الفصل الثالث

تكوين الوعي الأوروبي (البداية)

أولًا: العقلانية (القرن السابع عشر)

يبدأ التكوين الجديد للوعي الأوروبي في العصور الحديثة على مدى أربعمائة عام من القرن السابع عشر حتى القرن العشرين بعدة اتجاهات تعبر عن بواعث دفينة خفية بعد بدايته الأولى في الكوجيتو الديكارتي «أنا أفكر فأنا إذن موجود». ينطلق من هذه البؤرة الأولى التي كانت حصيلة الإصلاح الديني وعصر النهضة، تياران متباعدان منفرجان ويزداد التباعد والانفراج بينهما كلما تقدم الوعي الأوروبي في الزمان وتكَوَّن له تاريخ حتى تنشأ محاولات الجمع بينهما في فلسفة واحدة كما حدث ذلك في فلسفة التنوير أول مرة في القرن الثامن عشر ثم في الهيجلية ثاني مرة في القرن التاسع عشر حتى انضما أخيرًا عائدَين إلى بؤرة ثانية في «الأنا موجود» في فينومينولوجيا القرن العشرين.

بدأ الوعي الأوروبي بالكوجيتو، بدأ مثاليًّا يضع الذات قبل الموضوع، والأنا قبل العالم، يستنبط الوجود من ماهية مسبقة وهي الفكر. وإن كان ذلك صحيحًا من حيث النهاية، أي من حيث ما بعد الكوجيتو، من القرن السابع عشر فما بعده، إلا أنه يحتاج إلى تعمق أكثر من حيث البداية، ما قبل الكوجيتو، من القرن السابع عشر فما قبل. لذلك كان السؤال هو: هل الكوجيتو الديكارتي بداية مرحلة أم نهاية مرحلة؟ والواقع أن الكوجيتو هو الاثنان معًا، بداية العصور الحديثة ونهاية العصور الوسطى، يركز كثير من الباحثين على البداية، ويركز القليل منهم على النهاية. ويمكن بمنهج الرجوع إلى الوراء بحثًا عن الجذور تلمُّس بدايات الوعي الأوروبي في مرحلة ما قبل الكوجيتو، الإحياء والإصلاح والنهضة كما يمكن بمنهج التقدم إلى الأمام بيان تطور الوعي الأوروبي من هذه البداية إلى الخطين المتباعدين المنفرجين حتى ينضما معًا من جديد إلى «الأنا موجود» في القرن العشرين.

(١) الكوجيتو الديكارتي

ويَعتبر هُوسِرل الكوجيتو الديكارتي نقطة البداية في الشعور الأوروبي، أي أن ديكارت بهذا المعنى هو المؤسس الأول للفينومينولوجيا، وهو الذي اكتشف عالم الذاتية. ولذلك ربط هُوسِرل نفسه به في كتابه «تأملات ديكارتية». واعتبر ديكارت هو الذي بدأ المشروع وأن هُوسِرل نفسه هو الذي أكمله بالفعل، وأن الشعور الأوروبي قد بدأ مع ديكارت وانتهى عند هُوسِرل. وبالتالي تكون الحضارة الأوروبية قد حققت مشروع حياتها وهو إقامة الفينومينولوجيا التي تُعتبر الصورة النهائية للفلسفة الترنسندنتالية وتحقيق المثالية الألمانية.١

ولكن السؤال هو: هل ديكارت هو مؤسس العقلانية الحديثة وبداية الوعي الأوروبي، وبالتالي يكون أقرب إلى الجديد منه إلى القديم، أم أنه مدرسي من نوع أرقى يعتز بالمنهج أكثر من تمسكه الظاهري بالعقيدة، وبالتالي يكون أقرب إلى القديم منه إلى الجديد؟ هل ديكارت فيلسوف العقل، وبالتالي يكون مؤسس العصور الحديثة، أم فيلسوف الإيمان، وبالتالي يكون استمرارًا لفلسفة العصور الوسطى؟ وإذا كان ديكارت كليهما، له واجهة على العصر الوسيط إذ إنه نهاية مرحلة، وله واجهة على العصور الحديثة إذ إنه بداية مرحلة، فما نسبة الواجهتين فيه؟ وهل ترجح إحدى الواجهتين على الأخرى؟ هل نسبة العقل لديه أكثر من الإيمان أم أن نسبة الإيمان أكثر من العقل؟

وعلى طول حياة ديكارت ومؤلفاته يبدو أنه كان أقرب إلى فلاسفة العصر الوسيط منه إلى فلاسفة العصر الحديث، وأنه يمثل نهاية مرحلة أكثر منه تمثيلًا لبداية مرحلة، وأنه فيلسوف الإيمان أكثر من فيلسوف العقل.٢ ففي «مقال في المنهج» بعد أن عرض ديكارت قواعد المنهج الأربعة قام أيضًا باستثناءات أربعة لا يطبق فيها المنهج ويتم التسليم بها بناء على الأخلاق المؤقتة.٣ فقد استثنى ديكارت من حكم العقل العقائد، والكنيسة، والكتاب المقدس، والعادات والتقاليد، والأخلاق، ونظم الحكم. فقصر تطبيق أحكام العقل على موضوعات الفكر فحسب، الرياضيات والعلوم، دون الواقع الأخلاقي والاجتماعي والسياسي. يؤثر السلامة ويعمل من خلال الوضع القائم وكأن هناك فكرًا للفكر، وثقافة للثقافة. وانتهى إلى القول: «أموت على دين مليكي» «أموت على دين مرضعتي.» ولا يقال إن ديكارت كان ذكيًّا في ذلك؛ لأنه كان يعلم أن التاريخ بعده سيرفض هذه الاستثناءات، وهو ما حدث بالفعل عند اسبينوزا. ولكن حتى على صحة هذا الافتراض فإن هذا الذكاء يدل على أنه آثر السلامة، وترك النضال لغيره. كان صديقًا لرجال الدين في حين أن هؤلاء حاولوا اغتيال اسبينوزا.٤

ويبدأ العقل عند ديكارت بمسلَّمات. صحيح أنها مسلَّمات بديهية رياضية إلا أنها في النهاية مسلَّمات أي إيمان مسبق رياضي. وهو نفس الموقف التقليدي مع تغيير المضمون من العقائد الإيمانية القديمة إلى البديهيات الرياضية. ويقوم المنهج الاستنباطي على المسلَّمات السابقة وعلى أخذ حقيقة من أخرى سابقة عليها، وهو ما كان متبعًا في العقلية الدينية القديمة التي ترى الوحي حاويًا كل الحقائق، وأن مهمة التغيير هي إخراج حقائق هذا العالم من حقائق أو نصوص مصدق بها سلفًا. بل إن المنهج الاستنباطي كله هو تطوير حديث وقراءة علمانية عصرية لاستخراج الحقائق الجديدة من مصادر قديمة. لذلك استعمل المثاليون مناهج الاستنباط، وآثر الواقعيون مناهج الاستقراء التي تبدأ من الطبيعة الخارجية وليس من المصادر القبْلية. كما أن هناك أفكارًا فطرية مغروزة مثل: وجود النفس، ووجود الله، وخلق العالم، وهي مثل العقل، الثلاث عند كانط خارج نطاق الشك، يقين مطلق فطري مثل يقين الرياضيات والأفكار الواضحة المتميزة. ومن ثَم جعل ديكارت عقائد الدين الرئيسية مسلَّمات إيمانية بصيغة الرياضيات الحديثة وبمقاييس المسلَّمات والبديهيات الرياضية في النفس. أما كتاب «التأملات في الفلسفة الأولى» فقد أهداه ديكارت إلى علماء أصول الدين مبينًا أن هدفه هو نصرة العقائد بطريقة أفضل، وتأييد الدين بمنهج عقلاني أكثر إقناعًا. ليس الهدف البحث عن حقائق مجهولة بل البرهنة على الحقائق المعطاة سلفًا.

والشك الديكارتي كما عُرض في التأمل الأول شك منهجي وليس شكًّا مذهبيًّا. يعلم ديكارت اليقين مسبقًا ولكنه يريد فقط تأسيسه كعلم محكم. الشك لديه مجرد آلة أو وسيلة، منهجي مؤقت سرعان ما ينتهي إلى يقين بعمليات عقلية صرفة دون التحقق من موضوعاتها في الخارج ودون صراع مع قوًى اجتماعية وسياسية ومؤسسات دينية وكهنوتية قائمة. الشك عند ديكارت يقوم على يقين مسبق يشك، «أنا لا أشك في أني أشك». فالشك لا يكون بداية على الإطلاق وإلا انتهى إلى الشك أيضًا كنهاية. ونحن في دراساتنا عن ديكارت نهاجم الشك الجذري، ونروج للشك المنهجي، ونتهم الأول بأنه شك هدام، وندافع عن الثاني بأنه شك بنَّاء، كما يفعل اللاهوتيون الغربيون. مع أن الشك الهدام عند مونتاني وشارون قد يكون أنفع لنا من الشك عند ديكارت حتى يتم القضاء على الموروث القديم. قد يكون الشك المطلق أفيد لنا في مرحلتنا العقائدية الراهنة. والشك في العقائد الموروثة خير من استعمال العقل لتبريرها.٥

وإن استنباط الوجود من الفكر في الكوجيتو «أنا أفكر فأنا إذن موجود» في التأمل الثاني لهو موقف ديني تقليدي معروف في الفلسفة المدرسية نظرًا للإيمان المسبق بوجود الله، وهو الفكر، ثم صدور العالم عنه فيضًا أو خلقًا. بل إن الوجود قد تم استنباطه من الفكر مرتين، مرة في إثبات وجود الأنا «أنا أفكر فأنا إذن موجود»، ومرة أخرى في إثبات وجود الله «عندي فكرة موجود كامل، والوجود أحد هذه الكمالات، إذن الله موجود»، وهو الدليل الأُنطولوجي الشهير الذي صاغه القديس أنسيلم في القرن الحادي عشر.

صحيح أن الكوجيتو هو أعظم مكسب للفلسفة الحديثة، إثبات وجود الأنا من حيث هو فكر. ولذلك نتائج حاسمة في نهضات الشعوب يجعل الفكر مرادفًا للوجود. ولكن الذي يعنينا هو مضمون الفكر وليس صورته. لقد حاول هُوسِرل بعد ذلك الكشف عن مضمون الفكر الذي نسيه ديكارت فوجد العالم كتجرِبة حية في الشعور. عرَف ديكارت الكوجيتو، صورة الشعور، ولكنه لم يعرف مضمون الشعور. ولذلك ظلت الذاتية لديه فارغة من أي مضمون حتى انتهت إلى الصورية المحضة عند كانط الذي أصبحت المعرفة لديه مجرد قوالب فارغة. والواقع أن مضمون الفكر عند ديكارت هو الكوجيتو الثاني، أي إثبات وجود الله من الفكر. فأول ما ظهر من الكوجيتو الأول بعد إثباته «أنا أفكر فأنا إذن موجود» ظهرت فكرة الموجود الكامل مما يوحي بأن إثبات وجود الأنا كان مجرد مقدمة لإثبات وجود الله. وظهرت الذات كمقدمة لوجود الله، وظهر الله على أنه مضمون الذات وجوهرها. وبذلك يضع ديكارت الإنسان في عَلاقة مع الله وليس مع العالم. إن انتقال ديكارت من الإنسان إلى الله لهو عَود إلى الأوغسطينية، ونزوله من الله إلى العالم هو عود إلى الدليل الأُنطولوجي عند أنسيلم، جدل صاعد ثم جدل نازل في إطارٍ من الفكر الديني القديم، وهو ما يكشف عنه ديكارت في التأمل الثالث. أما نظرية الصواب والخطأ فإنها تقوم على أن الإرادة أوسع نطاقًا من الذهن، وبالتالي فإن الذهن لا يستطيع أن يحتوي كل موضوعات الإرادة. وإذا كانت الإرادة تعني هنا مجموعة الرغبات والميول والغرائز والشهوات فإنها إحدى القراءات الحديثة للخطيئة الأولى التي تفرض على الإنسان سلوكها. ولكن في العقيدة المسيحية يأتي السيد المسيح كمخلِّص ومنقذ للبشر من آثار الخطيئة الأولى الموروثة. وعند ديكارت لا يوجد بديل فكري حديث عن المخلِّص القديم. والعقل قاصر عن أن يحتوي كل مجالات الإرادة، فهو بهذا المعنى إرادي أكثر منه عقلانيًّا. العقل للعلم الرياضي والطبيعي أما الحياة فإنها تظل خاضعة لأهواء الإرادة، (التأمل الرابع).

وتبنَّى ديكارت النظرية التقليدية التي تقوم على التمييز بين النفس والبدن، ثم خلود النفس وفناء البدن (التأمل السادس). هذه الثنائية بين النفس والبدن هي التي ظهرت أيضًا في «مبادئ الفلسفة» والتي ترسخت في «مقال في الانفعالات» و«مقال في الإنسان» في صورة رُوح متطهرة مفارقة من ناحية وبدن مادي طبيعي من ناحية أخرى. النفس رُوح مفكر، والبدن آلة صماء. أما الانفعالات وتصنيفها فإنها أقرب إلى البدن منها إلى النفس، ويفسرها على أساس أنها مجموعة من الوظائف العضوية عن طريق الأبخرة اللطيفة التي تتصاعد إلى الدماغ. كما أن الإنسان بدن، موضوع علم التشريح منذ عصر النهضة واكتشاف الدورة الدموية. وكان ذلك امتدادًا لعلوم الطب، والتشريع والانفعالات النفسية من خلال علم النفس العضوي من تراثنا الفلسفي القديم. لذلك وضع ديكارت أساس ثنائية العصر الحديث بين النفس والبدن، الصورة والمادة، الجوهر والعرض، وطبع الفلسفة الحديثة كلها بهذا الطابع الثنائي الموروث عن الفكر اليوناني القديم، هذا الفكر المثالي الذي يلائم الفكر الديني التقليدي، والعواطف المتطهرة، والتصورات الوجدانية للعالم التي يقوم عليها الشعور الديني التقليدي، والعواطف المتطهرة، والتصورات الوجدانية للعالم التي يقوم عليها الشعور الديني الوسيط والفلسفة الحديثة. وهي الثنائية التي قسمت الوعي الأوروبي إلى تيارين متباعدين متضادين: الأول صاعد من الكوجيتو إلى أعلى، وله أسماء عديدة: المثالية، الذاتية، الرومانسية، العقلانية، الصورية … إلخ. والثاني نازل من الكوجيتو إلى أسفل، وله أيضًا أسماء عديدة: الواقعية، الموضوعية، المادية، الحسية، التجريبية … إلخ. الأول يمثله: لَيبنتز، مالبرانش، اسبينوزا، بسكال، آرنو. والثاني يمثله: بيكون، هوبز، لوك، بويل، نيوتن، في القرن السابع عشر. هذه الثنائية هي التي جعلت الوعي الأوروبي في بدايته أشبه بفم تمساح مفتوح، فك إلى أعلى وهو العقلانية، وفك إلى أسفل وهو التجريبية. والعالم المادي عند ديكارت حركة وامتداد، مفهومان صوريان رياضيان يقضيان على مادية العالم ومعرفته التجريبية (التأمل الخامس). وبالتالي قضى ديكارت على موضوعية الأشياء، وكأن العالم ليس له قوام بذاته، مجرد مفاهيم قبل الوجود، وتصورات بعد العدم، وهو أقرب إلى التصور الديني للعالم الذي كان علمًا إلهيًّا قبل الخلق، ويُعدم بعد البعث والنشور. العالم مجرد حركة وامتداد، «أعطني الحركة والامتداد أعطك العالم»، وليس هو العالم الذي يعيش فيه الإنسان، يعاني ويقاوم، يغيِّر نُظمه، ويعترض على حكمه، عالَم رياضي صوري وليس عالَمًا للحياة.٦ وحتى على فرض أن الكوجيتو استطاع تحويل العالم إلى مفاهيم رياضية واضحة ومتميزة، فإنه لا يوجد أي ضمان لليقين نظرًا لاحتمال وجود «شيطان ماكر» أو «الخبيث العبقري» الذي يوهم بصدق المفاهيم الرياضية وهي ليست كذلك. لذلك يجعل ديكارت الله هو الضامن لليقين في نظرية «الصدق الإلهي». الله هو الضامن للصدق الرياضي ولكل يقين علمي. ولذلك ينقض هُوسِرل الكوجيتو الديكارتي وغياب البعد الترنسندنتالي فيه، إذ إنه لا يعدو مجرد مسلَّمة يقينية يستنبط منها العالم، أي إنه ظل على مستوى علم النفس، وبالتالي فهو لا يخلو من نسبية. لذلك لم يكن في إمكان ديكارت القضاء على الشك قضاء تامًّا، سواء فيما يتعلق بوجود العالم أو بوجود الموضوعية التي جعلها مرهونة بالصدق الإلهي. لذلك جاءت الفينومينولوجيا لتأكيد الطابع الشمولي للأنا ولبيان أن الموضوع لا شأن له بالموضوع الواقعي ولإثبات القصد المتبادل كبناء للشعور. ينقص الكوجيتو الديكارتي الآخر المقابل للشعور، وتغيب الخبرة المشتركة فيه، وبالتالي يستحيل إقامة علم اجتماع فينومينولوجي. اقتصر ديكارت على تصور الله كآخر مطلق وكضامن لليقين.٧ يبدو ديكارت في الظاهر أنه ورث التصور الأنثروبولوجي للعالم، وهو من مكتسبات عصر النهضة، ولكنه في الحقيقة حوَّله باطنًا إلى التصور الإلهي للعالم الموروث من العصر الوسيط لما كان الله حالًّا في النفس كفكرة الكمال، وبالتالي يعود ديكارت إلى الأوغسطينية، الله كمعلم داخلي، بعيدًا حتى عن مكتسبات العقلانية في الفلسفة المدرسية المتأخرة عند توما الأكويني في القرن الثالث عشر والعقلانية التجريبية عند دانز سكوت ووليم الأوكامي وروجر بيكون في القرن الرابع عشر. وإذا كان الله هو الضامن للحقائق الرياضية والطبيعية فإن النقل أساس العقل، ولا يستطيع العقل أن يستقل بنفسه دون النقل، ويأخذ موقفًا تقليديًّا كما هو الحال عند الأشاعرة. ويكون السؤال: هل كانت العقلانية النسبية عند ديكارت مجرد استمرار للفلسفة المدرسية في العصر الوسيط المتأخر مع درجة أعلى من الاستنارة، وبالتالي يكون ديكارت فيلسوف الإيمان العاقل، أم أنها كانت مقصودة مع سبق الإصرار والترصد، وكان ديكارت على وعي بها حتى ينجح في مهمته، خاصة وقد سُجن جاليليو وحُرق جيوردانو برونو في حياته، وعي المراحل التاريخية، وقال الأشياء إلى المنتصف، وضع قنابل زمنية كي تنفجر فيما بعد في جيل لاحق، وكما انفجرت بالفعل في اسبينوزا؟ المعادون لديكارت يأخذون الرأي الأول، والمعجبون بديكارت يتبنون الرأي الثاني.
ولم يبدع صغار الديكارتيين الكثير، إنما حاول معظمهم إحكام نظرية ديكارت في النفس والبدن. جمع مِرسِن الاعتراضات على التأملات.٨ وتساءل جاسندي عن كيفية معرفة الأفكار الواضحة والمتميزة،٩ فأنكر مثل ديكارت إمكانية الوصول إلى المعرفة العلمية عن طريق الحواس والتجرِبة. ثم غير رأيه بعد دراسة أبيقور. وأسس نظرية ذرية للعالم قائمة على نموذج أبيقور، واستثنى منها الرُّوح. ولديه تظهر ثنائية ديكارت بين الأبيقورية والمسيحية، النظرية الذرية المادية باستثناء الرُّوح، المادية والعقلانية. وهي أولى محاولات الجمع بين الدافعَين الرئيسيَّين في الوعي الأوروبي، الواقع والمثال. واختلف جولينكس مع ديكارت في صلة النفس بالبدن، وأقام نظريته الخاصة في «المناسبة»، ومؤداها أن الله يغير البدن بمناسبة النفس ردًّا على ثنائية ديكارت. وبالتالي يكون أول من اخترع اللفظ قبل مالبرانش الذي عُرف به فيما بعد.١٠

