يبلغ الوعي الأوروبي الذروة بعد كانط عند الكانطيين. ثم يبرز من بينهم هيجل ليبلور
هذه
الذروة في اليسار الهيجلي والهيجلية الجديدة في التيار الصاعد الذي خرج من ديكارت. كما
يبلغ
الذروة بعد هيوم لدى كُومت ودارون ومِل في التيار النازل الذي خرج من بيكون. فإذا كانت
البداية الأولى في الخط الصاعد ديكارت، والثانية كانط، والثالثة هيجل في الذروة، فإن
البداية
الأولى في الخط النازل بيكون، والثانية هيوم، والثالثة كومت أو دارون. بل يكاد يوجد لكل
فيلسوف على الخط الأول فيلسوف مقابل على الخط الثاني مثل: ديكارت وبيكون، اسبينوزا وهوبز،
لَيبنتز ولوك، كانط وهيوم، هيجل وكومت، جرين وبِنتام، رويس وماخ … إلخ. في هذه الذروة
يوجد
الكانطيون والفلاسفة الذين أتوا بعد كانط، والرومانسيون نقادًا وفلاسفة، والهيجليون يسارًا
هيجليًّا أو هيجليين جددًا، والمثاليون كانطيين أو مناطقة، والوضعيون بكل فئاتهم من
تطورية ونفعية، والاشتراكيون ماديين أو طوباويين. وقد بلغ الوعي الأوروبي الذروة في القرن
التاسع عشر، بل وامتدت إلى القرن العشرين بقوة الدفع المثالي عند الهيجلية الحديثة، وبقوة
الدفع الثوري عند الاشتراكيين، ماركسيين وفوضويين في القرن العشرين. ولا تنتهي الذروة
إلا
بتحول المثالية إلى صورية فارغة عند المناطقة والرياضيين وبامتداد الوضعية إلى الشعور
والوقوع في الخلط بين النفسي والجسمي كما هو حادث في علم النفس الفيزيولوجي. وهنا تبدأ
النهاية.
وتشمل الكانطية اتجاهين: الأول: الكانطية التقليدية «الأرثوذكسية» ممن كانوا معاصرين
له
مثل كراوسه وهمبولت، أو الذين حاولوا تطبيقه في مجالات مختلفة كما حاول هربرت في التربية،
أو
الذين حافظوا على مذهب كانط من التأويلات الوضعية له، وذلك مثل فريس ولانجه ولوتزه. والثاني:
الكانطية التي خرجت على كانط وحكمت على الشيء في ذاته وبدأت من العقل العملي، وهم الفلاسفة
الذين أتوا بعد كانط
Post-Kantians مثل: فشته، وهيجل،
وشلنج، وشوبنهور. وينضم إلى فشته مين دي بيران نظرًا لتشابه موقفيهما في فلسفة الجهد
والمقاومة. ويمكن تجاوزًا تسمية الأول اليمين الكانطي، والثاني اليسار الكانطي أسوة باليمين
الديكارتي واليسار الديكارتي، واليمين الهيجلي واليسار الهيجلي، واليمين الوجودي واليسار
الوجودي.
١ وتمتد الكانطية باتجاهيها عبر القرن التاسع عشر كله. وفضلنا غالبًا التسمية
المجردة «الكانطية»، «الهيجلية»، «الرومانسية»، «الوضعية»، «الاشتراكية» عن أسماء المجموعات
مثل «الكانطيون»، «الهيجليون»، «الرومانسيون»، «الوضعيون»، «الاشتراكيون» للتأكيد على
البواعث والاتجاهات في الوعي الأوروبي، وهي غير مشخصة وإن كانت محمولة على الأشخاص وتتكشف
من خلالها.
(١) الكانطية التقليدية
تشير الكانطية التقليدية إلى مجموعة من الفلاسفة الكانطيين الذين حاولوا الجمع بين
المطلبين الأساسيين لكانط: العقلانية والحسية، الذاتية والموضوعية، المثالية والواقعية،
ومحاولين أيضًا التأكيد على وَحدة أكثر عضوية بين المطلبين بعد أن تركهما كانط خارجيَّين
ثابتَين، عَلاقة آلية بين صورة ومادة. وأشهرهم كراوسه، وهمبولت، وهربرت، وفريس، ولانجه،
ولوتزه. حاول كراوسه عقد مصالحه تأملية بين التأليه ووحدة الوجود أو وحدة الشهود،
مغلبًا الجوانب الدينية والأخلاقية على الجوانب المعرفية عند كانط.
٢ وأراد كارل فيلهِلم همبولت تأسيس علم الاجتماع التاريخي.
٣ اتجه نحو المثالية الموضوعية، وهو ما كان يهدف إليه كانط من جمع بين القطعية
والشك، بين فولف وهيوم. فتصور التاريخية حصيلة نشاط رُوحي يتجاوز الإدراك. وبالتالي لا
يمكن فهم تاريخ البشر على نحو عِليٍّ مادي صرف. وفي السياسة كان يمثل الجناح الليبرالي
في البرجوازية الألمانية. فكان ضد الإقطاع، ومع أكبر قدر ممكن من الحرية والعدالة
لمجموع الناس. وهنا يبدو الاتجاه بالكانطية إلى ما قبل الهيجلية، أي إلى الوعي السياسي
والتاريخي كما جسَّده هيجل. وأقام هربرت التربية على علم النفس.
٤ وهو يعادل في ألمانيا جون ديوي في أمريكا. الوجود كله وقائع
Reals، وهي ماهيات أبدية ثابتة مثل «مونادات» لَيبنتز،
وليس كما تصورها كانط أشياء في ذاتها. كما عارض فشته في استنباطه كل شيء من المقولات
والمبادئ العامة. فكل شيء هو ما هو عليه طبقًا لمبدأ الهُوية. والوحدة هي الوجود الواقعي
وليس الجمع بين الأضداد. وإن إكمال الرُّوح يكون بتجلياتها في الظواهر النفسية. وبالتالي
ربط بين الميتافيزيقا وعلم النفس، ولكن ظل علم النفس لديه منطقيًّا رياضيًّا، وكأنه علم
النفس العقلي عند فولف. وهو في التربية ديمقراطي مثل أستاذه بستالوتزي. والدين يقوم على
الغائية كما هو الحال عند كانط. أما آراؤه السياسية والاجتماعية فإنها أقرب إلى
الليبرالية. رفض الدستور، واعتبر الخضوع للطبقة فضيلة. وواضح هنا أيضًا الانتقال
بالكانطية من الفلسفة النظرية إلى تطبيقاتها العملية. وحاول فريس تأسيس الكانطية على
الأنثروبولوجيا متنبئًا بما سيحدث بعد ذلك عند الهيجليين الشباب وعند الهُوسِرليين أيضًا،
وحتى تصبح الفلسفة علمًا دقيقًا.
٥ ونقد لانجه التفسير المادي الوضعي لكانط الذي يأخذ نصفه الحسي ويترك نصفه
العقلي نظرًا لسهولة فك النصفين معًا في المذهب الكانطي لتجاورهما الخارجي دون الوَحدة
العضوية الباطنية كما سيفعل هيجل فيما بعد.
٦ وظلت الكانطية على مدى القرن التاسع عشر تقاوم الوضعية وتذكِّر بالمطلب
الثاني في الوعي الأوروبي وهو المثالية. فالمادية الميتافيزيقية لها حدودها الفلسفية.
هي مجرد باعث على الفكر النقدي، توقظه من سباته كما أيقظ هيوم كانط، وليس لها قيمة في
ذاتها. وقد اقترب لانجه من فلسفة الوهم
Fictionalism
مثل فلسفة فاهِنجر، وهي نوع من البرجماتية تجعل الحقائق النظرية مجرد وهم. ويتضح هنا
أيضًا نفس التحول من البحث النظري المجرد إلى وصف العمل، والانتقال من العقل إلى
الخيال. وأخيرًا ركز لوتزه على الدين والجمال عند كانط أكثر مما ركز على الفلسفة والأخلاق.
