الفصل الثاني

تكوين الوعي الأوروبي (المصادر)

أولًا: المصطلحات، والمصادر المعلنة وغير المعلنة

إن تحديد المصطلحات الأساسية للأقسام الرئيسية في هذا العلم ضروري حتى ينبني العلم على أسس واضحة وتكون له مفاهيمه الخاصة مثل: التكوين، البنية، المصير، المصادر المعلنة، المصادر غير المعلنة. فإذا كان الوعي الأوروبي وعيًا تاريخيًّا صرفًا فإنه يمكن وصف مصادره وتكوينه، بداية وتطورًا ونهاية. كما يمكن تتبع مساره من ماضيه في مصادره إلى حاضره في تكوينه وبنيته إلى مستقبله في مصيره. وفلسفة التاريخ قادرة على تحديد هذا المسار انطلاقًا من الماضي إلى الحاضر ورؤية للمستقبل. وهذه المصطلحات إنما تصف وعي الآخر وليس وعي الأنا. فالآخر هو الذي يتموضع أما الأنا فتظل ذاتًا. فإذا ما وصفت الأنا ذاتها فإن ذلك يعني التباعد عن الأنا وتحويلها إلى آخر مقصود، تنفصل الأنا عن ذاتها وتتغاير مع آخر منها. وهذا ما يحدث تمامًا في مشروع آخر لجيلنا وهو «نقد العقل العربي» في جزأيه الصادرين «تكوين العقل العربي» و«بنية العقل العربي» وما زلنا ننتظر «نقد العقل السياسي».١ إن الأنا لا تتكون بل توجد، وليس لها بنية من خلال التكوين وإلا كانت تاريخًا محضًا، بل العلوم التي أبدعتها الأنا هي التي تتصف بالتكوين والبنية.٢ إنما الآخر هو الذي يتكون، وتنشأ بنيته من خلال التكوين. فالآخر هو الذي من صنع التاريخ. فالحضارة نوعان: الأول حضارة مركزية تنسج علومها حول مركز واحد سواء كانت دوائرَ (أصول الدين وعلوم الحكمة) أو محاورَ (أصول الفقه وعلوم التصوف). والأنا تتمثل هذا المركز وتبدع من خلاله. فالإبداع له طرفان: الأنا المركزي والتاريخ الطولي. وهذا نموذج حضارة الأنا والذي يكوِّن الجبهة الأولى من مشروعنا «التراث والتجديد» وهي «موقفنا من التراث القديم». والثاني حضارة طردية تنشأ علومها بقوة طردية تبعدها عن المركز القديم بعد أن بدت عيوبه وتهاوت علومه ولم تقدر على الثبات أمام نقد العقل ومحك التجرِبة. وهذه هي حضارة الآخر في العصور الحديثة عندما يصبح الآخر وإبداعاته من صنع التاريخ، له تكوين وبنية، بداية ونهاية، تطور واكتمال، نهضة وانهيار. فمفاهيم التكوين والبنية يتم بها دراسة الآخر الذي تموضعه الأنا وليس دراسة الأنا التي لا تتموضع في آخر.

(١) تحديد المصطلحات

يعني «التكوين» النشأة والتطور والاكتمال. وهو ما يعادل باللغات الأجنبية Genesis أو Formation أو حتى Development وذلك بتبني المنهج التاريخي الخالص المتسق مع ظاهرة تاريخية خالصة. وبعبارة البنيويين المعاصرين: يعني التكوين دراسة الظاهرة في تتاليها الزماني Diachronic أما «البنية» فتصف الظاهرة في معيتها الزمانية Synchronic. وهو منهج مطابق للظاهرة لأن الوعي الأوروبي قد تكون في التاريخ، وتشكل في الزمان والمكان، ولا توجد ماهية مسبقة له كما هو الحال في الوعي الإسلامي. الوعي الأوروبي حصيلة حضارة طردية Centrifuge في حين أن الوعي الإسلامي من وضع حضارة مركزية Centripète.٣
وفي حالة الوعي الأوروبي يسبق التكوين البنية كما أن التطور يسبق البناء. إذ لا يوجد وعي أوروبي سابق على تشكله في التاريخ، فهو حصيلة التاريخ. لذلك ازدهر المنهج التاريخي فيه، وقويت النزعة التاريخية Historicism لديه. وقد اتُّهمت كل محاولة لإثبات استقلال البنية عن التاريخ مثل البنيوية والفينومينولوجيا بأنها مثالية أفلاطونية. بل إن «الأنا أفكر» عند ديكارت و«الأنا الترنسندنتالية» عند كانط من بقايا الأفلاطونية في العصور الحديثة.
وهذه المفاهيم الثلاثة: التكوين، والبنية، والمصير، إنما تشير إلى أبعاد الزمان الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل، التكوين في الماضي، والبنية في الحاضر، والمصير للمستقبل. فقد تم تكوين العقل الأوروبي عبر تاريخه الطويل، عبر عشرين قرنًا، ابتداءً من مصادره في العصور القديمة والوسطى حتى بدايته ونهايته في العصور الحديثة، تم ذلك في الماضي. أما بنية الوعي الأوروبي التي تكونت أيضًا عبر التاريخ فهي التي تتحكم في رؤية الوعي الأوروبي لحاضره وواقعه، تطبع عقليته وتحدد تصوره للعالم. أما مصير الوعي الأوروبي فهو مستقبله في التاريخ الذي حدده ماضيه وحاضره، وتداخله مع مسارات شعوب أخرى، تتلاقى وتتقاطع وتتصادم، فإذا كان التكوين تتالي الوعي الأوروبي في الزمان Diachronic، وإذا كانت البنية هي «عقلية» الوعي الأوروبي في المعية الزمانية Synchronic فإن مصير الوعي الأوروبي هو مستقبله في الزمان Prochronic.

ويلاحَظ أن «التكوين» أضخم من البناء. إذ يضم التكوينَ فصولٌ خمسة: المصادر، والبداية، والذروة، ونهاية البداية، وبداية النهاية. في حين أن البنية فصل واحد، وكذلك المصير فصل واحد. وهذا له دلالته على طبيعة الوعي الأوروبي ذاته. فهو قد تكون تاريخيًّا حتى اكتملت بنيته. ولم تكن له بادئ ذي بَدء أية بنية. ونظرًا لأن حضارة العالم السابقة قد صُبت فيه فإن التكوين قد تخلَّق ونشأ بعمق وبإيقاع سريع لدرجة أنه أصبح مصبَّ الحضارات الإنسانية كلها، زبدة الفكر البشري، وحصيلة نشاط الذهن الإنساني. التكوين هو كل شيء، والبنية إن هي إلا خاتمة للتكوين وحصيلته النهائية. لذلك غلَّب الوعي الأوروبي الصيرورة على الوجود، والتغير على الثبات، والواقع على المثال، وأنشأ فلسفات التاريخ، وأقام الثورات، وفصل المراحل. فهي وعي يتخلق، يولَد ويشبُّ، ثم يهرَم ويموت.

ولفظ «الوعي» أفضل من لفظ «الشعور». الوعي حضاري، والشعور نفسي. الوعي وعي بالذات، أي أنه شعور مزدوِج، في حين أن الشعور وعي خالص. الشعور شعور بشيء خارج الشعور، في حين أن الوعي وعي بالذات داخل الشعور. وتوحي الألفاظ الغربية بذلك. فكلمة Conscience تعني اشتقاقًا «علم مصاحب ﻟ» في حين أن كلمة Besinnung تعني «إدراك شيء ﺑ». الشعور لفظ مفعم بالبناء النفسي في حين أن الوعي أقرب إلى الدلالة الحضارية، أي الشعور الواعي أو الوعي الحضاري. أما مفهوم «العقل» في مصطلح «العقل الأوروبي» أو «العقل العربي» فإنه مفهوم عنصري صرف. العقل لا قومية له ولا جنس. ليس عربيًّا أو فرنسيًّا أو ألمانيًّا أو بريطانيًّا … إلخ. وكل الذين وصفوا العقل على نحو قومي فإنهم عنصريون صراحة في الغرب أو ضمنًا بيننا. العقل عند كانط «نظري» في «نقد العقل النظري» أو عملي في «نقد العقل العملي»، وعند سارتر سياسي في «نقد العقل الجدلي»، وعند دِلتاي تاريخي في «نقد العقل التاريخي». وإن كل من يستعمل تعبير «العقل العربي» فإنه يكشف عن عنصرية دفينة وتمايز بين الأنا وموضوعه كأن الأنا غير عربي ينظر إلى عقل غريب عنه له صفة قومية مغايرة لصفة الأنا. وعادةً ما تكون وصفًا من القوي للضعيف، من المركز للأطراف، من السيد للعبد. وقد وضح ذلك في الأنثروبولوجيا الاجتماعية الغربية في تعبيرات «العقلية البدائية»، «الفكر البري» أو «العقل العربي» وإذا استعمله الضعيف لوصف القوي أو العبدُ لوصف السيد أو الطرفُ للحكم على المركز فإن ذلك يكون أداة للتحرر وقلب الموازين رأسًا على عقب، ورد السلاح إلى الخَصم.٤
أما لفظ «أوروبي» فإنه يدل على المعنى «التاريخ الحضاري» وليس على الموقع الجغرافي السياسي كما يدل على ذلك لفظ «غربي». الوعي الأوروبي يدل على معنًى ونمط، في حين أن التراث الغربي يشير إلى حصيلة إنتاج تم في الغرب وفي زمان العصور الحديثة. الغرب صفة للتراث مثل التراث الغربي، وأوروبا صفة للوعي أو الشعور مثل الوعي الأوروبي. الغرب واقع وأوروبا ماهية، التراث الغربي كم والوعي الأوروبي كيف. الأول يشير إلى البدن في حين أن الثاني يشير إلى الرُّوح. الغرب مادة وأوروبا صورة. «الغرب» لفظ سياسي يوضع عادة في مقابل الشرق، سواء من الناحية السياسية أو من ناحية الطابع الفكري العام، الغرب العالِم والشرق الفنان، عصفور من الشرق، وظلام من الغرب، الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا، خاصة في بقايا النظريات العنصرية وأشكالها المختلفة. أما «أوروبا» فهو لفظ فكري إلى حد ما. فيقال: العلوم الأوروبية، الشعور الأوروبي، الحضارة الأوروبية. وهو لفظ أكثر شيوعًا عند الفلاسفة يصنعون به بناء معينًا من الشعور يتضح فيما ينتجه من فلسفة أو فن أو فكر ديني أو علم. إن التراث الغربي في حقيقة الأمر إنما يكشف عن الوعي الأوروبي ويحمله كما تحمل الواقعة الماهية. وهو موضوع فلسفي واحد ظهر في الفلسفة المعاصرة، خاصة في «الظاهريات». فالفلسفة الغربية هي فلسفة أوروبية تعبر عن وعي أوروبي، تطورًا وبناءً، تكوينًا ورؤية.٥ وعادةً ما يتم استخدام اللفظين «غربي»، «أوروبي» على البدل في العصور الحديثة. كما يتم أيضًا عندنا استعمال اللفظين على التبادل أسوة بما نترجم عنهم تاريخ الفلسفة الغربية. بل إن لفظ «الغرب» عندنا أكثر شيوعًا من لفظ «أوروبا». فنسمي المقررات في جامعاتنا «الفلسفة الغربية» ونسمي الحضارة في صحافتنا «الحضارة الغربية» أكثر من استعمال الفلسفة الأوروبية أو الحضارة الأوروبية. ومع ذلك يظل التمايز بين الواقع الغربي والمثال الأوروبي قائمًا.٦
ويتمايز الوعي القومي المتنوع داخل الوعي الأوروبي الموحد. فهناك الوعي الألماني، والوعي الفرنسي، والوعي الروسي، والوعي الأمريكي … إلخ، داخل الوعي الأوروبي. ويتضح ذلك في القواميس التي تؤرخ للفلاسفة. فإذا كان المؤرخ ألمانيًّا أكثر من ذكر الفلاسفة الألمان كبيرهم وصغيرهم، وإذا كان فرنسيًّا ذكر جميع الفلاسفة الفرنسيين كبارًا أو صغارًا، وإذا كان بريطانيًّا ذكر أسماء كل الفلاسفة البريطانيين الأعلام منهم وغير الأعلام، وإذا كان روسيًّا ذكر أسماء الفلاسفة والأدباء والسياسيين الروس المعروف منهم والمجهول.٧ وقد يغلب على كل وعي قومي طابع معين مثل المثالية في ألمانيا، والحسية التجريبية في بريطانيا، والتجارِب النفسية في فرنسا، والعملية في أمريكا، والاجتماعية في روسيا، والمنطقية في بولندا، والحيوية في إسبانيا. ومع ذلك هناك وعي أوروبي واحد بالرغم من تنوع الوعي القومي داخله. وقد يقع تنازع بين الشعوب الأوروبية نفسها على تمثيل الوعي الأوروبي، يود كل شعب أن ينسب الحضارة الأوروبية لنفسه، ويعتبرها تجسيدًا له أو تشكيلًا منه. فالشعوب الجرمانية تعتبر نفسها مركز الثقل في أوروبا، ومصدر الشعر والموسيقى والفلسفة وكل إنتاج ذهني رُوحي. والشعوب الغاليَّة تعتبر نفسها مبدعة الفن القوطي. والشعوب الرومانية تعتبر نفسها منشأ الحضارة وواضعة القوانين والمؤسسات، وناقلة العلم من الجنوب إلى الشمال منذ عصر شارلمان. كل شعب يدعي نسبة الحضارة الأوروبية له، وطبعها بطابعه. ولكن بالنسبة لنا تلك معركة داخلية بين الشعوب الأوروبية. ما يهمنا هو القاسم المشترك بينها، الحضارة الأوروبية ككل، وموقفنا منها.٨
وتُستعمل ألفاظ «مدنية» و«حضارة» و«ثقافة» و«تراث» و«فكر» بمعاني متداخلة ولكن على مستويات مختلفة من العموم والخصوص. فلفظ «المدنية» عام، يضم الحضارة والثقافة والتراث والفن والأدب والعلم والصناعة وأساليب الحياة الفردية والجماعية. أما لفظ «الحضارة» فهو أقل عمومية لأنه يشير فقط إلى النشاط الذهني أو الأسس الفكرية للإنتاج المادي. أما لفظ «ثقافة» فإنه لفظ أخص يركز فقط على الجانب الفكري في الحضارة سواء على مستوى النظر أو على مستوى الممارسة. ولفظ «تراث» إنما يشير إلى كل الأعمال الفكرية والأدبية والفنية التي تنتجها الحضارة بما في ذلك التراث الشعبي الذي تنتجه رُوح الحضارة ذاتها. أما لفظ «فكر» فإنه أكثر الألفاظ خصوصية لأنه يفيد مباشرة الجانب الفكري النظري الخالص في الثقافة. وأحيانًا نستعمل لفظ «حضارة» ونعني به ما نواجهه اليوم من غزو من الحضارة الغربية. «التراث» هو ما تركه القدماء لنا في الماضي، و«الحضارة» هي ما نواجهه نحن الآن في الحاضر.٩

(٢) المصادر المعلنة للوعي الأوروبي

وللوعي الأوروبي أربعة مصادر: اثنان معلنة، واثنان غير معلنة. فالمصدران المعلنان هما المصدر اليوناني الروماني Greco-Romain، والمصدر الثاني اليهودي المسيحي Judeo-Christian.١٠ أما المصدران غير المعلنين فهما المصدر الشرقي القديم، والبيئة الأوروبية نفسها.١١ وغالبًا ما يُذكر المصدران الأولان ولا يُذكر المصدران الآخران إيهامًا بأن الحضارة الأوروبية خَلقٌ عبقري أصيل على غير منوال، غير معتمد على حضارات سابقة عليه، وغير مرتبط بالزمان والمكان. إنها نموذج الحضارات جميعًا، الحضارة المَثَل، تعادل الثقافة العالمية ذاتها، وبالتالي يتوحد الخاص بالعام وتصبح حضارة واحدة ممثلة لحضارات البشر جميعًا، لحظة تاريخية محددة هي كل مسار التاريخ. وغالبًا ما يُذكر المصدر اليوناني الروماني قبل المصدر اليهودي المسيحي مما يدل على تفضيل الوعي الأوروبي منذ تكوينه للعلماني على الديني، وللعقلي على النقلي، واعترافًا ضمنيًّا بأن المصدر الرئيسي الذي شكله هو المصدر اليوناني الروماني أكثر من المصدر اليهودي المسيحي. الأول فعل، والثاني مجرد رد فعل. الأول إيجاب، والثاني سلب، الأول إثبات والثاني نفي. فالوعي الأوروبي ظل وثنيًّا، يفضل مصدره الوثني، بالرغم من ظهور المسيحية وانتشارها فوق ربوعه من الشرق إلى الغرب، ومن الجنوب إلى الشمال.
ولما كان هُوسِرل هو الذي وضع قضية الوعي الأوروبي، تطوره وبنائه، وجعله موضوع الوعي الحضاري في «أزمة العلوم الأوروبية» فإنه يمكن اعتباره نموذجًا لتصور الوعي الأوروبي لمصادره. لا يتحدث هُوسِرل كثيرًا عن مصادر الوعي الأوروبي، إذ إنه يعتبر الحضارة الأوروبية خَلقًا أصيلًا على غير منوال، وأنها وحدها ودون غيرها من الحضارات السابقة عليها، خاصة في الشرق القديم، قد أخذت على عاتقها مهمة البحث عن الحقيقة النظرية، وتحقيق مشروع الإنسانية العلمي الأول الذي طالما راود فلاسفتها؛ أعني إقامة علم شامل مرادف للحقيقة ومطابق للواقع على السواء. فإذا ذُكرت المصادر اعتُبرت مجرد مقدمات للحضارة الأوروبية وتمهيدات لها دون أن يكون لها استقلال خاص بها. كل شيء في النهاية يصب في الحضارة الأوروبية التي بدأ ديكارت وعيها الجديد. فأوروبا هي ممثلة الإنسانية جمعاء. أما حضارات الشرق القديم فهي حضارات أسطورية خُلُقية دينية لم تستطع عرض المسائل عرضًا نظريًّا، وكان جل همهما المنفعة العامة في الحياة العملية. لا يذكر هُوسِرل من مصادر الوعي الأوروبي الأربعة، المعلنة أو غير المعلنة، إلا مصدرًا واحدًا معلنًا هو المصدر اليوناني الروماني. ويهمل إهمالًا يكاد يكون تامًّا المصادر الثلاثة الأخرى. بل لا يذكر من المصدر اليوناني الروماني إلا في الفترة المبكرة للحضارة الأوروبية وهي الحضارة اليونانية. صحيح أن الحضارة الرومانية مقلدة في كثير من جوانبها للحضارة اليونانية إلا أن اهتمام الحضارة الرومانية وباعثها الأول كان هو البحث عن «القانون» لبسط النظام على أرجاء الإمبراطورية، في حين كان اهتمام الحضارة اليونانية هو البحث عن «الفكرة» التي ينعم بها السيد بعد أن كفاه عبيده مئونة العيش ومطالب الحياة اليومية.١٢

(أ) المصدر اليوناني الروماني

وهو المصدر الذي أعطى الوعي الأوروبي تصوراته ومفاهيمه ولغته وبدايات علومه. فاليونان جغرافيًّا جزء من أوروبا، وحضاريًّا مصدر ثقافته الأولى. لذلك تصور المستشرق، وهو باحث أوروبي، أن كل حضارة كانت على اتصال باليونان إنما كانت ثقافة اليونان وعلومهم مصدر ثقافتها ومنبعها الأول، مع أن الأمر قد يكون خلاف ذلك. وكذلك تعامل المؤرخ الحضاري الأوروبي مع التاريخ على نفس النحو، بادئًا من اليونان باعتبارهم معلمي البشرية جميعًا في المنطق والطبيعيات والأخلاق والسياسة والرياضة والطب. وهناك نمطان في التعامل مع اليونان: نمط أخذ المضمون والشكل هو النمط الأوروبي، ونمط أخذ الشكل دون المضمون وهو النمط الإسلامي. النمط الأول هو «التشكل الجوهري» الفعلي أو «التضمن الحقيقي»، والثاني هو «التشكل الظاهري» اللُّغوي أو «التشكل الكاذب». وهذا يتوقف على قوة كل حضارة في الحفاظ على مضمونها وفرض شكله الذي يريد. التفريط في المضمون هو تخل عن جوهر الحضارة الناشئة، أما استعارة الشكل فهو قوة الحضارة الناشئة في الحفاظ على مضمونها وتطويره وتحويله إلى حضارة قادرة على تمثل حضارات الغير.١٣
وهو المصدر الذي استطاع أن يعطي نمطه الفكري للشعور الأوروبي في بدايته في العصور الحديثة حتى يستطيع أن ينسج على منواله. لقد ردد الرومان اليونان إلى حد كبير كما هو معروف، ونقل الرومان الحضارة من جنوب أوروبا إلى شمالها، فتحضرت الشعوب الجرمانية والسَّلْتيَّة Celtes. وفي عصر الإحياء والنهضة ظهر الفن اليوناني والفكر اليوناني كنموذجين فريدين للحضارة الأوروبية عند نشأة مرحلتها الخاصة. أعطى الفكر اليوناني لغة مفتوحة يمكن بواسطتها عقد حوار بين المفكرين بدلًا من لغة العقائد المغلقة التي لا تحتمل التغيير أو التبديل في معانيها، والتي أصبحت مستقلة بمعانيها الاصطلاحية التي أفقدتها توازنها أو فرصة إعطائها معاني جديدة قد تكون أكثر ضبطًا. كما كانت لغة عقلية محضة، واضحة بذاتها، يمكن فهمها من مضمونها الخاص بدلًا من اللغة العقائدية التي يتضمن مجرد استعمالها تقبل مضامينها. واستعمال اللغة العقلية كان من شأنه استعمال العقل أيضًا، فقد صاحب العقل اللغة في حين أن اللغة العقائدية القديمة كانت تمنع من استعمال العقل. وكانت تفترض الإيمان والتسليم على الطريقة القديمة. وكانت لغة عامة يمكنها أن تضم أكبر عدد من الوقائع وتوجَّه إلى أكبر عدد ممكن من الناس بدلًا من اللغة القديمة التي كانت خاصة تصدق على أشخاص ووقائع معينة وموجهة إلى فئة خاصة هم الذين يسلِّمون بعقائد الإيمان تسليمًا مسبقًا. كانت لغة مثالية تفهمها الأجيال منذ عصر النهضة وإبان العصور الحديثة، لغة تجعل الحقيقة في الفكر، وتجعل جوهر الإنسان في المنطق، في حين أن اللغة القديمة كانت أبعد ما تكون عن المثالية، كانت حسية شيئية تاريخية ترفض حتى الاعتراف باستقلال الإنسان ووعيه. وأخيرًا كانت لغة إنسانية مرتبطة أشد الارتباط بالإنسان، عقله وحريته وسلوكه، في حين كانت اللغة القديمة إلهيةً تدور حول الله كصورة ذهنية أو كواقعة تاريخية، وكان الإنسان فيها مظهرًا من مظاهر التجلي الإلهي دون أن يكون له استقلال خاص.١٤
أما فيما يتعلق بالجانب الفني والأدبي فقد كان الشعر اليوناني نموذجًا للشعراء المحدثين، وكانت آلهة اليونان ربات الشعر عند المحدثين يناجونها، ويحاورونها، ويعطونها مضمونها الإنساني، كان الشعر المسرحي في فرنسا مثلًا في القرن السابع عشر، راسين وكورني، تقليدًا لنماذج الشعر المسرحي القديم عند إيسخيلوس وسوفوكليس ويوريبيدس. وفي العمارة كانت نهضة الفن الحديث إحياء للأساليب الأَيُونية والدُّورية القديمة. وفي الجمال كان كتاب «الشعر» لأرسطو هو قواعد الجمال المرعية. وفي السياسة كانت الديمقراطية الأثينية القديمة مثالًا يحتذى. وفي نشأة المذهب الإنساني Humanism كانت اليونان القديمة مصدرًا له. وباختصار قامت النهضة الأوروبية المعاصرة على إحياء الثقافة اليونانية. ومن ثم كانت دراسة الآداب اليونانية واللاتينية جزءًا من تكوين الثقافة الوطنية الأوروبية. وكانت كل كتب التاريخ الثقافي الأوروبي تبدأ دائمًا باليونان والرومان.١٥
وكانت الأولوية للمصدر اليوناني على الروماني. أخذ الوعي الأوروبي من اليونان الرُّوح، ومن الرومان البدن. استمد من اليونان اللغة والتصور، ومن الرومان التشريع والعمران. ومع ذلك ارتكن الوعي الأوروبي إلى الرومان أكثر من اليونان. وكان أقرب إلى الحس منه إلى العقل، ومن الواقع منه إلى الخيال، ومن الغزو وتأسيس الإمبراطوريات، كما حدث في الاستعمار، أقرب منه إلى التحضير ونشر الرسالة العالمية (الإسكندر).١٦

وإذا أخذنا الفينومينولوجيا كمثال لدراسة الوعي الأوروبي في مصادره الأولى نجد أن هُوسِرل لا يتناول من الحضارة اليونانية إلا الفلسفة، ويلغي من حسابه الأدب والأساطير والنحت والعمارة؛ وذلك لأن الفلسفة اليونانية في رأيه هي التي حاولت البحث عن الفينومينولوجيا قدر استطاعتها وعلى مستوى تفكيرها وتقدمها الحضاري في مسار الإنسانية. ففيها ظهرت فلسفة الحياة عند سقراط، وهي الفلسفة التي كشفت فيها الفينومينولوجيا عن أصالتها في التجرِبة الحية. وفيها ظهرت الصورة المحضة والمثال المطلق عند أفلاطون، وهو ما أفرزته الفينومينولوجيا في وصفها لعلم الماهيات. وفيها ظهرت أخيرًا فلسفة الطبيعة عند أرسطو، والتي حاولت الفينومينولوجيا أيضًا إعادة بنائها بعد تعليق الحكم على المادة، والبحث عن الأشياء ذاتها في الشعور.

ولكن هُوسِرل يعتبر سقراط مجرد مصلح للحياة العملية ضد شك السوفسطائيين. ولم يستطع وضع المسائل وضعًا نظريًّا خالصًا. وظلت اهتماماته متجهة نحو المشاكل الخلقية. ومع ذلك استطاع سقراط استعمال منهج الإيضاح القائم على العقل، واتخذ الوضوح والبداهة مقياسًا لصحة الأفكار. وقد تحول منهج التوليد لديه إلى الجدل عند أفلاطون. كما تحول منهج الإيضاح إلى حدس للماهيات. لقد استطاع سقراط المحافظة على وضعية القيم، هذه الموضوعية التي حاول هُوسِرل إقامتها في العلوم العقلية. لقد أعطى سقراط نموذجًا للذاتية، وأعلن أن الذات ليست موضوعًا. وهو الدرس الذي استفادته العلوم الإنسانية من أزمتها إلى العصر الحاضر. وبالتالي يظل سقراط، بالرغم من نقص البحث النظري لديه، مصدرًا للذاتية الأوروبية وأستاذًا لفلاسفتها مثل كيركجارد الذي كان يعتبر نفسه تابعًا لسقراط.

أما علم النفس اليوناني فقد فسره هُوسِرل على أنه حديث باطني للنفس يتجه نحو الفكرة، وبالتالي فهو بعيد كل البعد عن علم النفس التجريبي. ولذلك كان سقراط على حق عندما رفع شعار «اعرِف نفسك بنفسك»، وعندما وصفته كاهنة معبد «دلفي» بأنه أحكم البشر. كانت التجرِبة في علم النفس القديم مجرد اعتقاد Doxa أنها قصد يمكن ملؤه. أما علم الاجتماع فلم يتعد، في رأي هُوسِرل، بعض النظريات الخلقية لإقامة المدينة الفاضلة، ولم يعرف دور الآخر في التجرِبة المشتركة. والحقيقة أن سقراط قد عرَّفها في منهج التهكم والتوليد. كما أن الجانب الاجتماعي والسياسي لا يغيب عن الفلسفة اليونانية كما هو واضح في محاورتَي أفلاطون: الجمهورية و«القوانين»، وفي كتابَي أرسطو: «السياسة» و«دستور الأثينيين».
وقد استطاع أفلاطون، في رأي هُوسِرل، ولأول مرة في تاريخ الإنسانية وضع أول أسس لنظرية خالصة في العلم وهي «نظرية المُثُل»، والتمييز بين العقلي والحسي، بين الصوري والمادي أو بين النظر والعمل. بل إن مثال المُثُل يقترب كثيرًا من النظريات الرياضية الحديثة، لا سيما نظرية الكثرة ونظرية المجموعات. لقد ظلت الأفلاطونية مثلًا يحتذى في الحضارة الأوروبية لتأكيد استقلال الأفكار والماهيات والموضوعات المثالية، وللتخفيف من حدة الاتجاه التجريبي. وتحدث الأزمة في العلم عندما يُترك المثال الأفلاطوني اليوناني، وتؤخذ العلوم الطبيعية نموذجًا لكل علم. وهكذا تظل الأفلاطونية هي الدرع الواقي من كل اتجاه شكي أو نسبي، والضامن لكل عقلانية. لقد أصحبت في العصور الحديثة نظرية قبلية في تصور العلم القائم على حدس الماهيات. بل إن ذاتية العصر الحاضر لم تستطع بلوغ درجة العقلانية اليونانية التي بلغت ذروتها في نقطة أرشميدس وفي نظرية فيثاغورس. وإن بحث أفلاطون عن «النفس ذات الأجنحة» كان في الحقيقة بحثًا عن الذات الترنسندنتالية. وإن ما حدث في العصور الحديثة من وقوع في المذهب التجريبي والشك والنسبية ومحاولة المذهب العقلي إعادة التوازن للشعور الأوروبي لهو تَكرار لما حدث عند اليونان من تحول للفلسفة على يد السوفسطائيين إلى شك ونسبية ومحاولة أفلاطون إعادة التوازن إلى الشعور اليوناني. ولكن افتراض أفلاطون وجود المُثُل في الخارج جعله يخطئ معنى الواقعية، وأصبح ذريعة للاتجاه الاسمي في إنكاره لوجود المعاني المستقلة. إن أفلاطون بالرغم من التقدم الحاسم الذي حققه في الفلسفة اليونانية لم يستطع أن يعطينا مناهج ضرورية للعلم؛ لأن الفلسفة ظلت لديه أسيرة للنظريات الخلقية والتفسيرات الأسطورية. ولم تزد الفلسفة لديه عن كونها مجرد دهشة دون أن تصبح نظرية في الحقيقة.١٧
أما أرسطو فهو أول من وضع نظرية كاملة في المنطق والأخلاق والسياسة. وهو أكمل نسق فلسفي عُرف في العصر القديم. ولكن فضله الأساسي يرجع إلى أنه وضع أسس المنطق الصوري، خاصة القضايا. وهو أول تفكير منطقي عرَفه التاريخ! ولأول مرة توضع مشكلة الصورة في المنطق والتي تقابل المقولة في علم الطبيعة، وكان هذا الطابع الصوري هو المرشد للمنطق الحديث. ومع ذلك ظل المنطق الصوري ناقصًا لم يتعد كونه إرهاصات من التفكير الذاتي لإقامة علم مثالي، فضلًا عن أنه لم يتعد كونه منطقًا للاتساق وعدم التناقض دون أن يصبح منطقًا للحقيقة. كما نقصته نظرية في الحدس. ولم يستطع أن يصبح رياضة شاملة. وإن تحويل المنطق إلى رياضة لهو من إنجازات العصور الحديثة التي استطاعت تحرير المنطق من بيئته المدرسية وتداخل أشكال القضايا. لقد ظل المنطق القديم استنباطًا يمكن بواسطته استخراج قضية من أخرى، في حين أن المنطق الحديث استطاع الوصول إلى اللانهائي نفسه. ولكن يذكر للمنطق اليوناني أنه قدم تحليلات لُغوية يمكن استغلالها في دراسة المنطق مثل: الجنس، والنوع، والصورة، والمادة. غير أنه لم يستطع أن يتحول إلى أُنطولوجيا صورية كما هو الحال في الفينومينولوجيا، خاصة وأن الأُنطولوجيا القديمة كانت ترى قمتها في اللاهوت لا في الرياضة الشاملة كما هو الحال في العصور الحديثة. هذا بالإضافة إلى أن المنطق اليوناني لم يستطع التخلص من الاتجاه النفسي في المنطق أو في الأخلاق.١٨
وانتهت الحضارة اليونانية، في رأي هُوسِرل، ولم تحقق بعدُ مشروعَها في إقامة نظرية للعلم. وكان أقصى ما وصلت إليه هي هندسة إقليدس التي تدل على مستوًى رفيع من العقلانية. ثم انهارت الحضارة اليونانية كلية بتركها هذا المشروع واتجاهها نحو المسائل الخلقية على يد الأبيقوريين والرواقيين. انتهى التنظير العقلي، وبدأت مذاهب الشك والمذاهب المادية والاتجاهات العلمية في المدارس الخلقية، وظل الجدل السوفسطائي سلبيًّا ينكر قيمة الذهن، ويؤكد وجود العدم، لا يوجد شيء، وإن وُجد فلا يمكن معرفته. فالشك السوفسطائي القديم وقوع في النسبية أو في العدمية أو في ووحدانية النفس Solipsism. وبذلك تم القضاء على الموضوعية التي تتحقق في الذهن أو من خلال التجرِبة المشتركة. وكان آخر بريق هو نظرية اللوجس Logos عند الرواقيين التي حاولت وضع موضوعية مثالية كتلك التي حاولتها العصور الحديثة في الرياضة.١٩ وتحققت الفينومينولوجيا كمشروع لكل حضارة في الحضارة اليونانية. فأفلاطون يضع الصورة أي النويز Noèse، وأرسطو المادة أي النوييم Noême، وسقراط يضع الشعور كقصدية وإحالة متبادلة بين صورة الشعور ومضمون الشعور. وبالتالي يمكن العثور على جذور ثلاثية المقاصد في الوعي الأوروبي: الصورية، والمادية، وعالم الحياة عند اليونان في ثلاثية أفلاطون، وأرسطو، وسقراط. ولا يهم التتابع الزماني التاريخي بقدر ما يهم التحليل البنيوي للماهية التي تتكشف في الزمان كماهية مستقلة. وهذا بالضبط ما حاوله الحكماء عندنا، خاصة الفارابي، في «الجمع بين رأيَي الحكيمين: أفلاطون الإلهي وأرسطوطاليس الحكيم» للجمع بين المثال والواقع، بين الآخرة والدنيا، بين الرُّوح والبدن من منظور إسلامي كلي شامل. ولم ندرك المغزى والدلالة واتهمناه بالتوفيق بين ما لا يمكن التوفيق بينهما، وأدَنَّا المحاولة بعقلية التفريق التي أتتنا من الحضارة الغربية.٢٠
وتقليدًا للغرب ننظر إلى اليونان بنفس المنظار ونعتبر الثقافة اليونانية أصل الثقافات ومنبعها. فإذا أردنا أن ننهض بالآداب العربية عدنا إلى الأدب اليوناني وترجمناه. ويكون المترجم أحد المؤهِّلين لثقافتنا الأدبية والمجددين لمناهجنا النقدية.٢١ وإذا ما أردنا تأسيس الدولة المصرية الحديثة ترجمنا كتاب «السياسة» لأرسطو عن الغرب، في ترجمته الفرنسية، حرفيًّا، دون شرح أو تلخيص أو تفسير ليرى الآخر من منظور الأنا كما فعل القدماء، والحديث عن الديمقراطية الأثينية ودستور أثينا.٢٢ مع أن الأقرب لنا حضاريًّا الحديث عن الشورى القديمة عند الأصوليين والفقهاء ومنظري «الأحكام السلطانية» و«السياسية الشرعية». وإذا أردنا أن ندفع بمجتمعنا نحو العقلانية فإننا نتحدث عن الاتجاه العقلي عند اليونان أكثر مما نؤصل الاتجاه العقلي عند المعتزلة وابن رشد. وإذا ما أردنا إعادة النظر في صحة الشعر العربي القديم والتمييز بين الصحيح منه والمنتحل فإننا نقارنه بشعر هوميروس وما أثيرت حول صحته من نظريات دون تطبيق مناهج الرواية في علم الحديث التي كانت وراء انتشار علم النقد التاريخي للكتب المقدسة، وكما وضح ذلك عند رينان في مقدمة كتابه «حياة يسوع». وإذا ما أردنا نهضة فنية ننقل أساليب العمارة اليونانية والرومانية، ونقيم الدُّور على الأعمدة الأيونية والدُّورية دون تأصيل لأساليب العمارة في فننا القديم. وعندما نؤرخ للفكر فإننا نبدأ كما يفعل الباحثون الأوروبيون ببدء وضع المشاكل عند اليونان ثم انتقالها إلى العرب القدماء مع أن حركة النقل في تراثنا القديم كانت للتعرف على الحضارات المعاصرة له وليس تقليدًا لها أو اتخاذها مصدرًا.

إن أثر العرب في نهضة أوروبا موضوع قد يتطرق إليه الأوروبيون أنفسهم إن أرادوا وهم في بحثهم عن عصر النهضة. وقد نتطرق إليه نحن للكشف عن المصادر غير المعلنة للوعي الأوروبي. ولكننا نتطرق إلى مظاهر احتوائنا للتراث اليوناني والظواهر الحضارية المصاحبة لذلك من تمثل أو قبول أو رفض أو إعادة صياغة. لم نحاول مثلًا أن نقيس درجة اكتشاف الذاتية، أو درجة اكتشاف الواقع، أو درجة العقلانية في الحضارتين اليونانية والإسلامية، أو طريقة نشأة الكلمات والألفاظ وتحويلها إلى مصطلحات فلسفية وعلمية. قد يود البعض تحديد وسائل نهضتنا الحالية باتباع نفس الوسائل التي اتبعتها النهضة الأوروبية، وهذا خطأ حضاري، فتقدم الحضارات لا يقاس بعضه على بعض وإن كان لا يخلو من مقارنات وأوجه تشابه نظرًا لوجود قوانين واحدة لمسار التاريخ. إنما يمكن أن تكون لنهضتنا الحالية جذورها في التراث القديم، في الشورى مثلًا لو أردنا التأكيد على ضرورة نظمنا الديمقراطية، والأصوليين لو أردنا دفع عقليتنا المعاصرة درجة أخرى وليس بالضرورة عن طريق إحياء الفلسفة اليونانية … إلخ. إن تعليم اللغات القديمة واجب ضروري من أجل التعرف على مصادر الحضارة الغربية وكأساس لإتقان اللغات الأوروبية، وليس من أجل أنها ستضعنا على أبواب النهضة كما كان الحال في عصر النهضة الأوروبي.

كما أننا نفعل ما يفعله المستشرقون في دراسة أثر الفكر اليوناني في الفكر الإسلامي لأن اليونان لديهم أصل ومصدر، وما سواهم ناقلون مترجمون. ولا ندرس مثلًا احتواء الفكر الإسلامي للفكر اليوناني أو تمثل الفكر الإسلامي للفكر اليوناني أو نقد الفكر الإسلامي للفكر اليوناني. نفعل أيضًا ما يفعله المستشرقون من اعتبار دورنا مجرد نقلة للعلم اليوناني إلى أوروبا، بل ونقلة غير أمناء في بعض الأحيان؛ لأننا لم نفهم العلم اليوناني جيدًا، أو لأننا خلطناه بالدين، وبالتالي لم نحسن رد الأمانة إلى أهلها. وكان على أوروبا في نهضتها أن تعيد التصحيح، وأن تترجم الفكر اليوناني مباشرة، والاستغناء عن الترجمات العربية.٢٣ وعلى أكثر تقدير يحوِّل الباحثون الوطنيون هذا الفعل إلى عمل قومي، ويتحدثون عن أثر العرب في نهضة أوروبا عن طريق الترجمة الأولى، ترجمة العرب لليونان، أو الترجمة الثانية، ترجمة الأوروبيين لتراث العرب ومؤلفاتهم. وفي كلتا الحالتين يكون دورنا مجرد نقلة لإبداع غيرنا.٢٤

(ب) المصدر اليهودي المسيحي

إذا كان المصدر اليوناني الروماني يمثل الرافد العلماني في الوعي الأوروبي فإن المصدر اليهودي المسيحي يمثل الرافد الديني. وباجتماع الرافدين في واقع معين، في زمان ومكان، تنشأ الحضارة. وقد نشأت الموسيقى البوليفونية في الحضارة الغربية من اجتماع نفس الرافدين: الألحان الكنسية والألحان الشعبية. وبمنطق الجبهات الثلاثة الذي يكوِّن صلب مشروع «التراث والتجديد» يمثل المصدر اليوناني الروماني الوافد الغربي، ويمثل المصدر اليهودي المسيحي الموروث القديم، وتمثل البيئة الأوروبية نفسها، هذا المصدر غير المعلن عنه والذي يوجد في ثقافات أوروبا وأساطيرها ودياناتها الوثنية. يمثل هذا الرافد الواقع الذي يدور فيه الجدل بين الوافد والموروث.

ويبين المصدر اليهودي المسيحي ارتباط الوعي الأوروبي بمعطاه الديني اليهودي والمسيحي الطارئ عليه والوافد إليه. وقد حدث الارتباط بين اليهودي والمسيحي في تبويب «الكتاب المقدس ذاته» ووضع العهد القديم كمقدمة للعهد الجديد وتوطئة له. وبالتالي تعطَى الأولوية فيه للمصدر اليهودي على المصدر المسيحي على أساس أن الأول سابق تاريخيًّا على الثاني، وأن المسيحية قد خرجت من اليهودية، بل هي إحدى تفسيراتها الإسينية Essenian، وقد كان المسيح نفسه يهوديًّا إسينيًّا. وكان أحد كبار التابعين الأوائل مثل بولس يهوديًّا. وكان عدد من المتحولين إلى الدين الجديد من اليهود وإن كانت الغالبية من الوثنيين. وهذا ما يفسر أحيانًا تضامن اليهود والمسيحيين ضد المسلمين، لأنهم يكوِّنون في الظاهر جبهة واحدة ضد غيرهم، مع أن الإسلام يسميهم معًا «أهل الكتاب».٢٥ وقد خرجت دراسات عديدة تؤكد هذا الارتباط، وتثبت الوحدة الفكرية والاتصال الحضاري بين اليهودية والمسيحية من الجانبين على السواء، ولكن لهدفين مختلفين. يثبت المسيحيون أن اليهودية ما هي إلا مقدمة للمسيحية وظاهرها، فاليهودية هي الظاهر، والمسيحية هي الباطن، وأن أنبياء بني إسرائيل إن هم إلا صور ظاهرية للمسيح، علامات دالة عليه ومؤشرات على قدومه. ويثبت اليهود أن المسيح ما هو إلا يهودي إسيني أراد إصلاح اليهودية وتنقيتها من الأشكال والرسوم، وحَرفية القانون، وتحويل معبد الله إلى تجارة فيه بيع وشراء، مكسب وربح، غشٌّ ورِبا. وبصرف النظر عن هذا الجدل بين الطائفتين، فالارتباط بين الدينين واقعي تاريخي. وقد خرجت دراسات عديدة تؤكد هذا الارتباط، ولتثبت الوحدة الفكرية والاتصال الحضاري بين اليهودية والمسيحية عند الإسينيين والأبيونيين، وكما ظهر أخيرًا من مخطوطات البحر الميت وفرقة قمران. ويتأكد هذا الارتباط أحيانًا على مستوى العمل السياسي والمصالح المشتركة.
ولقد حدث هذا الربط على يد بولس نظرًا لثقافته اليهودية، والتي وظفها للدعوة إلى الدين الجديد. وبالرغم من عدائه للدين القديم، أي لليهودية، ودعوته إلى الفصل التام بين الدينين، فالمسيح قد تجسدت فيه خصائص التوراة، وأن الإيمان به يجُبُّ الشرائع اليهودية، إلا أن ظهور العقائد اليهودية، ولو سلبًا، في تبشيره الجديد أكد على أنه لا يمكن العودة إلى المسيحية إلا من خلال اليهودية. فأكد على الربط وهو يثبت الانفصال. وقد ساد هذا الربط اللاهوت الكنسي كله، دافع عنه اللاهوتيون كتسليم بالأمر الواقع ولأنه يسمح لهم بتبشير المسيحية بين اليهود، وبتقريظ المسيحية باعتبارها التجرِبة النهائية لليهودية.٢٦ وربما كان الدافع أيضًا إحساس المسيحيين بالنقص أمام اليهود كشريعة وعقيدة وتاريخ وقوة اجتماعية وتماسك وتآلف عبر التاريخ، وهو ما لم تحققه المسيحية. وبالرغم من محاولات الفصل بين المصدرين منذ سلسوس Celsus نظرًا للخلاف بين طبيعة الدينين إلا أن الربط بينهما هو الذي ساد، بل إن جوهر الدين الجديد قد طُمس لحساب الدين القديم بفضل بولس وثقافته اليهودية السابقة على تحوله إلى الدين الجديد.
والحقيقة أن موقفنا الفكري والحضاري والأمانة العلمية والبحث التاريخي المحايد يفرض علينا التأكيد على الانفصال بين المصدرين لا على الاتصال بينهما. فقد حدث خلط أساسي بين المصدرين بالرغم من التمايز بينهما. فالتوراة غير الإنجيل. والفكر العبراني كما هو واضح في التوراة مختلف تمامًا عن الفكر الديني الجديد. وقد قام في العصر المسيحي الأول عدد من الآباء للدفاع عن الفصل بين المصدرين من حث الطبيعة والجوهر مثل سلسوس ومارقيون Marcion، ولكن اتُّهم كلاهما بالزندقة والهرطقة. ويكمن التعارض الأساسي في أن الله في التوراة مرتبط بالأرض والشعب والتاريخ، ويتجلى في مظاهر حسية، في حين أن الله في الإنجيل هو الذي في السماوات، منزه عن كل صورة حسية. والله في التوراة، وكما لاحظ برجسون، إله غيور غاضب منتقم جبار يلعن بني إسرائيل، في حين أن الله في الإنجيل إله المحبة والرحمة والمغفرة. الدين كما تعبر عنه التوراة مرتبط بشعب معين ولتاريخ معين، أي أنه دين خاص، في حين أن الدين في المسيحية دين عام للبشر جميعًا. كما أن الحلف أو الميثاق الذي عقده الله مع بني إسرائيل حلف خاص لا يدخل فيه أحد ولا يخرج منه أحد، في حين أن الحلف أو العهد الجديد في المسيحية الذي عقده المسيح وأشار إليه في العشاء الرباني حلف عام يستطيع كل من يشاء أن يؤمن أن يدخل فيه. تسود التوراةَ النظرةُ التشريعية الخارجية كما هو واضح في لفظ «توراة» الذي يعني قانون أو شريعة، في حين أن النظرة السائدة في الإنجيل نظرة رُوحية صرفة، تُعنَى بتطهير القلب، وتعطي الأولوية للباطن على الظاهر. الجزاء في اليهودية مادي: أرض، ونسل، ونصر، وجيش، وتابوت العهد، وفول، وعدس، وبصل، ومائدة من السماء، ومن، وسلوى، في حين أن الجزاء في المسيحية رُوحي خالص: نيل السعادة والخلاص. والعقاب في اليهودية جماعي والثواب جماعي، فبنو إسرائيل شعب واحد، يعيش معًا ويموت معًا، تنالهم المغفرة أو تأخذهم الصيحة، باستثناء المؤمنين كأفراد والذين قال عنهم اليهود إن الله يغفر للجماعة المذنبة بسببهم وبشفاعتهم ولأجل خاطرهم. أما في المسيحية فالعقاب فردي، والثواب فردي، بناء على الإيمان بالسيد المسيح، بالرغم من محاولات الكنيسة إدخال نفسها كواسطة، وأن الفرد لا وجود له إلا من خلال جماعة المؤمنين، وهو عَود إلى التصور اليهودي للجماعة. اليهودية تاريخ بني إسرائيل ومسار حياتهم منذ تجمعاتهم الأولى حتى تدمير المعبد الثاني، فلا فرق بين التوراة وتاريخ بني إسرائيل. أما المسيحية فدعوة أخلاقية كما جسدت مبادؤها «المواعظ على الجبل». وأخيرًا، اليهودية دين حرب وغزو لأنها نشأت بين القبائل التي تبحث عن الزرع والماء وتغزو أراضي القبائل الأخرى لأخذ ثرواتهم وماشيتهم، في حين أن المسيحية دين محبة وسلام. فإذا كان الباحثون الأوروبيون يبينون مدى الارتباط بين اليهودية والمسيحية في الحضارة الغربية فمهمتنا العلمية والوطنية بيان مدى الانفصال بينهما، وذلك لفك الارتباط في المصالح أيضًا بين الطائفتين كقوتين سياسيتين.
ومع ذلك فإن نوعية المعطَى الديني في المصدر اليهودي المسيحي واحدة وهي اللاعقلانية. فاليهودية دين يقوم على الاختيار الإلهي لشعب بعينه دون أي سبب. ومهما عصى الشعب وقتل الأنبياء وجحد بالنعم يظل الاختيار قائمًا. فالعَلاقة ذات طرف واحد، من الله إلى الشعب، وليست عَلاقة متبادلة، من الله إلى الشعب، ومن الشعب إلى الله. هي عَلاقة أحادية الطرف، يعطي الله كل شيء في مقابل لا شيء من الشعب، وليست عَلاقة مشروطة يعطي الله بقدر ما يطيع الشعب. وهو ميثاق مادي، يعطي الله الشعب النصر، والجيش، والمدينة، وتابوت العهد، والمعبد، والهيكل، وليس مجرد جزاء خلقي: محبة، واصطفاء، وتوفيق، وهداية، ونبوة، ووصايا. وهو ميثاق جماعي مع الشعب كله وليس ميثاقًا فرديًّا يتم فيه خلاص الفرد بخلاص الجماعة. مهما قام الفرد بأعمال ضد الشريعة فإنه يتم إنقاذه من خلال المجموع. ومهما كفرت الجماعة وجحدت نعم الله فإنه يتم خلاصها بوجود فرد واحد مؤمن يكفر عن خطاياها كلها، ويمحو ذنوبها. وهذا هو الذي دفع الفكر اليهودي الإصلاحي التنويري إلى رفض عقيدة الاختيار، والإيمان بالميثاق وبالجزاء الفردي.٢٧

واستمرت اللاعقلانية في المعطَى الديني المسيحي، ولكن على نحو فردي شخصي. فالإيمان سر لا يمكن إدراك كنهه بالعقل. والمسيح ثالث ثلاثة. ولا يمكن فهم عَلاقة الأقانيم داخل الثالوث بالعقل. والكنيسة سلطة متوسطة بين الله والإنسان، تفسر الكتاب المقدس، ويعترف أمامها المذنب، وتهب الغفران. والإنسان يتحمل خطيئة آدم في لحمه ودمه منذ مولده. ويأتي المسيح ليخلصه من خطيئة آدم لأنه غير قادر على الخلاص بنفسه. فلا يستطيع أن يقف أمام الشيطان إلا المسيح، ولا يستطيع قهر الشيطان إلا الخير المطلق، وملكوت السماوات ليس في هذا العالم، ما لقيصر لقيصر، وما لله لله. والحواريون ملهمون، لا فرق بين وحي النبي وإلهام الحواري، كله وحي وكتاب. والوحي بالرُّوح وليس بالحرف، بالمعنى وليس باللفظ، والشهادة الحية خير من الشهادة المكتوبة. هذا المعطَى الديني النوعي هو الذي كان بمثابة «المِهماز» أو الدافع أو المثير للوعي الأوروبي كي يتخلص منه. دفعه هذا المعطَى الديني النوعي إلى معطًى علماني مضاد أصبح فيما بعد هو المكون الرئيسي للوعي الأوروبي: الإيمان العقلي، الله الواحد المنزه، الصلة المباشرة بين الإنسان والله، حرية تفسير الكتاب المقدس، براءة الإنسان من خطيئة آدم، حريته ومسئوليته وقدرته على الخلاص بنفسه، ضرورة تأسيس الدولة، فملكوت الله على الأرض، ومستقبل الإنسان في هذا العالم.