(٢) اليمين واليسار الديكارتي

أما كبار الديكارتيين: مالبرانش، لَيبنتز، اسبينوزا، فقد انقسموا إلى يمين ويسار. اليمين يؤول المذهب ويقرؤه ابتداءً من جانبه المحافظ. واليسار يؤوله ويقرؤه ابتداءً من الجانب التحرري. ليس اليمين واليسار لفظين سياسيين بل يعبران فقط عن رُوح الفلسفة وثورتها بين المحافظة والتقدم، بين الماضي والمستقبل. فبالنسبة مثلًا لنظرية المعرفة، اليمين الديكارتي هو الذي يغلِّب الإيمان على العقل والعلم، ويشكك في صحة المعرفة الحسية، ويقلل من شأن المعرفة التجريبية، ويجعل اليقين خارج العلم. واليسار على العكس من ذلك، يعطي الأولوية للعقل على النقل، وللعلم على الإيمان، ويوقن بالمعارف الحسية والتجريبية. فالعقل والتجرِبة مصدران للمعرفة الإنسانية. وفي نظرية الوجود، اليمين هو الذي يجعل الله بؤرة الكون وأساس الوجود، واليسار هو الذي يجعل الإنسان مركز العالم تطويرًا لكوجيتو. وفي نظرية الأخلاق، اليمين هو الذي يقلل من شأن حرية الإنسان ويجعله في فعله معتمدًا على غيره، واليسار هو الذي يثبت حرية الإنسان وإرادته ويجعله في فعله معتمدًا على عقله للتمييز بين الحسن والقبيح، وعلى إرادته في الاختيار الحر بينهما. وفي المجتمع والتاريخ، اليمين هو الذي يجعل الإنسان قائمًا بمفرده دون مجتمع ومنعزلًا عنه، وما زال الآخر عنده هو الآخر المطلق، واليسار هو الذي يجعل الإنسان فردًا في مجتمع، والإنسان في التاريخ يحركه ويتحرك التاريخ فيه. اليمين هو الذي يُبقي على الوضع القائم ولا يغيره، وينفي وجود الشر، ويرى أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، واليسار هو الذي يبغي تغيير الأمر الواقع، ويثبت وجود الآلام والموت والفقر، وأنه يمكن تغيير العالم إلى ما هو أفضل.١١ فبهذا المعنى تكون المعتزِلة يسارًا والأشاعرة يمينًا في تراثنا القديم. وبهذا المعنى أيضًا انقسم كبار الديكارتيين إلى يمين ويسار؛ اليمين مالبرانش ولَيبنتز، واليسار اسبينوزا.
سار مالبرانش في الطريق التبريري،١٢ وأول ديكارت تأويلًا دينيًّا إلهيًّا صرفًا، فالحقيقة عنده نظرية في رؤية الله بالذهن؛ إذ لا يستطيع الإنسان أن يبحث عن الحقيقة إلا إذا وجد الله في بؤرة شعوره، ينير له مجال الرؤية كمصباح يلقي الضوء من الداخل إلى الخارج. البحث عن الحقيقة هو بحث عن الله، فالله لا يخلق الأشياء فحسب ولكنه يحتويها جميعًا، والمعرفة الإنسانية لا تأتي من الحواس بل من الله. الفعل الإنساني مناسبة لتدخل الإرادة الإلهية، لا يستطيع الإنسان أن يأتي بفعل حر إلا أن تكون إرادته مناسبة لتدخل الإرادة الإلهية. لذلك عُرفت نظريته باسم «المناسبة» وهي تعادل «الكسب» الأشعري. وقد أراد بهذه النظرية تجاوز ثنائية ديكارت بين النفس والبدن. وحين تصطدم الأجسام بعضها ببعض لا ينتقل أحدها إلى الآخر لأن أفعال الطبيعة لا قوام لها بذاتها. لا يحدث في الطبيعة تماسٌّ ولا تجاوز ولا اعتماد ولا أكوان ولا توليد كما تقول الأشاعرة.
كما طور لَيبنتز فلسفة ديكارت نحو المنطق والرياضيات والطبيعيات؛١٣ فهو الذي اخترع حساب التفاضل والتكامل في صورته الحديثة بعد «الجبر والمقابلة» للخُوارِزمي. كما ظهرت لديه إرهاصات قانون حفظ الطاقة. وحاول التوفيق بين الميكانيكا المادية عند ديكارت وهوبز والجوهر الخلاق التقليدي الأرسطي كصورة. نقد تصور العقل عند لوك، العقل كصفحة بيضاء ينقش فيها الحس ما يشاء من مدركات حسية من أجل الحفاظ على العقل كملكة فكرية مستقلة عن المحسوسات، وكأنه ريمون لول يُبعث من جديد من العصر الوسيط. وبالرغم من وجود بعض الجوانب التقدمية في مذهبه، مثل المزيد من العقلانية في الدين في «المونادولوجيا» و«العدل الإلهي»، وبعض الاكتشافات الرياضية مثل حساب الاحتمالات، والتفاؤل التام مما يعطي دافعًا على الفعل بعيدًا عن رُوح التشاؤم وما قد ينشأ عنه من خمول وموت في الرُّوح، فقد ظهرت لديه بعض الجوانب المحافظة في الإلهيات. فقد حوَّل لَيبنتز العالم كله إلى ذرات رُوحية مسبقة هي «المونادات» فتحول العالم المادي إلى عالم رُوحي. وقدم طبيعيات هي في جوهرها إلهيات مقلوبة، وكأننا نعيش في عالم من الأرواح أو الملائكة. ويحكم هذا العالم «الانسجام المسبق» الذي يمحو التناقض في العالم فيختفي الصراع الاجتماعي، وكأن العالم سيمفونية كبيرة لا نشاز فيها. لذلك اختفى الشر والموت والقبح والألم في العالم. وأصبح هذا العالم هو «أفضل العوالم الممكنة» كما هو الحال في نظرية الصلاح والأصلح عند المعتزلة، وتبرئة الله عن فعل الشر، وتبرير الشر في العالم واعتباره خيرًا. قد يكون الشر خيرًا وقد يكون الخير شرًّا طبقًا لوجهة النظر وعدم القدرة على الحكم على الوقائع والأفعال على مدًى أطول.١٤ تنتهي كل الصراعات والتناقضات والخلافات إذا عرَفنا كيف تنتهي جميعًا في قمة الهرم حيث تتلاقى جميع السفوح من أعلى وفي الذروة. فالحل في القمة.١٥ والفيلسوف هو القادر على الوصول إلى هذه الرابطة الجوهرية. تلك العروة الوثقى التي لا انفصام لها، والتي يلتقي فيها الجميع وتُحل فيها جميع المتناقضات.١٦ هذه الحقائق الأبدية قائمة بذاتها، لا تعتمد على إرادة إلهية مشخِّصة؛ لأنها تعبر عن طبيعة العقل وجزء من العلم الإلهي حاول لَيبنتز الوصول إليه في علم الرياضيات الشاملة.١٧ وقد طبق لَيبنتز نظريته هذه في السياسة، وأعد مشروعًا لغزو مصر باعتبارها الرابطة الجوهرية بين الشرق والغرب، وأن من يستولي على مصر يستولي على العالم كله. فمصر هي قمة الهرم، والعالم كله ساقاه وقاعدته. قدَّمه إلى لويس الرابع عشر من أجل توجيه حملة على مصر. وهو المشروع الذي وجده نابليون بعد قيام الثورة الفرنسية وقام بتنفيذه في حملته على مصر ١٧٩٨–١٨٠١م. وقد ارتبط اسم لَيبنتز بصمويل كلارك في رسائلهما المتبادلة.١٨ حاول كلارك البرهنة على وجود الله بمنهج رياضي ومعرفة المبادئ الأخلاقية بالعقل وحده لأنها يقينية مثل الرياضيات. ودافع عن تصور نيوتن للعالم والزمان والمكان باعتبارهما كليات مطلقة وليس مجرد عَلاقات بين الموضوعات والحوادث. ولكنه اختلف مع المفكرين الأحرار في عصره مثل هوبز واسبينوزا. فالمثالي في الفكر والطبيعة قد يتحول إلى محافظ رجعي في الأخلاق والسياسة، وكأن التطهر الفكري الذي يقوم على التقوى الباطنية يؤدي بالضرورة إلى الانعزال عن العالم ورفض إحداث أي تغيير فيه، وهذا على الضد مما سيقوله ماركوز في هذا القرن في «العقل والثورة» في تفسيره لنشأة النظرية الاجتماعية عند هيجل.
وعلى الطرف الآخر من مالبرانش ولَيبنتز يوجد اسبينوزا.١٩ طبق المنهج الهندسي في الفلسفة، وأبرز ذلك في عناوين مؤلفاته مثل «الأخلاق، والبرهنة عليها طبقًا للنسق الهندسي»، «مبادئ فلسفة ديكارت، معروضة طبقًا للنسق الهندسي». وهو المنهج الاستنباطي الذي يبدأ بمسلَّمات رياضية يتم منها استنباط الحقائق طبقًا لاتساق النتائج مع المقدمات. وهو المنهج الذي أخذه من ديكارت بالرغم من نقده لفلسفته وتطبيقات منهجه. ومؤداه أن التفسير في ماهيته استنباطي طبقًا لنموذج اليقين في القرن السابع عشر (ديكارت، جاليليو)، لا فرق في ذلك بين الأجسام الطبيعية، ووضع القوانين العامة في لغة كمية، وخضوع الأجسام الجزئية لهذه القوانين العامة، وبين الحياة الإنسانية ومعارفها. وتخضع المعرفة الاستنباطية لضرورة منطقية، وتبدأ بمصادرات عامة ومسلَّمات. وهي ليست افتراضات بل حقائق لا يمكن إنكارها رياضيًّا. ومهمة الفيلسوف استنباط النتائج من هذه المصادرات في الميدان الذي يعمل فيه، الطبيعة أو الأخلاق أو السياسة. ومنهج إقليدس هو أكمل الأنساق الاستنباطية. واسبينوزا، مثل ديكارت وبيكون، يرى أن وظيفة المعرفة هي السيطرة على الطبيعة وتحقيق الكمال الإنساني. أراد تجاوز الثنائية الديكارتية فقال إن الطبيعة قائمة بذاتها، ولا يمكن التمييز بين الجوهر، أي الوجود اللامشروط، وعالم الموجودات الفردية، أي الأحوال المادية والفكرية. فلا فرق بين الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة، بين الواحد والكثير. الله هو الكائن أو الموجود والضروري. وهو غير الإله المشخِّص الخالق المنفصل عن العالم. هو الجوهر اللانهائي، له صفات وأحوال، وكل الأشياء فيه، مما جعله يظهر في تاريخ الفلسفة على أنه مؤسس «وحدة الوجود» في العصور الحديثة أو كأنه أموري البيني يُبعث من جديد من العصر الوسيط. الصفات هي قوانين الطبيعة، والأحوال المتناهية هي الأشياء الخاصة والعقول الفردية. العقول والأبدان جواهر عقلية وطبيعية. وبالتالي تخطئ النظرية الذرية اليونانية عندما تتصور وجود جواهر عديدة. والأحوال أفكار. والمادة امتداد مجرد مثل الفكر أي موضوع التفكير. فالجوهر له حالتان الفكر والامتداد وهما حالتان ميتافيزيقيتان. وكل شيء محدد بالطبيعة الإلهية، أي إن كل شيء محدد بقانون ضروري وشامل. وكل فعل ضروري في الطبيعة. الإنسان حر ذاتيًّا، ومجبر ذاتيًّا. والله بهذا المعنى حر أيضًا فالله والإنسان حران ذاتيان. ولا فرق بين الحرية الذاتية والجبر الذاتي كما سيظهر ذلك عند برجسون فيما بعد، نظرية في الحرية في إطار الحتمية. وشرط ذلك في الإنسان السيطرة على الانفعالات. هناك قانون عام للطبيعة والإنسان جزء منها، والعلم الرياضي يشمل الطبيعة والإنسان معًا.
وإذا كان الغرب لا يذكر من اسبينوزا إلا ميتافيزيقاه، وهي نظرية الجوهر والصفات والأحوال، والمكتوبة بلغة مجردة صعبة لا فرق فيها بين الطبيعيات والإلهيات والأخلاق، وهي تعادل نظرية الذات والصفات والأفعال في تراثنا القديم في علم أصول الدين، ولا يكاد يذكر مضمون «رسالة في اللاهوت والسياسة» ذات الطابع العملي التطبيقي نظرًا لقسوتها على مصادر الوعي الأوروبي، أعني معتقدات الإيمان، فإن ما يهمنا نحن هو العكس، ليس الفلسفة النظرية التي نعلمها جيدًا من علوم الحكمة ومن الاعتزال في تراثنا القديم، بل الجانب العملي التطبيقي للمنهج الرياضي ولعقلانية ديكارت واسبينوزا وتطبيقها في الاستثناءات التي تركها ديكارت خارج المنهج لصالح «الأخلاق المؤقتة».٢٠ وللرسالة هدفان: الأول إثبات تواطؤ السلطتين الدينية والسياسية على مر العصور واستعمال كل منهما للآخر، والثاني إثبات أن حرية الفكر ليست خطرًا على التقوى ولا على سلامة الدولة، بل إن القضاء على حرية الفكر فيه خطر على التقوى وتهديد لسلامة الدولة، وعلى ما يبدو من العنوان الفرعي للرسالة. والرسالة قسمان: الأول في الدين (من الفصل الأول حتى الفصل الخامس عشر) والثاني في السياسة (من الفصل السادس عشر حتى الفصل العشرين). فالدين مرتبط بالخرافة والوهم والخوف والرجاء وباقي الانفعالات الإنسانية. فإذا ما استطاع الإنسان السيطرة على الانفعالات وإعمال العقل فإن الدين يتحول إلى موضوع طبيعي، ويتحول إلى علم محكم كما فعل اسبينوزا ذلك في كتاب «الأخلاق»: والنبوة رؤية، تعبر عن نفسها بالخيال. لغتها متغيرة طبقًا لثقافة النبي وظروف عصره. يقينها يقوم على الخيال والمعجزات والميل الطبيعي نحو العدل والخير. والميثاق ليس خاصًّا بشعب دون شعب بل هو عام للبشرية جميعًا، وليس أحادي الطرف، يعطي فيه الله النعم ولا يعطي اليهود في مقابله شيئًا، لا طاعةً ولا إخلاصًا ولا شكرًا، بل ميثاق متبادل بين الله والإنسان، يهب الله التوفيق والسداد والهداية في مقابل طاعة الإنسان وإخلاصه وشكره. وليس ماديًّا يعطي نعمًا مادية: الأرض، والمدينة، والمعبد، والهيكل، بل ميثاق رُوحي خالص من التوفيق والسداد وحسن العاقبة. والقانون الإلهي ليس قانونًا مكتوبًا بل هو قانون مطبوع في النفس، فطري يمكن إدراكه بالنور الفطري، قانون شامل، لا يقتضي التصديق بالروايات، ولا يتطلب إقامة الشعائر والطقوس، ويقوم على معرفة الله وحبه برُوح صافية، والمعجزة ليست خرقًا للقوانين الطبيعية بل هي حادثة طبيعية تحدث وفقًا لقانون طبيعي نجهله حتى الآن. وبتقدم العلم يمكن فهم المعجزات والقوانين الطبيعية التي تحدث المعجزات طبقًا لها. ومنهج التفسير هو المنهج التاريخي الذي يضع النصوص في ظروف تدوينها لغةً وتصورات وأهدافًا. والزمن التاريخي للكتب المقدسة يثبت أنها محرفة مبدلة. فموسى ليس مؤلف الأسفار الخمسة المنسوبة إليه نظرًا لتناقض الأحداث والوقائع مع مضمون الروايات، كذلك لم يكتب باقي الأنبياء الأسفار المنسوبة إليهم مثل أسفار يشوع والقضاة وراعوث وصمويل والملوك. والنبي وحده هو الذي يتلقى الوحي أما الحواري فإن كلامه من تفسيره وفهمه الخاص. والوحي هو الوحي المطبوع في النفس الذي يمكن فهمه بالنور الفطري وليس الوحي المكتوب المحرف والمبدل بلغات متغيرة معانيها وبصور وتخيلات كتَّاب الوحي وبفهم البشر كجزء من الآداب الشعبية. والوحي لا يعطي حقائق نظرية بل هي توجيهات عملية، لا يعطي معرفة بل يساعد على تحقيق السعادة. ومع ذلك يستطيع العقل أن يصل إلى مبادئ الدين الشامل، وجود الله ووحدانيته وقدرته وطاعته وثوابه. وفي الجانب السياسي، حق المواطن حرية الفكر، وحق السلطة الطاعة لها. ولكن السلطة لا تتدخل في المناقشات الفكرية لتنصر فريقًا على فريق. وقد حدث ذلك في تاريخ العبرانيين عندما توحدت السلطتان الدينية والسياسية في الدولة الثيوقراطية فانهارت بسبب نشأة طبقة الكهنة وفقهاء السلطان وتسلُّط كليهما على الشعب الذي ينعزل ولا يشعر بالمواطنة فلا يدافع عن البلاد في حالة الغزو الأجنبي. فالدين له ميدانه، والدولة لها ميدانها. وبالتالي يضع اسبينوزا مبدأ العلمانية وهو فصل الدين عن الدولة، ثم يعلن اسبينوزا عن شعاره الأخير «مواطن حر في دولة حرة». ويضع دستور الحرية الذي يكفل للناس حرية التعبير لأنها لا تهدد السلطة ولا تمثل أي خطر على سلامة الدولة ولا تهدد الإيمان بالأديان. ومع ذلك فقد فات اسبينوزا التوحيد بين الفلسفة واللاهوت دون الفصل بينهما، ويجعل مهمة الأولى المعرفة والثانية الطاعة. فالفلسفة أساس اللاهوت وتنزيهه، واللاهوت تشبيه للفلسفة وتجسيم لها. كما دخل اسبينوزا في كثير من المسائل النظرية الميتافيزيقية الخالصة لإنشاء نسق فلسفي متكامل يقوم على التوحيد والعدل مثل نظرية الجوهر وصفاته وأحواله، والتي يمكن معارضتها بأنساق عقلية أخرى. ولم يكتفِ بالمسائل النظرية التي تنتج عنها آثار عملية.٢١
وظهر فيلسوفان آخران يمثلان خطًّا موازيًا لديكارت، أقرب إلى الوسط الديكارتي إن جاز التعبير، وهما بسكال وآرنو. كلاهما ضد الجِزوِيت وعلم الحِيَل الذي اشتهروا به، ويدعوان إلى التقوى الباطنية وليس إلى النفاق الديني، وبالتالي يمثلان اليسار. وكلاهما يدافعان عن الدين والإيمان ويبرران المعتقدات التقليدية، وبالتالي يكونان أقرب إلى اليمين. كانت مهمة بسكال، خارج العلوم الرياضية والطبيعية، الدفاع عن المسيحية.٢٢ فعمل العقل هو تقريب الإنسان إلى الله من أجل الحصول على الحقيقة والخير الأقصى الذي تتجه الطبيعة إليه. ويقوم دفاعه عن المسيحية في البداية على إثبات ثنائية الخير والشر. ويعدد مظاهر البؤس الإنساني من مرض وتشاؤم وحزن وألم وضياع وموت … إلخ. كما يعدد مظاهر العظمة الإنسانية من فكر وعقل وعلم وإخلاص ومحبة … إلخ. ثم يتم التحول من مظاهر البؤس إلى مظاهر العظمة عن طريق العقدة وهو السيد المسيح والإيمان به. كما يستعمل الجدل العقلي للدفاع عن الإيمان في «الرِّهان» الشهير القائم على حساب الاحتمالات، إذا خسرت لم أخسر شيئًا وإذا كسَبت أَكسِب كل شيء، وهو طريق المؤمن إلى الإيمان. فبالإيمان لا يخسر الإنسان شيئًا. وماذا تعني بعض مباهج الدنيا وملاذُّها؟ وإذا كسَب كسَب كل شيء، الحياة الأبدية.٢٣ أما آرنو فقد استمر في الدفاع عن الجَنسينيين والهجوم على الجِزوِيت مثل بسكال.٢٤

(٣) الديكارتية في العلوم الإنسانية

ثم تحولت الديكارتية من مجرد منهج يطبقه الديكارتيون صغارًا وكبارًا إلى رُوح العصر كله، يظهر في شتى أنواع المعرفة الإنسانية، الدين والأخلاق والقانون والسياسة والاقتصاد، قبل أن يتحول العقل إلى ثورة شاملة في المجتمع، وكما تجلى في الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر، ثم خرج الأمر من فرنسا إلى كافة أرجاء القارة الأوروبية. ظهر ذلك عند بيير بايل، وهربرت الشربوري في الدين ولورد شافتسبري في الأخلاق، وجروسيوس في القانون، وليلبورن في السياسة، وبيلرز في الاقتصاد. وبصرف النظر عن دقة توالدهم المذهبي في التاريخ هناك رُوح واحد يجمعهم جميعًا، فالموضوع هنا هو الذي يتحكم في التاريخ. ففي الدين وجه بيير بايل الشك الديكارتي إلى اللاهوت، ودخل في نقاش مع الكاثوليكية. ترك الدين ودعا إلى التسامح.٢٥ درس دراسةً نقديةً العقيدةَ المسيحية باعتبارها نوعًا من الأساطير. لم يكن من المؤلِّهة ولكنه كان لا مباليًا بالنسبة إلى الدين. ولم يكن ملحدًا كما لاحظ فولتير، بل استطاع أن يجعل الآخرين ملحدين يكوِّنون مجتمعًا من الملحدين. ولما كان العمل العقلي لا فائدة منه فلا بد من العودة إلى الإيمان ليبرر الاعتقاد بوجود الأشياء وأن الله ليس خادعًا، خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف. وقد تم الهجوم عليه بسبب تهمة نزع القدسية عن الدين والأخلاق ودعواه باستقلال الأخلاق عن الدين كما فعل كانط بعد ذلك. وقد ظل أثره في استمرار فلسفة الشك في فلسفة التنوير. واستعمل هيوم وفولتير حججه للهجوم على اللاهوت التقليدي. وفتح قاموسه المجال للماديين الفرنسيين في القرن الثامن عشر. ويُعتبر أقرب إلى اليسار الديكارتي في جانبه السلبي، أي الشك في الموروث، وأقرب إلى اليمين الديكارتي في جانبه الإيجابي في لجوئه إلى الإيمان. ولم تقصر رُوح ديكارت فقط على فرنسا بل انتقلت إلى إنجلترا. كما امتدت الفلسفة التجريبية في القرن الثامن عشر في إنجلترا إلى القارة الأوروبية في فرنسا (التنوير) وألمانيا (كانط). عرَفت إنجلترا أيضًا الفلسفات العقلية المثالية مثل هربرت الشربوري وأفلاطونيِّي كمبردج، ولم تقتصر فقط على ما هو شائع عنها من أنها مهد الفلسفة الحسية التجريبية، الفلسفة الأنجلوسكسونية. لم يهتم هربرت الشربوري بالأفكار العلمية الجديدة بل بالأفكار الفلسفية.٢٦ ويُعتبر مؤسس الميتافيزيقا في إنجلترا مع أفلاطونيي كمبردج في القرن السابع عشر. بحَث في نشأة الدين مستعملًا المنهج التاريخي حتى يمكن تفريغ دين المؤسسات من مضمونه وشرعيته وإرجاعه إلى مصادره التاريخية. لذلك كان أول من حاول كتابة تاريخ مقارن للأديان. التحقق من صدق الفكر هو مدى قبوله فرديًّا واجتماعيًّا، بالاجتهاد الفردي أو بإجماع الآخرين. لقد أعطت العناية الإلهية أفكارًا مشتركة للبشر جميعًا بما في ذلك الدين والقانون، أفكارًا فطرية في النفس تكون مبادئ عامة للدين الشامل، كما حاول اسبينوزا وفولتير صياغته، مثل وجود إله واحد منزه تجب له العبادة. وجوهر العبادة الإيمان والعمل الصالح والتقوى واستغفار البشر عن ذنوبهم ثم الاستحقاق والمعاد، مثل ما وضعه المعتزلة من قبل في أصلي التوحيد والعدل. هاجمه لوك وأنكر الأفكار الفطرية لعدم وجود ضمان لصدقها. وهو أول من حاول تأسيس الدين الطبيعي قبل لِسِنج وماثيو آرنولد في القرن الثامن عشر. وفي الأخلاق نقد شافتسبري الأخلاق عند هوبز لإثبات أن الإنسان أخلاقي بطبعه لميله الطبيعي نحو الفضيلة.٢٧ توجد حاسة خلقية داخلية، عاطفة ووجدان، يستطيع الإنسان أن يميز بها بين الخير والشر. وهي الآراء التي انصبت بعد ذلك في الفلسفة الخلقية عند هَتشسون في القرن الثامن عشر. وفي القانون عرض جروسيوس نظرية القانون الطبيعي والعَقد الاجتماعي.٢٨ فالقانون والدولة منشؤهما من الأرض لا من السماء. تقوم الدولة باتفاق الناس وليس بإرادة إلهية. القانون الطبيعي ثابت لا يتغير في حين أن القانون المدني متغير كما قال اسبينوزا في التمييز بين القانون الإلهي الطبيعي الثابت وقوانين الشريعة المتغيرة. ومن ثم تخلصت فلسفة الدولة والقانون من أثر الفلسفة المدرسية واللاهوت العقائدي بالعودة من جديد إلى الرواقية وإلى القانون الروماني. وفي السياسة دافع ليلبورن عن الديمقراطية السياسية والاجتماعية، وأيد الإصلاحات الديمقراطية، وحاول إيجاد الوسائل الثورية لتحقيقها.٢٩ كما دعا إلى سيادة الشعب كأساس لنظرية القانون الطبيعي. شرَّع الاستفتاء العام، والحكومة الجمهورية، والفصل بين السلطات، وملكية الفلاحين للأرض. وفي الاقتصاد استبق بيلرز نظرية فائض القيمة.٣٠ وعلى خلاف النزعة التجارية ركز على أهمية زيادة الإنتاج وتغيير نمطه السائد. وكان أول الداعين إلى التعاونيات الزراعية، إذ إنه فكر في خطة لإقامة تعاونيات إنتاجية قائمة على المِلكية الجماعية لوسائل الإنتاج والتنظيم العقلاني للعمل طبقًا لمبدأ «من لا يعمل لا يأكل». كما دعا إلى التأمين الاجتماعي والتربية المهنية.

(٤) أفلاطونية كمبردج

ويضم الاسم مجموعة من الفلاسفة واللاهوتيين، نشطوا في أواخر القرن السابع عشر لإحياء فلسفة أفلاطون ضد مادية وتجريبية كلٍّ من بيكون وهوبز. وقدَّموا تعاليمَ مثالية تقوم على الأفكار الفطرية في إطار من نظرية أفلاطون في المعرفة والنزعة الطبيعية في العصر الوسيط. وأهم هؤلاء: ويكوت، هنري مور، جلينفيل، كودورث، كالفرويل، نوريس، كمبرلاند. فعندما تعرض الدين للهجوم حاولوا إقامة المسيحية على العقل. وكما لا تقوى الأرسطية أمام العلم الجديد (جاليليو، نيوتن) كذلك لا يقوى النظام الاجتماعي القديم على الصمود أمام عقلانية هوبز، عدوهم الأول. ولكن نظرًا لاعتمادهم على التراث الأفلاطوني، وقعوا في الإشراقيات الصوفية التي ذاعت بعد ١٦٤٠م وفي الشعائر الفارغة.٣١ اتسموا بالتسامح الديني والتأكيد على وجود معيار مطلق للصواب والخطأ طبقًا لمقتضى العقل ومستقلًّا عن السلطة الإلهية. وكان لهم أبلغ الأثر على الفكر الإنجليزي على مدى قرنين من الزمان.
حاول ويكوت تأسيس دين أخلاقي عملي قائم على العقلانية والطبيعة والمحبة واتخاذ الله كنموذج للحياة الفاضلة.٣٢ لا يوجد تعارض بين العقل والإيمان لأن الله هو الذي منح العقل للإنسان؛ لذلك أعجب بقول التوراة: «رُوح الإنسان شمعة من الله.» وكان لديه تصور متفائل لقدرات الإنسان على الفعل والتحقق. وأُعجب هنري مور بفلسفة ديكارت الدينية أولًا ثم عارض فلسفته الآلية العلمية.٣٣ فالله يمكن البرهنة على وجوده رياضيًّا ما دام العقل والإيمان متفقَين. وأيد جلينفيل هنري مور في إيمانه بالوجود المسبق للرُّوح.٣٤ وهاجم الشُّكَّاك العقليين الذين أنكروا وجود الأشباح والسحرة وبعض مظاهر تجليات الرُّوح كخطوة أولى إلى الإلحاد. ويتضح من ذلك الاتجاه التدريجي لأفلاطونيي كمبردج نحو التصوف نظرًا لغياب العقل النقدي الذي بيَّن ضرورته كانط فيما بعد. ودافع كودورث عن الأفكار الأبدية للحقيقة والخير.٣٥ والعقل الإنساني مقياس لحكم الإنسان وفعله. والموضوعات الخارجية مناسبات للمعرفة وليست مصدرها. والطبيعة نسق متناغم يعبر عن غائية إلهية. وحاول كالفرويل إقامة مشروع لبيان اتفاق العقل والوحي، ولكي يحدد العَلاقة بين الميتافيزيقا والأخلاق، مبشرًا بدين طبيعي يقوم على وحدة الوحي والعقل والطبيعة.٣٦ وعرض نوريس مذهب مالبرانش ليعارض به مذهب لوك وفلسفته الحسية.٣٧ تأثر بكودورث ومور. وبيَّن الاتفاق بين العقل الإنساني والحقيقة الإلهية، إذ إن الفرق بينهما في الدرجة وليس في النوع. كما فند الأسقف كمبرلاند نظريات هوبز في الأخلاق والاجتماع.٣٨ ووضع الغيرية الشاملة باعتبارها الخير الأقصى في مقابل الأنانيَّة. ولا يكون الفعل أخلاقيًّا إلا إذا أدى إلى السعادة البشرية. وفي نفس الرُّوح ومع تخلٍّ كلي عن العقلانية في سبيل التصوف أسس جورج فوكس حركة المرتعشين تتم فيها الهداية بواسطة النور الداخلي، والتحرر من المؤسسات الخارجية أو الجزاءات الحسية. ويؤكد على أهمية الصمت والحياة البسيطة، والالتزام بالعَلاقات الاجتماعية السليمة. وهي جماعة صفاء وصلاة وتأمل وزهد في الدنيا مثل «إخوان الصفا وخلان الوفا».٣٩

ثانيًا: التجريبية (القرن السابع عشر)

وهو التيار الذي بدأ من ديكارت في خطٍّ منحدر إلى أسفل، والذي يشير إلى وجود الواقع ورفض كل مسلَّمات نظرية سابقة بعد أن اكتشف خطأها، وهو في معرض التحقق من صدقها بالتجرِبة وشهادة الحس. فإذا كانت العقلانية وضعت الأنا في مواجهة الفكر (ديكارت) فإن التجريبية قد وضعت الأنا في مواجهة الواقع (بيكون). وإذا كانت العقلانية قد رأت اليقين في منهج الاستنباط فإن التجريبية تراه في منهج الاستقراء. ولكن يظل الفضل يرجع إلى ديكارت في إثبات الكوجيتو أولًا، وبالتالي فهو بداية الوعي الأوروبي. أما بيكون فإنه ينضوي تحت الكوجيتو في أحد طرفي الثنائية الديكارتية وهو طرف البدن، إذ لا يمكن الحديث عن الطبيعة والمعرفة الحسية دون إثبات الكوجيتو أولًا.

وقياسًا على التيار العقلي التبريري للعقائد القديمة، باستثناء اسبينوزا، كان التيار التجريبي أكثر جذرية بالنسبة للموروث، وأكثر رفضًا للتراث الفكري القديم الذي كان العلم وقتئذٍ جزءًا منه. فهو يرفض المسلَّمات كلها بلا استثناء باعتبارها أوهامًا أو شبه أوهام. لذلك نجد قوة الرفض فيه أعظم مما في التيار العقلي الذي لم يرفض إلا الشكل التبريري القديم الواضح المكشوف، وأعطى أشكالًا جديدة أكثر ذكاء مع بقاء المضمون كما هو، في حين أن التيار التجريبي رفض الشكل والمضمون معًا. كان التيار العقلي استمرارًا للفلسفة المدرسية في القرن الثالث عشر، ولكن بطريقة أذكى وأكثر إقناعًا. في حين كان التيار التجريبي أكثر ارتباطًا بنشأة العلم في القرن الرابع عشر عند دانز سكوت ووليم الأوكامي وعصر النهضة. في التيار العقلي كان العقل أقرب إلى الإيمان، وفي التيار التجريبي كان الواقع أقرب إلى العقل، وكأن الصلة بين العقل والطبيعة تستبعد أية عناصر متوسطة بينهما وتبعدها من الوحدة إلى الاختلاف.

ونظرًا لأن قوة الرفض للقديم ولكل الأبنية النظرية الموروثة كان قويًّا للغاية فقد ارتدَّ الشعور بقوة ردِّ الفعل إلى الواقع، ورآه واقعًا حسيًّا ماديًّا صرفًا كرد فعل عنيف على رفض النظرية. ومن هنا نشأ الواقع الحسي أو الواقع التجريبي المباشر. لم يكن هناك أي إيمان مسبق بل إيمان بعدي بالعالم من خلال شهادة الحواس. وخطأ الحواس أهون من خطأ المسلَّمات النظرية القديمة. خطأ الحواس يمكن تداركه بالتكرار وبالقياس وبالأجهزة العلمية الدقيقة، ولكن خطأ الفكر أقدم وأعظم لأنه خطأ مستقر لا يمكن إبعاده إلا بقلب النظام الفكري ذاته. لم يبقَ لدى الشعور الأوروبي بعد رفض النظريات المسبقة إلا التحليل المباشر للواقع بالجهد الإنساني الخالص، وإعطاء أساس نظري للواقع. وعلى هذا النحو نشأ العلم، وتقدمت النظريات العلمية طبقًا لرقعة الواقع المشاهد. لقد نشأ الاتجاه التجريبي كرد فعل على الاتجاه العقلي وعلى نسيان العالم والقضاء على الأشياء وتحويلها إلى مجرد فكر وامتداد. انقلب من النقيض إلى النقيض، ومن الضد إلى الضد فأصبح العالم ماديًّا، وأصبحت التجرِبة الحية مجرد انطباعات حسية، وأصبحت النفس، على ما يقول لوك، صفحة بيضاء تنقش عليها الإحساسات ما تشاء. وقد ظهر هذا الانحدار في صورة خلط نشأ في العلوم الإنسانية، خاصة في علم النفس التجريبي فيما بعد، بين التجرِبة الداخلية والتجرِبة الخارجية، وهو ما يسمى بالتوازن بين الظاهرة النفسية والظاهرة الجسمية (الفيزيقية) والذي يعطي الأولوية للجسمي على النفسي، ويوحد بين الجسمي وكل المظاهر النفسية من حسٍّ وإدراك وتذكر وتخيل وتصور وانفعال. لذلك كان السبيل إلى الخلاص هو علم النفس القائم على الاستبطان وتحليل الخبرات الباطنية.

ومن هذا التيار نشأ الموقف الطبيعي بكل أبعاده. فنشأ الدين الطبيعي ضد الدين العقائدي، وأصبحت الطبيعة أكبر محرر للفكر من القيود والأشكال القديمة. ونودي بالعود إلى الطبيعة في الفكر والفن والحياة. فنشأ القانون الطبيعي، والفكر الطبيعي، والفن الطبيعي. وظهر الفكر المادي على أنه هو الضمان الوحيد ضد أوهام الفكر النظري المسبق والمتاهات المثالية والموروث القديم. أصبح للجدل الصاعد الأولوية على الجدل النازل. وبلغة القدماء بدأت «علوم التأويل» تكون لها الأولوية على «علوم التنزيل».

