبالتالي تأكيد غياب المنهج في رسائلنا الجامعية وفي حياتنا اليومية وفي إدارتنا لشئون البلاد.
- (١)
إن أقصى ما استطعنا في عَلاقتنا بالتراث الغربي هو «الاستغراب المعكوس» أي تبني مذهب غربي مسبق بناء على المزاج أو الاختيار الأيديولوجي والوعي السياسي ثم محاولة قراءة الأنا خلاله مثل المثالية الغربية، الشخصانية، الظاهراتية، الماركسية، الوضعية، الوجودية، البنيوية، العلمية. وهي مقاييس فردية للاختيار أو اجتهادات جزئية وليست موقفًا حضاريًّا كليًّا شاملًا. تنتهي إلى تضارب بينها، كل منها يكفر الآخر، فوقعنا في تاريخ جديد للفرق بالإضافة إلى تاريخ الفرق الكلامية القديمة، كلٌّ منها يدَّعي أنه الفرقة الناجية. وتنتهي جميعها بتكافؤ الأدلة، إذ تتساوى جميعًا في شرعية الاختيار وشرعية رد الكل إلى الجزء.
(٣) علم «الاستغراب» في مؤلفاتنا السابقة
وتمثل ترجماتنا الأربعة:
- (أ)
القضاء على الازدواجية بين المورث والوافد من أجل خلق وحدة ثقافية وطنية، ووحدة شخصية قومية ليدرك القراء أن الثقافة واحدة إذا ما تشابهت الظروف في مجتمعين مختلفين.
- (ب)
تحديث الموروث تلقائيًّا وطبيعيًّا من خلال الإبقاء على المضمون والرُّوح مع تغيير الشكل والحرف، وكما فعل القدماء بتحديث موروثهم الجديد من خلال ثقافة اليونان الجديدة.
- (جـ)
ضياع رهبة الجديد وعدم الإحساس بالنقص أمامه والتعامل معه تعامل الند للند، بل ونقده، وبيان أوجه توجهه ثم إكماله. فقد كان الحكماء القدماء أرسطيين أكثر من أرسطو. وقد تم الإعلان عن بداية الوعي الأوروبي في «الأنا أفكر» (ديكارت) ونهايته في «الأنا موجود» (هُوسِرل) وانحسار التطور بين البداية والنهاية في «تعالي الأنا موجود».
- (د)
عدم تعود العصر على أمثال هذه الدراسات، إعمال العقل في النص وفي الواقع، جعَل تقديم اجتهادات الآخرين مرحلة تمهيدية قبل الدراسة المباشرة كما فعل المترجمون القدماء قبل الشراح حتى تتعود البيئة على أمثال هذه الدراسات بلسان الغير، وما الأنا إلا مجرد عارض لبضاعة ليس هو منتجها.
ويصدر الآن هذا البيان النظري عن الجبهة الثانية «موقفنا من التراث الغربي» بعد أن ازداد مشروع «التراث والتجديد» إحكامًا، خاصة بعد إصدار الجزء الأول من الجبهة الأولى أعني «من العقيدة إلى الثورة» ومعرفة بعض العيوب، إما في منهج التحليل أو في طريقة التعبير أو في أسلوب الإخراج. كما ازددت وعيًا بالاعتراضات إثر المناقشات المستمرة منذ إخراج البيان النظري الأول، والعديد من المراجعات النقدية له. وقد أكون ازددت نضجًا، على الرغم من أنه في هذه السن تكون الاختيارات قد تمت من قبل، ويكون هامش التغيير محدودًا للغاية، وفي الشكل أكثر منه في المضمون.
سادسًا: شبهات واعتراضات
(١) شبهات ومخاوف
- (أ) تمثل هذه الجبهة الثانية «موقفنا من التراث الغربي» خطوة إلى الوراء عن الجبهة الأولى «موقفنا من التراث القديم». فإذا كانت الجبهة الأولى تحاول قراءة الماضي من منظور الحاضر، وعلى فرض نجاحه في ذلك ولم يقع في قراءة الحاضر من منظور الماضي، فإن الجبهة الثانية تمثل خطوة إلى الوراء ورفضًا للآخر وتحجيمًا له. إذا كانت الجبهة الأولى تمثل الخروج من الأنا الماضي إلى الحاضر فإن الجبهة الثانية تمثل الخروج من الحاضر والعودة إلى الأنا. إذا كانت الجبهة الأولى خروجًا من التراث إلى التجديد فإن الجبهة الثانية عود من التجديد إلى التراث. إذا كانت الجبهة الأولى قراءة الأنا من منظور الآخر فإن الجبهة الثانية قراءة الآخر من منظور الأنا. إذا كانت الجبهة الأولى دعوة إلى المعاصرة فإن الجبهة الثانية دعوة إلى الأصالة. فالجبهتان إذن تمثلان خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف «محلك سر». والمشروع يثبت شيئًا ثم ينفيه بعد ذلك، يشتمل في جوهره على تناقص في الموقف. فلماذا لا نختار بين «إما … أو» بمنطق التبادل وليس بمنطق الإلغاء؟٩٤
والحقيقة أنه لا يوجد أي تراجع عن مواقف سابقة، خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف، بل هناك موقفان متمايزان:
الأول: دعوة إلى المعاصرة وقراءة الماضي من خلال متطلبات الحاضر، وهو ما يتفق مع أهداف التقدميين، خاصة العلمانيين منهم. والثاني: دعوة إلى الأصالة، وكشف قدرات الذات على الإبداع، ورد الآخر إلى حدوده الطبيعية للتحرر من غزوه الثقافي والقضاء على تقليده. وهو أقرب إلى النظرة العلمية التي ترى كل حضارة داخل إطارها، نشأت في ظروفها تلبية لحاجاتها، وهو ما يتفق مع موقف الإسلاميين دعاة الهُوية والعودة إلى الذات في مواجهة غزو الآخر. هما خطوتان متمايزتان في جبهتين متمايزتين. فالتقدم ليس أحادي الطرف أو الاتجاه. في مرحلة الانغلاق الحضاري يكون الانفتاح الثقافي تقدمًا. وفي مرحلة الانفتاح الثقافي إلى درجة التقليد والتبعية تمثل العودة إلى الذات والدفاع عن الهُوية تقدمًا. فلا يوجد تقدم مستمر في خط واحد إلا من منظور