ويمكننا دراسة هذا المصدر على نحو آخر. فقد ظهر الإسلام في أوائل القرن السابع الميلادي. وتحدث القرآن عن قضية التحريف والتبديل والتغيير في الكتب المقدسة. كما تحدث ثانيًا عن تغيير العقائد، وإساءة فهم أقوال المسيح، وتبديل أقوال الأنبياء. كما تحدث ثالثًا عن سلوك أهل الكتاب وعن عدائهم لغيرهم، وقتلهم الأنبياء بغير حق، وعدوانهم، وعصيانهم، وجحودهم. وحث على رفض التعاون معهم وموالاتهم لحقدهم وتعصبهم واتباعهم الهوى، وإن شئنا بلغة عصرية قلنا: لعنصريتهم، وأنانيَّتهم، وتمركزهم حول ذواتهم. يمكننا إذن دراسة عصر آباء الكنيسة، وأخذ قضية التحريف في القراءة على أساس أنها افتراض علمي يمكن التحقق تاريخيًّا من صدقه عن طريق علم النقد التاريخي للكتب المقدسة، أو برنامج عمل لدراسة نشأة النص الديني وتطوره موازيًا وتعبيرًا عن نشأة العقيدة وتطورها في القرون السبعة الأولى، ويكون ذلك منهجًا جديدًا لتفسير الآيات الخاصة بالتحريف خاصة، بل وآيات القرآن عامة، عن طريق إيجاد الوقائع والحوادث التاريخية التي يصفها القرآن، أو على ما يقول الأصوليون: تخريج المناط. كما يمكننا دراسة سلوك أهل الكتاب، أي سلوك الغربيين اليوم، وتحليل أبنيتهم النفسية، ومعرفة إلى أي حد يتمنون الخير لغيرهم. فوصف أهل الكتاب في القرآن الكريم هو وصف ضمني لحال الغربيين اليوم وصلتهم بغيرهم، وكأن القرآن يقرأ تاريخ الوعي الأوروبي منذ نشأته في مصادره حتى نهايته في مصيره.٢٨
أما هُوسِرل الذي حاول وصف الوعي الأوروبي تكوينًا وبنية فإنه لم يذكر من المصدر اليهودي المسيحي إلا بعض الفلاسفة المدرسيين (أوغسطين، توما الأكويني، دانز سكوت، نيقولا الكوزي) وذلك لأنه يعتبر رُوح العصر الوسيط رُوحًا نافية عادمة؛ لأنها خضعت للمنطق الأرسطي المدرسي دون أن تضع أسس «الرياضة الشاملة» كتلك التي وضعتها العصور الحديثة. ولكنه يذكر لأوغسطين اكتشافه للذاتية، ويستشهد بعبارته الإشراقية In te Rede homine habitat veritas «في باطنك أيها الإنسان، تكمن الحقيقة» في آخر تأملات ديكارتية. كما يذكر لتوما الأكويني قوله بالقصد العقلي الذي ظهر فيما بعد عند برنتانو كبناء للشعور. كما يذكر «أحوال المعاني» Les modes des significations عند دانز سكوت، ويعتبرها أحد روافد المنطق المعاصر. وهي النظرية التي درسها هَيدجر في رسالته الأولى تحت إشراف هُوسِرل بعنوان «نظرية المعاني عند دانز سكوت». وما تصوره العصر الوسيط على أنه بحث عن الله وعن ملكوت السماوات إن هو في الحقيقة إلا بحث عن مشروع الإنسانية الأوروبية لوضع أسس علم شامل.٢٩ الفينومينولوجيا على هذا النحو هو استمرار لعلمنة المعطَى المسيحي خاصة بالعودة إلى «المواعظ على الجبل» برُوح العصور الحديثة كما تجلت في «المثالية الترنسندنتالية».

(٣) المصادر غير المعلنة للوعي الأوروبي

وهي المصادر التي ضُربت حولها مؤامرة الصمت، سواء عند الفلاسفة أو عند مؤرخي الفلسفة، ولا تكاد تُذكر إلا لدى الباحثين المتخصصين في البحث عن الدقيقات. ومع ذلك لا تمثل هذه الأبحاث تيارًا عامًّا في تاريخ الوعي الأوروبي، وتظل صورته كما هي بدايةً باليونان، خلقًا عبقريًّا أصيلًا على غير منوال. فمعظم كتب تاريخ الفلسفة الغربية تبدأ باليونان، وكأن الحضارة اليونانية معجزة فريدة نشأت فجأة، كانكسار في التاريخ، وهبطت على البشرية فجأة من مصدر الوحي، ما قبلها هو العماء المطلق، والمجهول الذي لا يعلم عنه أحد. وقد يتم استدراك ذلك فيما بعد بأجزاء منفصلة من تاريخ الفلسفة الغربية في صورة ملاحق، الأول عن «الفلسفة الشرقية» والثاني عن «المسيحية الشرقية». وكأن المسيحية الشرقية نفسها لم تسلم من استبعادها من المسيحية الغربية ككِيان غريب مستقل عن الشرق.٣٠

وهناك مصدران غير معلن عنهما للوعي الأوروبي، وإن كان البعض يتحدث عنهما في صمت وعن استحياء، وهما: المصدر الشرقي القديم، والبيئة الأوروبية نفسها. الأول: يضم حضارات الصين والهند وفارس وحضارات ما بين النهرين (بابل وآشور وأكاد) والشام (بلاد كنعان)، وتشمل المصدر الأفريقي كله، ويضم المصدر الإسلامي الذي ظهر في الفلسفة المدرسية في العصر الوسيط المتأخر. والثاني: البيئة الأوروبية نفسها وتتضمن الديانات الوثنية التي عاشت فيها أوروبا قبل انتشار المسيحية ابتداءً من القرن الثاني الميلادي، والأساطير والعادات والأعراف وأمزجة الشعوب وبيئتها الجغرافية كامتداد غربي لآسيا، وامتداد شمالي لأفريقيا، وموقعها التاريخي، المصب النهائي لانتقالات الحضارات ومسارها من الشرق إلى الغرب.

(أ) المصدر الشرقي القديم

وطبيعي أن تكون حضارات الشرق القديم أحد مصادر الوعي الأوروبي؛ نظرًا لأن أوروبا هي الامتداد الغربي لآسيا جغرافيًّا، وتاريخيًّا، وحضاريًّا. فاللغات الهندية الأوروبية نابعة من أواسط آسيا. واللغة ليست مجرد أداة للتعبير، بل تحمل في طياتها الفكر وتصورات العالم وقيم السلوك. وقد دخلت من قبلُ ديانات الشرق في الدين الروماني حيث كان الشرق في ذلك الوقت مهد الحضارة في السياسة، والاجتماع، والاقتصاد، والدين، والقانون، والعلم، والآداب، والفنون، والصناعة، والتاريخ، والفلسفة. وقد انتشرت الديانات الشرقية الجامعة لكل الإبداعات الشرقية طبقًا لمسار رُوح التاريخ من الشرق إلى الغرب والتي كان منها الحروب حتى تنتقل الرُّوح بين الفرس والروم ثم تصمد في الرُّوح حتى تنتقل الرُّوح من الفرس إلى العرب ثم من العرب إلى الروم.٣١ كما استهوت الديانات الشرقية بعض حكماء الروم وفلاسفتهم فتحولوا كأفراد إلى أخلاق الشرق القديم التي تستهوي الحواس والعقول والقلوب، والتي كانت المسيحية إحدى صياغاتها، في وقتٍ كانت الديانات الرومانية تسودها رُوح الشك وتتمثلها قوى الإمبراطورية الرومانية بعيدًا عن تطهر الأرواح وخلود النفس. وفي آسيا الصغرى ظهر دين سيبيل Cybele في روما. كما تبنت روما الإلهة مابيللونا Ma-bellona. وانتشر الدين الفريجي Phrygion، وظهرت طقوسه وشعائره في أعياد الربيع. كما ظهرت عِشتار التي ذهبت إلى العالم الآخر ثم عادت في أساطير الخصوبة عند اليونان والرومان. كما وصلت إلى روما مع الجنود ديانات مين Mén، سابازيوس Sabazius، أناهيتا Anahita، ومعها وصلت اليهودية والمسيحية. ومن فارس ظهر في الغرب أثر المَزدَكية والساسانيين ودين مِثرا وأسراره الذي كان أحد أنماط ولادة المسيح وأحد مصادر الثنائية الغنوصية في المسيحية الأولى. ومن سوريا الكبرى انتشرت لدى الرومان آلهة الشام التي حملها العبيد والتجار والجنود السوريون معهم إلى روما. ووفدت طقوس التنبؤ للمستقبل والسحر إلى روما من بابل. وانتشرت عبادة الشمس والكواكب، دين الصابئة القديم وكذلك ديانات الحيوانات المقدسة، وآلهة بعل، والتضحيات البشرية، وتأسيس نظم الرهبنة ثم الانقلاب عليها في ديانات الخلاص والتصوف والإشراق. كما استطاعت ديانات الشام الوصول في العقائد إلى تصورات التوحيد والتنزيه وصفات القدرة والعلم، وهي التي ظهرت فيما بعد في الجزيرة العربية كما صاغها التوحيد الإسلامي.٣٢
وفي مصر تأسس دين سيرابيس Serapis. ثم انتقل الدين المصري إلى اليونان وتمت صياغته من جديد صياغة يونانية، وانتشر في روما، وبالرغم من اضطهاد أنصاره إلا أنه ذاع في عصر كاليجولا، وانتشرت نظرياته في التاريخ وتصوراته للتطور، والتي أثرت في مراحل فيكو الثلاثة فيما بعد: الآلهة، والأبطال، والبشر. ومارس الرومان شعائر المصريين وطقوسهم وأعيادهم، وذاعت عقيدة خلود الرُّوح والعالم الآخر كي تفتح بعدًا جديدًا في الوعي الروماني الآني المتجه نحو هذا العالم.
والفلسفة اليونانية نفسها لم تكن مقطوعة الصلة عما يدور في آسيا الصغرى التي كانت بدورها على اتصال جغرافي وتاريخي من ناحية الشرق بحضارات ما بين النهرين وبالديانات الشرقية، خاصة في فارس. ذاعت أسطورة إيزيس وأوزوريس وست وحورس في الأساطير اليونانية. وتأثرت النِّحلة الأُورفية بمصادر صوفية شرقية وديانات باطنية إشراقية من فارس، خاصة الزَّرادُشتية، ومن بابل، خاصة الاتجاهات الأخلاقية والأخروية، ودورة الحياة والموت. وامتد الأمر أيضًا إلى الفلسفة. فكان فيثاغورس على اطلاع برياضيات الشرق وتصوفه. ودرس أفلاطون في جامعة منف ما يقرب من خمسة عشر عامًا. وقد تكون نظرية المُثُل الشهيرة لديه هي نقل من نظرية الفن المصري القديم من مستوى الرسم إلى مستوى الفكر، ومن الصورة المرئية إلى الصورة الذهنية. فالفنان المصري القديم لا يرسم إلا المثال الذي تتحد فيه الأنواع والأجناس، ولا يرسم الأفراد. إن كل الجوانب الإشراقية الصوفية في الفلسفة اليونانية إنما هي امتداد لحضارات الشرق، بما في ذلك باطنية سقراط وتأملات طاليس والطبائعيين الأوائل في نشأة الكون والحياة. كما انتقل علم الفلك كله من بابل إلى اليونان، وكذلك السحر والعِرافة. وفي الهند تم تأسيس علم الحساب وكأن فيثاغورس وطاليس لم يكونا على اتصال بالنِّحلات الشرقية. ووضع نيايا Nyaya المنطق الصوري من خلال تأسيسه للمنطق البوذي.٣٣
وكما كان المصدر الشرقي القديم وراء المصدر اليوناني الروماني فإنه يوجد أيضًا وراء المصدر اليهودي المسيحي. فالتوراة إن هي إلا مجموع أدبيات لها مثيلها في بابل وآشور وأكاد وكنعان. فقد استمدت كثيرٌ من الأساطير العبرانية القديمة أصولها من أساطير ما بين النهرين. وبعد غزو فلسطين بقيادة يوشع أخذ النصف الثاني من أساطيرهم من كنعان. وبالتالي تكونت أساطير الفيضان والخلق. وقد تمت مقارنات عديدة بين ملحمة جلجامش وسفر التكوين لبيان كيفية تكوين الثاني على نمط الأول، وبالتالي ضمَّ العهد القديم إرثًا شرقيًّا من كنعان وبلاد ما بين النهرين ومصر، في عصر تدوينه، أكثر مما ضم من تراث أنبياء بني إسرائيل الذي اختلط بالحضارات الشرقية في عصر الرواية الشِّفاهية.٣٤
وفي الأناجيل، أول من بشر بميلاد المسيح هم ثلاثة مجوس من الشرق رأوا النجم ساطعًا في السماء. وكانت فلسطين ذاتها ملتقًى لحضارات الشرق وكنعان. وطريقة ميلاد المسيح في الأدب الشعبي، طفل في سلة بجوار بقرة هي طريقة ميلاد الإله مترا في الدين الفارسي. نشأت المسيحية إذن في بيئة تعرف الزَّرادُشتية والصراع بين أرموزدا إله الخير وأهرمان إله الشر، والمخلِّص مترا الذي ساعد أرموزدا ضد أهرمان. واستمر الأثر الشرقي في الأناجيل، من الغنوصية، والنِّحل الصوفية في آسيا الصغرى كما وضح ذلك في الإنجيل الرابع وفي الأناجيل التي لم تعترف بها الكنيسة في عصر التقنين واعتبرتها منحولة. وقد وضح ذلك في جماعة «قمران» ونصوص نجْع حمادي، وتوراة الإسينيين، وإنجيل الرُّوح، وثنائية الخير والشر، الرُّوح والمادة، النفس والبدن، الدنيا والآخرة.٣٥
واستمرت الفلسفة المسيحية في الشرق، الفلسفة البيزنطية التي اعتبرتها المسيحية الغربية انحرافًا عنها، والتي حملت لواء الأفلاطونية والمسيحية الإشراقية والتراث اليوناني قبل أن يتحول إلى مادية رومانية. عرَفت الذاتية والعَلاقات الشخصية بين الإنسان والله، وأهمية الأخلاق العملية ضد المسيحية الرومانية ونزعتها التاريخية الكنيسية العقائدية. وأصبحت الأُرثوذكسية إحدى مصادر البروتِستانتية فيما بعد. وخرجت الرهبنة من صحراء مصر الغربية، أسسها القديس أنطونيوس في القرن الرابع الميلادي، وبالتالي أصبح الشرق في قلب الغرب.٣٦
ويتضمن المصدر الشرقي آسيا وأفريقيا معًا، حيث ترتبط القارتان في شبه جزيرة سيناء، أي في مصر، وهي المنطقة التي تحطمت عليها الإمبراطوريتان الكبيرتان في ذلك الوقت الفرس والروم. وكان مركز الحضارات القديمة بيزنطة في آسيا والإسكندرية في أفريقيا. فقد نشأ بروقلس Proclus في القسطنطينية ومات في أثينا، ولكن أصله في الشرق. وعاش يامبليخوس في سوريا (٣٣٠م)، وتوحد ذلك كله في الأفلاطونية المحدثة: أفلوطين، فورفوريوس، يوحنا الدمشقي … إلخ. وكان الدين الأفلاطوني الحديث وريث الدين الشرقي في مقابل المسيحية كدين وفلسفة ومناهضًا لها: تأليه الكواكب، قدم العالم، الإيمان بالسحر، الاعتقاد بأن الأرواح إلهية وبعودتها إلى الآلهة، عبادة الشمس، أسرار ميترا. بل ألَّف بروقلس نشيد الشمس. ويُعزَى إلى يامبليخوس «أسرار المصريين». وخرجت المجموعة الهِرمسية يتحد فيها الإله هِرمس اليوناني مع الإله تحُوت المصري، والذي جعله المسلمون النبي إدريس، تلخص العقائد الرئيسية في الأفلاطونية المحدثة، وتكشف عن مدى حضور المصدر الشرقي القديم في الوعي الأوروبي من خلال الأفلاطونية المحدثة.٣٧

وفي مصر نشأت مدرسة الإسكندرية التي تُلحَق باستمرار بالفلسفة اليونانية، وكأنها امتداد لليونان في مصر (من المركز إلى المحيط) وليست امتدادًا لمصر في اليونان (من المحيط إلى المركز)، وكأن فيلون وأفلوطين وأمونيوس سَكاس وهيباثيا وكلمنت وآريوس أقرب إلى أثينا منهم إلى الإسكندرية وأسيوط. وتضع المدرسة قواعد التأويل الرمزي للنصوص الدينية في اليهودية والمسيحية تحت أثر التأويل الباطني الشرقي والبحث عن معاني النصوص في أعماق النفس البشرية. وهي مدرسة شرقية بالأصالة تأكدت بعد ذلك في التراث الإسلامي عند إخوان الصفا وفي الفلسفة الإشراقية عند الفارابي وابن سينا وفي التراث الصوفي كله.

كما نشأت مدرسة وطنية في شمال أفريقيا تميز بين المسيحية والإمبراطورية الرومانية، بين أفريقيا الشمالية وأوروبا الجنوبية. ظهر ذلك عند الدوناتيين الذين رفضوا الاستسلام للإمبراطورية الرومانية بالرغم من قبولهم المسيحية، فالدين لم ينتصر بعد، والشهداء دمهم لم يجف. ووضعوا كنيسة الشهداء في مقابل كنيسة الإمبراطورية التي ما هي إلا روما القيصرية باسم الدين الجديد. عارضهم أوغسطين باسم السلطة المركزية، تأكيدًا لسيطرة المركز على الأطراف.٣٨
ولا يكاد يُذكر إلا على استحياءٍ المصدرُ الإسلامي، خاصة بعد حركات التحرر الوطني في أفريقيا وآسيا ورد الاعتبار وجوديًّا وحياتيًّا لهذه الشعوب، وبداية كتابة تاريخ العلم واكتشاف المصادر الشرقية، خاصة الإسلامية، للعلم الأوروبي. وإنشاء معاهد خاصة لتاريخ العلوم ومقررات خاصة لتاريخ العلوم عند العرب. لا يكاد يذكر أحدٌ المصدر الإسلامي قبل النهضة الحديثة. كان يستحيل ذلك في عصر الحروب الصليبية والهجمة الاستعمارية الأولى على العالم الإسلامي قبل «الاستكشافات» الجغرافية، الهجمة الثانية، والاستعمار الحديث، الهجمة الثالثة. وكان يُنظر إلى الإسلام على أنه خارج الوعي الأوروبي، أقرب إلى الشرق منه إلى الغرب، مع أنه انتشر في الغرب قدر انتشاره في الشرق، انتشر في ربوع أوروبا، في الأندلس، وجنوب فرنسا، وجنوب إيطاليا وصقلية وكريت واليونان وقبرص وأوروبا الشرقية. كما أن فتح المسلمين للأندلس وسيطرتهم على جزر البحر الأبيض وجنوب أوروبا جعل أوروبا تنظر إلى الإسلام باعتباره عدُوًّا؛ فيسمى المسلمون إما «المور» Maures أو «السرسان» Sarrassins أو «المحمديون» Mohametans. بل إن الإسلام نفسه قد اعتُبر تحويرًا على اليهودية والمسيحية وتنويعًا عليهما وليس دينًا مستقلًّا، مجرد خليط من كتابات منحولة لصالح العرب. أما النهضة الأوروبية الحديثة فهي ابنة العقل الأوروبي، وتعبير عن عبقرية خاصة، ليس لها مصدر خارج عنها. بل إنها لم تنشأ إلا بعد تخلصها من تشويهات الشروح العربية للفلسفة اليونانية والاتجاه إلى اليونان مباشرة دون وساطة الشراح العرب.٣٩

كانت الحضارة الإسلامية بعد ترجمة علومها، خاصة الفلسفة والكلام والعلوم الطبيعية والرياضية، أحد روافد النهضة الأوروبية الحديثة. وقد استطاعت قبلها التأثير على رؤية العصور الوسطى للصلة بين الإيمان والعقل. فبعد أن كان الإيمان يتجاوز حدود العقل، وكان سرًّا لا يستطيع العقل الوصول إليه أو إدراكه أصبح الإيمان هو العقل والعقل هو الإيمان. وكان المسلم هو نموذج الفيلسوف في مقابل اليهودي والنصراني كما فعل ذلك أبيلار في كتابه المشهور «حوار بين يهودي ونصراني وفيلسوف». كما استطاعت الترجمات أن تعطي نموذجًا جديدًا بالنسبة لصلة الفضل الإلهي بالطبيعة، فبعد أن كانت العصور الوسطى ترى أن الفضل الإلهي يخرق قوانين الطبيعة ويتدخل في مسارها، استطاعت هذه الترجمات عن المعتزلة والفلسفة أن تعطي نموذجًا جديدًا هو اتفاق العلم الإلهي والإرادة الإلهية مع قوانين الطبيعة، وأنه من الحكمة الإلهية أن نعيش في عالم يحكمه القانون دون أن يقلل ذلك من تصورنا للإرادة الإلهية. وبالتالي أعطت الفلسفة الإسلامية للعصور الوسطى المتأخرة نموذج اتفاق الوحي والعقل والطبيعة في مقابل النموذج المسيحي الذي يجعل الإيمان يفوق العقل، ويجعل الطبيعة تتجاوز قوانين العقل. واستمر النموذج الإسلامي قائمًا فيما يسمى «بالرشدية اللاتينية» حتى القرن السابع عشر الميلادي حين ازدهرت العقلانية الأوروبية واستقلت بنفسها عن عقلانية المسلمين.

وفي العصر الحديث، كان من الطبيعي ألا يبحث الوعي الأوروبي عن مصادره السابقة على المصدر اليوناني إبان المد الاستعماري عندما وصل الانتشار الأوروبي خارج حدود أوروبا إلى أقصى حد ممكن. وكيف تكون البلاد المستعمَرة في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية مصدرًا لثقافة المستعمر وحضارته؟ إن حجة الاستعمار هي أنه يقوم بعملية تحضر وتمدن للبلاد المستعمرة. وبالتالي لا بد أن تكون خاوية بالضرورة، لا ثقافة لها ولا علم ولا حضارة ولا تاريخ. بل إن تاريخها يبدأ منذ استعمارها. والاستعمار هو الذي ينقلها من مرحلة ما قبل التاريخ إلى مرحلة التاريخ، من الظلمة إلى النور، ومن العدم إلى الوجود. ألا يكفيها أنه اكتشفها؟

إن أحد أسباب مؤامرة الصمت على المصادر غير المعلنة هو العنصرية الدفينة في الوعي الأوروبي التي جعلته لا يعترف إلا بذاته، وينكر وجود كل غيرٍ له. فهو مركز العالم، احتل صدارته، وأصبحت له مركز الريادة فيه. وقد ظهرت العنصرية صريحة كإحدى أيديولوجياته في القرن الماضي إما بمفردها أو كأحد العناصر المكونة لأيديولوجيات أخرى مثل النازية والفاشيَّة والصهيونية والقومية. بل إن المد الاستعماري كله قائم على العنصرية كأحد مكوناته الثقافية مع الرأسمالية. ولا يختلف في ذلك الجناح الشرقي للغرب عن الجناح الغربي فيه. الخلاف في الدرجة وليس في النوع، صراحة أو ضمنًا. وقد ظهرت صورة الشرق في ذهن الغرب الاستعماري في فلسفة التاريخ منذ القرن الثامن عشر، ولم تتغير إلا بعد حركات التحرر الوطني عندما أثبتت شعوب الشرق أنها جديرة بالحرية والاستقلال. يبدو الشرق وكأنه موطن السحر والخرافة، ومكان ألف ليلة وليلة، وعلاء الدين والمصباح السحري، وأغاني شهرزاد وقصصها. الشرق يمثل الإنسانية في طفولتها الأولى قبل أن تشِبَّ وتكبر وتنضَج وتصل إلى مرحلة الرجولة في الغرب. الشرق يمثل عصر الآلهة، واليونان عصر الأبطال، والغرب عصر الإنسان (فيكو). الشرق يمثل عصر الدين، واليونان عصر الميتافيزيقا، والغرب عصر العلم (أوجست كومت). الشرق يمثل الرُّوح المجرد، واليونان المثالية الفردية، والغرب الرُّوح المطلق (هيجل) الشرق يمثل الأخلاق والدين العملي، واليونان النظر المجرد، والغرب الذاتية الترنسندنتالية (هُوسِرل).٤٠
ومع ذلك فقد استطاعت مجموعة من الباحثين رد الاعتبار إلى الشرق القديم كاشفين عن مصادر الوعي الأوروبي في الصين (نيدهام)، والهند (ناكامورا) والإسلام (جارودي) وفي كل الشرق القديم (توينبي). واستطاع آخرون الكشف عن زحزحة الشرق كمصدر للغرب في الاستشراق الغربي منذ القرن الثامن عشر، ووضع المصدر اليوناني بديلًا عن المصدر الشرقي إبان تجوهر العنصرية الغربية كمد استعماري خارج حدود الغرب بالرغم من سيادة فلسفة التنوير داخل حدود الغرب.٤١ وبدأت الأدبيات تتكاثر حول «المركزية الأوروبية» كمشاريع نقدية داخل الغرب أو كمشاريع نهضوية خارج الغرب، مثل هذه المقدمة في «علم الاستغراب».

(ب) البيئة الأوروبية نفسها

وهو أيضًا مصدر غير معلن ومسكوت عنه لا يكاد يتحدث عنه أحد مع أنه نقطة البداية في كل دراسة على التراث الغربي. وتعني البيئة الأوروبية: الموقع الجغرافي، الظروف التاريخية، عادات الشعوب والقبائل التي سكنت أوروبا، أساطيرها ودياناتها السابقة على انتشار المسيحية، طبيعة المعطَى الديني الذي تمثلته بعد انتشار المسيحية، قوة الطرد أو الجذب الناشئة من التفاعل بين هذه الظروف والملابسات التاريخية وبين التراث الأوروبي، أو بين الأبنية النفسية والمزاجية للشعوب والمعطَى الديني الجديد الذي تمثلته، أيهما ظل في الأعماق وأيهما صار شكلًا؟ كل ذلك جعل الحضارة الأوروبية ذات طبيعة معينة أو خلق ما يسمى بالفكر الأوروبي أو العقلية الأوروبية. ويظهر هذا المصدر المسكوت عنه في النزعة التاريخية التي سادت المناهج الأوروبية نفسها نظرًا للطبيعة التاريخية لتطور الحضارة الأوروبية وبنيتها، تكشف عنهما علوم التاريخ والاجتماع. فلا فكر إلا في موقف، ولا وعي إلا في مجتمع، ولا حضارة إلا في الإيحاء بأسطورة الثقافة العالمية التي تتجاوز حدود الزمان والمكان، والتي يجب على كل شعب أن يتبناها إذا ما أراد التحضر والتمدن والتقدم. فهي حضارة لكل العصور، ونموذج لكل الشعوب. عصرها كل العصور، ومذاهبها كل المذاهب، وتاريخها كل التاريخ. إبداعاتها للتقليد، وتقنياتها للنقل، وكأن علم اجتماع المعرفة أو أنثروبولوجيا الثقافة لا يُطبَّقان إلا على ثقافات الآخرين في الأطراف وليس على ثقافة الأنا الأوروبي في المركز.٤٢
وتتضح البيئة الأوروبية نفسها من استعمال الفلاسفة والمفكرين باستمرارٍ ألفاظًا مثل: فلسفتنا، حضارتنا، عصرنا، ثقافتنا، وعينا، علومنا، فننا، تراثنا، تاريخنا … إلخ. فالفكر الأوروبي ذاته يعترف في كل لحظة من لحظاته بأنه فكرٌ محلي ينتسب إلى قوم، ويعبر عن بيئة، ويتجه نحو هدف. كل ذلك في إطار البيئة الأوروبية نفسها. ونظرًا للانبهار بالغرب والوقوع تحت وهم أنه هو الثقافة العالمية أو ممثلها الأول، أصبح المفكر لا يكون مفكرًا إلا إذا كان طرفًا في الصراع بين مفكريها: ديكارت وبيكون، لَيبنتز ولوك، كانط وهيوم، هيجل وماركس، اسبينوزا وبرجسون، أو بين مذاهبها: المثالية والواقعية، العقلانية والتجريبية، الرأسمالية والاشتراكية، المعيارية والبرجماتية … إلخ. فيدخل فيما لا شأن له به، ويحشر نفسه في معارك ليس طرفًا فيها، ويتحول من المتفرج إلى العامل، ومن الشاهد إلى صاحب القضية، ومن المحايد إلى أحد الخصوم.٤٣
والموقع الجغرافي لأوروبا أحد مكونات البيئة. فأوروبا جغرافيًّا امتداد آسيا الغربي، وكانت الهجرات برًّا من الشرق إلى الغرب. فورثت أوروبا كل حضارات الشرق بطبيعة هذا الاتصال البري الذي جسَّده «طريق الحرير» من الصين إلى الغرب عبر ممر خيبر. مرة يغزو الفرس الروم من الشرق إلى الغرب، ومرة يغزو الروم الفرس من الغرب إلى الشرق. مرة ينشر الإسكندر الثقافة اليونانية من الغرب إلى الشرق، من اليونان حتى الهند، ومرة ينشر الحواريون، بولس وبطرس، المسيحية من الشرق إلى الغرب، من الشام إلى عاصمة الإمبراطورية الرومانية. وقد ظل الأمر كذلك حتى العصر الحاضر، بانطلاق الجيوش النازية من الغرب إلى الشرق، من ألمانيا إلى روسيا، ثم امتداد الشرق في الغرب بعد الحرب الأوروبية الثانية، وانتقال الماركسية من الشرق إلى الغرب فيما يسمى بأوروبا الشرقية. وفي نفس الوقت أوروبا هي الامتداد الشمالي لأفريقيا، وبالتالي كانت الهجرات من الشمال إلى جنوب، من اليونان إلى مصر طلبًا للعلم، أو من الجنوب إلى الشمال، من قَرطاجنة إلى روما غزوًا (هانيبال) أو تأثيرًا في العقائد (أوغسطين). وقد ظل الأمر كذلك حتى العصر الحاضر واحتلال إيطاليا ليبيا والحبشة، وفرنسا الجزائر وتونس والمغرب وسوريا ولبنان، وإنجلترا مصر واليمن والعراق، وألمانيا جابون، وبلجيكا الكونجو، حتى انقسمت أفريقيا إلى: أفريقيا الفرنسية (الفرانكوفونية) وأفريقيا الإنجليزية (الأنجلوفونية). كما انقسم العالم العربي والعالم الإسلامي نفس القسمة مع انضمام هولندا في إندونيسيا وإسبانيا في الفلبين. وامتدت أوروبا إلى أقصى الجنوب في جنوب أفريقيا وخلقت النظام العنصري هناك، كما امتدت إلى الشرق في فلسطين وخلقت نظامًا عنصريًّا ثانيًا هناك. فإذا كان اتصال الغرب بالشرق قد تم برًّا فإنه أيضًا قد تم بحرًا عن طريق البحر الأبيض المتوسط، أو عن طريق الالتفاف حول السواحل الأفريقية جنوبًا إلى سواحل آسيا، وكان «الرجاء الصالح» للغرب «واليأس الطالح» للشرق، أفريقيا وآسيا. فبعد أن كان الشرق الأوسط مركزًا لحضارات العالم، ومصر في وسطه ممتدة شرقًا إلى بابل وآشور، وشمالًا إلى الشام وفينيقيا، وجنوبًا إلى النوبة والسودان، وغربًا إلى بلاد الحيثيين ولوبيا، أخذ الغرب مركزها نظرًا لقربه الجغرافي منها، وجعلها أحد أطرافه، وامتد على أطرافها وجعلها أطرافه. وانتقل العالم كله من طورين: الأول عندما كانت مصر تحكم العالم القديم، عصر فجر الضمير، والثاني عصر الاستعمار عندما سيطرت أوروبا على الحديث. كانت مصر في الطور الأول للإنسانية تعطي علمًا وتؤسس حضارة، وكانت أوروبا في الطور الثاني لها تنهب الثروة وتسرق الشعوب.٤٤
وربما دفع الجو البارد في الشمال الوعي الأوروبي إلى العزلة والتأمل بجوار المدفئة والعكوف على الذات، والاتجاه نحو الباطن. ولقد حاول ابن خلدون من قبلُ الربط بين فكر الشمال وبرودته وحرارة الجنوب وحياته، بين تصورات الشمال وقوالبه الجامدة، ورقص الجنوب وإيقاعاته الحية.٤٥

وفي نفس الوقت، أدى شظف العيش، ونقص المواد الأولية، وبرد الشمال ودفئ الجنوب، وحوْط القارة بالبحار من الشمال والغرب والجنوب، إلى دفع الشعوب الأوروبية إلى الانتشار والحركة والغزو. كانت قبائل التيوتن في غزو مستمر من الشمال إلى الجنوب، فإذا ما ضاقت الأرض ذرعًا تم غزو البحار والانتقال غربًا إلى المحيط كما فعل الفيكنج سكان الشمال في ركوب المحيط. وزاد حس المغامرة، وانتشرت القرصنة في المحيطات. واستمر ذلك بالرغم من انتشار المسيحية التي جعلها البعض مسئولة عن ضياع الإمبراطورية الرومانية أمام الفَندال نظرًا لتعارض قيم التسامح والعفو من قيم الغزو والعدوان. واستمر ذلك حتى الاستعمار الحديث تأكيدًا للطبع والمزاج الأوروبي القديم.

وكانت ديانات القبائل أقرب إلى أساطير الغزو والحرب بعيدة عن المبادئ الأخلاقية. وظلت هذه الأساطير والديانات الشعبية مؤثرة في الوعي الأوروبي حتى بعد انتشار المسيحية. وأصبحت أحد عناصر الإلهام في الفكر والأدب والفن كما هو الحال عند فاجنر في «المغنون العظام»، «المركب الشبح»، «تانهويزر»، «لوهنجرين»، «خاتم نبلونج»، «تريستان وإيزولدا»، «بارسيفال» … إلخ.

وقد تصور الوعي الأوروبي بدايته على أنه كان أقرب إلى مملكة الحيوان اعتمادًا على نظرية التطور. فالإنسان أرقى أنواع الحيوان، يعيش على الطبيعة، ويعتمد على القوة العضلية، ويخترع السحر والدين من أجل السيطرة على ما يعجز عن فهمه أو توجيهه طبقًا لرغباته. ويتطور العقل طبقًا لتطور الحاجات، المحافظة على المياه، الصراع من أجل البقاء. ربط بين الحضارة والعرق، فالأجناس البشرية هي التي تحدد نوعية الحضارات الإنسانية. لم يعرف الإنسان الأوروبي الكتابة. ولم يكن قد اخترع الأبجدية بعد، والتي أتته من الشرق. كان يعيش في القرى والكهوف منعزلًا عن غيره. لا يعرف إلا نظام القرابة الدموي. وهو عدواني ضد الغريب، متمركز حول ذاته، يتمايز بالجنس والعرق والدم. له رغبة في القيادة والزعامة. يستحوذ على الممتلكات ويبررها باسم الديانات، ويضع لها القوانين والمؤسسات.٤٦
وقد أدى الموقع الجغرافي وطبيعة السكان ونوع الديانات والأساطير إلى تكوين خاص لمزاج الشعوب الأوروبية. أصبح المزاج الأوروبي حسيًّا، لا يرى العالم إلا مادة، ولا يقوى على المجردات. مقاييس السلوك لديه اللذة والألم، المنفعة والضرر، وليست معايير خلقية ثابتة ومبادئ عقلية عامة. لا يعرف الحرمات أو الموانع، بل أقرب إلى الدوافع والغرائز والتلقائية الطبيعية. يفسر العالم بالأساطير والخرافة بتعدد القوى والشياطين دون القدرة على إدراك مبدأ واحد عام، أصل الطبيعة ومنشأ الكون، يوحد الشعوب، وينسق بين المصالح، ويسيطر على الأهواء. الحرب عَلاقة طبيعية بين القبائل، والغلبة للأقوى. الغاية التوسع والسيطرة على أكبر مساحة من الأرض وأكبر قدر من الثروات. كل شيء متغير، ولا وجود لشيء ثابت، لا ماضي ولا مستقبل، لا تاريخ ولا رؤية، إنما الحاضر المعيش واللحظة الراهنة. نشأت العنصرية كعامل موجه للمزاج الأوروبي من الأنانيَّة والفردية والغرور. وأصبحت كل قبيلة هي التي لها حق الحياة والقبائل الأخرى مجرد فريسة وضحية، مصيرها الموت والفناء.٤٧
لذلك كان المزاج الأوروبي أقرب إلى طبيعة الرومان الحسية منه إلى فلسفة اليونان العقلية، وأقرب إلى الوثنية الطبيعية، دين القبائل الجرمانية والسلفية، منه إلى رومانية المسيحية. أصبح من ضمن مكونات البيئة نفسها مزاج الشعوب التي وُجدت في أوروبا وطبيعة القبائل الغازية التي تصارعت فيها، والموروث التاريخي الوثني. وبالرغم من بداية المشروع الأوروبي النظري في العصور الحديثة بمثالية ذاتية، تُعطَى الأولوية فيها للمثال على الواقع، وتعطي الأولوية للذات على الموضوع إلا أن المستوى الخلقي العملي ظل رومانيًّا يقوم على القوة والغزو، وجرمانيًّا توتونيًّا يقوم على الصراع بين القبائل، ووثنيًّا يقوم على الاعتراف بالمادة وبتعدد الأوثان. لذلك ارتبطت الفلسفة الأوروبية بأمزجة الشعوب الأوروبية. إذ لا يمكن الفصل بين الفلسفة الألمانية والطبيعة الألمانية ومزاج الشعب الألماني: حب الطبيعة، النظام، الإحساس بالواجب، العمل، رُوح الجماعة … إلخ. كما لا يمكن الفصل بين الفكر الأنجلوسكسوني وطبيعة الشعب في الجزر البريطانية: الحس والتجرِبة، والعادات والتقاليد، والحالات السابقة، والأعراف كبديل عن القوانين … إلخ. ولا يمكن الفصل بين الفلسفة الفرنسية ومزاج الشعب الفرنسي: الحس، والجهد، وتذوق الجمال، والتأمل، وتحليل التجارِب الحية، والبداية من الجزء إلى الكل. لذلك ظهر علم نفس الشعوب La Psychologie des peuples يحاول وصف السمات العامة لكل شعب، وكيف أمكنه التعبير عنها في الفلسفة والأدب والفن والدين.٤٨
وإن من أهم مكونات البيئة الأوروبية نفسها هو نوعية المعطَى الديني الذي تَمثله الوعي الأوروبي، وهو المعطَى اليهودي المسيحي الذي أثار الوعي بعد أن استعصى الوعي على تمثله، ورفضه وعاد إلى وثنيته ورومانيته، أي إلى طبيعته الأولى. وظل الوعي الأوروبي نافرًا من كل معطًى مسبق، ورافضًا لكل دين بعد أن بان له زيفه التاريخي وتهافته العقلي، وصدامه مع التجرِبة والطبيعة. قبِل الوعي الأوروبي من الدين ما يتفق مع طبيعته ورفض ما لا يتفق مع طبيعته، ولكن الرفض كان أكثر من القبول. قبِل عقيدة الاختيار اليهودية لأنها تتفق مع عنصريته وأنانيَّته وتمركزه حول الذات، مما دفعه فيما بعد إلى تشريع الاستعمار والصهيونية. ورفَض الرُّوحانية الغالية الداعية إلى الرهبنة وإلى التسامح والمغفرة، وغسل أقدام التلاميذ، ولطم الخد الأيسر والأيمن دون مقاومة، وأن ملكوت السموات ليس في هذا العالم، وأن الداخل له الأولوية على الخارج، وأن الرُّوح لها سلطانها على البدن. وأحدث رد الفعل المضاد في التكالب على العالم، والانتقام والغرور، والعدوان، والغزو والسيطرة، وإنكار كل المفارقات، فملكوت السماوات في هذه الأرض، والخارج له الأولوية على الداخل. ولا يكاد يذكر أحدٌ طبيعة السلطة الدينية التي نشأت في الغرب واعتبار أن للوحي مصدرين، الكتاب والتراث، الوحي والكنيسة، مما تسبب في نشأة السلطة الدينية واحتكارها للتفسير والعلم وسيطرتها على السلطة السياسية. وقد أحدث هذا رد فعل مضاد لصالح العلم والعقل والسلطة المدنية. فنشأ الوعي الأوروبي معاديًا للسلطة الدينية، داعيًا إلى العلمانية، معاديًا للدين باسم العلم والعقل والمدنية. كان للصراع بين الدين والدولة أو بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، كما لاحظ اسبينوزا، أثر كبير في اتجاه المفكرين بالنسبة للدين ولطبيعة عَلاقته بالدولة. أصبح الفصل بينهما يمثل تقدمًا كبيرًا من أجل صالح البشرية. مع أنه في حضارة أخرى قد يكون انحسار الدين عن الحياة سببًا في التخلف إذا كانت وظيفة الدين أساسًا هي توجيه الواقع. وقد تكون طبيعة الدين الذي انتشر في أوروبا جعلت المفكرين يتصورون الدين على أنه بالضرورة غيبيات أو عقائد أو أسرار أو يند عن العقل أو يحتاج إلى سلطة أو يمارَس في طقوس، وكما هو الحال في تعريفات الدين المنتشرة في قواميس تاريخ الأديان، والتي يتم ذيوعها من المركز إلى الأطراف. مع أن الدين قد يكون في حضارة أخرى قائمًا على العقل، بلا عقائد أو غيبيات أو أسرار، لا يحتاج إلى سلطة، ولا يمارَس في طقوس، ويكون أساسًا تحديدًا للعَلاقات الاجتماعية، ونظام مجتمع، وبناء دولة. قد يكون الدين أقرب إلى ما سماه الوعي الأوروبي في العصور الحديثة: الأيديولوجية أو المذاهب السياسية.٤٩
وقد يكون نفور الوعي الأوروبي في العصور الحديثة من كل المسلَّمات السابقة، وابتداء الفكر وصياغاته من الواقع نفسه فضلًا عن اكتشاف أن هذه المسلَّمات السابقة إن هي إلا نتاج تاريخي محض، قد يكون ذلك نتيجة اكتشاف أن كل مسلَّمة ظنَّ سلفًا أنها مسبقة إن هي إلا ناشئة عن التاريخ، وأن كل استنباط هو استقراء، وكل مقدمة هي نتيجة، وبتعبير القدماء: كل «تنزيل» هو «تأويل». وانتهى الوعي الأوروبي نتيجة تجرِبته الخاصة إلى أن الفكر صدًى للواقع، وأنه لا توجد علوم قبْلية ولا مسلَّمات قبل التجرِبة. في حين أنه في حضارة أخرى قد تكون المسلَّمات السابقة غير صادرة عن التاريخ وفي نفس الوقت مطابقة للواقع. كما قد يكون الفكر النظري سابقًا على الواقع وإن كان ناشئًا منه على سبيل التجريب والتعليم (أسباب النزول، الناسخ والمنسوخ). وبالتالي تكون كل المناهج التاريخية والتحليلية ومناهج الأثر والتأثر الصادرة عن البيئة الأوروبية غير منتجة إذا ما طُبقت في حضارات أخرى لم تمر بنفس الظروف التي مرت بها الحضارات الأوروبية.٥٠
مثال آخر يمكن أن نجده في الفكر السياسي الأوروبي. فقد نشأت القوميات في أوروبا باعتبارها حركات للاستقلال الوطني منذ السيطرة الرومانية أو الجرمانية أو الأنجلوسكسونية. كانت القوميات تمثل تقدمًا بالنسبة للسيطرة التي كانت تمثل التخلف. في حين أن نشأة القوميات في حضارات أخرى مثلًا في تاريخنا القديم المعروفة بالشعوبية قد تكون من أكبر الأخطار على شمول الفكر وموضوعيته وعمومية المبادئ. كما أنها تمثل خطرًا على فكرنا الحالي إذا اعتبرنا نضالنا على أساس عنصري وليس كجزء من حركة التحرر العالمي. وما المعيار إذا ما نشِب الخلاف بين القوميات ونشِبت الحروب بينها؟ ويمكن إعطاء أمثلة أخرى عديدة تبين أن البيئة الأوروبية كمصدر غير معلن كانت الأرضية التي تفاعل عليها المصدران المعلنان.٥١
أما هُوسِرل الذي حاول وصف تطور الوعي الأوروبي وبنيته فإنه لم يذكر هذا المصدر غير المعلن، البيئة الأوروبية نفسها، وكأن الوعي الأوروبي وعي مثالي خالص أو شعور إلهي تتكشف فيه الحقائق، مع أنه يمكن تفسيره بالبيئة الأوروبية ذاتها. فالكوجيتو الديكارتي رفض لإلهيات العصر الوسيط ولكل حقيقة سابقة على البحث. والمذهب التجريبي رفض للعقلية الإمبراطورية الميتافيزيقية المتبقية من رواسب العصر الوسيط وما ورثتها من عقلانية العصور الحديثة. والمذهب العقلي رفض للتشبيه والتجسيم الذي طبع العقلية الأوروبية منذ مزاجها الروماني وطبيعتها الوثنية. مع أن هُوسِرل نفسه على وعي تام بأن الحضارة الأوروبية من خلق الأوروبيين أنفسهم بكثرة تذكيره بحضارتنا، وفلسفتنا، ومنطقنا، ووعينا، وأنها ليست من صنع الله، ولكنه غلَّب الوعي الأوروبي كمعطًى مثالي على الوعي الأوروبي كمعطًى تاريخي.٥٢

ثانيًا: عقائد الآباء (من القرن الأول حتى القرن السابع)

بعد المصادر المعلنة وغير المعلنة يتكون الوعي الأوروبي من خلال هذه المصادر نفسها ويتخلق في ثلاث مراحل: المصادر التي كونت العصور الوسطى بفترتيها، وعصر آباء الكنيسة من القرن الأول حتى القرن السابع، والعصر المدرسي ابتداءً من القرن الثامن حتى القرن الرابع عشر. وقد سادت فترة المصادر، العصور الوسطى بوجه عام، فلسفة الطبيعة قبل أن تتحول في بداية الوعي الأوروبي إلى فلسفة للرُّوح، والتي تحولت بدورها في نهاية الوعي الأوروبي إلى فلسفة الوجود. وبالتالي يكون الوعي الأوروبي قد مر بثلاث مراحل: فلسفة الطبيعة في المصادر، وفلسفة الرُّوح في البداية، وفلسفة الوجود في النهاية.