ونحن ما زلنا نعتبر هذا التيار إلحاديًّا ماديًّا قاصرًا، مع أن هذا الاتهام ليس له ما يبرره لدينا. فقد رفض الفكر العلمي في الغرب كل مظاهر الخرافة في القديم، ورفض الأسرار والغيبيات والمسلَّمات، وبدأ بالواقع نفسه. ولا خوف من العلمية. فقد تكون هناك مسلَّمات علمية أو قد يكون البناء النظري للموروث بناء علميًّا. يمكن للفكر العلمي أداء أعظم الخدمات في تطورنا الحالي الذي يحتاج إلى قوة أعظم للرفض وإلى اكتشاف الواقع والتحليل المباشر له بعيدًا عن المسلَّمات وإلى تحليل الألفاظ ومعرفة مضامينها النفسية والعلمية. يمكننا اكتشاف الطبيعة التي ما زالت غائبة في وعينا، ويمكننا تحويلها إلى شعر أو رُوح بدل الرُّوح المنفصل عنها أو الذي يغلفها ويقضي على استقلالها. وبالتالي تكون القيم الرُّوحية هي القيم الطبيعية لا تلك التي يستتر وراءها السلوك من أجل استقلال حقيقي للطبيعة المادية. وإن خطأنا في رفض هذا التيار قد لا يكون في التيار ذاته بل في مصدره. فقد وُجد الفكر الطبيعي القديم عند أصحاب الطبائع من المعتزلة. وتكون دعوتنا أقوى من حيث الوسيلة والتأثير والضمان إذا ما لبينا مقتضيات حاجتنا إلى الفكر الطبيعي اليوم من الفكر الطبيعي القديم.٤٠

وقد ظهرت التجريبية في صور عديدة: اتجاه علمي طبيعي يركز على أهمية المنطق الاستقرائي الجديد وضرورة اكتشاف قوانين الطبيعة ثم تطبيق هذا الاتجاه العلمي في باقي العلوم الإنسانية في علم النفس والأخلاق والاجتماع والسياسة والدين. ولكن يبدو أن قوة الدفع في التيار العقلي كانت أكبر من قوة الدفع في التيار التجريبي في القرن السابع عشر. فبينما كثر الفلاسفة العقليون سواء كانوا من صغار الديكارتيين أم من كبارهم، ثم تطبيق الديكارتية في العلوم الإنسانية، وظهر أفلاطونيو كمبردج، قل الفلاسفة العلماء في التيار التجريبي، ولم ينشأ إلا فلاسفة علماء قليلون مثل بيكون، وبويل، ونيوتن، ثم تطبيق التجريبية والمنهج العلمي في العلوم الإنسانية عند هوبز ولوك وتولاند وميلييه.

(١) العلم الطبيعي

في نفس الوقت الذي كان فيه ديكارت يؤسس العقلانية الأوروبية الحديثة كان بيكون يؤسس التجريبية الأوروبية الحديثة. ينقد أوهام المعرفة الظنية ليؤسس المعرفة اليقينية، ويعيد بناء العلوم كلها في مشرع «إعادة البناء العظيم».٤١ حاول إعادة بناء المنطق الأرسطي القديم، وتأسيس المنطق الاستقرائي الجديد، وإعادة النظر على نحو شامل لشتى فروع المعرفة من أجل تصنيف جديد للعلوم الحالية والمستقبلية. يقوم تصوره للعالم على أسس عملية حسية نفعية. وفي نفس الوقت يتوجه نحو المستقبل إذا ما تم القضاء على الأخطاء في المناهج العلمية. وهنا يظهر لأول مرة تحول الأخرويات إلى مستقبليات، وتحول التصور الرأسي للعالم عند ديكارت إلى تصور أفقي من أجل اكتشاف التاريخ والتطور في الزمان.٤٢ لذلك يظهر لفظ «جديد» في عديد من عناوين مؤلفاته مما يدل على الانتقال النوعي للوعي الأوروبي من مرحلة إلى مرحلة. ومع ذلك فالمسيحية لديه حقيقة بالرغم من سخريته أحيانًا من اللاهوت، كما هو الحال عند هوبز فيما بعد. طالب بفصل العقل عن الوحي كي يقع في ثنائية جديدة، ثنائية العقل والإيمان التي وقع فيها اسبينوزا بفصله بين حقائق العقل وحقائق اللاهوت. أما في رؤيته الطوباوية التي عبر عنها في «أطلانطا الجديدة» فإنه بيَّن أن العلم قادر على تحسين أوضاع العالم وذلك عن طريق التحول من الاستنباط إلى الاستقراء، ومن الأوهام إلى الفكر العلمي. وسار في نفس التيار كل الحسيين التجريبيين مثل: لوك، هيوم، مِل، رَسِل … إلخ. وبالرغم من نقد كانط له في «نقد العقل الخالص» كان له أبلغ الأثر على التنوير الفرنسي، خاصة عند دالمبير وفلاسفة دائرة المعارف، ثم أسس بويل النظرية الذرية للمادة بناء على تجارِبه على الغازات.٤٣ ميز بين الكيمياء اللاعلمية والكيماء العلمية بتأسيس العلم على التجرِبة وليس على العناصر الصوفية التي تتكون منها المادة كما تصور اليونان من قبل. أصبح فكره شعار الجمعية الملكية «لا لسلطة النص»، «لا شيء بالسلطة وحدها».٤٤ وبالتالي ساهم في نقل الوعي الأوروبي من حجة السلطة إلى حجة العقل. ثم وضع نيوتن نموذجًا للعلم الجديد اعتبره الفلاسفة العقليون فيما بعد، مثل كانط، نموذج اليقين ليس في العلم وحده بل في الفلسفة كذلك.٤٥ أعاد النظر في الميكانيكا عند جاليليو ونظر لها في تصور عام للطبيعة. واكتشف قانون المربع المعكوس للجاذبية الكونية. وساهم في تأسيس نظرية الضوء. وحوَّل علم الطبيعة إلى علم رياضي صرف وكأن حركة الأجسام تجد أسسها في معادلات الرياضة. وليست حركة الأجسام فقط على سطح الأرض بل أيضًا في الكون بما في ذلك الشمس والقمر. اتبع منهجًا استقرائيًّا تجريبيًّا على النقيض من منهج ديكارت الاستنباطي العقلي. ومع لك ظل العلم عند نيوتن مرتبطًا بالدين والأخلاق. فالجاذبية دليل على وجود الله وليست مجرد قانون طبيعي صرف. والزمان والمكان مطلقان، متأثرًا في ذلك بهنري مور من أفلاطونيي كمبردج، في رأيه بأن المكان إحساس بالله. وضم كتابه «المناظر» موضوعات كثيرة في الميكانيكا والدين والأخلاق تحت أثر ابن الهيثم. نشِب بينه وبين لَيبنتز خلاف على أيهما أسبق في اكتشاف الحساب، وخلافات علمية أخرى، ودافع صمويل كلارك عنه. وقد أثر نيوتن في التجريبيين بعده في إنجلترا، خاصة لوك.

(٢) التجريبية في العلوم الإنسانية

ثم انتقلت التجريبية، كما انتقلت الديكارتية من قبل، من ميدان العلم الطبيعي إلى ميدان الأخلاق والدين عند هوبز ولوك وتولاند، كل منهم يقابل أحد العقلانيين: هوبز في مقابل اسبينوزا، لوك في مقابل لَيبنتز، وتولاند يضع الدين الطبيعي في مقابل مالبرانش الذي يضع اللاهوت العقائدي باعتباره دين الوحي. صاغ هوبز نظرية مادية آلية تعطي لفلسفة بيكون نسقًا ماديًّا حتى أصبح مؤسس الميتافيزيقا المادية المعاصرة. يبدأ بالحس ثم يضحي به لصالح التجريد.٤٦ جمع بين نموذجَي هارفي وجاليليو معًا، أي البداية بالمادة والانتهاء إلى التجريد. لذلك برزت أهمية المنهج في فلسفته التي تقوم على دراسة العلل المكونة للظواهر. والعالم مجموعة من الأجسام تحكمها قوانين الحركة الآلية. كما تُرَد الحياة النفسية أيضًا إلى الحركة والجهد، وكلاهما مجموعات آلية تخضع لآثار خارجية. وتدور فلسفته المادية حول ثلاثة أفكار رئيسية: أن الأرواح لا توجد من حيث هي جواهر خاصة، وأن الأجسام المادية من جوهر واحد، وأن الله نفسه من صنع الخيال يتم تصوره على أنه جسم كبير. وينكر هوبز موضوعية صفات الأشياء الطبيعية ويجعلها خصائص الإدراك الحسي قائمة على الفوارق الآلية بين الأشياء. ويرفض نظرية ديكارت في المعرفة والأفكار الفطرية رادًّا كل الأفكار إلى الحواس. وتتكون الأفكار عن طريق المقارنة والارتباط والقسمة. وبينما يرى أن التجرِبة أو المعرفة بالوقائع المنفردة لا تقدم إلا معرفة احتمالية حول ارتباطات الأشياء، إلا أنه يقر بأن المعرفة الصحيحة العامة ممكنة. وهي مشروطة باللغة، أي بقدرة الأسماء أن تصبح رموزًا لأفكار عامة. أما فلسفته الأخلاقية فإنه جعل الأنانيَّة أساس الأخلاق. الإنسان عدو لأخيه الإنسان. والغيرية ما هي إلا أنانيَّة مقنعة. الأخلاق نفعية، والقيم مصالح شخصية، والتضحية يعود نفعها على المضحي فيما بعد، كل حسنة لها مثلها أو عشرة أضعاف. فإذا كان اسبينوزا قد فكر في الأخلاق على نحو ميتافيزيقي فإن هوبز قد فكر فيها على نحو حسي اجتماعي. وبدل أن كانت الأخلاق تفكيرًا في الله أصبحت فكرًا اجتماعيًّا يصف عادات الناس وأخلاقهم. هاجم الكاثوليكية في آخر «التنين»، فالعقائد ليست في النصوص وهي خاطئة ومتناقضة، كما أنكر المعجزات، مثل تحويل الخبز إلى خمر. أسَّس الفلسفة السياسية كعلم. رفض نظرية المصدر الإلهي للمجتمع وقدم نظرية العَقد الاجتماعي كبديل عنها. المَلكية المطلقة أفضل نظام للدولة ودون أن يقلل ذلك من إمكانية ممارسة المبادئ الثورية. المَلكية ليست قيمة في ذاتها بل تعبر عن سلطة الدولة المطلقة التي تستطيع الوقوف في مواجهة المصالح البرجوازية التي أتت على أكتاف الثورة في القرن السابع عشر. وسار لوك على آثار هوبز.٤٧ ويغلب على كتاباته طابع الاعتدال والفهم المشترك وهمُّ اكتشاف الحقيقة. تأثر بالمنهج التجريبي والفلسفة الذرية وإمكانية تغيير ذرات الأشياء. أيقظه ديكارت من سُباته كما أيقظ هيوم كانط من سباته، مرة يكون الموقظ من فرنسا والمستيقظ من إنجلترا أو مرة يكون الموقظ من إنجلترا والمستيقظ من ألمانيا. وعَى العلوم الجديدة، وآثر المناهج العلمية في الاعتقاد والدين والأخلاق، رفض الفلسفة المدرسية كما رفض عقلانية ديكارت. مهمة الفلسفة النقد. ومهمة العلم الإيجاب. قدم في «المحاولة» تقييمًا نقديًّا لتكوين العقل الإنساني ولحدود العقل، فرفض الأفكار الفطرية عند ديكارت. تأتي الأفكار من الحس الخارجي والحس الداخلي، وهي إما بسيطة أو مركبة طبقًا للصفات الأولية أو الثانوية. وبيَّن صلة اللغة بالمعرفة. وقد نقد المحاولة كلٌّ من لَيبنتز وبركلي. أما أفكاره السياسية فإنها تدور كلها حول الليبرالية. كتب المقالات عن الحكومة باسمٍ مستعار خشية الاضطهاد، خاصة وأنه يبرر فيها قيام ثورة ١٦٨٨م، ويطالب إنجلترا بإعادة النظر في سياساتها بعد الثورة، ويعلن فيها مبدأي الحكم الدستوري وحرية الفرد؛ الأول ضد الثيوقراطية والمَلكية، والثاني يضع فيه مبادئ السياسة الطبيعية. قانون الطبيعة هو قانون الله، كما قال اسبينوزا، لتفسير نشأة السلطة في المجتمع. السلطة للشعب. ويستطيع الشعب أن يحكم نفسه بنفسه كي تكون هناك فرصة لتنمية الفرد وتربية المواطن والإعداد للثورة. غرض الدولة المحافظة على الحرية والمِلكية الخاصة الناتجة عن العمل. والسلطات على أنواع ثلاثة: تشريعية وتنفيذية وفيدرالية. دعا إلى التسامح للمصالحة بين الحرية الفردية والحكم الدستوري، وللتوفيق بين الطبقات البرجوازية والأرستقراطية. وأخذ جانبًا في الصراع بين الطبقات كفيلسوف ومفكر حر يبغي الثورة والنظام، الحرية والدستور. نشأت سمة عامة في الفلسفة الإنجليزية، حسية في المعرفة، ليبرالية في السياسة، فالليبرالية لا تنشأ فقط من ثنايا العقلانية والمثالية، بل قد تنشأ أيضًا من خفايا الحسية والتجريبية. وحاول جون تولاند تأسيس الدين الطبيعي كما فعل هربرت الشربوري من قبل متأثرًا بفولتير وديدرو وهولباخ وهلفسيوس.٤٨ نقد الدين العقائدي والكنسي من وجهة نظر الدين الطبيعي، وتبنى الإلحاد كموقف فلسفي أقرب إليه. أنكر خلود الرُّوح والجزاء الأخروي وخلق العالم وإجراء المعجزات والكتب المقدسة. وفسر الدين تفسيرًا طبيعيًّا ابتداءً من الإنسان والأرض والتاريخ، وكأنه يشير إلى «أسباب النزول». ونقد رجال الدين باعتبارهم مسئولين عن هذا الدين الكنسي وواضعيه عبر التاريخ. وفي الفلسفة وحَّد بين المادة والحركة، ونقد اسبينوزا لأنه لم يجعل الحركة في المادة، كما نقد ديكارت ونيوتن لأنهما ظنا أن الحركة من الله. المادة أبدية لا تفنى، والعالم لا نهائي، ونظرًا لهذا التصور المادي للعالم أنكر الحدوث. الفكر حركة فيزيولوجية في المخ. ولا تؤدي حركة المادة وتراكمها إلى أي تغير كيفي. ثم انتقل جان ميليه من الدين إلى الاقتصاد، ومن الكنيسة إلى الإلحاد، نقد التفاوت بين الأغنياء والفقراء، ودعا إلى تأسيس مجتمع جديد يقوم على الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية. ودعا العمال إلى الثورة على أصحاب الأعمال حتى يتأسس نظام اجتماعي جديد. وكان من إرهاصات الفكر الاشتراكي الطوباوي على مدى القرنين التاليين.٤٩
تميز القرن السابع عشر إذن بوضع القصدين الرئيسيين في الوعي الأوروبي: العقلانية والتجريبية. ولم تنشأ محاولات للجمع بينهما كما سيتم ذلك في فلسفة التنوير في القرن الثامن عشر؛ لأن التيارين ما زالا في اندفاعهما الأول. ولم يحدث تراكم كمي كافٍ حتى يُحدث تغيرًا كيفيًّا يُظهر الفارابي في الجمع بين رأيَي الحكيمين أفلاطون الإلهي وأرسطوطاليس الحكيم. يتضمن كل تيار نقدًا للآخر. فيتحدد كل منهما كالسلب والإيجاب. استمر الشعور الأوروبي بعد ديكارت يؤكد مأساته وثنائيته التاريخية في هذين الخطين المتباعدين: الاتجاه العقلي الذي هو استمرار للأفلاطونية، والاتجاه التجريبي الذي هو استمرار للأرسطية القديمة. لقد استطاع الاتجاه العقلي أن يصل إلى الواحدية الميتافيزيقية (اسبينوزا)، ووصل إلى القمة في الرياضيات الشاملة أو في الأُنطولوجيا العامة عند لَيبنتز. وقد ظل هو المرشد في البحث عن الحقيقة والحفاظ على الشعور الأوروبي من الاستمرار في الانحدار نحو الاتجاه التجريبي؛ لذلك ظل يمثل البعد المثالي في الوعي الأوروبي، والحرص على عالم الماهيات، وحوَّل الدين العقائدي الكنسي القديم إلى دين عقلي مثالي حديث يقوم على التنزيه، من الأشعرية إلى الاعتزال. فإذا ما اشتد الدافع تحولت العقلانية إلى تصوف باطني وإشراق صوفي. ولكن من ناحية أخرى أدى تحويل الطبيعة إلى رياضة على يد جاليليو إلى فقدان التجرِبة الحية، وأصبحت قالبًا دون مضمون، صورة دون مادة، تجريدًا دون حس. كان مصير الاتجاه العقلي ذاته الانفصام إلى بعدين: باطني في النفس يدفع إلى التصوف والأخلاق الباطنية، وصوري في العقل ينسى عالم الحياة الذي حاولت الظاهريات بناءه فيما بعد بإعادة توجيه العقل إلى الباطن، فتنقذ العقل من صوريته وتنقذ النفس من تصوفها.٥٠ ومع ذلك ظل التقدم الرئيسي في الوعي الأوروبي في القرن السابع عشر هو دين الطبيعة.

ثالثًا: العقلانية (القرن الثامن عشر)

يصعب تصنيف الفلسفة الأوروبية في القرن الثامن عشر إلى عقلانية وتجريبية، صورية ومادية، كما كان الحال في القرن السابع عشر؛ وذلك لأن كليهما ينتميان إلى فلسفة واحدة أعم بالرغم من التمايز بينهما وهي فلسفة التنوير التي استطاعت أن تجمع بين التيارين، خاصة التنوير الفرنسي. وعلى فرض إمكانية هذا التصنيف يصعب التمييز داخل كل تيار بين الجانب المعرفي فيه، عقلانيًّا كان أم تجريبيًّا، وبين الجانب التطبيقي لديه في الأخلاق والدين والسياسة والاقتصاد والتاريخ. فكانط مثلًا عقلاني وله تطبيقاته في الدين والأخلاق والسياسة والاقتصاد. وحتى إن أمكن ذلك فقد يشمل كل تيار نقيضه. فتشمل العقلانية عند كانط مثلًا ردود الفعل عليها عند الرومانسيين مثل شيلر وجاكوبي. كما تشمل التجريبية ردود فعل عليها عند أصحاب الحاسة الخلقية والضمير عند هتشسون وبتلر. كما يصعب تصنيف فلاسفة آخرين في التطبيق مباشرة في التاريخ، مثلًا لِسِنج وهردر وهما ألصق بالجانب المعرفي العقلاني عند كانط. وهناك صوفية خُلَّص مثل سويدنبُرج وهامان في القرن الثامن عشر، تيار لا عقلاني ولكنه كان رد فعل على العقلانية، وبالتالي يشمل التيار نقيضه المباشر مثل الرومانسية عند شيلر وجاكوبي أو غير المباشر مثل التصوف عند سويدنبُرج وهامان. ويحتار الإنسان في تصنيف المثالية الذاتية عند بركلي، في العقلانية مع كانط، أو في الحسية التجريبية مع هيوم. وهل يمكن وضع برايس وريد مع بركلي وهم أقرب إلى كانط؟ وإذا كان الجمع بين التيارين الرئيسين اللذين خرجا من ثنائية ديكارت، العقلانية والتجريبية، قد بدت أولى محاولات الجمع بينهما في القرن الثامن عشر عند كانط، فإلى أي حد يمكن تصنيف كانط تصنيفًا عقليًّا خالصًا وهو يحاول الجمع بين فولف وهيوم، بين القطعية والشك، بين العقل والحس، بين لَيبنتز ولوك، بين اسبينوزا وهوبز؟ وكيف يمكن تصنيف بعض الفلاسفة مع فلسفة التنوير نظرًا لارتباطهم بها سلبًا وهم أعداء لها، مثل بيرك، أو لأنهم كانوا متدينين متعصبين مثل إدواردز؟ وهل يمكن تصنيف المذاهب الثلاثة الكبرى في القرن الثامن عشر: العقلانية والتجريبية والتنوير بعد ذلك إذا ما تكاثروا، خاصة في التنوير، طبقًا للقوميات: التنوير الفرنسي، الإنجليزي، الألماني، الإيطالي، الأمريكي، بالرغم مما يجمعهم من خصائص فلسفية مشتركة؟ وهل يمكن التمييز في العصور الحديثة، خاصة في القرن الثامن عشر، في فلسفة التنوير، بين الفلسفة المسيحية والفلسفة اليهودية، وهو تمييز ضد التنوير، فلا فرق بين تنوير كانط ولِسِنج وبين تنوير ميمون ومِندِلسون، والكل تلاميذ كانط؟ كل هذه الصعوبات والتساؤلات حول تصنيف الفلاسفة في القرن الثامن عشر جعلت الاستقرار على التقسيم الثلاثي، العقلانية والتجريبية والتنوير، أقرب إلى الواقع ومفيدًا إجرائيًّا، حتى يتم رؤية مسار التيارين الرئيسيين منذ القرن السابع عشر واستمرارهما في القرن الثامن عشر، ثم محاولات الجمع بينهما، سواء في كلٍّ من التيارين مثل كانط وبركلي في التيار العقلي، والأخلاقيين الإنجليز هتشسون وبتلر في التيار التجريبي، أو في فلسفة التنوير في عموم القارة الأوروبية وفي العالم الجديد.

(١) كانط والمثالية الترنسندنتالية

إذا كانت البداية الأولى لم تترك اسمًا لمذهب فإن البداية الثانية تركت مذهبًا في «الفلسفة النقدية» أو «المثالية الترنسندنتالية». كان الكوجيتو الديكارتي هو البداية الأولى، وكان الكوجيتو الكانطي أو «الثورة الكوبرنيقية» هي البداية الثانية. قام ديكارت بالبداية الأولى على الطريقة الفرنسية: سهولة ووضوح، وجمال أسلوب، وتجارِب معيشة، وبداية بالمشاهدة الحسية. وقام كانط بالبداية الثانية على الطريقة الألمانية: صعوبة فهم، غموض معنًى، وُعُورة أسلوب، تجريد وصورية، وبداية بالتأمل العقلي الخالص. إذا كانت البداية الأولى مجرد تأملات مذهبية فإن البداية الثانية أول المذاهب الشامخة. والبداية واحدة، «الكوجيتو» عند ديكارت، و«الأنا أفكر» عند كانط. كلاهما يضع الذاتية كنقطة بداية معرفية لمشروع الفلسفة الحديثة. وهذا هو مدلول الثورة الكوبرنيقية عند كانط كبداية ثانية، الذاتية بداية الفكر والوجود، ومركز العالم. يدور الموضوع حول الذات، ولا تدور الذات حول الموضوع. وهو نوع من إثبات الكوجيتو على الطريقة الكانطية المرتبطة بالعلم في عصره وليس بالأوغسطينية الإشراقية كما كان الحال عند ديكارت. وإذا كان ديكارت قد اكتفى بتقسيمات العصور الوسطى: نفس وبدن، ماهية ووجود، فكرة وكمال، جوهر وعرَض، فإن كانط استطاع أن يضع أسس المثالية الحديثة ومصطلحاتها مثل: النقد، الترنسندنتالية، الحساسية، الذهن، العقل، الصورة، المادة، الزمان، المكان، المثال، النظري، العملي، الجليل، الجميل، القانون، الواجب، الأمر، الاستقلال الذاتي للإرادة … إلخ، وخلق عالم الفلسفة. وإذا كان ديكارت قد ظل أوغسطينيًّا، أو على الأقل جمع بين عقل أفلاطون وإشراق أوغسطين، فإن كانط ظل أرسطيًّا بروتستانتيًّا يجمع بين مقولات أرسطو بعد أن يضعها في الذهن، والتقوى البروتستانتية بعد أن يضعها في القلب. وإذا كان ديكارت قد وضع أفلاطون في النفس والتمييز بين النفس والبدن فإن كانط وضع مُثُل أفلاطون العقل، في عالم الأذهان وليس في عالم الأعيان. وإذا كان ديكارت قد صرح في بداية «مقال في المنهج»: «أن العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس» فإن كانط هو الذي فصل العقل وقسمه كما هو معروف إلى ثلاث: العقل النظري ووظيفته المعرفة، والعقل العلمي ووظيفته الأخلاق، ومَلَكة الحكم ووظيفتها الجمال والدين. وبالتالي وضع كانط مباحث الفلسفة الثلاثة المشهورة في الفلسفة العامة: الحق في العقل النظري، والخير في العقل العملي، والجمال في ملكة الحكم.

بدأ كانط يجمع الخطين معًا؛ الأول: من ديكارت ولَيبنتز ومالبرانش وبسكال وآرنو، والثاني: من بيكون وهوبز ولوك وبويل ونيوتن. وكان ممثل الأول في عصره فولف، والثاني هيوم. الأول يمثل قطعية العقليين، والثاني يمثل شك الحسيين.٥١ وفولف هو حلقة الوصل بين لَيبنتز وكانط. استطاع أن يحوِّل العقلانية قبل كانط إلى مذهب.٥٢ وأسَّس العلوم العقلية وفي مقدمتها علم النفس العقلي، وهو ما سيعيد كانط بناءه في «نقد العقل الخالص». عرض أُنطولوجيا لَيبنتز، وأعاد بناء فلسفته وروَّج لها، وخلصها من جدليتها، وحولها إلى مذهب فلسفي متناسق. طور ميتافيزيقا غائية تبين اتفاق الانسجام في الكون مع أغراض الله وتشبه ما سيفعله كانط فيما بعد في «نقد ملكة الحكم». وبالتالي يمهد فولف للانتقال من لَيبنتز فيلسوف الانسجام المسبق إلى كانط فيلسوف الغائية. وفي نفس الوقت أحيا فولف الفلسفة المدرسية نظرًا لشمولها ومذهبيتها، كما هو الحال عند توما الأكويني. ويقوم المذهب العقلي على الاستنباط، استنباط كل حقائق الفلسفة من مبادئ المنطق الصوري، وفي مقدمتها قانون عدم التناقض. طبق ذلك في المنطق والرياضة والطبيعة والكيمياء والأحياء. الفلسفة دراسة للماهية وليس للوجود. وإن كل الافتراضات والقواعد الفلسفية إنما تُستمد من مبادئ فلسفة لَيبنتز مثل العلة الكافية والهُوية. وترجع شهرة فولف إلى مذهبيته في الفلسفة وليس إلى إبداعه الذهني. كان سياسيًّا مع مبادئ التنوير إلا أنه كان لمذهبيته تنويريًّا متسلطًا. نشأت حوله في ألمانيا مدرسة فلسفية قوية في عصره ولكنها لم تبق طويلًا بعد وفاته. وكان باومجارتن من أتباعه.٥٣ أُعجب به كانط أشد الإعجاب، ويذكره دائمًا بخير مع أنه يرفض قطعية فولف مؤسس المدرسة التي ينتسب إليها باومجارتن. قد يكون السبب هو جمع باومجارتن بين الجمال العقلي والجمال الحسي. فالفن لديه تمثلات عقلية وحسية وعاطفية. ليس الجمال مجرد فكرة عقلية مجردة بل هو إحساس مركب من الذهن والحس. وهذا هو ما فعله كانط تمامًا ليس فقط في تمييزه بين الجلال (العقل الرُّوحي) والجمال (الحسي) بل أيضًا في نظريته في المعرفة في الجمع بين العقل والحس كما هو الحال في «نقد العقل الخالص».
أخذ كانط هذين الخطين من نهايتهما، قطعية فولف وشك هيوم، وحاول أن يضرب كلًّا منهما بالآخر حتى يصل إلى حل متوسط يجمع بين العقل والحس؛ فالقطعية إيمان بالعقل وإنكار للحواس، والشك إيمان بالمعرفة الحسية وإنكار للعقل. عارض كانط المذهب العقلي عند فولف لأن تركيب العالم تركيبًا عقليًّا مذهبيًّا ليس من وظيفة العقل. كما عارض القضاء كلية على العقل وجعله مجرد مجموعة من الإحساسات المترابطة عن طريق العادة كما هو الحال عند هيوم. جعل كانط وظيفة العقل في تحليل إمكانياته من أجل إدراك الواقع إدراكًا علميًّا وتأسيس الميتافيزيقا، أي الفلسفة، تأسيسًا علميًّا كما فعل في «المقدمات لكل ميتافيزيقا مستقبلة تريد أن تصير علمًا». وهو نفس المشروع الذي حاوله هُوسِرل فيما بعد في «الفلسفة كعلم محكم».٥٤ جاء كانط بفلسفته النقدية التي تعني بيان إمكانيات العقل قبل إصدار الأحكام، ولتجاوز ثنائيات ديكارت. وضع المادة الحسية المصمتة في الصورة الذهنية الفارغة. واعتبر حسب تشبيهه الشهير التصورات بلا حدوس فارغة والحدوس بلا تصورات عمياء، فحل ثنائية العصر الحديث عن طريق الشكل والمضمون، أو بتعبير أرسطو بطريقة الحاوي والمَحوي. ظل الشعور مجرد «نسيج عنكبوت» وظيفته اصطياد المادة من العالم الخارجي. لم يكتشف كانط الشعور الحي والتجرِبة المعيشة. لم تستطع الفلسفة النقدية بمعارضتها الدجماطيقية والشك اكتشاف بعد ثالث مستقل عن هذين الخطين المتعارضين. وظل سؤال كانط الأساسي: كيف يكون الحكم القبلي التركيبي ممكنًا؟ دون حل جذري. لقد حاول كانط جعل الميتافيزيقا علمًا ولكنه اشترط عدم تجاوزها العالم الحسي، في حين استطاع هُوسِرل ذلك حين جعل وظيفتها الأساسية تحليل الشعور ووصف التجارِب الحية. استطاعت الظاهريات توسيع نطاق الحساسية الترنسندنتالية عند كانط وجعلها شاملة لكل مظاهر الحياة. كما استطاعت إعادة الفاعلية إلى المنطق الترنسندنتالي، وجعلت الحدس الحسي عند كانط حدسًا عقليًّا نظريًّا للماهيات.٥٥ لم تتجاوز المثالية النقدية في نهاية الأمر كونها مجرد جامع لكل أخطاء العصر الحديث وبداية أزمة العلوم الإنسانية فيه: صورية المذهب العقلي، ومادية المذهب التجريبي ثم إلغائهما معًا لحساب الأخلاق والدين. فهي تمثل عودًا إلى سقراط. لم تزد في النهاية على كونها تيارًا عمليًّا خلقيًّا يعلم الناس أفضل أسلوب للحياة. صحيح أن المنطق ظل علمًا معياريًّا قبليًّا ولكن المثالية النقدية لم تتحقق شيئًا — في رأي هُوسِرل — من مشروع الشعور الأوروبي، وهو إقامة «الرياضيات الشاملة» التي أصبحت الظاهريات بديلًا عنها.٥٦
حاول كانط أن يجمع بين التيارين الرئيسيين في عصره: العقلانية عند ديكارت ولَيبنتز، والتجريبية عند لوك وبركلي وهيوم.٥٧ وطبقًا لاعتراف كانط الشهير لقد أيقظت تحليلات هيوم للعِلِّية كانط من سُباته القطعي فاتجه اتجاهًا جديدًا في ميدان الفلسفة التأملية.