٧ فميز بين ثلاثة ميادين: الحقائق الضرورية موضوع الفلسفة، والوقائع موضوع
العلم الطبيعي، والقيم موضوع الأخلاق. ميدان العلوم الطبيعية مجرد عالم آلي لا يعطي
قيمة بل يندرج هو تحتها. وتقوم الحقائق الضرورية للميتافيزيقا على علم النفس الطبي كما
فعل هربرت. ويمكن للميتافيزيقا أن تصل إلى أن الرُّوح وراء وحدة التجرِبة البشرية أساس
الأخلاق. وينتهي لوتزه إلى نوع من الواحدية المطلقة كما فعل شلنج فيما بعد. فالله هو
الجوهر المطلق، الاتساق في الطبيعة.
(٢) الكانطية بعد كانط
وتشير الكانطية بعد كانط إلى كبار الكانطيين الأربعة الذين أتوا بعد كانط
Post-Kantians في القرن التاسع عشر: فشته، وهيجل،
وشلنج، وشوبنهور. ويُضم إلى فشته مين دي بيران نظرًا لتشابه موقفيهما في الجهد
والمقاومة. ولقد حاول الوعي الأوروبي في بدايته الثانية عند كانط تجاوز ثنائية البداية
الأولى عند ديكارت فوضعهما متجاورَين، متخارجَين، متراصَّين أحدهما فوق الآخر، وربطهما
بتأليه من الإيمان. تأتي الحساسية الترنسندنتالية أولًا ثم يوضع فوقها التحليل
الترنسندنتالي ثانيًا ثم يُركب فوقه الجدل الترنسندنتالي ثالثًا. الحسي ثم الذهني ثم
العقلي. أصبح الوعي الأوروبي مجرد علب خاوية وقوالب فارغة. نقص العقل الوحدة العضوية
والحركة الداخلية والحياة الباطنية والتفاعل المتبادل بين أنواعه. فكان لا بد من بداية
ثالثة حدثت بالفعل عند الفلاسفة الأربعة بعد كانط الذين حاولوا تجاوز ثنائية الظاهر
والشيء في ذاته ثم إصدار أحكام على هذا الشيء في ذاته. فهو الأنا المطلق عند فشته،
والتصور المطلق أو الفكرة
Begriff عند هيجل، والهُوية
عند شلنج، والإرادة عند شوبنهور. وأُعطيت الأولوية للعقل العملي على العقل النظري. أول
الفلاسفة بعد كانط منهجه من أجل كشف أسراره وإخراج خباياه والإعلان صراحة عما لم يعلن
عنه كانط، وقراءة ما بين النصوص، وتطويره بما يعبر عن تكوين الوعي الأوروبي في النصف
الأول من القرن التاسع عشر وهو في طريق الذروة. ويمكن أيضًا تصنيفهم إلى يمين ويسار
تجاوزًا كما هو الحال عند الديكارتيين بالرغم من صعوبة التمييز بين الجناحين. وبصرف
النظر عن الترتيب التاريخي فإنه من السهل اعتبار شوبنهور يمينًا. فقد كان فيلسوف
الرجعية بعد فشل ثورة ١٨٤٨م، ونظرًا لنزعته الفردية التي يغيب فيها التحليل الاجتماعي.
أما هيجل فإنه نظرًا لاشتباه فلسفته وتذبذبها بين التقدم والمحافظة، فقد اعتبره البعض
زعيم التقدميين، واعتبره البعض الآخر زعيم المحافظين، ويمكن اعتباره وسطًا. وعلى هذا
النحو يقع شلنج على يمين الوسط. فقد اتُّهم أيضًا بالإلحاد من الاتجاهات المحافظة، ويقع
فشته على يسار الوسط نظرًا لفلسفته في المقاومة ولإذكائه للرُّوح الوطنية، ومقاومته الغزو
الأجنبي، ودفاعه عن الأرض المحتلة. بالتالي يكون موقع فشته بين الفلاسفة الذين أتوا بعد
كانط مثل موقع اسبينوزا بين كبار الديكارتيين.
٨ أما الترتيب التاريخي فإنه يبدأ بيسار يسار الوسط (فشته) ثم الوسط (هيجل)
ثم يسار الوسط (شلنج) ثم يمين الوسط (شوبنهور)، وكأن الوعي الأوروبي بدأ يفقد ثوريته
بعد
الثورة الفرنسية وعودة الملكية وبعد فشل ثورة ١٨٤٨م. فخف الدافع الأول الذي بدأه
اسبينوزا واستمر في فلسفة التنوير وبلغ الذروة عند اليسار الهيجلي بوجه عام وماركس بوجه
خاص.
بدأ فشته كانطيًّا صرفًا حتى إن الناس ظنوا أن أول محاولة فلسفية له في نقد الوحي
كانت لكانط،
٩ يحاول فيها البحث عن شروط الوحي أو إمكانيته على ما تقتضي بذلك الفلسفة
النقدية. فأساس الوحي ليس الروايات ولا حتى وجود الأنبياء، بل إن الضامن للمصدر الإلهي
للوحي هو اتفاقه مع القانون الخلقي. فالعقل العملي أساس المعرفة، ويفي بحاجات الإنسان
باعتباره كائنًا عاقلًا. ودافع عن الثورة الفرنسية ومبادئها ضد الهجوم عليها من النبلاء
والإقطاعيين في ألمانيا، معلنًا مبادئ الحرية والإخاء والمساواة كتعبير عن مقتضيات
العقل العملي، مما جعله أقرب الفلاسفة الألمان إلى الرُّوح الفرنسية. ثم بدأ يصوغ فلسفته
الخاصة تحت شعار «نظرية العلم» والتي كتبها عدة مرات. وتُعتبر ركيزة فلسفته مستقلًّا
عن
كانط وإرساء لقواعد المثالية المطلقة عند هيجل وبعض إرهاصات الوجودية المعاصرة. فرسالة
العالم هو تحويل الفلسفة إلى مشروع لتنمية الفرد ونهضة الأمة. ونظرية العلم تعني نظرية
الحرية لأن موضوع العقل النظري هو العقلي العملي. الأنا نشاط ذاتي في نظام الطبيعة، فعل
أصلي للشعور. والعالم الخارجي هو اللاأنا، حدود نشاط الأنا. ومن هذا التقابل بين الأنا
واللاأنا، ومن مقاومة الأنا للاأنا ينشأ الأنا المطلق. الأنا تضع ذاتها حين تقاوم. «أنا
أقاوم فأنا إذن موجود».
١٠ ثم طبق نظرية العلم في القانون والسياسة باحثًا عن أسس الدولة وموحدًا بين
القانون الطبيعي والقانون الأخلاقي والقانون المدني. ويقيم الأخلاق على أسس اجتماعية
دون التخلي عن النظرة المعيارية، وبهدف الانتقال من الوعي الأخلاقي الفردي إلى الوعي
الأخلاقي الاجتماعي إرهاصًا لهيجل في «فلسفة الحق». غاية الإنسان في الحياة البحث عن
الحقيقة المطلقة بعيدًا عن الشك والإيمان، شك هيوم وقطعية فولف. وفي الاقتصاد يقوم
الاقتصاد القومي على التوجيه الاقتصادي والتخطيط وسيطرة الدولة على وسائل الإنتاج، فلا
صوت يعلو فوق صوت المعركة، وقبل ماركس بنصف قرن. وفي الدين، ماهية السعادة في معرفة
المطلق، وفي تجاوز اللذات الحسية والمعارف الجزئية وتحقيق المصالح وإشباع الأهواء
والرغبات. وفي السياسة أعاد بناء الرُّوح القومي من أجل طرد المحتل، نابليون، الذي جسد
في
البداية مبادئ الثورة الفرنسية ثم انقلب عليها عندما توج نفسه إمبراطورًا وغزا باقي
الشعوب الأوروبية بدعوى نشر مبادئ الثورة. وتقوم «النداءات» الشهيرة على إثبات حق الشعب
الألماني في الحرية والاستقلال، وأن ألمانيا مركز الثقل والتوازن في أوروبا، وأن الرُّوح
الألماني كما يتجلى في اللغة والشعر والفلسفة والفن والعلم لا يمكن استعباده برُوح شعب
آخر.