والوعي الأوروبي بالرغم من مراحله وحدة واحدة، موضوع مثالي واحد، معطًى فلسفي متجانس لا يمكن أن تُدرَك فيه دلالة الأجزاء إلا في إطار الرؤية الكلية الشاملة. وإذا صعب أخذ موقف من المذهب المنفرد كجزء فإنه يسهل أخذ موقف إذا ما وُضع هذا المذهب المنفرد في إطار المذاهب الأخرى، قبله وبعده، حتى تكتمل الرؤية، ويظهر مسار الوعي الأوروبي وبنيته. فالفلاسفة ليسوا مجرد حبات عِقد منفرط بل هم أنساب وشجرة، لهم خيط يمكن أن يلم حبات العِقد المنفرطة في خيط واحد. هذا الخيط هو ما سماه كاسيرر الدوافع أو البواعث motivations التي تحرك الوعي الأوروبي وتدفعه إلى نسج خيوطه. قد أنسى حبة أو اثنتين ولكن يظل العِقد قائمًا خاصة بحباته الثمينة وجواهره الرئيسية، أي كبريات المذاهب قبل تعريفاتها. فأعلام الفلاسفة يمثلون المقطع الطولي للوعي الأوروبي أي حبات العِقد المنفرط. والمذاهب الفلسفية تمثل المقطع العرضي له، أي الخيط الذي تندرج فيه حبات العِقد ليصبح موضوعًا مرئيًّا. ولا يمثل ذلك أي غرور أو طموح يفوق طاقة البشر. فقد استطاع هيجل أن يفعل نفس الشيء في «ظاهريات الرُّوح» وفي «علم المنطق» ثم طبق ذلك في الفلسفة، والدين، والتاريخ، والجمال. ولماذا يحتكر الفلاسفة الغربيون ميزة كتاب «دائرة المعارف الفلسفية» سواء التي كتبها فلاسفة التنوير في القرن الثامن عشر على طريقة الكتاب الفرنسيين أو التي أعاد كتابتها هيجل على طريقة الميتافيزيقيين الألمان؟ واقتصرت على شجرة الفلاسفة داخل القارة الأوروبية أو امتداداتها خارجها في العالم الثالث، سواء كامتدادات مباشرة أو كتفسيرات للأطراف لإبداعات المركز، خاصة في أمريكا اللاتينية. وجعلت ذلك كله أقرب إلى دليل لطلاب الدراسات العليا حتى يستطيعوا اختيار الموضوعات بأنفسهم دون انتظار اقتراحات المشرفين، ودليلًا للثقافة العامة حتى تنتظم الثقافة الأوروبية في وعينا القومي كوحدة واحدة لها بداية ونهاية حتى يمكن السيطرة عليها بدلًا من أن تكون هي المسيطرة. نشعر أمامها بالقدرة على التعامل معها وليس بالعجز أمامها، نتعامل معها من علٍ، ولا نئن تحت وطأة حملها من أسفل. وبتعبير شعبي أقول: نركبها ولا تركبنا. وقد آن الأوان للإبداع الذاتي بعد أن تراكمت الثقافة الغربية في وعينا على أكثر من مائتي عام منذ فجر النهضة العربية الحديثة.
وقد قمنا بدراسة مباشرة للأصول، أي المصادر، دون الاعتماد على الدراسات الثانوية، أي المراجع، إلا في أقل القليل كتأكيد لنتائجنا الخاصة. ولماذا يحتكر الباحثون الأوروبيون وحدهم وصف تكوين العقل الحديث أو دراسة تاريخ الفلسفة الأوروبية من منظور فلسفي؟٥٣ وقد راعينا الترتيب الزمني حتى يمكن رؤية شجرة الأنساب وهي تنمو. وفي نفس الوقت راعينا وَحدة المذهب حتى لا ينقطع عبر الزمن. فجمعنا بين المقطع الطولي والمقطع العرضي في وصف نشأة الوعي الأوروبي من مصادره المعلنة وغير المعلنة.

(١) استمرار المصدر اليوناني الروماني

بالرغم من ظهور المسيحية كدين جديد وانتشار تعاليم السيد المسيح كدعوة سرية أولًا قبل تحول الإمبراطورية الرومانية، إلا أن ذلك لم يهز الوجدان المسيحي ليبدع فكرًا جديدًا. ربما لأنه كان ما زال مشغولًا بإفراز العقائد وصياغتها، ما زال يعيش الإيمان ويشكله حتى يستطيع بعد ذلك أن يفلسفه وينظره. ولكن الذي استمر في الثقافة هو المصدر اليوناني الروماني الوثني القديم وكأن الدين الجديد لم يظهر بعد، وكأن الدافع على الثقافة الوثنية كان أقوى بكثير من الإيمان الجديد، وهو ما سمي باسم العصر الهلينستي، أي استمرار الفلسفة اليونانية وازدهارها في الأفلاطونية الجديدة بالرغم من انتشار المسيحية، أي غلبة القديم على الجديد، وضعف الجديد أمام القديم.

استمرت الثقافة اليونانية سواء في التاريخ أو في الفلسفة أو في العلم أو في الدين، وظلت حاملة للوعي التاريخي المتراكم حتى ظهور المسيحية والوعي الأخلاقي الذي يجسد خبرة الشعوب.٥٤ وإن ازدهار الوعي التاريخي في العصر الهلينستي إنما يدل على استمرار الثقافة اليونانية بالرغم من ظهور الدين الجديد. كما يدل في نفس الوقت على بداية النهاية بتاريخ الوعي اليوناني لنفسه بعد ظهور المسيحية كبداية جديدة للوعي الإنساني.
ثم حملت الوثنية بالرغم من ظهور المسيحية الوعي العلمي الطبي الذي يجمع بين الطب العلمي والطب العقلي مما أثار إعجاب المسلمين وتعظيمهم له ومفضلينه على الطب العلمي التجريبي الصرف نظرًا لقيام العلوم الطبيعية الإسلامية كأحد مقتضيات العقل وتأسيس الوحي على العقل والطبيعة. وتم الجمع بين المشائية والرواقية لإعادة قراءة الفلسفة الأرسطية من منظور أخلاقي. وحدثت إضافات من المنطق، الشكل الرابع في القياس مما أثار أيضًا إعجاب المسلمين.٥٥
وبالرغم من القطعية التي كان في إمكان الدين الجديد أن يقدمها إلا أن الوعي الوثني حمل لواء الشك والتطهير من العقائد الموروثة القديمة باسم العلم ضد القطعية والقطعيين.٥٦ كما تم تلخيص جميع حجج الشُّكَّاك السابقين وبيان استحالة وجود أي برهان على العقائد اللاهوتية أو الإيمان المسبق أو حتى بعض القيم الأخلاقية أو الحقائق العلمية. بل إنه يمكن مراجعة الفنون الحرة السبعة مراجعة تقنية: المنطق والنحو والبلاغة (الثلاثي)، والحساب والهندسة والفلك والموسيقى (الرباعي). بذلك يمكن تحقيق السلام الداخلي وليس التأسيس المعرفي لعلم جديد أكثر يقينًا. يكفي الإنسان ما تعلمه الطبيعة إياه من عادات وتقاليد وحس مشترك. ويبدو أن هدوء السلام الداخلي هو آخر ما وصل إليه الوعي الوثني في العصر الذي نشأ فيه الدين الجديد لتحقيق نفس الغاية وهو الإيمان الباطني، إلا أن الأول سلام سلبي في عدم الإيمان بأي شيء، والثاني هدوء إيجابي في الإيمان بالدين الجديد والخلاص القريب.
واستمر الوعي الوثني في حمل لواء الثقافة القديمة منذ القرن السادس متمثلًا في الأفلاطونية الجديدة أو مدرسة الإسكندرية في فرعها الوثني وليس في فرعها اليهودي المسيحي (فيلون، كلمنت، أوريجين). وتسمى أيضًا الفيثاغورية الجديدة. وهي مجموع المذاهب التي حاولت الجمع بين الفلسفة العقلية اليونانية والفلسفة الصوفية الشرقية. كانت في غنى عن المسيحية، الدين الجديد، لأنه لم يكن يضيف إليها جديدًا من حيث المعرفة الباطنية والواحد الذي يفيض منه العقل والنفس والمادة. بل كانت أنقى من المسيحية، وأكثر تنزيهًا من التثليث والتجسد، وأكثر اعتمادًا على الخلاص الفردي من الخلاص عن طريق المخلِّص. تُثبت براءة النفس وجمال الطبيعة على خلاف المسيحية التي تثبت الخطيئة الأولى والشر في العالم.٥٧ كانت أيضًا رد فعل على سقوط الإمبراطورية الرومانية، رفع الرُّوح بعد أن سقط البدن، وكما نشأ التصوف الإسلامي كرد فعل على تيار البذخ والترف والتكالب على الدنيا منذ العصر الأموي. اكتشفت أفلاطون الذي يشبع حاجة المهزوم إلى الرُّوح تعويضًا وسلوى. جمعت بين الأفلاطونية والتصوف الشرقي، وقالت بنظرية الفيض المادي من العالم الرُّوحي، وبالمعرفة الإشراقية. عند أفلوطين فاض الكل عن الواحد ثم فاض عنه العقل، وفاضت النفس عن العقل، ثم فاضت المادة عن النفس. والإنسان بين الفيض الثالث والرابع. يدرك الحس المتغيرات وبالتالي فالإدراك متغير. والخيال حس داخلي. ولكن المعرفة العقلية رُوحية خالصة، إلهية علوية. وهناك جمال في الطبيعة مستمد من الواحد.٥٨ وسار تلميذه فورفوريوس في نفس التيار، وأضاف نقده للمسيحية بعد أن صمت عنها أستاذه وتجاهلها، فالأفلاطونية الجديدة فيها غنًى عن الدين الجديد. نقد التوراة، وبين تعارضها مع مبادئ العقل ومقتضيات الرُّوح. ورد على المسيحيين، وروَّج الفلسفة اليونانية كبديل عنها. شرح أفلاطون وأفلوطين وأرسطو وثيوفراطس. وأبدع في المنطق في مقدمته الشهيرة «إيساغوجي»، أي المدخل أو التوطئة التي أُعجِب بها المسلمون فنقلوها عدة مرات وشرحوها ولخصوها، وعرضوا مسألة الكليات الخمسة عرضًا منطقيًّا لُغويًّا، واعتبروها مقدمة للمنطق.٥٩ ثم أصبحت الأفلاطونية الجديدة على يد يامبليخوس بديلًا عن الدين الجديد، بها الإشراق والعقائد، التصوف واللاهوت، التجرِبة الإيمانية والصياغات النظرية. عرَفه المسلمون وعظموه لأنه أرضى فيهم ما كانوا يحتاجونه من جمع بين الثقافتين الإسلامية واليونانية.٦٠ واستطاع أبرقلس أن يكتشف العناصر الأولى للجدل الثلاثي الإيقاع: الثبات في المكان، الحركة إلى الأمام، الحركة إلى الخلف، وكأن الرجوع إلى الوراء هو مركب الموضوع بين الثبات والحركة إلى الأمام!٦١ واستمرت الأفلاطونية الجديدة إلى عصر متأخر حتى القرن السادس عند سِمبليقيوس، إلا أنها تحولت على يديه مع بويثيوس من الأفلاطونية إلى الأرسطية تمهيدًا للفلسفة المدرسية. بل إن بعض الشروح الأرسطية قد تأثرت بالأفلاطونية الجديدة مثل شرح ثامسطيوس.٦٢

وكانت الثقافة الرومانية أقل انتشارًا من الثقافة اليونانية. استمرت فقط في القرنين الأول والثاني قبل ظهور الأفلاطونية الجديدة في القرون الأربعة التالية من الثالث حتى السادس. وكما قامت الأفلاطونية الجديدة في الثقافة اليونانية بدور «المسيحية البديلة» نظرًا لصوفيتها، كذلك قامت الرواقية في الثقافة اللاتينية بنفس الدور نظرًا لأخلاقيتها. كان هناك إذن بديلان قويان للمسيحية في العصر القديم، استمرارًا للثقافة القديمة: الأفلاطونية الجديدة والرواقية، ويستطيع كلاهما أن يقوم بدور الدين الجديد في حين أن الدين الجديد لا يستطيع أن يقوم بدورهما، ويمتازان على الدين الجديد بالتنزيه والعقلانية (الأفلاطونية الجديدة) وبالأخلاقية والعملية (الرواقية) بعيدًا عن أساطير وعقائد وفِرق الدين الجديد.

وكما ظهر في الثقافة اليونانية سكتوس أمبريقوس يشك في العقائد القديمة ليمهد الطريق إلى اليقين الداخلي، كذلك قام أجربا في أواخر القرن الأول وأوائل القرن الثاني بنفس الدور في الثقافة اللاتينية، فشك في العقائد القديمة، وقدم خمس حجج لإثبات استحالة معرفة العالم تتعلق بطبيعة المعرفة العقلية وتتضمن بعض عناصر الجدل.

وانتشرت الرواقية في القرنين الأول والثاني. وأصبحت هي الفلسفة المسيطرة على الثقافة اللاتينية كلها. بدأها سنيكا بمذهب في وحدة الوجود.٦٣ هناك عالم كلي واحد، مادي عقلي. ويستطيع الإنسان أن يصل فيه إلى السلام النهائي. كما ربط الأخلاق الفردية بالمجتمع والدولة على طريقة الشرقيين القدماء. ولما كانت الرواقية لديه قريبة الشبه بالدين الجديد فقد أثرت في عقائد الآباء وفي الفلسفة المدرسية، وامتد أثرها حتى العصور الحديثة عند كانط. وركز إبيكتيتوس على الحرية الداخلية وأهميتها بصرف النظر عن مظاهرها الخارجية في الحرية والرق كنظام سياسي.٦٤ فقد يكون السيد عبدًا لأهوائه وقد يكون العبد حرًّا منها باستقلاله الرُّوحي الداخلي. ولا يمكن الحصول على هذه الحرية بتغيير العالم. لذلك لم يعارض إبيكتيتوس نظام الرق معارضة فعلية، واكتفى بمعارضة سلبية ضد العبودية. فما يجعل الإنسان سعيدًا ليس الأشياء المادية بل أفكارنا عنها. والخير والشر ليسا في الأشياء بل في اتجاهنا نحوها. السعادة مرتبطة بالإرادة والقدرة على السيطرة على الأهواء. ولما كانت الرواقية على هذا النحو شبيهة بالمسيحية فقد أثرت في الوعي الأوروبي حتى كانط وتولستوي. اتجه إليها كلُّ مَن يشعر بالاغتراب الديني في الإلهيات. فالتحرر يبدأ من القلب أولًا. كما أثرت في الأخلاق عند المسلمين قديمًا، خاصة عند ابن مسكويه في «تهذيب الأخلاق»، وحديثًا عند عثمان أمين في «الجَوَّانيَّة».٦٥ ولم تكن الرواقية فقط اختيار العبيد تحريرًا لهم من عبودية الأشياء، بل كانت أيضًا اختيار الأباطرة الرومان، ربما وجدوا فيها حلًّا لأزمة الإمبراطورية ومعضلاتها الاجتماعية والسياسية. ورفض ماركوس أورليوس كل الجوانب المادية في الرواقية وأبقى فيها على الجانب الصوفي الديني فحسب.٦٦ الله مصدر كل شيء حي، عقل شامل. يصير إليه كل وعي فردي بعد الموت. وهو يماثل التصور الديني في ديانات الوحي تمامًا من حيث وجود الله، والخلق، والمعاد، وكأن الرواقية استطاعت أن تصل إلى نفس العقائد الدينية في دين الوحي. والإيمان بالقضاء والقدر واجب. فالضرورة تغلف العالم من كل جانب ولا مهرب منها. ودعا أيضًا إلى التواضع، والزهد، والكمال الأخلاقي، والتصفية، وسلوى النفس. كان له أبلغ الأثر في تطور العقائد المسيحية بالرغم من سوء معاملته للمسيحيين الذين وقعوا في الاغتراب الديني نتيجة لتشخيص العقائد بعيدًا عن الأخلاق العملية. ولما كانت الأفلاطونية الجديدة أكثر انتشارًا وامتدادًا في الثقافة اليونانية (من القرن الثالث حتى القرن السادس) من الرواقية في الثقافة الرومانية (القرنان الأول والثاني)، إلا أنها انتقلت من اليونان إلى الرومان عند فلوطرخس الأثيني في القرن الخامس. فأسس أفلاطونية جديدة لاتينية وشرح فيثاغورس. ومع ذلك ظلت غريبة على الثقافة الرومانية نظرًا لحسيتها وماديتها. وكان أقرب اكتمال لها في الأخلاق الرواقية والتي منها خرجت المسيحية.

(٢) المسيحية اليونانية

إذا كان المصدر اليوناني الروماني قد استمر حتى القرن السادس قويًّا ومستقلًّا بالرغم من ظهور الدين الجديد، وقدم بدائل فلسفية دينية حية، الأفلاطونية الجديدة في الثقافة اليونانية والرواقية في الثقافة الرومانية، تجذب المثقفين بعيدًا عن الدين الجديد، فقد بدأت المسيحية في الظهور على استحياء مرة من خلال الثقافة اليونانية وهي المسيحية اليونانية، ومرة من خلال الثقافة الرومانية وهي المسيحية اللاتينية؛ وذلك على أيدي مثقفين يونان ولاتين تحولوا عن ثقافاتهم اليونانية واللاتينية إلى الدين الجديد، واستعملوا ثقافاتهم قبل التحول دفاعًا عنه، وصياغة لعقائده. ويكون السؤال المطروح خلال عقائد الآباء من القرن الأول حتى القرن السابع: من الذي استعمل من؟ هل استعملت المسيحيةُ الثقافتين اليونانية والرومانية لتأكيد نفسها كبديل وحيد عنهما، أم هل استعملت الثقافتان اليونانية والرومانية المسيحيةَ لأخذ دفعة جديدة والاستمرار من خلال الدين الجديد؟ الاحتمال الأول، أي استعمال المسيحية الثقافتين اليونانية والرومانية كمجرد أداة للتعبير ولغة يتم بها صياغة فلسفية للإيمان الجديد هو «التشكل الكاذب» الذي حدث في نشأة الفلسفة الإسلامية.٦٧ والاحتمال الثاني، أي استعمال الثقافتين اليونانية والرومانية للمسيحية كلغة جديدة يتم بها التعبير عن المضمون اليوناني الروماني القديم هو «التضمن الكاذب» أو «التجوهر الكاذب». في الحالة الأولى تكون المسيحية هي المحتوى والثقافتان اليونانية والرومانية هما الشكل. وفي الحالة الثانية تكون الثقافتان اليونانية والرومانية هما المضمون والمسيحية هي الشكل. وبتعبير تراثنا القديم، في الحالة الأولى تكون المسيحية علوم الغايات، والثقافتان اليونانية والرومانية علوم الوسائل، وهي ظاهرة صحية حدثت في تراثنا الفلسفي القديم. وفي الحالة الثانية تكون الثقافتان اليونانية والرومانية علوم الغايات، والمسيحية علوم الوسائل، وهي ظاهرة غير صحية تطغى فيها الثقافة الوثنية على الدين الجديد وتقضي على جوهره ولا تستبقي منه إلا شكله. ففي مرحلة آباء الكنيسة إذن، يونان ولاتين، تشكل الوعي الأوروبي باعتباره وعيًا دينيًّا أفلاطونيًّا إشراقيًّا. تحولت فيه آلهة اليونان إلى آلهة الدين الجديد وملائكته. كما تحولت عقائد الدين اليوناني إلى عقائد للدين الجديد. وأصبح لا فرق بين سقراط والمسيح، فقامت ظاهرة «التضمن الكاذب» أو «التشكل الكاذب المضاد». أخذ المضمون اليوناني شكلًا مسيحيًّا. حدث التضمن الكاذب في الجوهر لا في العرض، وفي المضمون لا في الصورة، وفي المعنى لا في اللفظ، وفي الشيء لا في التصور. وقد استغرق ذلك القرون السبعة الأولى التي تشكلت فيها العقائد المسيحية، والتي أتى الإسلام بعدها ليتحقق من صدقها.٦٨ ويهدف هذا الفصل عن «المصادر» إثبات الاحتمال الثاني، أي «التضمن الكاذب»، خاصة فترة تكوين عقائد آباء الكنيسة من القرن الأول حتى القرن السابع، ثم التحول التدريجي من «التضمن الكاذب» إلى «التشكل الكاذب» في الفلسفة المدرسية من القرن الثامن حتى القرن الرابع عشر حتى يبلغ «التشكل الكاذب» مداه، ويفرض نفسه في العصور الحديثة التي تلحق بالفلسفة الإسلامية القديمة، وعندما تصبح المثالية الترنسندنتالية هي عَودًا إلى «المواعظ على الجبل» من حيث المضمون وإن ظل الشكل يونانيًّا في اللغة.

وقد حمل لواء المسيحية اليونانية آباء الكنيسة اليونان، كما حمل لواء المسيحية اللاتينية آباء الكنيسة اللاتين. وقد بدأ آباء الكنيسة اليونان مبكرين جدًّا، وقد سبقهم إلى ذلك فيلون السكندري ليقوم بنفس العملية لإنشاء يهودية يونانية، منذ القرن الثاني، بعد أن كان القرن الأول عصر تشكيل العقيدة وتكوين النص، تعبيرًا عنها وتدوينًا لها، وانتهوا متأخرين جدًّا حتى القرن السابع. وبالرغم من هذا الانتشار عبر الزمان على مدى سبعة قرون إلا أنه لم يبزغ منها نسق مسيحي يوناني بارز. أما المسيحية اللاتينية فقد ظهرت متأخرة ابتداءً من القرن الثالث وانتهت مبكرة في القرن الخامس. فهي أقل امتدادًا في الزمان، فقط على مدى ثلاثة قرون، من المسيحية اليونانية. ومع ذلك برز منها نسق مسيحي متكامل بارز هو نسق القديس أوغسطين الذي أصبح بحقٍّ ممثلَ الفلسفة المسيحية في قمة العصر القديم في القرن الرابع الميلادي.

لم تنشأ فلسفة مسيحية يونانية في القرن الأول، فقد كان ذلك عصر انتشار المسيحية كعقيدة وتبشير الحواريين بها وتأسيس الكنائس في الشام وآسيا الصغرى. كانت التجرِبة المسيحية الأولى ما زالت تتخلق، ولم تكن الصياغة النظرية قد بدأت بعد. عاشت الجماعة المسيحية الأولى عقائدها ثم حاولت تدوينها في نصوص تحت أثر البيئة الثقافية في فلسطين أو مصر أو آسيا الصغرى. كان التبشير المسيحي سابقًا على الفلسفة المسيحية. ومن التبشير يبدأ التاريخ المسيحي.٦٩
وفي القرن الثاني بدأ المدافعون عن المسيحية دفاعًا قانونيًّا عن الدين الجديد لإثبات شرعية الإيمان به في الإمبراطورية الرومانية التي تقوم على القانون، ويقوم المهتمون فيها بالدفاع عن أنفسهم. فالمسيحيون مواطنون رومانيون لهم حق العيش في الإمبراطورية الرومانية، ويعتقدون ما يشاءون ما داموا لا يتعرضون لسلطة الإمبراطور. فالمسيحية ضرورة اجتماعية، حدث تاريخي، واقع روماني. وقد اعتمد كوادراتوس (عاش حوالَي ١٢٥م) في ذلك على معجزات المسيح دون أية ثقافة فلسفية يونانية أو غيرها ثم حاول أرستيد إكمال هذا النقص النظري باللجوء إلى اليهودية اعتمادًا عليها للدفاع عن الدين الجديد كما فعل بولس من قبل. كما لجأ إلى مفهوم الضرورة اليوناني الرواقي ليعبر به عن الدين الجديد. فالله هو المنظم للكون طبقًا للضرورة، وتلك بدايات «التضمن الكاذب»، أي استمرار الثقافة اليونانية كمضمون من خلال ألفاظ الدين الجديد، مثل الله، كشكل. وتبعه هرماس لإبراز خصوصية عقائدية للدين الجديد، وجدها في نظرية «الخلق من عدم» والتي أصبحت عماد الفلسفة المسيحية عند القديس أوغسطين.٧٠
ثم خطَت الفلسفة المسيحية اليونانية خطوة أخرى على أيدي المثقفين اليونانيين الذين تحولوا إلى الدين الجديد، واستعملوا اللغة اليونانية كأداة للتعبير، واعتمدوا على ثقافتهم القديمة لصياغة فلسفة جديدة. كانت الفلسفة المسيحية الأولى استمرارًا للفكر اليوناني، تعبر عن الجماعة الأولى بعد أن حدث فيها هذا التغيير الجديد، وليس كما يقال من عمل الرُّوح القدس وفعلها في التاريخ. هذه الفترة الأولى، أعني عصر آباء الكنيسة، هي في الحقيقة جزء من تاريخ الثقافة اليونانية واستعمالها من أجل الدفاع عن التحول الجديد الذي طرأ على الجماعة الأولى، وليس جزءًا من التاريخ المقدس للعقائد.٧١

وقد ظهر هذا الموقف من الفلسفة اليونانية عند ثلاثة من المدافعين عن المسيحية: جيستان الذي يحبذ الفلسفة ويدافع عنها، ثم تاسيان الذي يهاجم الفلسفة ويكفرها، ثم أثيناجوراس الذي يحاول إيجاد حل وسط بين الفلسفة وخصومها. جيستان هو الموضوع، وتاسيان نقيض الموضوع، وأثيناجوراس مركب الموضوع.

استطاع جيستان أن يصوغ فلسفة مسيحية شاملة عامة، ويؤسس مثالية تقوم على تأكيد الدين الطبيعي الذي يقوم على البراءة الأصلية ضد الدين العقائدي الذي يقوم على الخطيئة الأولى.٧٢ تظهر الحقائق بطريقين وفي صورتين: الأولى عقلية نظرًا لقدرة الإنسان على التعقل، والثانية عن طريق وحي خاص يبلغه الأنبياء كما فعل السيد المسيح، ويعبر عنه الفلاسفة كما فعل حكماء اليونان. العقل إذن قادر على التفلسف والتأله وإدراك الحقائق الإنسانية والإلهية، في حين يدرك النبي الحقائق الإلهية وحدها. الفيلسوف ضِعف النبي وقدره مرتين لأنه يدرك الحقائق الإنسانية والإلهية معًا. والله منزه وليس شخصًا مشخصًا. والكلمة صفة من صفاته وليست تجسدًا أو حلولًا. وقد يكون التوليد في الزمان (التجسد الشيئي)، أو خارج الزمان (التجسد الرُّوحي). من الله فاضت الكلمة، ومن الكلمة فاض الرُّوح القدس. والإنسان جسم ونفس ورُوح. والرُّوح خالدة كما هو الحال عند أفلاطون. استعمل إذن جيستان كل الثقافة اليونانية في عصره: الرواقية، والمشائية، والفيثاغورية، والأفلاطونية، دفاعًا عن الفلسفة باسم الدين الجديد.
ثم حدث رد الفعل عند تاسيان.٧٣ كانت مهمته الرد على الوثنيين، والتمييز بين المؤمنين والكافرين، وكأننا شققنا عن قلوب الناس، وكما فعل توما الأكويني فيما بعد في «الرد على الأمم». وهو أول من فكر في وضع الأناجيل الأربعة في أعمدة متقابلة لمعرفة أوجه التشابه والاختلاف بينها، وكما فعل النقاد والمحدثون فيما بعد في طبعات «الأناجيل المتقابلة»، ولكن دون ملاحظات نقدية. فلم يكن علم النقد التاريخي للكتب المقدسة قد نشأ بعدُ، إذ إنه من نتاج الوعي الأوروبي في العصور الحديثة في البداية والنهاية. لم يكن عداؤه لليونان والفلسفة فحسب، بل كان عداؤه أيضًا لليهود؛ لأن اليونان أخذوا علومهم من اليهود، واستمدوا نظرياتهم من العهد القديم! حاول صياغة لاهوت في الكلمة والدفاع عن خلود النفس ضد النزعة الطبيعية اليونانية. وقسم الإنسان إلى جسم ونفس ورُوح على نحو تصاعدي. ولكن ظل يمثل التيار الأصولي المسيحي كما فعل بطرس الدمياني في الفلسفة المدرسية، وكما هو الحال عند ابن حنبلٍ وابن تيميَّةَ، وابن قَيِّمِ الجوزية، وابن الصلاح، في التراث الإسلامي. وسار تيوفيل الأنطاكي في نفس اتجاه تاسيان دون عبقريته.٧٤ وكان كلاهما يمثلان تيارًا عامًّا نشأت فيه بعض الكتابات المجهولة المصدر مما يبين كيف كانت الفلسفة المسيحية في القرن الثاني جزءًا من الثقافة اليونانية سواء كانت معها أو ضدها.٧٥
ثم حاول أثيناجوراس الجمع بين جيستان وتاسيان، ولكنه كان أقرب إلى الأول مدافعًا عن الفلسفة منه إلى الثاني مهاجمًا لها.٧٦ الدين هو الفلسفة، والفلسفة هي الدين، والله واحد، والدليل على ذلك هو دليل الممانعة أو التمانع، استحالة وجود إلهين في وقت واحد يُسيِّران العالم كما صاغه المتكلمون. الله هو الكلمة، والكلمة هي الله، إله واحد لا ثنائية ولا تثليث فيه. ولا يستحيل حشر الأجساد. خاطب أثيناجوراس الإمبراطور الرواقي بلغته، لغة الفلسفة والتوحيد والمعاد حتى يعفو عن المسيحيين. وسار هرمياس في نفس التيار بتمييزه بين الداخل والخارج.٧٧ الداخل هو الإيمان، والخارج هو العقل. والخارج دون الداخل يكون مجرد صفير أي أصوات بلا معنى. والداخل مع الخارج يعطي الفلسفة قدرة على التعبير عن المعاني. واضح إذن أن مشكلة الدين والفلسفة كانت هي المسألة الرئيسية عند المدافعين اليونان عن المسيحية في القرن الثاني، توحيدًا أو تمييزًا أو تعارضًا. لم تكن الغاية بناء مذهب فلسفي محكم كما حدث فيما بعد عند أوغسطين وتوما الأكويني، بالرغم من وجود تصورات أولية عن الله والنفس والمعاد. كانوا أقرب إلى اليونان منهم إلى تاريخ المسيحية. وكان الدفاع عن الفلسفة أكثر منه دفاعًا عن المسيحية تأكيدًا لافتراض «التضمن الكاذب». ودافعت الرواقية عن نفسها ضد الدين الجديد الذي يريد وراثتها. ومَن تحوَّل إلى الدين الجديد استعمل الرواقية دفاعًا عن نفسه.

ثم أرادت المسيحية أن تفرض نفسها على الثقافتين اليونانية والرومانية بما هو أفضل من الأفلاطونية والرواقية وحتى تستطيع أن تجذب جماهير المثقفين اليونانيين. فنشأت «الغنوصية» كرد فعل على المسيحية اليونانية أو الرومانية لدى المدافعين عن المسيحية في القرن الثاني بالاعتماد على الشرق واستلهام العناصر الرُّوحية والصوفية والإشراقية فيه. فالمسيحية بنت الشرق، وليست بنت اليونان. كانت الغنوصية أولى المحاولات لعمل فلسفة مسيحية مستقلة عن اليونان. والإسكندرية في النهاية أقرب إلى صوفية الشرق منها إلى فلسفة اليونان، أي عقلانية الغرب. ظهر ثلاثة فلاسفة غنوصيون يمثلون هذا التيار في القرن الثاني: ماركيون، بازيليد، فالانتين.

أدرك ماركيون جوهر المسيحية وخصوصيتها عن اليونان واليهود.٧٨ فأعلن انفصال المسيحية عن اليهودية؛ لأن اليهودية لا تعرف التصوف ولا الإشراق. ووضع تقابلًا بين العهدين القديم والجديد. وهو ما ظهر فيما بعد عند كل الفلاسفة الباطنيين، خاصة في المثالية الألمانية مثل لسنج، والرُّوحانية الفرنسية مثل برجسون، في وضع التقابل بين الداخل والخارج، الكيف والكم، الزمان والمكان، الحدس والعقل … إلخ. أما بازيليد فقد حاول لأول مرة أن يبني نسقًا فلسفيًّا مسيحيًّا مستقلًّا عن اليونان والرومان. فأقام أنسابًا خيالية للكون (كوزموجونيا). الله يساوي اللاوجود. فاضت منه البذور الكلية، وهو ما يشبه عهد الذر عند الصوفية المسلمين. ومنها نشأ التطهر، والأجنحة، والأشعة. لها ٣٦٥ اسمًا، القمر أحدها. ويستطيع الإنسان أن يخلِّص نفسه من الخطيئة الأولى عن طريق المعرفة. وهنا تضع الغنوصية الخيال الشرقي في مقابل العقل اليوناني، والتصوف الإشراقي في مقابل الفلسفة اليونانية. أما فالانتين فقد حاول بناء مذهب غنوصي متكامل مثل بازيليد، وإن خفت الأساطير الكونية فيه، مقتصرًا على الجوانب المعرفية مع الله مثل العقل والحقيقة والحكمة ومظاهرها العملية في الإرادة والشهوة.٧٩ فالمسيح طريق أخلاقي يوصل إلى الحكمة عن طريق العقل والإرادة. للغنوصية إذن جانبان: الأول معرفي وهو ما ظهر عند فالانتين، والثاني كوني عند بازيليد. ولما استفحل أمر الغنوصية وسيطرت على الدين الجديد، وفي نفس الوقت ثبت تهافت البديل الغنوصي بالنسبة للأفلاطونية الجديدة اليونانية والرواقية والرومانية انبرى القديس إيرنيوس للدفاع عن المسيحية ضد حركات الهرطقة حفاظًا على التراث المسيحي الأصيل.٨٠ حاول عرض المسيحية عرضًا واضحًا اعتمادًا على العقل والنقل نظرًا لإمكانية تعاون الفلسفة مع الدين. وأقام فلسفة مسيحية تقوم على عدة محاور رئيسية: الله، والعالم، والمسيح، والمادة، والشر، ومؤسسًا إياها في النفس كما فعل أوغسطين فيما بعد. وكأن قانون الفعل ورد الفعل الذي تحكم في جدل جيستان وتاسيان هو نفسه الذي تحكم في الغنوصية عند ماركيون وبازيليد وفالانتين، ثم الرد عليها وتفنيدها على يد إيرنيوس. ثم حاول تلميذه هيبوليت نفس الشيء للرد على اليونان وأفلاطون ومصححًا تصور الغنوصية للعالم.٨١ ومع ذلك لم تسلم الردود المسيحية على الغنوصية واليونانية واليهودية من تأثير هؤلاء الخصوم عليها. فالمسيحية الصحيحة التي حاول إيرنيوس تأسيسها لا تخلو من عناصر غنوصية ويونانية.
وتأتي اللحظة الثالثة في مدرسة الإسكندرية في القرن الثاني والنصف الأول من القرن الثالث لتجمع من جديد بين الفلسفة اليونانية وبين الغنوصية الشرقية بدلًا من التعارض بينهما باسم المسيحية أو اليهودية. نشأ ذلك عند فيلون السكندري أولًا ثم عند كلمنت السكندري أيضًا ومونتانوس وأوريجين، تُستعمل الفلسفة اليونانية لتأويل الغنوصية وتُستعمل الغنوصية لتأويل المسيحية. هناك إذن يهودية يونانية عند فيلون مع المسيحية اليونانية عند كلمنت وأوريجين. ولم تنشأ يهودية رومانية بالرغم من وجود جالية يهودية تجارية في روما. كانت الإسكندرية هي مكان الالتقاء بين المصدر الشرقي والمصدر اليوناني الروماني والمصدر اليهودي المسيحي. تشير مدرسة الإسكندرية إذن إلى تيارين فلسفيين: الأول يوناني وهي الأفلاطونية الجديدة ابتداءً من أواخر القرن الثاني. والثاني يهودي عند فيلون ومسيحي عند كلمنت وأوريجين. ولم تخلُ الإسكندرية منذ بداية نشأة المسيحية من المساهمة في تكوين النصوص وحفظها. ففيها ظهرت «السبعينية».٨٢ وفيها ظهر إنجيل المصريين. وفي القرن الرابع ظهر آريوس موحدًا بالله. وإلى عهد قريب كان بها رفات القديس مرقص. وقد ظلت الإسكندرية فيما بعدُ مكانًا لنشأة الفلاسفة اليهود والمسيحيين حتى بعد تغير الثقافة من اليونانية إلى العربية. ففيها ظهر سعيد بن يوسف الفيومي مؤسس الفلسفة اليهودية في القرن الثالث الهجري.٨٣
وبالرغم من أن فيلون من المخضرمين الذين عاشوا قبل الميلاد وبعده إلا أنه يُعتبر أحد مكونات الوعي الأوروبي من حيث المصادر.٨٤ لم تكن الأفلاطونية الجديدة قد نشأت بعد. ومع ذلك استعمل أفلاطون والرواقية لتفسير الرواية. ودفاعًا عن ثقافة الأنا (اليهودية) ضد ثقافة الآخر (اليونانية)، وحفاظًا على الأنا من تمثلها وذوبانها في الآخر قام فيلون برد فعل عكسي، وجعل الفكر اليوناني نفسه مستمدًّا من تعاليم موسى، «تلك بضاعتنا رُدت إلينا». وبالتالي يمكن استعمال الفلسفة اليونانية لإعادة تفسير التوراة تفسيرًا رُوحيًّا. والتركيز على نظرية الكلمة في فلسفة فيلون قراءة مسيحية له نظرًا لصدارة الكلمة في المسيحية. ولكن فلسفته الرُّوحية القائمة على تفسير الكتاب تفسيرًا رُوحيًّا قامت على أساس إنكار الذات، ووجود الله في كل إنسان، وبالتالي يمكن الاتصال بالله كغاية قصوى. فهي أقرب إلى التفسير كغاية، والذي يجعل اليهودية كطريقة إلى الله، كحقيقة وليس كشريعة على ما كان الأمر عند الأحبار.
وحاول كلمنت السكندري رفع الإيمان المسيحي إلى مستوى المعرفة اليونانية اعتمادًا على أفلاطون وأرسطو والرواقية وفيلون نظرًا لرغبته في إقامة فلسفة مسيحية لها نسقها الداخلي المحكم بصرف النظر عن مصادرها ومكوناتها.٨٥ ولما كان يدعو إلى المسيحية بين اليونانيين فإنه بيَّن لهم أنه لا يأتي فضل بالعلم بل بالعماد حتى يزاوج بين الفلسفة اليونانية والطقوس المسيحية. ثم انتقل من الفلسفة إلى التربية. فالكلمة تحوِّل من الوثنية إلى المسيحية، وتربي الإنسان على الأخلاق الفاضلة، وتعلم الإنسان الحكمة. ثم انتقل من التربية إلى فلسفة التاريخ. فالقانون لليهود، والفلسفة لليونان، والقانون والفلسفة والإيمان للمسيحيين. القانون هو الموضوع، والفلسفة نقيض الموضوع، والإيمان المركب بين الموضوع ونقيضه.
ودافع أوريجين عن المسيحية ضد سلسوس الذي طالب بفصلها عن اليهودية نظرًا للخلاف الجوهري بين طبيعة الدينين.٨٦ وقام بنشرة نقدية للعهد القديم وشرح معظم كتبه، وفسره تفسيرًا رمزيًّا وأوله تأويلًا رُوحيًّا طبقًا للرُّوح السائدة في مدرسة الإسكندرية: الأفلاطونية الجديدة، والرواقية، والغنوصية، وتعاليم الدين الجديد. وكتب عدة مؤلفات وعظية وإيمانية حاول التوفيق فيها بين المسيحية والفلسفة اليونانية، خاصة الأفلاطونية، وإقامة نظرية في المعرفة تبدأ بالإيمان ثم إلى العلم الطبيعي ثم إلى الحكمة الإلهية. فالإيمان يؤدي إلى التفكر في الطبيعة وكلاهما ينتهي إلى الحكمة الإلهية. وقدم خلاصة لاهوتية متكاملة، نسقًا لاهوتيًّا محكمًا يقوم على الله، والتوليد، وخلق العالم، مفسرًا الفيض عند أفلوطين باعتباره خلقًا، والسقوط، ونشأة النفس، والتدريج في الخلود، وحرية الأفعال كمصدر للخير والشر.
وكما بدأ الوعي التاريخي يتكون من المصدر اليوناني عند فلوطرخس وديوجنس اللايرتي، كذلك بدأ وعي تاريخي جديد يتشكل في المسيحية اليونانية يؤرخ للقرون الثلاثة الأولى، فترة تذبذب العقائد المسيحية، واختلاف الفرق، والرد على الهراطقة. حدث ذلك عند أوزبيوس السيزاري.٨٧ وبالرغم من كونه مؤرخًا أكثر منه فيلسوفًا إلا أنه كان أفلاطوني النزعة. فلا فرق عنده بين أفلاطون وموسى. حاول تفسير المسيحية تفسيرًا رمزيًّا. والدفاع عن المسيحية ضد الوثنية، وتأسيس نظرية في التثليث وأخرى في الخلق.
ثم بدأت مرحلة جديدة من المسيحية اليونانية عندما انتقلت من الدفاع عن المسيحية إلى الغنوصية ثم إلى مدرسة الإسكندرية إلى صياغة العقائد المسيحية صياغة نظرية وتبريرها فلسفيًّا. وقد تم ذلك في القرنين الرابع والخامس، عصر اللاهوتيين اليونانيين الكبار: جريجوار النازيانزي، القديس بازيل، القديس جريجوار النيسي، تيودوريت، نيميسيوس. اعتبر جريجوار النازيانزي الفلسفة خادمة للعقيدة وفي نفس الوقت استعمل العقيدة لإغناء الفلسفة. كل منهما في خدمة الآخر.٨٨ لا تقضي العقيدة على الفلسفة، ولا تحكم الفلسفة على العقيدة. ويُعتبر هذا في حد ذاته دفاعًا عن الفلسفة من حيث قدرتها على فهم العقيدة وقبولها لإثراء العقيدة لها. لذلك يقدر المنطق على معرفة السر، ولا يتجاوز السر قواعد المنطق. وبهذه الرُّوح الفلسفية تم عرض التثليث دون الإقلال من وحدانية الله وصفاته. التثليث سر الذات الإلهية والتي لا يمكن معرفتها. وسيظل علم العقائد ابتداءً من اللاهوتيين الكبار متأرجحًا بين التوحيد والتثليث والتذبذب بينهما. وسار القديس بازيل في نفس التيار مع التركيز على ضرورة العلم بتراث الآباء، وتأويل الكتاب المقدس اعتمادًا على الفلسفة اليونانية.٨٩ كما رد على خصوم الفلسفة المسيحية اعتمادًا أيضًا على الفلسفة اليونانية والتي يستطيع الشباب خاصة الاستفادة من آدابها. كما حاول صياغة نسق عقائدي فلسفي يقوم على استحالة وصف الله، وخلق العالم، وتكوينه من العناصر الأربعة. ثم حاول القديس جريجوار النيسي أيضًا الاعتماد على العقل وعلى التأمل في الطبيعة الحية والتركيز على النفس بدلًا من التركيز على الله والعالم.٩٠ فتناول مسألة صلة النفس بالبدن، وأثبت تميزهما من أجل إثبات خلود النفس، وحشر الأجساد، وحرية الإرادة، والتكليف. وهي نفس المسائل التي أُعيدَ تناولها في العصور الحديثة ابتداءً من ديكارت، مما يؤكد افتراض أن الفلسفة الحديثة إن هي إلا استمرار للفلسفة المسيحية في فترتيها: عصر الآباء والفلسفة المدرسية، ولكن بأسلوب أوضح، وبعقلانية أكثر إقناعًا وقدرة على البرهان. ومع ذلك تحدث جريجوار النيسي أيضًا عن رجوع العالم المادي إلى الله عن طريق الخلاص، وهو ما أضافته المسيحية على الفلسفة اليونانية التي تناولت من قبلُ مسألة النفس. ثم أخذ نيميسيوس صف أفلاطون ضد أرسطو مع التركيز أيضًا على الإنسان والنفس مثل سابقيه.٩١
الإنسان عالم كبير، والعالم إنسان صغير كما هو الحال عند إخوان الصفا. والإنسان جسم ونفس وعقل. وللنفس قوى الخيال والذاكرة والعقل. ويظهر الله في النفس المستقلة عن البدن. وهو القرن الذي ركز فيه أوغسطين على النفس في المسيحية اللاتينية، مما يؤكد أن رُوح العصر واحدة بصرف النظر عن اللغات والثقافات. ثم توالى الفلاسفة المسيحيون اليونان مثل أبولوناريوس الذي أنكر الجانب الإنساني في المسيح على عكس آريوس الذي أنكر الجانب الإلهي فيه.٩٢ وقد رد عليهما أوغسطين مثبتًا الجانبين معًا: ألوهية المسيح وإنسانيته. ثم شرح ماكير المصري الكتاب المقدس شرحًا ماديًّا فأعطى سينيسيوس تأويلًا أفلاطونيًّا جديدًا للمسيحية.٩٣ وظلت المسيحية اليونانية تتذبذب بين التأويل المادي الشيئي والتأويل الرُّوحي الأفلاطوني إلى أن جاء تيودوريت ليركز على وحدة الدين والفلسفة في العقل الأبدي.٩٤ فالإيمان يسبق المعرفة، والمعرفة تصاحب الإيمان. أُومِنُ كي أعقل، وأعقل كي أُومِنَ. ولا فرق بين موسى وأفلاطون، فقد تكلم موسى باليونانية ولم يقل إن أفلاطون قد تكلم بالعبرية حرفيًّا ولُغويًّا. الفلسفة اليونانية دون حقائق الإنجيل مرض، وحقائق الإنجيل دون الفلسفة اليونانية وهم.
وفي نهاية المسيحية اليونانية الغربية ظهرت مجموعة من الكتابات تنتسب إلى دينيز الأريوباجي.٩٥ وتضم نسقًا عقائديًّا مسيحيًّا له ما يشابهه في العصر الوسيط. فالله مركز الكون، منه يصدر كل شيء من الملائكة والكنيسة حتى عامة الناس والأشياء. وهو ما يفسر ظهور مصطلح «المراتب» مرتين لوصف السماء ولوصف الكنيسة. أقرب إلى نظرية الفيض دون كونياتها، وأقرب إلى وحدة الوجود منها إلى عقائد الكنيسة الرسمية في الله والعالم، في التثليث والخلق، في التجسيد والخلاص. بدأ الفكر في الظهور دون تشبيه أو تجسيم أو تمثيل. لذلك توجد بها فقرات من أبرقلس. بدأ فيها التوحيد العقلي كما سيظهر بعد ذلك عند إريوجينا في القرن التاسع. وكان تركيزها على «الأسماء الإلهية» إرهاصًا لأهم مشكلة في العصر الوسيط وهي مشكلة الكليات: هل هي أفكار في الذهن، أم وقائع في العالم، أم مجرد أسماء وألفاظ لغة؟ تمثل هذه الكتابات محاولة أصيلة لخلق فلسفة مسيحية يونانية اعتمادًا على الفلسفة اليونانية دون الوقوع فيها. لذلك تبدو أحيانًا نقدًا للفلسفة اليونانية أكثر منها عرضًا للفلسفة المسيحية، السلب فيها أكثر من الإيجاب.
ثم ورثت المسيحية البيزنطية الشرقية المسيحية اليونانية الغربية في القرنين السادس والسابع. وبالرغم من أن المسيحية الشرقية تدخل ضمن المصدر الشرقي إلا أن كتب تاريخ المسيحية الغربية تنتقي بعضًا منها مما يدل على إلحاق الأطراف بالمركز، والشرق بالغرب، وبدايات تكشف العنصرية الدفينة في الغرب على المستوى الديني الحضاري. وقد انتقل الصراع بين اليونان واللاتين كصراع بين الشرق والغرب عندما أصبحت بيزنطة اليونانية ممثلة المسيحية الشرقية وروما اللاتينية ممثلة المسيحية الغربية. المسيحية الشرقية رُوحية ذاتية ترى عَلاقة مباشرة بين الإنسان والله تتحقق في العمل الصالح في مقابل المسيحية الغربية العقائدية التاريخية الشعائرية. تخرج الأرثوذكسية من المسيحية الشرقية، وتخرج الكاثوليكية الرومانية من المسيحية الغربية، ويخرج الإسلام من قبط مصر ويكون أقرب إلى المسيحية الشرقية منه إلى المسيحية الغربية. وإن ثناء القرآن على المسيحية الشرقية إنما هو ثناء على القسيسين والرهبان. ونقده للتحريف إنما هو نقد للكنيسة الغربية وتبنيها للإنجيل طبقًا لعقائد التثليث وليس طبقًا لإعلان التوحيد.٩٦ فنحن ورثة بيزنطة مع روسيا والشرق وهي جزء من تاريخنا. مثلث المسيحية البيزنطية اليونانية بلا رومانية، والرُّوحية بلا مادية. ومنها انتشرت المسيحية إلى الشرق وإلى روسيا. قاومت بيزنطة الغزو البربري الأوروبي وفتحها المسلمون. وقد انفصلت الكنيسة الشرقية عن الكنيسة الغربية في القرن الخامس تأكيدًا لهذا التقابل بصرف النظر عن السبب المباشر، القشة التي قسمت ظهر البعير، الأيقونات أو زواج الرهبان.
ويمكن اعتبار مدرسة الإسكندرية في القرن الثاني بداية المسيحية الشرقية في مصر قبل استمرارها في مدارس بيزنطة وجامعتها. سادتها مشكلة المعرفة والتأويل والعقل والإشراق، أي مشكلة العقل والنقل، أو التأويل والتنزيل بتعبير المسلمين. كان انفتاح المسيحية الشرقية على الفلسفة اليونانية يقوم على أن كل ما هو حق وخير في الفلسفة هو كذلك في الدين. وبتعبير المسلمين: إن ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن. وهو نفس موقف إخوان الصفا والفلاسفة الإسلاميين. إنما يظل الشرق يمتاز برُوح خاصة، الرقة واللطافة Esprit de finesse. ثم ازدهرت الفلسفة البيزنطية في القرنين السادس والسابع في مدينة غزة أولًا عند الغزويين الثلاثة: إينيه الذي استعمل أسلوب المحاورات الأفلاطونية وركز على موضوع النفس مثل أفلاطون. وهو ما أكده أوغسطين في المسيحية اللاتينية وفي بداية الفلسفة الأوروبية في العصور الحديثة، وزكريا أسقف ميتيلين الذي ركز على قضية خلق العالم في الزمان، ثم بروكوب الغزَّوي الذي ركز أيضًا على خلق العالم وفند قِدمه.٩٧ ثم جاء يوحنا النحوي فشرح أرسطو، خاصة كتاب النفس. فقد التفت الشرق اليوناني أيضًا إلى أرسطو، وليس الغرب اللاتيني وحده. كما عبر ستيفان السكندري عن رُوح الأديرة وتصوف الرهبان. ثم حدث أثر رجعي عند ليونس البيزنطي كما حدث في اليهودية فيما بعد عند يهوذا اللاوي والغزالي عند المسلمين، يرجع إلى الباطن ويخاف من التمثل.٩٨ ثم بزَّهم جميعًا ماكسيم المعترف بشروحه على سابقيه.٩٩ كما حاول إقامة نسق فلسفي عقائدي. فالله هو الموناد الخالص. وهو ليس وحدة عددية بل الواحد، وكأنه إرهاص للَيبنتز في لغته وتصوراته. كما حاول صياغة التثليث على نحو جدلي، من الوحدانية إلى الثنائية إلى التثليث، وكأنه إرهاص آخر للجدل عند فشته وهيجل. أسَّس المعرفة بعيدًا عن خطأ الحواس، وأثبت خلود النفس، وأقام لاهوتًا صوفيًّا ينظِّر فيه الأذواق الصوفية. ونادى بفصل الكنيسة عن الدولة قبل العصر الحديث. فالعلمانية جهد في الشرق قبل نقد الكهنوت في الغرب.