وبالرغم من صعوبة الأعمال النقدية الثلاثة، ووعورة أسلوبها، فإن كانط نفسه قد وصف العمل النقدي الأول بأنه جاف وغامض، ويسير ضد الأفكار الشائعة، ومطول. أما العمل النقدي الثاني فإنه مخيب للآمال مقارنة بالأول، بالرغم من أثره البالغ على تطور الفلسفة الخلقية. أما العمل النقدي الثالث فموضوعه الأحكام الجمالية والغائية. أراد كانط أن يفحص في عمله النقدي الأول إمكانية إعادة بناء الميتافيزيقا وهي أم العلوم. فقد أصبحت الفلسفة مجرد نقاش لا ينتهي حول مسائل لا ضابط لها ولا تنتهي إلى أية حلول ولا تتقدم كما تتقدم باقي العلوم. أراد كانط أن يحول الفلسفة إلى علم محكم كما فعل نيوتن مع علم الطبيعة، وحقق ذلك عن طريق فحص نقدي لطبيعة العقل ذاته، العقل النظري القبلي السابق على أية انطباعات حسية أو تجارِب مادية. ويتفق كانط مع التجريبيين على عدم وجود أفكار فطرية سابقة على التجرِبة. ومع ذلك يختلف معهم في أنه ليست كل المعارف مستقاة من التجرِبة. لقد حاول كانط طريقًا ثالثًا بعيدًا عن العقلانيين الذين يجعلون العقل يتجاوز التجرِبة، وبعيدًا عن التجريبيين الذين يجعلون العقل مجرد حصيلة للتجارِب الحسية، تكون فيه الميتافيزيقا مطابقة للموضوعات. ولكن يظل تحليل العقل وإمكانياته هو شرط المعرفة، ودون تحقيق ثورة كوبرنيقية في الفلسفة لا تصبح المعرفة ممكنة. هناك مصدران للمعرفة، الحس والذهن. من خلال التجرِبة تُعطى الموضوعات، ومن خلال الذهن يتم التفكير فيها بتنشيط الذهن لها. وبالتالي يكون نظام الموضوعات واطرادها، والذي نسميه الطبيعة، من صنعنا. الذهن مشرع للطبيعة، تبدأ المعارف بالحدوس الحسية خلال صورتَي الزمان والمكان، الأولى للظواهر الداخلية والثانية للظواهر الخارجية. ثم تنتظم المحسوسات بعد ذلك في الذهن، في اثنتي عشرة مقولة فارغة لإيجاد العَلاقات الارتباطية بينها. وتتم المعرفة بوحدة المضمون والشكل. المادة والصورة. فالحدوس بلا تصورات عمياء، والتصورات بلا حدوس فارغة. فإذا ما تجاوز العقل التجرِبة فإنه يقع في التناقض والوهم. وهذا هو معنى «الجدل». أما مُثُل العقل الثلاثة: النفس والعالم والله فإنها سابقة على التجرِبة كمُثُل أفلاطون، ولكن في عالم الأذهان وليس في عالم الأعيان. وبالتالي يكون العقل النظري عند كانط أشبه بهرم ذي طوابق ثلاثة: الحس وله صورتان، الذهن وبه اثنتا عشرة مقولة، والعقل وبه المُثُل الثلاثة.

وإذا كان «نقد العقل الخالص» يضع الأسس القبلية للأحكام التجريبية فإن «نقد العقل العملي» يضع الأسس القبلية للفعل، خاصة الفعل الخلقي. يكون الفعل خلقيًّا إذا كان متطابقًا مع نفسه أي من القانون الخلقي الذي هو الدافع على الفعل. وهو الأمر الجازم الذي له صياغات عدة أشهرها «افعل بحيث يكون فعلك قانونًا شاملًا». أما الأخلاق الشائعة التي تقوم على الأهواء والانفعالات والعواطف فإنها أخلاق ظنية شرطية لتحقيق الرغبات. الفعل الأخلاقي هو الذي يقوم على مبدأ الواجب، فالدوافع والرغبات والميول ليست بواعث على الفعل الخلقي. مهما كانت قوية وفعالة فإنها ليست موضوعًا للإرادة المستقلة. الشعور الخلقي الوحيد هو الوعي بالقانون الخلقي أي الاحترام وهو مثل الإعجاب في الطبيعة. الإعجاب والاحترام هما العاطفتان الرئيسيتان أساس العلم والأخلاق. وهما اللذان أشار إليهما كانط في عبارته الشهيرة على قبره «شيئان يثيران إعجابي: السماء المرصعة بالنجوم، والقانون الأخلاقي في نفسي».

أما «نقد ملكة الحكم»، فإنه يقدم أسسًا موضوعية للحكم الجمالي وهو حكم الذوق الذي يتميز عن حكم المناسبة أو الملاءمة الذي قد ينطبق على بعض الأفراد دون البعض الآخر. الحكم الجمالي لا يقوم على المنفعة أو الضرر الشخصيين بل على الإحساس بالجميل الشائع عند كل الناس والذي أساسه الحس المشترك. كما يقدم أسسًا موضوعية للحكم الغائي. فالجمال في النفس والغائية في الطبيعة. تعبر الأحكام الغائية عن وحدة الطبيعة أو وحدة العلم. وإن لم تتم البرهنة عليها نظريًّا إلا أنها مفيدة عمليًّا. وتدخل قوانين الطبيعة تحت قوانين أعم وأشمل منها. الغائية تصور قبلي، تجعل قوانين العلم ممكنة. وقد لا تكون في الأشياء بل في النفس مثل الجمال، فالجمال غائية.٥٨ وقد يكون البرهان الوحيد على وجود الله هو البرهان الأخلاقي والبرهان الجمالي. والبرهان الغائي في «نقد العقل العملي» و«نقد ملكة الحكم» وليس في «نقد العقل النظري» الذي تثبت فيه استحالة كل البراهين القبلية، مثل الدليل الأُنطولوجي، والبعدية مثل الدليل الكوني، على إثبات وجود الله.

وإذا كان مشروع الفلسفة الحديثة هو انتصار العقل وإعلاء سلطانه، فالعقل هو «أعدل الأشياء قسمة بين الناس» شعار ديكارت و«الدين في حدود العقل وحده» شعار كانط، يكون السؤال: إلى أي حد يمكن أن يقال إن كانط هو فيلسوف العقل أم فيلسوف الإيمان؟ ما نسبة العقل إلى نسبة الإيمان في فلسفته؟ الحقيقة أن هناك جوانب عقلية عديدة في فلسفة كانط وجوانب أخرى إيمانية قد تَرجح الأولى. فالعقل يشرع للواقع، والحدوس بلا تصورات عمياء. فالعقل هو الذي يقوم بتنظيم المادة الحسية وتحويلها إلى معرفة. والعقل قادر على السيطرة على الانفعالات والرغبات والأهواء والميول. وهو قادر على تصور القانون الأخلاقي ومبدأ الواجب، والأمر الجازم والتوحد مع الإرادة. فهو عقل شامل للنظر وللعمل، للمعرفة والأخلاق. والدين في حدود العقل وحده يرفض العقائد والإيمان بالكتاب المقدس ورواياته التاريخية ويخضعها للتأويل، فالعقل أساس النقل كما هو الحال عند المعتزلة. ويرفض الطقوس ويضع بدلًا منها الفعل الخلقي. ويستبعد المؤسسة الكنسية ليجعل الإنسان في عَلاقة مباشرة مع الله.

ومع ذلك هناك جوانب إيمانية أخرى تَرجح الجوانب العقلية وتفوق عليها. فوظيفة العقل هي التراجع إلى الخلف لحساب الإمكانيات وليس التقدم إلى الأمام خشية الوقوع في القطيعة. فهو عقل دفاعي أكثر منه عقلًا هجوميًّا، عقل حذر وليس عقلًا إقداميًّا. والعقل النظري لا يدرك إلا الظاهر الحسي أما الباطن الحقيقي فلا يدركه إلا العقل العملي، أي إنه موضوع ممارسة للإرادة الحرة، فقد قسم كانط العقل كما هو معروف إلى نظري وعملي، وجعل مهمة النظري إدراك الظاهر فحسب، ومهمة العملي إدراك الباطن. وهي المشكلة التقليدية لثنائية الحقيقة ومناهجها بين العقل والإيمان، وذلك تحقيقًا لهدف كانط الذي عبر عنه في عبارته المشهورة في «نقد العقل الخالص»، في مقدمة الطبعة الثانية ١٧٨٧م: «كان لزامًا عليَّ هدم المعرفة لإفساح المجال للإيمان».٥٩ وهو اللفظ الذي استعمله هيجل فيما بعد، لفظ Aufheben، للدلالة به على حركتي الهدم والبناء في المنهج الجدلي. كما اعتبر كانط القبْليَّ شرطَ البَعدي وأساسًا له، أي إنه مثل ديكارت يؤمن بالمسلَّمات العقلية القبلية التي هي الصياغة الحديثة للعقائد القديمة ويجعلها أساس إدراك الواقع وشرط إمكان التجرِبة. والعقل متناقض لا يمكنه الوصول إلى الحقيقة في بعض الأمور مثل خلق العالم أو تناهيه إلى آخر ما هو معروف من تناقضات العقل الخالص. الإيمان وحده هو الذي يستطيع الفصل فيها واختيار خلق العالم على قدمه، ونهاية العالم على أبديته. وهو ما قرره اللاهوت التقليدي في العصور الوسطى من قصور العقل عن إدراك السر. ويكون كيركجارد أكثر صراحة منه في الإيمان بالتناقض، من حيث هو عار أو فضيحة، إيمانًا مباشرًا. العقل عاجز عند كانط عن حل نقائض العقل الأربعة: هو العالم له أول في الزمان أم ليس له أول؟ هل تُرَد الجواهر المركبة إلى جواهر بسيطة أم لا تُرَد؟ هل قوانين الطبيعة لا حتمية؟ هل الطبيعة ضرورية أم حادثة؟ ويقف حائرًا مترددًا بين الحلين اللذين يؤيدهما العقل بنفس القوة والمنطق. جدل العقل عند كانط هو جدل الوهم illusion وليس جدل الحقيقة، وهو ما حاول هيجل إصلاحه فيما بعد بتحويله من جدل الوهم إلى جدل الحقيقة. والإيمان بمُثُل العقل الثلاثة عند كانط: خلق العالم وخلود النفس ووجود الله هو الإيمان بأمهات العقائد في كل دين، وهي عقائد لا تخضع للمعرفة البشرية حسية كانت أم عقلية. هي مُثُل أقرب إلى الأفكار الفطرية عند ديكارت، يولد الإنسان بها. ولا توجد أدلة عقلية على وجود الله عند كانط لا قبلية مثل الدليل الأُنطولوجي الذي يقوم على استنباط الوجود من الفكر، والوجود لا يُستنبط، ولا بعدية مثل الدليل الكوني الذي يقوم على استقراء العلة الاولى من العلل الثانية، والقِدم من الحدوث، والضروري من الممكن لأن الطبيعة لا تنتج فكرًا. الدليل الوحيد على وجود الله هو الدليل الأخلاقي، فعل الواجب، والالتزام بالقانون، والأمر الجازم. وهو الدليل الغائي أو الجمالي، إحساس ذاتي خالص بجمال الرُّوح وغائية الطبيعة، وهو معنى العبارة الشهيرة على قبره، فالله موضوع إيمان قلبي خالص، أقرب إلى التقوى الباطنية. وهو المذهب الذي كان عليه كانط عند زِنزِندورف وشبنر. وعلى هذا النحو يكون كانط قد جعل العقل مبررًا للإيمان التقليدي كما هو الحال عند ديكارت.٦٠
ولكن أهمية كانط ترجع إلى أنه خلق عالمًا فلسفيًّا جديدًا طبع الفلسفة الأوروبية كلها بطابعه. ديكارت وضع المنهج، وكانط وضع المذهب. وبصرف النظر عن كبار الكانطيين في مرحلة الذروة: فشته، وهيجل، وشلنج، وشوبنهور، استمرت الكانطية لدى الكانطيين الجدد في القرن التاسع عشر والعشرين في ألمانيا عند فريس، وليبمان، ولانجه، وزِمِّل، وفاهِنجر. واستمرت الكانطية الجديدة أيضًا في ألمانيا تجمع بين الميتافيزيقا وعلم النفس عند كوهين، وناتورب، وريل، وفندلباند، وريكيرت، وهُوسِرل، وهَيدجر، وكاسيرر، وفي أمريكا وإنجلترا عند كيرد، وجرين، وبرادلي، وهويسون، ورويس، وسميث، وبيتون. وفي فرنسا عند رينوفييه.٦١ وقد قام كانطيون آخرون بنفس الدور مستقلين عن كانط ومحاورين له مما يدل على أن رُوح العصر تخلق فكرها. ومن أمثال هؤلاء نيقولاي الذي حاول تطوير مجمع تركيبي بين العقلانية والتجريبية على نحو شعبي كما حاوله كانط على أساس علمي ونقدي.٦٢ بل يمكن القول إن الفلسفة النقدية عند كانط هي صياغة محكمة لمحاولة نيقولاي كما كان برجسون صياغة محكمة لمحاولات جويو وفوييه في فلسفة الحياة. وكما ظهر الفلاسفة اليهود متمثلين رُوح الحضارات التي يعيشون فيها كما وضح ذلك عند فيلون والحضارة اليونانية، وموسى بن ميمون والحضارة الإسلامية، واسبينوزا والفلسفة العقلانية في القرن السابع عشر في العصور الحديثة كذلك ظهر يهود محدثون يتمثلون رُوح العصر الحديث مثل عقلانية كانط في القرن الثامن عشر. فظهر سالومون ميمون الذي اعتبره كانط ناقده الثاقب.٦٣ فقد حاول إقامة مذهب في المنطق الرمزي ابتداءً من وحدانية تأملية أثرت في الفلاسفة الذين أتوا بعد كانط. ولكن الذي عبر عن رُوح كانط هو مندلسون الذي أصبح ممثل حركة التنوير اليهودي في القرن الثامن عشر مستلهمًا كل التراث العقلاني القديم عند أفلاطون، ومفسرًا كانط بأفلاطون، وأفلاطون بكانط قبل الكانطيين الجدد.٦٤ حاول إيجاد البراهين العقلية على خلود الرُّوح، وعلى وجود الله، ويعرض اليهودية باعتبارها دين العقل أكثر من المسيحية. كما دعا إلى فصل الكنيسة عن الدولة فأصبح من رواد العلمانية الحديثة.

(٢) بركلي والمثالية الذاتية

لم تستأثر ألمانيا بالبداية الثانية للوعي الأوروبي على يد كانط بل ساهمت في ذلك بريطانيا على يد بركلي.٦٥ وهو حلقة متوسطة بين ديكارت وكانط لأنه أسبق من كانط بقليل. عُرف في تاريخ الفلسفة بأنه مؤسس المثالية الذاتية التي تنكر وجود العالم الخارجي وتجعله عالمًا ذهنيًّا خالصًا. فقد أنكر وجود الجواهر المادية، وأثبت أن الأشياء مجموعة من الأفكار والمحسوسات، توجد في الذهن ما دامت مدركات حسية. وقد توصل إلى ذلك عن طريق نظرية في الرؤية. فالبصر لا يجعلنا ندرك الأشياء مباشرة بل عن طريق مظاهر مرئية متميزة عنها وليست متميزة عنا. فهي جزء منا وليست جزءًا منها. في أذهاننا وليست في العالم الخارجي. المحسوسات أفكار، والأشياء مجموعة من الأفكار توجد قدر وجود الذهن، ومشروطة به. ولا يعني ذلك أن الأشياء أقل واقعية مما لو كانت مستقلة عن الذهن. والقبلي شرط البعدي كما هو الحال عند كانط، والذهن والحس شرطا الإدراك. لذلك نقد بركلي لوك كما نقد كانط هيوم. الأشياء مجرد عَلاقات للإدراك وليس لها وجود مستقل عن الذات المدرك. وعلى هذا النحو يكون بركلي أقرب إلى مالبرانش، خاصة وأن مالبرانش له أيضًا نظرية في الرؤية. ولكن يعود بركلي إلى العالم الخارجي عن طريق الأخلاق والدين بالرغم من أنه لم يكمل أعماله الخلقية. واقعية الأفكار بسبب الأخلاق وليس بسبب المعرفة، وكأن الأخلاق هي الباطن والمعرفة هي الظاهر كما هو الحال عند كانط في تقابل العقل العملي وموضوعه الأخلاق مع العقل النظري وموضوعه المعرفة. وموضوعات الرؤية لغة شاملة وضعها خالق الكون من أجل توجيه سلوكنا نحو الخير. فكما يرى مالبرانش كل شيء في الله فكذلك يرى بركلي الله في كل شيء. وكما أن الله هو الضامن للصدق عند ديكارت فهو الجامع للأفكار والحواس عند بركلي. بل لقد دافع بركلي عن الإيمان المسيحي التقليدي ضد المفكرين الأحرار وأصحاب التأليه الطبيعي. كما استعمل العلم الطبيعي وموضوعاته مثل الأثير لإثبات التثليث. فالأثير هو حكمة الرُّوح القدس. لذلك عُرف بركلي بأنه مؤسس الظاهرية القائمة على وجود الله.٦٦ جمع بركلي بين مثالية لوك الحسية وبين الإيمان التقليدي فأصبح حسيًّا إيمانيًّا كما كان جاسندي صديق ديكارت ماديًّا رُوحيًّا، أبيقوريًّا مسيحيًّا. أراد بركلي التطهر من العالم المادي عن طريق الإيمان بالله فانتهى إلى الذاتية الحسية التي يضمنها الله، وبالتالي عاد إلى واقعية الأفكار والمبادئ الأخلاقية. لذلك كان همُّ سارتر الأول في مقدمة «الوجود والعدم» الحوار مع بركلي حتى يخلِّص العالم من ذاتيته، ويعود به إلى العالم الخارجي الذي يعيش فيه الإنسان. وقام كانطيون آخرون مستقلون في بريطانيا يعارضون هيوم ولوك ويثبتون دور الفكر دون رده إلى الحس، واستقلال العقل عن التجرِبة. فناقش برايس هيوم بموضوعية تامة.٦٧ وقدم نظرية في الأحكام قائمة على مفاهيم الصواب والإلزام كمفاهيم أساسية للأخلاق، موضوعية وليست مجرد إسقاط إنساني، بل وقبلية كما هو الحال عند كانط. كما تصدى توماس ريد لشك هيوم وتجريبيته.٦٨ وتصور الأفكار كوحدات مستقلة للعقل. وحاول تأسيس نظرية في المعرفة بديلة عن نظرية هيوم واعتمادًا على الحس المشترك. وجعل العقل قادرًا على أن يجعل الإنسان في اتصال مباشر مع واقع مستقل عنه.٦٩

(٣) الرومانسية والتصوف

ثم حدث رد فعل رومانسي وصوفي على عقلانية القرن الثامن عشر. وخرج من كانط الصوري تلاميذ وأصدقاء له يثورون على صوريته من أجل حياة القلب والعاطفة. وقد ظهر ذلك عند تلميذه وصديقه شيلر ومعاصره جاكوبي وعند اثنين من الصوفية المعاصرين له: سويدنبُرج وهامان. وبالرغم من أن شيلر ترك الفلسفة بالمعنى الدقيق إلا أن مساهماته في علم الجمال كان لها أثر كبير في تطور العلم.٧٠ بدأ بتفرقة كانط بين الجميل والجليل وبتحليله للحكم الجمالي والحكم الغائي في «نقد ملكة الحكم». فهو تلميذ كانط في الجمال وليس في الأخلاق. جعل الخبرة الجمالية مركزية في أي وصف للطبيعة الإنسانية. وأقام نظرية في الجمال باعتباره نشاطًا حرًّا متمثلًا في اللعب، أخذها عنه كثيرون بعده باعتبارها محور النظرية الجمالية. وكان يعني باللعب المعنى العام، أي النشاط الإنساني الحر من كل قيد. ويقرن شيلر الجمال بالتربية في عصر كان علم التربية أيضًا يتخلق عند بستالوتزي في سويسرا، ويؤسس التربية الإنسانية على الجمال الذي يقوم بدوره على الحس والعقل وعلى مطالب كل منهما، ويجعلها أساس التطور الخلقي والاجتماعي. فالإحساس بالجمال شرط الأخلاق والاجتماع. وقد استطاع بمسرحياته أن يعبر عن مواقفه السياسية الثورية وهو على أعتاب الثورة الفرنسية وأثناء تحول العقلانية كنظرية في المعرفة أساسًا إلى فلسفة عامة في التنوير، في المجتمع والأخلاق والسياسة. ولكنه انقلب على الثورة الفرنسية عندما تحولت من حرية للإنسان وللشعوب إلى طغيان وتسلط وقهر للشعوب. وهو نفس التحول الذي حدث لكثير من المدافعين عن الثورة الفرنسية أولًا كحركة تحرر قبل أن يحول نابليون نفسه من ثائر إلى إمبراطور، مثل فشته وبيتهوفن. ونقد جاكوبي العقلانية، وأسس «فلسفة العاطفة والإيمان».٧١ فالعقل قاصر على إثبات الأشياء خارج التجرِبة الذاتية. ولا يمكن معرفة الإيمان الديني بالعقل. لذلك ارتبطت الفلسفة العقلية بالإلحاد، والفلسفة القبلية بالإيمان. والمعرفة نوعان: مباشرة عن طريق التجرِبة الباطنية وهي الميتافيزيقا، ومتوسطة بتدخل الحواس والعقل وترجع إلى المباشرة أيضًا. ولا يتجاوز نشاط الذهن المعرفة المباشرة ولا ينقدها. وقد تطورت فلسفته إلى فلسفة في الحياة والوجود والتصوف. خرج من مذهب التقوى مثل كانط دون تنظيره بالعقل. وأبقى على التجرِبة الحية الباطنية فكان من أوائل الفلاسفة الرومانسيين قبل شلايرماخر. وواضح من أعماله مدى تقاربه مع كل من اسبينوزا وفشته، مع الأول في التجرِبة الباطنية التي تصل إلى وحدة الوجود، ومع الثاني في الذاتية جوهر الوجود، ومدى تباعده عن هيوم الذي انتهى إلى الإلحاد بفضل تحليل العقل. أراد جاكوبي أن يرد الاعتبار إلى الإيمان باسم التجرِبة الباطنية. ثم قوِيَ الجانب الصوفي في الوعي الأوروبي على يد سويدنبُرج وهامان. تأثر سويدنبُرج بالغنوصية والقبالة واليهودية.٧٢ وأكد هامان على أهمية المعرفة المباشرة ودورها مثل جاكوبي، وعارض العقلانية لصالح القوى الخلاقة للحدس الصوفي.٧٣ أثبت قانون وحدة الأضداد كقانون عام للوجود. وكان له أبلغ الأثر على جدل فشته وهيجل وشلنج. وهكذا يبدو أن الرومانسية والتصوف كانا في نفس الوقت مع العقلانية والتنوير ورد فعل عليهما. فهما بعد العقلانية وقبل التنوير وكأن الرُّوح الأوروبي قد انشق إلى قسمين: عقلاني وصوفي، أبولو وديونيزيوس بتعبيرات نيتشه.

رابعًا: التجريبية (القرن الثامن عشر)

استمرت التجريبية في القرن الثامن عشر في نفس الخط النازل من تجريبية القرن السابع عشر عند بيكون وهوبز ولوك. وأخذت منحًى ماديًّا صريحًا يقوم على تحليل الجهاز العصبي. ونشأ علم النفس الارتباطي، وقامت المذاهب الأخلاقية النفعية وعلى أسس تجريبية. وقد ظهر ذلك أساسًا في إنجلترا عند جراي، وهارتلي، وهيوم، وبريستلي، وبالي، في نظرية المعرفة، ثم عند هتشسون، وبتلر، في الأخلاق، وآدم سميث في الاقتصاد. وظهر أيضًا بصورة أوضح في فرنسا عند لامتري، وهلفسيوس، ودي شامب، وكوندياك، وكابانيس، ولابلاس، ووثيق الصلة بالسياسة أي بالثورة الفرنسية. وكان نادر الظهور في ألمانيا باستثناء هردر مؤسس فلسفة التاريخ الطبيعي. ويبدو أن الميتافيزيقا في ألمانيا وبدايات فلسفة الرُّوح منعت من ظهور أمثال هذه الفلسفات المادية الصريحة. وبالرغم من تشابه هذه المذاهب المادية فيما بينها وصعوبة تصنيفها طبقًا للسمات الخاصة بها فإنه يمكن تصنيفها في ثلاث: التجريبية الإنجليزية، المادية الفرنسية، التجريبية في الأخلاق والاقتصاد.