١١ وفي الحضارة، حاول رسم صورة لعيوب العصر من محافظة وتقليد وخارجية الأشكال
وضياع الرُّوح كما فعل روسو من قبل، وكأن الوعي الأوروبي منذ البداية وحتى الذروة كان
يتنبأ بمصيره ويرصد مساره نحو النهاية. وبالرغم من أن مين دي بيران ليس من الفلاسفة
الذين أتوا بعد كانط بالمعنى التاريخي إلا أنه قام بما فعله فشته بالنسبة لكانط، ولكن
في
الفلسفة الفرنسية. وكما يعتبر فشته أقرب الفلاسفة الألمان إلى فرنسا، كذلك يُعتبر مين
دي
بيران أقرب الفلاسفة الفرنسيين إلى فشته.
١٢ ثار ضد علم النفس الحسي عند كوندياك وكابانيس، كما ثار كانط ضد هيوم ولَيبنتز
ضد لوك، وبرجسون ضد فوند وفشنر وشاركو. وطور علم نفس مثالي إرادي يقوم الذهن فيه مباشرة
بالتجريب باعتباره نشاط الإرادة. ودرس موضوع الجهد وانتهى إلى ما انتهى إليه فشته من
فلسفة المقاومة، مقاومة الأنا للاأنا. فالجهد العضلي يثبت الأنا كما يثبت العالم. ثم
طور ميتافيزيقا تقوم على مفاهيم القوة والجوهر والعلة كتجارِب حية مباشرة للإرادة،
ميتافيزيقا رُوحية خالصة كان لها أكبر الأثر على كوزان، ورافيسون، ورينوفييه.
وبالرغم من أن هيجل ينتمي إلى الفلاسفة الذين أتوا بعد كانط بعد فشته وقبل شلنج
وشوبنهور إلا أنه أكثر تأثيرًا على مسار الفلسفة الحديثة.
١٣ فهو الذي أعطاها البداية الثالثة والأخيرة بعد أن تحولت الفلسفة الحديثة
وانقلبت على نفسها من مشروع نظري عقلي إلى مشروع عملي مضاد للعقل، وبالتالي بداية
الواجهة الثانية لمشروع الفلسفة الغربية وهي الفلسفة المعاصرة. ويؤرخ للفكر المعاصر
حقيقة بهيجل. فهو الذي يفصل الفلسفة الأوروبية إلى مرحلتين: الفلسفة الحديثة ابتداءً
من
ديكارت حتى كانط، والفلسفة المعاصرة ابتداءً من هيجل حتى العصر الحاضر: الظاهراتية
والوجودية، والبنيوية، والتحليلية، والبرجماتية، والشخصانية، وفلسفات الحياة، وأخيرًا
التفكيكية. فهيجل هو في نفس الوقت حديث ومعاصر. نجد لديه اكتمالًا للفلسفة الحديثة
وحلًّا لمشاكلها أو إلغاءً لها، وعلى رأسها هذه الثنائيات المتعارضة بين النفس والبدن،
الظاهر والشيء في ذاته، النظر والعمل، المعرفة والأخلاق، الصورة والمادة، الرُّوح
والطبيعة أو على ما يقول هُوسِرل في «أزمة العلوم الأوروبية» الثنائية بين العقلانية
والتجريبية كخطين متباعدين ومنفرجين يخرجان من ديكارت، الأول إلى أعلى، والثاني إلى
أسفل، وهي الثنائية التي جعلت الشعور الأوروبي يبدو كفم تمساح مفتوح. كان القضاء على
هذه الثنائية هي مهمة الفلاسفة الذين أتوا بعد كانط وعلى رأسهم هيجل الذي استطاع
تجاوزهم جميعًا، خاصة فشته وشلنج في أحد مؤلفاته المبكرة. كما ظلت مهمة الفلاسفة
المعاصرين الذين حاولوا رفض أحد الطرفين وقبول الطرف الآخر، أو الذين حاولوا إيجاد طريق
ثالث بينهما. كان هدف هيجل تنشيط مقولات كانط وإعادة الحياة إليها ثم ربط مذهب كانط
المفكك أو المرتبط خارجيًّا على نحو آلي، ربطه على نحو عضوي حيوي. فأصبحت مراتب العقل
الخالص، الحس والذهن والعقل مراحل متتالية للمعرفة. وبدل أن يكون التقدم إلى أعلى كما
هو الحال عند كانط يكون إلى الأمام. وبدل أن تكون العَلاقة في خط مستقيم تكون في عَلاقة
جدلية إلى الأمام وإلى الخلف، الشيء ونقيضه ثم المركَّب من الشيء والنقيض. لذلك تظهر
أهمية فعل
Aufheben عند هيجل الذي يعني الإزالة
والإثبات، الهدم والبناء، الرفع والخفض. رفض هيجل الشيء في ذاته عند كانط وأصبح هو
التصور
Begriff أو الفكرة. لا فرق بين المنطق والوجود،
بين العقل والواقع، بن المثالي والواقعي. «كل مثالي واقعي، وكل واقعي مثالي». لذلك عُرف
مذهب هيجل بأنه وحدانية مطلقة أو مثالية مطلقة أو مثالية وحدانية. إذ لا يوجد إلا جوهر
واحد، لا فرق بين الذات والموضوع. عندما تنشط الذات تصبح موضوعًا وعندما يتطور الموضوع
يصبح ذاتًا. وكل شيء خاضع للتطور والتغير والتقدم على نحو جدلي، صراع بين الأضداد.
فالرُّوح يتطور من الحس إلى العقل إلى المعرفة المطلقة. والمنطق يتطور من المنطق الذاتي
إلى المنطق الموضوعي إلى المنطق الذاتي الموضوعي، منطق التصور. والقانون يتطور من
القانون الأخلاقي إلى القانون المدني إلى القانون السياسي. وتقوم الحركة على التغاير
ثم
الهُوية. تغاير الشيء مع ذاته وتخارجه ثم عودته إلى نفسه. وقد طبق ذلك هيجل في تاريخ
الفلسفة وفلسفة التاريخ والدين والجمال. إذ سارت الرُّوح من الشرق القديم مارًّا بمصر
واليونان حتى الغرب الحديث. والتاريخ هو التصور بتحققاته العينية، والتصور هو التاريخ
في مساره ومراحله. «تاريخ العالم هو محكمة العالم». لقد اهتم هيجل بالسياسة، وحيا
الثورة الفرنسية، ولكنه تراجع عن موقفه الأول كما فعل فشته وبتهوفن وكثير من المفكرين
الأحرار بعد الإرهاب. كان راديكاليًّا في شبابه، ثائرًا ضد الإقطاع والملكية البروسية.