(٣) المسيحية اللاتينية

وبعد أن تحولت لغة الكنيسة من اليونانية إلى اللاتينية نظرًا لانتشارها داخل الإمبراطورية الرومانية ثم تحول الإمبراطور قسطنطين نفسه إلى المسيحية في أوائل القرن الرابع أصبحت المسيحية الدين الرسمي للإمبراطورية. وبدأ المدافعون عن الدين يكتبون باللاتينية في فترة متأخرة. وانتشرت الكتابة أثناء تحول الإمبراطورية إلى الدين الجديد. وهنا ظهر أوغسطين الذي أعطى نموذجًا للفلسفة المسيحية اللاتينية حتى أصبح ممثلًا لعصر آباء الكنيسة كله، يونان ولاتين. ولكن ظلت اللغة والمصطلحات الفلسفية واحدة في جملتها بالرغم من هذا التحول من اليونانية إلى اللاتينية كما هو الحال في الثقافة والأدب والأساطير.

بدأ الدفاع عن المسيحية باللاتينية عند ميليتون مبينًا أن ظهور المسيحية داخل الإمبراطورية الرومانية من علامات العناية الإلهية.١٠٠ فالمسيحية فلسفة لا تقل عن الرواقية، ولكنها فلسفة المسيحيين. وهي بشارة طيبة للإمبراطورية. لم يكفِّر ميليتون الوثنيين حتى لا يكفر الوثنيون المسيحيين. كان رجل حوار، يقبل آراء الخصوم حتى يقبل الخصوم آراءه مما جعل صورته في التاريخ صورة الليبرالي. وهو ما قاله أوغسطين بعد ذلك في «مدينة الله» ردًّا على هجوم الوثنيين على المسيحية واعتبارها مسئولة كدين وأخلاق عن هزيمة الإمبراطورية أمام ألاريك قائد الفندال. ويرى البعض الآخر أنه موقف تملق للسلطة خوفًا منها واتقاءً لشرها. ثم ظهر سابيليوس في النصف الأول من القرن الثالث ناقلًا المسيحية اللاتينية من مستوى الدفاع إلى مستوى صياغة العقائد. فهناك إله واحد له ثلاثة أحوال أو تجليات متتابعة: خالق ورب وهو الأب، ومخلِّص وهو الابن، ومولِّد مقدَّس وهو الرُّوح القدسي. وبالتالي وضع أسس العقيدة الأرثوذكسية في التثليث. لم يتقبلها الناس بسهولة فتم توضيحها بعد ذلك. وعُرفت بأسماء عديدة مثل «الحالية» أو «الملكوتية الحالية» أو «الأبوة المتألمة».١٠١
وعلى الرغم من هذا التيار المسيحي اللاتيني العقلاني ظهر تيار جديد أسَّسه مونتانوس وامرأتان: ماكسميلا وبريسكا.١٠٢ دعوا إلى الزهد وتصفية النفس مثل زهاد القرن الثاني في الحضارة الإسلامية في بداية التصوف. وهو طريق الحياة الرُّوحية الخالصة بناء على وحي خاص من الرُّوح القدسي. وميزوا بين الخطيئة القاتلة المكتسبة والخطيئة الموروثة التي في الدم الناتجة عن خطيئة آدم. الأولى فعل حر والثاني فعل ضروري. ثم أخذ ترتيليان موقفًا دجماطيقيًّا بالنسبة للإيمان باعتباره فوق العقل.١٠٣ وهو صاحب القول المشهور: «إني أُومن لأنه متناقض». آمن باللامعقول، وعادى الفلسفة والعقل، فالإيمان أكثر يقينًا من العقل. ومع ذلك كان يجمع بين المادية والرواقية في صياغته للعقائد إرضاءً لمطلبي المادة والرُّوح كما هو الحال في واقعة التجسد. الله ليس جسمًا. وتسري الرُّوح من آدم في أولاده. والنفس هي الرُّوح الداخلي. لذلك ضمه أوغسطين ضمن العقيدة الكاثوليكية. ثم حدث رد الفعل عند مينيسيوس فيلكس الذي أفسح المجال لحرية الفكر والتعددية التي ترعاها الدولة.١٠٤ فكل إنسان له دينه الصحيح، والدولة ترعى الجميع. لذلك تضايق قطعيةُ الدين المسيحي المثقفَ اليوناني الذي يؤمن بحرية الفكر. وبالتالي كان أُولى لبنات الليبرالية والتعددية في الوعي الأوروبي.
واستمر دفاع آباء الكنيسة اللاتين عن المسيحية في القرنين الثالث والرابع سلبًا وفي نفس الوقت يصوغون العقائد الإيمانية إيجابًا وكما وضح عند آرنوب.١٠٥ ويعني السلب تهافت الوثنية، وبالتالي تكون المسيحية هي البديل الممكن، ويعني الإيجاب محاولة صياغة المسيحية كبديل عقائدي إيماني لشك الشُّكَّاك أو نظريات الفلاسفة. فعقائد الوثنيين وأفكار الفلاسفة ونظرياتهم متناقضة. يحط الشُّكَّاك من شأن الإنسان ويُعلُون من شأن الحيوان. أما المسيح فقد أعلى التوحيد، وأوصى بالتواضع. وبإحصاء المشكلات الفلسفية عند الوثنيين يظهر حلها في أفعال الإيمان. كما أراد تأسيس مسيحية وطنية ومجتمعًا مسيحيًّا فيه المسيحيون عكس نموذج الزاهد المتوحد. فكان من أوائل الفلاسفة المسيحيين اللاتين الذين فكروا في المسألة الاجتماعية. ثم أثبت لاكتانس أن الفلسفة الحقة متفقة مع الدين الحق.١٠٦ أما المشركون الوثنيون فإنهم يقبلون الدين المزيف لنقص في الحكمة أو يقبلون الحكمة المزيفة لنقص في الدين. والمعرفة الحقة تؤدي إلى السعادة. وحاول صياغة نظرية في الكونيات حتى لا ينقص المسيحية شيئًا عن الطبيعيات الوثنية. وفي هذا الجو ظهرت مجموعة كتابات «هرمس المثلث العظمة» وهو الإله تهوت عند قدماء المصريين، وهرمس ومركورس في الأساطير اليونانية، والنبي إدريس عند المسلمين. تجمع بين أفلاطون وفيثاغورس، وتمارس التنجيم والكيمياء الشعبية. وتضم صياغات لعقيدة التثليث، ونظرية التولد، الأب الذي يتولد عنه الابن. ثم بدأت عقيدة التثليث تأخذ حيزًا أكبر في المسيحية الرومانية بجانب المسائل المعرفية والأخلاقية كما هو الحال عند القديس هيلير.١٠٧ فقد حاول توضيح العقيدة وتأسيسها على الميتافيزيقا والأخلاق، وإثبات وضوح العقائد المسيحية في مقابل تناقض العقائد الوثنية. وفي الفلسفة جعل الله أقرب إلى الوجود منه إلى التصور، كما قال الله لموسى في التوراة: «أنا الموجود الذي يوجد». وبالتالي يمحي خطر التعدد والشرك بالتوحيد بين الماهية والوجود. وختامًا لهذه المجموعة الأولى ظهر القديس أمبرواز يفسر الكتاب تفسيرًا رمزيًّا، خاصة بالرمز الأخلاقي وليس بالرمز الكوني الطبيعي.١٠٨ سلَّم بوجود الماهيات والقيم الخالصة. وعقد خطابًا أشبه بحديث الرُّوح، مما كان له أبلغ الأثر على أوغسطين.
وابتداءً من القديس أمبرواز تأسست المسيحية اللاتينية الأفلاطونية في القرن الرابع، وبلغت ذروتها عند القديس أوغسطين. بدأ الخط الصاعد نحو الذروة عند ماكروب.١٠٩ لم يكن الإبداع الفلسفي قد بدأ بعد، ولكن بدأ اكتشاف رُوح أفلاطون كرد فعل على هزيمة روما على يد سيبيون الأفريقي. فالإنسان رُوح، والبدن فانٍ. موطنه في السماء وليس على الأرض. من الخير يفيض العقل، ومن العقل تفيض النفس. ويمكن تحرير سقوط النفس بالخير والعقل والفضيلة. وعند كالسيديوس من الله فاضت المادة، ومن المادة فاضت الأفكار.١١٠ يعتني الله بالعلم ويرعى مصيره، أما الطبيعة فتسودها المصادفة. والإنسان يتحكم فيه الحظ. الله علة العالم وليس أصله. وهنا يبدو التعبير عن الفلسفة اليونانية بألفاظ مسيحية في تصور أشعري للعالم يجعل الله علة أولى، يقدر كل شيء فيه. تستمر الثقافة اليونانية وتسيطر على الدين الجديد وتوجه مضمونه وشكله، معانيه ولغته. ولم تظهر المسيحية اللاتينية في القارة الأوروبية وحدها، بل ظهرت أيضًا في أفريقيا عندما كان الشمال الأفريقي مع الجنوب الأوروبي يكونان جناحي الإمبراطورية الرومانية جنوبًا وشمالًا. فقد كانت الأطراف في عَلاقة جدلية مع المركز، مرة معه ومرة ضده. ومن هؤلاء ماريوس فيكتورينوس.١١١ أما آريان كانديد فإنه تناول سر التثليث.١١٢ وهو لا يتعارض مع الفلسفة. فالله لم يلد ولم يولد، ومع ذلك فهو سر. المسيحية واضحة ولكنْ بها أسرار! واضح إذن أن التوحيد والتثليث كانا قطبين رئيسيين في المسيحية اللاتينية. وجاء الإسلام ليأخذ صف التوحيد ضد التثليث. كما جاء المؤلهة أنصار الدين الطبيعي في القرن الثامن عشر ليأخذوا صف دين العقل والطبيعة. فالدين بلا أسرار أو طقوس. وسيظل للفلسفة اليونانية، الأفلاطونية الجديدة، الفضل في هز العقائد المسيحية وجعلها تنحو نحو التوحيد النظري والأخلاق العملية.
ثم جاء أوغسطين لينظِّر للمسيحية اللاتينية كلها ويعطيها نسقها الكامل، ويصبح نموذج الفلسفة المسيحية كلها، يونانية ولاتينية، في عصر الآباء. فهو أعظم آباء الكنيسة على الإطلاق. وما زالت كل الفلسفة بعده، مدرسيةً أم حديثةً أم معاصرةً، تنهل منه، إذ إنه اختيار فلسفي دائم، الباطن في مقابل الظاهر، والداخل ضد الخارج، والزمان نقيض المكان، هُوسِرل، برجسون، وكل الفلاسفة المثاليين الرُّوحيين منذ بداية الوعي الأوروبي حتى نهايته.١١٣
تكون فكره في أتون المعارك الفكرية مع المذاهب الفلسفية والعقائد الدينية في عصره. فأثبت ضد الشُّكَّاك أن هناك شيئًا يمكن معرفته أو أن هذه المعرفة تؤدي إلى اليقين والسعادة.١١٤ وقد استطاعت المسيحية تحقيق الهدفين معًا. أما الوثنية فلم تستطع ذلك. كما يمكن للعقل الوصول إلى بعض الحقائق المسيحية. وأثبت للمانويين أن الشر ليس موجودًا في العالم، وليس ما يدخل في باطن الإنسان، بل هو في النفس، وما يخرج من باطن الإنسان.١١٥ استعمل أسلوب المحاورات الفلسفية لإثبات ارتباط الفلسفة بالدين، والدين بالفلسفة. كلاهما بحث في الحكمة والسعادة.١١٦ ويتم التعليم في النفس عن طريق المعلم الداخلي وليس عن طريق اللغة.١١٧ والنفس كيفٌ وليست كمًّا. وهذا أحد أدلة خلودها. تعشق النظام الداخلي، وتشعر بلغة الموسيقى، ولها حديث داخلي.١١٨ وبعد تحوله إلى المسيحية بدأ في عرض حقائق الدين بالفلسفة ضد كل الفرق المسيحية التي تنحرف بالدين في تصوراتها أو ممارساتها.١١٩ وفي «الاعترافات» قص تطوره الرُّوحي في سيرة ذاتية منذ طفولته الأولى وعَلاقاته مع أصدقائه وإحساسه بالشر وعَلاقاته مع التيارات الفلسفية والفرق الدينية في عصره، ومغامراته العاطفية، وسماعه القديس أمبرواز شارحًا بولس في «الرسالة إلى العبرانيين» ونظريته في الخلاص بالإيمان وحده وليس بالأعمال. وقد كان ذلك الدرس هو السبب المباشر في تحوله إلى الدين الجديد. في الكتاب العاشر يذكر نظريته المشهورة في الزمان وأبعاده والتذكر والخلود. ويستعمل ذلك كله كأدلة على وجود الله، كما استعمل من قبل «المعلم» و«الموسيقى» و«النظام» و«حرية الإرادة».
ثم بدأت كبرى معاركه مع رؤساء الفرق المسيحية المعاصرة له، بلاجيوس، آريوس، أبوليناريوس، دوناتوس. أثبت بلاجيوس حرية الإرادة وإمكانية خلاص الإنسان دون تدخل الفضل الإلهي،١٢٠ كما أنكر الخطيئة الأولى وضرورة العماد من أجل الخلاص منها. ولم يعتبر الموقت عقابًا على الخطيئة. وهو نموذج الفيلسوف المسيحي الرواقي القديم أو الكانطي الجديد. رد عليه أوغسطين لإثبات الفضل الإلهي وضرورته لخلاص الإنسان على ما تفعل الأشاعرة.١٢١ ثم دخل معركتين متتاليتين حول طبيعة المسيح: الأولى مع أبوليناريوس الذي أنكر بشريته لصالح ألوهيته فأثبت أوغسطين ضده بشريته مع ألوهيته. والثانية مع آريوس الذي أنكر ألوهيته لصالح بشريته لتمييز الجوهرين.١٢٢ فأثبت أوغسطين الوحدة والتعدد في الألوهية «واحد في ثلاثة، وثلاثة في واحد»، وبالتالي ضرورة القول بالبشرية والألوهية معًا.

ثم دخل معركتين سياسيتين حول صلة الدين بالسياسة: الأولى مع دوناتوس، وهو قسيس أفريقي. والثانية مع الذين جعلوا المسيحية مسئولة عن هزيمة روما، فعندما تحول الإمبراطور قسطنطين إلى المسيحية وجعلها الدين الرسمي للدولة، وأمر كل المسيحيين بالكف عن المقاومة، والتعاون مع سلطات الأمن، رفض دوناتوس، صوت من الطرف الأفريقي، وطالب بضرورة الاستمرار في المقاومة تقديرًا للشهداء واحترامًا لأرواحهم، فدم الشهداء لم يجف بعد، والكنيسة الوطنية في الأطراف في شمال أفريقيا لا تستسلم لكنيسة المركز في روما، وطالب بالعماد الثاني باسم المسيحية الوطنية، فالمخطئون لا يجوز لهم الاحتفال بالقداس. ولكن أوغسطين دافع عن السلطة المركزية السياسية والدينية ضد معارضة الأطراف وباسم العماد الأول! والثانية عندما هُزمت روما لأول مرة في التاريخ على يد ألاريك، ووضع الناس مسئولية الهزيمة على الدين المسيحي وأخلاقه السلبية وعدم المقاومة. فكتب أوغسطين «مدينة الله» دفاعًا عن المسيحية ولتبرئتها من الهزيمة. فمدينة الله منتصرة دائمًا عبر التاريخ منذ آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى. هي مدينة الأنبياء الذين حملوا الوحي فآمن الناس بهم. أما مدينة الأرض فهي المسئولة عن الهزيمة بأخلاقها الوثنية التي تقوم على القوة وليس على الحق. وما من قوة إلا فوقها قوة. يعرض أوغسطين جوهر التاريخ الإنساني باعتباره صراعًا بين مدينة الله، الجماعة التي تستلهم أفعالها من الفضل الإلهي، ومدينة الأرض القائمة على حب الأشياء الزمنية. وهو صراع ينتهي بانتصار مدينة الله، وهي مدينة رُوحية لا توجد في أي مكان. والكنيسة هي أولى تجلياتها الأرضية، مما كان له أبلغ الأثر في الإصلاح الديني ضد الكنيسة باعتبارها مدينة الأرض، والإصلاح باعتباره مدينة الله الجديدة. وأنهى أوغسطين حياته بكتابة عدة شروح على التوراة والإنجيل، خاصة المزامير وإنجيل يوحنا، متبعًا التأويل الرمزي الذي وضعت أصوله مدرسة الإسكندرية.

وقبل أن تأخذ المسيحية اللاتينية منحًى آخر استمرت المسيحية السياسية في تفاعلها مع اليهودية مرة، الختان، الحلق، توسيع الدين الوطني اليهودي، ومع الإمبراطورية الرومانية مرة أخرى لتأسيس الثيوقراطية وشعب الآباء. فالكنيسة وريثة الإمبراطورية، والبابا خليفة الإمبراطور، ومدينة السماء وارثة مدينة الأرض. وقد كان لتحول قسطنطين إلى المسيحية أثره البالغ على ازدهار المسيحية السياسية. تحول الكهنوت إلى سلطة في الدولة، واستعملت الكنيسة الدولة لصالحها. وقامت صناعة التماثيل للحواريين وللمسيح وأمه بدلًا من الأباطرة والقياصرة والنواب والقواد. وتحولت شعائر الدين الروماني إلى القداس الروماني، بأجراسه ومحافله وأعلامه وأغانيه وصلبانه. تأكدت السلطة البابوية بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية، وتحولت روما من عاصمة الإمبراطورية الرومانية إلى عاصمة الإمبراطورية المسيحية الجديدة.

فروما ليست مدينة الله بل هي مدينة الأرض في تطور جديد بعد ظهور قوًى اجتماعية جديدة بفضل الدين الجديد. وهو عرض تاريخي صِرف نظرًا لانتشار المسيحية من الشرق إلى الغرب، من الأطراف إلى المركز، من المستعمرات، فلسطين ومصر، إلى «المتروبول»، روما. ولو أن الإمبراطورية الرومانية كانت عاصمتها القاهرة، مركز الإمبراطور الروماني المسيحي الجديد لأصبحت أيضًا المدينة المقدسة، مدينة الله. وظهر بول أوروس لينظر هذا التحول الجديد، أن الله هو مصدر السلطة البابوية، وكرد فعل على هزيمة روما أمام القوط وهربًا من روما إلى أفريقيا. فقد كانت الأطراف أيضًا حول روما المركز من داخل القارة الأوروبية ذاتها.١٢٣ وأيده في ذلك جيلاز الأول.١٢٤ فالإمبراطور ابن الكنيسة وليس البابا ابن الإمبراطورية. ثم نشِب الصراع بين السلطتين عندما عادت السلطة الدنيوية إلى الظهور من جديد. وعادت الإمبراطورية الرومانية في أشكالها الحديثة، وانتصرت على الكنيسة. فانزوت السلطة الدينية، ورضيت أن تكون محاصرة في «الفاتيكان» تحت شعار ذليل «دولة مستقلة في دولة مستقلة» ذرًّا للرماد في العيون. والحقيقة ظل التعاون قائمًا بين الدولتين في عصر التبشير والاستعمار، الدين مقدمة للدولة في الأطراف، إذ يبدأ القسيس الدعوة ممهدًا للجنرال. والدولة مقدمة للدين إذ يبدأ الجنرال الغزو ممهدًا بذلك الطريق لدعوة القسيس.
ثم أخذت المسيحية الرومانية معنًى آخر، وذلك ببداية تحول فكري وعقائدي آخر من أفلاطون إلى أرسطو، وكأن الأفلاطونية الجديدة قد استنفدت أغراضها عندما بلغت ذروتها عند القديس أوغسطين. فقد ظهر بويثيوس يترجم أرسطو من اليونانية إلى اللاتينية ويشرحه حتى يصبح ثقافة عامة يمكن بعدها استعمالها لصالح الدين الجديد.١٢٥ طبق قواعد المنطق القديم في الإيمان المسيحي، واعتمد على العقل وحده في عرض قواعد الإيمان بالرغم من تمايز العقل عن الإيمان، فالفلسفة محبة الحكمة، والدين صورة رمزية لها. وهي مستقلة عن الكتاب، وقادرة على البرهنة والوصول إلى الحقائق بذاتها، وهي نظرية أو عملية، تعرف الحقائق وتمارسها. ومن اجتماع العقل والإيمان والفلسفة والدين يمكن تصور غايته في العالم، فكل شيء في العالم من ثروة وغيرها هش، والله هو الخير الحق. الله واحد والثلاثة واحد، وبالتالي يصل بويثيوس إلى التوحيد العقلي الخالص كما وصل إليه الفلاسفة المحدثون وحكماء المسلمين ومتكلموهم. والإنسان قادر بعقله على التمييز بين الخير والشر، وقادر بإرادته الحرة على اختيار الخير دون الشر، ولا ينال ذلك من العلم الإلهي في شيء. وهكذا تتحول الفلسفة المسيحية على يد بويثيوس من الأفلاطونية إلى الأرسطية، ويقدم فلسفة عقلانية إنسانية أقرب إلى الاعتزال منها إلى الأشعرية. بل إنه استطاع أن يقدم إلى العصر الوسيط موقفًا جديدًا ومصطلحات ومنهجًا. كان آخر الرومان وأول المدرسيين، وله نفس المكانة التي للفارابي في الفلسفة الإسلامية والذي هذب منطق أرسطو، ونفس المكانة التي للمعتزلة في علم الكلام.
وسار في نفس التيار كاسيدور على مستوى الأخلاق،١٢٦ فجمع بين المادية والرواقية، بين الرغبة في إثبات العالم المادي والتمسك بالأخلاق الفردية المثالية، بين أخلاق البطولة الفردية والقدرة على السيطرة على أهواء النفس. لقد استطاعت الرواقية أن تجمع بين النظرة المادية للطبيعة والنظرة الأخلاقية للإنسان. لذلك انتشرت في الفلسفة الإسلامية وفي الفلسفة الغربية في العصور الحديثة، خاصة عند اسبينوزا وكانط. ثم آثر مارتن الباراكاري الجانب الأخلاقي في الرواقية على الجانب الطبيعي، مثل سنيكا،١٢٧ فحياة الأخلاق هي حياة الفضيلة. ثم دافع جريجوار الكبير عن المسيحية من جديد بعد أن انتهى عصر الصياغات النظرية أو كاد.١٢٨ كان الغرض فقط استيفاء حاجات الكنيسة ووراثتها الحضارة اليونانية الرومانية القديمة. فقد أصبحت اللغة اللاتينية لغة المسيحية وليست لغة القدماء إن لم تكن ضدهم. وتكشف نزعته الإنسانية عن رُوح جديدة تنبئ بنهاية عصر قديم وبداية عصر جديد. ثم أسس أخيرًا إيزودور الإشبيلي دائرة معارف عقلية وفلسفة مسيحية جديدة أقرب إلى الفلسفة العقلية الصورية الخالصة منها إلى فلسفة الدين، وأقرب إلى علوم الحكمة منها إلى علم أصول الدين. بحث عن المعاني الاشتقاقية واضعًا أسس فلسفة اللغة كما فعل الأصوليون القدماء وكما فعل هَيدجر وعلماء اللغة المعاصرون.١٢٩ ويبدو أن مشكلة الكليات التي سيطرت طوال الفلسفة المدرسية قد بدأت إرهاصاتها عند بويس بشرحه «إيساغوجي» وعند إيزودور الإشبيلي بتفكيره في المعاني الاشتقاقية للأسماء. كما أن دخول إسبانيا المعترك الثقافي في نهاية عصر الآباء إنما كان إرهاصًا أيضًا لإسهاماتها الكبرى في العصر المدرسي بفضل الثقافة الإسلامية في ربوع الأندلس.

ثالثًا: الفلسفة المدرسية (من القرن الثامن حتى القرن الرابع عشر)

وتبدأ الفترة الثانية من الفلسفة المسيحية — الفلسفة المدرسية — من القرن الثامن حتى القرن الرابع عشر قبيل عصر النهضة. ولا توجد حدود فاصلة في البداية والنهاية. فقد يرجع الثامن إلى السابع قليلًا، وقد يستمر الرابع عشر في الخامس عشر أحيانًا. فعصور التاريخ تتداخل فيها البدايات والنهايات تداخل الفصول الأربعة. وقد دامت هذه الفترة أيضًا سبعة قرون مثل الفترة الأولى، عصر آباء الكنيسة، ومثل الفترة الثالثة في العصور الحديثة من القرن الخامس عشر حتى القرن الواحد والعشرين. وقد بدأت هذه الفترة بانتشار الثقافة اللاتينية إلى الشمال، وتحويل البلاد الجرمانية من الوثنية إلى المسيحية التي انتقلت من جنوب أوروبا إلى شمالها على مدى قرن من الزمان هو القرن الثامن. لم يكن هناك إبداع فلسفي يُذكر. كان الانتشار أفقيًّا وليس رأسيًّا، عرضيًّا وليس طوليًّا، على السطح وليس في الأعماق، وهذا طبيعي في انتشار الحضارات، عندما يعيش الناس التجارِب الإيمانية أولًا ثم ينظِّرونها ثانيًا.

ثم بدأت الفلسفة المسيحية تظهر في القرن التاسع على يد إريوجينا معاصر الكندي. ثم ظهرت في القرن العاشر في الفلسفة اليهودية عند إسحاق الإسرائيلي وسعيد بن يوسف الفيومي وداود بن مروان في كنف المسلمين. ولم يكن هناك إبداع في الفلسفة المسيحية في القرن العاشر انتظارًا لفترة التمثل قبل الإبداع، خاصة وأن الفلسفة كانت مزدهرة في الجناح الشرقي للغرب، في العالم الإسلامي. ثم بدأت الفلسفة المسيحية في الظهور في القرن الحادي عشر في شكل صراع بين الجدليين واللاهوتيين والاستمرار في التحول من الأفلاطونية إلى الأرسطية، ومن الإيمان إلى العقل وظهور مشكلة الكليات عند أنسيلم وروسلان. واستمرت في القرن الثاني عشر بعد تأسيس المدارس والجامعات وتحول الفلسفة المسيحية من الكنائس والمعابد، كما استمرت الفلسفة اليهودية وبلغت ذروتها عند موسى بن ميمون. ثم بدأت الترجمات من العربية إلى اللاتينية مباشرة أو عبر العبرية فدخل رافد جديد في الفلسفة المسيحية ابتداءً من القرن الثالث عشر بلغت فيه الفلسفة المسيحية الذروة عند ألبير الكبير وتوما الأكويني. ثم تحول اللاهوت إلى أُنطولوجيا، والعقل إلى علم في القرن الرابع عشر عند وليم الأوكامي ويوحنا الجندوني في المسيحية، وليفي بن جرشون وغيره في الفلسفة اليهودية. ولم يمنع ذلك من ظهور التصوف التأملي عند المعلم إيكهارت وتاولر منبئًا بظهور عصر جديد هو عصر النهضة. وتمثل هذه المرحلة من القرن الثامن حتى القرن الرابع عشر في الفلسفة المسيحية عصرنا الذهبي في الحضارة الإسلامية من القرن الثاني حتى القرن السابع الهجري والتي ظهر ابن خلدون في نهايتها ليؤرخ لها، وابن تيميَّة ليعيد لها الحياة لتبدأ حركة إصلاح جديدة كانت وراء الحركات الإصلاحية الدينية الأخيرة منذ القرن الماضي.

(١) انتقال الثقافة اللاتينية من الجنوب إلى الشمال (القرن الثامن)

لما كان النقل سابقًا على الإبداع فقد بدأ النقل منذ القرن الثامن قبل أن يبدأ الإبداع مبكرًا في القرن التاسع. كان النقل لموضوعين: الأول: الآداب القديمة أو الفنون الحرة التي لم تنطفئ جذوتها، خاصة الآداب الإيطالية التي ازدهرت في أواخر عصر الآباء في القرن السادس.١٣٠ والثاني: المسيحية وتربية القُسوس وإعداد الوعاظ والمبشرين لتأسيس الكنائس.١٣١ بدأ ألدهِيلْم المالْمِزبوري بنشر الفنون الحرة والآداب القديمة في أيرلندا وإنجلترا. وكتب «في العذرية» وهي القيمة الجديدة التي أتت بها المسيحية في عقيدة الحمل العذري. وتبعه بِيد المحترم وبِنوَا بِسكوب في نقل الآداب القديمة، خاصة النثر والشعر، مع كتابة التاريخ الديني لإنجلترا.١٣٢ وأراد فنفريد إعداد أساقفة للشعب الألماني لتنظيم الكنيسة بعد تفككها، وإعادة بناء الدين بعد أن قضى عليه جيله.١٣٣ أصبح الأساقفة في عصره علمانيين يرتكبون الزنا، ويتخذون الخليلات، ويقرءون الإنجيل. يدعون إلى احترام الناس ويستغلونهم. واهتم ألكوِين بإحياء التراث القديم، ومع ذلك منع الوثنية، وحرم قراءة فرجيل. وفي نفس الوقت تأثر بأوغسطين في علم النفس.١٣٤ كما اهتم بالفكر السياسي كتعبير عن تجليات الرُّوح، وكما فعل أوغسطين من قبل في «مدينة الله». وسار في تياره آخرون. أهمهم ثيودولف الأورليانزي الذي اهتم بمساواة الشمال الوثني بالجنوب المتحضر، وتمدن أوروبا ومساواتها بروما وأثينا.١٣٥ ثم حاول خوري القديس مارتن التوري فريدجيز إقامة فلسفة مسيحية تستنكف من العدم،١٣٦ تثبته كي تدفع الناس بعيدًا عنه. العدم هو الظلام، والوجود هو النور، وهو تشبيه مجازي يرى العدم واقعًا، كما هو الحال عند هَيدجر وسارتر، وليس مجرد وجهة نظر أو حكم في النفس، كما هو الحال عند أوغسطين وبرجسون. ثم قام رابان مور في ألمانيا بنفس الدور الذي قام به ألكوِين في فرنسا.١٣٧ وظهر مبشرون آخرون، خاصة في ألمانيا، دون أي طموح فلسفي ميتافيزيقي. إنما كان الهدف مجرد تعليم البرابرة الثقافة اللاتينية وما تحمله من دين جديد.١٣٨
وكانت الفلسفة المسيحية في بيزنطة أكثر إبداعًا منها في المسيحية الغربية في روما. كانت الأطراف تحمل لواء الإبداع، بينما كان المركز ما زال في مرحلة النقل. كانت المسيحية الشرقية تقود معركة الصور والتماثيل والأقانيم التي لا تتفق ورُوح الشرق الجديد كما مثلها الإسلام فيما بعد.١٣٩ وكانت تقود المعركة ضد الرهبنة من أجل السماح للرهبان بالزواج، فلا تعارض بين الحياة الرُّوحية والحياة البدنية، وهي الرُّوح التي جسدتها واقعية الإسلام. وكان يوحنا الدمشقي هو حلقة الوصل بين المسيحية الشرقية وتعبيرها الجديد في الإسلام. لذلك كانت له مكانة بارزة في التراث الإسلامي ترجمة وشرحًا، مما يدل مرة أخرى على أن المسيحية الشرقية أقرب إلى المصدر الشرقي منها إلى المصدر اليوناني الغربي، وأن وريثها التراث الإسلامي.١٤٠ وبالرغم من اعتزازه بالفلسفة إلا أنها خادمة للاهوت واللاهوت سيدها. العقل قادر على الوصول إلى حقائق الإيمان بعيدًا عن الخرافات وهي أصل الأخطاء. وتأتي المعرفة من وحي المسيح ومن شريعة الأنبياء ومن الأشياء المخلوقة وتأملها بالعقل، وهو الطريق الذي فضله الإسلام فيما بعد. الله واحد، صانع العالم. خلقه ويعتني به. والمعارف تشرق على النفس، والنفس في صراع مع الجسد. الحكم على الأشياء بالشر جهل بمستويات الوجود التي يمكن للإنسان الاستسلام لها رضاء بالقضاء والقدر. تجمَّع في يوحنا الدمشقي التراث القديم كله، اليوناني والمسيحي، أفلاطون وأفلوطين مع تصور مادي للنفس مثل الرواقيين، وجمع بين عناصر رواقية وأرسطية، وإرهاصات يونانية من الأفلاطونية الجديدة للتثليث المسيحي، الصانع إرهاص للأب، والعقل إرهاص للكلمة، والنفس إرهاص للرُّوح القدس، والكل إرهاص للإسلام. فكما التقى الإسلام والمسيحية في بيزنطة التقى الإسلام واليهودية في الأندلس.

(٢) بداية الفلسفة المدرسية (القرنان التاسع والعاشر)

ولم يستغرق النقل قرنًا واحدًا، وهو الثامن، حتى بدأ الإبداع في التاسع على يد يوحنا سكوت إريوجينا.١٤١ أهم موضوعين لديه: تأسيس الفلسفة على العقل، وحرية الإرادة، وكأنه يؤسس أصل العدل عند المعتزلة: خلق الأفعال واستقلال العقل. استعمل المناهج العقلية الصرفة بصرف النظر عن نتائجها التي قد تصدم معاصريه. ودافع عن حق العقل في التفكير وواجب الفلسفة في النظر. كما أثبت حرية الإرادة ضد التصور الشائع الذي يقضي بتدخل الإرادة الإلهية في كل شيء، في قوانين الطبيعة وفي أفعال الإنسان كما هو الحال عند الأشاعرة. ولا تمنع الخطيئة من حرية الإنسان، فالخطيئة على مراحل: سابقة وهي لا تنفي مسئولية الفرد، وتابعة يستطيع الإنسان بعقله الحر أن يدركها، وغامضة يستطيع الإنسان بإرادته المستقلة أن يتجنبها. أما بالنسبة لأصل التوحيد فقد تحدَّث عن الله ابتداءً من الطبيعة مما أوحى بأنه من أنصار الغنوصية ووحدة الوجود، مع أنه قام بما حققه المتكلمون من قبلُ مِن جعل الطبيعيات مقدِّمة للإلهيات، فالطبيعة لديه تنقسم إلى أربع مراتب: الأولى الخالق وليس المخلوق وهو الله، والثانية الخالق والمخلوق وهي الأفكار الإلهية أو النماذج، والثالثة المخلوق وليس الخالق وهو كل ما هو خارج الله، والرابعة لا خالق ولا مخلوق، وهو العودة إلى الله. درس إريوجينا الموضوع شعوريًّا وليس عقائديًّا، وبنيويًّا وليس تاريخيًّا. وإن التعامل مع الأفكار التي هي أشبه بمُثُل أفلاطون جعله قادرًا على وضع أصل التوحيد واستبعاد التثليث. ظهر يوحنا سكوت إريوجينا لأول مرة يعرض فكرًا جديدًا حول الله والطبيعة والإنسان مباشرة دون التمهيد بالمنطق. ومع ذلك بدأ علم كلام نظري اعتزالي جديد خارج علم العقائد الأشعري القديم الذي ساد آباء الكنيسة. وقام بدور الكندي المعاصر له في تأسيس علم الحكمة والخروج من علم الكلام الاعتزالي إلى الفلسفة الطبيعية الخالصة.
ولم تظهر في القرن التاسع شخصية إبداعية أخرى في الفلسفة المسيحية مثل إريوجينا. بل ظهرت شخصيات عديدة تتناول نفس الموضوعات مثل الآداب القديمة أو مشكلة الكليات في بداياتها الأولى. ظهرت أهمية البلاغة، خاصة الثلاثي: المنطق والنحو والبلاغة، من الفنون الحرة السبعة، وذلك من أجل استعمال الجدل لصالح الدين.١٤٢ ولم يتوقف الإحساس بالآداب القديمة كإحدى دِعامات الدين الجديد في التعبير والإيصال. ثم ظهرت مشكلة الكليات في إرهاصاتها الأولى كمشكلة واقعية تجريبية، وبالتالي إنكار الكليات الذهنية أو الخارجية.١٤٣ وظهر مفكرون آخرون ساهموا بوجه عام في الحركة الفكرية العامة دون أن تكون لها إبداعات خاصة.١٤٤ وفي نفس الوقت استمر النقل الذي بدأ في القرن الثامن من الجنوب إلى الشمال، استمر داخل أوروبا ذاتها، من القارة الأوروبية خاصة في فرنسا إلى إنجلترا،١٤٥ مع الاهتمام الخاص بدراسة النحو. وفي هذه الفترة كان التفكير ما زال في الأديرة منذ القرن السابع حتى القرن العاشر؛ لأن الجامعات لم تكن قد تأسست بعد إلا في القرن الثاني عشر. ومع ذلك ظهرت شخصية متفردة في القرن التاسع، جربرت الأورياكي، تحت تأثير العلم الإسلامي وهو في بدايته في إسبانيا بعد أن تحولت الحضارة الإسلامية من مرحلة النقل إلى مرحلة الإبداع.١٤٦
وفي الفلسفة المسيحية الشرقية استمرت المعركة ضد عبادة الأقانيم بالرغم من التمييز بينها وبين عبادة الأصنام.١٤٧ وحافظت الكنيسة على استقلالها ضد تدخل الإمبراطور في شئونها.١٤٨ ثم ظهرت نزعة إنسانية مرتبطة بالفلسفة اليونانية عند فوتيوس بالرغم من تفضيله أرسطو على أفلاطون، ومحاولة تلميذه أرتياس السيزاري المساواة بينهما.١٤٩ ولكن ظل الاهتمام بالآداب والعلوم والفنون هو التيار الغالب طوال القرن العاشر بعيدًا عن السياسة، حتى ولو كان أصحاب هذا التيار من أبناء الأباطرة.١٥٠
وكان الفلاسفة اليهود في ذلك الوقت مثل المسلمين أطباء في الغالب، فالحكيم حتى الآن هو الطبيب دون الفيلسوف، غلب عليهم موضوعان: الصلة بين الدين والفلسفة، ومحاولة تأسيس فلسفة يهودية، أي استعمال الفلسفة لتأسيس الدين. وكان أولهم إسحاق الإسرائيلي الذي خلط بين الطب الفيزيقي والفلسفة، فكان أقرب إلى أبقراط منه إلى جالينوس.١٥١ تسربت إليه بعض العناصر الأفلاطونية الجديدة، ولكنه لم يعمل بالتوفيق بين الفلسفة والكتاب المقدس. وعاصره المقمص بن مروان يتحدث في نفس موضوعات علم الكلام الإسلامي.١٥٢ وكان أشهرهم في القرن العاشر سعيد بن يوسف الفيومي.١٥٣ حاول تأسيس علم كلام يهودي على النسق الإسلامي. وكان همه بيان اتفاق الدين والعلم وأثبت نظرية الخلق، والاشتغال بالنقد التاريخي مثل علماء الأصول والحديث المسلمين.