(١) التجريبية الإنجليزية

بدأت التجريبية الإنجليزية بجراي وهارتلي قبل أن تتم صياغتها كاملة عند هيوم ثم يتم تطبيقها في السياسة دفاعًا عن الثورة الفرنسية عند بريستلي، وفي الأخلاق وتأسيس المذهب النفعي واللاهوت الطبيعي عند بالي. وترجع أهمية جراي في أثره الكبير على هارتلي في صياغته لمبدأ التداعي أو الارتباط في علم النفس، وأيضًا في تأسيس المذهب النفعي.٧٤ وصاغ هارتلي نظرية تداعي المعاني كنتيجة مباشرة لاهتزازات الأعصاب.٧٥ فالموضوعات الخارجية تؤثر في الحواس من خلال الجهاز العصبي إلى المخ. ويمكن تحليل عمليات الفكر في مجموعات تُرد إلى المدركات الحسية التي يمكنها فهمها عن طريق قانون التداعي. عَلاقة النفس بالبدن عَلاقة عِلية. فلا فرق بين علم النفس وعلم وظائف الأعضاء. ويعتبر مؤسس علم النفس. وكان له أبلغ الأثر على بريستلي وجيمس مِل. ثم بدأ هيوم بداية جديدة للتجريبية الأوروبية بعد بيكون تعادل بداية كانط الثانية للعقلانية الأوروبية بعد ديكارت.٧٦ أيقظ كانط من سباته، إذ حفزت التجريبية التي تنكر تصورات الذهن وقوانين العقل وترجعهما إلى الحس وإلى الترابط الحسي؛ حفزت العقل للدفاع عن نفسه وإثبات التصورات القبلية كما أثبت ديكارت من قبل الأفكار الفطرية. وضع هيوم نفسه في تاريخ الفلسفة بإنكاره قانون العِلِّية وكل القوانين والتصورات القبلية وإرجاعها إلى تداعي المعاني وارتباطات الحس. ويقصد هيوم بالتجرِبة الخبرة النفسية أكثر من التجرِبة العلمية. فهي خبرة إنسانية عامة تعبر عن وضع الإنسان في الكون أكثر منها تجرِبة علمية خاصة. لذلك يتحدث هيوم أيضًا مثل كانط عن الثورة الكوبرنيقية التي تعني وضع الإنسان في مركز الكون، ودراسة العالم من خلال الإحساسات. ويؤسس العلوم بمنهج تجريبي في مقابل المنهج الهندسي عند اسبينوزا. ويطبقه في شتى العلوم الإنسانية، في الفلسفة والأخلاق، وعلم النفس، والدين، والتاريخ. والمنهج التاريخي الذي يقوم على الاستقصاء وتحليل الوثائق أقرب إلى المنهج التجريبي الطبيعي. كما أنه اختار عدة موضوعات اقتصادية لدرجة أنه يقارن بآدم سميث في «ثروة الأمم». ذاعت شهرة دراساته في الدين الطبيعي وموقفه النقدي من الدين الرسمي. إذ لا نستطيع أن نعرف من الدين إلا أقل حد ممكن عن طريق اللاهوت الطبيعي. وأنكر المعجزات والتاريخ الخرافي كما فعل اسبينوزا من قبل. ويُعتبر ممثل التنوير الإسكتلندي. فقد رحب بالثورة الأمريكية بل وكان له أبلغ الأثر في صياغة مبادئها، لا يقل عن أثر لوك ومونتسكيو. ويرى هُوسِرل أن إنكار هيوم لقانون العِلِّية وكل قانون عقلي مستقل عن الحس خراب الفلسفة وإفلاسها، لا فرق في ذلك بين الحسية الانطباعية عند هيوم وبين المثالية الذاتية عند بركلي. فضلًا عن أن كليهما تيار أنا وحدي يستحيل فيه إقامة خبرة مشتركة أو تأسيس موضعية عقلية.٧٧ ثم استمر بريستلي في تيار بيكون وهوبز بالإضافة إلى بحوثه العلمية.٧٨ دافع عن الثورة الفرنسية. وبعد الاضطهاد هاجر إلى أمريكا. ثم أسس وليم بالي نظرية «التشهيل» Expediency، أي تسهيل العمل، وبالتالي أرسى بعض قواعد المذهب النفعي في الأخلاق.٧٩ فصحة الفعل مرهونة بما يحققه من فائدة. ولكنه عُرف خاصة بأنه مؤسس اللاهوت الطبيعي، وهو استمرار للاهوت الطبيعي في العصر الوسيط كما ازدهر عند توما الأكويني. يعتمد على تحليل الطبيعة كوسيلة لإثبات قضايا الإيمان، وأن حقائق العلم طريق إلى إثبات صحة العقائد، وأن الطبيعة خير موصل إلى الله. وهو تيار لاهوتي صرف يبرر القديم باستعمال الجديد. وقد يكون الإيمان بالقديم في هذه الحالة عند بعض التقليديين أكثر صدقًا من تبريره عن طريق الفكر العلمي وتحليل الطبيعة الذي كان إلى حين مصدر كفر وإلحاد عند المجددين. وهو لاهوت قريب من طبيعيات المتكلمين التي هي أقرب إلى الإلهيات المقلوبة منها إلى الفكر العلمي، وأقرب إلى برامج «العلم والإيمان» التي تستغل نتائج العلم الحديث الذي نشأ في الغرب وبفضل مناهجه العلمية لتبرير عقائد الإيمان التي عجزنا عن فهمها.٨٠

(٢) المادية الفرنسية

يغلب على المادية الفرنسية تحليل النفس باعتبارها إحدى وظائف الجهاز العصبي. وكان معظم الماديين الفرنسيين قِسِّيسين أو ثوارًا. وإذا سهُل تصور المادي الثائر فإنه يصعب تصور القسيس المادي. وكان أشهرهم دي لامتري، هلفسيوس، دي شامب، كوندياك، هولباخ، كابانيس، لابلاس. أقام دي لامتري فلسفته على طبيعيات ديكارت، النصف المادي منه، وحسية لوك.٨١ وأثبت وجود مادة حية ممتدة وحساسة بمثابة صورة للمادة ولا فرق بين العضوي والنباتي والحيواني من حيث الكيف. أنكر شمول الفكر لأنه مرتبط بالإنسان وبتطور المخ. هو مجرد ارتباطات بين عناصر من الحس والذاكرة. يُعتبر ممثلًا للمدرسة المادية الآلية ولكنه اقترب أيضًا من نظرية التطور. وفي مجال السياسة رأى أن الأفعال الخلاقة للأفراد تؤثر في مجرى التاريخ. ودافع عن الدكتاتور المستنير أو المستبد العادل. وفي الدين جعل الإلحاد للخاصة والإيمان للعامة، كما قال حكماء المسلمين من قبل في إثبات الحقيقتين. وتقوم فلسفة هلفسيوس على حسية لوك بعد التخلص من مثاليتها الذاتية.٨٢ تدرك المادة من خلال الحس، والذاكرة حس، وباقي ملكات المعرفة حس، والفكر ارتباطات حسية، وكل ما في العقل يأتي من الحس. والانفعالات أساس تطور الشخصية، وحب اللذة وتجنب الألم أساس الأفعال. تختلف الأذهان فيما بينها في درجة التعليم. ويرجع هذا الاختلاف إلى البيئة. لذلك لا بد من تغيير النظام الإقطاعي إلى نظام رأسمالي حتى تنمو الشخصية. وكان لمؤلفاته أبلغ الأثر في نشأة المذهب النفعي عند بِنتام. وكان دي شامب أكثر الفلاسفة الماديين اتجاهًا نحو الميتافيزيقا، حتى إنه جمع في نفس الوقت بين عقلانية اسبينوزا ومادية التجريبيين.٨٣ يقوم مذهبه على فكرة الكل الشامل.٨٤ وهي الوحدة الأولى التي تغلف كل الأجسام الطبيعية، ماهية تتجاوز الحس ولكن يمكن للعقل إدراكها. حاول تأسيس ميكانيكا ذهنية كما حاول نيوتن من قبل تأسيس ميكانيكا الشعور. واعتمد على مبدأ تداعي المعاني السائد في كل المذاهب الحسية منذ لوك وهيوم. القيمة الأخلاقية انطباعات وتداعيات، تمامًا مثل الموضوعات الحسية. وفي فلسفة الدين، يرى أن الله فكرة صنعها الإنسان، وأن الإلحاد ميزة الخاصة المستنيرة. أما كوندياك فقد أُعجِب بلوك، وتابعه في تحليل ملكات النفس الإنسانية ومصادرها في الحس.٨٥ واعتبر إرادة الإنسان وذهنه مجرد تغيرات في تراكم الانطباعات الحسية والانطباعات الناشئة عن تنبيه أعضاء الحس. وهاجم هولباخ الدين والفلسفة المثالية، خاصة نظريات بركلي.٨٦ إذ ينشأ الدين من جهل البعض وخوف البعض الآخر وخداع فريق ثالث. والمثالية وهم في نظر الحس المشترك. والمادة فعل الذرات ونشاطها. أنكر الوجود الموضوعي للمصادفة، وانتهى إلى تصور آلي للطبيعة. وفي السياسة أخذ أيضًا موقفًا حسيًّا ضد الغنوصية، وأخذ صف الملكية الدستورية ووقف أحيانًا مع الدكتاتور المستنير أو المستبد العادل. ومع ذلك له نظرة مثالية للمجتمع، فالعالم يحكمه الفكر، والمشرعون لهم الدور الحاسم في التاريخ. ويتم التحرر عن طريق التربية، تربية المواطن الصالح. وأفضل نظام سياسي هو طاعة البشر تحت رعاية الحكومات البرجوازية. هذا هو حكم العقل! وتبنى كابانيس فيزيقا ديكارت وعارض ميتافيزيقاه.٨٧ كانت الفيزيولوجيا موضوع بحثه الأساسي، إذ يرجع الشعور أساسًا إلى الوظائف الفيزيولوجية للإنسان ونشاط الأعضاء الداخلية، ويحتوي المخ على الأفكار، والعلوم الطبيعية أساس العلوم الإنسانية، والطب والفيزيولوجيا كفيلان بتغيير أخلاق المجتمع، ومعرفة بنية العضو الإنساني ونشاطه أساس فهم الظواهر الاجتماعي وتغيراتها التي طرأت عليها. وفي آخر حياته أصبح حيويًّا يؤمن بوجود الرُّوح المستقلة. وآمن لابلاس بالحتمية الإلهية.٨٨ وأسس نظرية الاحتمالات على حالات متساوية في الإمكانية. والبدائل ممكنة بناء على تطبيق مبدأ الحياد. وقد دفعه إلى ذلك النجاح الكبير الذي لاقته ميكانيكا نيوتن، حتمية النظام الشمسي دون حاجة إلى تدخل إله. وهو افتراض، كما قال نابليون، لا حاجة له به لتفسير نظام العالم.

(٣) التجريبية في الأخلاق والاقتصاد

لم تكن التجريبية نظرية في المعرفة أو تصورًا للعلم بل كانت أيضًا مذهبًا في الأخلاق والاجتماع والسياسة والاقتصاد. وظهر فلاسفة أخلاقيون واقتصاديون يعتمدون على التجرِبة في تأسيس مذاهبهم. ومن هؤلاء هتشسون، وبتلر، وآدم سميث. أسس هتشسون مذهب الحاسة الخلقية التي بدأها شافتسبري.٨٩ وأسس تجريبيًّا الحكم الخلقي عن طريق الحاسة الداخلية التي تدرك الفضيلة. وأسس تجريبيًّا الحكم الجمالي عن طريق الحاسة الداخلية التي تدرك الجمال. وهي في النهاية حاسة واحدة تدرك الخير والجمال على طريقة اليونان والمسلمين في التوحيد بين الحق والخير والجمال. وساهم بتلر في تأسيس الفلسفة الأخلاقية والدينية،٩٠ ودرس الأخلاق على أسس تجريبية في الطبيعة الإنسانية، وبيَّن تشابكها وتعقيداتها وصعوبة قيامها على أساس واحد كما هو الحال عند هوبز أو شافتسبري حتى يصورانها قائمة على مبدأ واحد، الأنانيَّة أو الغيرية. وعند بتلر لا يتعارض المبدآن، فكلاهما يتجليان في سلوك الإنسان وفي صور عديدة. ويتميز الإنسان على غيره من المخلوقات بأنه مملكة عليا للتفكير والشعور. وبدون سؤال أو استفسار يتوجه الإنسان نحو الصواب أو الخطأ بناء على شعور غريزي يقوم على الإيمان بالله، فالله هو أساس الشعور بالأخلاقية، حب الذات وإيثار الغير. ويثبت بتلر أن برهان الغائية والخلق في الطبيعة الذي يؤدي إلى إثبات موجود عاقل عند أنصار التأليه الطبيعي المحدثين Deistes هو نفسه ما ينتهي إليه المؤلهة أصحاب دين الوحي Theistes الذين يتصورون هذا الموجود العاقل هو المرشد الأخلاقي والقاضي للبشرية. دين الوحي إذن ليس أقل عقلانية من دين الطبيعة. وما يأتي به الأنبياء متفق مع ما يأتي به العقل، وكأن بتلر يعيد الدرس المستفاد من قصة «حي بن يقظان» عند ابن سينا وابن طفيل. وأسس آدم سميث نظرية العواطف الخلقية، ومؤداها أن التعاطف واقعة أساسية للشعور الخلقي، تعاطف المحايد والشاهد المنصف، وهو أساس الأخلاق.٩١ وقدم برنامجًا أخلاقيًّا اجتماعيًّا يقوم على دراسة قوى السوق ومطورًا الفلسفة الاقتصادية القائمة على الاقتصاد الحر كاقتصاد طبيعي. إذ تقضي المصلحة العامة أن يحقق الفرد مصلحته الخاصة بحرية تامة ما دام لا يخرق قوانين العدالة. وبذلك يقوم الفرد بتنمية مصلحة الجماعة على نحو غير مباشر وبطريقة أكثر فاعلية مما لو قصد إلى ذلك مباشرة. وبالتالي أقام آدم سميث المفاهيم الرئيسية في علم الاجتماع الإسكتلندي الخاصة بالنتائج غير المقصودة للأفعال المقصودة.

خامسًا: التنوير (القرن الثامن عشر)

فلسفة التنوير في القرن الثامن عشر هو اجتماع العقلانية والتجريبية معًا في فلسفة واحدة ثم توجيههما نحو النقد الاجتماعي من أجل تغيير الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. فهي التي ورثت عقلانية وتجريبية القرنين السابع عشر والثامن عشر معًا. فحدث من هذا التراكم التاريخي تغير كيفي وهو اندلاع الثورة الفرنسية التي هزت الوجدان الأوروبي، وأعادت بناءه من جديد ليس فقط في فرنسا بل في كافة أنحاء الأقطار الأوروبية، في ألمانيا وإنجلترا بل وامتدت إلى أمريكا. وبالرغم من وجود سمات عام لفلسفة التنوير في كل الأقطار الأوروبية مثل اعتبار أن للعقل سلطانًا على كل شيء، وأن العقل أساس النقل كما هو الحال في تراثنا الاعتزالي الفلسفي، وأنه مقياس لصحة العقائد وأساس للعلم ووسيلة للقضاء على الخرافة والجهل والخوف، واتجاه نحو العالم الحسي فأصبح العقل والطبيعة أساسين جديدين للوحي القديم إلا أنه اتسم بخصوصيات أو بسمات غالبة في كل قطر. فهناك التنوير الفرنسي الذي تزعمه فلاسفة دائرة المعارف الفلسفية الذين مهدوا للثورة الفرنسية مثل ديدرو، ودالمبير، ومونتسكيو، وروسو، وفولتير، ونايجون، والذين أسسوا فلسفة التاريخ مثل تورجو، وكوندرسيه، والذين حللوا الأوضاع السياسية والاقتصادية مثل موريللي، ودي مابلي، والذين حاولوا القيام بالثورة الاشتراكية مثل بابيف، ومارشال. وهناك التنوير الإيطالي الألماني الذي غلبت عليه فلسفة الفن والتاريخ مثل فيكو، وفِنكِلمان، ولسنج، وهردر. وهناك التنوير الإنجليزي عند بيرك الذي أيد الاستقلال الأمريكي وعادى راديكالية الثورة الفرنسية، والأمريكي بداية من إدواردز وألين حتى بنيامين فرانكلين وتوماس بين. وأخيرًا هناك التنوير الروسي الذي مارس التنوير السياسي بالفعل من أجل إحداث ثورة اشتراكية، كما وضح ذلك عند سكوفورودا وراديشيف.

(١) التنوير الفرنسي

يُعتبر التنوير الفرنسي أكثر جرأة من التنوير الإيطالي والألماني والإنجليزي وربما الروسي أيضًا؛ لأنه هو الذي تصدى للكهنوت والنظم الملكية وللعقائد والنظم القائمة على التعصب والخرافة والجهل والهوى. كانت الطبيعة أكثر استقلالًا، وأقرب إلى الحس، وأبعد عن الإشراقيات. وكان العقل أقرب إلى التحليل منه إلى التبرير، يتسم بالرفض أكثر مما يتسم بالقبول. لذلك انتهت فلسفة التنوير في فرنسا إلى ثورة اجتماعية وسياسية لارتباطها بالأرض وبحياة الناس. ظهر ذلك بوضوح لدى فلاسفة دائرة المعارف: ديدرو ودالمبير، وفولتير خاصة في القاموس الفلسفي، أو في كتابات مونتسكيو وروسو وغيرهم من فلاسفة القرن الثامن عشر في فرنسا. وللتحقق من صحة ذلك يكفي مقارنة «الدين في حدود العقل وحده» لكانط و«القاموس الفلسفي» لفولتير ليتضح كيف سار كانط إلى منتصف الطريق وكيف سار فولتير حتى النهاية. وبهذا المعنى يكون فولتير شبيهًا باسبينوزا من حيث إثباته لسلطة العقل وحده ورفضه لكل ما عداه وتصفية مظاهر الخرافة في التراث الديني.٩٢
ولقد لعبت «دائرة المعارف أو القاموس المعقول للعلوم والفنون والصناعات» ١٧٥١–١٧٨٠م دورًا هامًّا في الإعداد للثورة الفرنسية. أعطت صورة لمستوى العلوم في ذلك العصر حتى ١٧٧٢م. كان دالمبير على رأسها وعاونه في ذلك ديدرو، وشارك في كتابة مقالاتها مونتسكيو، وروسو، وفولتير، وهلفسيوس، وهولباخ، عقلانيون وماديون. وكان الماديون خاصة ضد الإقطاع، ومع عدم تدخل الكنيسة في شئون العلم، والتقدم الاجتماعي، وضد الطغيان ومع تحرر الإنسان من القهر الطبقي. كانوا مع العلم ضد الجهل، ومع حرية الفكر ضد التعصب الديني، ومع الديمقراطية ضد المَلكية، ومع الجمهورية الاشتراكية ضد الإقطاع. كانت مهمتهم الإعداد بالفكر للثورة دون القفز على المراحل والانتقال من المَلكية والإقطاع إلى الجمهورية والاشتراكية مباشرة، كما حاولنا نحن إبان الثورات العربية الأخيرة. فالتنوير شرط التثوير. لقد استطاع فلاسفة التنوير خلق تيار اجتماعي سياسي، حاول ممثلوه تغيير واقعهم ونقد عيوبه وأخلاقياته وعاداته وسياساته وأساليب حياته. نادوا بأفكار الخير والعدالة والمعرفة العلمية. وبالرغم من أنهم حسيون إلا أنهم مثاليون. فالوعي لديهم يقوم بدور حاسم في تنمية المجتمع، ولكن الناس لا يفهمون طبيعته التي هي طبيعتهم الخاصة. قاوموا الكهنوت والإقطاع والدجماطيقية والمدرسية والتعصب. وكانوا ممثلي الفكر الاجتماعي والفكر الطوباوي في القرن الثاني عشر، وما زال منتشرًا بين عديد من المثقفين الثوريين الذين لم يتحولوا إلى الماركسية بعد باعتبارها ثورة علمية. بل شارك فيه الشعراء من أمثال شيلر وجوته دفاعًا عن الإنسان وأفكار الحرية والعدالة والمساواة ووحدة البشرية. وفي المجتمعات التراثية التي ما زالت في مرحلة تحول من القديم إلى الجديد يكون التنوير خطوة نحو التثوير، والتخلص من العوائق القديمة شرط تبني مقومات التقدم الجديدة، والسلب سابق على الإيجاب، والهدم يأتي قبل البناء. ودون التنوير يتم بناء الجديد بجوار القديم وتحدث الازدواجية في الشخصية الوطنية، وسرعان ما يشد القديم أنظار الناس لطول الفهم له ولتعبيره عن أصالتهم فيتركون الجديد الذي لا تلتف حوله إلا القلة. وإذا ما أراد البعض في حماسهم للثورة العلمية، والماركسية أحد نماذجها، عدم التنازل عنها فإنها تكون هدفًا يتم تحقيقه عبر وسيلة هي التنوير. ويدعون إلى ماركسية ليبرالية تأخذ بعين الاعتبار تطلع المجتمعات التراثية إلى الحرية، أو ماركسية تاريخانية تأخذ بعين الاعتبار المرحلة التاريخية الخاصة التي تمر بها المجتمعات التراثية.٩٣ وقد يكون من بين أسباب نقص الحريات في البلدان الاشتراكية، خاصة في الاتحاد السوفيتي، أنه لم يمر بمرحلة تنويرية كافية تتأكد فيها قيم الحرية والليبرالية، وانتقل من الإقطاع إلى الاشتراكية مباشرة دون المرور بالمرحلة المتوسطة وهي مرحلة الليبرالية. وإن الانتقال من الإقطاع إلى الليبرالية حيث تتأكد قيم الفرد، ثم من الليبرالية إلى الاشتراكية حيث تتأكد قيم الجماعة ليأخذ الحسنيين معًا، ويحقق الهدفين في مرحلتين تاريخيتين متتاليتين، الحرية والاشتراكية.٩٤
انتقل ديدرو من التأملية إلى المثالية ومنها إلى المادية مما جعله عرضة للاتهام بالإلحاد في نظريته للمعرفة والنفس والطبيعة.٩٥ فالمعرفة الحسية إذ تنشأ المعارف والأفكار من الحواس من خلال الملاحظة والتجرِبة. والعلوم التجريبية ممكنة نظرًا لوجود العِلِّية في الطبيعة. وكان سبَّاقًا في تحليله للانعكاسات الشرطية ببحثه في الارتباطات النفسية، فالإنسان والحيوان كلاهما يدركان ويحسان ويشعران ويتذكران. ورفَض فكرة التلقائية المثالية في الفكر، فكل استدلال في الطبيعة، وكل ما نعرفه يأتي من الطبيعة من خلال التجرِبة. طوَّر مفهوم لوك عن الصفات الأولية والثانوية مؤكدًا أن الثانوية أيضًا موضوعية، وتبنَّى مفهوم الحساسية الشاملة للمادة. تصوَّر الطبيعة على نحو مادي آلي مع دي لامتري وهولباخ مع إدخال بعض عناصر الجدل بين المادة والحركة والتغير الأبدي لأشكال الطبيعة. ليس الجوهر واحدًا أو مطردًا بل مكون من عدة عناصر مقسمة إلى أجزاء الكائنات الحية، متطورة في مراحل متتالية، بما في ذلك القيم والأخلاق، من الطفولة إلى الكهولة. كما أسس علم جمال واقعي وحَّد فيه بين الجمال والخير. وفي السياسة والاجتماع كان مثاليًّا في نظرته إلى الظاهرة الاجتماعية. وفي نضاله ضد طغيان الإقطاع دافع عن المَلكية المستنيرة. جعل مهمة «دائرة المعارف» الهجوم على الأيديولوجية الدينية الإقطاعية ونقد الأحكام المسبقة. واهتم دالمبير بتقدم المعرفة مثل فرنسيس بيكون وصنف العلوم مثله. وتبنى المذهب الحسي مثل ديدرو ورفض الأفكار الفطرية عند ديكارت. وكان أقل مادية من ديدرو وأقرب إلى ثنائية ديكارت العقلية المادية.٩٦ فالله جوهر خالق، والطبيعة جوهر مخلوق. ورصد مونتسكيو في «رُوح القوانين» التاريخ السياسي والتشريع المقارن متضمنًا الكتابات السياسية للوك.٩٧ وصنف الحكومات لا على أساس موطن السلطة بل بناء على المبدأ المحرك. فالأفضلية مبدأ الجمهوريات، والشرف مبدأ المَلكيات، والخوف مبدأ الطغيان. أثبت مبدأ الفصل بين السلطات الثلاثة والذي كان له أكبر الأثر لدى الآباء المؤسسين للولايات المتحدة. نقد التسلط السياسي، وشرح نشأة الدولة وطبيعة القوانين، وقام بإصلاحات اجتماعية على أساس طبيعي. فالطبيعة هي المجتمع على عكس تصور العصر الوسيط للمجتمع على أنه إله. شارك في صياغة النظرية الجغرافية التي تفسر طبيعة النظم السياسية وسمات الشعوب القومية كما هو الحال عند ابن خلدون في تفسيره لطبائع العمران. أفضل نظام لديه هو المَلكية الدستورية كما هو الحال عند ديدرو. وأثبت روسو الأفكار الأخلاقية الفطرية.٩٨ ونقد هوبز في تصوره للعَلاقات الفردية والاجتماعية التي تقوم على العدوان. وأفسح مجالات لعَلاقات الصداقة والغيرية. نقد الإقطاع، وأيد الديمقراطية، ودافع عن الحريات المدنية والمساواة بين الشعوب بصرف النظر عن أصولها. واعتبر المِلكية الخاصة سبب اللامساواة كما سيعتبرها برودون والماركسيون فيما بعد سبب الاستغلال. وتقوم التربية على نشاط المواطن والعمل الحر، خاصة العمل الحرفي اليدوي. عُرف بنظرية العَقد الاجتماعي لتفسير السلطة في المجتمع كما عرضها اسبينوزا ولوك من قبل. فالإرادة العامة هي أساس العَقد الاجتماعي وليس العَقد الاجتماعي ذاته. يخضع كل الأفراد في المجتمع السياسي للإرادة العامة الجماعية الشاملة. وهي مصدر السلطة التشريعية. تتوجه نحو الصالح العام ولا تتعارض بالضرورة مع المصالح الخاصة. ولا تعارض بين حرية الجماعة وحرية الفرد. نحن مضطرون لأن نكون أحرارًا، وهو ما قاله سارتر بعد ذلك بأننا محكوم علينا بالحرية. وقد ذاعت فكرة الإرادة العامة الممثلة لإرادة المجموع وتبنتها كل جماعة سياسية وكل حزب طليعي يجسد الإرادة العامة. وفي الدين كان مؤلهًا، ويؤمن بثنائية النفس والبدن على طريقة ديكارت. ولكن ترجع أهمية روسو في الوعي الأوروبي إلى أنه كان من أوائل الفلاسفة الذين أدركوا مأساته وتنبئوا بنهايته في هيلويز الجديدة والتي ينعي فيها الحضارة الأوروبية التي أفسدت الأخلاق الطبيعية للبشر. فالإنسان خير بالفطرة ما دام يعيش بعيدًا عن مظاهر المدنية الحديثة. وكان قد لاحظ ذلك من قبل منذ مسابقة أكاديمية ديجون وطرح سؤال: هل العلوم والفنون والآداب ساعدت على تقدم البشرية؟ وكانت إجابة روسو بالنفي واضعًا بذلك بذور التشاؤم والعدمية في الوعي الأوروبي. ويعتبر فولتير بحق هو ممثل فلسفة التنوير في فرنسا.٩٩ تأثر بمادية لوك والتجريبية الإنجليزية بوجه عام وبالمؤسسات الليبرالية الإنجليزية وروج لها في أنحاء القارة الأوروبية لتقوية الفكر الليبرالي وتدعيمه. وتدور محاور فكره كما عبر عنه في «القاموس الفلسفي» حول الميتافيزيقا والدين والسياسة والأخلاق. يرفض عقيدة العناية الإلهية، ويهدم الفلسفات الميتافيزيقية، ويدعو إلى السلام، ويهاجم الحروب الدينية والدنيوية وكل تعصب فلسفي وديني، ويدين استعمال القوة كحل لمشكلات الأفراد والجماعات، ولقضايا الدول والشعوب. يضع المسيحية في إطار تاريخ الأديان المقارن، ويبين تاريخيتها، وينزع عنها قدسيتها، وينتقل من العقائد الأسطورية إلى الأخلاق العملية، سابقًا بذلك المدارس المحدثة في التفسير، مدرسة تاريخ الأشكال الأدبية، والقضاء على الأساطير،١٠٠ ويحاول تأسيس دين شامل للإنسانية جمعاء كما فعل اسبينوزا من قبل، يقوم على التوحيد العقلي المستنير الذي لا يستدعي إيمانًا بعقائد العناية الإلهية أو خلود النفس، ولا يستلزم أية طقوس، ولا يقوم على أي تعصب، ولا تعتبره الدولة دينًا رسميًّا له. يرفض كل مظاهر الخرافة والتعصب، ويدعو إلى العقل والتسامح، ويؤسس بعد اسبينوزا النقد التاريخي للكتب المقدسة، وينقد الطقوس والشعائر الدينية، ويهدم الميتافيزيقا والفلسفات المثالية التي هي شكل جديد للدين القديم، ويدعو إلى السلام والنظام الجمهوري. وهو من أنصار المثالية، وليس ملحدًا ولكنه ضد العقائد المسيحية ضد الكهنوت الكنسي. الله لديه محرك أول، مهندس أبدي، ولكن لا تأليه للأشخاص، بوذا أو المسيح. أدان طغيان الملك وامتيازات النبلاء. كان مع المَلكية المستنيرة أولًا ثم مع الجمهورية أخيرًا. وتبنَّى نايجون النظرية المادية الحسية في المعرفة.١٠١ عادى الكنيسة الكاثوليكية واتُّهم بالإلحاد لإثباته أن كل الديانات مزيفة وضرورة ترك البحث عن الله. وقد ركز بعض فلاسفة التنوير على الاقتصاد. فربط تورجو بين تقدم المجتمع وأشكال الاقتصاد والنمو الاقتصادي.١٠٢ وكان فزيوقراطيًّا ضد النزعة التجارية. أدرك مفهوم فائض القيمة، وتحدث عن التركيب الطبقي والأجور. كما ظهرت فلسفة التاريخ من ثنايا فلسفة التنوير عند كوندرسيه.١٠٣ انضم مع تورجو إلى الفزيوقراطيين. واعتمد في نقده للدين على مذهب التأليه الطبيعي وعلى نقد فلاسفة التنوير. نادى بإلغاء الخرافات، وتنمية المعرفة العلمية. وفي عمله الرئيسي بين أن التاريخ نتاج الرُّوح الإنساني، وأن التقدم التاريخي تقدم في الرُّوح الإنساني كما يتمثل في الوعي الفردي والوعي الاجتماعي، في رؤية الفرد وفي النظام السياسي. ويعبر هذا التقدم عن كمال العقل والطبيعة. قسَّم مراحل التاريخ إلى عشرة، تسعة في الماضي وواحدة في المستقبل. الأولى الإنسان البدائي، والثانية استئناس الحيوان والرعي، والثالثة الزراعة الثابتة، والرابعة علوم اليونان وفنونها، والخامسة فتوح وحروب الرومان وتشريعاتهم، والسادسة سقوط روما في الحروب الصليبية وما بها من جهل وتسلط، والسابعة الحروب الصليبية حتى ظهور المطبعة تحمل العلم والنور، والثامنة ظهور المطبعة حتى ديكارت، والتاسعة ديكارت حتى الثورة الفرنسية. وفي المستقبل تتحقق اليوتوبيا ويصبح الإنسان قادرًا على التنبؤ في العلوم الطبيعية والاجتماعية، وتتحقق المساواة بين الأمم، وتزول الفوارق بينها، وتصل الإنسانية فيها إلى الذروة في إلغاء الرق والاحتكار والاستعمار.١٠٤ ناضل ضد المميزات الاجتماعية، وحارب من أجل المساواة وإلغاء نظم الطغيان، ودافع عن التنمية الحرة للفرد والجماعة. المستقبل هو نظام الحرية والمساواة والعدالة، وهي المبادئ العامة للثورة الفرنسية.
ثم يظهر جانب آخر من التنوير الفرنسي بالإضافة إلى الفكر السياسي والاقتصادي وفلسفة التاريخ وهو الفكر الاشتراكي الطوباوي عند موريللي، ودي مابلي، وبابيف، ومارشال. بل يستمر هذا الفكر عبر القرن التاسع عشر كله ثم في بدايات القرن العشرين عند الفوضوية. أكد موريللي على الملكية الجماعية وعلى ضرورة تأسيس المجتمع العقلاني.١٠٥ ويتطلب هذا المجتمع اقتصادًا مركزيًّا وتخطيطًا من أجل تنظيم الإنتاج والتوزيع. وتحكمه ثلاثة قوانين عقلية. إلغاء المِلكية الخاصة، حق الوجود وحق العمل، ضرورة العمل لكل موطن. وعلى هذا النحو يقترب المجتمع من الشيوعية لأنه أصبح مجتمع المساواة. كما تتطلب العقلانية الاعتدال في الطعام، وتحريم الكماليات، وتنظيم الحياة. ودون هذا التحول الاجتماعي يظل المجتمع لا عقلانيًّا يقوم على الملكية الخاصة، والاقتصاد الحر، والتفاوت الطبقي والاستغلال والاحتكار والظلم الاجتماعي، عمل العبيد وترف السادة كما هو الحال في المجتمع وليست عقلانية في الله أو في الفرد. كما دافع دي مابلي عن المِلكية العامة.١٠٦ فالملكية الخاصة أساس كل شر، وتتناقض مع المساواة الطبيعية بين البشر ومع الغريزة الاجتماعية. والشيوعية حقيقة منذ القدم، والنظام الطبيعي لحياة الناس. وللشعب حق الثورة إذا كان القانون ظالمًا. ومع ذلك فالثورة ليست الطريق الوحيد لتحقيق الاشتراكية، إذ يمكن ذلك عن طريق التحول السلمي ونقل المجتمع كله من النظام اللاطبيعي إلى النظام الطبيعي الأول طبقًا لشعار روسو «العود إلى الطبيعة، العود إلى الإنسان الأول». وكان بابيف أول من حاول بالفعل تطبيق الفكر الاشتراكي وتحويله إلى ثورة على الثورة، الثورة الاشتراكية على الثورة البرجوازية وهي الثورة الفرنسية. بل تحول من مجرد اسم لفرد، قائد وزعيم ومناضل إلى اسم لجماعة وتيار «البابوفية» Babouvism اشتقاقًا من اسم هذا القائد المغوار الذي جعل فكره متطابقًا مع عمله.١٠٧ قام بابيف وأنصاره في ١٧٩٦م بتنظيم ثورة عُرفت في التاريخ باسم «مؤامرة المتساوين» والتي كانت الذروة التي بلغتها الحركة. وأهمية هذه الحركة في إنهاء الحلف بين الجماهير المستغَلة والبرجوازية المستغِلة هذا الحلف الذي تكون أثناء اندلاع الثورة الفرنسية. كانت نهاية الحلف حتمية لأن الثورة البرجوازية ما كان باستطاعتها إعطاء أية حقوق للجماهير المستغَلة. وكان بابيف هو الانعكاس الأيديولوجي والسياسي للفصل المبكر بين أشكال البروليتاريا الأولى عن الجماهير العامة التي شاركت في الثورة الفرنسية. وكان أنصاره هم الورثة الأيديولوجيون لمادية القرن الثامن عشر وأفكار ميلييه عن الثورة الشعبية والشيوعية العقلانية عند موريللي والتجارِب التنظيمية للاتجاهات الجذرية في الثورة الفرنسية. يمثل بابيف خطوة متقدمة في تطور الفكر الاشتراكي في مساره نحو مرحلة جديدة من التطور الاجتماعي والاقتصادي في فرنسا، مرحلة تقوية العَلاقات الرأسمالية. حاول هو وأنصاره لأول مرة تحويل الاشتراكية من النظرية إلى التطبيق في الحركة الثورية. وبالرغم من تصورهم لجمهورية المتساوين فإنهم صاغوا مجموعة كاملة من الإجراءات لتحسين أحوال الفقراء وللتغلب على قوى الثورة المضادة، كما أنهم وضعوا مفهوم دكتاتورية الشعب العامل بعد انتصار الثورة، وحاولوا بيان مراحل التغير الثوري في المجتمع. فالتاريخ صراع بين الأغنياء والفقراء، النبلاء والدهماء، السادة والعبيد، الشبعى والجياع، أصحاب الياقات البيضاء وأصحاب الياقات الزرقاء بتعبير المعاصرين. وبالرغم من الطابع التاريخي الواقعي للحركة إلا أنها لم تتجاوز أسلوب التآمر وطرقه. لذلك ظلت طوباوية بالرغم من محاولته الأيديولوجية والتنظيمية تطوير الاشتراكية من اليوتوبيا إلى العلم.
كانت البابوفية تطويرًا طبيعيًّا للثورة الفرنسية ونقلها من ثورة سياسية إلى ثورة اقتصادية، ومن القديم في الفكر إلى الثورة على القديم في النظم الاجتماعية. كانت بنت التنوير والنزعة الإنسانية منذ القرن السادس عشر حتى القرن الثامن عشر، اتسمت بطابع ثورة الجماهير وحركات الشعوب، وراحت ضحية عصر الإرهاب في الثورة الفرنسية. وكانت الرومانسية الثورية كما مثلتها البابوفية سابقة على الماركسية المادية، وكان من الطبيعي أن تعتمد على حركة الجماهير العريضة لأن الطبقة العاملة المرتبطة بالتصنيع لم تكن قد نشأت بعد، وحتى تنشأ طبقة البروليتاريا الصناعية، وكما حدث ذلك بالفعل في القرن التاسع عشر، بعد الثورة الصناعية وظهور طبقة العمال والبروليتاريا العمالية. فالاشتراكية، والماركسية فيما بعد، يسار الثورة الفرنسية كما كانت الجيروندية يمين وسطها. والرومانسية الثورية سابقة على الثورة العلمية، كما أن الاشتراكية الطوباوية إحدى مراحل الاشتراكية العلمية. فلولا البابوفية لما كانت الماركسية. والماركسية تطوير للبابوفية وليست نقدًا لها. وقد يكون عيب الماركسية باستمرار هو قراءة الحاضر في الماضي دون أي اعتبار للتراكم التاريخي ولمراحل تطور المجتمعات، وكأن النهاية كانت لا بد أن تكون في البداية بالضرورة، وهو ما يضاد النزعة التاريخية والنظرة التاريخية التي تقوم الماركسية نفسها عليها. وتظل البابوفية نقطة جذب لكل المجتمعات التراثية التي في مرحلة الانتقال من التراث إلى التجديد، وفي حاجة إلى تنوير قبل التثوير، وإلى حلم طوباوي قبل أي تغير اجتماعي. وقد يكون الحوار الوطني أو الجبهة الوطنية في المجتمعات التراثية أجدى وأبقى من أساليب الحركات السرية والانقلابات من أجل القفز على السلطة وتغيير المجتمع من الإقطاع والرأسمالية إلى الاشتراكية العلمية دون المرور بالمراحل المتوسطة التي تكون الاشتراكية الطوباوية إحداها. وقد يكون «لاهوت التحرر» في المجتمعات التراثية أحد أشكال الرومانسية الثورية أو الاشتراكية الطوباوية. وكان مارشال ممثل الجناح الديمقراطي في المادية الفرنسية الإلحادية.١٠٨ فالطبيعة أبدية، وتعبيراتها العِيانية، أي أشكالها الاجتماعية، تظهر وتختفي. المادية أساس الإلحاد. والله والطبيعة شيء واحد على ما قال اسبينوزا من قبل. وبدافع الخوف اخترع الإنسان الله وأعطاه صفات الطبيعة على ما سيقول فيورباخ فيما بعد في الاغتراب الديني. وقد فاق فلاسفة «دائرة المعارف» في مواقفه الصريحة من الدين. أراد القضاء على الدين بالثورة، والقضاء على النظم المستغِلة بالشيوعية. في حين أنه في المجتمعات التراثية يكون التطور الطبيعي لها هو الانتقال السلمي من العقيدة إلى الثورة، وكما هو حادث في «لاهوت التحرر» في أمريكا اللاتينية خاصة وفي أفريقيا وآسيا والعالم الثالث عامة.