ولكن بعد سقوط نابليون تغير وأصبح ممثل الملكية البروسية وانقلب محافظًا. كان مفكرًا
دينيًّا في البداية وكما تدل على ذلك أعمال الشباب، ثم تحول من الدين إلى المثالية ومن
الوحي إلى العقل في أكبر محاولة عرَفها تاريخ الفلسفة الغربية لتعقيل الدين وتنظير الوحي،
كما حدث ذلك عند المعتزلة والحكماء في تراثنا الإسلامي القديم. ولكن يظل الاشتباه
قائمًا. هل هيجل فيلسوف الإيمان أم فيلسوف الإلحاد؟ هل هو متدين المتدينين أم فيلسوف
الفلاسفة؟ هل هو فيلسوف الإيمان أم فيلسوف العقل؟ هل هو فيلسوف النقل أم فيلسوف العقل؟
هل هو أقرب إلى العصر الوسيط حيث الفلسفة لديه منطق وطبيعيات وإلهيات أم أقرب إلى
العصور الحديثة بداية بالذاتية؟ هل هو متمركز حول الله مثل العصر الوسيط أم حول الإنسان
مثل العصور الحديثة؟ عند هيجل عناصر تجعله الأول كما تجعله الثاني. وهناك اشتباه ثانٍ
هو: هل هيجل فيلسوف الفكر أم فيلسوف الوجود، مثالي أم واقعي، ذاتي أم موضوعي، عقلاني
أم
وجودي؟ والحقيقة أنه يمكن قراءة فلسفته على الجانبين. فهو في آنٍ واحد فيلسوف العقل
والوجود، المثال والواقع، الذات والموضوع. وهناك اشتباه ثالث بالنسبة للسياسة: هل هو
يميني أم يساري، محافظ أم ليبرالي، رجعي أم تقدمي؟ والحقيقة أنه توجد عناصر في فلسفة
هيجل تجعله زعيم المحافظين وعناصر أخرى تجعله أمام التقدميين. فبعض الجوانب المحافظة
في
فلسفة هيجل نجدها في الدفاع عن المسيحية، باعتبارها دين الوحي وتبرير العقائد، خاصة
التثليث والتجسد والخلاص والخطيئة الأولى، وتبرير الكنيسة باعتبارها النظام الاجتماعي
والمدني الجديد في صورة الدولة، تجسد الفكر في التاريخ، وتبرير الطقوس بالبحث عن
دلالاتها الرمزية، وتبرير الكاثوليكية ورؤيتها لمسار التاريخ، ويعارضه النقد التاريخي
للكتب المقدسة باعتباره وضعية تاريخية يعكف على الروايات ولا يتعامل مع الرُّوح، ومعارضة
فلسفة التنوير بالرغم من ثوريتها وقدرتها على التغير الاجتماعي والقضاء على المكية في
فرنسا وجذبها المفكرين الأحرار في ألمانيا، والعنصرية التي تكشف عنها تطبيقات المذهب
في
انتقال الرُّوح من الشرق إلى الغرب، واعتبار الشرق أول مراحل التطور البشري واكتماله
في
«جرمانيا»، وتبرير الوضع القائم والدولة البروسية حتى إنه قد أُطلق عليه «فيلسوف
الدولة» أو «فيلسوف بروسيا». وفي نفس الوقت هناك عناصر تقدمية أخرى في فلسفة هيجل مثل
التوحيد بين الديني والدنيوي، بين الزمني والرُّوحي، بين الفكر والوجود، بين الدين
والدولة، بين الدين والعقل، منعًا لثنائية المصدر وازدواجية أساليب الحياة. والدين هو
كل
شيء، حضارة، وفن، وتاريخ، وفكر، ونظام، وسياسة، وليس مجرد عقائد أو شعائر أو طقوس.
والحقيقة متطورة متغيرة تتخلق، وتنكشف من خلال الصراع على الأضداد. الحقيقة حياة ذاتية
وتحرر وخلود. لذلك احتاج هيجل إلى قراءة تجعله يرتكن على أحد الجانبين. وإجابة على
السؤال الدائم: هل هيجل فيلسوف العقل، وهل هو عقل نسبي مثل ديكارت وكانط أم عقلي جذري
مثل اسبينوزا وفولتير؟ يمكن القول بأن هيجل استطاع تجاوز هذه الثنائيات إلى اشتباه أصيل
في فكر كل فيلسوف قادر على اختراق الحواجز والتصنيفات القائمة. فالعقل عند هيجل كما هو
الحال عند فشته يعني عدة أشياء. العقل هو الحس، أولى درجات الإدراك في الزمان والمكان
وكما هو الحال في الحساسية الترنسندنتالية عند كانط، وهو الوعي بالذات كما هو الحال عند
فشته. وهو العقل الملاحِظ المعروف عند التجريبين. وهو الوعي بالشقاء كما هو معروف عند
الأخلاقيين التجريبيين اليونان أو الإنجليز. وهو العقل الاستدلالي الصوري الموجود عند
لَيبنتز واسبينوزا، وهو الرُّوح، وهي إضافة هيجل. ويضم العقل الحيلة والخداع والمكر
والدهاء. وهو الواقع والتاريخ والوجود والحياة والدين بل هو الله
١٤ وتمثل المثالية المطلقة عند فشته وهيجل تقدمًا حقيقيًّا في إقامة مشروع
الحضارة الأوروبية لإقامة علم شامل، فقد استطاعت لأول مرة القضاء على هذه الثنائية
الحادة بعدما حاول كانط في الفلسفة النقدية بين الاتجاه العقلي والاتجاه التجريبي، وذلك
بإعادة الوحدة الباطنية بينهما بالتوحيد بين الرُّوح والمادة، العقل والوجود، المثالي
والواقعي. بل إنها استعملت لفظ «الظاهريات»، ووصفت بناء الشعور الفردي وتطوره، واستطاعت
الدخول في غائية التاريخ، ووصف بناء الشعور الأوروبي وتطوره، وعبرت عن ثنائية العصر
الجديد التي تكشف عن مأساته باسم الشعور بالبؤس الذي يعبر بدوره عن الفصم بين الرُّوح
والمادة، بين المثال والواقع، بين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن. ومع ذلك يرى هُوسِرل
أنه
بالرغم من معارضتهما معارضة مطلقة لكل اتجاه تجزيئي للوعي الأوروبي في المثالية المطلقة
إلا أن هذه لم تستطع التخلص من رواسب الاتجاه التجريبي، ولم تستطع تحويل الفلسفة إلى
علم محكم، بل ظلت مجرد وعي الإنسانية بذاتها، وتحقيق العقل لذاته. وقد تم ذلك في جو
أسطوري شاعري، كان الفلاسفة فيه مبدعين لشعور لا محللين لتصور. لم تستطع المثالية
المطلقة أن تتحول إلى نظرية في العلم محكمة دقيقة. لقد نسي هيجل منهج الإيضاح، وظل
الجدل غامضًا. يختلط فيه كل شيء بكل شيء. وارتبطت الفلسفة بالدين إلى الأبد، وأصبح
الاعتقاد والدين هو المثل الأعلى لليقين الفلسفي. لذلك انتهت إلى الإغراق في الرومانسية
سواء في مثالية الذات (فشته) أو في المثالية المطلقة (هيجل) أو في فلسفة الهُوية (شلنج).
١٥
ثم حاول شلنج تغيير موقف كانط وفشته في موضوع العَلاقة بين الأنا والعالم.
١٦ فالوعي عند شلنج هو وحده الموضوع المباشر للمعرفة. وتتم معرفة العالم
الموضوعي باعتباره «موقفًا حادًّا» لعملية شعور الوعي بنفسه. ويصبح الذهن واعيًا بنفسه
في الفن وحده. وعلى الفلسفة أن تستلهم الفن. حاول في المثالية الترنسندنتالية الجمع بين
المثالية الذاتية عند فشته والمثالية الموضوعية عند هيجل للإجابة على سؤالين: الأول:
كيف
يؤدي تطور الطبيعة اللاواعية إلى نشأة الوعي؟ والثاني: كيف يتحول الوعي الذاتي إلى
الموضوع؟ والإجابة عن الأول في فلسفة الطبيعة، وعن الثاني في المثالية الترنسندنتالية.