(٣) تطور الفلسفة المدرسية (القرنان الحادي عشر والثاني عشر)

بدأت الفلسفة المسيحية في القرن الحادي عشر بصراع بين الجدليين واللاهوتيين، بين أنصار الفلسفة والمنطق والأدب والنحو والبلاغة وباقي الفنون الحرة وبين أنصار اللاهوت والعقائد، أو بلغة عصرنا: بين العلمانيين والدينيين. أثبت العلمانيون أولًا أن النحو والبلاغة، أو أن اللغة والأدب لهما الأولوية على اللاهوت والعقائد. وقام أنسيلم البساطي مدافعًا عن الفلسفة ضد اتهاماتها. كما أعطى بيرانجيه التوري الأولوية للعقل على النقل، والتعبير عن الإيمان بلغة العقل تحت أثر العقلانية الإسلامية التي كانت آثارها بدأت في الظهور.١٥٤ أنكر تحول الماء إلى خمر، والخبز إلى لحم، كبداية لإنكار المعجزات كلها بمعنى خرق قوانين الطبيعة قبل بداية العصور الحديثة بستمائة عام، وكما حدث بعد ذلك عند فونتنل واسبينوزا ولوك في القرن السابع عشر، وهيوم وفولتير ولوك فلاسفة التنوير في القرن الثامن عشر. وهنا يبدو دور الثقافة الوثنية مثل المنطق والآداب في إنقاذ الوعي الأوروبي من عقائدية المصادر مرة ثانية كما أنقذته أول مرة في عصر آباء الكنيسة. ثم حدث رد الفعل من اللاهوتيين على الجدليين دفاعًا عن الإيمان ضد العقل، وعن اللاهوت ضد الفلسفة عند أوتلوه السانت امرامي، واستحالة إخضاع الإيمان للجدل عند مانجولد لوتنباخ.١٥٥ ثم أتى بطرس الدمياني ليعلن أن الإيمان ليس بحاجة إلى الفلسفة أو النحو أو الأدب، إذ يأتي اللاهوت من الله مباشرة دونما حاجة إلى صياغات وفهم إنساني. وهؤلاء يشبهون ابن الصلاح في تراثنا الإسلامي المتأخر الذي قام أيضًا بتكفير الفلسفة واستبعاد المنطق في نهاية عصرنا الذهبي الأول. ثم حدثت محاولة للجمع بين الفعل ورد الفعل، بين الموضوع ونقيض الموضوع عند لانفران.١٥٦ فالجدل لا يعارض الأسرار الإلهية، والفلسفة لا تقضي على الدين، والدين لا يعارض الفلسفة.
ثم ظهرت أهم شخصيتين بعد ذلك في القرن الحادي عشر: القديس أنسيلم، وروسلان. يعبر الأول عن اجتماع الجدل واللاهوت، والثاني عن أولوية الجدل على اللاهوت. استعمل أنسيلم منطق أرسطو الذي شرحه بويثيوس للتعبير به عن أفكاره اللاهوتية.١٥٧ وفي نفس الوقت اعتمد على الأفلاطونية الجديدة، خاصة فيما يتعلق بالبراهين على وجود الله. فهو يجمع بين منطق أرسطو وإشراق أفلاطون، بين جدل اليونان والمعلم الداخلي عند أوغسطين، بين البرهان النفسي والإيمان الديني. لقد ساهم هو أيضًا في الانتقال من النموذج الأول للفلسفة المسيحية وهو الأوغسطينية، ذروة عصر آباء الكنيسة، إلى النموذج الثاني لها وهي التوماوية، ذروة الفلسفة المدرسية. كما يمثل انتقال أساس النموذج من أفلاطون إلى أرسطو، مرحلة انتقال بين الاثنين. حلل الأفلاطونية بالأرسطية، ووصف الإيمان الديني بالعقل الفلسفي، وكأنه برجسون العصر الوسيط المتقدم. طبق أنسيلم منهجه هذا «الإيمان باحثًا عن العقل» في البراهين على وجود الله. فهو الذي صاغ الدليل الأُنطولوجي الشهير الذي استمر في الفلسفة الحديثة بين مؤيد (ديكارت، فشته، شلنج، هيجل) ومعارض (كانط والوجوديون جميعًا). هناك أربعة أدلة على وجود الله: الأول يقوم على فكرة الخير، الله هو الخير الذي يوجد في كل خير، ويوجد كل خير فيه. والثاني يقوم على فكرة الوجود، فالله هو الوجود الذي يوجد في كل موجود والذي يوجد كل موجود فيه. والثالث يقوم على فكرة الكمال، فالله هو الكمال الذي يوجد في كل الكمالات، وتوجد كل الكمالات فيه. والرابع هو الدليل الأُنطولوجي الشهير كما سماه كانط، فالله حق يوجد في كل الحقائق، وكل الحقائق توجد فيه. وقد اتبع أنسيلم أسلوب المحاورات الأفلاطونية، سواء مع النفس أم مع الآخرين. كما أثبت الإرادة الحرة مثل أوغسطين واعتبرها دليلًا آخر على وجود الله، وبيَّن شروطها الضرورية في العون الإلهي كما تفعل الأشاعرة في نظرية الكسب. وحاول حل مشكلة تناقض فكرة الشر الأخلاقي الصادر من سقوط الشيطان مع حب الإنسان للخير ووجود الخير فيه. وأخيرًا شارك أنسيلم في مشكلة الكليات وهي ما زالت في بدايتها باعتباره خَصمًا لروسلان الاسمي. فالكليات أفكار الحق والخير والكلمات في النفس، ولا يمكن أن تكون مجرد أسماء أو ألفاظ أو أصوات. أما روسلان أحد مؤسسي المذهب الاسمي لحل مشكلة الكليات فالتصورات لديه أسماء أو ألقاب، مجرد ذبذبات في الهواء.١٥٨ ولا يوجد في الواقع إلا الأشياء الحسية. ثم طبق الاسمية في العقائد وفي مقدمتها التثليث كأحد الحلول لحل صلة الأب بالابن بالرُّوح القدس. ويشبه نقده للكليات الخارج نقد ابن تيمية لها في تراثنا الفقهي القديم. ثم قال القديس برنار الشارتري بواقعية الأفكار مثل أفلاطون.١٥٩ ولكن صور الأشياء مختلفة عن نماذجها في الذهن الإلهي. أما وليم الشامبووي فقد جعل الأجناس والأنواع حاضرة في كل فرد، والفروق بينها عرَضية صرفة.١٦٠
وما إن تم الانتقال إلى القرن الثاني عشر حتى أصبح عصر مشكلة الكليات، وظهرت شخصيات عديدة أشهرها أبيلار وآلان اللِّيلي. جمع أبيلار بين المنطق واللاهوت في رؤية واحدة لحل هذا الصراع بين الجدليين واللاهوتيين في القرن الحادي عشر.١٦١ عارض المذهب الواقعي في مشكلة الكليات عند وليم الشامبووي، واقعية مقولات أرسطو وواقعية مُثُل أفلاطون، وكل واقعية الأسماء الكلية. كما عارض الأساس النفسي لمشكلة الكليات عند الاسميين، كما فعل هُوسِرل فيما بعد في نقده النزعة النفسية في المنطق. فالكليات عنده تصورات في عالم الأذهان، وليست وقائع في عالم الأعيان، كما قال الفقهاء المسلمون من قبل، خاصة ابن تيمية في رده على الحكماء. ثم وجه أبيلار نقده العقلي لتراث الآباء ليُبيِّن تناقض أقوالهم في ١٥٨ مسألة جدالية، وذلك بعمل جدول من عمودين به أقوال متناقضة تثبت نفس الموضوع وتنفيه حتى يدحض الحجج النقلية ما دامت متناقضة فيما بينها، فلا تبقى إلا الحجج العقلية. ثم بيَّن أهمية أخلاق القصد وأفعال النية. وتوجه إلى العقائد المسيحية مبينًا حكم العقل فيها، فانتهى إلى نقد التثليث وإثبات التوحيد. وكان من أوائل الذين حاولوا عقد مقارنة بين الأديان وعقد حوار بينها، وهو الموضوع الذي ازدهر حاليًّا وما زال. «حوار بين يهودي ومسيحي وفيلسوف»: والفيلسوف هو المسلم، وهو نفسه أبيلار الذي يستطيع وحده أن يجعل العقل أساس النقل ويدرك التنزيه (التوحيد) وحرية الاختيار (العدل). وطوال القرن الثاني عشر كان أبيلار هو الشخصية المحورية الأولى التي يقف المتحررون معها والمحافظون ضدها.١٦٢
ثم استمرت الفلسفة المدرسية في «مدرسة شارتر» التي حولت الميتافيزيقا التأملية الخالصة إلى الدين الجديد أو ميتافيزيقا خالصة.١٦٣ تجمع بين الميتافيزيقا والمنطق، بين الأرسطية والعقائد المسيحية في الخلق والشر. أما فيما يتعلق بالفكر السياسي فلم يكن هناك مفكرون سياسيون كما هو الحال في العصور الحديثة لأن المجتمع كان مستقرًّا. فالسلطتان، سلطة البابا وسلطة الإمبراطور متحدتان في ثيوقراطية بابوية. الدولة هي الكنيسة، والكنيسة هي الدولة طبقًا لنسق الوحدة بين الطرفين. الفلسفة هي اللاهوت، واللاهوت هو الفلسفة. الطبيعة هي الفضل الإلهي، والفضل الإلهي هو الطبيعة. وعلى عكس أبيلار في بيان تناقض أقوال آباء الكنيسة في موضوعات عدة قام بطرس اللومباردي بجمع الأقوال المأثورة عنهم، آراء الآباء، والمعلمين الأوائل للكنيسة الخاصة باللاهوت من أجل استخدامه ككتاب مدرسي لتعليم العقيدة المسيحية، فظهرت بداية التراكم التاريخي في الوعي بالتراث المسيحي.١٦٤ واستمرت رُوح القرن الثاني عشر مستمرة مرة نحو التصوف النظري أو التصوف العلمي، ومرة نحو تصنيف العلوم والفنون الحرة، ومرة ثالثة نحو علوم الدين، ورابعة نحو علوم الدنيا.١٦٥ ثم ظهرت بدايات الحداثة عند يوحنا السالزبوري في نقده للنظم المدرسية في عصره ومحاولته إصلاح المنطق كما فعل فرانسيس بيكون وجون استيوارت مِل في العصور الحديثة.١٦٦ ونادى بفصل الكنيسة عن الدولة، بالتالي يُعتبر من مؤسسي العلمانية في الوعي الأوروبي قبل العصور الحديثة. ويمثل اتجاهًا ذا نزعة عملية في المعرفة رافضًا ما لا فائدة منه وما يناقض حياة التقوى، حتى ولو لم يكن هناك برهان نظري على صحة العمل الصالح، وكما قال الأصوليون القدماء من قبل عن إمكانية قيام فعل شرعي ظني الدلالة قطعي الحكم، ظني نظرًا ويقيني عملًا. وفي جو الحروب الصليبية ظهر آلان اللِّيلي ليؤسس منطقًا بهدف تحويل غير المسيحيين إلى المسيحية، خاصة المتطهرين واليهود والمسلمين.١٦٧ كانت صورة الإسلام لديه وفي عصره النعيم الحسي بعد الموت، تعدد الزوجات، غسل الطهور الجسدي خطايا الرُّوح، نقد المسيحيين في الصور والتماثيل. يمثل اتجاهًا محافظًا يدافع عن المسيحية بالهجوم على غير المسيحيين وكأن خير وسيلة للدفاع عن الذات هي الهجوم على الخصوم. ومع ذلك حاول نيقولا الأمياني إحياء الفلسفة من جديد وإقامتها على حجة العقل لا حجة السلطة. ولقد حاول القرن الثاني عشر في النهاية إقامة كونيات اعتمادًا على ثقافة العصر، ولكنها لم تكن رائدة في شيء. وظلت قضيته الرئيسية الفكر الديني والسياسي، تعقيل المسيحية كدين، وتحديث الدولة كسياسة. ولذلك قام أوتو الفريزنجي ولأول مرة قبل مارتن لوثر في الإصلاح الديني بالدعوة إلى تأسيس إمبراطورية رومانية ألمانية، أي بدولة وكنيسة وطنيتين.١٦٨ ومع ذلك تظل حصيلة القرن الثاني عشر أنه كان مجرد استئناف للبداية الأولى في القرن الحادي عشر، أفلاطونية مجردة جافة مستمدة من ابن سينا وأبرقلس. ولم يكتمل أثر الفلسفة الإسلامية وميتافيزيقا أرسطو في الفلسفة المدرسية إلا في القرن الثالث عشر.
أما الفلسفة المسيحية الشرقية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر فقد غلب عليها اللاهوت الصوفي كما هو الحال في مدرسة شارتر في المسيحية الغربية وكما وضح عند سيميون اللاهوتي.١٦٩ يغلب عليه الطابع الأخلاقي الإنساني مثل مسألة حرية الإرادة التي كان الإنسان ينعم بها قبل الخطيئة ثم فقدها بعدها، وبالتالي تنشأ الحاجة إلى الفضل الإلهي الذي يتحقق كاملًا باتحاد الإنسان بالله. ثم أضاف نيسيتاس ستيتاتوس وصف الطريق إلى الله كما هو الحال عند الصوفية المسلمين، الرياضات والمجاهدات من أجل الوصول إلى حالة الفناء.١٧٠ وارتبط كالليستوس كاتا فيجيوتس مباشرة بالتراث الأفلاطوني الجديد من خلال دينيز الأريوباجي. واتجه كيكاومينوس نحو الفكر السياسي والأخلاقي في نموذج «المحارب» أو «الاستراتيجي»، الذي يتجه نحو الأخلاق العملية ويبين واجبات القائد تجاه الملك.١٧١ ولكنْ طبَع بسيللوس المسيحية الشرقية بطابع أفلاطوني غلب عليها طوال القرن الثاني عشر. إذ فضل أفلاطون على أرسطو، وجدد الأفلاطونية بالاعتماد على عناصر من الشرق الكلداني مستعمِلًا مناهج التأويل الرمزي دون الوقوع في مظاهر السحر والخرافة.١٧٢ فالطبيعة لها قوانينها الثابتة والعالم تحكمه الضرورة الشاملة. وتشمل الفلسفة قسمين: الأول ثابت لا يتغير يدرك بالعقل، والثاني إنساني اجتماعي يدرك بالرُّوح. ولكن غاية النشاط الإنساني هي الفلسفة الأولى التي تضم الميتافيزيقا واللاهوت معًا، وموضوعاتها الله والنفس. أما الشر فنسبي في العالم وفي الأفعال نظرًا للجمال الصوري الذي يعم الكون. واستمر تلاميذه في نفس التيار يجمعون بين الفكر الفلسفي والعقيدة المسيحية ومع ذلك يعطون للفلسفة استقلالها عن الدين. منهجها العقل، وموضوعها المصير البشري.١٧٣
وكما ظهرت الفلسفة اليهودية في القرن العاشر عند إسحاق الإسرائيلي، والمقمص داود بن مروان، وسعيد بن يوسف الفيومي استمرت في القرن الحادي عشر عند باهيا بن يوسف بن باقودة، وابن صادق القرطبي، وبلغت الذروة في القرن الثاني عشر عند يهوذا اللاوي، وإبراهيم بن داود اللاوي، وابن جبرول، وإبراهيم بن عزرا، وموسى بن ميمون، قبل أن تبلغ الفلسفة المسيحية ذروتها في القرن الثالث عشر. وكما كانت الفلسفة اليهودية في القرن العاشر بنت الفلسفة الإسلامية فإنها ظلت كذلك في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، حيث عرَف اليهود عصرهم الذهبي في كنف المسلمين، يكتبون باللغة العربية أو بالعبرية بحروف عربية، وابتداءً من أنساق المسلمين في علوم الكلام والفلسفة والتصوف والفقه واللغة والطب … إلخ. وتتفاوت الفلسفة اليهودية في هذين القرنين بين محورين أساسيين: الصلة بين الله والعالم؛ أي نظرية الخلق ضد قدم العالم، وإثبات خلود النفس وأخلاقياتها، وهو الموضوع الجديد في التراث اليهودي الذي لم يظهر إلا ابتداءً من الإسينيين في عصر المسيح. فبرهن باهيا بن يوسف بن باقودة على وجود الله ووحدانيته وصفاته. وأساس الأخلاق هو الشكر له ولإبداعه هذا العالم. وغايتها حب الله.١٧٤ وتشرق الحقائق في النفس كما هو الحال في الفلسفة الإشراقية الإسلامية عند الفارابي خاصة مع بعض آثار الأفلاطونية الجديدة. كما أثبت ابن صادق القرطبي وجود الله ابتداءً من حدوث العالم كما هو الحال عند المتكلمين المسلمين.١٧٥ وفي القرن الثاني عشر حاول يهوذا اللاوي أن يبين تفوق اليهودية على الأرسطية والمسيحية والإسلام.١٧٦ وبالرغم من رومانسيته وانطلاقه إلا أنه لا يتعامل مع الفلسفة بوضوح. يعتمد على الحجة المنطقية وفي نفس الوقت يرفض أولوية العقل على النقل. أقرب إلى الغزالي والذي كان معاصرًا له. ويؤكد على دور الشعب اليهودي في التاريخ مما جعله يصب في النهاية في الصهيونية قبل أن تبدأ كحرية سياسية في القرن التاسع عشر. ثم اقتربت الفلسفة اليهودية من أرسطو عند إبراهيم بن داود اللاوي والذي أكد التطابق التام بين الفلسفة والتوراة (الوحي) كما هو الحال عند الفلاسفة المسيحيين العقليين والفلاسفة المسلمين جميعهم في التوحيد بين العقل والوحي.١٧٧ أقام البراهين على وجود الله ابتداءً من المحرك الأول وبناءً على التفرقة بين الممكن والضروري، كما هو الحال في دليل الممكن والواجب عند المتكلمين. ولا يُعرف الله إلا بصفاته السلبية وكما حددها المسلمون من «آيات السلوب»، وهو ما سيظهر بعد ذلك عند توما الأكويني في «الطريق السلبي» في الحديث عن الله. وفي الأخلاق حاول التوفيق بين إرادة الله وحرية الإنسان كما هو معروف في أصل العدل عند المتكلمين. كما حاول التوفيق بين إرادة الله وحرية الإنسان كما هو معروف في أصل العدل عند المتكلمين. كما حاول التوفيق بين الأخلاق الأفلاطونية والأخلاق الأرسطية، وهي المحاولة التي سيكملها موسى بن ميمون. وقد دافع عن التراث اليهودي ضد القرائين الذين يرفضونه مكتفين بالتوراة وحدها، أي بالكتاب وحده، كما هو الحال عند المسلمين والبروتستانت بعد ذلك. ثم رجح ابن جبرول الأفلاطونية الجديدة والفلسفة الإشراقية.١٧٨ وتبعه إبراهيم بن عزرا مع بعض الاقتراب من الأرسطية، إذ كانت المشكلة الرئيسية في كتاباته هي البحث عن التصور الحقيقي للعالم ووصف صيرورته، وكذلك المعرفة كيف يتم الحصول عليها.١٧٩ فكان محورَا فكرِه الطبيعيات والمعرفة. وبلغت الفلسفة اليهودية الذروة في القرن الثاني عشر على يد موسى بن ميمون،١٨٠ فقد حاول التوفيق بين اليهودية وأرسطو، وإثبات اليهودية في حالة تعارضها مع أرسطو. اعتمد على العقل في تأويل التوراة وباقي الكتب اليهودية المقدسة. وآثر الفلسفة على الكلام نظرًا لاعتمادها على العقل الخالص في حين يعتمد الكلام على العقل والنقل. ومع ذلك الفلسفة والدين متمايزان، ولكل منهما طبيعة مجال. ولكن تستطيع الفلسفة إعطاء تبرير عقلي للشريعة. ولا يمكن وصف الله إلا سلبًا كما هو الحال عند أصحاب التنزيه خشية الوقوع في التشبيه والتجسيم. كما هاجم قدم العالم وأثبت الخلق من عدم إيثارًا للدين على الفلسفة، ولليهودية على أرسطو. وفي الأخلاق أثبت خلود النفس ضد ابن رشد وخلود العقل الكلي، ووصف قوى النفس النباتية والحيوانية والإنسانية كما هو الحال عند ابن سينا. جمع في أخلاقه بين الأفلاطونية الجديدة والأرسطية مثل أخلاق الفارابي. أثبت الغائية في العالم من أجل إثبات المعاد.١٨١

(٤) نقل الفلسفة الإسلامية إلى اللاتينية

عادةً ما يُعقد فصل عن «الفلسفة العربية» في كتب تاريخ الفلسفة في العصر الوسيط، وكأن الفلسفة العربية جزء من الفلسفة الأوروبية وأحد فصولها.١٨٢ وأحيانًا تسمى «الفلسفة الإسلامية» وتُضم مع الفلسفة اليهودية.١٨٣ والحقيقة أن التسمية الأولى نفسها خاطئة لأن الفلسفة نشأت من الإسلام، وحمل لواءها المسلمون، وكُتبت باللغة العربية وبغيرها من اللغات الإسلامية، الفارسية والتركية والأوردية. لها كِيانها في ذاتها، وحضارتها التي تنتمي إليها، ومسارها التاريخي الذي تمر به. ولفظ «العربية» كتسميةٍ حديثٌ سواء من الاستشراق أو من الباحثين العرب التابعين للاستشراق أو النصارى أو القوميين. كما أنها ليست ضمن العصر الوسيط، فذلك تحقيب الوعي الأوروبي لذاته، قديم ووسيط وحديث، بل لها مسارها الخاص وتحقيبها الذاتي، عصرها الذهبي الأول في القرون السبعة الأولى، وهو ما سمي العصر الوسيط، ثم عصر الركود والثبات، عصر الشروح والملخصات في القرون السبعة التالية والتي أشرفنا على نهايتها. وبعد نهضتنا الجديدة، وصحوتنا الإسلامية الحالية في القرون السبعة التالية، قد يصبح عصر الشروح والملخصات عصرنا الوسيط، وهو الذي يعادل العصور الحديثة في الوعي الأوروبي. لذلك يستعمل مؤرخو العصر الوسيط التاريخ الميلادي للفلاسفة المسلمين.١٨٤ ويعتبرونها مجرد رافد للفلسفة في العصور الوسطى، مهمتها نقل الفلسفة اليونانية، وشرحها صوابًا أم خطأ، إلى العصور الأوروبية الحديثة.
انتقل التراث الإسلامي إلى الغرب دون تمييز بين العلوم، ومع خلط بين الكلام والفلسفة والتصوف والعلوم الطبيعية والرياضية والعلوم الإنسانية. ولم يترجَم علم الأصول لأنه كان مرتبطًا أشد الارتباط بالشريعة الإسلامية. وكانت صورة الفلسفة الإسلامية في الفلسفة المدرسية، خاصة في مرحلة الذروة في القرن الثالث عشر، أنها هي التي توحد بين العقل والإيمان، بين الفلسفة والدين. وهذا حق، فقد كان النمط المسيحي قبل الرافد الإسلامي هو تمايز العقل عن الإيمان، والفلسفة عن الدين، نمط «أُومِن كي أعقل» عند أوغسطين أو «الإيمان باحثًا عن العقل» لأنسيلم. وظل ذلك حتى الجدليين في القرن الحادي عشر في صراعهم مع اللاهوتيين. ثم أتى أبيلار وجعل الفيلسوف هو المسلم، الوحيد الذي غير هذا النمط إلى نمط آخر وهو الهُوية الكاملة بين العقل والإيمان، بين الفلسفة والدين. أحدث هذا النمط الجديد هزة في الفلسفة المدرسية المتأخرة ابتداءً من القرن الثالث عشر، وبدأ التسليم به والاستسلام له، حتى إن توما الأكويني الفيلسوف المسيحي النموذجي أقر بقدرة العقل الطبيعي على الوصول إلى حقائق الإيمان. وانتشر النموذج الإسلامي في القرون التالية من الرابع عشر حتى عصر النهضة والعصور الحديثة. فلقد أثر التيار العقلي عند المتكلمين والفلاسفة المسلمين في إنشاء تيارات عقلية مشابهة داخل اللاهوت المسيحي. هذا التيار الذي استطاع لأول مرة الوصول إلى التوحيد العقلي الذي ورثته الفلسفة الحديثة بعد ذلك، والذي غير وضع المشكلة التقليدية، الصلة بين العقل والإيمان. فجعل العقل أساسًا للإيمان، وكان نتيجة لذلك اتهام بيرانجيه التوري ونيقولا الأمياني وأبيلار ثم سيجر البرابنتي وجيوردانو برونو وأنصار ابن رشد اللاتين بالكفر والإلحاد. وكان جزاء البعض منهم الحكم عليه حرقًا من محاكم التفتيش. وقد حدث نفس الشيء بالنسبة للعلم وعلوم الطبيعة. فقد كان النموذج المسيحية قبل الرافد الإسلامي هو مفارقة الطبيعة للعقل وتدخل الفضل الإلهي في مسار الطبيعة حتى يخلصها من خطاياها. وجاء النموذج الإسلامي ليوحد بين العقل والطبيعة ويثبت استقلال العقل واطراد قوانين الطبيعة، هُوية كاملة بين الله والطبيعة. فإذا كان النموذج المسيحي هو الاختلاف بين الوحي والعقل والطبيعة فإن النموذج الإسلامي هو الهُوية التامة بينها.١٨٥ لذلك نشأ الفكر العلمي من ثنايا الفكر الديني، والاستقراء سندًا للاستنباط، والتجريب متضامنًا مع المنطق. وكان أقرب إلى نقد المنطق الصوري الخالص كما حدث عند الفقهاء منه إلى نقد التجريب والبحث عن العلل المادية. وأخيرًا في موضوع خلود النفس كانت صورة الفلسفة الإسلامية في الفلسفة المدرسية، وعن حق، هي القول بخلود النفس الكلية أو العقل الكلي، والقول بقدم العالم، والتنزيه وإثبات وحدانية الله. والغالب على هذه الصورة أنها مستمدة من ابن رشد أكثر من صدورها من الكندي والفارابي وابن سينا. فابن رشد هو الذي سيطر على الفلسفة المدرسية من خلال أنصاره اللاتين، بعدما اختفى أنصاره المسلمون، وآثرنا الغزالي والصوفية، وكما رفضنا من قبل الاعتزال وآثرنا الأشعري والأشاعرة.
بدأ الرافد الإسلامي وأثره في الفلسفة المدرسية في القرن الثاني عشر بحركة الترجمة من العربية إلى اللاتينية.١٨٦ كانت الترجمة عند يوحنا الإسباني حرفية أولًا ثم معنوية ثانيًا، تمامًا كما حدث في نقلنا العربي القديم عندما نقلنا أولًا لفظًا بلفظ ثم نقلنا ثانيًا المعاني المباشرة والتعبير عنها بألفاظ عربية تلقائية تفرضها المعاني العقلية التي أكملها الوحي. ثم تحول المترجمون إلى مؤلفين كما حدث عندما أصبح يحيى بن عدي وحنين بن إسحاق وغيرهم أيضًا مؤلفين. فكتبوا في الرباعي من الفنون الحرة السبعة وتطورها إلى الإلهيات والطبيعيات وعلم النفس والسياسة والاقتصاد، وعرضوا نظرية الخلق وصيرورة الكون من وجهة النظر المسيحية.١٨٧ كما عادت مشكلة الكليات في الظهور عند بعض المترجمين الذي تناول الصلة بين الأفراد من ناحية والأجناس والأنواع من ناحية أخرى، وانتهى إلى أن الأجناس والأنواع كليات لا تتأثر بالخصائص الفردية.١٨٨ وانتهى البعض الآخر إلى نوع من وحدة الوجود. فالله في كل شيء، وكل شيء في الله.١٨٩

(٥) اكتمال الفلسفة المدرسية (القرن الثالث عشر)

وقد ساعد على ازدهار الفلسفة المدرسية وبلوغها الذروة أيضًا، بعد الرافد الإسلامي، تأسيس الجامعات الأوروبية على النمط الذي رأوه الأوروبيون أثناء الحروب الصليبية في جامعات الشرق، وكتطور طبيعي لتحويل عقائد الكنائس إلى إشراقيات الأديرة ثم إلى فلسفات المدارس والجامعات.١٩٠ وكانت المقررات في هذه الجامعات الفلسفة القديمة والفلسفة والعلوم الإسلامية، خاصة الرشدية الباريسية. وفي نفس الوقت بدأ التحول من الفنون والآداب إلى النحو والمنطق، ومن البلاغة إلى الفلسفة، ومن الخطابة إلى الفكر، ومن وثنية الآداب اللاتينية إلى تنزيه الفكر الإسلامي. ونشأت معركة الفنون الحرة السبعة بين أنصارها وخصومها.١٩١ وفي نفس الوقت بدأ العداء لأنصار الفلسفة الإسلامية وما تمثله من عقل وطبيعة ونظم سياسية مدنية تقوم على الفصل بين الكنيسة والدولة. ولما كان المسلمون هم الذين يدافعون عن أرسطو فقد تم تحريم تدريس أرسطو والفلسفة الإسلامية معًا في باريس.١٩٢
وبسبب هذا التوتر بين الآداب القديمة والفكر الجديد، بين اللاهوت والفلسفة الإسلامية، ازدهرت الفلسفة المدرسية وبلغت ذروتها في القرن الثالث عشر. لذلك يُعَد من أعظم العصور الفلسفية، عصر اللاهوت المدرسي، الأرسطية بعد أن تحولت إلى مسيحية، واكتمل «التضمن الكاذب» أو «التجوهر الكاذب». وبالتالي أصبحت هناك ذروتان في تكوين الوعي الأوروبي في مرحلة المصادر الأوغسطينية والتوماوية: الأولى إشراقية صوفية والثانية عقلانية فلسفية. ولم يمنع ذلك من التقاء الذروتين بين الحين والآخر عن طريق القنوات التحتية المشتركة بينهما. وبالتالي تستمر الأوغسطينية في التصوف التأملي، وتعتمد التوماوية كثيرًا على الأوغسطينية، وكأن الشعور كعقل (توما الأكويني) لا يفكر إلا في الشعور كتجرِبة حية (أوغسطين). وحذر البابا جريجوار التاسع لاهويتيِّي باريس، وعلى رأسهم بطرس البواتيِيُّ، من تدريس اللاهوت الخالص، إشارة إلى ميتافيزيقا أرسطو. ولكن هذا التحذير لم يمنع الفلاسفة من الاستمرار في الاعتماد على أرسطو وشروح المسلمين وفلسفتهم لفهم اللاهوت المسيحي. فدرس سيمون التورني طبيعيات أرسطو، وصحح وليم الأوكزيري نسخ أرسطو. وأثبت فيليب الجِنوي صفات الوجود العقلية: الواحد، والحقيقي، والخير. وكان أبرزهم وليم الأوفرني.١٩٣ ويتضح لديه أثر ابن سينا خاصة في التمييز بين الماهية والوجود. والله بسيط، منزه، وواحد، والعالم حادث. والإنسان له إرادة حرة دون أن ينفي ذلك شمول الإرادة الإلهية. والنفس بسيطة ومتميزة عن البدن، وهنا يبدو التصور الإسلامي للنسق الفلسفي واضحًا تمامًا. لذلك تم تحريم أرسطو في باريس من جديد، واعتُبر ابن رشد عدو الكنيسة الأول. واستمر التوتر عند عديد من الفلاسفة في كافة أرجاء القارة الأوروبية.١٩٤ يتأرجحون بين الإشراق والنزعة العلمية تحت أثر العلماء المسلمين، خاصة ابن الهيثم وكتاب «المناظر»، والنزعة العقلية في مقابل النزعة الإشراقية، وشرح المسلمين لأرسطو حتى استطاعوا إيجاد توازن بين الأوغسطينية والأرسطية، وهو ما وضح عند توما الأكويني بالفعل. ولقد تكاثر فلاسفة القرن الثالث عشر. كلهم يعبرون عن هذا التفاعل بين تيارات الفلسفة المدرسية كلها حتى يصعب وضع كل فيلسوف في تيار متمايز. وقلَّت دلالة التوالد الزماني الدقيق نظرًا لأنهم لم يكوِّنوا جميعًا كتلة واحدة لا يتميز فيها إلا القليل. فمثلًا جمع الإسكندر الهالي معظم تيارات العصر الوسيط قبل توما الأكويني: الأوغسطينية، والفلسفة المدرسية، والفلسفة الإسلامية، محاولًا ضمها جميعًا في منظور واحد.١٩٥ كما حاول يوحنا اللاروشيللي نفس الشيء مع اعتماد أكثر على ابن سينا.١٩٦ وغلب على أوستاش الأراشي الإشراق في شرحه.١٩٧ وانتظم جوتييه البورجي في صف الفلسفة المدرسية.١٩٨ واستمر هذا التقليد عند عديد من الفلاسفة الآخرين حيث تتدخل الأوغسطينية أحيانًا لتزاحم الأرسطية.١٩٩ ثم ينضم الرافدان في السينوية. وتظهر مسائل النفس وصلتها بالبدن بعض المسائل المنطقية والميتافيزيقية الخالصة.٢٠٠
وقد أخذ هذا التوتر بين عدة تيارات عقلية ودينية في القرن الثالث عشر شكلًا جديدًا. فظهر تياران آخران: الأول علمي يعتمد على العقل، والثاني صوفي يعتمد على القلب. يحتل التيار الأول روبير جروستست الذي استطاع أن ينقل نظرية الضوء التي وضعها المسلمون في إطار مسيحي.٢٠١ فالضوء هو الفعل الإلهي الحركي في الخلق، ومن خلاله امتدت المادة اللانهائية لخلق عالم متناهٍ، وهو الوسيلة التي تحرك بها الرُّوح الجسد. وقد استمر عديد من أساتذة أكسفورد في نفس التيار العلمي الذي يضم بقايا الأفلاطونية الجديدة والفلسفة الإسلامية الإشراقية وأرسطو.٢٠٢ وكانت إلهيات ابن سينا لها أبلغ الأثر في هذا الوسط العلمي لجامعة أكسفورد. ويمثل التيار الثاني القديس بونافنتورا.٢٠٣ فالمعرفة لديه هي التأمل الصوفي حتى تشرق المعارف في النفس. والنفس في معراجها إلى الله تتحد به وتثبت وجوده. لذلك يقبل الدليل الأُنطولوجي على وجود الله الذي صاغه أنسيلم من قبل، وأعاد ديكارت صياغته من بعد، وقبله هيجل، ورفضه كانط في العصور الحديثة. يتجلى الله أولًا في العالم الحسي، ثم ترتسم صورته في النفس، وأخيرًا يشرق العقل فيتقدس الله في العالم الحسي وفي النفس، ويتجلى الله في المخلوقات، أما في الفعل فيتجلى الله ذاته. وفي معركة الكليات أخذ الحل الواقعي.
ثم تبلغ الفلسفة المدرسية الذروة في القرن الثالث عشر عند ألبير الكبير وتلميذه توما الأكويني حيث برز النموذج الأرسطي واضحًا كما برز النموذج الأفلاطوني في الذروة عند أوغسطين في عصر آباء الكنيسة. لقد تبنى اللاهوتيون صراحةً المشائية باعتبارها فلسفة الدين. ولم يعد هناك خلاف بين المسيحية الأرسطية. فانتصرت الوثنية مرة أخرى على العقيدة في إطار «التجوهر الكاذب». كما يتضح في هذه الفترة أثر الفلسفة الإسلامية كشرح للفلسفة اليونانية أو كإبداع مستقل. ثم الانتقال من النقل إلى الإبداع. فقد كان العصر الوسيط يميز بين الكاتب، والجامع، والشارح، والمؤلف. رفض ألبير الكبير مع تلميذه توما الأكويني تفسيرات ابن رشد لأرسطو.٢٠٤ وأصبحت الفلسفة المدرسية لديهما أشد محافظة وأقل جرأة مما كانت عليه لدى العقليين في القرنين السابقين. جدليين أو فلاسفة. استعمل أرسطو لتأييد الدين. جمع بين التاريخ الطبيعي وأساطير التوراة، بين الملاحظة المباشرة للطبيعة وبعض الخرافات. وترجع شهرته أساسًا إلى نقله العلوم الطبيعية اليونانية والإسلامية بالرغم من إدانة باريس لابن رشد في ١٢٧٧م بسبب قوله بالحتمية الكونية. فنتيجة للتمييز بين الدين والفلسفة تتم التضحية بالدين من أجل الفلسفة في فترة ازدهار العقلانية، ثم يتم تحويل الدين ذاته إلى فلسفة، فيترك الناس الدين ويصبحوا فلاسفة. فتنشأ حركة محافظة تقلب المسار، وتعود إلى الدين، وتميزه عن الفلسفة. هذا هو المسار التاريخي لصلة الفلسفة بالدين في الفلسفة المدرسية، وليس بالضرورة للفلسفة والدين في ذاتهما أو لنموذج آخر يبدأ بالتوحيد بينهما منذ البداية مثل النموذج الإسلامي. ويمكن إيجاز فلسفة ألبير الكبير بأنها تعتمد في نظرية المعرفة على التجرِبة الحسية، وبالتالي استحالة الدليل الأُنطولوجي على وجود الله؛ نظرًا لأنه دليل عقلي قبلي لا يعتمد على الحس كما قال كانط، وضرورة البرهان الخارجي من العالم أو البعدي التجريبي، واستحالة البرهنة على خلق العالم في الزمان حتى لا نقع في القول بقدم الزمان وبالتالي قدم العالم، وأخيرًا فردية العقل حتى لا نقع في القول بخلود العقل الكلي. وقد استمر تلامذة ألبير الكبير يسيرون في نفس التيار، الجمع بين الفلسفة الطبيعية واللاهوت.٢٠٥
ولكن التلميذ الذي فاق كل التلاميذ وفاق الأستاذ نفسه هو توما الأكويني.٢٠٦ أراد تخليص أرسطو من شروح المسلمين التي جعلته ماديًّا عقلانيًّا طبيعيًّا أكثر مما هو عليه، فقام بشروحه المسيحية الخاصة التي جعلت أرسطو والمسيحية متفقَين، وبالتالي يمكن إقامة فلسفة مسيحية أو أرسطية مسيحية طبقًا «للتجوهر الكاذب»، وليس مسيحية أرسطية طبقًا «للتشكل الكاذب» كما فعل المسلمون. فالأرسطية حقيقة والمسيحية لغة (التجوهر الكاذب) في حين أن الإسلام حقيقة والأرسطية لغة (التشكل الكاذب). أسس توما الأكويني اللاهوت الطبيعي. فالعقل قادر على إثبات وجود الله دون حاجة إلى الإيمان، ولكن الإيمان وحده هو القادر على إدراك سر الله، أي التثليث. ثم يأتي عقل الإيمان كي يفهم السر في مرحلة ثالثة. لذلك صاغ براهنيه الخمسة المشهورة على وجود الله، والتي تعتمد على الحركة، والعلة الفاعلة، والضرورة والإمكان، ودرجات الوجود، والعلة الغائية. وتحدث عن الله بطريقين: سلبي بنفي صفات النقص عنه، وإيجابي بإثبات صفات الكمال له، ومجازي للتعبير عن ذاته على نحو تقريبي إنساني جمالي. الطريقان الأولان للتنزيه، والطريق الثالث للتشبيه. وفي الطبيعيات قال بخلق العالم بفعل إرادي حر ورفض الفيض بالرغم من أن الفلسفة لا تستطيع أن تثبت أن العالم له بداية في الزمان، وهو أشبه بتناقضات العقل الخالص عند كانط. والإنسان له إرادة حرة وقدرة على الاختيار، وفي نفس الوقت يتدخل الفضل الإلهي كما تفعل الأشاعرة في نظرية الكسب. والنفس خالدة على نحو فردي ضد ابن رشد ورأيه في أن الإنسانية كلها لها عقل واحد. وبالرغم من حوار توما الأكويني مع الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وابن جبرول، وإيمانه بالرفض أكثر من القبول، إلا أنه كان يقيم فلسفة مسيحية والفلسفة الإسلامية إطار مرجعيٌّ له. بل يمكن القول إن توما الأكويني هو الجمع بين أفلاطون من خلال أوغسطين وأرسطو من خلال الشراح المسلمين.
واستمر تلاميذ توما الأكويني يمثلون الأرسطية المسيحية حتى الرشدية اللاتينية التي خرجت عن شروح توما الأكويني وعادت إلى شروح ابن رشد.٢٠٧ وإذا كانت السينوية قد نجحت في أن تصبح نموذجًا للفكر المسيحي في القرن الثاني عشر فإن الرشدية استطاعت أن تكون نموذجًا آخر للفكر المسيحي في القرن الرابع عشر. فالانتقال من الثاني عشر إلى الرابع عشر يمثل انتقال النموذج من السينوية إلى الرشدية. وبالتالي يكون ألبير الكبير وتوما الأكويني مجرد مرحلة انتقال من النموذج الأول إلى النموذج الثاني.٢٠٨ ولما كانت الفلسفة الطبيعية أحد الروافد الرئيسية في الذروة عند ألبير الكبير وتوما الأكويني فقد استمرت على نحو آخر متجهة أكثر فأكثر نحو الفكر العلمي التجريبي أو المنطقي الرياضي الخالص مؤذنة ببدايات العصور الحديثة في تياريها الرئيسيين: التجريبية والعقلانية. ومع ذلك لم يخل التياران في القرنين الثالث عشر والرابع عشر من نواحي إشراقية وميتافيزيقية. ويمثل التيار الأول التجريبي روجر بيكون.٢٠٩ وبالرغم من إعجابه بأرسطو إلا أنه لم يكن من التيار الأرسطي العام في باريس. جمع بين الأفلاطونية الجديدة الممثلة في بعض الكتابات المنتحلة وبين الفكر العلمي الرياضي عند جروستست.٢١٠ الرياضيات لديه أساس العلوم مثل ديكارت. ولكن المادة العلمية تأتي عن طريق الحواس والتجرِبة كما هو الحال عند المسلمين، والذين كان روجر بيكون على اطلاع على كتاباتهم وتجارِبهم العلمية. وبالإضافة إلى التجارِب العلمية من خلال الحواس تأتي الأخلاق لتنير العقل في فهم الحقيقة، وتهبط الإلهامات الإلهية من خلال البطاركة والأنبياء! وفي مشكلة الكليات أعطى روجر بيكون الأولوية للفردي على الشامل، وللجزئي على الكلي، والذي كان أساس الواقعية عند دانز سكوت في أواخر القرن الثالث عشر وأوائل الرابع عشر. أما التيار الثاني المنطقي فيمثله ريمون لول الذي حاول وضع أسس علم جديد، علم المبادئ العامة يتجاوز المنطق والميتافيزيقا وتقوم عليها مبادئ العلوم كلها وكأنها آلة مفكرة.٢١١ وقد سبق بذلك لَيبنتز في محاولته لإقامة علم «الرياضة الشاملة» أو «الفن التوافيقي». ولم تكن الغاية منطقية رياضية صرفة بل الانتقال بعد ذلك إلى تأسيس ما أسماه الشيعة الإسماعيلية «علم الميزان» أي محاولة إيجاد التوازي بين العالم والكتاب المقدس. لذلك لم تخل فلسفته من جوانب إشراقية وأرسطية.
أما الفلسفة اليهودية فلم تزدهر قدر ازدهارها في القرنين السابقين الحادي عشر والثاني عشر وقدر ازدهار الفلسفة المسيحية في الثالث عشر. لم تبرز إلا شخصية واحدة، هِلل الفيروني يعرض لمشكلتين رئيسيتين: النفس والثواب والعقاب معتمدًا على ابن رشد.٢١٢ فالنفس الفردية تتلقى أثر العقل الفعال الكلي ليساعدها على تحقيق قواها. وهي خالدة حتى يمكن الثواب والعقاب. يقبل ابن رشد في فيض العقل الكلي على النفس الفردية، ويرفضه في القول بخلود العقل الكلي.

(٦) نهاية الفلسفة المدرسية (القرن الرابع عشر)

تتمثل هذه النهاية في تحول «الثيولوجيا» إلى «أُنطولوجيا» والفلسفة الطبيعية إلى علم تجريبي، وأولوية الإرادة الإلهية إلى أولوية الإرادة الإنسانية، والانتقال إلى التوحيد بين السلطتين الدينية (الكنيسة) والزمنية (الدولة) إلى التمييز بينهما. وهذا التحول كله يمثل إرهاصات العصور الحديثة. وقد بدأ على أيدي كبار الفلاسفة المسيحيين في القرن الرابع عشر دانز سكوت، وليم الأوكامي، جان بيوريدان، المعلم إيكهارت، تاولر، وكبار الفلاسفة اليهود: ليفي بن جرشون، كرسكاس، هارون إليجا. وبالرغم من أن دانز سكوت ينتمي تاريخيًّا في معظمه إلى القرن الثالث عشر إلا أنه يعبر فكريًّا عن رُوح القرن الرابع عشر وفلسفته.٢١٣ تنشأ المعرفة لديه من الحواس، والطبيعة يحكمها قانون العِلِّية. التجرِبة والملاحظة والاستقراء أساس العلم ضد الأحلام والخرافات والأوهام وكأنه فرنسيس بيكون في العصور الحديثة يضع أسس المنطق الجديد أو جون استيوارت مِل يضع أسس منطق الاستقراء. والضروري أساس الشامل، والجزئي سابق على الكلي. لذلك أصبح من رواد المدرسة الواقعية في مشكلة الكليات. ومع ذلك، التفرد مبدأ صوري وليس من المادة كما هو الحال عند أرسطو، وبالتالي يمكن عقله دون حاجة إلى نظرية في المُثُل الأفلاطونية. والقسمة في سقراط إلى العام والخاص ليست فقط عقلية بل وجودية. وبالتالي يكشف دانز سكوت الوجود، ويشق به طريقًا ثالثًا بين مثالية أفلاطون ومادية أرسطو مما يجعله أحد الفلاسفة المعاصرين، ارتبط به الفلاسفة المعاصرون أنفسهم مثل هُوسِرل وهَيدجر.٢١٤ كما حاول بيرس وهوبكنز إعادة بناء مذهبه. أما فيما يتعلق بالبراهين على وجود الله فإن براهين توما الأكويني التي مثلت ذروة الفلسفة المدرسية ناقصة، خاصة دليل المتحرك والحركة. هناك فرق بين الله كمحرك أول أو علة أولى وبين الله الواحد القهار في الدين. الله إمكانية وليس مجرد فيزيقا، أُنطولوجيا وليس ثيولوجيا. ويمكن عن طريق الملاحظة والتجرِبة إثبات وجود الله كتجرِبة حية تكشف عن الوجود العام كما فعل أوغسطين وابن سينا. ولما كانت للفردي الأولوية على الشامل فقد انعكس ذلك على نظريته في حرية الإرادة الإنسانية التي لها الأولوية على الإرادة الإلهية. والإرادة الإلهية حرة وليست مجبرة، مختارة في خلق الكون طبقًا للعلل ضد الحتمية الأرسطية التي لا ترى أي مكان للحرية أو الحدوث.٢١٥ الإرادة الإلهية حرة في الخلق، والإرادة الإنسانية حرة في الفعل.
ويميز دانز سكوت بين قدرة الله المطلقة وهي الإرادة وقدرة الله المنظمة وهي الحكمة. الأولى حتمية والثانية حرة. الأولى عقل والثانية محبة. وبعض الأوامر الإلهية ليست قوانين طبيعية حتمية كما يتصورها توما الأكويني بل ترتبط بالإرادة الحرة وبالمحبة. وهنا يقترب دانز سكوت من الاعتزال قدر ابتعاده عن الأشعرية، ومن ابن رشد في تغليبه الحكمة على الإرادة قدر ابتعاده عن الخلق الحتمي أو الفيض الضروري عند الفلاسفة الإشراقيين. ولما كان دانز سكوت من رواد المدرسة الواقعية سار معه واقعيون كثيرون في القرن الرابع عشر.٢١٦ بل استمر الأمر حتى القرن الخامس عشر.٢١٧ وهناك مجموعة أخرى من الفلاسفة سارت في نفس التيار في شتى أنحاء القارة الأوروبية.٢١٨ ثم أتت مجموعة ثالثة تركز على الصلة بين الوجود العام والوجود الخاص وتنقل الثيولوجيا إلى أُنطولوجيا كي تلحق بابن سينا وابن رشد وابن عربي في تراثنا القديم وبهَيدجر في الفلسفة الأوروبية المعاصرة.٢١٩
والشخصية الرئيسية الثانية في القرن الرابع عشر هو وليم الأوكامي.٢٢٠ فإذا كان القرن الثالث عشر قد حاول الجمع بين اللاهوت الطبيعي ولاهوت الوحي فإن القرن الرابع عشر حاول نقد الفلسفة واللاهوت معًا، وذلك اعتمادًا على المعرفة الحسية والتجارِب العلمية وتأسيس بدايات العلم الحديث. اهتم وليم الأوكامي بالوضوح العقلي للقضاء على غموض العصور الوسطى، وأقام منطقه وفكره على مبدأ الاقتصاد في الوجود، وهو الذي عُرف بعد ذلك باسم «نصل أوكام». فلا يمكن تكثير الوَحَدات التي تفسر الواقع بأكثر مما هو ضروري لذلك. فتم إرجاع الفلسفة واللاهوت معًا إلى المنطق. قاس الغائب على الشاهد، وانتهى إلى بعض مسالك العلة عند المسلمين، وفي المنطق الاستقرائي الحديث عند مِل مثل التلازم في الوقوع والتلازم في التخلف. وقد عُرف بمقالين ضد الواقعية في مشكلة الكليات. ثم عاد إلى تحليلها في عالم الأذهان بالاعتماد على المنطق واللغة. اعتبرها أولًا وقائع ذهنية Facta، وهو مفهوم مستقًى من أورليولوس وتعني وَحَدات متبادلة بين الذهن والواقع. ثم اعتبرها ثانية مجرد أفعال جديدة تجمع بين الأرسطية وتحليلاته الحديثة لمشكلة الكليات. وتقوم هذه المدرسة على أهمية التحليل المنطقي خاصة الافتراض Supposition، وتحديد المعرفة لأن الشمول يُعزى فقط إلى الألفاظ والقضايا لا إلى الأشياء. وطبق ذلك في اللاهوت، إذ لا يمكن البرهنة على أيٍّ من قضايا اللاهوت مثل وجود الله وخلق الرُّوح. فهذه موضوعات لا منطقية تقتضي الإيمان بها. وبالتالي تتحول الفلسفة إلى منطق، والدين إلى تصوف. على هذا النحو تبدأ المعرفة بالفردي عن طريق التجرِبة ثم تنتقل إلى تحلل لُغوي للألفاظ كي تحصل في النهاية على الوضوح العقلي المطلوب. وقد أثرت آراؤه في أحوال القضايا نزولًا منها إلى القضايا الجزئية في منطق الماصدق طوال القرن الرابع عشر. وهنا يبدو وليم الأوكامي فيلسوفًا تحليليًّا معاصرًا للمنطق واللغة، ظاهراتيًّا يحلل الماهيات في الشعور واضعًا مشكلة الذاتية قبل أن يتم وضعها في بداية الوعي الأوروبي في العصور الحديثة. وفي السياسة كان على عكس دانز سكوت الذي أخذ صف البابا ضد فيليب. كان ضد البابا يوحنا الثاني والعشرين في موضوع السلطة الزمنية للكنيسة. وكان من الداعين إلى الفصل بين السلطتين ومبشرًا بقدوم العلمانية الحديثة.
وقد استمرت المدرسة الأوكامية تعلي من سلطة العقل على سلطة أرسطو،٢٢١ وتبين إمكانية اتفاق التثليث مع المنطق،٢٢٢ وتعادي الميتافيزيقا، وتستعمل الفلسفة لفهم اللاهوت تأثرًا بابن رشد،٢٢٣ ويعود بعض أنصارها إلى الأوغسطينية،٢٢٤ وتفصل بين العقل والإيمان، ولا تثبت إلا المعرفة الحسية التجريبية مثل هيوم في العصور الحديثة.٢٢٥ ظهر الأوكاميون على أنهم محدثون، ملحدون، ينتقلون من اللاهوت الطبيعي إلى العلم التجريبي، ومن غموض الإيمان إلى الوضوح العقلي. وهو ما وضح في عصر النهضة في محوري العقل والطبيعة. وبدأ فريق آخر يتجه إلى الفكر العلمي الصرف ويقول بالتوليد كما قال به المعتزلة، ويفسرون الطبيعة بنفسها.٢٢٦ ثم برز من بينهم يحيى بيوريدان ليرفض طرفي النقيض: الأوكامية المنطقية وبعض الشروح الجذرية وإضافات الفلاسفة المسلمين على أرسطو.٢٢٧ ولكنه ظل أرسطيًّا منطقيًّا علميًّا يرفض الثنائية القديمة بين اللاهوت الطبيعي ولاهوت الوحي، ويبدأ بالفكر العلمي وبمفاهيم العلم مثل الحركة والتوليد. وقد اشتهر بمَثَل «حمار بيوريدان» وهو منقول من أرسطو، ولكنه يعني عند بيوريدان رفض القرار بلا باعث أو دافع للاختيار.
وقد ساهم التصوف التأملي في الانتقال من الثيولوجيا إلى الأُنطولوجيا في القرن الرابع عشر، وإعطاء الأولوية للوجود على المعرفة وللواقع على المثال. وقد بدأ ذلك على يد المعلم إيكهارت.٢٢٨ فقد انتهى إلى التصوف التأملي الذي عبر عنه بمصطلحات صعبة. كما احتوى على عناصر أرسطية وأوغسطينية وأفلاطونية جديدة. وسار في نفس التيار يحيى تاولر.٢٢٩ فقد اهتم بالجوانب الدينية والأخلاقية للتصوف، وحاول مثل إيكهارت الدخول في تجرِبة شخصية لإدراك الله حالًا في النفس. واستمر التيار التأملي عند مجموعة أخرى من الصوفية حتى القرن الخامس عشر.٢٣٠ ثم اجتمعت التوماوية والأوكامية والتصوف التأملي لدى آخر الفلاسفة المدرسيين الكبار الذي شارف على القرن الخامس عشر يحيى الجرشوني.٢٣١ وبالرغم من غرقه في المذهب الاسمي إلا أنه انجذب إلى توما الأكويني. فقد رفض اللاهوت التأملي عند اتباع دانز سكوت لخطورته على اللاهوت، وآثر اتباع تصوف قلبي يقوم على حب الله دون الوحدة مع الله. كما حاول التوحيد بين الكنيسة الشرقية والكنيسة الغربية منذ انفصالهما في القرن الخامس. ويبدو أنه كان إرهاصًا لعصر الإصلاح الديني وعصر النهضة والعودة إلى الأفلاطونية في القرنين القادمين. وانتهت الفلسفة المدرسية بمجموعة من الرشديين يجمعون بين الفلسفة والعلم والسياسة.٢٣٢
أما المسيحية الشرقية في القرون الثلاثة الأخيرة من العصر الوسيط من الثالث عشر حتى الخامس عشر فقد ذاعت بعد وقوع القسطنطينية في أيدي الصليبيين في ١٢٠٤م في الحملة الصليبية الرابعة وانقسام الإمبراطورية البيزنطية إلى دويلات مستقلة لاتينية ويونانية. ففيها دويلة نيقيا اليونانية التي قامت بتوحيد الدويلات اليونانية فيما بعد. وأقام فيها الإمبراطور فاناتزيز مدرسة فلسفية.٢٣٣ وأمر المحافظين ورؤساء المدن بتعيين فلاسفة للخطابة والطب والرياضيات. وبلغت النزعة الإنسانية في بيزنطة الذروة في نفس الوقت الذي بلغته فيه في إيطاليا، بالإضافة إلى قيمة العلم الذي كان واسع الانتشار في أكاديمية تريبيزوندا، والتي كانت ملتقى العلم اليوناني والفارسي. بدأت الفلسفة البيزنطية بالنقل والشرح والتخليص والتجميع، ثم ظهر الإبداع بعد ذلك في تيارات فلسفية وصوفية وتأملية وأفلاطونية جديدة وأرسطية … إلخ. وقد انعكست في هذه التيارات الخلفية السياسية للإمبراطورية وأوضاع الوحدة والتجزئة، كما ظهر في اللاهوت والتصوف انعكاس الرُّوح الوطنية. ارتبط التيار الفلسفي بالتيار العلمي، فقد كانت العلوم الرياضية والطبيعية جزءًا من علوم الحكمة. ظهرت الشروح على أرسطو، كما شاعت مشاكل الفلسفة المدرسية، خاصة مشكلة الكليات ومحاولة الجمع بين المذهبين الاسمي والواقعي. حاول بليميدس التوفيق بين أفلاطون وأرسطو من منظور مسيحي كما فعل الفارابي قبل ذلك من منظور إسلامي، مع التركيز على مناهج التربية والتعليم ونشر الفلسفة في المدارس والجامعات.٢٣٤

وظهر في الفكر السياسي الملك الإلهي الذي يتمثل الإرادة على ما هو معروف في النظم الثيوقراطية، مستبد مستنير، اعتمد عليها المنظرون الغربيون المحدثون في صياغة نظرية «الاستبداد الشرقي». فالعالم كله الطبيعي والإنساني يقوم على وحدة مبدئية، وحدة الأشياء في الطبيعة، ووحدة البشر في العواطف والانفعالات والأهواء المختلطة المتضاربة. وعند الرياضيين العلماء ظهر التقابل بين العلوم الرياضية والطبيعية العقلية الدقيقة الواردة من اليونان وعلوم السحر والكهانة والتنجيم والكيمياء الواردة من الشرق. وقد آثر البعض العودة إلى سقراط، مثل الفيلسوف يعقوب، وإلى التأمل والاستبطان. وآثر فريق ثانٍ العودة إلى أرسطو مثل الراهب صوفونياس. ثم ظهرت النزعة الإنسانية العامة والانفراج على عالم المعارف الإنسانية والطبيعة بعيدًا عن التأملات الصوفية والتي تبشر بنهاية العصر الوسيط كما حدث في إيطاليا. ثم اكتملت هذه النزعة في النهضة العلمية عند جريجوراس الذي نظم المعارف الإنسانية ووضع أسس المعرفة الحديثة قبل كانط في المعارف القبلية والبعدية، وصلة العقل بالحس، واليقين بالشك.