(٢) التنوير الإيطالي والألماني (فلسفة الفن والتاريخ)

إذا كانت الثورة الفرنسية والاشتراكية الطوباوية وبدايات فلسفة التاريخ هي الموضوعات الغالبة على التنوير الفرنسي فإن فلسفة الفن وفلسفة التاريخ في ذروتها في القرن الثامن عشر كانت محور فلسفة التنوير في إيطاليا وألمانيا. ويُعتبر فيكو هو مؤسس فلسفة التاريخ قبل ظهورها في فرنسا على يدَي مونتسكيو، وروسو، وفولتير، وتورجو، وكوندرسيه، أو حتى في ألمانيا عند لسنج، وهردر، وكانط. ولكن كتاب فيكو «العلم الجديد» لم يُعرف خارج إيطاليا إلا في القرن التاسع عشر. لذلك لم يؤثر في تطور فلسفة التاريخ إلا بعد قرن من الزمان.١٠٩ ويدل العنوان الذي تبدل من طبعة إلى أخرى على نشأة علم جديد يهدف إلى اكتشاف قانون لتطور البشرية أسوة بالقانون الطبيعي، ويدرس الإبداع البشري كما يدرس عالم الطبيعة الظواهر الطبيعية. وقد بدأ فيكو بالتفكير على الأساطير اللاتينية، وهي ثقافته الوطنية، لمعرفة تطور الرُّوح البشري، وكأن فلسفة التاريخ إنما تبدأ بالتفكير على الثقافة الوطنية للشعب. ويجد فيكو ثلاث ظواهر مطردة في تاريخ البشرية وعند كل الشعوب: الدين، والزواج، ودفن الموتى. ويعطي جدولًا زمنيًّا لشعوب سبعة: العبرانيون، والكلدانيون، والسكيثيون، والفينيقيون، والمصريون، واليونان، والرومان. ويرى أن كل شعب قد مر بثلاثة عصور: عصر الآلهة، وعصر الأبطال، وعصر البشر. ولكل عصر لغته: الهيروغليفية لعصر الآلهة، والرمزية لعصر الأبطال، والعادية الشعبية لعصر البشر. وقد عرَف المصريون القدماء هذه العصور الثلاثة. ويعترف فيكو بأنه قد استمد فكرته عن المراحل من قراءاته لتاريخ قدماء المصريين. وتعود الدورة من جديد فتقصر مدةُ عصر الآلهة، وتزداد مدة عصر الأبطال وعصر البشر. وفي دورة ثالثة تقصر مدة عصر الآلهة أكثر، وتزداد مدة عصر الأبطال وعصر البشر. وتستمر الدورات إلى أن يتقلص عصر الآلهة إلى أقل فترة ممكنة ويظل عصر الأبطال، ولكن يمتد عصر البشر إلى أطول فترة ممكنة. وإذا ما استمر التنبؤ بمستقبل البشرية فقد يختفي عصر الآلهة أولًا لحساب عصر الأبطال ثم يختفي عصر الآلهة أولًا لحساب عصر الأبطال ثم يختفي عصر الأبطال لحساب عصر البشر، ويصبح مستقبل الإنسانية هو الإنسان ذاته أو الإنسانية ذاتها، وهو أحد معالم الفلسفة الحديثة وإحدى سمات الوعي الأوروبي. عند فيكو إذن تصور دائري للتاريخ، عود على بدء، ولكن ليس من نقطة البداية الأولى، نقطة الصفر، ولكن بعدها بقليل، ومن ثم يحدث تقدم في تاريخ البشرية من دورة إلى أخرى. وهو التصور الحلزوني للتاريخ الذي يجمع بين التصور الدائري والتصور الخطي، والذي استمر لدى كل فلاسفة التاريخ في القرن التاسع عشر، خاصة عند هيجل. الطبيعة البشرية متغيرة عبر العصور وليست ثابتة. ويمكن إدراك مسار هذا التغير بدراسة اللغة والقانون والأسطورة والطقوس والنظم الاجتماعية والسياسية.١١٠
وعصر التنوير في ألمانيا أقل جرأة منه في فرنسا. مع أن فلاسفة التنوير في كل منهما اعتمدوا على العقل ولم يقبلوا إلا سلطانه. إلا أنهم في ألمانيا كانوا أقرب إلى الإيمان الرُّوحي منهم إلى العقل التحليلي، وأقرب إلى التسليم منهم إلى الرفض. كان الإنسان والطبيعة والله شيئًا واحدًا تقريبًا. فالله هو الغائية في الطبيعة والقائم على قوانين العقل والأخلاق أو كما يقول شيلر في نشيد الفرح: «أيها الخلان، فوق هذه السماء المرصعة بالنجوم لا بد وأن يكون هناك أب رحيم». وقد ظهر هذا الطابع عند أعمدة فلسفة التنوير الثلاثة في ألمانيا: هردر، ولسنج، وكانط. وقد ظهر التنوير الألماني في فلسفة الفن قبل فلسفة التاريخ، وكما بدأ عند باومجارتن وعند فِنكِلمان يتحدد تطور الفن لديه بعوامل طبيعية مثل المناخ، واجتماعية وسياسية وثقافية مثل نظام الدولة والإدارة ونظم الفكر.١١١ ويتمثل الفن اليوناني القديم قيم البساطة والنبل والعظمة والروعة. وكوَّن المثال الجمالي من الحرية والكمال الإنساني. ولكن فلسفة التاريخ في ألمانيا حملت لواء فلسفة التنوير أكثر مما حملته فلسفة الفن. وكان لسنج هو حلقة الوصل بين الانتقال من التنوير في فلسفة الفن إلى التنوير في فلسفة التاريخ.١١٢ عارض أثر علم الجمال الفرنسي التقليدي، ودافع عن فن حر من كل القيود والصور والأشكال قادر على التعبير الحر عن العواطف. ودافع عن الواقعية في الشعر والصدق في التعبير ضد جمال النبلاء وأشكال التكلف والافتعال كما فعل شيلر من قبل. وكان لذلك أكبر الأثر على الحركة الرومانسية حتى اعتُبر أحد منظريها، ولكنه اتجه في آخر حياته إلى التاريخ واللاهوت. وكان لأعماله أثر كبير في الفلسفة والأدب في القرن التاسع عشر، خاصة عند كيركجارد. وفي السياسة كان من معارضي النظام الإقطاعي، وعمل من أجل تطور الشعب الألماني وإرساء قواعد الديمقراطية في الحياة السياسية. كما دعا إلى التسامح الديني ولفظ كل أنواع التعصب. ولكن عمله الرئيسي الذي يعبر فيه عن فلسفته في التاريخ هو «تربية الجنس البشري»، والذي وصف فيه تطور البشرية في مراحل ثلاثة: مرحلة الطفولة حيث كانت البشرية ما زالت تعيش على نحو حسي كالطفل، تفهم لغة الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، ومرحلة الصبا حيث انتقلت البشرية إلى مستوى العواطف والتأثير الوجداني، وأخيرًا مرحلة الرجولة التي تستقل فيها الإنسانية، وتصبح حرة من كل قيد، تعتمد على العقل، وتمارس حرية الاختيار في مجتمع خال من القهر. تمثل اليهودية المرحلة الأولى، والمسيحية المرحلة الثانية، والتنوير المرحلة الثالثة. فالتنوير يرث الدين، وينتهي الدين بقدم التنوير. يطابق إذن تطور البشرية تطور الوحي في التاريخ. وهو ما يتفق مع ما نعرفه في تراثنا من تطور الوحي من اليهودية إلى المسيحية إلى الإسلام. فالإسلام دين التنوير. وما ظنه لسنج على أنه تحقق في الوعي الأوروبي في القرن الثامن عشر، وهو فلسفة التنوير، تحقق في وعينا القومي منذ أكثر من ألف عام بظهور الإسلام، وإعلان استقلال العقل وحرية الإرادة، وعلى ما هو معروف في التراث الاعتزالي. وهو ما تحتاجه الشعوب التراثية حاليًّا، والتي تنتقل من التراث إلى التجديد حتى قبل الاشتراكية العلمية. فالتنوير شرط التثوير. أما هردر فهو المؤسس الحقيقي لفلسفة التاريخ في ألمانيا في القرن الثامن عشر.١١٣ ويعادل فيكو في إيطاليا، وكوندرسيه في فرنسا. نقد التنوير الصوري لعقلانيته المجردة كما بدا عند كانط، ونقد الرومانسية لإيغالها في العواطف والأسرار. نقد التصور الصوري للذهن مؤكدًا أن الإدراك والاستدلال والشعور ليست أمورًا منفصلة بعضها عن البعض خاصة بعد استعمال اللغة. استمَع إلى محاضرات كانط، ونقَد النقد الكانطي، ووضع بدلًا منه فيزيولوجيا ملكات الإدراك. وأعطى للُّغة الأولوية على الفعل. استنبط الزمان والمكان من التجرِبة ولم يعتبرهما صورتين قبليتين للحساسية كما هو الحال عند كانط. وركز على وحدة الصورة والمادة. وفي الجمال هاجم وجود ملَكة للذوق ومعيار ثابت للجمال مؤكدًا أن العوامل التاريخية والنفسية تكمن وراء تغير مفاهيم الجمال. كما رفض وجود معيار عام وشامل يُفرض على التاريخ، مراحله ومساره ومثله. التاريخ عضوي، يعبر عن بيئة، ولا يفهم إلا بالتعاطف معه. تتقدم الطبيعة ويتقدم المجتمع نحو غاية، هي كمال الإنسانية. تمثل حضارات الشعوب بعدًا رُوحيًّا يبدو في الشعر. كما أن للعلم دورًا حاسمًا في تطور الشعوب، انتقالًا من الشعر إلى العلم، ومن الوجدان إلى العقل، ومن الله إلى الطبيعة. فالعناية الإلهية هي قوانين الطبيعة ومسار التاريخ. وكان اسبينوزا قد وحد من قبل بين صفات الله وقوانين الطبيعة. هذه الوَحدة بين الرُّوح والطبيعة هي التي سرت في المثالية الألمانية عند هيجل وشلنج في وحدة الذات والموضوع، الخلق الفردي والظروف الاجتماعية. رفض إقامة فلسفة في التاريخ على أفكار أخلاقية مثل الخوف والشرف والفضيلة عند مونتسكيو، والأمانة والإخلاص والصدق عند الأفغاني، وتصوَّر التاريخ مثل لسنج، حيًّا متصلًا غائيًّا يعود على بدأ. له أطوار أربعة: الطفولة والشباب والرجولة والشيخوخة. ثم تعود الدورة من جديد لتبدأ من نقطة متقدمة وليس من الصفر. وبالتالي يشارك هردر لسنج التصور الحلزوني للتاريخ الذي يجمع بين الدائرة والخط. تمثل شعوب الشرق القديم مرحلة الطفولة، ومصر والصين وفينيقيا مرحلة الشباب، واليونان مرحلة الرجولة، والرومان مرحلة الشيخوخة. ثم تنتهي الدورة الأولى وتبدأ دورة ثانية، مرحلتها الأولى، مرحلة الطفولة لدى الشعب الألماني في مرحلته البربرية، والعصور الوسطى مرحلة الشباب، والإصلاح الديني مرحلة الرجولة، والتنوير مرحلة الشيخوخة. ثم تبدأ دورة ثالثة في عصر هردر لم تتحدد بعد أطوارها الأربعة. ويبدو أن التراكم التاريخي في الوعي الأوروبي قد بدأ يفرز فلسفات التاريخ ليحدد مساره ومراحله، من البداية إلى النهاية. وكل فيلسوف يرى النهاية في عصره، ويتمنى بداية لم تبدأ بعد.

(٣) التنوير الإنجليزي والأمريكي (الاستقلال)

والحقيقة أن التنوير الإنجليزي إنما ظهر في التجريبية الإنجليزية عند هيوم.١١٤ ثم ظهر في تيار معاد للثورة الفرنسية وإن كان مع الاستقلال الأمريكي عند بيرك. أما التنوير الأمريكي فقد بدأ على يد أصحاب التأليه الطبيعي عند إدواردز، وألين، وبنيامين فرانكلين حتى صب أخيرًا في توماس بين الذي رد على بيرك في هجومه على الثورة دفاعًا عنها. كان إدواردز من دعاة التأليه الطبيعي.١١٥ وبالرغم من ميوله الفلسفية كان كالفينيًّا متعصبًا. ساهم في علم النفس الديني الذي يقوم بدراسة التحول العقائدي. وتدور فلسفته في إطار الفلسفة الإنجليزية مثل لوك وبركلي وهتشسون وشافتسبري. عرض مذهب كالفِن في الصلة بين حرية الإرادة والقدر المسبق عرضًا فلسفيًّا ودينيًّا معتمدًا على الحجج العقلية وعلى نصوص التوراة. ويُعتبر أول لاهوتي في العالم الجديد. وبالرغم من الطابع الصوري لمذهبه فإنه يقوم على أساس جمالي نظرًا لتأكيده على النور الإلهي من فوق الطبيعة، مصدر الإشراق، نور للبحث العلمي في الحرية والخطيئة الأولى. ثم عارضه ألِين بالرغم من أنه أيضًا من أوائل المؤلهة الأمريكيين. ونقد الكالفينية التقليدية وعقيدة الخطيئة الأولى.١١٦ ورفض الوحي والنبوة، وآمن بخلود الرُّوح على أسس أخلاقية. كما دافع عن الإرادة الحرة. ثم تحول مذهب التأليه إلى حركة سياسية دفاعًا عن استقلال الولايات المتحدة على يد بنيامين فرانكلين.١١٧ نادى بإلغاء الرق والمساواة بين المواطنين. وتقترب فلسفته النظرية من فلسفة لوك بالإضافة إلى تأثره بفلاسفة دائرة المعارف في فرنسا. وهو مؤله طبيعي، يعترف بوجود قوانين الطبيعة، وثبات المادة. وله اكتشافات في الضوء ضد الخرافات الدينية. وتصور الإنسان مدنيًّا صانعًا للآلات. كما درس مشاكل الحرب والسلام ودعا إلى الإخاء بين الشعوب. ويُعتبر توماس بين بحق ممثل التنوير الأمريكي والثورة الأمريكية من أجل الاستقلال.١١٨ كان من أنصار التأليه الطبيعي. ذاع صيته بعد أن نشر كتاب «الحس المشترك»، ويتضمن نداء لاستقلال أمريكا وعرضًا لنظريته في الحكومة والمجتمع باعتبارهما موضوعين مستقلين. ونشر سلسلة من الكتيبات بعنوان «أزمة» خلال الثورة الأمريكية تدعيمًا ودعوة لها. كما رد على بيرك في هجومه على الثورة الفرنسية، ودافع عن الديمقراطية والمبادئ الجمهورية. هاجم المسيحية فاتُّهم بالإلحاد مع أن القصد من الهجوم هو الدفاع عن التأليه الطبيعي. ثم ربط بيرك بين الجمال والسياسة،١١٩ إذ يتم تذوق الجمال بالإيحاء وعلى نحو غامض دون وضوح عقلي. وفي السياسة أيد أيرلندا وأمريكا في الاستقلال. ولكنه رفض الاتجاه التقليدي المحافظ لأصحاب «الشعر المستعار» Wigs. كما رفض اللاتاريخية للراديكاليين الثوار.