مذهبي أيديولوجي وليس على أساس علمي عقلاني. وهناك فرق بين العودة إلى الذات وأخذ موقف من الآخر وبين الرفض الانفعالي للآخر واتهام كل واحد بأنه مستورِد يجب رفضه. هذا هو الموقف الرجعي لأنه يرفض الوافد عن غير علم، بل من مجرد عبارات متناثرةٍ القصدُ منها تشويه الوافد لحصاره واستبعاده وسط جماهير أكثر جهلًا من نخبتها ووسط شعوب محاصرة من قادتها. والهدف من محاصرة الوافد هو الدفاع عن الوضع القائم نظرًا لما يتضمنه هذا الوافد من إمكانية تنوير الأذهان وتثوير الواقع. كما أن الذات التي يتم المطالبة بالعودة إليها هي الذات المتحجرة في التاريخ، وتراث السلطة الذي مثلته ورعته بعد أن أفرزته وزينته فرقة السلطان، والذي تستعمله الأنظمة الحاليَّة كوسيلة لتدعيم النظام باسم الشرعية، وكسلاح أيديولوجي ضد الخصوم السياسيين. لا تعني إذن الدعوة إلى تحجيم الغرب ورده إلى حدوده الطبيعية والقضاء على أسطورة الثقافة العالمية وبيان محلية ثقافته مثل أية ثقافة أخرى، أيَّ دعوة إلى الانغلاق أو العودة إلى جنون الذات أو رفض التعرف على الغير، بل تعني أن فترة التعلم قد طالت وأن فترة الإبداع قد تأخرت، وأنه قد آن الأوان للانتقال من النقل إلى الإبداع.٩٥ - (ب) وكثيرًا ما تُستعمل حجة إحراجية يصعب الرد عليها، وإلا اتُّهم الرافض لها بأنه ضد العصر الحديث رافضًا بديهياته وواقعه، وهي أن رفض الغرب يقتضي بالضرورة رفض العلم والتكنولوجيا والمخترعات الحديثة التي يستعملها الإنسان كل يوم حتى في أبسط الأشياء، الأجهزة الكهربائية والإلكترونية، ووسائل المواصلات والاتصالات … إلخ، مع أن هذه المخترعات الحديثة قد أصبحت من مكتسبات العصر. كيف إذن يمكن تركها أو رفضها أو حتى التشكك فيها أو النيل منها أو السؤال عنها والعودة إلى الصحراء وعصر الجِمال وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً (١٦: ٨)؟
والحقيقة أن مثل هذه الحجة إنما تكشف عن بنية شعور قائلها مثل أخذ القشور والمظاهر وترك الأسس والتصورات. فالتكنولوجيا إنما تقوم على أسس نظرية وتصورات للعالم تأتي معها حين نقلها، متضمنة غير صريحة، الهدف من نقلها أعمق من مجرد تيسير الخدمات، وتسهيل شئون الدنيا. كما تقوم الحجة على الانبهار بالغرب وبمخترعاته الحديثة وفهم الحياة على أنها مجرد تمتع بوسائل الرفاهية. ويتمثل الإحراج في كون الجمهور مع الحجة، وأن الرافض لها سيقابل بمعارضة الجمهور الذي لا يستطيع الاستغناء عن الراديو والتليفزيون والسينما وأجهزة التسجيل وأشرطة الكاسيت. كما لا تستطيع النخبة الاستغناء عن الطائرات والتليفونات والحاسبات الآلية. وما أسرع اتهام الرافض لها بالرجعية ورفض مظاهر الحداثة والدفاع في النهاية أضعف من الهجوم.
وهذه الحجة ضعيفة للغاية لأن تحديث المجتمعات لا يتم عن طريق نقل التكنولوجيا، ولكن عن طريق إعادة بناء الموروث الثقافي بحيث يكون قادرًا على إعطاء تصور علمي للعالم وموجهات دوافع السلوك الوطني. كما أن التكنولوجيا الغربية ذاتها ليست اختراعًا غربيًّا صرفًا، ولكنها نتيجة تراكم تاريخي طويل لتطور العلوم عبر مسار طويل من الشرق القديم، الصين والهند وفارس ومصر القديمة وبابل وآشور حتى اليونان والرومان بالإضافة إلى إبداعات المسلمين، ثم انتقال ذلك كله إلى أوروبا في العصر الوسيط قبل إبداعات العصور الحديثة. فكل حضارة قديمة أو حديثة قد ساهمت في العلم والتكنولوجيا الحديثة عبر العصور. وقد يكون الهدف من التمييز بين العلم وتاريخ العلم وجعل تاريخ العلم خارجًا عن العلم هو إخفاء هذه المصادر القديمة لتركيز أسطورة الخَلق العبقري الأوروبي الذي على غير منوال سابق. كما أن التكنولوجيا التي ارتبطت في الشرق بالدين والسياسة والأخلاق أصبحت في الغرب عالمًا مستقلًّا بذاته، وتكشف عن موقف من العالم يقوم على أن الطبيعة مادة وليست مجرد خَلق أو جمال أو ميدان للفعل، وأن المادة مصطنعة وليست طبيعية، فكل شيء قابل للصنعة، وأن الاصطناع يؤدي إلى منفعة عاجلة، وأن هذه المنفعة منفصلة عن القيمة، والقيم متغيرة، وأنه يمكن بواسطتها السيطرة على الآخرين، وأنها موضوع للاحتكار حتى لا تعم المنفعة على كل الناس، وتظل الصناعة في أيدي مخترعي التكنولوجيا لتصدير المنتجات الصناعية دون التكنولوجيا، وأنها موضوع تجارة وربح أو استيلاء وسرقة، بدليل الحروب العلنية والخفية بين مراكز التكنولوجيا في العالم شرقًا وغربًا، أو بين مراكز الغرب نفسه، وأنه يمكن استغلالها للزيف والبهتان وترويج الكذب والشائعات والسيطرة على إذهان الناس كما يحدث في أجهزة الإعلام والاتصال، وأنها تحتوي على عناصر التدمير في ذاتها، بدليل آلات الحرب الجهنمية والقنابل الذرية، وأنها من مظاهر القوة والغلبة والعظمة والتفوق، بدليل ما يحدث الآن في الغرب الحديث وفي اليابان، ما بعد الحرب. فالتكنولوجيا ليست بهذا الرونق الذي تُروَّج به خارج مراكزها إلى الأطراف.