وانتهى إلى فلسفة الهُوية عبر كانط، هذه الفلسفة التي تصورها لَيبنتز مجرد قانون منطقي،
مبدأ الهُوية، وفتح بها كانط عالم الذاتية، هُوية الصورة والمضمون، وجعلها فشته عملية
ذاتية وصيرورة الوعي، وجعلها هيجل صيرورة الوجود. تتجمع في شلنج كل هذه الخيوط، وتصب
في
النهاية في فلسفة الدين. ويصبح الله هو الهُوية المطلقة كما عبر عن ذلك فلاسفة العصر
الوسيط، هُوية الماهية والوجود. وتتضح هذه الخيوط كلها في مؤلفاته: «قراءة الذاتية عند
فشته»، «إعادة بناء محاولة كانط لإيجاد عالم فلسفي جديد بين شك هيوم وقطعية فولف»، «العودة
إلى الوجود باعتباره طبيعة»، «رد المثالي والواقعي عند هيجل إلى الطبيعة». ويتضح من طول
عناوين مؤلفاته محاولته لجمع الخيوط كلها. وإجابةً على السؤال الدائم: إلى أي حد كان
شلنج فيلسوفًا عقليًّا نسبيًّا مثل ديكارت وكانط أو جذريًّا مثل اسبينوزا وفولتير؟ يمكن
القول إن شلنج هو فيلسوف الحدس الفني أو الصوفي، الإدراك لمباشر للطبيعة. فالعقل لديه
يعني عدة أشياء: الحدس المباشر للطبيعة، العاطفة أو الرُّوح، وبالتالي فهي الحياة، الإحساس
الجمالي بالعالم كما يبدو في الفن، الأسطورة كما تبدو في الدين. ويبدو أنه كما سار
الديكارتيون باستثناء اسبينوزا وراء ديكارت في تبرير الدين وإعادة فهمه فهمًا عقليًّا،
كذلك سار الفلاسفة بعد كانط وراء كانط في التبرير نفسه. فالله عند فشته هو الأنا
المطلق، والخلود لديه غاية الإنسان. والكلمة المتجسدة هي الجدل في الوجود. والحدس
المباشر عند شلنج، والذي يدرك وحدة الله والعالم أو الرُّوح والطبيعة، رؤية صوفية خالصة.
١٧
وبدأ شوبنهور كانطيًّا مبينًا الأسباب الفعلية لكون الشيء على ما هو عليه رافضًا
قسمة
كانط الظاهر والشيء في ذاته، وهما عند شوبنهور واجهتان لنفس الشيء عندما يتجلى في الإرادة.
١٨ الإنسان شيء يتجلى في الظاهر وهو العقل أو التمثل، ويكون على ما هو عليه
وهو الإرادة. والفن تحرر للإرادة كما هو الحال عند شلنج. والحقيقة أن شوبنهور هو نموذج
اليمين الكانطي، فهو فيلسوف الرجعية بعد فشل ثورة ١٨٤٨م. أيد الاستعمار، وعادى المادية
والجدل. ناهض العلم من أجل الميتافيزيقا. أنكر وجود الشيء في ذاته لصالح الإرادة
اللاعاقلة. أنكر التقدم التاريخي، وكره ثورات الشعوب. ووقع أسير التشاؤم، وحارب التقدم
والواقعية ومصالح الشعوب، ثم انتهى إلى التصوف والنيرفانا. كان مثاله الأعلى بوذا، كما
كان المثل الأعلى عند نيتشه زرادشت. وهنا يظهر نموذج الشرق الصوفي كتعويض عن فقدان عالم
الحياة في الوعي الأوروبي في أحد أبعاده وهي العقلانية. فإذا كان السؤال في الفلسفة
الحديثة ما زال قائمًا: إلى أي حد يمكن القول بأن الفلاسفة الذين أتوا بعد كانط استمروا
في المشروع العقلاني النظري للفلسفة الحديثة الذي بدأه ديكارت إلى المنتصف وجعله
اسبينوزا أكثر جذرية لا يقبل العقل فيه استثناء، وإلى أي حد رجحوا الجانب اللاعقلاني؟
فإنه يمكن القول بأن العقل ظل شعارًا عند الفلاسفة الأربعة الكبار ولكن بمعاني مختلفة
ومتباينة عن معنى العقل الحدسي الاستنباطي عند ديكارت، أو العقل الصوري التحليلي
التركيبي عند كانط. فالعقل عند فشته وهيجل وشلنج وشوبنهور يعني عدة معاني. فهو العقل
الحدسي القادر على الإدراك المباشر كما هو الحال عند ديكارت. وهو العقل الوجداني الذي
هو أقرب إلى الدوافع والبواعث وذوق الصوفية. وهو العقل الحسي أولى درجات المعرفة، عقل
هيوم، الحدس عند كانط، وأولى درجات المعرفة عند هيجل. وهو العقل الاستدلالي القادر على
إيجاد الاتساق بين المقدمات والنتائج، العقل الاستنباطي الذي يبدأ بمسلَّمات، ويستنبط
منها قضايا، العقل الهندسي كما هو الحال عند اسبينوزا. وهو العقل الأخلاقي القادر على
فهم بواطن الأمور، والذي له الأولوية على العقل النظري عند شلنج. وهو العقل الإرادي الذي
يمارس فعل الحرية، هو العقل المتحد بنشاط الأنا في مقاومتها للاأنا من أجل وضع الأنا
المطلق. وهو أخيرًا العقل المطلق، الحقيقة ذاتها، كما تكشفت في نظرية العلم، العلم
«الإلهي» ذاته الذي أدركه عقل الفيلسوف، وكما هو الحال عند هيجل. أصبح العقل كل شيء،
الحس والذهن والوجدان كما هو الحال في علم الأصول. وبالتالي أصبح من الصعب أن نجد شيئًا
لا يدخل في العقل. فسهل بعد ذلك في الفلسفة المعاصرة تسميته الوجود الذي يشمل أيضًا كل
شيء، بما في ذلك مظاهر العقل نفسه.
ثانيًا: الرومانسية
كانت الرومانسية رد فعل على كانط. وكان فيلسوفها الكانطي هو شلنج. ثم تلقفها الشعراء
الرومانسيون الإنجليز: شيلي، وكولريدج، ووُردزوُرث، والألمان: جوته، وهينه، متأثرين
بالمثالية الترنسندنتالية بوجه عام وشلنج بوجه خاص. وجد الفكر الإنجليزي في رومانسية
الشعراء تعويضًا له عن مادية هوبز، وتجريبية لوك، وحسية هيوم. ثم انتقلت الرومانسية من
أيدي الشعراء إلى الفلاسفة الألمان مثل: شلايرماخر وريتشل الذي شارف التصوف، والإنجليز
مثل: كارلايل وراسكين، والفرنسيين مثل: لامنيه، والأمريكيين مثل: ثورو وإمرسون. وتمثل
الرومانسية دفعة جديدة في الوعي الأوروبي تفجر ذاتيته، وتوحده بالطبيعة، وتطهره من
بقايا الموروث، وتساعده على الثورة على ما تبقى من القديم. ولكنها في نفس الوقت تمثل
جذور العدمية فيه بما تتضمنه من ظلام وليل واشتباه وتشاؤم وانتحار، وحلم وخيال، لا فرق
فيها بين الواقع والوهم وبين الحقيقة والخيال. التحرر فيها يكشف عن اللاشيء، والثورة
فيها لا تنتهي إلى شيء. العودة إلى الأرحام أقرب إلى الحقيقة من التقدم إلى الأمام، وهو
ما تجلى بعد ذلك بوضوح عند نيتشه والوعي الأوروبي في طريقه إلى النهاية.
(١) الرومانسية الشعرية
وسواء كان شيلي، وكولريدج، ووُردزوُرث، وجوته، وهَينه رومانسيين شعراء أو شعراء
رومانسيين فإن المهم هو رد الشعر على الفلاسفة، وتصحيح مسار الوعي الأوروبي الكلاسيكي
في فلسفة كانط بالرومانسية في الشعر. تأثر شيلي في شعره بالفلسفة المثالية من أفلاطون
واسبينوزا وبركلي، كما تأثر بالمثالية الترنسندنتالية عند شلنج.