(٤) التنوير الروسي (الثورة الاشتراكية)

وقام التنوير في روسيا بما قام به التنوير عامة في فرنسا وإيطاليا وألمانيا وأمريكا من نقد للكهنوت والدعوة إلى العلم، والثورة ضد الإقطاع كما وضح ذلك عند سكوفورودا وراديشيف. تأرجح سكوفورودا بين المثالية والمادية مثل معظم فلاسفة التنوير، مثاليون في العقل وماديون في الطبيعة. ولكنه كان أقرب إلى المادية منه إلى المثالية.١٢٠ فالمادة أبدية لا نهائية، لها قوانين ثابتة. وتوجد عوالم ثلاثة: «العالم الأكبر» الطبيعة، والإنسان «العالم الأصغر»، وعالم الرموز أي الكتاب المقدس.١٢١ كل منها له عالم داخلي وعالم خارجي، عالم في ذاته وعالم كما يبدو لنا. الله والعالم شيء واحد. وبهذه الوَحدة في الوجود يمكن حل جميع الثنائيات. المعرفة الإنسانية لا حدود لها، والمعرفة الشاملة هي دراسة هذه العوالم الثلاثة معًا. وقد انتسب إلى الثورة الكوبرنيقية مثل كانط، وينقد سكوفورودا الدين الرسمي، والعقائد القطعية، والشعائر والطقوس الخارجية، والكهنوت، والفلسفة المدرسية. الكهنوت طفيلي يعيش على حياة الآخرين. أما الدين فحب وفضيلة، وتقوى باطنية، وصدق وإخلاص. دافع عن مصالح الشعب، ودعا إلى وضع حد لغياب القانون والقضاء على الجهل بين العمال. ولا يزال طوباويًّا، فالأخلاق لديه أساس المجتمع، وإصلاح المجتمع بصلاح الأفراد. كانت حركة الفلاحين في عصره ضعيفة فلم تستطع مواجهة الإقطاع. وواضح أنه يمثل كانط في روسيا وينقد الدين مثل فولتير. وقسمته للعوالم الثلاثة شبيهة بقسمة إخوان الصفا. أما راديشيف فهو أبو الفكر الثوري في روسيا.١٢٢ أدان التسلط باعتباره انحرافًا عن الطبيعة البشرية. وتجب الثورة ضد الملوك دفاعًا عن حرية الشعب لأنه لا يمكن تنازل الملوك عن السلطة. أُعجب بالثورتين الفرنسية والإنجليزية، وإعداد كرومويل للملك، والنضال المسلح للمستعمرات الأمريكية للحصول على الاستقلال. ودعا إلى ثورة الشعوب للخلاص من نِير الملوك. وأدان كل الاتجاهات الإصلاحية التي يقوم بها الملك المستنير أو المستبد العادل. وأدان الإصلاح الليبرالي، ودعا إلى الثورة الشعبية. فضل مادية التنوير على مثالية الألمان. واستعمل جدل لَيبنتز ليبين أن الحاضر يحتوي على المستقبل.
ويدل التنوير الروسي على أن الثورة ليست ماركسية فقط، بل إن الذي دعا إليها هم فلاسفة التنوير الروسي مثلما دعا إليها فلاسفة التنوير في فرنسا وإيطاليا وألمانيا وإنجلترا وأمريكا. ولا ضير أن تكون الثورة في بدايتها رومانسية الطابع، طوباوية الهدف، وجدانية الرؤية، خطابية الأسلوب. فذلك يتفق مع بداية التحول الاجتماعي في المجتمعات التقليدية من العقيدة إلى الثورة، ومن التراث إلى التجديد. فالثورة تقوم على ثقافة العصر، تنوير القرن الثامن عشر أو وضعية القرن التاسع عشر أو أزمة القرن العشرين. في القرن الثامن عشر كان التنوير مقدمة للتثوير وشرطه. وقد بدأ فلاسفة التنوير بالترجمة كعنصر تنويري وإحداث صدمة ثقافية عن طريق رؤية الأنا في مرآة الآخر، وبين فرنسا وأمريكا حينًا، وبين إنجلترا وأمريكا حينًا آخر. كان أول هدف للثورة هو إسقاط المَلكية بعد اليأس من إصلاحها وتقييديها واستنارتها. إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً (٢٧: ٣٤) وقبل أن تتحول إلى ثورة اشتراكية لصالح من قاموا بها. ولا ضير أن تكون بأسلوب أدبي شعبي جماهيري قبل أن تتحول إلى أسلوب علمي محكم كما هو الحال في «رأس المال» في القرن التالي.١٢٣
١  «الظاهريات وأزمة العلوم الأوروبية»، قضايا معاصرة، الجزء الثاني، في الفكر الغربي المعاصر ص٣١٦.
٢  ليست الغاية هي استعراض فلسفة ديكارت أو حتى ذكر حياته ومؤلفاته؛ لأنه أصبح معروفًا للغاية في فكرنا المعاصر، خاصة بعد مجهودات المرحوم الأستاذ الدكتور عثمان أمين. يكفي فقط كمعلومات أولية بالنسبة للطلاب الجدد ذكر أنه فيلسوف رياضي فرنسي وُلد في لاهاي. ودرس في مدارس الجِزوِيت. ثم درس القانون في بواتييه. وسافر إلى ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وعاد إلى هولندا في ١٦٢٨م. وتبدأ حياته العملية بليلة ١١ نوفمبر ١٦١٩م التي رأى فيها تأسيس علم جديد. أهم مؤلفاته: «قواعد لهداية الذهن» ١٦٢٨م، «مقال في المنهج» ١٦٣٥م، «التأملات في الفلسفة الأولى» ١٦٤١م، «مبادئ الفلسفة» ١٦٤٤م، «مقال في الانفعالات» ١٦٤٩م، «مقال في الإنسان» «البحث عن الحقيقة» وهو عمل لم يكتمل وكتبه في أواخر حياته. أما أعماله العلمية الأخرى مثل «انكسار الإشعاعات»، و«الأنواء»، و«الهندسة» فإنها أدخل في تاريخ العلوم، ومع ذلك تعبر عن الانتقال في الرؤية العلمية من أرسطو إلى كوبرنيقس.
٣  كتب ديكارت أولًا «قواعد لهداية الذهن» واستعرض فيه إحدى وعشرين قاعدة تعصم الذهن من الخطأ. ولم يُنهِ ديكارت الكتاب نظرًا لطول القواعد. ثم لخصها بعد ذلك في القواعد الأربعة المشهورة في «مقال في المنهج».
٤  «موقفنا من التراث الغربي»، قضايا معاصرة، الجزء الثاني: في الفكر الغربي المعاصر ص١٩.
٥  «موقفنا من التراث الغربي»، قضايا معاصرة، ج٢، في الفكر الغربي المعاصر، ص٢٠.
٦  «موقفنا من التراث الغربي»، قضايا معاصرة، ج٢، في الفكر الغربي المعاصر، ص١٨–٢٠.
٧  «الظاهريات وأزمة العلوم الأوروبية»، المصدر السابق ص٣١٦-٣١٧.
٨  كان مرسن (١٥٨٨–١٦٤٨م) صديقًا ومراسلًا أساسيًّا لديكارت، ومسئولًا عن جمع الاعتراضات الستة على التأملات في كتابه «حقيقة العلم ضد الشُّكَّاك» ١٦٢٥م.
٩  جاسندي (١٥٩٢–١٦٥٥م) معاصر مشهور لديكارت وصديق له. وُلد في إقليم بروفانس وأصبح أستاذًا للفلسفة في أكس في ١٦١٧م، ثم أستاذًا للرياضيات في الكلية الملكية بباريس عام ١٦٤٥م. وهو مؤلف الاعتراضات الخمسة في ١٦٤٢م على «التأملات» لديكارت. أشهر مؤلفاته: «شرح على حياة اللذة والألم عند أبيقور»، «تهذيب فلسفة أبيقور»، «تمارين متناقضة ضد الأرسططاليسيين».
١٠  جولينكس (١٦٢٤–١٦٦٩م) فيلسوف بلجيكي تلميذ لديكارت. وُلد في أنتفِربِن، ودرس في الجامعة الكاثوليكية في لوفان وعلَّم بها قبل تحوله إلى الكالفينية. هرب إلى هولندا ونال شهرة فلسفية واسعة في ليدن. نشر عدة مقالات في المنطق ومناهج البحث. نُشرت مؤلفاته بعد وفاته وأهمها: «الأخلاق» ١٦٧٥م، «الميتافيزيقا» ١٦٩١م.
١١  عبَّرنا في كتاباتنا العديدة عن رُوح اليسار بهذا المعنى، واخترنا من التراث القديم أو من التراث الغربي نماذج من اليسار الفلسفي، وأسسنا لذلك «مَجلة اليسار الإسلامي». العدد الأول، القاهرة ١٩٨٠م. انظر أيضًا: الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م، الجزء السابع: اليمين واليسار في الفكر الديني، الجزء الثامن: اليسار الإسلامي والوحدة الوطنية، مدبولي، القاهرة ١٩٨٨م.
١٢  مالبرانش (١٦٣٨–١٧١٥م) فيلسوف فرنسي ولاهوتي جِزوِيتي ومبشر بالمسيحية. ذهب إلى الصين ليبشر بالمسيحية، وكان التبشير الديني عادةً مقدمة للاستعمار العسكري والاقتصادي والسياسي. أهم أعماله: «في البحث عن الحقيقة (١٦٧٤-١٦٧٥م) «مناقشات مسيحية» ١٦٧١م، «رسالة في الطبيعة والفضل الإلهي» ١٦٨٠م، «رسالة في الأخلاق» ١٦٨٣م، «مقابلات حول ميتافيزيقا الدين» ١٦٨٨م، «رسالة في الحب الإلهي» ١٦٨٧م، «تأملات في الحركة الطبيعية الأولى» ١٧١٤م.
١٣  لَيبنتز (١٦٤٦–١٧١٦م) فيلسوف ورياضي ومؤرخ وقانوني ألماني. وُلد في ليبزج، وعمل في خدمة النبلاء الألمان، وكان أمين مكتبة هانوفر وأول رئيس لأكاديمية برلين للعلوم منذ ١٦٧٦م حتى وفاته. مؤلفاته عديدة في الرياضيات والفلسفة والطبيعيات والجيولوجيا والبيولوجيا والتاريخ والقانون، ويعد أكبر فيلسوف موسوعي قبل هيجل. وأشهر هذه المؤلفات الفلسفية: «المونادولوجيا» ١٧١٤م، «العدل الإلهي» ١٧١٠م، «محاولات جديدة في الفهم الإنساني» ١٧٠٥م ردًّا على لوك في «محاولة في الفهم الإنساني»، «مثال في الميتافيزيقا» ١٦٨٦م، «نسق جديد للطبيعة» ١٦٩٥م. وله في الرياضيات «في التوافيق» ١٦٦٦م، وفي الطبيعيات «نظرية الحركة العِيانية والمجردة» ١٦٧١م.
١٤  وهذا هو معنى الآية القرآنية: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٢: ٢١٦).
١٥  Solvitur in Excelsis وهو شعار كل حركات الوَحدة بين الفرق.
١٦  هذه الرابطة الجوهرية يسميها لَيبنتز Vinculum Substantiale.
١٧  الرياضيات الشاملة Mathesis Universalis.
١٨  صمويل كلارك (١٦٧٥–١٧٢٩م) فيلسوف لاهوتي وعالم لغة بريطاني. درس في كمبردج وأصبح صديقًا لنيوتن وتلميذًا له. له عملان رئيسيان: «برهان على وجود الله وصفاته» ١٧٠٤م، «خطاب في المقتضيات الثابتة للديانات الطبيعية» ١٧٠٥م. وتظهر في الأخير بدايات الدين الطبيعي الذي اكتمل في القرن الثامن عشر.
١٩  اسبينوزا (١٦٣٢–١٦٧٧م) فيلسوف عقلي يهودي. وُلد في أمستردام، وقضى حياته في هولندا في عصر الرأسمالية بعد تحرر هولندا من الإقطاع. وكانت أسرته قد هربت من البرتغال هربًا من الاضطهاد الكاثوليكي. ولكنه لاقى متاعب حتى في هولندا المتحررة نسبيًّا. طُرد من المَجمع اليهودي في ١٦٥٦م بعد اتهامه بالهرطقة، ومن أشهر كتبه كتاب «رسالة في اللاهوت والسياسة» الذي كتبه في ١٦٧٠م. كما هاجمه اللاهوتيون المسيحيون بسبب آرائه النقدية الجذرية في التوراة، ثم حُرم نهائيًّا في ١٦٧٤م. لذلك نُشر كتاب «الأخلاق» في ١٦٧٧م بعد وفاته. وباقي مؤلفاته: «مبادئ فلسفة ديكارت» ١٦٦٣م، «رسالة في إصلاح الذهن» ١٦٧٧م، «رسالة في السياسة» ١٦٧٧م.
٢٠  لذلك قمنا بترجمتها إلى اللغة العربية، وما زالت تُدرَّس كنص فلسفي في الجامعات المصرية والعربية منذ أوائل السبعينيات.
٢١  ويلاحَظ أنني لا أقدم من الفلسفة الغربية إلا جناحها اليساري نظرًا لاختلاف الأجيال ولاحتياجنا لتأصيل تراثنا العقلي القديم وإحياء نماذجه الفريدة. فلا يهمنا ترويج العقل التبريري للدين في المثالية الحديثة بقدر ما يهمنا بيان العقل الجذري عند اسبينوزا. وقد قمنا بعد ترجمتنا لرسالة اسبينوزا بترجمة «تربية الجنس البشري» للِسِنج. فالتنوير يسار، عقلانية القرن الثامن عشر. كما ترجمنا «تعالي الأنا موجود» لسارتر، وهو يسار الظاهريات. ونُعِد حاليًّا دراسة عن «فشته» فيلسوف المقاومة، وهو يسار كانط، ودراسات أخرى عن الهيجلِيِّين الشبان: شتراوس، فيورباخ، باور، شترنر، ماركس، وهم اليسار الهيجلي.
٢٢  بسكال (١٦٢٣–١٦٦٢م) رياضي وعالم طبيعي ولاهوتي فرنسي. له مؤلفات حول قوانين حركة المياه، والنظرية الرياضية للاحتمالات، حساب المخروطات، حساب المثلثات، نظرية الروليت، اختراع الآلة الحاسبة، اكتشاف قوانين ضغط الهواء واتزان السوائل. ثم وقع له إلهام في ٢٣ نوفمبر ١٦٥٤م، كما حدث لديكارت في ليلة ١١ نوفمبر ١٦١٩م، كي يخصص وقته للدراسات الدينية. فصاحب الجَنسينيين، وجماعة بور رويال. كتب ثماني عشرة رسالة ضد الجِزوِيت وهي: «الرسائل الإقليمية» يعالج فيها مشاكل الوجود الإنساني من الناحيتين النفسية واللاهوتية. أما كتابه الشهير «الخاطرات» فهو تجميع لمذكراته ويومياته. ونُشر بعد وفاته في ١٦٧٠م.
٢٣  ويشبه هذا الرِّهانُ بيتَي الشعر لأبي العلاء المعري:
قال المنجم والطبيب كلاهما
لا تُحشر الأجساد قلتُ إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر
أو صحَّ قولي فالخَسار عليكما
٢٤  آرنو (١٦١٢–١٦٩٤م) قسيس لاهوتي، ومنطقي رياضي فرنسي. وُلد في عائلة مؤيدة للجَنسينيين. ارتبط بجماعة بور رويال. شرح في كتابه «في المشاركة المتكررة» نظريات جانسن. وله كتب عدة لمهاجمة الجِزوِيت مما أثار حفيظتهم ضده. ولما سُحبت منه الدكتوراه من السربون واستمر اضطهاده، لتأييده المستمر للجَنسينيين، اضطُر إلى اللجوء إلى بلجيكا في ١٦٧٩م. تعاون أثناء وجوده هناك مع جماعة بور رويال ونيقول (١٦٢٥–١٦٩٥م) وبسكال في كتابه «المنطق أو فن التفكير». وبالرغم من صداقته لمالبرانش إلا أنه اختلف معه وهاجمه في «رسالة في الأفكار الصحيحة والخاطئة».
٢٥  بيير بايل (١٦٤٧–١٧٠٦م) فيلسوف فرنسي، درس مع الجِزوِيت في تولوز، وأصبح كاثوليكيًّا في فترة ثم تحول إلى الكالفينية، وهرب إلى جنيف حيث درس أعمال ديكارت. ثم عاد إلى فرنسا وأصبح أستاذًا للفلسفة في الكلية الكالفينية في سيدان. وبعد الاضطهاد هرب ثانية إلى روتردام وحاضر فيها حتى طُرد من الجامعة في ١٦٩٣م بتهمة عمالته لفرنسا وعداوته للبروتستانتية. عمله الرئيسي «قاموس تاريخي نقدي» ١٦٩٦م ويحتوي على مجموعة من الحجج الشكية ضد النظريات اللاهوتية والفلسفية.
٢٦  هربرت الشربوري (١٥٨٣–١٦٤٨م) فيلسوف بريطاني. أول من حاول صياغة الدين الطبيعي. أهم أعماله: «في الحقيقة» ١٦٢٤م، «في علل الأخطاء» ١٦٤٥م، «في دين الأمم» ١٦٦٣م.
٢٧  شافتسبري (١٦٧١–١٧١٣م) كاتب بريطاني وفيلسوف أخلاقي، تأثر بلوك. جُمعت أعماله في ثلاثة كتب بعنوان «خصائص الرجال والعادات والآراء والأزمنة» ١٧١١م، وهو كتاب موجه إلى جمهور المثقفين العريض.
٢٨  جروسيوس (١٥٨٣–١٦٤٥م) مشرع هولندي، وعالم اجتماع، ورجل دولة. أهم أعماله: «قانون الحرب والسلم» ١٦٢٥م، «البحار الحرة» ١٦٠٩م، «حقيقة الدين المسيحي» ١٦٢٢م.
٢٩  ليلبورن (١٦١٤–١٦٥٧م) فيلسوف سياسي بريطاني، زعيم الجناح الديمقراطي والبرجوازية الصغيرة في الثورة الإنجليزية.
٣٠  بيلرز (١٦٥٤–١٧٢٥م) اقتصادي بريطاني، طوباوي برجوازي صغير، عاشق للإنسانية. له كتاب «مقترحات من أجل النهوض بصناعة شاملة لكل التجارة النافعة والصناعات المنزلية» ١٦٩٥م.
٣١  هؤلاء هم أنصار الأسقف لاود (١٦٠٩–١٦٨٣م).
٣٢  ويكوت (١٦٠٩–١٦٨٣م) هو الزعيم الرُّوحي لأفلاطونيي كمبردج. وهو فيلسوف لاهوتي إنجليزي لم يترك إلا مجموعة من المواعظ في ١٦٩٨م ومجموعة أخرى «أفكار متناثرة» نُشرت في ١٧٠٣م.
٣٣  هنري مور (١٦١٤–١٦٨٧م) فيلسوف لاهوتي. له مؤلفات عدة مثل: «أشعار فلسفية» ١٦٤٧م، «نقض الإلحاد» ١٦٥٣م، «حماس النصر» ١٦٥٦م، «خلود النفس» ١٦٥٩م، «التربية الأخلاقية» ١٦٦٧م، «محاورات إلهية» ١٦٦٨م.
٣٤  جلينفيل (١٦٣٦–١٦٨٠م) فيلسوف إلهي رفض الأرسطية الجافة التي كانت سائدة في أكسفورد، وانضم إلى كمبردج، وله كتاب «عبث العقائد» ١٦٦١م. وبعد موته طبع مور كتابه «الصدوقية المنتصرة» ١٦٨١م. وله أيضًا «القانون الشرقي» ١٦٦٢م.
٣٥  كودورث (١٦١٧–١٦٨٨م) له عدة مؤلفات أهمها اثنان: «النسق العقلي الحقيقي للعالم» ١٦٧٨م، «رسالة في الأخلاقية الأبدية الثابتة» ١٧٢١م.
٣٦  كالفرويل (١٦١٨–١٦٥١م) له كتاب وحيد هو «خطاب في نور الطبيعة» ١٦٥٢م.
٣٧  نوريس (١٦٥٧–١٧١١م) فيلسوف إلهي، عُرف من خلال كتابه «محاولة لتأسيس نظرية في عالم مثالي ومعقول» ١٧٠١–١٧٠٤م.
٣٨  كمبرلاند (١٦٣١–١٧١٨م) له كتاب «قوانين الطبيعة» ١٦٧٢م.
٣٩  جورج فوكس (١٦٢٤–١٦٩١م) مؤسس «جماعة الأصدقاء» التي اشتهرت فيما بعد باسم المرتعشين. كان ابنًا لنساج وراعيًا للغنم ثم أحس بنداء له بترك كل شيء. فهام على وجهه والكتاب المقدس في يده. نقد السلطتين الدينية والسياسية؛ فالدين نور داخلي باطني، ورفض الانحناء لأي مخلوق. سُجن عدة مرات، ولكن كرومويل حاكمه محاكمة عادلة وأطلق سراحه. وتُعتبر «يومياته» إحدى روائع الأدب الديني. وانقسمت جماعته بعده إلى ثلاثة مجموعات: أمريكية أرثوذكسية، وليبرالية، وشكلانية.
٤٠  «موقفنا من التراث الغربي»، «قضايا معاصرة»، الجزء الثاني، في الفكر الغربي المعاصر، ص٢٤-٢٥؛ وأيضًا «الظاهريات وأزمة العلوم الأوروبية»، نفس المصدر، ص٣١٧-٣١٨.
٤١  فرانسيس بيكون (١٥٦١–١٦٢٦م) فيلسوف بريطاني وُلد في لندن من عائلة أحد كبار موظفي الدولة. تقلد مناصب عالية. اتُّهم بالفساد في ١٦٢١م، وحُكم عليه بالغرامة، وطُرد من البلاط. أهم مؤلفاته: «محاولات» ١٥٩٧ / ١٦٢٥م، «تقدم التعليم» ١٦٠٥ / ١٦٢٣م، «الآلة الجديدة» ١٦٢٠م، وبعد وفاته صدرت «أطلانطا الجديدة» ١٦٦٠م. هذا بالإضافة إلى مؤلفات قانونية وتاريخية وعلمية ومأثورات.
٤٢  «علم المستقبليات» في «دراسات فلسفية» ص٥٥١–٥٩٩؛ وأيضًا «في الثقافة الوطنية» في «الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م»، الجزء الأول: «الدين والثقافة الوطنية» ص١١–٥٧، مدبولي، القاهرة ١٩٨٨م.
٤٣  بويل (١٦٢٧–١٦٩٢م) كيميائي بريطاني. أشهر كتاب له هو «الكيميائي الشاك».
٤٤  Nothing by mera authority. Nulltus in verba.
٤٥  نيوتن (١٦٤٢–١٧٢٧م) رياضي وعالم طبيعة بريطاني. عُين أستاذًا للرياضيات في جامعة كمبردج. ثم قدَّم بحثًا في الضوء في ١٦٧٢م نال بعده شهرة واسعة. درس الكيمياء اللاعلمية واللاهوت وتاريخ العالم. أشهر مؤلفاته «المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعة» ١٦٨٧م. وله أيضًا كتاب «المناظر» ١٧٠٤م الموجه إلى غير الرياضيين.
٤٦  هوبز (١٥٨٨–١٦٧٩م) فيلسوف مادي إنجليزي تأثر بالثورة البرجوازية في القرن السابع عشر في إنجلترا. تأخر في نضجه الفلسفي مثل سبنسر وكثير من الفلاسفة الماديين، في حين ينضج العقلانيون مبكرًا، باستثناء كانط الذي كان عالم جغرافيا في البداية. مؤلفاته عديدة سواء في الترجمة أو اللغة أو الفلسفة أو القانون أو السياسة. فقد ترجم «تاريخ الحرب البيلوبونيزية» لثوكيديدس، وآخر جزء في «الإلياذة والأوديسة» لهوميروس. وكتب «رسالة صغيرة في الإنجليزية». وهو مؤلف «الاعتراضات الثالثة» على التأملات لديكارت. وفي الفلسفة كتب «في الأجسام»، «في الإنسان»، «عناصر القانون» ١٦٤٠م. وفي الأخلاق والسياسة كتب «في الدولة»، «التنين» ١٦٥٠م وهو أشهر مؤلفاته.
٤٧  لوك (١٦٣٢–١٧١٤م) أكبر الفلاسفة الإنجليز وأعظمهم تأثيرًا، وأصبح فكره أساس الفكر الإنجليزي التجريبي والديمقراطية الليبرالية. كان أبوه من أنصار البرلمانيين في الحرب الأهلية، وينتسب إلى مذهب التقوى. بدأ بدراسة الطب والكيمياء ولكن لم تعجبه الدراسات المدرسية، فتعلم على يد بويل العالم الإنجليزي. ذهب إلى هولندا حتى ثورة ١٦٨٨م، وكان التيار السائد هو تيار التوابين. أهم أعماله الفلسفية: «محاولة في الفهم الإنساني» ١٦٩٠م، «رسالتان في الحكومة» ١٦٨٩م، «رسالة في التسامح» ١٦٨٩م، بعض «الأفكار في التربية» ١٦٩٣م، «معقولية الدين المسيحي كما هو منصوص عليها في الكتب المقدسة» ١٦٩٥م. ويُنشر الآن عديد من رسائله التي لم يسبق نشرها.
٤٨  جون تولاند (١٦٧٠–١٧٢٢م) فيلسوف مادي إنجليزي. حُرق كتابه «المسيحية ليست سرًّا» ١٦٩٦م، ولكنه هرب من الاضطهاد.
٤٩  جان ميليه (١٦٦٤–١٧٢٩م) فيلسوف مادي فرنسي، مؤسس تيار ثوري اشتراكي في فرنسا. له كتاب «العهد»، وقد نُشر بعد وفاته بمائتي عام في ١٨٦٤م، ولكن قرأه فولتير ومارشال وبابيف وهو ما زال مخطوطًا.
٥٠  «الظاهريات وأزمة العلوم الأوروبية» في «قضايا معاصرة»، الجزء الثاني، في الفكر الغربي المعاصر ص٣١٧.
٥١  اقتصرنا هنا على عرض فولف، وأرجأنا عرض هيوم إلى الحديث عن التجريبية الحسية في القرن الثامن عشر.
٥٢  فولف (١٦٧٩–١٧٥٤م) فيلسوف عقلي وتنويري ألماني من أتباع لَيبنتز. أعماله كثيرة أشهرها: «الفلسفة الأولى الأُنطولوجيا» ١٧٢٩م، «تأملات عقلية عن قوى الإنسان الذهنية» ١٧١٢م.
٥٣  باومجارتن (١٧١٤–١٧٦٢م) فيلسوف ألماني، عُرف بأنه أول مؤسس لعلم الجمال وأول من استعمل اللفظ بمعناه الحالي «الأستطيقا». له مؤلفات عدة مثل: «الميتافيزيقا» ١٧٤٠م، «الفلسفة الأخلاقية» ١٧٤٠م، «علم الجمال» ١٧٥٠ / ١٧٥٨م وهو كتاب لم يتم.
٥٤  «موقفنا من التراث الغربي»، «قضايا معاصرة»، الجزء الثاني: في الفكر الغربي المعاصر ص٢٠.
٥٥  الحدس العقلي أو النظري ترجمة للفظ Eidétique عند هُوسِرل.
٥٦  «الظاهريات وأزمة العلوم الأوروبية» في «قضايا معاصرة»، الجزء الثاني: في الفكر الغربي المعاصر ص٣١٨-٣١٩.
٥٧  لم نشأ إعطاء عرض تفصيليٍّ لحياة كانط وأعماله وفلسفته نظرًا لوجود عدة دراسات عن كانط في ثقافتنا المعاصرة تعرض أعماله وفلسفته. وقد قمنا بما يغني عن ذلك بعض الشيء في دراستنا «الدين في حدود العقل وحده عند كانط»، قضايا معاصرة، الجزء الثاني: في الفكر الغربي المعاصر، ص١٣١–١٧٠؛ وأيضًا «الصراع بين الكليات الجامعية عند كانط»، دراسات فلسفية، ص٣١٩–٣٦١. وعلى سبيل التذكير فحسب يمكن تصنيف أعمال كانط إلى مراحل ثلاثة: ما قبل النقدية، والنقدية، وما بعد النقدية. وعلى الرغم من تداخل المراحل، فذكرها تاريخيًّا على هذا النحو يساعد على رؤية كيفية بناء المذهب تدريجيًّا (لم نشأ ذكرها بالإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية تخفيفًا).
  • (١)

    المرحلة قبل النقدية: «المونادولوجيا الفيزيقية» ١٧٥٦م، «تعريف جديد للحركة والسكون» ١٧٥٨م، «اعتبارات في التفاؤل» ١٧٥٩م، «الدقة المزيفة لأشكال القياس الأربعة» ١٧٦٢م، «الأساس الوحيد للبرهنة على وجود الله» ١٧٦٣م، «محاولة لتقديم مفهوم الكم السلبي في الفلسفة» ١٧٦٣م، «بحث في بداهة مبادئ اللاهوت الطبيعي والأخلاق» ١٧٦٣م، «ملاحظات في الشعور بالجميل والجليل» ١٧٦٤م، «أحلام راءٍ مفسرة بأحلام ميتافيزيقية» ١٧٦٦م، «إعلان برنامج دروس كانط في فصل الشتاء» ١٧٦٥-١٧٦٦م، ١٧٦٧م، «الأساس الأول لاختلاف المناطق في الفضاء» ١٧٦٨م، «رسالة ١٧٧٠م»، «في الأجناس البشرية المختلفة» ١٧٧٥–١٧٧٧م.

  • (٢)

    المرحلة النقدية: «نقد العقل الخالص» ١٧٨١م، «نقد العقل العملي» ١٧٨٨م، «نقد ملكة الحكم» ١٧٩٠م، وأثناء هذه المرحلة هناك عدة مؤلفات أخرى مثل: «تأملات في التربية» ١٧٧٦–١٧٨٧م، «محاضرات في الأخلاق» ١٧٨٠-١٧٨١م، «مقدمات لكل ميتافيزيقا مستقبلة تريد أن تصير علمًا» ١٧٨٣م، «فكرة تاريخ شامل من وجهة النظر الكونية» ١٧٨٤م، «رد على سؤال: ما هي الأنوار؟» ١٧٨٤م، «عرض لكتاب هردر: أفكار من أجل تأسيس فلسفة تاريخ للإنسانية» ١٧٨٥م، «تحديد مفهوم الجنس البشري» ١٧٨٥م، «افتراضات حول بدايات تاريخ الإنسانية» ١٧٨٦م، «استعمال المبادئ الغائية في الفلسفة» ١٧٨٨م، «ما هو التوجه في الفكر؟» ١٧٨٦م، «المبادئ الميتافيزيقية الأولى لعلم الطبيعة» ١٧٨٦م، «رد على إبرهارد» ١٧٩١م، «أسس ميتافيزيقا الأخلاق» ١٧٨٥م.