- (جـ)
فإن قيل: علم «الاستغراب» هو أقرب إلى الأيديولوجيا منه إلى العلم، وإلى العاطفة منه إلى العقل، وإلى الحماس منه إلى التحليل العلمي الرصين، وإلى الخطاب السياسي منه إلى التحليل الاجتماعي والوصف التاريخي، يعبر عن أزمة المهزوم تجاه المنتصر، ورغبة العبد في التحرر من السيد، مجرد صرخة في وادٍ لا ترجع إلا الصدى.
والحقيقة أن علم «الاستغراب» يحاول أن ينقل الخطابة السياسية التي تعود عليها جيلنا إلى مستوى الخطاب العلمي الرصين. فما حاولناه منذ فجر النهضة العربية الإسلامية الحديثة، وما قامت باسمه حركات التحرر الوطني في جلينا، وما روَّج له قادتنا السياسيون باسم «فلسفة الثورة»، «الكتاب الأخضر»، «الوجدانية»، «الزنجية»، «المعذبون في الأرض»، «مقال في الاستعمار»، «أوجاما» … إلخ، هو الذي يحاول علم «الاستغراب» صياغة دقيقة له، مع الاعتراف كلية بأن علم «الاستغراب» ليس فقط علمًا نظريًّا، بل هو ممارسة عملية لجدل الأنا والآخر، تحرر الأنا ثقافيًّا وحضاريًّا وعلميًّا من هيمنة الآخر. وما دام الأمر يتعلق بعملية تحرر فإن الصوت قد يعلو وربما لدرجة الصراخ. فأرجو عدم عيب حماسي للأنا وبدايته، وإعلاني نهاية الآخر؛ فأنا مستعمَر منذ أمد طويل، ومهزوم مرات عدَّةً في جيلي. ظاهرة الوعي الأوروبي ظاهرة علمية وليست موقفًا خطابيًّا دينيًّا سياسيًّا. وعلم «الاستغراب» ليس تحريضًا للأنا ضد الآخر، ليس شجارًا، ولو أن ذلك وارد أيضًا. فقد كانت الفلسفة باستمرار تعبيرًا عن أزمات حضارية، رغبة في السيطرة والاحتواء أو في التحرر والفِكاك. وإذا استمر السؤال: هل علم «الاستغراب» أيديولوجيا أم علم؟ تكون الإجابة أن هذه التفرقة في الحقيقة لا وجود لها فالأيديولوجيا علم لأنها تقوم على تحليل الواقع بأكبر قدر ممكن من الحياد والموضوعية، والعلم الدقيق أيديولوجيا لأنه ضد الأحكام المسبقة والمواقف الانفعالية. علم «الاستغراب» علم لأنه يقوم على دراسة الوعي الأوروبي من شعور محايد، وبالتالي يكون البعد المكاني والزماني بين الذات والموضوع متوافرًا. أما الشعور المنتمي، أي دراسة الوعي الأوروبي من الباحث الأوروبي نفسه، فإن هذه المسافة الضرورية للرؤية تغيب كلية، وتلتصق الذات بالموضوع فلا ترى شيئًا، ولا تظهر إلا التحيزات والمواقف ووجهات النظر لأن الذات جزء من الموضوع وطرف فيه. وهنا تبدو التجرِبة المعيشة عاملًا سلبيًّا أكثر منها عاملًا إيجابيًّا على عكس الشعور المحايد الذي تكون معايشته للغرب عاملًا إيجابيًّا أكثر منها عاملًا سلبيًّا لأنه ليس طرفًا. قد تظهر الأيديولوجيا في الرغبة في التحرر من الهيمنة الثقافية للآخر على الأنا، ولكن هذه الرغبة في التحرر في الحقيقة ليست أيديولوجية ولا علمًا، بل هو الوجود ذاته الذي يوجد نفسه على نحو طبيعي حر، وهو أساس العلم والأيديولوجيا. فالتحرر علم الحركة كما أن الأيديولوجيا نظرية في التحرر.