١٩ وفي أولى كتاباته التي اتُّهمت بالإلحاد كان يرى أن العقائد الدينية صحيحة
مجازًا وليست صحيحة حقيقة، وإن أفضل تعبير عن فكرة «الله» هو رُوح العالم. والفكرة رابط
رئيسي بين الشعر والدين، وكما هو الحال عند المعتزلة والحكماء، خاصة ابن الإيادي الذي
جعل
صفات الله مجازًا لا حقيقة في حين أنها في الإنسان حقيقة لا مجاز.
٢٠ وتأثر كولريدج بكانط وشلنج المتأخر دون أن يبني مذهبًا متسقًا أو نظامًا
فكريًّا واحدًا.
٢١ ومع ذلك تدور محاور فكره الرئيسية في مناهج عصره في الفكر والحياة، طبيعة
الاعتقاد الديني، نقد المذهب النفعي،
٢٢ تحديد عَلاقة الدولة بالكنيسة، وفي الفلسفة التمييز بين الذهن والعقل مثل
كانط وجعل الحقيقة في الأفكار وحدها. وقد اهتم بعلم النفس والإبداع الأدبي الذي لا
تفسره النظرية التجريبية. ورفض الحتمية والآلية لأن الذهن نشاطه العضوي وفاعليته
وخصوبته وتلقائيته. استهوته نظرية المعرفة الألمانية لأنها تعطي الأسس العقلية للإيمان
المسيحي الذي ينتمي إليه. وبالرغم من معارضة كانط في الأحكام الخلقية نظرًا لشمولها
وموضوعيتها إلا أنها لديه أفضل من نفعية بِنتام أو بالي. ينقد صورية الواجب عند كانط،
وتقابل الوجود والعدم في منطق هيجل. ويُعتبر أفضل ناقد لاهوتي في بريطانيا في القرن
التاسع عشر. دعا إلى ضرورة اجتماع القوى الثورية من أجل التقدم مما كان له أبلغ الأثر
في إيقاف التيار المحافظ ومده في إنجلترا. ولا تحتوي أعمال وُردزوُرث أيضًا على مذهب
فلسفي إلا أنها تكشف عن انتسابه إلى الفلسفة الترنسندنتالية وإلى وحدة الوجود، خاصة فيما
يتعلق بالجليل في الطبيعة.
٢٣ وأكد ضرورة تأسيس الشعر على العواطف البُدائية للإنسان العادي كما فعل شيلر
من قبل في «الشعر الساذج والشعر العاطفي». وجمع جوته بين الفلسفة والعلم والأدب في إطار
وحدة الوجود العامة معتمدًا على أفكار اسبينوزا في وحدة الوجود ولَيبنتز في وحدة الرُّوح
وجماليات كانط وتفرقته بين الجميل والجليل.
٢٤ وأدرك هَينه أن تاريخ الفلسفة كتاريخ للوعي الأوروبي هو صراع بين المذهب
الرُّوحي والمذهب الحسي، أي بين العقلانية والتجريبية.
٢٥ ودافع عن التيار الأول ونقد مادية الثاني وآليته في القرن التاسع عشر.
وأعاد صياغة وحدة الوجود عند اسبينوزا كما أعاد صياغتها شلنج من قبل برُوح الرومانسية
وبعيدًا عن التجريد العقلي والمنهج الهندسي. وارتبط نقده للدين بنقده للملكية والإقطاع
أسوة بفلاسفة التنوير في فرنسا. ودعا إلى الثورة الديمقراطية والاشتراكية عند سان
سيمون. وهو أول من أشار إلى المضمون الثوري للفلسفة الألمانية، خاصة جدل هيجل الذي مهد
الطريق للثورة عن طريق بيان التناقض والصراع بين الأضداد. والشعر والثورة صنوان. الشاعر
ثائر، والثائر شاعر. وقد كانت الثورة السياسية عند الرومانسيين مقدمة للاشتراكية
الطوباوية عند الاشتراكيين بما في ذلك ماركس الشباب. ويرجع الفضل في ذلك كله إلى كانط
الذي كان هو الباعث على الرومانسية في الشعر وفي الفكر سواء كرد فعل على الصورية أو
كمصدر للبحث في الجليل في الرُّوح والطبيعة.
(٢) الفلسفة الرومانسية
وظهرت الرومانسية ليس عند الشعراء وحدهم بل أيضًا عند الفلاسفة. وقد كان بين الفريقين
أثر
متبادل، أثَّر الشعراء في شلنج فيلسوف الرومانسية كما أثر شلنج في الشعراء الرومانسيين.
وكان الفلاسفة الرومانسيون في ألمانيا شلايرماخر وريتشل، وفي فرنسا لامنيه، وفي أمريكا
ثورو وإمرسون، وفي إنجلترا كارلايل وراسكين. وقد تحول كثير منهم إلى التصوف وعادَوا
التنوير. فكان ذلك إيذانًا بانقلاب الوعي الأوروبي على عقبيه والانتقال من البداية نحو
النهاية. ضم شلايرماخر في فكره تيارات عدة من اسبينوزا إلى كانط وفشته وجاكوبي. تجتمع
كلها على وحدة الوجود التي أسسها اسبينوزا عقليًّا، وأعطاها فشته وشلنج أساسًا ذاتيًّا
حدسيًّا ثم أرساها جاكوبي في التجرِبة الصوفية.
٢٦ تصدى للتنوير السطحي الساذج الخارجي كما فعل برجسون بعد ذلك في هجومه على
العقل الصوري العلمي، المجرد المادي. ودافع عن الرومانسية كما فعل برجسون أيضًا في
إثباته دور الحدس والتعاطف الوجداني. الدين والأخلاق نابعان من التراث، والله والعالم
شيء واحد خالٍ من التناقضات. وقوانين الجدل ليست شاملة بل هي تعبير عن حركة الفكر
وحيويته. نقد العهد القديم ورواياته، هذا النقد الذي بدأه اسبينوزا ومده إلى العهد
الجديد مما أدى إلى تطوير هذا العلم، النقد التاريخي للكتب المقدسة، وبالتالي نقد مصادر
المسيحية كما فعل رينان. وحوَّل ريتشل الرومانسية من مجرد فلسفة إلى تجرِبة صوفية.
٢٧ الله هو أساس حكم القيمة الديني. فللإنسان حكمان. الحكم القائم على الواقع
مثل أحكام العلوم الطبيعية، والحكم المستقل أو الديني الذي يعبر عن ارتباط الإنسان
بقيمة عليا أو بواقع أعلى وهو الله. الأول يشبه حكم كانط البَعدي والثاني الحكم القَبْلي.
ولا يمكن إدراك الله بالدليل العقلي القبلي أو البعدي أو بالحدس أو بالتجرِبة الصوفية
أو
بالعاطفة والفطرة. فالله ليس موضوعًا للإدراك على الإطلاق بل هو أساس حكم القيمة
الديني. لذلك يحتاج الإنسان إلى الله حتى يكون حكم القيمة ممكنًا وحتى يحرره من أحكام
الطبيعة. ويشابه موقف ريتشل نظرية الصدق الإلهي للعلوم والحقائق عند ديكارت، والضمان
الإلهي للأخلاق عند كانط، وبالتالي يتراجع اليقين العقلي والبداهات الفطرية إلى
الوراء. وينقلب العقل إلى ضده في التصوف. وهو ما سيتضح بعد ذلك بصورة أوضح في الفلسفة
المعاصرة وتياراتها اللاعقلية، وكأن الوعي الأوروبي قد بدأ ببناء العقل وانتهى بتحطيم
العقل.
٢٨ ونقد لامنيه فلسفة التنوير وكل فلسفة القرن الثامن عشر، مبادئها ومناهجها،
بعدما قامت به من نقد وهدم لكل العقائد والنظم القديمة.