  • (٣)

    المرحلة ما بعد النقدية: «في فشل كل محاولات نظريات العدل الإلهي» ١٧٩١م، «الدين في حدود العقل وحده» ١٧٩٣م، «تقدم الميتافيزيقا في ألمانيا منذ لَيبنتز حتى فولف» ١٧٩٣م، «في التعبير الشائع: قد يكون صحيحًا نظريًّا ولا قيمة له عمليًّا» ١٧٩٣م، «نهاية (غاية) كل شيء» ١٧٩٤م، «مشروع السلام الدائم» ١٧٩٥م، «في ادعاء واجب الكذب لدافع إنساني» ١٧٩٧م، «علم الإنسان من وجهة النظر البرجماتية» ١٧٩٧م، «صراع الكليات» ١٧٩٨م، «المنطق» ١٧٩٨م، «رسائل في الأخلاق والدين» ١٧٧٥–١٧٩٧م، بالإضافة إلى مجموعة أخرى من الأوراق نُشرت بعد وفاته.

٥٨  والحقيقة أني في حيرة من ضرورة عرض المذهب قبل قراءته وهو ما يفيد الطلاب، أو في قراءة المذهب مباشرة دون عرضه وهو ما يحقق فائدة أعظم من حيث تفادي الأشياء والمعروفة والتركيز على القراءة. العرض أضعف من القراءة، والقراءة أقوى من العرض كما يبدو ذلك من عرض كانط وقراءته.
٥٩  Kant: Critique de la Raison pure, p. 24, Trad. A. Tremesaygues & B. Pacaud, PUF, Paris, 1950.
٦٠  «موقفنا من التراث الغربي» في «قضايا معاصرة»، الجزء الثاني، في الفكر الغربي المعاصر ص٢٠-٢١.
٦١  سنعرض لهؤلاء الفلاسفة عندما يأتي الدور على وصف تكوين الوعي الأوروبي في مرحلة الذروة (القرن التاسع عشر) وفي مرحلة نهاية البداية (النصف الأول من القرن العشرين).
٦٢  نيقولاي (١٧٣٣–١٨١١م) فيلسوف ألماني معاصر لكانط وأحد أتباع مدرسة لَيبنتز وفولف.
٦٣  سالومون ميمون (١٧٥٤–١٨٠٠م) فيلسوف يهودي، ومؤلف ضليع في التراث الرباني. أهم مؤلفاته: «محاولة لإقامة فلسفة ترنسندنتالية» ١٧٩٠–١٧٩٢م، «محاولة لإقامة منطق جديد أو نظرية الفكر» ١٧٩٤م.
٦٤  مندلسون (١٧٢٩–١٧٨٦م) فيلسوف يهودي ألماني تأثر بالأدب الألماني، وأول من تصور التحرر الاجتماعي لليهود من خلال فلسفة التنوير. أهم أعماله: «فيدون» ١٧٦٧م، «ساعات الصباح» ١٧٨٥م، «القدس» ١٧٨٣م. وقد جمعت أعماله الأخرى في «كتابات في الفلسفة والجمال والوعظ الديني».
٦٥  بركلي (١٦٨٥–١٧٥٣م) فيلسوف أيرلندي من أصل إنجليزي، أصبح أسقفًا في ١٧٣٤م. نشر مؤلفاته منذ الصغر مثل: «محاولة لتأسيس نظرية جديدة في الرؤية» ١٧٠٩م، «مبادئ المعرفة الإنسانية» ١٧١٠م، «محاورات بين هيلاس وفيلونوس» ١٧١٣م، «السيفرون أو الدقيقة» ١٧٣٢م، «نظرية الرؤية والدفاع عنها» ١٧٣٣م، «فلسفة» ١٧٣٣م، «سيريس» ١٧٤٤م، «في الحركة» نُشر بعد وفاته.
٦٦  الظاهرية Phenomenalism، الظاهراتية Phenomenology.
٦٧  برايس (١٧٢٣–١٧٩١م) وزير معارضة من ويلز. كتب «مراجعة المسائل الأساسية والصعوبات في الأخلاق» ١٧٥٨م، مما أثار بيرك للرد عليه في «تأملات في الثورة في فرنسا» ١٧٩٠م، وربما أيضًا أثار نقد مالتوس في محاولته الأولى.
٦٨  توماس ريد (١٧١٠–١٧٩٦م) فيلسوف اسكتلندي دخل الدير بعد فترة. ثم أصبح أستاذًا للجامعة في الفلسفة الخلقية. مؤلفه الرئيسي «بحث في الذهن الإنساني حول مبادئ الحس المشترك» ١٧٦٤م، «محاولات في القوى العقلية للإنسان» ١٧٨٥م، «محاولات في القوى الفعالة للعقل الإنساني» ١٧٨٨م.
٦٩  وهناك فلاسفة آخرون أقل شهرة مثل كيمس (١٦٩٦–١٧٨٢م) وهو محام اسكتلندي كان مشهورًا في عصره وأصبح لوردًا في القضاء، وقاضيًا في محكمة النقض. دخل في حوار مفتوح مع أقرانه بعد نشر كتابيه «مبادئ الأخلاق والدين الطبيعي»، «عناصر النقد».
٧٠  شيلر (١٧٥٩–١٨٠٥م) فيلسوف وشاعر وكاتب مسرحي ألماني. تأثر بروسو ولِسِنج، وأسس حركة العاصفة والاندفاع، وأصبح ممثل الرومانسية في الشعر والأدب والجمال والسياسة. له: «رسائل في التربية الجمالية للإنسانية ١٧٩٤-١٧٩٥م»، «رسائل فلسفية» ١٧٨٦م، «في الجمال والجلال» ١٧٩٣م. ومن مسرحياته: «قاطعو الطريق» ضد الإقطاع والظلم الاجتماعي، «القبالة والحب».
٧١  جاكوبي (١٧٤٣–١٨١٩م) فيلسوف مثالي رومانسي ألماني آخر. كان رئيسًا لأكاديمية منشن للعلوم. أهم أعماله: «في مذهب اسبينوزا في رسائل إلى موسى مندلسون» ١٧٨٥م، «دافيد هيوم: في الإيمان» ١٧٨٧م، «رسالة مفتوحة إلى فشته» ١٧٩٩م.
٧٢  سويدنبُرج (١٦٨٨–١٧٧٢م) عالم طبيعي سويدي انقلب إلى التصوف والإشراق، بدأ أعماله العلمية في الرياضيات والميكانيكا والفلك والتعدين، بالإضافة إلى الانتساب إلى العقلانية عند لَيبنتز وفولف. ونتيجة لصدمة عصبية وهلوسات أعلن نفسه رسول الرُّوح القدس، بدأ تفسير الكتاب المقدس تفسيرًا رمزيًّا بِناءً على تكليف من المسيح نفسه. وقد نقده كانط في «أحلام راءٍ مفسرة بأحلام ميتافيزيقية» ١٧٦٦م. أهم مؤلفاته: «العمد السماوية» ١٧٤١–١٧٥٦م، و«الجنة والنار» ١٧٥٨م. وله أتباع كثيرون في فرنسا وألمانيا وروسيا.
٧٣  هامان (١٧٣٠–١٧٨٨م) فيلسوف مثالي ألماني. وكان له أبلغ الأثر في حركة «الاندفاع والعاصفة». عمله الرئيسي «مفترق الطرق للبلاغيين» ١٧٦٢م.
٧٤  جراي (١٦٦٩–١٧٤٥م) باحث إنجليزي ورجل دين. درس الأخلاق في كتابه «رسالة في المبدأ الأساسي للفضيلة أو الأخلاق».
٧٥  هارتلي (١٧٠٥–١٧٥٧م) طبيب إنجليزي وفيلسوف مادي وعالم نفس. وله «ملاحظات حول الإنسان، إطاره، وواجبه، وتوقعاته» ١٧٤٩م.
٧٦  هيوم (١٧١١–١٧٧٦م) فيلسوف اسكتلندي ومؤرخ وأديب. أهم مؤلفاته: «مقال في الطبيعة الإنسانية، محاولة لتقديم المنهج التجريبي في الاستدلال في الموضوعات الأخلاقية»، ثم لخصه بعد ذلك في «ملخص لرسالة في الطبيعة البشرية»، «فحص خاص بالفهم الإنساني» ١٧٤٨م، «فحص خاص بمبادئ الأخلاق»، «فحص خاص بالانفعالات»، «محاورات خاصة بالدين الطبيعي»، «التاريخ الطبيعي للدين»، «تاريخ إنجلترا».
٧٧  «الظاهريات وأزمة العلوم الأوروبية»، قضايا معاصرة، الجزء الثاني، في الفكر الغربي المعاصر ص٣١٧-٣١٨.
٧٨  بريستلي (١٧٣٣–١٨٠٤م) عالم وفيلسوف مادي إنجليزي. اكتشف الأوكسجين واشتغل بالبصريات والكهرباء.
٧٩  وليم بالي (١٧٤٣–١٨٠٥م) رجل دين إنجليزي معروف بكتاباته اللاهوتية. له في الأخلاق كتاب «مبادئ الفلسفة الأخلاقية والسياسية»، ظل مستعملًا في جامعة كمبردج سنوات عديدة. وله أيضًا «الساعات البولينية» ١٧٩٠م، «رأي في بداهة المسيحية» ١٧٩٤م، «اللاهوت الطبيعي» ١٨٠٢م.
٨٠  «موقفنا من التراث الغربي»، قضايا معاصرة، الجزء الثاني، في الفكر الغربي المعاصر ص٢٤-٢٥. ويمثل هذا التيار الشيخ طنطاوي جوهري في الفكر العربي المعاصر.
٨١  لامتري (١٧٠٩–١٧٥١م) طبيب مادي وفيلسوف. اضطهده الكهنوت والسلطات العلمانية نظرًا لتعاليمه المناهضة لتعاليم الكنيسة وللعلم القديم. أهم أعماله: «الإنسان الآلة» ١٧٤٧م، «مذهب أبيقور» ١٧٥٠م، «التاريخ الطبيعي للنفس» ١٧٤٥م، «الإنسان النباتي» ١٧٤٨م، «خطاب في السعادة» ١٧٤٨م.
٨٢  هلفسيوس (١٧١٥–١٧٧١م) فيلسوف مادي فرنسي. أهم أعماله: «في الرُّوح» ١٧٥٨م، «في الإنسان، ملكاته وتربيته» ١٧٧٣م. وحُرقت كتبه في باريس وأدانته جامعة السربون. كان فيلسوفًا محبًّا للإنسان، وكان أحد كُتاب دائرة المعارف الفلسفية.
٨٣  دي شامب (١٧١٦–١٧٧٤م) راهب بندكتيني (في عزلة مطلقة عن الناس). عمله الرئيسي «الحقيقة أو المذهب الحقيقي». ظهر أولًا بالروسية في ١٩٣٠م.
٨٤  الكل الشامل The Universal Whole.
٨٥  كوندياك (١٧١٥–١٧٨٠م) فيلسوف مادي فرنسي. وبالرغم من تنصيبه قسيسًا فقد ارتبط بالتيارات العلمانية لأنصار دائرة المعارف الفلسفية. أهم مؤلفاته: «محاولة في نشأة المعارف الإنسانية» ١٧٤٦م، «رسالة في الإحساسات» ١٧٥٤م، «رسالة في المذاهب» ١٧٤٦م، «اللغة والحسابات» ١٧٥٨م.
٨٦  هولباخ (١٧٢٣–١٧٨٩م) فيلسوف مادي فرنسي اتُّهم بالإلحاد. أصله ألماني ولكنه قضى حياته في فرنسا. أهم كتبه: «نسق الطبيعة» ١٧٧٠م وقد حُرق علنًا بأمر البرلمان، «المسيحية المكشوفة» ١٧٦١م، «لاهوت الجيب» ١٧٦٨م، «الحس السليم أو الأفكار الطبيعية المعارضة بالأفكار التي تفوق الطبيعة» ١٧٢٢م.
٨٧  كابانيس (١٧٥٧–١٨٠٨م) فيلسوف مادي وطبيب فرنسي مستنير. عاصر ثورة ١٧٨٩–١٧٩٤م. وكان من حزب الجيرونديين (يمين الثورة). أدان إرهاب اليعاقبة. عمله الرئيسي «مقال في فيزيقا الإنسان وأخلاقه» ١٨٠٢م.
٨٨  لابلاس (١٧٤٩–١٨٢٧م) فيلسوف رياضي فرنسي. له كتابان رئيسيان: «عرض نظام العالم» ١٧٩٨م، «محاولة فلسفية في الاحتمالات» ١٨١٤م.
٨٩  هتشسون (١٦٩٤–١٧٤٦م) فيلسوف أخلاقي بريطاني وعالم جمال تجريبي. له كتاب «بحث في أصل أفكارنا عن الجمال والفضيلة» ١٧٢٥م.
٩٠  بتلر (١٦٩٢–١٧٥٢م) قسيس أنجليكاني، أسقف بريستول دورهام. أهم مؤلفاته: «خمس عشرة موعظة» ١٧٢٦م، «قياس الدين»، «في طبيعة الفضيلة» ١٧٣٦م.
٩١  آدم سميث (١٧٢٣–١٧٩٠م) فيلسوف وعالم اقتصادي وسياسي اسكتلندي، ودرس الفلسفة الأخلاقية مع هتشسون في جلاسجو، ثم أصبح أستاذ الفلسفة الخلقية والمنطق بها. وقد ذاعت شهرة كتابه «ثروة الأمم» ١٧٧١م أكثر من كتابه الأول «نظرية العواطف الخلقية» ١٧٥٩م.
٩٢  «الدين في حدود العقل وحده لكانط»، «القاموس الفلسفي لفولتير» في «قضايا معاصرة»، الجزء الثاني: في الفكر الغربي المعاصر ص٦١–١٧٠.
٩٣  هو الصديق د. عبد الله العروي في كتابه «العرب والفكر التاريخي».
٩٤  وقد عُرف عنا هذه الدعوى في كتاباتنا الشعبية العديدة سواء في التنوير الأوروبي أو في الدعوة إلى تيار ديني مستنير. انظر مثلًا: «الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م»، الجزء الأول: «الدين والثقافة الوطنية»، الجزء الثاني: «الدين والتحرر الثقافي»، خاصة «عن التنوير» ص٤٧–٦٦، «من التراث إلى التحرر» ص٦٧-٦٨، «الضباط الأحرار أم المفكرون الأحرار؟» ص٧٩–٩٨، «الجذور التاريخية لأزمة الحرية والديمقراطية في وجداننا المعاصر» ص٩٩–١١٨، «هل يمكن قفز المراحل التاريخية؟» ص١٧٢–١٧٥، «روسو وفولتير في مصر» ص١٩٧–٢٠٠، «تحرر العقل العربي» ص٢٠١–٢١٤، «من بيروت إلى النهضة، أسئلة واختيار» ص٢٢٣–٢٥٠، «التنوير؟» ص٢٧٤–٢٧٩، الجزء الثامن: «اليسار الإسلامي والوحدة الوطنية»، خاصة «التنوير الدين والتنظيم السياسي» ص١٧٥–١٨٨، «مأساة الأحزاب التقدمية في البلاد المتخلفة» ص١٨٩–٢١٤.
٩٥  ديدرو (١٧١٣–١٧٨٤م) كاتب وفيلسوف فرنسي. درس في باريس وتعرف على روسو. ترجم أعمال لوك وشافتسبري في ١٧٥٠م، ثم أصبح محرر «دائرة المعارف» وناشرها. وكتب فيها عدة مقالات عن الجمال والأخلاق والنظرية الاجتماعية وفلسفة التاريخ. وكان ناقدًا أدبيًّا وفنيًّا ومنظرًا للعلوم الاجتماعية. له أبلغ الأثر مع فولتير على الفكر الاجتماعي المعاصر. وبالرغم مما ناله من اضطهاد؛ إذ حُكم عليه بسبب تهمة الإلحاد بالسجن خمسة أشهر، نجح في نشر «دائرة المعارف» بالإضافة إلى مؤلفات أخرى عديدة في الفلسفة والأدب أهمها: «أفكار في تفسير الطبيعة» ١٧٥٤م، «مقابلة مع دالمبير وديدرو» ١٧٦٩م، «مبادئ فلسفية في المادة والحركة» ١٧٧٠م، «عناصر الفيزيولوجيا» ١٧٧٤–١٧٨٠م، «في كفاية الدين الطبيعي» ١٧٤٧م، «رسائل في العميان» ١٧٤٩م، «حلم دالمبير» ١٧٦٩م، «الراهبة» ١٧٦٠م، «يعقوب القدري» ١٧٧٣م، «ابن عم رامو» ١٧٦١-١٧٦٢م/ ١٧٧٩م.
٩٦  دالمبير (١٧١٧–١٧٨٣م) صديق ديدرو. كان مسئولًا عن الجانب الرياضي في «دائرة المعارف»، وأهم أعماله الأخرى «محاولة في عناصر الفلسفة» ١٧٥٩م.
٩٧  مونتسكيو (١٦٨٩–١٧٥٥م) فيلسوف قانون ومستشار رئيس البرلمان في بوردو. انتُخب عضوًا في الأكاديمية الفرنسية في ١٧٢٨م. نقد الكنيسة والكهنوت ولكنه كان مؤمنًا. كتب مقالًا في «الذوق» في «دائرة المعارف» وبعد أربع عشرة سنة كتب «رُوح القوانين» ١٧٤٨م. وله أيضًا: «رسائل فارسية» ١٧٢١م، «اعتبارات حول أسباب عظمة الرومانيين وسقوطهم» ١٧٣٤م.
٩٨  روسو (١٧١٢–١٨٨٧م) فيلسوف سياسي وتربوي. ولد في جنيف، وعاش في باريس منذ ١٧٤١م. ساهم في دائرة المعارف وأصبح أحد المتحدثين باسم الرومانسية. تعرض للأذى والاضطهاد، فقضى بعض السنوات خارج فرنسا تحت حماية فردريك الأكبر، ثم في إنجلترا حيث صادق هيوم ثم اختلف معه. أهم مؤلفاته: «إميل» ١٧٦٢م وهو مقال في التربية، «في العَقد الاجتماعي» ١٧٦٢م والذي أصبح إنجيل اليعاقبة، «خطاب في نشأة اللامساواة بين الناس وأسسها» ١٧٥٥م، «هيلويز الجديدة».
٩٩  فولتير (١٦٩٤–١٧٧٨م) فيلسوف ومؤرخ وكاتب مسرحي. انتُخب أيضًا في الأكاديمية الفرنسية في ١٧٦٤م. وقُدم للمحاكمة مرات عديدة بسبب كتاباته. ونُفي وسُجن مرتين في ١٧١٧م، ١٧٢٥م لتهكمه على الإقطاع. قضى معظم حياته خارج فرنسا. عمل مع ديدرو في «دائرة المعارف». وأهم مؤلفاته: «رسائل تخص الأمة الإنجليزية» ١٧٣٣م، «رسائل فلسفية» ١٧٣٤م وتتضمن مضمون المؤلف الأول، ولكن منقوله إلى الشعب الفرنسي ومكتوبه للجمهور العام، «القاموس الفلسفي» ١٧٦٤م، «محاولة في العادات ورُوح الشعب» ١٧٥٦م، «رسالة في التسامح» ١٧٦٣م، «التاريخ الشامل» ١٧٦٩م، «عناصر فلسفة نيوتن» ١٧٣٨م، «رسالة في الميتافيزيقا» ١٧٣٤م، ومن رواياته الساخرة «كانديد» ينقد فيها فلسفة التفاؤل عند لَيبنتز ويؤكد فيها وجود الشر في العالم. انظر أيضًا: دراستنا «القاموس الفلسفي لفولتير» في قضايا معاصرة، الجزء الثاني: في الفكر الغربي المعاصر ص١٠٠–١٣٠.
١٠٠  انظر دراستنا «مدرسة تاريخ الأشكال الأدبية» في «دراسات فلسفية» ص٤٨٧–٥٢٣.
١٠١  نايجون (١٧٣٨–١٨١٠م) صديق ديدرو ومساعده في نشر «دائرة المعارف». أهم أعماله: «الفلسفة الحربية» ١٧٦٨م. وشارك في نشر كتاب هولباخ «نظام الطبيعة»، واشترك معه في كتابه «لاهوت الجيب». وخصص باقي حياته لنشر أعمال ديدرو.
١٠٢  تورجو (١٧٢٧–١٧٨١م) اقتصادي مادي ورجل دولة. يشارك في نفس الإطار الفلسفي لديدرو وهولباخ وهلفسيوس. عمله الرئيسي «تأملات في تكوين الثروات وتوزيعها» ١٧٧٦م.
١٠٣  كوندرسيه (١٧٤٣–١٧٩٤م) من أصحاب «دائرة المعارف». تعاطف مع الجيروندية، أي يمين الوسط في الثورة الفرنسية. وكان عضوًا في أكاديمية العلوم في باريس في الاقتصاد. كتابه الرئيسي «تخطيط لرؤية تاريخية لتقدم الرُّوح الإنسانية» ١٧٩٤م.
١٠٤  انظر مقدمتنا عن فلسفة التاريخ في لسنج: تربية الجنس البشري ص١١٩–١٢٥.
١٠٥  موريللي شيوعي طوباوي. عمله الرئيسي «قانون الطبيعة» ١٧٥٥م. وكان له أبلغ الأثر في الفكر الطوباوي في القرن الثامن عشر، خاصة عند بابيف والبابيفيين، وفي القرن التاسع عشر عند كابيه وبلانكي والبلانكيين.
١٠٦  دي مابلي (١٧٠٩–١٧٨٥م) من الاشتراكيين الطوباويين في القرن الثامن عشر.
١٠٧  كان من أعضائها: بوناروتي، مارشال، ليبلتييه، أنتونل، دارتي، جيرمان، ديبون، وغيرهم. كُشفت هذه المؤامرة، وقُبض على زعيمها، وأُعدم هو وزميله دارتي بالمقصلة في ١٧٩٧م. وتشبه ثورة العمال في مصر إبان ثورة ١٩١٩م لتوليد الثورة الاشتراكية من خلال الثورة الوطنية، وكذلك إضراب عمال كفر الدوار بعد اندلاع الثورة المصرية في ١٩٥٢م.
١٠٨  مارشال (١٧٥٠–١٨٠٣م) انضم إلى حركة بابيف، وأصبح شيوعيًّا طوباويًّا وألف في ذلك كتابه «بيان المتساوين» ١٧٩٤م.
١٠٩  فيكو (١٦٦٨–١٧٤٤م) أستاذ القانون والفلسفة وأستاذ البلاغة اللاتينية في جامعة نابولي بإيطاليا. وكتابه «العلم الجديد» ظهرت طبعته الأولى في ١٧٢٥م والثانية في ١٧٣٠م والثالثة في ١٧٤٤م، وعنوانه الكامل «مبادئ العلم الجديد لجيامباتستا فيكو الخاص بالطبيعة المشتركة بين الأمم» وتم حذف «والذي يسمح باكتشاف مبادئ نسق آخر لقانون طبيعي للشعوب» من الطبعة الاولى. وكانت هناك محاولة سابقة لتسميته «العلم الجديد الخاص بمبادئ الإنسانية». ظهرت ترجمة ألمانية له في ١٨٣٢م وأخرى فرنسية قام بها ميشيليه في ١٨٢٧م.
١١٠  انظر دراستنا: «فلسفة التاريخ عند فيكو»، دراسات فلسفية ص٣٦٣–٣٩٩.
١١١  فِنكِلمان (١٧١٧–١٧٦٨م) مؤرخ ومنظر للفن. قام بأول محاولة علمية لكتابة تاريخ الفن في «تاريخ الفن القديم» ١٧٦٤م.
١١٢  لِسِنج (١٧٢٩–١٧٨١م) ناقد وعالم جمال ومؤلف مسرحي ومؤرخ ولاهوتي وفيلسوف. أهم أعماله الأدبية «لاوكئون» ١٧٦٦م، «دراما همبورج» ١٧٦٧–١٧٦٩م، «ناثان الحكيم» ١٧٧٨م، «تربية الجنس البشري» ١٧٨٩م. وقد قمنا بترجمة الأخير إلى اللغة العربية.
١١٣  هردر (١٧٤٤–١٨٠٣م) فيلسوف وناقد وعالم لغة. أهم أعماله: «ما بعد النقد» ١٧٩٩م، «كاليجون» ١٨٠٠م، «رسائل في متطلبات الإنسانية» ١٧٩٣م، «رسائل في محاورات إلهية حول مذهب اسبينوزا» ١٧٨٧م، «مقال في نشأة اللغة» ١٧٧٢م، «أفكار في فلسفة تاريخ الإنسانية» ١٧٨٤–١٧٩١م، «فلسفة أخرى للتاريخ» ١٨٠٠م.
١١٤  سبق الحديث عن هيوم في التجريبية الإنجليزية في القرن الثامن عشر، وعن فلسفة التاريخ عند كانط في العقلانية في القرن الثامن عشر.
١١٥  إدواردز (١٧٠٣–١٧٥٨م) أول عبقرية فلسفية ولد وعاش في الولايات المتحدة. تعلم في ييل وأصبح رئيس جامعة برنستون، ونشط في اليقظة الكبرى في ١٧٤٠م. كتابه الرئيسي «بحث في حرية الإرادة» ١٧٥٤م. وقد قام بالتبشير للهنود بعد احتلال أراضيهم والسيطرة عليهم.
١١٦  ألِين (١٧٣٧–١٧٨٩م) من أوائل المؤلهة الأمريكيين بالرغم من أنه أقل شهرة من إدواردز. وكان زعيم جماعة «أولاد الجبل الأخضر» المعروفة بمغامراتها أثناء الثورة الأمريكية. كتابه الرئيسي «العقل، معجزة الإنسان الوحيدة» ١٧٨٤م.
١١٧  بنيامين فرانكلين (١٧٠٦–١٧٩٠م) مفكر أمريكي وقائد سياسي وعالم موسوعي. قاد نضال الشعب الأمريكي من أجل الاستقلال، وأصبح مفكر الثورة الأمريكية في ١٧٧٥–١٧٨٣م.
١١٨  توماس بين (١٧٣٧–١٨٠٩م) فيلسوف وكاتب سياسي وثوري أمريكي، ولد في إنجلترا. له: «الحس المشترك»، «حقوق الإنسان» ١٧٩١-١٧٩٢م ردًّا على كتاب بيرك، «عصر العقل» ١٧٩٤–١٧٩٦م.
١١٩  إدموند بيرك (١٧٢٩–١٧٩٧م) كاتب وفيلسوف ورجل دولة بريطاني. مساهمته الفلسفية كتابه «فحص فلسفي في نشأة أفكارنا عن الجليل والجميل» ١٧٥٦م. وكتب هجومًا على الثورة الفرنسية في «تأملات في الثورة في فرنسا» ١٧٩٠م.
١٢٠  سكوفورودا (١٧٢٢–١٧٩٤م) فيلسوف ديمقراطي وشاعر أوكراني. رفض الكهنوت في التعليم وآثر أن يكون فيلسوفًا واعيًا. لم تُنشر أعماله أثناء حياته باستثناء «حوار أخوي حول العالم الرُّوحي» ١٧٧٥م، «فيضان الأفاعي» ١٧٩١م. وظلت باقي أعماله مخطوطات يقرؤها الناس بالتبادل بينهم.
١٢١  الطبيعة Macrocosme، الإنسان Microcosme.
١٢٢  راديشيف (١٧٤٩–١٨٠٢م) أبو الفكر الثوري في روسيا من خلال كتاباته العامة وليس من خلال أعمال فلسفية محكمة. ترجم كتاب دي مابلي «أفكار حول التاريخ اليوناني» ١٧٧٣م. وله أيضًا: «رسالة إلى صديق يعيش في توبولسك» ١٧٨٢م، «حياة أوشاكوف» ١٧٨٩م. وقد أكمل المادة العلمية التي ذكرها ديدرو ورينال في كتابهما «التاريخ الفلسفي لتجارة الهندين». وأعطى نماذج من روسيا في كتابه «الرحلة من سانت بترسبورج إلى موسكو» ١٧٩٠م. حُكم عليه بالموت ثم خُفف إلى النفي إلى سيبيريا في ١٧٩٠م. كتب في منفاه «في الإنسان، أخلاقه وخلوده» ١٧٩٢م. وأخيرًا انتحر بعد ما سمع عن الصعوبات التي واجهت الثورة الفرنسية.
١٢٣  انظر العديد من دراساتنا بهذا المعنى في «رسالة الفكر»، «دور المفكر في البلاد النامية» في قضايا معاصرة، الجزء الأول: «في فكرنا المعاصر» ص٣–٤٠. وقد كتبنا «الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م»، ثمانية أجزاء، بهذه الرُّوح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