- (د) وقد يقال إن «علم الاستغراب» هو مجرد أمنيات الشعوب المتحررة حديثًا من أجل اللَّحاق بركب الحضارة دفاعًا عن الهُوية، وكرد فعل على مرحلة الاستعمار، وكنوع من إيجاد دور لها في التاريخ عن طريق إزاحة مستعمر الأمس، طبقًا لجدل السيد والعبد. إنه مجرد أحلام مضطهد مثل «رؤيا يوحنا» التي يتصور فيها يوحنا أن الخلاص من الاضطهاد الروماني أصبح قريبًا، وأن ملكوت السماوات قريب، وأن المسيح ابن مريم سيقتل في النهاية المسيح الدجال. والجواب: وما المانع في أن يكون ذلك صحيحًا؟ لطالما كان التحرر شوقًا عند القادة والجماهير ولم يمنع ذلك من التحرر بالفعل، وطالما كان إيمان الناس حلمًا عند الأنبياء ولم يمنع ذلك من إيمان الناس بالفعل. لقد نشأت العلوم الأوروبية من هذه الأحلام؛ «حلم راءٍ …» لكانط، وليلة ١٠ نوفمبر ١٦١٩م عند ديكارت، «والعلم الجديد» عند فيكو … إلخ. قد يقال إنه مجرد أمل يراود الشعوب المتحررة حديثًا ولكن شتان ما بين الأمل الحلو والواقع المرير. والحقيقة أيضًا أنه لا ييأس من رَوح الله أحد إلا الذي ضعفت ثقته بنفسه، ولم تتضح رؤيته لإمكانياته، ولم يسبر قوانين التاريخ. قد يقال إنه تفاؤلٌ مغرِق أو رؤًى مشرقة لمستقبل يخبئ مزيدًا من أزمات الطاقة والغذاء، والديون، والإسكان، والثورات المجهضة والأحلام الضائعة. ومع ذلك، فالناظر في إنجازات هذا الجيل: التحرر الوطني، بناء الدولة المستقلة، التصنيع، التعليم، الاشتراكية … إلخ، يرى إمكانية تكوين وعي عالمي جديد، ويكون تفاؤله قائمًا على أساس. لقد عُرفنا بالخيال الأدبي والخيال الديني وبقي لجيلنا أن يحوِّله إلى الخيال السياسي والاجتماعي والتاريخي.٩٦
- (هـ)
فإن قيل: سيظل «علم الاستغراب» في هذا البيان النظري الثاني علمًا اجتهاديًّا خالصًا أقرب إلى إعلان النوايا والفروض منه إلى تحقيقه. هو مجرد بيان نظري، يوحي أكثر مما يبرهن، ويفترض أكثر مما يثبت. والحقيقة أن هذا البيان النظري مجرد برنامج عمل لفريق من الباحثين. إنه ميدان للدراسة يقوم به الباحثون الوطنيون وليس موضوعًا يقوم به فرد واحد. إنه مجرد دليل للفكر الفلسفي الأوروبي، مجرد سجل لأبحاث طلاب الدراسات العليا، دليل للطالب وللرسائل العلمية المقترحة في خطة قومية عامة. لذلك كثرت أسماء الأعلام والتواريخ من أجل الإرشاد والتوجيه. هدف هذا البيان عملي لتوجيه طلاب الدراسات العليا وتخطيط الأبحاث والرسائل العلمية ي نظرة شاملة للتراث الغربي. كما أنه يساعد على انتظام حبات العِقد في خيط واحد للكشف عن مسار الوعي الأوروبي، تكوينه وبنائه. فما زال اختيارنا للرسائل عشوائيًّا، تتناثر أسماء الأعلام طائرةً فوق الواقع طبقًا لظروف الأساتذة المشرفين وإمكانيات الطلاب وتوافر المادة العلمية. كما يساعد هذا البيان على اكتشاف الوعي الأوروبي باعتباره وعيًا «تاريخانيًّا» له مسار في التاريخ وليس خارج التاريخ. كما أنه بحث في الوعي التاريخي للأنا في عَلاقاتها بالآخر. وإن اكتشاف تاريخانية الآخر لهو مقدمة لتحرر الأنا ووضعها في مسارها الطبيعي في التاريخ بعد أن كانت ملحقًا للآخر وأحدَ مَصابِّه. وأخيرًا يهدف هذا البيان النظري إلى التحرر من الخوف، خوف الأنا من الآخر، بعد اكتشاف حدوده وإثبات محدوديته. وبالتالي فإنه لا يرعب أحدًا، لا بإبداع عبقري ولا بسيطرة دائمة. وبالتالي يمكن للأنا أن تكتشف قدراتها في السيطرة عليه وأن تتعامل معه من منطق القوة وليس من منطق الضعف، من فوقه وليس من تحته. إن المحاولة قد تخطئ وتصيب من حيث النتائج الجزئية، هنا أو هناك، ولكن مجرد المحاولة أحد عوامل التحرر بعد أن تكتسب الأنا مهارات متتالية في التعامل مع الآخر حتى تكون في محاولاتها التالية أكثر توفيقًا وسدادًا. وإن مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة.
(٢) اعتراضات وردود
- (أ)
إن هذا الموقف التراجعي بالنسبة للغرب إنما يتم عن جهل به أو على أكثر تقدير عن قلة دراسة. إنه أخذ بالشبهات، واقتصار على العموميات، واعتماد على الملخصات، بل وترديد للشائعات، وإذاعة للمشهورات. وكل ذلك خارج نطاق اليقين العلمي والبحث الرصين.