٢٩ كان مع الثورة أولًا. ودعا إلى تأسيس دين إنساني عام يلهم البشرية مبادئ
الحق والخير والعدل. ولكن بعد صراعه مع الكنيسة وحرمانها له وما آلت إليه الثورة
الفرنسية وعودة الملكية دعا أيضًا إلى العودة إلى الكنيسة الكاثوليكية كحل لأزمة العصر
وعدم وجود بديل علماني عقلاني ثوري ناجح عن الدين. وقد جمع الرومانسيون الأمريكيون بين
الرومانسية والترنسندنتالية مثل ثورو وإمرسون. بيَّن ثورو في كتاباته إمكانية الحضارة
الإنسانية في بيئة طبيعية، وقدرة الإنسان على أن ينمي وعيه بجهده الذاتي.
٣٠ وانتهى إلى نوع من وحدة الوجود كما هو الحال عند الصوفية. نقد الرأسمالية،
وعارض العبودية، ودعا إلى الثورة. وكان إمرسون أقرب إلى الشخصية الأدبية منه إلى الفيلسوف.
٣١ تأثر بفلاسفة ألمانيا في القرن التاسع عشر، خاصة شلنج، وبالكتابات الرومانسية
عند كولريدج وكارلايل ووُردزوُرث. كما تأثر بأفلاطون. ويقوم المذهب الترنسندنتالي
الأمريكي على الأفكار الرومانسية مثل معرفة الذات، واحترام النفس. درس المشكلة
التقليدية، صلة الرُّوح بالمادة، وانتهى إلى أن المادة رُوح، والرُّوح مادة في مادية
رُوحية
أو مثالية واقعية. الطبيعة رمز الرُّوح، والرُّوح
الجامع
Oversoul يجمع بينهما. وسائل المعرفة عديدة مثل التأمل، والحدس، والجذب
الصوفي. يبدو الجمال في كل شيء، في الطبيعة وفي الفن، ويظهر في الانسجام والكمال
والرُّوحانية. وفي السياسة يرى إمرسون أن للأبطال دورًا في التاريخ، وأن التاريخ يتقدم
نحو الكمال الفردي. كما أن الصراع بين الغني والفقير أبدي في الكون. نقد النظام العبودي
والمجتمع البرجوازي في الولايات المتحدة، ولكنه انتهى إلى الإغراق في التصوف كما هو
الحال عند كثير من الرومانسيين. وقد تم اكتشافه مؤخرًا كناقد اجتماعي ومعارضته
لمدنية الجماهير
Mass-Civilization كما فعل
أورتيجا إي جاسيه فيما بعد في نقده لعصر الجماهير.
٣٢ وأخيرًا من الرومانسيين الإنجليز كارلايل وراسكين. نقد كارلايل اللاهوت
الاسكتلندي وليس الأخلاق.
٣٣ ووجد في كتابات جوته الحس الكلي الناقص في الحياة الاجتماعية في العصر
الفيكتوري الذي سادته النفعية عند الفلاسفة الاجتماعيين. قدم مع كولريدج فكرًا
اجتماعيًّا جديدًا يقوم على النماذج والمُثُل مما أدى إلى نقد المجتمع الصناعي. يقوم
الفكر النفعي على نظرة آلية ساكنة في حين يقوم الفكر الاجتماعي الجديد على نظرة عضوية
وحركية، وهي أفكار ما زالت سائدة في الهيجلية والماركسية حتى الآن. كما نقد راسكين
المجتمع البرجوازي وأخلاقه الطفيلية الهابطة من وجهة النظر الدينية المحافظة.
٣٤ ورأى أن إرادة الرأسماليين هي سبب الحرب العدوانية. ومثله الأعلى هو
الإنتاج الأبوي الحِرفي. ووسيلة الخلاص التعليم والتنمية الخلقية. الجمال فطري في
الإنسان. وينشأ الفن من غريزة التقليد. الجمال الإلهي أساس الجمال الموضوعي في الطبيعة
التي لم يغيرها الإنسان. الفن الكامل ينتج عن جمال الواقع، ومن خلاله يتم رفع الإنسان
إلى أعلى الدرجات. وبالرغم من بعض مظاهر الانكسار في الرومانسية كما تجلت في الوعي
الأوروبي مثل التحول من العقل إلى الإرادة إلا أن رُوح الثورة الاجتماعية ما زالت مستمرة
من عصر التنوير. يتخلخل الأساس النظري ويظل المشروع العملي قائمًا حتى ينهار هو أيضًا
في الحربين الأوروبيتين في القرن العشرين.
ثالثًا: الهيجلية
إذا تميز مسار الفلسفة الغربية بأربع محطات كبار: ديكارت، كانط، هيجل، هُوسِرل، فإن
مصير كل مذهب كان انقسامه إلى فريقين: يمين ويسار. مثَّل اليمين الكانطي شوبنهور،
واليسار الكانطي تشعب إلى يمين ووسط ويسار، شلنج يمين الوسط، وهيجل الوسط، وفشته يسار
الوسط. ومع أن هيجل كانطي إلا أنه بزَّ جميع الكانطيين، وكون له مذهبًا مستقلًّا انقسم
بعده أيضًا إلى يمين ويسار. فاليمين الهيجلي لم يسمع عنه أحد كثيرًا، ولم يؤثر في تاريخ
الفلسفة، ولم يترك علامات بارزة في مسار الوعي الأوروبي، كانت أهميته في معارضته لليسار
الهيجلي نظرًا لأن ممثليه كانوا أصحاب سلطة وفي مناصب مرموقة في ألمانيا، وهو الذي ساد
الفكر
الألماني بعد وفاة هيجل لمدة عشر سنوات، ويسمى أنصاره الهيجليون الشيوخ في
مقابل اليسار الهيجلي أو الهيجليين الشبان. حاولوا تفسير هيجل برُوح مسيحية أرثوذكسية،
والجمع بين الفلسفة والإيمان نظرًا للاشتباه الذي وقع فيه هيجل في هذا الموضوع.
٣٥ وأما المتأخرون منهم فإنهم تصدوا لليسار الهيجلي، وحاولوا إعادة تفسير هيجل
برُوح شلنج وفلسفة الهُوية ونظرية العدل الإلهي عند لَيبنتز.
٣٦ فتاريخيًّا اليمين الهيجلي سابق على اليسار الهيجلي. وفلسفيًّا لا يكاد
يذكر كما يذكر اليسار الهيجلي. ولم يؤثر في شيء كما أثر اليسار الهيجلي في ثورة ١٨٤٨م.
وأراد إرجاع هيجل إلى الوراء، إلى المثالية الكانطية عند لَيبنتز وشلنج، في حين أراد
اليسار الهيجلي شد هيجل إلى الأمام إلى فيورباخ وماركس.
ولكن كيركجارد هو أول من ثار ضد هيجل، وفي نفس الوقت يتجاوز تصنيف اليمين واليسار.
٣٧ فهو يمين لأنه يضع بدلًا من المذهب والدولة والتاريخ والجدل الفرد والوجود
والذاتية والعاطفة، فهو بهذا المعنى يميني، ولكنه في نفس الوقت يثور ضد الكنيسة
والعقائد الرسمية وضد مظاهر النفاق في عصره، فهو بهذا المعنى يسار. وموقعه من الهيجليين
مثل موقع بسكال من الديكارتيين، بمعنى أن كلًّا منهما يتجاوز تصنيف اليمين واليسار أو
أن
في كلٍّ منهما يمينًا ويسارًا. فالتسليم بالعقائد المسيحية الرسمية، والاعتراف بعقائد
الخطيئة الأولى والخلاص في «الأفكار» يمين، ونقد الجِزوِيت ومظاهر النفاق الديني في
«البروفنسال» يسار. بدأ التفكير في تناقض الإيمان، وأن المؤمن مصاب، عودًا إلى مقولة
أوريجين السابقة: «هذا متناقض إذن أُومِن به.»