ثم ظهر مذهب التقوى والاطمئنان الشرقي قبل أن يظهر عند جورج فوكس في القرن السابع عشر في الغرب كرد فعل على الفتح الإسلامي لآسيا الصغرى على يد الأتراك، معبرًا عن حياة التأمل والرهبنة والزهد في العالم والابتعاد عنه.٢٣٥ ومثل معظم الطرق الصوفية اعتمد المذهب على القلب دون العقل، وعلى الرياضة والمجاهدة دون العلم النظري. وقد انضم إلى المذهب بعض الرواقيين من اليونانيين الغربيين مثل بارلعام. كما انضم إليه الأفلاطونيون الجدد. وأصبح يعادل في الشرق المعلم إيكهارت والصوفي تاولر في الغرب. واعتمد بارلعام على التأمل النظري بالإضافة إلى الحضور القلبي الذي لا يكفي وحده الاتحاد بالله. وفي القرن الخامس عشر سادت الفلسفة المسيحية الشرقية التيارات الأرسطية والأفلاطونية، خاصة عند بليثون، بيساريون، جينا ديوس (سكولاريوس)، أي عودة إلى الفلسفة المدرسية في مصادرها الأولى بعد ظهور خصوصية الشرق في التأمل الصوفي والحضور الإلهي في القلب.٢٣٦ ومع ذلك لم تخلُ هذه التيارات اليونانية من آثار الزرادشتية الفارسية القديمة كما بدت عند بليثون. بل ظهر لديه أيضًا أثر الفلسفة الإسلامية في التوحيد والعدل والتنزيه والحضور الإلهي الشامل. وقد حاول بليثون التوفيق بين أفلاطون وأرسطو بعد بيان الفرق بينهما ومعطيًا الأولوية لأفلاطون. وروَّج للفنون الحرة السبعة بالإضافة إلى التاريخ والجغرافيا. ونظرًا لما آلت إليه الإمبراطورية البيزنطية من تمزق وضياع، فقد فكر في إعادة تنظيمها من أجل إنقاذها. فكان من الرواد الأوائل للاشتراكية والوطنية والفكر الاقتصادي الموجه: الجيش الوطني، الاقتصاد الوطني، الصناعة الوطنية، الحد من الاستهلاك والاستيراد، العمل المصدر الوحيد للقيمة، سابقًا بذلك فشته في ألمانيا أثناء احتلال نابليون. وكان رائد الفزيوقراطيين الغربيين الذين أعطوا الأولوية للإنتاج الزراعي. ومع ذلك فقد كان ضحية الفكر السياسي الشرقي العام الذي يجعل الملك أي الدولة أداة التغيير؛ فالملك المستنير والمستبد العادل هو القادر على قيادة استبداد الأقوياء واستبداد الشعب، أما جهاز الدولة فيقوم على أهل الاختصاص. وأقام اللاهوت على عَلاقة مباشرة بين الإنسان والله. وآمن بخلود النفس الفردية على النقيض من فناء النفس الفردية وخلود النفس الكلية عند ابن رشد. وعلى النقيض من بليثون ركز سكولاريوس على حقيقة العقيدة المستقلة بذاتها عن الفلسفة. وقد دافع بيسارون عن أرسطو بالرغم من حبه لأفلاطون بعد أن بدأ ذلك ثيودوروس جازيز.٢٣٧ ونقد مرقص الأفيزي الحتمية المطلقة في الدين والفلسفة حتى يمكن للإمبراطورية البيزنطية أن تتحرر وأن تسترد وعيها الخلقي والوطني، ورفض مع سكولاريوس التوقيع على وحدة الكنائس بلا وحدة الأوطان.٢٣٨ كما قلل ثيوفان الميدي من ثقل الفضل الإلهي. ثم عارض سكولاريوس أفلاطونية بليثون والأرسطية البيزنطية التقليدية عائدًا إلى الفلسفة المدرسية التقليدية كما جسَّدها توما الأكويني. وبالتالي حملت الفلسفة البيزنطية كل التراث اليوناني الغربي والإسلامي والفارسي والصيني الشرقي. كانت حلقة اتصال بين الشرق والغرب. وانتشرت نحو الشرق لتأسيس الأرثوذكسية في روسيا ونحو الغرب لنقل التراث الإسلامي.٢٣٩
أما الفلسفة اليهودية فبعد هِلل الفيروني في القرن الماضي ظهر ثلاثة فلاسفة يختمون أيضًا الفلسفة اليهودية في العصر الوسيط. لم يكونوا في إسبانيا هذه المرة بعد سقوط غرناطة وبداية محاكم التفتيش ضد المسلمين واليهود على السواء واضطرارهم إلى التحول إلى المسيحية أو النزوح إلى المغرب، بل ظهروا في أوروبا بعد أن بدأت لها السيطرة منذ بداية الاستكشافات الجغرافية. ظهر ثلاثة فلاسفة: ليفي بن جرشون، هارون بن إليجا، كرسكاس. كان ابن جرشون فيلسوفًا عقلانيًّا رفيعًا، سار على آثار موسى بن ميمون واختلف معه.٢٤٠ آثر برهانًا غائيًّا على وجود الله نظرًا لضعف البراهين الكونية، وبالتالي يُعتبر سابقًا على كانط وفشته. ويمكن معرفة الله إيجابًا وليس فقط سلبًا. وأنكر الخلق من عدم مؤكدًا قدم المادة على طريقة الرشديين اللاتين. وأعطى الأولوية لحرية الإرادة على علم الله المسبق. أما هارون إليجا فإنه عرض لأمهات المسائل الفلسفية على نحو عقلاني.٢٤١ ويتضح فيها أثر المعتزلة وموسى بن ميمون. وكان كرسكاس أول فيلسوف أوروبي ينقد أرسطو وكونياته، ويثبت احتمال وجود عظم لا نهائي ممهدًا الطريق إلى تصور جديد للعالم.٢٤٢ انفصل عن التيار السائد في الفلسفة اليهودية، وهو عقلانية ابن ميمون، مؤكدًا حدود العقل الإنساني. آثر الجانب العاطفي في الدين، وجعل الحب إحدى صفات الله ووسائل خلقه. يحتاج الإنسان إليه حتى يحصل على السعادة بالوحدة الصوفية مع الله. وأعطى آراء جديدة في موضوع الحرية وخلق الأفعال تفسح المجال لتدخل الإرادة الإلهية. تأثر بالقَبالة اليهودية وببعض الإشراقيين المسيحيين، وله أبلغ الأثر على فلاسفة عصر النهضة، مثل: بيك الميراندولي، وجيوردانو برونو، وعلى فيلسوف التنوير اسبينوزا في القرن السابع عشر.
وفي أواخر القرن الرابع عشر بدأ الوعي الأوروبي يتخلق من جديد مؤذنًا بنهاية عصر وبداية عصر آخر، يتمخض عن القديم، ويبدأ بداية جديدة في عصر الأخيار، عصر العودة إلى الآداب القديمة والتخلص من الفلسفة المدرسية ذروة العصر الوسيط، ووضع نهاية للعصر المدرسي والجدل الكلامي واللعب بالتصورات الفارغة بعد أن كانت الآداب قد تخلت عن دورها في الفلسفة المدرسية للمنطق والفلسفة الأرسطية، وربما العودة إلى أوغسطين من جديد وتراث الآباء الرُّوحي إيذانًا ببروز الذاتية في العصور الحديثة في الآداب القديمة إحساسًا بالحياة وبضرورة العودة إلى الإنسان، وبأن الشر قبيح والخير جمال. في الآداب كمال الإنسان، والإحساس بالجمال سابق على إعمال العقل. بل تقدر الآداب أحيانًا على إدراك ما لا تستطيع الفلسفة إدراكه. بدأت «العودة إلى الأصول» وهو اتجاه «سلفي» بالبحث عن النصوص القديمة والتعامل معها مباشرة دون وساطة أحد، وكانت الأصول في الآداب القديمة. وظهر المصدر اليوناني الروماني مخلصًا للوعي الأوروبي أكثر من المصدر اليهودي المسيحي.٢٤٣ عادت الآداب إلى إيطاليا عند بترارك الذي فرق بين العلم الجاهل، وهو علم العصر الوسيط، والجهل العالم، وهو علم عصر النهضة؛ الأول الفلسفة المدرسية والثاني رُوح العصر الحديث، الأول العلم الجاهل للسوفسطائيين والثاني جهل العالِم لسقراط.٢٤٤ وسار على أثره نيقولا الكوزي في القرن الثاني في «العلم الجاهل». كما تهكم على العقل المدرسي وهو الجنون الحقيقي كما كتب فوكو «تاريخ الجنون» في هذا القرن. ونشأت بدايات الموسيقى المتعددة الأصوات لتعبر عن الذاتية الناشئة وعالم الباطن وحياة الحرية و«المواعظ على الجبل» الضائعة وسط العقائد والشعائر والمؤسسات والحروب والنزاعات. وعاد ألبرتينو موساتو إلى شيشرون وحب الشعر. فاللاهوت شعر موضوعه الله. وعاد بوكاتشيو إلى أوغسطين من جديد حتى تغيب كل المسائل المدرسية المعقدة. وثار كولوشيو سالوتاتي ضد الجدل وضد الإمبراطورية الجرمانية وريثة الإمبراطورية الرومانية لتبدأ إرهاصات الحركة الوطنية وعصر القوميات التي تحققت في القرن التاسع عشر. وثار جيوفاني دومينتشي ضد الغزو الثقافي الفرنسي، وتحولت الفلسفة من نظريات إلى ممارسات.٢٤٥ واتجه آخرون نحو الإنسان مباشرة خارج الكنيسة، أو إلى الفن والأدب، أو إلى أفلاطون الأديب الفنان.٢٤٦ وحدث نفس الشيء في فرنسا، العودة إلى الآداب القديمة والاتجاه نحو الإنسان والموضوعات الأخلاقية حتى مشارف القرن الخامس عشر.٢٤٧ وكان ذلك كله إيذانًا بعصر جديد: الإصلاح الديني وعصر النهضة.

رابعًا: الإصلاح الديني وعصر النهضة (القرنان الخامس عشر والسادس عشر)

يمثل هذا العصر فترة تحول من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة، وكما هو شائع في كتب تاريخ الفلسفة الغربية، وكأن الانتقال من الدين إلى العلم أو من القديم إلى الجديد أو من الله إلى الإنسان أو من السلطة إلى العقل أو من الماضي إلى المستقبل لا يأتي إلا بعد المرور بمرحلة متوسطة تنشأ فيها هذه المعركة حتى يتم الانتقال في الوعي الأوروبي دون قفز أو انكسار وحتى لا يحدث نكوص أو تقع ردة. والحركتان، الإصلاح الديني وعصر النهضة متداخلتان. شارك بعض المصلحين في النهضة (أكوستا اليهودي) وشارك بعض علماء النهضة في الإصلاح (أراسموس). ويمتد كلاهما عبر قرنين من الزمان، وإن كان الإصلاح أقرب إلى الخامس عشر، والنهضة أقرب إلى السادس عشر، وكأن النهضة تطوير طبيعي للإصلاح، والإصلاح إن هو إلا بدايات نهضة شاملة.٢٤٨ وبالرغم من وجود عدة تيارات متمايزة في هذين القرنين مثل الإصلاح الديني المسيحي، والإصلاح الديني اليهودي، والأفلاطونية، والمذهب الإنساني، والتفكير الطوباوي، ونشأة العلم، والشك المذهبي إلا أنه يمكن إجمالها جميعًا في تيارين رئيسيين: الإصلاح الديني وعصر النهضة.

(١) الإصلاح الديني

إن أهم العناصر التي تجمع حركات الإصلاح الديني المسيحي واليهودي في القرنين الخامس عشر والسادس عشر يمكن إجمالها في الجرأة على مركز السلطة ومصدر التسلط وهي الكنيسة واحتكارها لعقائد الإيمان وقواعد التفسير. لا يعترف المؤمن إلا أمامها فتهبه الغفران، ولا يُصلُّون إلا فيها فتسمع النداء وتجيب الدعوات. رفض الإصلاح الديني التوسط بين الإنسان والله، وجعل عَلاقة الإنسان بالله عَلاقة مباشرة في الدعاء وطلب المغفرة لرفع الوصايا عنه. وقال بالمصدر الواحد للدين وهو الكتاب تحت شعار «الكتاب وحده». ورفض المصدر الثاني وهو التراث الكنسي، نظرًا لوجود تعارض بين أقوال المسيح وبين عقائد الآباء، وبين دعوة الإنجيل الأخلاقية وعقائد الكنيسة الوثنية. ورفض احتكار تفسير الكتاب المقدس، وأعلن حرية الإيمان تعبيرًا عن حرية المسيحي. فالحرية السياسية لا تبدأ إلا بالحرية الدينية. ورفض سلطة الكنيسة الدينية والدنيوية، وتجرأ على السلطة باسم حرية المسيحي. وأعلن استقلال الإنسان عقلًا وإرادة، فهمًا وسلوكًا، نظرًا وعملًا. وأعطى الأولوية للَّحظة على الديمومة، وللباطن على الظاهر، وللأخلاق على العقائد، وللتصوف على الشريعة. لذلك ارتبط الإصلاح الديني بالأفلاطونية والأوغسطينية والتصوف، وكأن أحد مصادر مذهب التقوى والمثالية الألمانية. ورفض الصور والتماثيل. وأعلى من شأن التنزيه على التجسيم، واستأنف حركة الإصلاح التي قامت بها الكنيسة الشرقية في القرن الخامس قبل ألف عام. ورفض نظام الرهبنة، ودعا إلى زواج الرهبان. فلا تعارض بين مقتضيات الجسد ومتطلبات الرُّوح. ومن الأفضل الإعلان عن رغبات الإنسان وتنظيمها بدلًا من الالتفاف حولها وإشباعها سرًّا. وأنهى القداس الروماني الوثني الذي كان مجرد نقل لطقوس الدين الروماني واحتفالات القيصر إلى العشاء الرباني في الدين الجديد حتى طُمست معالمه، وبدأ بقداس لا روماني بسيط يقوم على التفكر والتأمل والصلاة وأعطى الأولوية للإيمان على العمل نظرًا لأن العمل الكنسي كان أقرب إلى المراسم والطقوس والشعائر الخارجية بلا مضمون رُوحي أو أخلاقي. وجعل الصلاة باللغة القومية، وتُرجم الكتاب المقدس من اللاتينية إلى الألمانية والفرنسية، واعتز بالتراث الشعبي القومي، خاصة في ألمانيا مهد الفكر القومي. أنهى عصر الإمبراطورية المسيحية، ودعا إلى إنشاء الدولة المستقلة والكنائس القومية كما فعل دوناتوس من قبل باسم الكنيسة الوطنية الأفريقية في القرن الرابع. وعندما نشِبت ثورة الفلاحين ضد الإقطاع القديم قاد بعض المصلحين الدينيين هذه الثورة (توماس مونزر) وتحالف البعض الآخر مع الإقطاع (لوثر) تدعيمًا لحركة الإصلاح الجديدة حتى يستمر كنظام قديم متمثلًا مع الرُّوح الجديدة ومواكبًا لمتطلبات العصر. والحقيقة أن حركة الإصلاح الديني في الوعي الأوروبي لم تكن بعيدة عن النموذج الإسلامي الذي انتشر في الفلسفة المدرسية المتأخرة ومنذ الاتصال بالمسلمين عبر الحروب الصليبية ونقل العلوم الإسلامية. فقد تعلم لوثر العربية. وظل النموذج الإسلامي القائم على العلمانية وغياب الكهنوت أحد نماذج الإصلاح المسيحي واليهودي (اسبينوزا). ومع أن الإصلاح الديني لدينا بدأ منذ أكثر من مائة عام إلا أننا لم نحصل بعد على كل نتائجه لأنه كان نسبيًّا ولم يكن جذريًّا. لذلك كبا. يمكننا إذن استئناف الإصلاح الديني لإقالته من كبوته، وبدايته بداية جذرية كشرط مسبق لتحويله إلى نهضة شاملة لا تكبو أيضًا ولا تتحول إلى نقيضها حتى يمكن بعد ذلك لحركات التغير الاجتماعي أن تنجح وللثورة أن تستمر.٢٤٩
كان أول المصلحين يحيى هوس.٢٥٠ أثبت سلطة الكتاب وحده، وتحدي الخطر الكنسي. وكان حركته وراء نشأة الشعور الوطني واكتشاف الحاجة إلى الإصلاح. ويمثل كمبن لونًا آخر من الإصلاح يبدأ بالدين ويؤوله تأويلًا باطنيًّا عن طريق التشبه بصفات الله، أو كما يقول الصوفية المسلمون، إسقاط الأوصاف الإنسانية والتحلي بالصفات الإلهية.٢٥١ فالعودة إلى تقليد المسيح دون التراث الكنسي هو طريق الإصلاح. ويأخذ الإصلاح شكلًا اجتماعيًّا سياسيًّا ثوريًّا على يد توماس مونزر الذي كان يمثل الجناح الشعبي الجذري للإصلاح على عكس لوثر المصلح المعتدل المحافظ.٢٥٢ لم يعارض توماس مونزر الكنيسة فقط بل المسيحية والإقطاع ككل. كان همه الثورة الاجتماعية الاقتصادية للفلاحين ولمدن الفقراء أكثر من إصلاح الكنيسة وتعاليمها، وتأسيس ملكوت السموات على الأرض، وإقامة مجتمع بلا طبقات، وإعطاء ملكية خاصة للحكومات، وإقامة مجتمع طوباوي اشتراكي شيوعي يقوم على المساواة بين البشر. تأثر بالحركات الشعبية الصوفية في العصر الوسيط والتي تشابه ثورات الزنج والقرامطة والحلاج في تراثنا القديم. كان الأساس النظري لثورته هو وحدة الوجود ورؤية الله في كل شيء. فظهرت فاعلية الرُّوح في المجتمع. ويثور الإيمان نتيجة ليقظة العقل في الإنسان وعبور المسافة بين الإنسان والأرض. وكانت هذه الوَحدة إرهاصًا لنقد الدين عند شتراوس وفيورباخ. فقد استطاع مونزر القضاء على أساطير الدين مثل شتراوس والاغتراب الديني مثل فيورباخ. أما مارتن لوثر فقد نقل العهد القديم من اللغة اللاتينية إلى اللغة الألمانية.٢٥٣ أنكر دور الكنيسة كوسيط بين الإنسان والله، وأن خلاص الإنسان لا يتم بالأفعال والأسرار والطقوس بل بالإيمان وحده. الفضل الإلهي مجاني دون استحقاق أو كنيسة. الكنيسة للنفوس وليست للأبدان. ولا تتأسس الحقيقة الدينية على التراث وقرارات الكنيسة وبيانات البابوات، بل على الإنجيل وحده. كان من أنصار الإصلاح المعتدل والجناح المحافظ. وقف بجانب الطبقة الحاكمة والإقطاع في حروب الفلاحين. ومع ذلك عارض بعض النظريات التي تعبر عن مصالح البرجوازية مثل نظرية القانون الطبيعي والنزعة الإنسانية، والتجارة الحرة. ثم ظهرت حركة إصلاحية أخرى تتمركز حول الله أكثر من تمركزها حول الإنسان، وأقرب إلى التصوف الباطني منها إلى الثورة الاجتماعية، كما هو الحال عند زفنجلي وكالفِن. أثبت زفنجلي حضور الله في كل شيء.٢٥٤ كما أثبت الخطيئة الأولى مثل أوغسطين. وكان أقرب إلى كالفِن في الإيمان بالقدر المسبق أكثر من إيمانه بحرية الاختيار. ويمكن التكفير عن الذنوب عن طريق البدل. أما القداس فإنه علامة خارجية على دلالات رُوحية باطنية في المشاركة. انفصل عن لوثر بسبب تفسير العشاء الرباني وإنكار زفنجلي الحضور الفعلي للمسيح في تَكرار العشاء في القداس. أما كالفِن فإنه مؤسس أحد المذاهب البروتستانتية التي تمثل حاجة الطبقات الصاعدة إلى فكر جديد، وتمثل برجوازية العصر.٢٥٥ ويقوم نسقها العقائدي على أن الخلاص إلهي مسبق للبعض بينما يهلك البعض الآخر. ولا يشمل هذا القدر المسبق كل نشاطات الإنسان. فبالرغم من أن الإنسان لا يستطيع أن يعرف مصيره إلا أنه يستطيع أن يثبت بحياته أنه أحد المختارين من الله. نشأت الكالفينية في عصر التراكم الأول للرأسمالية الناشئة، فدعت إلى الزهد والتقوى والتمسك بالفضائل. لذلك جعلها ماكس فيبر فيما بعد أحد أسباب نشأة الرأسمالية.٢٥٦ وقد ظهر يسار الإصلاح الديني بعد توماس مونزر عند السوسينيين الذين دافعوا عن حرية الفكر ضد التعبيرات الأرثوذكسية للمسيحية،٢٥٧ كانوا ضد التثليث، وضد أوغسطين، وضد الخطيئة الأولى، والسقوط، والقضاء والقدر، وضد المؤسسة الكاثوليكية كلها. رفضوا الأسرار والشعائر والطقوس واللاهوت واحتكار التفسير. المسيحية دين الوصول إلى الحياة الأبدية التي أوصى الله بها السيد المسيح. والكتب المقدسة وحي من الله يمكن فهمها والدفاع عنها عقليًّا، تعطي مبادئ الأخلاق وليس عقائد اللاهوت، ولا تتطلب أية شعائر أو طقوس.
أما الفلسفة اليهودية فقد ظهرت كالعادة متسلقة على فلسفات وحضارات الشعوب الأخرى منذ حضارات بابل وآشور وأكاد وكنعان ومصر القديمة وعبر الفلسفة اليونانية والفلسفة الإسلامية حتى العصور الحديثة. ظهر فلاسفة يهود في عصري الإصلاح والنهضة يجمعون بين فلسفة العصر الوسيط، خاصة موسى بن ميمون، وبين أفلاطونية عصري الإصلاح والنهضة في بدايات الإصلاح اليهودي الذي لم يبدأ فعليًّا إلا في القرن السابع عشر عند اسبينوزا. ومع ذلك ظهر أربعة فلاسفة يهود في هذه الفترة: يوسف آلبو، إسحاق أبرافانيل، يهوذا أبرافانيل (أبريو)، أكوستا. تناول يوسف آلبو موضوع قواعد الإيمان.٢٥٨ واختلف مع ابن ميمون في عددها. فهي عند ابن ميمون ثلاث عشرة عقيدة لخصها يوسف آلبو في ثلاثة فقط: وجود الله، المصدر الإلهي للتوراة، الثواب والعقاب. واحدة في العقليات، وجود الله، واثنتان في السمعيات، النبوة والمعاد. وإذا كان أبرافانيل الأب قد تأثر بموسى بن ميمون وكرسكاس فإن الابن قد تأثر بأفلاطون وأرسطو وأفلوطين وبمعتقداته اليهودية.٢٥٩ وحد بين الجمال والميتافيزيقا والأخلاق كما وحد بين الله والمحبة. فالمحبة مبدأ خلق العالم، منها يصدر العالم وإليها يعود. وكان له أثره على مفهوم محبة الله عند اسبينوزا. وأخيرًا استطاع أكوستا أن ينقل الفلسفة اليهودية من العصر الوسيط إلى الإصلاح.٢٦٠ وهو فيلسوف عقلاني عارض القطعية اليهودية واتهم الفريسيين (الأحبار) بتحريف شريعة موسى. أنكر خلود الرُّوح والحياة بعد الموت وأمور المعاد، ونقد الدين الرسمي دفاعًا عن القانون الطبيعي الحالِّ في الإنسان. وهو القانون الذي يربط البشر جميعًا بالحب المتبادل ويكون أساس التمييز بين الخير والشر. وكان له أعظم الأثر على اسبينوزا.

(٢) عصر النهضة

يُعتبر عصر النهضة هو حلقة الاتصال الفعلي بين العصر الوسيط والعصور الحديثة. وهو المتوجه نحو المستقبل في حين كان الإصلاح الديني متوجهًا نحو الماضي لإعادة بنائه طبقًا لرُوح العصر.٢٦١ يدرسه الباحثون الأوروبيون باعتباره جزءًا من التاريخ الأوروبي، ثورة على القديم أو إرهاصات للجديد أو لإعادة تقييم ونقد كما يحدث حاليًّا في الدراسات حول الإصلاح الديني وعلى المذهب الإنساني. فإذا كان قد دخل في نطاق التاريخ في التراث الغربي وأمكن تجاوزه فإنه بالنسبة لنا ما زال حيًّا للغاية يمكن أن يعطينا نماذج لما تكون عليه الحضارة في نهاية فترة وبداية أخرى. فنحن تاريخيًّا مررنا بأواخر القرن الرابع عشر الأوروبي، عصر الإحياء الذي ظهر لدينا في الشعر. وفي بداية الخامس عشر، نحاول الدفاع عن كرامة الإنسان وحريته، وإقامة الدولة الديمقراطية، والشك في الموروث، وتأسيس العلم. فنحن نعيش مشاكل عصر النهضة الأوروبي، وربما نمر بمرحلته التاريخية دون أن يعني ذلك أي توازٍ بين مسار الحضارتين. وقد يعني عصر النهضة قدرة الوعي الأوروبي على اكتشاف الحقائق الإنسانية والطبيعية والدينية بنفسه اعتمادًا على جهد العقل ورؤية الطبيعة. وهو اقتراب غير مباشر من النموذج الإسلامي في تراثنا القديم، وحدة الوحي والعقل والطبيعة، والذي تسرب قبيل عصر النهضة إلى الوعي الأوروبي بعد نقل التراث الإسلامي من العربية إلى اللاتينية. وبالتالي يمكن القول بما قاله أحد علماء المشرق عندما قرأ مؤلَّفًا مغربيًّا: «تلك بضاعتنا ردت إلينا.»

ويمكن التمييز بين خمسة تيارات في عصر النهضة قد تتداخل فيما بينها أحيانًا. فمثلًا يوجد لورنزو فالا بين المذهب الإنساني والعلمانية كنظام سياسي، وبيكو ديلا ميراندولا بين المذهب الإنساني وتأسيس العلم. الأول: الأفلاطونية التي تحاول إحياء القديم والتحول من أرسطو والعودة من جديد إلى الأفلاطونية الجديدة، وإشراق النفس، وحديث القلب. الثاني: المذهب الإنساني الذي يجعل الإنسان بؤرة الكون، غاية في ذاته لتبْنيَ العصور الحديثة عليه مشروعها في الذاتية ابتداءً من «الأنا أفكر»، وجعل الذات محورًا للعالم. الثالث: الطوباوية التي ترنو إلى عالم أفضل يعيش فيه الإنسان عاقلًا حرًّا وفي مجتمع من العدل والمساواة. الرابع: الشك المذهبي الذي يتحول إلى نقد القديم والشك في صحته حتى يمكن إفساح المجال للجديد. الخامس: العلم التجريبي الجديد وتأسيس علوم الفلك والطب والنفس والطبيعة بعيدًا عن الأحكام المسبقة، والذي طبع العصور الحديثة كلها بطابعه فصار عصر العلم.