والحقيقة أن هذا الاعتراض يقل إلى حده الأدنى. فقد أوتي لقلة من الباحثين التعرف على الحضارتين معًا، حضارة الأنا وحضارة الآخر. هم أصحاب الصناعتين، المتوغلون في التأله والبحث بتعبير السُّهْرَوَردي المقتول، والذين أتيحت لهم في نفس الوقت الدراسة في الغرب والتعرف على التراث القديم. وهكذا كان حكماؤنا القدماء عندما كانوا أصحاب ثقافتين: الثقافة الإسلامية الموروثة خاصة من علم أصول الدين، والثقافة الفلسفية الوافدة خاصة من اليونان. ولا يمكن اتهام هؤلاء بالجهل بتراث الآخر، اليونان سابقًا، والغرب حاليًّا. فنحن ما زلنا نعيش، وكما عاش غيرنا، على شرح القدماء لليونان، وما زال الآخر يعتز بقدرتنا على شرح تراثه وفلسفته.٩٧ وتكشف تهمة الجهل عن مزايدة في العلم وادعاءٍ بمعرفة التراث الغربي بكثرة الجمع منه والنهل من مصادره. وتلك مباراة لا نهاية لها. فمن حيث الكم فوق كل ذي علم عليم، خاصة في حضارة متشعبة الجوانب، غزيرة الإنتاج. وهي حجة في النهاية ضد الشخص Argumentum ad Hominem وليست ضد الموضوع. فإن قيل: فلْنسلِّم بأنه يمكن أخذ موقف بالنسبة للتراث الغربي ككلٍّ وكتعبير عن عملية حضارية طبيعية تأخرت حتى الآن وآن لها الظهور. ولكن هل يمكن لمفكر واحد أن يستوعبه كله وقد استغرق أكثر من خمسة قرون؟ والحقيقة أن المفكرين الأوروبيين المعاصرين قد أخذوا موضوع الحضارة الأوروبية كلها كوحدة واحدة، وكجزء من فلسفة الحضارة أو فلسفة التاريخ أو كتحليل لرُوح العصر. وتحدثوا عن التراث الغربي، والحضارة الأوروبية، والعلوم الأوروبية. سياسيًّا واقتصاديًّا وتاريخيًّا يمكن الحديث عن الوحدة الأوروبية، البرلمان الأوروبي، التاريخ الأوروبي، السوق الأوروبية المشتركة، وما أكثر المنظمات التي تأخذ صفة الأوروبية، باعتبارها وحدة واحدة تكوِّن موضوعًا واحدًا للدراسة. فقد حاول هُوسِرل مثلًا دراسة الشعور الأوروبي، بداية وتطورًا ونهاية. كما حاول برجسون ونيتشه واشبنجلر وشيلر نفس الشيء. يمكن إذن دراسة التراث الغربي كوحدة واحدة وكموضوع متجانس، خاصة وأنه يكشف عن بناء واحد للشعور الأوروبي. ويمكن عن طريق فلسفة الحضارة أو فينومينولوجيا التاريخ التعرف على بناء الشعور الأوروبي وتطوره كموضوع فلسفي واحد. وقد درس سولوفييف soloviev (١٨٥٣–١٩٠٠م) في رسالته للدكتوراه «أزمة الفلسفة الغربية» ولم يتجاوز بعدُ سنَّ الواحد وعشرين عامًا، ولم يقل له أحد شيئًا، ولم يعترض عليه أحد بصغر سنه وعِظم موضوعه.٩٨ وقد تعودنا في رسائلنا الجامعية أن نرضى بأقل القليل بدعوى الدقة العلمية والتدقيق في الاختيار، وكان ذلك على حساب الذات، والتراجع عن أخذ المواقف بدعوى صغر السن ونقص الثقافة، وانتمائنا إلى حضارة آخذة وليست معطية أو إلى بيئة ناقلة وليست مبدعة. فلا نحن حرصنا على الدقة ولا نحن كوَّنَّا لنا رؤية. والمعروف عنا أيضًا أننا كثيرًا ما ننسى الأساسيات، ونلجأ إلى الفرعيات فيما يعرض لنا من مشاكل حاسمة، سواء فيما يتعلق بالعلم والثقافة أو بمشاكل الحياة اليومية.٩٩ - (ب)
هل يمكن تناول التراث الغربي ككل؟ التراث الغربي كلمة عامة وشاملة، تشمل العلم والدين والفلسفة، ويشمل العلم الطبيعي والرياضي والإنساني. الرياضي والطبيعي لا يختلف عليه اثنان. ومن العلم الإنساني هناك علوم النفس والاقتصاد والاجتماع والتاريخ والسياسة والقانون والجمال. وفي كل علم عديد من التيارات والمذاهب، فأيها نقصد؟ ومن الدين هناك أنماط عديدة من الفكر الديني، فأيها نعني؟ ومن الفلسفة هناك مذاهب كثيرة متعارضة لا توضع في بوتقة واحدة، ولا يمكن إصدار حكم واحد عليها أو أخذ موقف موحد منها، فأيها نريد؟ التراث الغربي كلمة شاملة لا تعني شيئًا محددًا فكيف يكون لنا موقف منه؟
والحقيقة أن الموقف يتم دائمًا بالنسبة للكل. وهي عملية حضارية تمت من قبل في تراثنا القديم بالنسبة للتراث اليوناني وليست عملًا علميًّا بالمعنى الدقيق إلا إذا اعتبرنا التقاء الحضارات موضوعًا علميًّا يدخل في فلسفة التاريخ أو في فلسفة الحضارة أو في علم الاجتماع الحضاري أو في علم اجتماع المعرفة … إلخ. ففي كل لحظة تتقابل فيها حضارتان، حضارة موروثة ناشئة كما هو الحال في حضارتنا القديمة، وحضارة وافدة غازية كما كان الحال بالنسبة للحضارة اليونانية بعد عصر الترجمة، يحدث بسرعة فائقة أن تأخذ الحضارة الناشئة موقفًا بالنسبة للحضارة الغازية، ويقع الجدل بين القديم والجديد، وتنشأ ظواهر حضارية عديدة يمكن تتبعها في تراثنا القديم أو لدى كل الحضارات في طور النشوء والالتقاء بحضارات أخرى عتيدة. وهو ما سميناه من قبل وفصَّلناه باسم «التشكل الكاذب» عندما تأخذ الحضارة الناشئة لغة الحضارة القديمة دون مضمونها، وذلك للتعبير بها عن مضمونها الخاص الذي لا تفقده. فالثعبان عندما يكبر يسقط جلده القديم ويتخذ جلدًا جديدًا وإلا تقوقع وتناقص وانقرض.١٠٠ قد يختلف الموقف بالنسبة للعلم عنه بالنسبة للفلسفة أو الدين. ولكن بالرغم من هذا الاختلاف النوعي في المواقف (مثلًا رفض حضارتنا القديمة الأدب اليوناني وقبولها الفلسفة، ورفضها ميتافيزيقا أرسطو وقبولها منطقه، ورفضها مُثُل أفلاطون وقبولها جمهوريته) فإن هناك موقفًا أعم أخذه الفلاسفة ويتضح في فلسفتهم التي أنشَئُوها في مقابل الفلسفة اليونانية وفي التراث الفلسفي الذي خلفوه وراءهم. صحيح أن المفكرين القدماء ترجموا ولكن الترجمة لم تستغرق أكثر من قرن من الزمان (القرن الثاني) ثم بدأ التأليف، أي أخذ المواقف ابتداءً من القرن الثالث عند الكندي. وصحيح أيضًا أنهم شرحوا ولخصوا وفسروا ولكن الشروح والتلخيصات والتفسيرات لم تكن إلا إعادة بناء الفكر واحتواءً له وإضافةَ ما نقص منه أو حذفَ ما هو زائد عنه أو مرتبط أشد الارتباط ببيئته الخاصة كما هو الحال في شروح ابن رشد على أرسطو، ولكنهم أنتجوا وألَّفوا، أي أنهم خلَّفوا لنا تراثًا في مواجهة التراث المنقول. أما فيما يتعلق بالتراث العلمي فإنهم نقلوا ثم جربوا على الطبيعة وقاموا بأبحاث مستقلة، وأضافوا على المادة القديمة مادة جديدة. كانوا نقَلةً أولًا ثم علماءَ ثانيًا. يمكننا إذن أخذ موقف بالنسبة للتراث الغربي ككل أو بالنسبة لبعض جوانبه. تلك عملية حضارية طبيعية تكشف الحضارة فيها عن أصالتها وصلابتها. وقد آن لها أن تتم الآن بعد أن تشبعت بيئتنا الثقافية المعاصرة بالعرض والتحليل، بالشرح والتفسير.١٠١ومع ذلك، فالوعي الحضاري بالنسبة لنا هو الوعي الفلسفي. فالفلسفة أم العلوم. الوعي الأوروبي بالنسبة لنا فلسفي خالص، ليس السياسي أو الاقتصادي، وذلك مثل مفهوم التراث عندي، ديني حضاري خالص. الوعي الفلسفي هو أساس الوعي السياسي والاقتصادي والاجتماعي. فالوعي الأوروبي لديَّ يشير إلى منطقة الوعي الخالص الذي يحمل التصورات للعالم. وهو أساسًا الوعي الفلسفي أو الوعي النظري. الوعي الحضاري بهذا المعنى سابق على الوعي بسائر العلوم الإنسانية أو الطبيعية. وهو يشابه مفهوم التراث في الجبهة الأولى وكيف أنه يغلب عليه مفهوم التراث الديني قبل التراث الأوروبي والعلمي. ومع ذلك فالمجال مفتوح لمزيد من الدراسات التطبيقية على باقي العلوم الأخرى الإنسانية أو الطبيعية للانتهاء إلى نفس النتيجة، سواء بالنسبة إلى مصادر الوعي الأوروبي أو بالنسبة لتكوينه وبنيته. ويتم ذلك بناءً على تخصص دقيق. ولما كنت متخصصًا في الفلسفة فإني أدرس ظاهرة الوعي الأوروبي باعتباره ظاهرة فلسفية شكلًا ومضمونًا. وليأتِ متخصصون آخرون في فروع المعرفة الإنسانية الأخرى للقيام بنفس المهمة ابتداءً من تخصصات أخرى.
- (جـ)
إن التراث الغربي ليس كلًّا واحدًا بل هو تراث متعدد الجوانب والاتجاهات، أفرزته طبقات متعارضة المصالح وقوًى متصارعة الاتجاهات. هناك تراث الغرب الرأسمالي، وتراث الغرب الاشتراكي. هناك تراث الغرب المسيطر القاهر المهيمن وهناك تراث الغرب المقهور المسيطَر والمهيمَن عليه. لذلك لا يمكن وضع التراث الغربي كله في سلة واحدة، ولا بد من التمايز بين تراث وتراث. كيف يُنظر إلى هذا التراث المتنوع على أنه كل واحد؟
والحقيقة أن هذا الاعتراض له ما يبرره. فهناك نماذج عديدة من التراث أفرزتها قوًى اجتماعية مختلفة، وطبقات اجتماعية متصارعة، وقوًى سياسية متباينة. فكل تراث يعبر عن وضع اجتماعي ومصالح معينة. ومع ذلك هناك سمات عامة مشتركة تتخلل كل هذا النتاج التراثي بالرغم من تعدده، لا فرق في ذلك بين تراث الغرب الرأسمالي وتراث الغرب الاشتراكي، فكلاهما تراث سيطرة وهيمنة، بين تراث الطبقة المسيطرة وتراث الطبقة المسيطَر عليها، فكلاهما تراث عنصري. وهي السمات المشتركة التي توجد في أعماق اللاوعي الأوروبي الحضاري بل وفي وحدة شعور الأوروبي الذي يُكشف عنه بعد ذلك في مظاهره المتعددة على مستوى الوعي الأوروبي. والتحدي العلمي هو القدرة على التعميم وعلى إصدار أحكام عامة لا تنقصها الجزئيات. وإذا كان موضوع الوعي الأوروبي قد أصبح موضوعًا علميًّا في الفلسفة المعاصرة، وصدرت عليه أحكام علمية من قبلُ من الفلاسفة أنفسهم، وأصبحت موضوعًا للنقاش وللحوار الفلسفي، وأصبحت أحكامًا علمية أو كادت، أو على أقل تقدير افتراضات علمية يمكن التحقق من صدقها فيما بعدُ بمزيد من الشواهد العلمية، فلا غرو أن يصبح الوعي الأوروبي موضوعًا للدراسة يتم الاجتهاد فيها، وتصدر عليه أحكام علمية قدر الإمكان. ويكون التحدي هو كيف يمكن احتواء الشواهد المعارضة، والحجج المناقضة، والأحكام المضادة؟
- (د)
فإن قيل: ومع ذلك، فإن مفهوم «الوعي الأوروبي» مفهوم مثالي لا يقبله الجميع، ولا تسلم به كل التيارات الفكرية، مجرد افتراض بالرغم من تناول الفلاسفة المعاصرين له. ومع ذلك يمكن القول بأن كثرة ترداده في الفلسفة الأوروبية المعاصرة تبين أن له رصيدًا شعوريًّا أو مخزونًا نفسيًّا في الوعي الأوروبي ذاته (هُوسِرل، برجسون، شيلر، أورتيجا). كما أن ظهوره كموضوع معاصر يدل على أن الوعي الأوروبي قد حوَّل نفسه من ذات إلى موضوع، وتموضُع الذات دليل على وجودها كشيء يمكن ملاحظته من ذات أخرى تصدر الأحكام عليه. كما أن له رصيدًا تاريخيًّا طويلًا منذ «تاريخ العقل الخالص» في نهاية «نقد العقل الخالص» لكانط، وفي «ظاهريات الرُّوح» عند هيجل، وفي فلسفات التاريخ عند هردر، وفيكو، وتورجو، وكوندرسيه، وكورنو، وكومت، وماركس، واشبنجلر، وتوينبي، وبروديل. والمثالية ليست اتهامًا إلا في الوضعية الاجتماعية في القرن التاسع عشر وبقاياها في الوضعية المنطقية في القرن العشرين. بل إن المثالية أقرب إلى الواقعية من الواقعية الحسية الساذجة. المثال واقع، والواقع مثال.