استمرت الفلسفة الإلهية في القرن الخامس عشر عند الأفلاطونيين مثل نيقولا الكوزي، وأحيا الأفلاطونية الصوفية من جديد كمقدمة للإصلاح الديني وللفلسفة الحديثة التي بدت عند ديكارت وكانط أفلاطونية أكثر منها أرسطية، وأوغسطينية أكثر منها توماوية.٢٦٢ استعمل طريقة اللاهوت السلبي الذي كان مؤثرًا إبان عصر النهضة لقدرته على الرفض والتطهير والتخلص من كل مظاهر التجسيم والتشبيه دفاعًا عن التنزيه. كما قرَّظ الجهل العالم في مقابل العلم الجاهل كما فعل بترارك من قبل. الجهل العلم هو البراءة الأصلية التي تحدث عنها الأصوليون القدماء، والفطرة البشرية، والعلم الطبيعي المغروز النفسي، النور الفطري الذي تحدث عنه ديكارت بعد ذلك. استعمل المنطق المدرسي، وبحث في طبيعة الله والكون على طريقة الأفلاطونية الجديدة. طبيعة الله مجهولة، والعالم مجموعة من الاشياء المتناهية، تفيض من الله وتعود إليه. والعلم بها نسبي، العلم ببعضها والجهل بالبعض الآخر. أما طبيعة المسيح فهي الوحدة الوجودية بين الله والعالم. وهو مركز الكون وليست الأرض. أنكر مبدأ عدم التناقض في المنطق الأرسطي حتى يمكن فهم عقيدة التجسد، والتوحيد بين الله والعالم في شخص المسيح. كذلك أحيا فيشينو الأفلاطونية ودافع عن خلود الرُّوح.٢٦٣ وجمع باراسلسوس بين الأفلاطونية والفلسفة العلمية مثل جالينوس في الجمع بين الطب والفلسفة.٢٦٤ الفلسفة لديه إحدى دعائم العلوم الطبيعية، كما جمع بين الأفلاطونية الجديدة والتجريبية والسحر والخرافة. ورفض النظريات الطبيعية التقليدية لجالينوس والأطباء المسلمين؛ لأنها علمية صرفة منفصلة عن الإلهيات. ويتضح من ذلك كيف كان علم الطب الإسلامي يمثل نموذجًا علميًّا أرقى من علم الطب الأفلاطوني في عصر النهضة. وكان أكبرهم على الإطلاق يعقوب البوهيمي،٢٦٥ وهو صوفي إشراقي، خرافي تنجيمي سحري، ثنائي، يقول بأولوية الإرادة الإلهية في كل شيء. أعلن أن حدوسه في الطبيعة الإلهية ونشأة العالم وبنيته والأسرار الخفية، كلها موجودة في الكتاب المقدس، عرَفها عن طريق الإلهام الإلهي. مصطلحاته صعبة. يعتمد على السحر والتنجيم والكيمياء اللاعلمية لنسج صور شعرية للعالم ورموز وأخيلة. انتهى إلى وحدة الوجود، فالله والطبيعة شيء واحد، ولا يوجد شيء خارج الطبيعة، وكل الخلق تجليات لله، كل شيء يحتوي على تناقضات، حتى الله الذي يجمع بين الخير والشر. هذه الثنائية هي أساس حركة العالم. والله له إرادتان: الأولى للحب، والثانية للانتقام.
أما المذهب الإنساني فقد خرج من ثنايا الفكر الديني وتحويل بؤرته من الله إلى الإنسان، وهو ما لم يحدث بعد بشكل صريح في فكرنا المعاصر وإن كان قد وُجد متخفيًا في تراثنا القديم مغتربًا في الله في علم أصول الدين، وعقلًا خالصًا في علوم الحكمة، وتجرِبة ذوقية في علوم التصوف، وكسلوك عملي في علم أصول الفقه.٢٦٦ ظهرت هذه النزعة عند بيكو ديلا ميراندولا مدافعًا عن المسئولية والكرامة الإنسانية.٢٦٧ ثم تحولت إلى مذهب عند أراسموس يضع الإنسان في مركز العالم، ويعيد بناء العقيدة المسيحية على أساس إنساني خالص، ويضع برنامجًا لتعليم المسيحي كمواطن عصري مستنير.٢٦٨ عارض بقوةٍ الفلسفة المدرسية، ووهب حياته للإصلاح الكنسي. فالمسيحية ليست مجرد عقيدة للخلاص من دين الرُّوح الذي يقوم على الثقة بالعقل الإنساني. أيد لوثر، ودعا الناس إلى الاستماع إليه إلا أنه عارض اللاهوت العقائدي الإصلاحي الذي يدعو إلى العنف. نقد تعاليم الكنيسة الكاثوليكية الرومانية وتفاهتها. وهو الذي أمد المصلحين الدينين بأسس عقلية مستنيرة فكان بمثابة عقلهم المنظر لوجدانهم الديني. ثم تحول المذهب الإنساني تدريجيًّا إلى مذهب سياسي يقوم على رفض السلطة الدينية وفصل الكنيسة عن الدولة وتأسيس المجتمع المدني العلماني الحديث. فدافع لورنزو فالا عن حرية الإرادة،٢٦٩ وبيَّن أن علم الله المسبق (أبوللو) لا ينفي استقلال الإنسان وهي قدرة الله (زيوس). عرض المشكلة دون حلها خوفًا وحذرًا. وفي الأخلاق كان متعاطفًا مع أخلاق أبيقور مما يدل على بداية النزعة المادية، ولكنه كان أكثر جرأة في الدعوة إلى العلمانية، وفصل الكنيسة عن الدولة، والكشف عن الأسطورة التاريخية ابتداءً من تحول قسطنطين إلى المسيحية التي تقوم عليها ادعاءات البابوية، وبالتالي القضاء على الشرعية التاريخية التي أعطتها روما لنفسها. وكان أجرؤهم جميعًا على تأسيس الحكم المدني الذي يقوم على الاختيار الحر للشعب هو سواريز.٢٧٠ أعاد صياغة الأرسطية المسيحية، وجمع بين الاسمية وألبير الكبير وتوما الأكويني ودانز سكوت لعرض مذهب معرفي كوني متكامل في الميتافيزيقا وعلم النفس والمعرفة والكونيات واللاهوت الطبيعي. اللاهوت العقائدي ليس فلسفة بل هو مستمد من الدين والوحي مباشرة. أما اللاهوت الطبيعي فإنه قادر على إثبات وجود الله وصفاته عن طريق الفعل. لذلك جاءت كتبه سهلة الفهم مما جعلها تتحول في عصره إلى كتب دراسية مقررة. رفض تمييز توما الأكويني بين الوجود والماهية في الأشياء المتناهية، فالجواهر الطبيعية فردية ليس بسبب الصورة ولا بسبب المادة بل بوَحَداتها الكلية. وهي حالات غير منفصلة عن اجتماع الاثنين باستثناء حالة واحدة وهي الإنسان بالنسبة إلى الرُّوح. أما الموجودات الرُّوحية مثل الملائكة والأرواح فهي ليست موجودات طبيعية، كما هو الحال عند توما الأكويني، بل أفراد. والرُّوح أساس كل موجود حي بيولوجي، حسي أو عقلي؛ إذ الرُّوح بها ملكتان: الحس والعقل، والإرادة رغبة عقلية حرة خيرة، والإنسان مسئول عن أفعاله. وتتمثل جرأة سواريز الفكرية في نظريته السياسية التي عارض بها الحقوق الإلهية للملوك. فالشعب مصدر السلطات، والحاكم ممثل الشعب وليس ممثل الله. ووظيفة الحاكم تحقيق العدالة الاجتماعية. وكان له أبلغ الأثر على ديكارت واسبينوزا ولَيبنتز وشوبنهور. ثم أخذ الفكر السياسي في عصر النهضة طريقين مختلفين: الأول واقعي يصف ما هو كائن كما هو الحال عند ميكيافيللي، والثاني طوباوي يصف ما ينبغي أن يكون كما هو الحال عند توماس مور وكامبانيللا. كان ميكيافيللي منظِّرًا للأيديولوجية الجديدة التي تنتقل من السماء إلى الأرض.٢٧١ لا يتطور المجتمع بإرادة الله بل طبقًا للقوانين الطبيعية. القوة والمصالح المادية هما القوى الفاعلة في التاريخ، ونظرًا لتعارض المصالح بين القوى الاجتماعية الشعبية والطبقات الحاكمة لزم تكوين دولة قوية قومية ضد الإقطاع وضد الثورات الشعبية. الغاية تبرر الوسيلة، والغش والخيانة والقسوة أدوات لتحقيق الأهداف السياسية. أما توماس مور فهو أشهر ممثل للاشتراكية الطوباوية في عصر النهضة.٢٧٢ نقد المِلكية الخاصة والعَلاقات السياسية والاجتماعية في إنجلترا في عصره، ووصف نظامًا تسوده المِلكية العامة وعَلاقات المساواة. أعطى تصورًا لاشتراكية الإنتاج مرتبطًا بالشيوعية وبتنظيم العمل والتوزيع. الأسرة هي الوَحدة الاقتصادية الرئيسية. الإنتاج يدوي، والتنظيم ديمقراطي، والتمتع بنتاج العمل ضروري، وغياب الصراع بين القرية والمدينة يورث السلام. العمل ست ساعات يوميًّا، وباقي اليوم مع اليوم السابع للعلوم والفنون. يهدف المجتمع إلى التربية الشاملة للأفراد، وربط التعليم النظري بالعمل. ويتم التحول إلى النظام الجديد بالطرق السلمية. وكان آخر الفلاسفة الطوباويين في عصر النهضة هو كامبانيللا.٢٧٣ عارض الفلسفة المدرسية، كما رفض مذهب التأليه الطبيعي. جمع بين رُوح التحرر الغالب على عصر النهضة وبعض الآراء الصوفية والدينية، مع بعض الحماس للسحر والتنجيم من بقايا أفلاطونية العصر. كان يحلم بوحدة البشر وخير الإنسانية ظنًّا أنه يمكن أن يتم ذلك عن طريق البابوية. تصور مجتمعًا طوباويًّا اشتراكيًّا تحت تأثير الأيديولوجية الدينية وتصوره للكنيسة المثالية. تصور المجتمع اليوتوبي مجتمعًا ثيوقراطيًّا يحكمه حكماء وقسيسون. وأقام اشتراكيته على حكم العقل وقانون الطبيعة.
وقد أخذ مذهب الشك أيضًا طريقين: الأول يجد بديلًا عن الشك في الوحي حتى يعود إلى الواقع عن يقين وهو شك مونتاني. والثاني شك مطلق لا بديل له وهو الشك المعروف عند شارون. فقد حول مونتاني نظريات الشك اليونانية إلى مستوى الثقافة العامة في عصر النهضة،٢٧٤ كما دافع عن اللاهوتي الإسباني ريمون سيبون في تشككه في العقائد اللاهوتية السابقة وفي الفلسفة المدرسية مع شواهد من سكتوس أمبريقوس. والعقلانية لديه نوع من السلوك الحيواني يعقل بها الإنسان نفسه. وبالرغم من ادعاء الإنسان السمو فإنه أيضًا مغرور وأحمق وفانٍ، بل وفي مرتبة أقل من الحيوان ولا يعيش في مستوى سعادته (المتوحش النبيل). ولمَّا صعُب الحصول على اتفاق حول المعرفة والعلم خلال العصور، واستحالت معرفة العالم وتأسيس العلم فالخلاص يتم عن طريق الوحي الإلهي من أجل العودة إلى الواقع والاتصال به. ويوجه مونتاني الشك ضد العقائد الكاثوليكية وأفكار المسيحيين عن الله، وعلى الإنسان أن يعمل من أجل الحصول على السعادة دون انتظارها، خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف. ويمثل شارون الشك الجذري الذي يبدأ بالشك وينتهي بالشك ولا يجد بديلًا عنه في الدين أو في العلم.٢٧٥ لا يمكن ضمان أية حقيقة يقينية حتى لو كان الدين؛ لأن الدين ليس مباطنًا في الإنسان بل يتكون بالتربية وفي الظروف المحيطة بالإنسان، أما الأخلاقية فهي الأصل في الإنسان، ويصبح الدين يقينًا إذا ما تأسس على الأخلاق كما هو الحال عند كانط فيما بعد. على الإنسان إذن أن يعيش وَفقًا لقوانين الأخلاق داخليًّا ويمارس الدين الذي تمثله السلطات خارجيًّا. وعلى هذا النحو يخفي شارون موقفه الشكلي من الدين والمعادي له وراء الاعتراف الصوري به.
وأخيرًا يمثل العلم التيار الرئيسي في عصر النهضة. نشأ العلم بعد أن رفض النقاد والشُّكَّاك والفلاسفة كل الموروث القديم، وأصبح الواقع عاريًا من كل أساس نظري له. نشأ العلم من أجل إعطاء غطاء نظري بديل ومن أجل السيطرة على الواقع بنظريات أكثر دقة وضبطًا من الموروث القديم الذي ثبتت أخطاؤه عند التجريب. فالجهد الإنساني وحده مصدر لكل نظرية وليست المصادر المسبقة من الكنيسة أو من أرسطو٢٧٦ كان الغالب هو علم الفلك الذي غير التصور القديم للكون من التمركز حول الأرض إلى التمركز حول الشمس، وبصورة أقل، علوم الحياة مثل النفس والطب، وتبني النظرة العلمية الأحادية للإنسان وليس التصور الثنائي الديني المدرسي القديم. فأعاد بومبوناتزي قراءة أرسطو على نحو مادي ضد الفلسفة المدرسية،٢٧٧ وأكد على أهمية الحس، فالنفس صورة البدن على ما قال أرسطو من قبل واسبينوزا من بعد، تفنى بفنائه، والخلود في الأرض للمادة. والحقيقة حقيقتان كما هو الحال عند حكماء المسلمين، الأولى للعامة والثانية للخاصة، لذلك يجب الفصل بين الحقيقة الدينية والحقيقة الفلسفية. كما عبر تيليزيو عن نفس النزعة المادية،٢٧٨ ودرس الطبيعة عن طريق التجارِب، فالحواس مصدر رئيسي للمعرفة. عارض منهج القياس التأملي المعروف في الفلسفة المدرسية. فهو أحد السابقين على فرنسيس بيكون في دعوته إلى المنهج التجريبي؛ إذ التجريب ابن عصر النهضة قبل العصور الحديثة. وتصور الطبيعة تملأ المكان ورفض الخلاء. فالطبيعة خالدة مثل الله، قوانينها صفاته كما قال اسبينوزا فيما بعد. وتبنى تصور العالم المتمركز حول الشمس. الحرارة والبرودة في صراع، والمادة بينهما، الحرارة من الشمس والبرودة من الأرض. وأسس كوبرنيقس علم الفلك الحديث،٢٧٩ فالشمس وسط الكون والأرض كروية تدور حولها. رفض مذهب بطليموس ودعا إلى نظرية مركزية الشمس عند أرسطرخس المعاصر لإقليدس، والتي كانت تدرس في علم الفلك عند المسلمين. واستعمل مذهب فيثاغورس كي يبرهن رياضيًّا على أن الأرض مستديرة وفي حركة مطردة حول الشمس. قوبل بمعارضة الكنيسة التي كانت ترى أن الأرض وبالتالي البشر مركز العالم، مع أن الخلافة في الأرض معنوية عملية وليست جغرافية. وأيد جيوردانو برونو نظريات كوبرنيقس، وعبر عن تجارِب صوفية تظهر فيها وحدة الوجود ولكن برُوح عصر النهضة، أي العلم الجديد.٢٨٠ الله لديه هو الجوهر الموحد لكل الأشياء، والذي منه تُستنبط كل الأشياء في هذا العالم. الله والعالم اسمان لشيء واحد ولواقع واحد هي الماهية المبدعة لكل شيء، فتحولت إلى إمكانيات متحققة متجددة. الله هو الطبيعة الطابعة، والعالم هو الطبيعة المطبوعة بلغة اسبينوزا فيما بعد. صيرورة العالم أبديته من الله إلى العالم ومن العالم إلى الله. ويصور ذلك العقل الإنساني الذي يبحث عن الواحد في الكثير، والبسيط في المركب، والأبدي في التغير. والرُّوح مثل الله صيرورة في البدن، من الرُّوح إلى البدن ومن البدن إلى الرُّوح. ومع ذلك فقد بقيت لديه بعض التصورات الماهوية الثنائية القديمة عن الله والعالم. فالله لا يمكن وصفه ومفارق في حين أن العالم مرئي يمكن وصفه. وبالتالي قد لا تؤدي معرفة العالم إلى معرفة مميزة بالله كما هو الحال عند نيقولا الكوزي. وقد تمت آخر صياغة للعلم الجديد في عصر النهضة عند كِبلر وجاليليو. فقد استبعد كبلر المبادئ الرياضية من علم الفلك حتى لا يطغى التحليل الرياضي على الملاحظة التجريبية،٢٨١ ومع ذلك أثبت صحة وصف فيثاغورس لحركة الأفلاك المطردة في مدارات دائرية. ولها قوانين ثلاثة شرحها نيوتن، وتُبين دوران الأفلاك دورانًا بيضاويًّا، والشمس أحد مراكزها. حركتها ليست هندسية بل يتحدد وقت دورانها حول الشمس نسبيًّا مع بعدها عنها. وواضح أن علم الفلك الذي أبدعه المسلمون القدماء والذي اشتهر في عصر النهضة الأوروبي هو الذي كان وراء الفكر العلمي الحديث في عصر النهضة. كما بدأ جاليليو بملاحظات تلسكوبية على السماء مما دفعه إلى الشك في مركزية الأرض التي قبلتها الفلسفة المدرسية والفلسفة الطبيعية الأرسطية والكنيسة،٢٨٢ فدافع عن مركزية الشمس التي تتفق مع تجارِب العلم الحديث. دافع عن الفصل بين اللاهوت والعلم لأنهما مختلفان موضوعًا ومنهجًا وغاية، وحتى لا يتعارضا ويتصادما. وبذلك وضع جاليليو أساس استقلال العلم الحديث عن اللاهوت. كما أسس علم الرياضيات، فكتاب الطبيعة مكتوب بلغة الرياضة. ولذلك وصفه هُوسِرل عن حق بأنه هو الذي حوَّل الطبيعة إلى رياضة. اعتمد أيضًا على المنهج التجريبي القائم على الملاحظة والمشاهدة، وميز بين الصفات الأولية للأشياء والصفات الثانوية، كما فعل لوك فيما بعد. اكتشف قانون الأجسام الساقطة، وأسس الميكانيكا التقليدية والحركة الكامنة.
لقد استطاع عصر النهضة أن يعلن عن نهاية مرحلة وبداية أخرى في الوعي الأوروبي، نهاية مرحلة المصادر، وبداية مرحلة التكوين الجديد. لقد استطاع إحداث قطيعة بين الماضي والحاضر، والتحول من الماضي إلى المستقبل، ونقد الموروث حتى يمكن التحرر منه مصدر للعلم وكقيمة في السلوك. انتصر المحدَثون على القدماء، وتم التحول من سلطة أرسطو وشرَّاحه المسلمين إلى سلطة العقل، والانتقال من سلطة الكتاب المغلق (المقدس) إلى كتاب الطبيعة المفتوح، ومن التمركز حول الله إلى التمركز حول الإنسان، ومن البحث عن خلود الرُّوح إلى البحث في طبيعة البدن وتكوين الجسم. فتم اكتشاف علم وظائف الأعضاء وعلوم الأحياء والتشريع والطب الحديث.٢٨٣ وبالتالي أمكن للوعي الأوروبي إبداع الجديد بعد أن تم تقويض القديم. أصبح الواقع عاريًا من أية نظرية، وسقط الغطاء النظري بين الأنا والطبيعة مما جعل الوعي الأوروبي يتقدم ليضع غطاءً نظريًّا جديدًا، يستطيع به أن يفهم العالم، ويؤسس العلم الجديد بدلًا من أرسطو، ويبني الدولة الجديدة بدلًا من الكنيسة.
١  هو مشروع زميلنا وصديقنا المفكر المغربي اللامع محمد عابد الجابري «نقد العقل العربي»، الجزء الأول: «تكوين العقل العربي»، دار الطليعة، بيروت ١٩٨٤م، الجزء الثاني: «بنية العقل العربي» مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ١٩٨٦م، الجزء الثالث: «نقد العقل السياسي» (في سبيل الإعداد).
٢  «التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم»، إعادة بناء العلوم ص١٧١–٢٠٣.
٣  سنذكر المصطلحات باللغات الأجنبية؛ الإنجليزية أولًا لأنها اللغة الأوروبية الأولى لدينا، ثم بالفرنسية التي كتبتُ بها رسائلي الجامعية الثلاثة، ثم بالألمانية إذا اقتضت الضرورة. ونعتذر مسبقًا عن استعمال المصطلحات الأجنبية لأنه ضد هدف علم الاستغراب وهو التحرر من ثقافة الآخر. فهي مصطلحات علمية كما استعمل القدماء قاطيغورياس، وباري أرمنياس، ولكنها ستخف تدريجيًّا حتى تصل إلى حد الصفر.
٤  وذلك مثل كتاب ليفي برِيل: العقلية البدائية، وكتاب كلود ليفي شتراوس: الفكر البري، وكتاب فيليب بتاي: العقل العربي (لم نشأ ذكر الطبعات والناشر نظرًا لأننا لا نحيل إلى مرجع بل نشير إلى دلالة).
٥  «موقفنا من التراث الغربي» في «قضايا معاصرة»، الجزء الثاني: في الفكر الغربي المعاصر ص٣٤.
٦  بينما يستعمل سولوفييف لفظ «غرب» في «أزمة الفلسفة الغربية» وكذلك اشبنجلر في «أفول الغرب» فإن هُوسِرل يستعمل لفظ «أوروبا» في «أزمة العلوم الأوروبية»، وكذلك بول هازار في «أزمة الوعي الأوروبي» ولوكاتش في «دارسات في الواقعية الأوروبية»، كما يتحدث مونييه عن «العدمية الأوروبية». أما أورتيجا، وبرجسون، وجارودي، وشيلر، وسارتر وآخرون غيرهم فإنهم يستعملون اللفظين على التبادل.
٧  ويمكن التحقق من ذلك بمراجعة القواميس الفلسفية الآتية:
Antony Flew: A Dictionary of Philosophy, St. Martin’s Press, New York 1979. Dagobert D. Runes: Dictionary of Philosophy, Littlefield, Adams & Co. New Jersy 1972.
M. Rosenthal & P. Yudin: A Dictionary of Philosophy, Progress, Moscow, 1967.
٨  «موقفنا من التراث الغربي» في قضايا معاصرة، الجزء الثاني: في الفكر الغربي المعاصر ص٨-٩.
٩  المصدر السابق ص٨.
١٠  ويتضح ذلك عند كل مفكر أوروبي، بل ولدى كل أديب. ويمكن تصنيف أعمال موليير وكورني وراسين في هذه المصادر الأربعة من حيث موضوعاتها اليونانية أو الرومانية أو المحلية من البيئة الأوروبية نفسها.
١١  ويضم المصدر الإسلامي. وقد أجلنا الحديث عنه بالتفصيل. ثالثًا: الفلسفة المدرسية (من القرن الثامن حتى القرن الرابع عشر).
١٢  «الظاهريات وأزمة العلوم الأوروبية» في قضايا معاصرة، الجزء الثاني: في الفكر الغربي المعاصر ص١٣٣–٣١٢؛ وأيضًا: تفسير الظاهريات (بالفرنسية) ص٢٧٤–٢٩٤ الرسالة السابقة. وإني أدين بمعرفة المصدرين الأولين لأستاذي جان جيتون Jean Gutton أستاذ الفلسفة بجامعة السربون. أما المصدر الشرقي القديم والبيئة الأوروبية ذاتها فقد عرفتهما من دراساتي الخاصة، والتي يظهر فيها المنهج التاريخي بالإضافة إلى منهج التحليل الفكري الخالص الذي غلب على الأستاذ؛ انظر أيضًا عَلاقتنا به في «محاولة مبدئية لسيرة ذاتية» في «الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م»، الجزء السادس: الأصولية الإسلامية ص٢٣٥–٢٣٧؛ انظر أيضًا إشاراته لي في مؤلفاته العديدة مثل: Journal de ma vie, p. 518, Desclée de Brouwer, Paris 1976, un sciécle de ma vie, pp. 106–109, R. Laffont, Paris 1988.
١٣  انظر تحليلنا لهذه الظاهرة في «التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم» ص١٧٩–١٨٢.
١٤  انظر تحليلنا للُّغة: (أ) قصور اللغة التقليدية، (ب) مميزات اللغة الجديدة، في المصدر السابق ص١٢٣–١٤٠؛ وأيضًا «موقفنا من التراث الغربي» في قضايا معاصرة، الجزء الثاني: في الفكر الغربي المعاصر ص١٠-١١.
١٥  المصدر السابق ص١١.
١٦  تناول خصائص الشعوب الفلسفية تقليد إسلامي قديم قام به الشهرستاني في «الملل والنحل» وابن سينا في شرحه لكتاب الشعر لأرسطو.
١٧  «الظاهريات وأزمة العلوم الأوروبية» في «قضايا معاصرة»، الجزء الثاني: في الفكر الغربي المعاصر ص٣١٤؛ وأيضًا: L’éxegèse de la phénoménologie, pp. 275–86 «تفسير الظاهريات» (بالفرنسية) ص٢٧٥–٢٨٥.
١٨  «الظاهريات وأزمة العلوم الأوروبية» في «قضايا معاصرة» الجزء الثاني: في الفكر الغربي المعاصر ص٣١٤-٣١٥ وأيضًا: L’Exégèse de la Phénoménologie pp. 276–81.
١٩  «الظاهريات وأزمة العلوم الأوروبية»، نفس المصدر، ص٣١٥؛ وأيضًا: L’Exégèse de la Phénoménologie, pp. 281–88.
٢٠  الفارابي: الجمع بين رأيَي الحكيمين في المجموع ص١–٣٩؛ وأيضًا دراستنا: «الفارابي شارحًا أرسطو» في «دراسات إسلامية» ص١٤٥–٢٠٢.
٢١  وأيضًا طه حسين: نظام الأثينيين، دار المعارف، القاهرة ١٩٢١م؛ وأيضًا ترجماته للأدب اليوناني: «من الأدب التمثيلي اليوناني»، دار المعارف، القاهرة؛ «قادة الفكر»، دار المعارف، القاهرة ١٩٧١م.
٢٢  أحمد لطفي السيد: كتاب السياسة لأرسطو، الهيئة العامة للكتاب، ١٩٧٩م. «موقفنا من التراث الغربي» في «قضايا معاصرة»، الجزء الثاني: «في الفكر الغربي المعاصر» ص١٢-١٣.
٢٣  انظر تحليلنا للاستشراق في «التراث والتجديد»، موقفنا من التراث القديم، النزعة العلمية ص٧٧–١٠٨.
٢٤  المصدر السابق، النعرة الخطابية ص١٠٨–١٢٣؛ وأيضًا «موقفنا من التراث الغربي» في «قضايا معاصرة» الجزء الثاني: في الفكر الغربي المعاصر ص١١-١٢.
٢٥  ويذكر القرآن ذلك في آية: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٢: ١٣٥). انظر أيضًا دراساتنا عن عَلاقة اليهودية بالمسيحية والإسلام مثل History and verification, a Qura’nic View on the scriptures. Certainty and Conjecture, A porto-type of Islamo-Christian relations, in: Religious Dialogue and Revolution, pp. 21–68 Anglo-Egyptian Bookshop, Cairo, 1977.
٢٦  «موقفنا من التراث الغربي»، نفس المصدر ص١٣.
٢٧  هذا الميثاق الأخلاقي المشروط هو المذكور في القرآن: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ (٣: ٣١)، والإيمان بالجزاء الفردي: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٥: ١٨). ولهذا السبب ترجمنا لاسبينوزا «رسالة في اللاهوت والسياسة» كنوع من إثبات الميثاق المتبادل الفردي الأخلاقي القرآني من خلال التراث اليهودي الليبرالي الإصلاحي نفسه. وشهد شاهد من أهلهم. انظر أيضًا دراساتنا بالإنجليزية في هذا الموضوع مثل: Islam and Judaism, a model from Andalusia in Islam: Religion, Ideology and Development (In print).
٢٨  وقد كتبنا الجزء الثاني من رسالتنا الثانية «ظاهريات التفسير، محاولة لتفسير وجودي ابتداءً من العهد الجديد» بالفرنسية لتحقيق هذا المنهج.
٢٩  «الظاهريات وأزمة العلوم الأوروبية» في «قضايا معاصرة»، الجزء الثاني: في الفكر الغربي المعاصر ص٣١٥-٣١٦؛ وانظر أيضًا: L’Exégèse de la phénoménologie, pp. 288–91.
٣٠  ويمكن أخذ كتاب إميل برييه عن «تاريخ الفلسفة» مثالًا على ذلك بإضافة جزأين: الأول عن «الفلسفة البيزنطية»، والثاني عن «الفلسفة في المشرق».
٣١  F. Cumont: Oriental Religions in Roman Paganism, Dover, NY, 1956.
٣٢  S. Moscat: Ancient semetic civilizations, pp. 233–37, Putnam, NY, 1960.
٣٣  لمزيد من الاطلاع على المصادر الشرقية للحضارة الغربية انظر:
Harry Elmer Barnes: An Intellectual and cultural history of the Western World, vol. 1, pp. 76–82 Dover, NY, 1955 E. Zeller: Outline of the history of Greek Philosophy pp. 24–36, World publishing, NY, H. Baker & H. Elmer Barnes. Social Thought from lore to science, vol. 1, pp. 44–134, Dover, NY 1961, Th. Stcherbatsky: Buddhist Logic, vol. I, II, Dover, NY 1962.
٣٤  لمزيد من التفصيلات عن تكوين العهد القديم في الحضارات الشرقية القديمة انظر:
C. H. Gordon: The Ancient Near East, pp. 292–303, W. W. Norton, NY 1965; A. Heidel: The Gilgamesh Epic and old Testament Parallels, Uni. of Chicago Press, 1971, A. Heidel: The Babylonian Genesis, Uni. of Chicago Press, 1972, G. A. Larue: Babylon and The Bible, Grand Rapids, Mich. 1969; ch. f. Pfeiffer: Tell El-Amarna and the Bible, pp. 67–71; ch. f. Pfeiffer: Ras shamra and the Bible, Grand Rapids, Mich. 1968; G. R. Driver: Canannite Myths and Legends. T. T. Clark, Edinburgh 1971, J. Penn-Lewis: The conquest of Canaan, phila. 1972.
٣٥  A. K. Helmbold: The Nag Hammadi Gnostic Texts and the Bible, Grand Rapids, Mich. 1967; Borrows: Les Manuscrits de la mer morte, R. Laffont, Paris, 1962, Les manuscrits de la mer morte, colloque de Strasbourg, Mai 1955, PNF, 1957, La secte de Qumran et les origines du Christianisme, Desclée, Louvain, 1959 G. Vermes: Les Manuscrites du désert du Juda, Desclée Tournai, 1953; A. Dupont-Sommer: Les Ecrits Esséniens découverts prés de la mer morte, Payot, Paris, 1960, Les Textes de Qumran, Latouzey, Paris, 1961: L. Mowry. The deed sea scrolls and the earthly church, Notre dame, London, 1962: ch. F. Pfiffer. The dead sea scrolls and the Bible, Grand Rapids, Mich. 1969.
٣٦  B. Tatakis: La philosophie Byzantine, PUF, Paris 1959.
٣٧  E. Bréhier: Histoire de la Philosophie, T. I, L’Antiquité et le moyen-age, 2. Periode Hellénistique et Romaine pp. 465–70; Festugière: La Révélation D’Hermès Trismégiste vol. I, II, III, IV, Lecoffre, Paris 1944–49.
٣٨  Saint Augustin: Traités Anti-Donatistes, vol. I, II, V, Desclée, Bruxelles, 1963–65.
٣٩  H. Elmer Barnes: An Intellectual and cultural History of the Western world, vol. I, pp. 81-82, H. Becker & H. Elmer Barnes: Social Thought from Lore to science, vol. I, pp. 273–79.
٤٠  انظر مقدمتنا لكتاب: لسنج: تربية الجنس البشري ص٢٠٦–٢٢٣، دار الثقافة الجديدة، القاهرة ١٩٧٧م.
٤١  Martin Bernal: Black Athena, The Afro-Asian Roots of classical Civilization, vol. I, The Fabrication of Ancient Greece 1785–1985, vol. II, Greece, European or Levantine? The Egyptian and West Semitic components of Greek civilization, vol. III Solving the riddle of the sphinx and other studies in Egypto-Greek Mythology, Rutgers University Press, New Brunswick, NJ 1987 A. C. Diop: Civlization Africaine et Culture.
٤٢  «موقفنا من التراث الغربي» في قضايا معاصرة، الجزء الثاني: في الفكر الغربي المعاصر ص٣٥-٣٦.
٤٣  المصدر السابق ص١٧-١٨.
٤٤  جمال حمدان: استراتيجية الاستعمار والتحرير، كتاب الهلال، القاهرة؛ وأيضًا: J. H. Breasted: The dawn of conscience, Scribner, NY 1933 G. Steindorff & K. C. Seele: When Egypt ruled the East, University of Chicago Press, 1957.
٤٥  ابن خلدون: المقدمة ص٦٧–٨١.
٤٦  H. Elmer Barnes: An Intellectual and Cultural History of the Western World, I, pp. 3–62; Social Thought from lore to science, I, pp. 5–42.
٤٧  A. Fouillée: Psychologie du peuple français, pp. 75–93, F. Alcan Paris, 1898.
٤٨  A. Fouillée: Esquisse psychologique des peuples Européens, pp. I–XIX, F. Alcan, Paris, 1927.
٤٩  انظر دراستنا: «التجديد والترديد في الفكر الديني المعاصر» في قضايا معاصرة، الجزء الأول: في فكرنا المعاصر ص٧٠–٩٠؛ وانظر أيضًا تعريفات الدين في القواميس الخاصة بتاريخ الأديان.
٥٠  «التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم» ص٧٧–١٠٨.
٥١  «موقنا من التراث الغربي» في «قضايا معاصرة»، الجزء الثاني: في الفكر الغربي المعاصر ص١٧-١٨.
٥٢  «الظاهريات وأزمة العلوم الأوروبية»، المصدر السابق ص٣١٦؛ وأيضًا «ثقافتنا المعاصرة بين الأصالة والتجديد» المصدر السابق، الجزء الأول: في فكرنا المعاصر ص٥١–٦٩.
٥٣  وذلك مثل راندال: تكوين العقل الحديث. أما تواريخ الفلسفة الغربية من منظور فلسفي فيكفي أن نذكر منها بعض نماذج مثل: فيورباخ: تاريخ الفلسفة الحديثة من بيكون إلى اسبينوزا؛ هيجل: دروس في تاريخ الفلسفة؛ رَسِل: تاريخ الفلسفة الغربية؛ رويس: رُوح الفلسفة الحديثة.
٥٤  ظهر الوعي التاريخي عند فلوطرخس Plutarque (عاش حوالَي ١٠٠م) في كتابه «تواريخ حياة متوازية» Parallel lives، «الأعمال الخلقية» Opera moralia. وهو غير فلوطرخس الأثيني الذي عاش في القرن الخامس ومؤسس الأفلاطونية الجديدة في أثينا وشارح أعمال فيثاغورس وأفلاطون. كما ظهر بعد ذلك بمائة عام أو يزيد عند ديوجينس اللايرتي في «حياة مشاهير الفلاسفة ومذاهبهم» الذي ترجمه القدماء إلى العربية. وقد جمع تاريخ الفلاسفة وأخبارهم حتى سكتوس أمبريقوس، خاصة الرواقيين والأبيقوريين.
٥٥  أسس جالينوس مدرسة طبية تجمع بين الطب العلمي والطب العقلي في حين اقتصر أبقراط على الطب التجريبي. وهو الذي جمع بين المشائية والرواقية، وأضاف الشكل الرابع في القياس.
٥٦  قام بذلك سكتوس أمبريقوس (٢٠٠–٢٥٠م) في كتابيه: «معالم البيرونية» (ثلاثة أجزاء)، «الرد على الأساتذة).
٥٧  بدأت المدرسة في الإسكندرية بأمونيوس سَكاس، أستاذ أفلوطين، ثم هيباثيا، ثم أفلوطين (٢٠٥–٢٧٠م)، وتلميذه فورفوريوس (٢٣٢–٣٠٥م)، ويامبليخوس (٢٧٠–٣٣٠م)، وأبرقلس (٤١٠–٤٨٥)، وسِمبليقيوس (القرن السادس).
٥٨  عاش أفلوطين في مصر وروما. حوَّل الأفلاطونية إلى تصوف، ونشر تلميذه فورفوريوس كتابه «التاسوعات». ويمكن لأحد طلاب الدراسات العليا دراسة موضوع الآثار الشرقية في الأفلاطونية الجديدة لإبراز المصدر الشرقي غير المعلن عنه في الوعي الأوروبي.
٥٩  ولفورفوريوس أيضًا: «حياة أفلوطين»، «الرد على المسيحيين»، «نقاط تأهيلية لعالم العقل» وهو خطاب ميتافيزيقي خالص، «إلى مارسلا» وهو خطاب أخلاقي إلى زوجته، «الامتناع عن اللحم» وهي دعوة إلى الطعام النباتي.
٦٠  وُلد يامبليخوس في سوريا. حمل معه التراث الصوفي الشرقي إلى روما. كتب عدة شروح على اللاهوت اليوناني والشرقي. وحوَّل تعاليم أفلوطين إلى عقائد لاهوتية يغلب عليها وحدة الوجود والميتافيزيقا.
٦١  ولد أبرقلس في القسطنطينية. وحمل معه التصوف الشرقي إلى أثينا حيث مات. أصبح رئيسًا لأكاديمية أثينا. كتابه الشهير «عناصر اللاهوت» لخصه في «اللاهوت الأفلاطوني». وله شروح على «طيماوس»، «الجمهورية»، «بارمنيدس»، «السيبيادس الأول»، «قراطيل». وهو آخر من نظم الفلسفة اليونانية القديمة وهذبها. اعتمد عليه الفلاسفة المسيحيون من خلال دينيز الأريوباجي وإبان العصر الوسيط وحتى عصر النهضة. وله أعمال علمية أخرى مثل شروحه على الكتاب الأول من هندسة إقليدس.
٦٢  شرح سِمبليقيوس أعمال أرسطو في أواخر عهد أكاديمية أفلاطون، خاصة: «المقولات»، «السماء والعالم»، «الطبيعة»، «النفس». وقد استمر الأثر الأفلاطوني الجديد عند أبوليوس، جوليان الملحد، ماركوبيوس، ثم عند أوغسطين، ودينيز الأريوباجي، وإريوجينا، وعديد من آباء الكنيسة، وفلاسفة اليهود مثل: ابن جبرول، والصوفية المسيحيين من أمثال المعلم إيكهارت.
٦٣  سنيكا (٤ق.م–٦٥م) مُنظِّر الرواقية الأول، ومعلم بيرون الذي حكم عليه بعد ذلك بالإعدام. ومن مؤلفاته: «كتاب المسائل الطبيعية»، «كتاب الحوار»، «رسائل أخلاقية إلى لوسيليا».
٦٤  عرض إبيكتيتوس (٥٠–١٣٨م) الفلسفة الرواقية الرومانية. وكما نشر فورفوريوس «تاسوعات» أستاذه كذلك دون فلافيوس تلميذه النجيب عمل أستاذه «خطب إبيكتيتوس». وتنقسم فلسفته إلى منطق وطبيعيات وأخلاق. والأخلاق أهمها. والبعض يجعل تاريخه (٦٠–١١٠م).
٦٥  انظر محاولتنا لإعادة بناء الجَوَّانيَّة في دراستنا: من الوعي الفردي إلى الوعي الاجتماعي في «دراسات إسلامية» ص٣٤٧–٢٩٢.
٦٦  قدم ماركوس أورليوس (١٢١–١٨٠م) فلسفته في كتابه «التأملات» في صورة أمثال، وهو الشكل الذي كان سائدًا في الأدبين اليوناني واللاتيني، والذي تمت فيه صياغة أقوال المسيح، وهو شكل أدبي شائع في الآداب الشرقية.
٦٧  «التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم» ص١٩٤-١٩٥.
٦٨  «موقفنا الحضاري» في «دراسات فلسفية» ص٣٦.
٦٩  وهي فترة مستقلة درسناها عدة مرات منذ الجزء الثاني من رسالتنا الثانية: «ظاهريات التفسير، محاولة لتفسير وجودي ابتداءً من العهد الجديد» بالفرنسية؛ وفي دراستنا بالإنجليزية عن التحقق من صدق افتراضات قضايا القرآن بالنسبة للتحريف والتبديل بالاعتماد على النقد التاريخي للكتب المقدسة في كتابنا: «الحوار الديني والثورة»، الأنجلو المصرية، القاهرة ١٩٧٧م؛ وفي دراستنا عن «مدرسة الأشكال الأدبية» في دراسات فلسفية ص٤٨٧–٥٢١. وسأعود إليها من جديد في الجبهة الثالثة من مشروع «التراث والتجديد» أي «موقفنا من الواقع أو نظرية التفسير» سواء بتكوين نصوص العهد الجديد أم العهد القديم.
٧٠  عاش هرماس (١٤٠–١٤٥م) وله كتاب «الراعي».
٧١  «موقفنا من التراث الغربي» في «قضايا معاصرة»، الجزء الثاني: في الفكر الغربي المعاصر ص١٤.
٧٢  جيستان (١٠٠–١٦٠م) تحول إلى المسيحية قبل عام ١٣٢م، واستشهد في روما، وله كتاب «الدفاع» على نموذج دفاع أفلاطون عن سقراط.
٧٣  عاش تاسيان في القرن الثاني. له كتابان: «دياتيصارون»، «خطاب إلى اليونانيين».
٧٤  عاش تيوفيل الأنطاكي في القرن الثاني، ويتوجه في كتابه «إلى أوتوليكوم» إلى أحد العامة، وليس إلى الإمبراطور، لتحوله إلى المسيحية شاكرًا له هدايته وتركه فلسفة الوثنية.
٧٥  وذلك مثل «خطاب إلى اليونانيين»، «نداء إلى اليونانيين».
٧٦  ألف أثيناجوراس كتبه حوالَي ١٧٧م. كان همه الدفاع عن المسيحيين ضد اضطهاد الإمبراطور ماركوس أورليوس لهم، وهو الرواقي الفاضل. لذلك طلب منه العفو عنهم والمغفرة لهم في ندائه «طلب العفو عن المسيحيين كنوع من الخلاص الجماعي» فالرواقي مسيحي، والمسيحي رواقي وكل منهما لا يدري ذلك.
٧٧  كتاب هرمياس هو «صفير فلاسفة الخارج».
٧٨  بدأ ماركيون دعوته في مصر، ولكن طرده أسقفه، فحضر إلى روما وأسس جماعة لتعليم المسيحية للمسيحيين حوالَي ١٤٤م باسمه للقيام بدعوته. وله كتاب مفقود يسمى «التعارضات».
٧٩  تعلم فالانتين في الإسكندرية حوالَي ١٣٥م ثم انتقل إلى روما حوالَي ١٦٠م.
٨٠  للقديس إيرنيوس كتابا: «الرد على الهراطقة»، «عرض المعرفة المزيفة وتفنيدها».
٨١  ولهيبوليت كتابَا: «الرد على اليونان وأفلاطون أو في العالم»، «الرد على الهرطقات».
٨٢  السبعينية La séptante هي ترجمة العهد القديم من العبرية إلى اليونانية على السبعين شيخًا في الإسكندرية في القرن الأول.
٨٣  يمكن أن يقوم فريق من الباحثين لدراسة مدرسة الإسكندرية: اليونانية واليهودية والمسيحية كجزء من تراث مصر الوطني في عدة رسائل جامعية.
٨٤  عاش فيلون (٣٠ق.م–٥٠م).
٨٥  تحول كلمنت السكندري (١٥٠–٢١٧م) إلى المسيحية منذ صباه كما تحول مؤسس مدرسة الإسكندرية بانتن (حوالَي ٢٠٠م) من الرواقية إلى المسيحية كما يروي كلمنت. وله: «خطاب وعظ إلى اليونانيين»، «المربي»، «التحولات» Stromates.
٨٦  ولد أوريجين (١٨٥–٢٥٤م) في الإسكندرية وتحوَّل إلى المسيحية. تعلم من كلمنت ومن أمونيوس سَكاس مؤسس الأفلاطونية الجديدة. ثم ترهَّب وأسس مكتبة ومدرسة. وله: «الرد على سلسوس»، «هكسابالا» وهي نشرة نقدية للعهد القديم، المبادئ. ونظرًا لإيمانه بالوجود المسبق للأرواح على طريقة الشرقيين فقد تمت إدانته في ٢٣٣م. وقد قام عديد من آباء الكنيسة للرد عليه وتفنيد آرائه مثل ميتود الأولمبي (٣١١م)، بطرس السكندري (٣١٢م) القديس أبيفان (عاش حوالَي ٣٧٥م)، وثيوفيل السكندري الذي دعا إلى مَجمع مَسْكُوني لإدانة أوريجين ولكن القديس جيروم دافع عنه.
٨٧  أوزبيوس السيزاري (٢٦٥–٣٤٠م) أكبر مؤرخي الكنيسة. ولد في سيزاريا بفلسطين، ودرس في مدرسة بامفيلوس، وأصبح أسقف سيزاريا في ٣١٣م. أهم أعماله باليونانية: «تاريخ الكنيسة»، «إعداد إنجيلي»، «تواريخ زمنية»، رسالة في «التجليات الإلهية».
٨٨  يسمى جريجوار النازيانزي حبريجوار اللاهوتي (٣٢٩–٣٨٩م) لأنه أول اللاهوتيين الكبار في المسيحية. يعادل فولف أحد كبار العقليين في القرن السابع عشر. له «خطابات لاهوتية».
٨٩  القديس بازيل (٣٣٠–٣٧٩م) أو بازيل الكبير، له: «شروح على الأسفار الستة»، «الرد على أومونيوس»، «إلى الشباب، في كيفية الاستفادة من الآداب اليونانية».
٩٠  كانت معظم مؤلفات جريجوار النيسي (٣٣٥–٣٩٤م) في النفس أو حولها مثل: «في تكوين الإنسان»، «شرح على نشيد الأنشاد وعلى الطوباويات»، «حوار مع ماكرينا حول النفس والخلود».
٩١  كتب نيميسيوس (حوالَي ٤٠٠م) «حول طبيعة الإنسان».
٩٢  تُوفي أبولوناريوس عام ٣٩٢م.
٩٣  تُوفي ماكير المصري عام ٣٩٥م.
٩٤  تيودوريت (٣٨٦–٤٥٨م). وله كتاب «شفاء المرضى اليونان أو الحقيقة الإنجيلية ابتداءً من الفلسفة اليونانية».
٩٥  هو أسقف أثينا في القرن الأول الذي حمل نفس الاسم. وهذه الكتابات هي:
«الرسائل العشر»، «في الأسماء الإلهية»، «في المراتب السماوية»، «في المراتب الكنسية»، «في اللاهوت الصوفي». ثم اكتُشف بعد ذلك أنها كُتبت متأخرة بعد ذلك بكثير لما تحتويها من أفلاطونية جديدة وعقائد كنسية متأخرة لم تكن تُعرف قبل القرن الخامس. وينسبها البعض إلى بطرس الأيبيري، أسقف جيورجيا، وقد كان نشطًا في الشرق. وفي رأي فريق ثالث أنها متأخرة على ذلك بكثير، وتصل بعض الآراء إلى القرن العاشر، بل والقرن الخامس عشر، لما تميز به أيضًا من الاتجاه الأفلاطوني كما بدا عند نيقولا الكوزي ويعقوب البوهيمي. وهذا يدل على أن رُوح العصر قادرة على إفراز كتابات جماعية كما هو الحال في إفراز الجماعة المسيحية الأولى الأناجيل، تعبر عن رُوح التراث اليوناني الشرقي مثل ما تعبر كتابات ألف ليلة وليلة عن رُوح الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري. وكانت أشهر مجموعة من الكتابات في الفلسفة الدينية طوال العصر الوسيط وحتى عصر النهضة.
٩٦  لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥: ٨٢-٨٣).
٩٧  إينيه الغزَّوي (٤٥٠–٥٣٤م)، زكريا أسقف ميتيلين تُوفي قبل ٥٥٣م، بروكوب الغزَّوي (٤٦٥–٥٢٩م).
٩٨  ليونس البيزنطي (٤٧٥–٥٤٢ / ٥٤٣م).
٩٩  لماكسيم المعترف (٥٨٠–٦٦٢م) شروح على جريجوار النازيانزي، ودينيز الأريوباجي مثل: «بعض الفقرات الصعبة لدينيز الأريوباجي وجريجوار النازيانزي». كما حاول توضيح بعض الالتباسات الأخرى في بعض النصوص التراثية في «الالتباس». وقد ترك مثل سابقيه كتاب «في النفس».
١٠٠  عاش ميليتون في القرن الثاني، وهو أول من دافع عن المسيحية باللاتينية. كتب «الدفاع» وأرسله إلى ماركوس أورليوس الإمبراطور الرواقي الذي كان يضطهد المسيحيين.
١٠١  الحالية Modalim، الملكوتية الحالية Modalistic Monarchianism، الأبوة المتألمة Patripassianism.
١٠٢  ادعى مونتانوس النبوة، فالنبوة ما زالت مستمرة، ظهرت في الحواريين وعند بولس. وقد انضم إليه ترتيليان في وقت ما من حياته. وانتهت الفرقة في القرن الرابع.
١٠٣  كان ترتليان (١٦٥–٢٢٠ / ٢٤٠م) أولًا مع المونتانية وأحد زعمائها ضد المسيحية نظرًا لإعجابه بالأخلاق المونتانية، ثم تحول إلى المسيحية ودافع عنها في «الدفاع»، «أحكام الهراطقة»، «في النفس». ويعتبر أحيانًا قانونيًّا أكثر منه فيلسوفًا.
١٠٤  لمينيسيوس فيلكس كتاب «الثماني» Octavius.
١٠٥  لآرنوب كتاب «الرد على الأمم».
١٠٦  تحول لاكتانس إلى المسيحية حوالَي ٣٠٠م، وعينه الإمبراطور قسطنطين لتعليم ابنه. وأشهر مؤلفاته: «المؤسسات الإلهية»، «أفعال الله»، «غضب الله»، وتعتبر أعماله نموذجًا للأنساق المذهبية.
١٠٧  كتب القديس هيلير من بواتييه «في التثليث».
١٠٨  القديس أمبرواز (٣٣٣–٣٩٧م) هو أستاذ القديس أوغسطين. مؤلفاته: «الإيمان»، «التجسد»، «في الزبور»، «وظيفة القسيس». درس فيلون وأوريجين وأصبح أفلاطونيًّا جديدًا.
١٠٩  بدأ ماكروب بشروح على «حُلم سيبيون».
١١٠  شرح كالسيديوس محاورات أفلاطون ومنها «طيماوس».
١١١  ظهر ماريوس فيكتورينوس (٣٦٣م) في الساحل الأفريقي مع روما وليس ضدها. جادل ضد المسيحية أولًا ثم تحول إليها. وقام بعدة شروح على بعض رسائل بولس مثل: «رسالة إلى أهل غلاطية»، «رسالة إلى فيليبي»، «رسالة إلى أهل أفسوس». كما ترجم «التاسوعات» إلى اللاتينية. وكتب رسالتين لاهوتيتين «الرد على آريوس» و«في تولد الكلمة الإلهية»، ويُعتبر إرهاصًا لأوغسطين.
١١٢  عرض آريان كانديد ذلك في كتابه «في التوليد الإلهي».
١١٣  ولد أوغسطين (٣٥٤–٤٣٠م) في شمال أفريقيا. درس وعلم في قرطاجة وروما وميلانو. تحول إلى المسيحية عام ٣٨٦م. عاد إلى شمال أفريقيا لتأسيس جماعة رهبان. ثم نُصب أسقف هيبو ٣٩٥–٤٣٠م. بدأ حياته الفكرية بحوار مع سيسرون في «هورتنسيوس». وقرأ أجزاء من «التاسوعات». وجعل موضوع الإيمان والعقل أحد المحاور الرئيسية في حياته. هو الذي وضع مبدأ «الإيمان باحث عن العقل» أو «أُومِنُ كي أعقل» والذي استمر حتى القديس أنسيلم في القرن الحادي عشر. لم يستطع تعلم الآداب اليونانية بالرغم من أثر الأفلاطونية الجديدة عليه. إلا أنه عشق الآداب اللاتينية وبرع فيها وأصبح ممثلها الأول.
١١٤  قام بذلك في كتابه «الرد على الشُّكَّاك».
١١٥  وذلك في كتابه «الرد على المانويين».
١١٦  وقد عرض ذلك في كتابه «الحياة السعيدة».
١١٧  انظر مقدمة ترجمتنا لمحاورة «المعلم» في «نماذج من الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط» ص٣–٩٩، الأنجلو المصرية، الطبعة الثالثة (مصورة عن الثانية)، القاهرة ١٩٧٨م.
١١٨  عرض أوغسطين ذلك في محاورات: «كم النفس»، «خلود النفس»، «النفس ومصدرها»، «في النظام»، «في الموسيقى»، «حديث النفس».
١١٩  وذلك مثل: «الدين الحق»، «فائدة الصيام».
١٢٠  نشأ بلاجيوس في بريطانيا، وانتشرت شيعته في أفريقيا وروما وفلسطين.
١٢١  رد عليه أوغسطين في كتابه «حرية الإرادة».
١٢٢  أبوليناريوس (٣١٠–٣٩٠م)، آريوس (٢٥٦–٣٣٦م). وقد أدان مَجمع نِيقية الأول آريوس على استحياء عام ٣٢٥م، ثم صراحة في مَجمع القسطنطينية عام ٣٨١م بإعادة التصويت. وكتبه أوغسطين «في التثليث» وفي «العقيدة المسيحية» لإثبات شعار مجمع نيقية الأول.
١٢٣  وعرض ذلك في كتابه «تحول السلطة الإلهية عناية إلهية».
١٢٤  هو بابا روما (٤٩٢–٤٩٦م).
١٢٥  بويثيوس (٤٨٠ / ٣٢٥–٥٢٤ / ٤٧٠م) فيلسوف روماني. كان موظفًا كبيرًا لدى ملك القوط تيودوريك الذي غضب عليه فسجنه وأعدمه. ترجم أعمال أرسطو المنطقية من اليونانية إلى اللاتينية: التحليلات الأولى، التحليلات الثانية، الخطابة، السفسطة. كما ترجم وشرح مقدمة فورفوريوس «إيساغوجي» بعد أن أصبح النص المعتمد في المنطق طوال العصر الوسيط. وشرح المقولات، العبارة، التحليلات الأولى الثانية، السفسطة، الجدل. بل كان مشروعه أيضًا ترجمة أفلاطون من أجل بيان اتفاق أفلاطون وأرسطو وتفسير كل منهما بالآخر، كما فعل الفارابي في «الجمع بين رأيَي الحكيمين، أفلاطون الإلهي وأرسطوطاليس الحكيم». كانت مهمته الترجمة والشرح والتوفيق ثم النقل حتى يمهد الطريق بعده للانتقال من مرحلة النقل إلى مرحلة الإبداع. ومن ضمن أعماله مؤلفات في الرياضيات مثل: «مبادئ الرياضة» والهندسة، وفي الموسيقى مثل: «مبادئ الموسيقى»، وفي اللاهوت: «كتيبات صغيرة»، «كتاب الثالوث المقدس والفهم باحثًا عن العقيدة»، «عزاء الفلسفة» الذي كتبه في السجن.
١٢٦  شرح كاسيدور (٤٧٧–٥٧٠م) «النفس» لأرسطو، وله أيضًا «المؤسسات الإلهية والدنيوية».
١٢٧  تُوفي مارتن الباراكاري في ٥٨٠م.
١٢٨  جريجوار الكبير (٥٤٠–٦٠٤م) له بعض الشروح الرمزية على الكتاب المقدس.
١٢٩  تُوفي إيزودور الإشبيلي في ٦٣٦م، وله كتاب «الأصول الاشتقاقية».
١٣٠  ومن أشهر هؤلاء: فِرتونا (٥٣٠–٦٠٩م)، بول فانفريد، بطرس البيزي.
١٣١  حدث ذلك خاصة في أيرلندا وإنجلترا وألمانيا، وتكثر الشخصيات بالعشرات، أشهرها خمسة: ألدهِيلْم المالْمِزبوري (٦٣٩–٧٠٩م)، بِيد المحترم (٦٧٣–٧٣٥م)، فنفريد (؟–٧٥٨)، ألكوِين (٧٣٠–٨٠٤م)، رابان مور (٧٨٤–٨٥٦م).
١٣٢  لِبِيد المحترم كتابُ «فن العروض».
١٣٣  كان فنفريد أول أسقف في مدينة ماينز، واستُشهد في ٧٥٨م وأصبح اسمه القديس بونيفاس وله «فعل أجزاء الكلام».
١٣٤  ولألكوِين كتاب «عقل النفس».
١٣٥  وكان مع ثيودولف الأورليانزي بولين الأكويلي (٨٢٠م) وأجوبارد الذي نصَّب نفسه قِسيسًا حوالَي ٨٠٤م.
١٣٦  تُوفي خوري القديس مارتن التوري فرد جيز في ٨٣٤م. وله «رسالة في العدم والظلام».
١٣٧  شرح رابان مور كتب أرسطو: «في النفس» و«العبارة»، كما شرح «إيساغوجي» في المنطق، وألَّف كتاب «النحو».
١٣٨  ومن هؤلاء: كانديد الفولدي، راشيز راتبرت (٨٦٠م)، جوتشالك (٨٦٦ / ٨٦٩م).
١٣٩  ظهر ذلك عند سان جِرمان في القسطنطينية ما بين ٦٣٣–٧٣٣م.
١٤٠  يوحنا الدمشقي (٦٧٤ / ٦٧٥–٧٤٩م). وله: «الرد على المانوية»، «الرد على موحِّدي الإرادة»، «مصدر المعرفة»، «الوحوش والأشباح».
١٤١  يوحنا سكوت إريوجينا (٨١٠–٨٧٧م) لاهوتي أيرلندي ومترجم وفيلسوف غامض الأصل والنشأة، ترجم كتب دينيز الأريوباجي المنتحلة، وكذلك أعمال جريجوار النيسي، من اليونانية إلى اللاتينية. وقد اعتمد كل العصر الوسيط على ترجمته لدينيز الأريوباجي. وقد اتُّهم بوحدة الوجود. أثبت حرية الإرادة في كتابه «في القدر المسبق»، وتحدث عن الطبيعيات في «أقسام الطبيعة».
١٤٢  وقد قام بذلك ساناراجد (٨١٩م)، بروبوس (٨٥٩م) في ألمانيا، لوب الفريري (٨٦٢م) في فرنسا، كلوني أبون الذي شرح أرسطو وركز على البلاغة والجدل والحساب، الأخت هروتسفيتا في حبها للآداب ودعوتها لها.
١٤٣  ظهرت مشكلة الكليات عند هيريك الأوكسيري (٨٤١–٨٧٦م)، ريمون الأوكسيري.
١٤٤  وهؤلاء مثل: ميكون سان ريكيه، هادوارد.
١٤٥  وذلك مثل: فلوبير الشارتري (١٠٢٠م)، جيدو الأريتزوي (عاش بين ٩٩٥–١١٠٥م)، فيلجاردو.
١٤٦  جربرت الأورياكي (١٠٠٣م) هو الذي أصبح فيما بعد البابا سلفستر الثاني. درس العلوم الإسلامية ثلاث سنوات في إسبانيا، وعلَّم في مدرسة رينس، ثم أصبح أسقف المدينة ثم أسقف مونيه رافينا، ثم بابا في ٩٩٩م. كان أستاذًا في الفنون الحرة السبعة وأبدع في أربعة منها وهي: المنطق، والرياضة، والفلك، والموسيقى.
١٤٧  هذا هو التمييز الذي أقامه نيسيفورس (٧٦٨–٨٢٩م).
١٤٨  هذا ما حاوله ثيودوروس ستوديت (٧٥٩–٨٢٦م).
١٤٩  فوتيوس (٨٢٠–٨٩١م). وقد دعا الخليفةُ المأمون إلى بغداد ليون الرياضي أحد معاصريه، وتذكر الروايات أنه من فرط إعجابه به كتب إليه يدعوه: «لك أمة الإسلام كلها تمثل بين يديك.» وقد كتب أرتياس السيزاري تلميذ فوتيوس رسالة في المقولات.
١٥٠  هو كونستان كونستانتين السابع (٩١٣–٩٥٩م) ابن ليون السادس.
١٥١  كان إسحاق الإسرائيلي (٨٦٥–٩٥٥م) طبيبًا في بلاط خلفاء القيروان، كتب عدة مؤلفات مثل: «كتاب الحدود»، «كتاب العناصر»، «كتاب الرُّوح والنفس».
١٥٢  كان المقمص بن مروان معاصرًا لإسحاق الإسرائيلي، ويعتبره البعض أول الفلاسفة اليهود كذلك، له عشرون مقالة.
١٥٣  سعيد بن يوسف الفيومي من الفيوم في مصر الوسطى. وصل إلى درجة الرئاسة عند اليهود لذلك سموه «سعديا جاءون»، وعاش في سورا فيما بين النهرين منذ ٩٢٨م، وهو يهودي «حلَقي» أي شرعي، وشاعر ترانيم، ومن أوائل دارسي النحو العبري، ومفسر توراتي، له شروح على كتاب يزيرا. ترجم التوراة إلى العربية. عمله الرئيسي الفلسفي «كتاب الأمانات والاعتقادات»، كان له أثره الضخم في تطور الفلسفة اليهودية فيما بعد.
١٥٤  تُوفي بيرانجيه التوري عام ١٠٨٨م.
١٥٥  أوتلوه السانت امرامي (١٠١٠–١٠٧٠م).
١٥٦  لانفران (١٠٠٥–١٠٨٩م).
١٥٧  القديس أنسيلم (١٠٣٣–١١٠٩م) أسقف كانتربري، ويعتبر أب الفلسفة المدرسية. عرض الدليل الأول القائم على فكرة الخير في «حديث النفس»، والثاني القائم على فكرة الوجود في كتابه «في الحقيقة» بعد أن عرض المعاني المختلفة لها، والرابع وهو الدليل الأُنطولوجي في «خطاب للناس». وأثبت الإرادة الحرة في كتابه «حرية الاختيار»، وحل تناقض الخير والشر في كتاب «سقوط الشيطان». وتعبر محاوراته وأعماله عن براعة في التحليلات اللُّغوية لحل المقولات الصعبة، كما فعل في كتابه «في النحو»، ومطبقًا نفس التحليل في ميدان المنطق. انظر أيضًا مقدمتنا وشروحنا لمجموعة «الإيمان باحثًا عن العقل» في «نماذج من الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط» ص١٠١–٢٠٥، الأنجلو المصرية، القاهرة، ١٩٧٨م.
١٥٨  روسلان (١٠٥٠–١١١٢ / ١١٢٠م) أدانته الكنيسة، واضطُر إلى التراجع في مَجمع سواسون عام ١٠٩٢م. ولم تُحفظ من أعماله إلا رسالة له إلى أبيلار. وهو موقف يشابه التوجه القرآني في: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ (٥٣: ٢٣).
١٥٩  القديس برنار الشارتري (١١٣٠م) يمثل مرحلة الانتقال من القرن الحادي عشر إلى الثاني عشر. له كتاب «عرض فورفوريوس».
١٦٠  وليم الشامبووي (١٠٧٠–١١٢١م) أحد زعماء المذهب الواقعي وأحد أساتذة أبيلار.
١٦١  أبيلار (١٠٧٩–١١٤٢م) تلميذ روسلان. عاش في فرنسا، وحدثت له مآسٍ في حياته سطرها في كتابه «قصة مآسي». فقد أحب تلميذته هيلويز فعاقبه أبوها بقطع أعضائه التناسلية، فترهبت هيلويز. شرح «إيساغوجي» لفورفوريوس و«المقولات» لأرسطو، كما شرح كتاب «في التصنيف» المنسوب إلى بويثيوس. وله كتاب آخر عن «الجدل»، وثانٍ عن «مصطلحات منطقية». أما نقده للتراث ففي كتابه «نعم ولا»، وأخلاقه القصدية في كتاب «اعرِف نفسك». أما كتبه العقائدية فهي: «اللاهوت المسيحي»، «التوحيد والتثليث الإلهي». وكتابه في الحوار بين الأديان «حوار بين يهودي وفيلسوف ومسيحي».
١٦٢  من أعداء أبيلار جوسلين السواسوني (١١٥١م)، برنار الكليرفُووي (١٠٩٠–١١٥٣م) وهو لاهوتي صوفي مضاد للعقل وضد أي نقد لتراث الآباء، يعتمد على سلطة الكنيسة، رفعه البابا بيوس الثاني عشر إلى درجة القداسة وأعطاه لقب «أفضل العلماء». أعماله الرئيسية: «في محبة الله»، «في الفضل الإلهي والإرادة الحرة».
١٦٣  أسس «مدرسة شارتر» فلوبير، ومعه برنار الشارتري (١١٣٠م)، جيلبرت دي لابوريه (١٠٧٦–١١٥٤م) وقد بدأ الميتافيزيقا الخالصة بعد دخول المنطق، تييري الشارتري (١١٥٥م) وقد حاول الاستمرار في الأرسطية مع إضافة نظرية في الخلق تأخذ الشر في الاعتبار، برنار سلفستر الشارتري، وليم الكونشي (١٠٨٠–١١٤٥م) وقد صنف العلوم بما في ذلك الفنون الحرة.
١٦٤  ألف بطرس اللومباردي (١١١٠–١١٦٠م) كتاب «في الحِكم» أو «الأقوال المأثورة» أو «المأثورات»، وقد انتشر الكتاب بالفعل على مدى قرنين من الزمان، وقام بشرحه كبار اللاهوتيين في القرنين التاليين الثالث عشر والرابع عشر.
١٦٥  التصوف النظري عند وليم السانت تييري (١١٤٨م)، والتصوف العملي عند آلشر الكليرفُووي وإسحاق ستيلَّا، وتصنيف العلوم والفنون الحرة عند هيوج السانت فيكتوري (١١٤١–١١٦٦م) وريتشارد السانت فيكتوري (١١٧٣م) وتوماس جاللوس (١٢٣٦م).
١٦٦  يوحنا السالزبوري (١١١٥–١١٨٠م) نقد النظم المدرسية في كتابه «ما بعد المنطق»، وفصل الكنيسة عن الدولة في «قوة المدينة».
١٦٧  أخذ آلان اللِّيلي (١٢٠٣م) لقب «العالم الشامل»، وأسس «المنطق العظيم».
١٦٨  أوثان الفريزنجي (١١٥٨م).
١٦٩  سيميون اللاهوتي أو سيميون الشاب (٩٤٩ / ٩٥٠–١٠٢٢م). وأهم أعماله «حب الأنغام الإلهية».
١٧٠  وُلد نيسيتاس ستيتاتوس حوالَي ١٠٠٠م. وأهم مؤلفاته «الجنة المعقولة»، «في المراتب السماوية والكنسية».
١٧١  وقد سار في نفس الاتجاه السياسي الأخلاقي ثيوفيلاكتوس تلميذ بسيللوس.
١٧٢  بسيللوس (١٠١٨–١٠٩٦م) أعظم الفلاسفة المسيحيين الشرقيين، ويعادل أنسيلم في المسيحية الغربية. رفض النظم التعليمية في جامعة القسطنطينية، وأظهر ولعًا لدراسة الفنون الحرة السبعة مثل أوغسطين. اتُّهم بالوقوع في الوثنية اليونانية. أهم مؤلفاته «في عمل الشياطين»، «خصائص الأحجار الكريمة»، «أفكار مشتركة».
١٧٣  ومن تلاميذه يوحنا إيتالوس، وقد تم اتهامه أيضًا بالانتصار إلى الوثنية اليونانية. وأهم مؤلفاته: «مقال في الجدل»، «شرح فقرة من الأوديسة خاصة بالأحلام»، «بعث الجسد». ومعه أيضًا ميشيل الأفيزي الذي اتجه إلى أرسطو مع أفلاطون، ثيودور السميرني وغيرهم، سواء ممن سار معه أو ممن انقلبوا عليه.
١٧٤  باهيا بن يوسف بن باقودة (١٠٥٠م) أول فيلسوف يهودي في القرن الحادي عشر. وهو فيلسوف أخلاقي. كتب «الهداية إلى فرائض القلوب»، «شريعة النفس».
١٧٥  ابن صادق القرطبي (١٠٨٠–١١٤٩م)، له كتاب «العالم الأصغر».
١٧٦  يهوذا اللاوي (١٠٧٥–١١٤١م) أول فلاسفة القرن الثاني عشر، فيلسوف وشاعر وُلد في إسبانيا، وله كتاب «كتاب الحجة والدليل في نصرة الدين الذليل» والمعروف باسم «الخوزاري». وقد كتبه لتحويل ملك الخزر بولان إلى اليهودية.
١٧٧  إبراهيم بن داود اللاوي (١١١٠–١١٨٠م) وُلد في طليطلة. وهو أول فيلسوف أرسطي. وله: «العقيدة الرفيعة»، «سِفر القَبالة».
١٧٨  ابن جبرول (١٠٢٠–١٠٥٧ / ١٠٥٨ / ١٠٧٠م) عاش في إسبانيا. وهو شاعر وفيلسوف. كل كتاباته بالعربية وفي موضوع الأخلاق مثل «إصلاح الأخلاق»، «ينبوع الحياة» في صورة حوار بين شيخ ومريد. وله ترجمة لاتينية ذائعة الصيت. وله أيضًا «تاج الملوك» يحتوي على وصايا أخلاقية في علم السياسة.
١٧٩  إبراهيم بن عزرا (١٠٩٣–١١٦٧م) مفسر وفيلسوف. ولد في إسبانيا، وسافر إلى عدة بلدان، وأقام في إيطاليا وفي بعض أقاليم فرنسا. أسس فلسفته من خلال الشروح على طريقة المسلمين. وله أيضًا بعض الرسائل مثل: «أساس معرفة الله»، «بداية السماء».
١٨٠  موسى بن ميمون (١١٣٥–١٢٠٤م) وُلد في قرطبة ثم هاجر إلى فلسطين في ١١٦٥م ثم استقر في فاس ١١٦٥م، وأخيرًا استقر به المُقام في مصر. وهو طبيب وفيلسوف وشارح للتوراة، ورئيس للجماعة اليهودية في الفسطاط، أعماله الرئيسية: «دلالة الحائرين» «شرح المشناه» (السرج)، «شريعة المشناه»، «مقال في البعث». ومعظمها موجه للخاصة دون العامة. وقد تُرجمت أعماله إلى اللاتينية. وقرأها ألبير الكبير، وتوما الأكويني، واسبينوزا، ولَيبنتز، ومندلسون. ومن خلاله امتد الأثر الإسلامي إلى الفلسفة الحديثة.
١٨١  انظر دراستنا: Islam and Judaism, a model from Andalusia Unesco, Paris, 1985, also in: Islam, Religion, Ideology and Development (In print).
١٨٢  E. Gilson: La Philosophie au moyen age, pp. 344–67, Payot, Paris, 1962.
١٨٣  F. C. Copleston: Medieval Philosophy. pp. 60–68, Harper & Row NY, 1961.
١٨٤  فالكندي تُوفي ٨٧٣م، والأشعري ٩٣٦م، والغزالي ١١١١م، وابن باجة ١١٣٨م، وابن طفيل (١١٠٠–١١٨٥م)، وابن رشد (١١٢٦–١١٩٨م).
١٨٥  انظر الفصل الثالث «البنية القبْلية للمعطى الديني» من القسم الثاني من رسالتنا «مناهج التفسير» ص٣٠٩–٣٢١ (بالفرنسية)، وأيضًا «موقفنا من التراث الغربي» في قضايا معاصرة، الجزء الأول، في الفكر الغربي المعاصر ص١٤.
١٨٦  بدأ هذه الحركة الفرنسيُّ ريمون السوفيتاتي (١١٢٦–١١٥١م) أسقف طليطلة. وكان يعيش بين المسلمين. تعلم العربية، لغة الثقافة والعلم، وترجم أرسطو والفارابي وابن سينا والغزالي وابن جبرول. ومن أشهر المترجمين جونديساليفي (جونديسالينوس) الذي ترجم طبيعيات ابن سينا، خاصة «السماء والعالم» وكتاب «النفس» و«الإلهيات» بالتعاون مع يوحنا الإسباني، وسليمان اليهودي. كما ترجم غيرهم المنطق والطبيعيات والإلهيات للغزالي، و«ينبوع الحياة» لابن جبرول. وكان من بين المترجمين ابن داود (أفنداوث)، وجيرار الكريموني (١١٨٧م). ترجم يوحنا الإسباني «التمييز بين النفس والرُّوح» المنسوب إلى قُسطا بن لوقا. وترجم جيرار الكريموني «التحليلات الثانية» مع شروح تامسطيوس و«السماع الطبيعي» و«السماء والعالم» و«الكون والفساد» و«الآثار العلوية» (الكتاب ١–٣). كما ترجم كتاب «العلل» وهو نص أفلاطوني جديد مقتبس من «مبادئ اللاهوت» لأبرقلس. وقد ظنه الناس لأرسطو تحت اسم كتاب «الخير المحض» أو «في عرض الخير المحض». كما ترجم بعض رسائل الكندي مثل: «في العقل»، «الجواهر الخمسة»، وربما «رسالة في العقل» للفارابي. وهناك مترجمون آخرون من إنجلترا مثل ألْفرِد الإنجليزي، دانييل المورلي.
١٨٧  من أعمال جونديساليفي «أقسام الفلسفة» وهي مقدمة تتعلق بالرباعي: الطبيعيات وعلم النفس والإلهيات والسياسة والاقتصاد. وله أيضًا «صيرورة العالم»، وبها أثر ترجمته «ينبوع الحياة» لابن جبرول وإلهيات ابن سينا. وله كذلك «خلود النفس» متأثرًا بابن سينا، والذي أثر بدوره في كتاب وليم الأوفرني في كتابه «الوحدة».
١٨٨  وهو أديلارد الباثي، مترجم وكاتب وفيلسوف إنجليزي. برع أيضًا في نقل العلوم الإسلامية إلى الغرب. كما ألف «الهُوية والاختلاف» وهو نفس العنوان الذي اختاره هَيدجر عنوانًا لأحد مؤلفاته.
١٨٩  وهو أموري البيني (١٢٠٦ / ١٢٠٧م)، أستاذ المنطق واللاهوت في باريس. ويمكن إقامة عدة رسائل جامعية عن حركة الترجمة التي بدأت في أوروبا منذ القرن العاشر وازدهرت في القرن الثاني عشر، ومعرفة أسباب الاختيار العلمي والفلسفي للكتب المترجمة ومقارنتها بحركة الترجمة التي تمت في بداية تراثنا القديم منذ القرن الثاني الهجري، وقياس درجة الصحة والضبط في كل منهما، ومقارنة هاتين الحركتين بحركة ثالثة منذ فجر النهضة العربية الحديثة حتى الآن. هناك إذن ترجمتان من الغرب إلينا: الأولى من اليونان والثانية من الغرب الحديث، وترجمة واحدة منا إلى الغرب في العصر الوسيط المتأخر. وقد بدأت إرهاصات ترجمة ثانية منا إلى الغرب في جيلنا في الأدب ولم تتجاوز بعد إلى العلم والفلسفة؛ وذلك لأن نهضتنا الحاليَّة ما زالت في البداية، نهاية عصر الشروح والملخصات في القرن الرابع عشر وبداية عصرنا الذهبي الثاني في أوائل القرن الخامس عشر.
١٩٠  وأهمها جامعات بولونيا، وباريس، وأكسفورد.
١٩١  دافع يوحنا الجرلندي (١١٩٥–١٢٥٢ / ١٢٥٨ / ١٢٦٧ / ١٢٧٢م) عن الآداب القديمة في جامعة باريس، وهو إنجليزي الأصل عاش في فرنسا، وانتصرت له الكنيسة التي ما زالت تعتمد على الآداب القديمة أكثر من اعتمادها على الفلسفة العقلية الجديدة. له مقالان في الموسيقى. ثم ثار عليه في فرنسا أيضًا هنري الأندليسي باسم النحو والمنطق ضد الآداب القديمة.
١٩٢  تمت إدانة دافيد الدينانتي عام ١٢١٠م بأنه من أتباع ابن سينا يقسم الوجود إلى جواهر مادية وجواهر مفارقة، ويعتبر الله ضمن الجواهر المفارقة وينكر التجسد والتثليث. كما تمت إدانة إتين تمبييه عام ١٢٧٧م بأنه من أتباع ابن رشد.
١٩٣  سيمون التورني (١٢٠٣م)، وليم الأوكزيري (١٢٣١م)، فيليب الجِنوي (١٢٣٦م)، وليم الأوفرني (١١٨٠–١٢٤٩م) وله: «المبدأ الأول»، «في العالم»، «في النفس».
١٩٤  وذلك عند ويتيلو في بولندا، وله «في المقولات»؛ وبارتيليمي البولوني في بولندا وقد تأثر بكتاب المناظر لابن الهيثم في كتابه «في الضوء»؛ وآدم بلفام وجيرار الأوبرفيلي في فرنسا؛ وهنري الجاندي (١٢٩٣م) في بلجيكا مميزًا بين الوجود والماهية فثار ضده جودفروا الفونتيني موحدًا بينهما ومؤكدًا دور العقل في مقابل الإشراق. وأسس بطرس الأوفرني (١٣٠٢م) فلسفة قريبة من التوماوية. وحاول هنري بيت (١٢٤٦–١٣١٧م) الاعتماد على أرسطو كما شرحه المسلمون، الفارابي وابن سينا، والمسيحيون من أمثال يحيى النحوي، كما اعتمد على ابن الهيثم في جعله الإحساس فعل النفس وليس فعل الحواس. وحاول وليم الموربكي (١٢١٥–١٢٨٦م) إيجاد نسق متعادل بين الأوغسطينية والأرسطية وهو ما حققه توما الأكويني بالفعل.
١٩٥  الإسكندر الهالي (١١٧٠–١٢٤٥م) له «اللاهوت الجامع».
١٩٦  ليوحنا اللاروشيللي: «خلاصة الفضيلة»، «خلاصة الفضائل»، «خلاصة قواعد الإيمان»، «خلاصة النفس».
١٩٧  شرح أوستاش الأراشي (١٢٩١م) «الأخلاق إلى نيقوماخوس» و«المأثورات» لبطرس اللومباردي.
١٩٨  شرح جوتييه البورجي (١٣٠٧م) نفس «المأثورات» وألف «المسائل المتنازع عليها».
١٩٩  وذلك عند متى الأجواسبارتي (١٢٤٠–١٣٠٢م)، شرح «المأثورات» وألف «المسائل».
٢٠٠  وذلك عند روجيه مارستون، بطرس أوليو (١٢٤٨ / ١٢٤٩–١٢٩٨م)، بطرس التاربي، الكاردينال فيتال الفوري (١٣٢٧م)، ريتشارد الميدلتوني، وليم الواري (١٣٠٠م) وغيرهم.
٢٠١  روبير جروستست (١١٧٠–١٢٥٣م) فيلسوف بريطاني للعلم، رئيس جامعة أكسفورد. عُيِّن أسقف لنكولن منذ ١٢٣٥م. له عدة أعمال علمية مثل «في الضوء»، «في الحركة الجسمية والضوء». وله شروح مهمة على الطبيعيات والتحليلات الثانية لأرسطو.
٢٠٢  ومن هؤلاء آدم المارشي (١٢٥٨م)، ريتشارد الكورنوايي، توماس يورك (١٢٦٠م)، روبير كيلواردبي (١٢٧٩م)، يوحنا بيكام (١٢٩٢م)، روبير الونكلسي (١٣١٣م)، هنري الويلي (١٣٢٩م)، جيلبير السيجرافي (١٣١٦م)، سيمون الفافرشامي (١٣٠٦م).
٢٠٣  القديس بونافنتورا (١٢٢١–١٢٧٤م) فيلسوف صوفي ومدرس فرانسيسكاني، أحيا الأوغسطينية والأفلاطونية الجديدة، وعارض التيار العلمي، فاضطهد روجر بيكون، ورُفع إلى درجة القسيس في ١٤٨٢م. أعماله عديدة منها: «شروح على المأثورات»، «طريق الرُّوح إلى الله»، المسائل المتنازع عليها. وأُعطي لقب «عالم الكنيسة» عام ١٨٥٧م.
٢٠٤  ألبير الكبير (١١٩٣–١٢٨٠م) فيلسوف ألماني طبيعي ولاهوتي، درس في ألمانيا وباريس، واشتهر بعلمه الموسوعي، لذلك أخذ لقب «المعلم الشامل». كتب شروحًا على كل أعمال أرسطو تقريبًا، وله شروح أخرى مثل: «شروح على المأثورات»، «شروح على كتاب العلل والعقل والمعقول»، بالإضافة إلى عدة مؤلفات مثل: «خلاصة المخلوقات»، «الخلاصة اللاهوتية».
٢٠٥  وهؤلاء مثل هيوج ريبلن، أولريش الستراسبورجي (١٢٧٧م)، ديتريش الفريبرجي (١٣١٠م).
٢٠٦  توما الأكويني (١٢٢٥–١٢٧٤م). تمت إدانة بعض قضاياه ثلاث سنوات بعد وفاته في باريس وأكسفورد، ولكن رد إليه البابا يوحنا الثاني والعشرون اعتباره في ١٣٢٣م. ثم أوصى ليو الثالث عشر بدراستها. وعاد عصر النهضة وأدانه من جديد. ويمكن تقسيم أعماله إلى أربع مجموعات تجمع بين التصنيف الزماني والتصنيف الموضوعي وطبقًا للأساليب الأدبية في العصر الوسيط: الشرح، الرد، الدفاع وهي:
  • (أ)