إن «علم الاستغراب» ليس تاريخ وقائع بل وصف ماهيات. إذ لا يمكن لفرد واحد أن يصف تاريخ أوروبا الحديث. إنما الهدف منه بيان وحدة الوعي الأوروبي الذي صاغ وحدة المشروع الأوروبي مع توخي الوضوح والسهولة والدقة في التعبير حتى يسهل الفهم، وتصل الرسالة. يُقدم عموميات أقرب إلى افتراضات البحث والإيحاءات لإجراء بحوث مقابلة موازية أو معارضة. الغرض منه إثارة الأذهان، وإيجاد البدائل، والحث على أخذ المواقف، والانتقال من المعلومات إلى العلم، والتحول من النقل إلى الإبداع. وفي مثل هذه المقدمة العامة في علم «الاستغراب» يصعب الاستقرار على أسلوب معين يجمع بين عموم التحليلات وخصوص الشواهد، بين الاتجاهات العامة والتوثيق بالمصادر، بين العمل الذهني الفكري الخالص والتحليل العلمي التاريخي الصرف. الأول وحده عموميات لا دليل عليها، والثاني وحده شروح وحواشي وتخريجات. الأول ماهيات دون وقائع، والثاني وقائع دون ماهيات. ومع ذلك حاولت الجمع بينهما في أسلوب وسط متفاديًا الأسلوب الأحادي الطرف. ومع ذلك لم تتم الإحالة فيه إلى المراجع أو المصادر إلا بالقدر القليل. ولما كان علم «الاستغراب» هو تاريخ الوعي الأوروبي، مصادرَ وتكوينًا وبنيةً ومصيرًا فإنه جمع قدر الإمكان بين التحليل الماهوي والوصف التاريخي. وظهرت فيه أسماء الأعلام والعصور والمذاهب على طريقة «الاستشراق» ضحية النزعة التاريخية.١٠٢ومع ذلك، فإن التجارِب المعيشة لجيلنا وأزمة وجوده في الأطراف هي التي تنير له طريقه لفهم النصوص وقراءتها وموضعتها بحيث تدل على تكوين الآخر وبنيته في مواجهة الأنا. النصوص الخام صامتة لا تتكلم، ولا توحي بشيء، والتجارِب المعيشة مجرد حركات لا يأتي منها إلا رجع الصدى. أما قراءة النص من خلال التجرِبة المعيشة فهي التي تكشف عن الدلالات، وتعطي المعاني.١٠٣ وقد عشنا التراث الغربي ولدينا تجارِبنا المعيشة في عَلاقة الأنا بالآخر على مدى ثلاثين عامًا، قراءة ودراسة ونقلًا وتأليفًا. وبالرغم من ضعف منهج الأثر والتأثر وتفريغه كل إبداع ذاتي من مضمونه عن طريق إحالته إلى الآخر، وبالرغم من تنبيهي على ذلك أكثر من مرة إلا أنه سيأتي باحثون يبينون أثر ظاهريات هُوسِرل سواء في منهج تحليل الشعور أو في الموضوع، وهو ما يسمى بأزمة الوعي الأوروبي.١٠٤ لقد درس هُوسِرل الموضوع نفسه كما درسه غيره: شيلر، برجسون، أورتيجا، اشبنجلر، توينبي، بول هازار … إلخ، باعتبارهم باحثين ينتمون إلى الوعي الأوروبي. كما درسه آخرون من العالم الثالث في الاقتصاد والسياسة والاجتماع. وهذه دراسة لنفس الموضوع ولكن في الفلسفة. - (هـ)
بالرغم من أن علم «الاستغراب» يعبر عن رغبة الأطراف في الاستقلال الفكري والعلمي والحضاري عن المركز إلا أنه سيظل باستمرار دائمًا في فلكه لأنه يستعمل مناهج ويتعامل مع موضوعات كلها نابعة من المركز. فمهما أبدعت الأطراف فإن إبداعها سيظل باستمرار بفضل المركز ومن خلاله، حلقة لا يمكن الخروج منها، وقيد لا يمكن الفِكاك عنه، دائرة جهنمية لا خلاص منها.
والحقيقة أن هذا الاعتراض يمثل نموذج الإحالة المستمرة من الأنا إلى الآخر، وهذا القدر الذي جعل الأطراف باستمرار في دور التلميذ والمركز في دور الأستاذ. ومع ذلك يمكن الخروج من هذه الحلقة المفرغة: لن يتم استقلال الأطراف إلا بالخروج من المركز، ولن يتم الخروج من المركز إلا باستقلال الأطراف. حلقة مفرغة في البداية ولكن تدريجيًّا يمكن الانتقال من هذه الدوامة إلى خارجها، جيلًا بعد جيل حتى يصبح للأطراف مناهجها وموضوعاتها فتكون مركزًا ثانيًا وثالثًا ورابعًا … إلخ، حتى تتعدد المراكز، وتتنوع مصادر الإبداع. إن الغرض من هذا الاعتراض هو الحط من العزائم أو قلة ثقة بقدرات الأنا، ومزيد من الثقة بعظمة الآخر طبقًا لعَلاقة مركب النقص بمركب العظمة. ولكن مظاهر التحرر الذاتي عديدة في تاريخنا المعاصر منذ حركة التحرر الوطني حتى إبداعات الجيل في الحرب والسلام، في الجيش والمصنع، في الحقول والصحراء. وإذا كان في أحد جناحي الذبابة الداء وفي الآخر الواء كما يروي التراث الشعبي الديني فقد يكون ذلك أحد المخارج من هذه الحلقة المفرغة. وإن لم يكن ذلك صحيحًا فهناك المثل الشعبي المستقى من الشعر العربي «وداوني بالتي كانت هي الداء.»
- (١)
«من العقيدة إلى الثورة»، محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين، الطبعة الأولى، مكتبة مدبولي، القاهرة، ١٩٨٨م، الطبعة العربية الثانية، دار التنوير، بيروت، ١٩٨٨م.
- (٢)
«من النقل إلى الإبداع»، محاولة لإعادة بناء علوم الحكمة (قريبًا).
- (٣)
«من الفناء إلى البقاء»، محاولة لإعادة بناء علوم التصوف.
- (٤)
«من النص إلى الواقع»، محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه.
- (٥)
«من النقل إلى العقل»، محاولة لإعادة بناء العلوم النقلية (القرآن، الحديث، التفسير، السيرة، الفقه).
- (٦)
«العقل والطبيعة»، محاولة لإعادة بناء العلوم العقلية (العلوم الرياضية والطبيعية).
- (٧)
«الإنسان والتاريخ»، محاولة لإعادة بناء العلوم الإنسانية (اللغة، الأدب، الجغرافيا، التاريخ).
Les Méthodes d’Exégèse, essai sur la science des fondement de la compréhension, ilm usul al-fiqh, pp. 535–543, Imprimerie nationale, Le Caire, 1965.
L’Exégèse de la phénomènologie, L’etat actuel de la méthode phénomènologique et son application au phénomèce religieux, (Paris, 1966), Dar al-Fikr al-Arabi, Le Caire, 1979.
La phénomènologie de l’Exégèse, essai d’une herméneutique existentielle à partir du Nouveau Testament, Paris, 1966, Anglo-Egyptian Bookshop, Le Caire, 1990.
- (١)
عصر آباء الكنيسة.
- (٢)
العصر المدرسي.
- (٣)
الإصلاح الديني وعصر النهضة.
- (٤)
العصر الحديث.
- (٥)
العصر الحاضر.
- (١)
المنهج التاريخي.
- (٢)
المنهج التحليلي.
- (٣)
المنهج الإسقاطي.
- (٤)
منهج الأثر والتأثر ص٧٥–١٠٨.
«الشعور المحايد والشعور المغترب».
L’Exégèse de la phénomènologie, Avant-propos: 1-Le phénomène de la conscience Européene. 2-La conscience neutre et la conscience alienée, pp. 3–12.
Edward W. Said: Orientalism, Vintage Books, Random House, New York 1979.
وقد ترجمه إلى العربية كمال أبو الديب بعنوان «الاستشراق، المعرفة، السلطة، الإنشاء»، مؤسسة الأبحاث العلمية، بيروت، ١٩٨١م؛ وأيضًا صادق جلال العظم: «الاستشراق، والاستشراق معكوسًا»، دار الحداثة، بيروت، ١٩٨١م؛ وكتابي «التراث والتجديد»، النزعة العلمية، ص٧٥–١٠٨.
زكي نجيب محمود: حياة الفكر في العالم الجديد، الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٥٦م.
عبدالله العروي: العرب والفكر التاريخي، دار الحقيقة، بيروت ١٩٧٣م.
حسين مروة: النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية (جزءان)، دار الفارابي، ١٩٧٨-١٩٧٩م؛ زكريا إبراهيم: أبو حيان التوحيدي، أديب الفلسفة وفيلسوف الأدباء، المؤسسة المصرية العامة، القاهرة؛ عبد الرحمن بدوي: الإنسانية والوجودية في الفكر العربي، دار النهضة العربية، القاهرة؛ عثمان أمين: الجَوَّانية، أصول عقيدة وفلسفة ثورة، دار القلم، القاهرة ١٩٦٤م، وأيضًا: رواد الوعي الإنساني؛ زكي نجيب محمود: تجديد الفكر العربي، دار الشروق، القاهرة ١٩٧١م.
(١-٢) بنية العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ١٩٨٦م؛ كمال أبو الديب: جدلية الخفاء والتجلي؛ أدونيس: الثابت والمتحول، بحث في الاتباع والإبداع عند العرب (ثلاثة أجزاء):
(١) الأصول، (٢) تأصيل الأصول، (٣) صدمة الحداثة، دار العودة، بيروت ١٩٧٤م، ١٩٧٧م؛ طه عبد الرحمن: في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، المؤسسة الحديثة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء ١٩٨٦م؛ المنطق والنحو الصوري، دار الطليعة، بيروت، ١٩٨٣م. انظر أيضًا ما قلناه من قبل عن «التجديد من الخارج»، «التجديد من الداخل» في «التراث والتجديد» موقفنا من التراث القديم ص٣١–٣٤.
لسنج: تربية الجنس البشري، الطبعة الأولى، دار الثقافة الجديدة، القاهرة ١٩٧٦م، الطبعة الثانية، دار التنوير، بيروت ١٩٨٢م.
سارتر: تعالي الأنا موجود، الطبعة الأولى، دار الثقافة الجديدة، القاهرة: ١٩٧٧م، الطبعة الثانية، دار التنوير، بيروت ١٩٨٢م.