    شروح على كتب المأثورات الأربعة ١٢٥٤–١٢٥٦م، «الخلاصة في الرد على الأمم» ١٢٦٠م، «الخلاصة اللاهوتية» ١٢٦٥–١٢٧٢م.

  • (ب)

    «في التثليث» ١٢٥٧م، «في الأسماء الإلهية» ١٢٦١م، «كتاب العلل» ١٢٦٨م، شروح على أرسطو «الطبيعيات»، «ما بعد الطبيعة»، «الأخلاق إلى نيقوماخوس»، «السياسة»، «في النفس»، «التحليلات الأولى»، «العبارة»، «في السماء والعالم»، «في الكون والفساد». وله شروح أخرى على دينيز الأريوباجي وعلى بويثيوس وعلى التوراة مثل «سفر أيوب».

  • (جـ)

    المسائل المتنازع عليها حول الحقيقة وحرية الاختيار والنفس: «في الحقيقة» ١٢٥٦–١٢٥٩م، «في القوة» ١٢٥٩–١٢٦٣م، «في الشر» ١٢٦٣–١٢٦٨م، «في المخلوقات الرُّوحية»، «في النفس» ١٢٦٩-١٢٧٠م.

  • (د)

    «في الوجود والماهية» ١٢٥٦م، «في قدم العالم» ١٢٧٠م، «في وحدة العقل» ١٢٧٠م، «في الجواهر المفارقة» ١٢٧٢م.

٢٠٧  أشهر تلاميذ توما الأكويني: دانييل المورلي، ميشيل سكوت (١٢٤٥م)، سارشيل، آدم البوكفيلدي، آدم البوشرمفورتي، لامبير الأوكزيري، بطرس جولياني، نيقولا الباريسي، أدينولف الأناجني (١٢٨٩م)، سيجر البرابنتي (١٢٣٥–١٢٨١ / ١٢٨٤م) الذي أصبح أكبر ممثل للرشدية اللاتينية جاعلًا للعقل سلطانًا على كل شيء قبل ديكارت في العصور الحديثة، بويس الداسي. ثم ظهر مفكرون آخرون أقرب إلى السياسة والمجتمع منهم إلى الطبيعيات والإلهيات مثل بارتيليمي اللوقي (١٣٢٦م)، يحيى الباريسي (١٣٠٦م) والذي جعل مصدر السلطة إرادة الشعب قبل مارتن لوثر، أيلر الرومي، بطرس ديبوا، إنجلبرت.
٢٠٨  وأشهر الفلاسفة والمفكرين الذين يمثلون هذه المرحلة: جيل الليسني (بعد ١٣٠٤م)، توماس السوتوني، هرفي النديللي، جيل الأورليانزي، نيقولا تريفيث (١٣٣٠م)، برنار التاربي (١٢٩٢م)، برنار الأوفرني (١٣٠٠م)، وليم جودان (١٣٣٦م) بطرس البالووي (١٣٤٢م)، يحيى النابلسي (١٣٣٦م)، جيل الرومي (١٣١٦م)، يعقوب كابوتشي.
٢٠٩  روجر بيكون (١٢١٤–١٢٩٢م) كان معاصرًا لتوما الأكويني، واضطهده القديس بونافنتورا. وهو فرانسيسكاني إنجليزي، عمل في أكسفورد وباريس، واشتهر بلقب «العالِم المعجز». وأهم مؤلفاته: «الأعمال الكبرى»، «الأعمال الصغرى»، «الأعمال الثالثة»، «موجز الفلسفة»، «موجز اللاهوت».
٢١٠  الكتابات المنتحلة مثل: كتاب «العلل»، «سر الأسرار».
٢١١  ريمون لول (١٢٣٥–١٣١٥م) مؤلف «الفن العظيم» أو «الفن العام». تعلم العربية للتبشير لدى المسلمين واستعمال هذا المنطق الجديد للرد على أخطائهم وأخطاء أرسطو.
٢١٢  هِلل الفيروني (١٢٢٠–١٢٩٥م) طبيب وفيلسوف إيطالي. عمله الرئيسي «جزاء النفس».
٢١٣  دانز سكوت (١٢٢٦–١٣٠٨م) فيلسوف مدرسي، وُلد في أسكتلندا مما يدل على وحدة القارة الأوروبية بما في ذلك الجزر البريطانية. والمعلومات نادرة عن حياته، وإذا وُجدت فإنها مختلَف عليها. دخل النظام الفرانسيسكاني، وأصبح راهبًا في ١٢٩١م. درس في أكسفورد وباريس، وربما علَّم في كمبردج. أصبح أستاذًا في باريس في ١٣٠٥م. وربما علَّم أيضًا فترة قصيرة في كولونيا، وتُوفي بها صغيرًا. ترك مؤلفاته غير كاملة ومتنوعة، استقى منها تلاميذه أفكاره حتى تم جمع مؤلفاته في عدة مجموعات: «الأعمال الباريسية»، وتحتوي على شروح على «مأثورات» بطرس اللومباردي، «الأعمال الأكسفوردية»، «مقال» في «المبدأ الأول»، «المسائل المتنازل عليها» يناقش فيها أرسطو في الميتافيزيقا، والمقولات، والعبارة، والسفسطة. أما كتابه «نظريات» فإنه مشكوك فيه. وقد لُقب باسم «المعلم الدقيق».
٢١٤  درس هَيدجر في رسالته للدكتوراه «نظرية المعاني عند دانز سكوت».
٢١٥  وهذا أحد أسباب إدانة باريس لابن رشد في ١٢٧٧م.
٢١٦  وذلك مثل أنطونيوس أندرياس (١٣٢٠م)، فرنسوا المايروني (١٣٢٨م)، وليم الألنويكي (١٣٣٢م)، يحيى الباسدي (١٣٤٧م)، لاندوف جارشيولو (١٣٥١م)، هيوج الكاستروي الجديد، فرانسوا المارشوي، يحيى الريبي.
٢١٧  وذلك عند وليم الفوريونتي (١٤٦٤م).
٢١٨  وذلك مثل والتر بورليه (١٣٤٣م)، ويسيلف (١٣٨٤م)، بطرس الكاندي (١٤١٠م)، بطرس دايي (١٣٥٠–١٤٢٠م)، يحيى البالي، والتر شاتون، يحيى رودنجتون، هوجولين مالبرانش.
٢١٩  وذلك مثل: وليم الماري، يعقوب المتزي، هرفيه نيديلليك، بطرس الأوفرني، دُوران السان بورساني، بطرس أوليو (١٣٢١ / ١٣٢٢م)، هنري الهاكسلي (١٢٧٠–١٣١٧م)، جيرار البولوني (١٣١٧م)، كارمي كاتلان جي تيرينا (١٣٤٢م).
٢٢٠  وليم الأوكامي (١٢٨٥–١٣٤٩م) فرانسيسكاني إنجليزي، علَّم في أكسفورد حتى تم استدعاؤه في أفنيون بتهمة الهرطقة في ١٣٢٤م ثم هرب عام ١٣٢٧م إلى كنف الإمبراطور في ميونخ. له عدة شروح على «المأثورات» وعلى «الطبيعيات» لأرسطو، «الخلاصة المنطقية»، «المسائل السبعة»، وعدة كتابات سياسية. كتب أعماله المنطقية الرئيسية بين ١٣٣٢–١٣٤٨م، وأعماله السياسية بين ١٣٣٣–١٣٤٧م.
٢٢١  كان ذلك عند آدام وُدهام (١٣٥٨م).
٢٢٢  وذلك عن روبرت هالكوت (١٣٤٩م).
٢٢٣  وذلك عند جريجوار الريميني (١٣٥٨م).
٢٢٤  وذلك عند يحيى الميركوري الذي تمت إدانته في باريس في ١٣٤٧م.
٢٢٥  وهذا ما فعله نيقولا الأوتركوري، وقد تم حرقه.
٢٢٦  وذلك عند ألبير الساكسي (١٣٩٠م)، نيقولا أوريسم (١٣٨٢م)، مارسيل الإنجيني (١٣٩٦م)، هنري الهاينبوخي (١٣٩٧م)، هنري الأويتي (١٣٩٧م).
٢٢٧  يحيى بيوريدان (١٢٩٥–١٣٥٦م) فيلسوف فرنسي أسمى، درس في باريس وعلَّم بها، ساهم في دراسة الميكانيكا والبصريات، وكتب عددًا من الشروح على أرسطو وبعض الأعمال الأصلية في المنطق مثل «سوفسطائيات»، «نتائج»، بالإضافة إلى «مسائل في الكتاب العاشر لأخلاق أرسطو».
٢٢٨  المعلم إيكهارت (١٢٦٠–١٣٢٧م). ولد في جوتا في هوخنهايم. وربما درس مع ألبير الكبير في كولونيا. أخذ الدكتوراه من باريس في ١٣٠٢م. علَّم اللاهوت في أوقات عديدة ولكنه كان واعظًا. وتقلد عدة مناصب إدارية في النظام الدومينيكاني. اتُّهم بوحدة الوجود وبهرطقات أخرى، وقُدم إلى المحاكمة في ١٣٢٦م فأنكر كل الأخطاء التي نُسبت إليه وتنصل مما يمكن أن يكون قد أتى به. وأهم أعماله: «الأعمال الثلاثية»، «المسائل الباريسية»، «الوعظ الألماني».
٢٢٩  يحيى تاولر (١٣٠٠–١٣٦١م) صوفي وواعظ ألماني. وُلد في ستراسبورج، ودخل نظام الرهبنة الدومينيكاني، وقام بدراساته الفلسفية في كولونيا، وقد يكون وربما تأثر بإيكهارت. وأهم أعماله مجموعة «المواعظ».
٢٣٠  وذلك عند هنري سوزو (١٣٠٠–١٣٦٥م)، يحيى ريزبروك (١٢٩٣–١٣٨١م) يحيى الشونهوفي (١٤٣٢م)، هندريك هِرب (١٤٢٧م).
٢٣١  يحيى الجرشوني (١٣٦٣–١٤٢٩م) وهو لاهوتي أكاديمي فرنسي ومصلح ديني.
٢٣٢  وذلك مثل: ريتشارد فيتزرالف (١٣٦٠م)، يحيى بيكونثورب (كتب حوالَي ١٣٤٥ / ١٣٤٨م) وتأثر بنظرية العقول والعقل الفعال عند ابن رشد، توماس ويتون، يحيى الجاندي (١٣٢٨م)، مارسيل البادووي (عاش حوالَي ١٣٣٦–١٣٤٣م) وقد نادى بفصل الكنيسة عن الدولة مثل وليم الأوكامي، بطرس الأبانووي الذي جمع بين الفلسفة والدين، أنجلو الأريزووي العالم الذي شرح المنطق وقال بوجود حقيقتين مثل ابن رشد.
٢٣٣  الإمبراطور فاناتزيز (١٢٢٥–١٢٥٤م). وكان رؤساء المدرسة هكسابتروجوس ثم بليميدس.
٢٣٤  أهم الفلاسفة والعلماء البيزنطيين هم: بليميدس (١١٩٧–١٢٧٢م) الذي حاول التوفيق بين أفلاطون وأرسطو. جيورجيوس أكروبوليت الذي نظر لحق الملك مثل ثيودوروس الثاني. جورجيوس باشيمير (١٢٤٢–١٣١٠م)، ماكسيم بلانيد (١٢٦٠–١٣١٠م)، وكلاهما رياضيان يعملان بالتنجيم والكيمياء وعلوم السحر والكهانة. جان بريازيموس (تُوفي بين ١٣٣٠–١٣٤١م). ميليتنيوتس الذي اشتغل بعلم الفلك. الفيلسوف يعقوب (١٢٣٠م). الراهب صوفونياس. ميتوشيت (١٢٧٠–١٣٣٢م) صاحب النزعة الإنسانية. جريجوراس (١٢٩٥–١٣٥٩ / ١٣٦٠م).
٢٣٥  ظهر المذهب Hésychsme الذي يعني «اطمئنانًا داخليًّا» عند فريق من الرهبان يجلسون على الأرض في صمت مطأطئي الرءوس وينظرون إلى سُرَرهم في أواسط بطونهم ويتأملون حضور الرُّوح في الجسد وحلول الله في العالم. وقد ظهرت الفرقة فوق قمة جبل أتوس في وسط آسيا الصغرى. وكان من دعاتها: ثيوليبت الفيلادلفي في القرن الثالث عشر، الراهب جريجوار السينائي، الراهب نيسيفوروس، الراهب اليوناني الفِربي بارلعام (١٢٩٠–١٣٤٨م)، الإخوة ديمتريوس وبروخوروس (بين ١٣١٥ و١٣٢٠–١٤٠٠م)، جريجوار بالاماس (١٢٩٦–١٣٥٩/ ١٣٦٠م)، نيقولاس كابازيلاس (١٣٧١م).
٢٣٦  بليثون (١٣٥٢ / ٥٣ / ٥٥ / ٦٠ / ٧٠ / ٨٩–١٤٥٠م / ٥٢ / ٦٤).
٢٣٧  ثيودوروس جازيز (تُوفي بين ١٤٧٥–١٤٧٨م)، بيساريون (١٣٨٩/ ١٣٩٥–١٤٧٢م).
٢٣٨  مرقص الأفيزي (١٣٩١–١٤٤٣م)، ثيوفان الميدي (١٤٨٠م)، سكولاريوس (١٤٦٨م).
٢٣٩  الفلسفة البيزنطية، كأحد نماذج الفلسفة الشرقية وحلقة اتصال بين الشرق والغرب، ما زالت مجهولة لدينا ويمكن أن تكون موضوعًا لعدة رسائل علمية في جامعاتنا.
٢٤٠  ليفي بن جرشون (رالباج) أو الجرشوني، فيلسوف يهودي من إقليم بروفانس الفرنسي، وطبيب وعالم طبيعي وشارح للتوراة. وتوجد فلسفته في شروحه على التوراة وفي تعليقاته على ابن رشد وفي مقاله اللاهوتي. أهم أعماله «حروب الله»، «سفر الفَلك».
٢٤١  هارون إليجا (١٣٠٠–١٣٦٩م) مفسر وقرائي وفيلسوف. كتب «شجرة الحياة» على منوال «شجرة الكون» لابن عربي.
٢٤٢  كرسكاس (حسداي بن إبراهيم) (١٣٤٠–١٤١٠ / ١٤١٢م) موظف في بلاط وزعيم يهودي وشاعر عبراني وفيلسوف ولاهوتي. وُلد في برشلونة ورفض شروح موسى بن ميمون على أرسطو.
٢٤٣  «موقفنا من التراث الغربي» في قضايا معاصرة، الجزء الثاني، في الفكر الغربي المعاصر ص٣٧.
٢٤٤  بترارك (١٣٠٤–١٣٧٤م) الممثل الرئيسي لعصر الإحياء. وله: «حول جهلي وجهل كثيرين آخرين»، «ثناء على الجنون».
٢٤٥  ألبرتينو موساتو (١٣٢٩م) بوكاتشيو (١٣١٣–١٣٧٥م)، كولوشيو سالوتاتي (١٣٣٠–١٤٠٦م).
٢٤٦  وذلك عند فرانشسكو الأرانجي، فرانشسكو لانديني (١٣٢٥–١٣٩٧م)، لويجي مارسيلي (١٣٩٤م) الذي اتجه نحو الإنسان، ليوناردو بروني الأريزووي بدأ بالفن، واتجه بوجيو براشيوليني إلى الأدب، وفرانشسكو رينوتشيني (١٣٥٠–١٤٠٧م) إلى أفلاطون.
٢٤٧  وذلك عند يحيى السانت جيلي (ألف بعد ١٢٥٨م)، جريت جروت (١٣٤٠–١٣٨٤م)، توماس كمبيس (١٣٨٠–١٤٧١م)، بطرس برسوير (١٢٩٠–١٣٦٢م)، بطرس الآيي، نيقولا الكلامنجي (١٤٣٧م)، يحيى المونتريي (١٣٥٤–١٤١٨م)، وليم فيشيه، روبير جاجان (١٥٠١م).
٢٤٨  «جمال الدين الأفغاني» في قضايا معاصرة، الجزء الأول، في فكرنا المعاصر، ص١١٠–١٩١.
٢٤٩  «موقفنا من التراث الغربي» في «قضايا معاصرة»، الجزء الثاني ص١٦، وأيضًا «موقفنا الحضاري»، «كبوة الإصلاح» في «دراسات فلسفية» ص٣٧، ص١٧٧–١٩٠.
٢٥٠  يحيى هوس (١٣٧٠–١٤١٥م) مصلح ديني وسياسي جماهيري حاول أن يجد طريقًا بين ويسليف ولوثر.
٢٥١  توماس كمبن (١٣٧٩–١٤٧١م). أصبح كتابه «تقليد يسوع المسيح» أشهر كتاب في الإصلاح، ونُقل إلى كل اللغات بالرغم من الشك في صحة نسبته إليه. فالعودة إلى تقليد المسيح دون التراث الكنسي هو طريق الإصلاح.
٢٥٢  توماس منزر (١٤٩٠–١٥٢٥م) كان أناببتسيا Anabaptist رافضًا عماد الأطفال وواعظًا، وأحد قادة حروب الفلاحين في ألمانيا عام ١٥٢٥م واستشهد في الحرب.
٢٥٣  مارتن لوثر (١٤٨٣–١٥٤٦م) زعيم الإصلاح ومؤسس البروتستانتية، كان له أبلغ الأثر في الحياة الدينية والسياسية في ألمانيا طوال العصور الحديثة. وقد عاداه كاجيتان (١٤٦٩–١٥٣٤م) لاهوتي إيطالي ومفسر، كتب شرحًا للخلاصة اللاهوتية لتوما الأكويني، وكان ممثل البابا في ألمانيا، فحص عقائد لوثر عام ١٥١٨م وساعد في صياغة عريضة الاتهام.
٢٥٤  زفنجلي (١٤٨١–١٥٣١م) مصلح بروتستانتي سويسري، وصديق أراسموس، واستشهد في انتفاضة سكان زيورخ ضد سلطة البابا.
٢٥٥  جان كالفِن (١٥٠٩–١٥٦٤م) أحد قادة الإصلاح. ولد في فرنسا، واستقر في جنيف عام ١٥٣٦م، وأصبح السلطة الأولى في المدينة عام ١٥٤١م بعد أن أخضع السلطات الدينية إلى الكنيسة. لم يكن متسامحًا مع خصومه فحرق العالم ميشيل سرفيه عام ١٥٥٣م. مؤلَّفه الرئيسي «النظام المسيحي» ١٥٣٦م.
٢٥٦  «الدين والرأسمالية»، حوار مع ماكس فيبر، «قضايا معاصرة» الجزء الثاني، في الفكر الغربي المعاصر ص٢٧٣–٢٩٤.
٢٥٧  السوسينيون أتباع سوزيني لوليوس (١٥٢٥–١٥٦٢م) وفاوستوس (١٥٣٩–١٦٠٤م) من دعاة المذهب الإنساني المسيحي اعتمادًا على كتاب «التربية الدينية الراكوفية» الذي يحتوي على مناهجهم وعقائدهم. حاربتهم الكنيسة البروتستانتية. وكان لهم أبلغ الأثر في الفلسفة الأوروبية في العصور الحديثة حتى بعد حلهم كجماعة دينية.
٢٥٨  يوسف آلبو (١٣٨٠–١٤٤٤م) فيلسوف يهودي ألف كتاب «العقائد.
٢٥٩  إسحاق أبرافانيل (١٤٣٧–١٥٠٨م) مفسر وفيلسوف يهودي وُلد في لشبونة بالبرتغال وهاجر إلى طليطلة بإسبانيا. وبعد نزوح المسلمين إثر سقوط غرناطة استقر في إيطاليا. له عدة أعمال فلسفية منها شرح على بعض أجزاء «دلالة الحائرين» لموسى بن ميمون. تابع موسى بن ميمون وتأثر بكركاس. أما ابنه يهوذا أبرافانيل (١٤٦٠ / ١٤٧٠–١٥٣٠ / ١٥٣٥م) واسمه أيضًا ليون أبريو، فهو طبيب وفيلسوف رياضي وعالم فلك. هرب أيضًا من اضطهاد المسيحيين لليهود والمسلمين إلى إسبانيا ثم إلى إيطاليا. وحاضر في نابولي وروما. له «حوار الحب» ١٥٣٥م.
٢٦٠  أكوستا (١٥٨٥ / ١٥٩٠–١٦٤٠م) ولد في البرتغال. تلقى تعليمًا كاثوليكيًّا، ثم هرب إلى هولندا واستقر بها عام ١٦١٤م. ترك المسيحية، واعتنق اليهودية. طُرد من المَجمع اليهودي مرتين بسبب آرائه، واضطهده الأحبار، وتعقبته السلطات الهولندية، مما أدى به في النهاية إلى الانتحار. وله «الحياة الإنسانية المثالية».
٢٦١  ما زلت أذكر مناقشتي للدكتوراه في السربون في ١٨ يونيو ١٩٦٦م وأنا أصر على أن عصر النهضة يبدأ في القرن السابع عشر ابتداءً من ديكارت «أنا أفكر فأنا إذن موجود»، ودي جاندياك في دهشة. كان عصر النهضة في ذهني كفيلسوف في نهايته، وكان في ذهنه كمؤرخ في بدايته.
٢٦٢  نيقولا الكوزي (١٤٠٠–١٤٦٤م) كاردينال ألماني. عمله الرئيسي «الجهل العالم» ١٤٤٠م، «التوافق الكاثوليكي»، «في الافتراض».
٢٦٣  مارسيليو فيشينو (١٤٣٣–١٤٩٩م) رئيس الأكاديمية الأفلاطونية في فلورنسا. قام بأول ترجمة معترف بها في ١٤٨٤م لمحاورات أفلاطون، كما قام بعدة شروح عليها وعلى تاسوعات أفلوطين، حظيت بقبول كبير وذاع صيتها. ولم يحظَ باهتمام كبير بعد انقضاء عصره بالرغم من أنه من أعمق الأفلاطونيين. وهناك الآن إعادة اهتمام بمؤلفاته وفي مقدمتها «اللاهوت الأفلاطوني لخلود الأرواح» ١٤٨٢م.
٢٦٤  باراسلسوس (١٤٩٣–١٥٤١م)، طبيب وفيلسوف ألماني وُلد في هوخنهايم. وله: «التيه»، «المعجزات الكبرى»، «الأعمال المعجزة»، «في طبيعة الأشياء».
٢٦٥  يعقوب البوهيمي (١٥٧٥–١٦٢٤م) فيلسوف من سيليزيا معروف بلقب الفيلسوف الألماني. مؤلفاته الرئيسية: «الفجر أو الشفق في السر الأعظم» وقد تمت إدانته، «الخروج»، «أربعون سؤالًا في النفس»، «من أجل اختيار الفضل الإلهي». وكانت موضع إعجاب كبير في القرن السابع عشر. وكان له أبلغ الأثر على هامان وهيجل وشلنج في العصور الحديثة.
٢٦٦  «لماذا غاب مبحث الإنسان في تراثنا القديم؟» دراسات إسلامية ص٣٩٣–٤١٦.
٢٦٧  بيكو ديلا ميراندولا (١٤٦٣–١٤٩٤م) فيلسوف إيطالي، وكانت له عَلاقات شخصية وعلمية مع أكاديمية فلورنسا. درس القَبالة، وكانت دراسته رائدة في هذا المجال، وهو العالم المسيحي الأرثوذكسي الاتجاه. عارض الكنيسة في تسعمائة مسألة كما فعل مارتن لوثر في خمس وتسعين مسألة، مما دعا البابا إلى تحريم آرائه. كان أول من كتب «بلاغ في كرامة الإنسان».
٢٦٨  أراسموس (١٤٦٦–١٥٣٦م) لُغوي لاهوتي هولندي، انتظم في سلك الرهبنة الأوغسطينية. درس في باريس وعلَّم بها، كما علَّم في إنجلترا، وهناك نشَر «ثناء على الجنون»، وله أيضًا «الندوة».
٢٦٩  لورنزو فالا (١٤٠٥–١٤٥٧م) إنساني إيطالي دافع عن حرية الاختيار كحق طبيعي للإنسان، وكتب في ذلك «حوار حول الإرادة الحرة».
٢٧٠  سواريز (١٥٤٨–١٦١٧م) فيلسوف إسباني. له «منازعات ميتافيزيقية».
٢٧١  ميكيافيللي (١٤٦٩–١٥٢٧م) مفكر إيطالي اشتهر بكتابه «الأمير» الذي تُرجم أيام محمد علي أثناء بناء الدولة المصرية. وله «خطاب في الكتب العشرة الأولى لتيتوس ليفوس، المبادئ».
٢٧٢  توماس مور (١٤٧٨–١٥٣٥م) إنساني عقلاني من عائلة برجوازية. كان مستشارًا للملك، ثم أُعدم لرفضه الاعتراف به كرئيس للكنيسة. وفي السجن وصف رحلة إلى اليوتوبيا، المكان الذي لا وجود له في «العمل الخِصب والجميل لأفضل دولة للصالح العام وللجزيرة الجديدة التي تسمى يوتوبيا» ويُعرف بصيغة مختصرة «يوتوبيا». وهو أهم كتاب في الفكر الاجتماعي حتى القرن الثامن عشر.
٢٧٣  كامبانيللا (١٥٦٨–١٦٣٩م) فيلسوف إيطالي طوباوي، التحق بالدومينيكان في سن الخامسة عشرة، وشارك تيليزيو في آرائه الطبيعية. قُدِّم إلى محاكم التفتيش بسبب آرائه المتحررة. حاول قيادة ثورة في ١٥٩٩م لتحرير إيطاليا من الحكم الإسباني ولكن تم اكتشاف المؤامرة، وبعد تعذيبه أُودع السجن سبعة وعشرين عامًا، وفيه كتب في ١٦٠٢م «مدينة الشمس» يتصور فيه مجتمعًا طوباويًّا، ونُشر عام ١٦٢٣م. وقد لعب كتابه دورًا هامًّا في تطور الأفكار الاجتماعية التقدمية. وساهم في صياغة الاشتراكيات الطوباوية في العصور الحديثة.
٢٧٤  مونتاني (١٥٥٣–١٥٩٢م) فيلسوف إنساني وكاتب فرنسي. له: «محاولات»، «دفاع عن ريمون سيبون».
٢٧٥  شارون (١٥٤١–١٦٠٣م) فيلسوف فرنسي بدأ كمحامٍ ثم أصبح قسيسًا، وهو مع مونتاني مؤسس مذهب الشك الحديث. له كتاب «في الحكمة» وجد فيه اللاهوتيون ذريعة لاتهامه بالإلحاد.
٢٧٦  «موقفنا من التراث الغربي» في «قضايا معاصرة»، الجزء الثاني: في الفكر الغربي المعاصر ص١٧.
٢٧٧  بومبوناتزي (١٤٦٢–١٥٢٤م) فيلسوف عصر النهضة الإيطالي. وله كتاب «في خلود النفس». وقد حُرق كتابه علنًا.
٢٧٨  تيليزيو (١٥٠٨–١٥٨٨م) فيلسوف طبيعي إيطالي. كتب «في طبيعة الأشياء والمبادئ المتجاورة».
٢٧٩  كوبرنيقس (١٤٧٣–١٥٤٣م) مؤسس علم الفلك الحديث. ولد في بولندا، ودرس في جامعة كراكو الفلسفة اليونانية، وأكمل دراسته للرياضيات والفلك والطب واللاهوت في جامعة بادو التي كانت العلوم الإسلامية تدرس فيها. ثم استقر في فراونبرج في بروسيا. ودُفن في الكاتدرائية مع القسيس والمؤمنين. وله «دورات الأفلاك السماوية».
٢٨٠  جيوردانو برونو (١٥٤٨–١٦٠٠م) ممثل رُوح عصر النهضة. وهو فيلسوف إيطالي، وراهب دومينيكاني. حُرق بسبب آرائه المعارضة لآراء الكنيسة. أشهر أعماله: «في العلة والسبب الواحد»، «في لا نهائية الكون والعالم»، «طرد الحيوان المنتصر»، «عشاء الرماد»، «الغضب البطولي»، «في الموناد». وقد أثرت أعماله في الحركة العلمية والسحرية في القرن السابع عشر، ثم تم نسيانه. وفي القرن التاسع عشر ارتبط اسمه بالحركات المعادية للكهنوت.
٢٨١  كِبلر (١٥٧١–١٦٣٠م) عالم فلك ألماني درس في توبنجن، وعلَّم الرياضيات في جراتز ولينز.
٢٨٢  جاليليو (١٥٦٤–١٦٤٢م) عالم فلك وطبيعة ورياضي إيطالي، مؤسس الميكانيكا الحديثة. دخل معركة في الكنيسة في ١٦٣٣م، واضطرته الكنيسة إلى التراجع، ووُضع تحت الإقامة الجبرية طيلة حياته. وكان له أكبر الأثر في القرن السابع عشر، وهو على مشارفه، في القدرة على تنظير الطبيعة وتحويلها إلى رياضيات شاملة. أهم أعماله: «خطاب إلى الدوقة الكبرى كريستينا» يرد فيه جاليليو على منتقديه في عصره مدافعًا عن نفسه، «المحاول»، «محاورة في نظامي العالم الأساسيين»، «خطاب في العلوم الجديدة».
٢٨٣  «موقفنا من التراث الغربي» في «قضايا معاصرة»، الجزء الثاني، في الفكر الغربي المعاصر ص٣٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