٣٨ نقد مذهب هيجل والمعرفة المطلقة مفضلًا سخرية سقراط كمنهج للمعرفة.
فالحقيقة تقوم على التهكم والتوليد وليس على الجدل الفارغ عند هيجل. نقده في أعماله
الفلسفية الجمالية الأولى وكتبها تحت اسم مستعار. وهي حقيقة ذاتية في مقابل الحقيقة
الموضوعية، صيرورة في مقابل الوجود. فالمهم أن يصير الإنسان مسيحيًّا لا أن يكون
مسيحيًّا. تأثر بأعمال الرومانسيين من أمثال لسنج، وبالموسيقى، خاصة أوبرات موتسارت التي
تكشف عن البعد الجمالي الحسي في الوجود الإنساني. في مقابل الهيجلية الرسمية يضع
كيركجارد هيجلية مقلوبة، من التاريخ إلى الفرد، ومن المطلق إلى النسبي، ومن الكل إلى
الجزء، ومن الجدل الذي تحل فيه التناقضات إلى الصراع الذي يظل إلى الأبد، ومن الجدل
الثلاثي إلى التناقض الثنائي الذي لا حل له، ومن التوسط بين المتناقضات إلى المباشرة
واللاتوسط، ومن المسار الآلي المستمر إلى القفزة من النقيض إلى النقيض، ومن العقل إلى
العاطفة، ومن الدولة إلى المواطن، ومن القانون إلى العصيان، ومن الوعي السعيد إلى الوعي
الشقي، ومن التفاؤل إلى التشاؤم، ومن الأمل إلى اليأس، ومن طمأنينة الفيلسوف إلى قلق
الوجودي، ومن الثقة بالنفس إلى حد الغرور إلى الخوف والارتعاش، ومن البراءة إلى
الخطيئة، ومن الإيمان إلى الإلحاد، ومن الشكر إلى التجديف، فالمسيحية ضد هذا العالم،
وضد هذا العصر، وضد هذا الإنسان. وقد استمر نيتشه في نفس التيار الذي بدأه كيركجارد في
عدائه للمثالية وللمسيحية الرسمية. الإيمان تناقض وفضيحة وعار كما تجلى في إبراهيم وهو
يهم بذبح ابنه إسماعيل، خوف وارتعاش. فيُنقل فيه الإنسان من المرحلة الحسية الجمالية
إلى
المرحلة الأخلاقية ثم إلى المرحلة الإيمانية. ثلاثة على درب الحياة. وكان لفلسفته أثر
كبير على الفلاسفة الوجوديين والمفكرين الاجتماعيين التشاؤميين واللاهوتيين البروتستانت
من أمثال بارت وياسبرز، واليهود من أمثال مارتن بوبر.
(١) اليسار الهيجلي
وكان اليسار الهيجلي أو الهيجليون الشباب أقرب إلى نقد الهيجلية منهم إلى تطويرها
على
عكس الكانطيين الأربعة: فشته، وهيجل، وشلنج، وشوبنهور، وإلى نقد المثالية منهم إلى إعادة
قراءتها، وبالتالي كانوا أقرب إلى الفلسفة المعاصرة منهم إلى الفلسفة الحديثة. يعبرون
عن الفترة الثانية من الوعي الأوروبي «الأنا موجود» في مقابل «الأنا أفكر». لذلك كانوا
أحد مصادر الوجودية (كيركجارد) والفوضوية (شترنر) والإنسانية (فيورباخ) وفلسفة اللغة
والأساطير والأنثروبولوجيا المعاصرة (شتراوس، باور) والماركسية (ماركس). كانوا
أيديولوجيِّي الليبرالية الألمانية بين ١٨٣٠–١٨٤٠م، وممثلي الجناح الراديكالي لهيجل في
تفسيرهم له بعيدًا عن الاشتباه الذي وقع فيه بين الدين والفلسفة، الإيمان والعقل،
المجرد والعياني، الفكر والوجود، المحافظة والتقدم، الدفاع عن الوضع القائم أو الثورة
عليه. كانوا أقرب إلى الفلسفة وإعمال العقل، والالتصاق بالواقع، والإحساس بالوجود،
والثورة على الوضع القائم. كانوا يمثلون في ألمانيا البروسية ما يمثله فلاسفة التنوير
بالنسبة لفرنسا المَلكية. وكانوا من المدافعين عن الثورة الفرنسية بعد أن هاجمها الإقطاع
الألماني. بل أرادوا إعادة الكرَّة مع الثورة الفرنسية في ألمانيا وبنفس طريق التنوير،
واتجهوا إلى نقد الدين ونقد المجتمع. نقد فيورباخ الدين، وأراد القضاء على الاغتراب
الديني وبيان «مستقبل الوهم» كما فعل فرويد بعد ذلك بقرن من الزمان، والعودة إلى
الإنسان والطبيعة. كما أراد شتراوس أن ينقد النصوص الدينية وبيان نشأتها وتكوينها في
الوعي الجماعي التاريخي، وأن العقائد وفي مقدمتها ألوهية المسيح ما هي إلا أسطورة. كما
بين باور أن العقائد مجرد إبداعات ذهنية شعبية وتحليل الشعور الاجتماعي بعد الشعور
الديني، وبيان أن الاغتراب الديني والاغتراب الاجتماعي صنوان. ثم حاور شترنر تخليص
الفرد من المذهب المجرد ومن المجتمع وجعله أوحدًا، ليس كمثله شيء، له صفات وأفعال، حر
طليق، لا قيد عليه من الله أو من الدولة، فكان أول مؤسس للفوضوية. وأخيرًا قام ماركس
بجمع هذه الخيوط كلها في بيان صلة الفلسفة بالواقع، وعَلاقة الفرد بالمجتمع، والانتقال
من نقد الدين إلى نقد المجتمع. والحقيقة أنه يصعب ترتيب الهيجليين الشبان سواء من
الناحية التاريخية أو من الناحية الموضوعية. فتاريخيًّا يأتي شترنر أولًا لاكتشاف الفرد
من ثنايا المذهب، ثم يأتي شتراوس لكشف الأسطورة أساسًا للدين، وفيورباخ لاكتشاف
الاغتراب الديني والعودة إلى الإنسان والطبيعة، ثم يأتي باور لاكتشاف الوعي الاجتماعي
من ثنايا الدين. وأخيرًا يظهر ماركس ليبدأ بنقد شامل للمجتمع كأساس لنقد الدين ونقد
الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
ماكس شترنر هو أول الهيجليين اليساريين، صاحب نزعة فردية جذرية ومؤسس الفوضوية.
٣٩ فكل شيء غير الفرد فهو أقل قيمة منه. الأسرة والمجتمع والدولة كلها تختفي
أمام الفرد وقوة الحياة. الواقع الوحيد هو الأنا الفردي، الأنا المتوحد، الواحد الأوحد،
الفرد الصمد الذي ليس له كُفُوًا أحد. العالم كله ملكيته، تابع له، أحد تجلياته، صفاته
وأفعاله. رفض مفاهيم الأخلاق والعدالة والقانون والمجتمع، فكلها أوهام لا وجود لها أو
قيود لمصادرة حرية الفرد. الفرد وحده مصدر أخلاقيته وعدله. والملكية الفردية أحد مظاهر
التعبير عن «الأنية». والمجتمع ذاته ليس إلا مجموع الأنيات المتفردة. كل إنسان يحقق
ذاته عن طريق ذات الآخر، فالآخر وسيلة لتحقيق الذات. وكأن شترنر يعود إلى هوبز من جديد
على نحو ميتافيزيقي أعمق. والتاريخ هو تاريخ الأفكار، وبالتالي لا يتغير الواقع إلا إذا
تغير الفكر أولًا. لذلك ظل مثاليًّا هيجليًّا بالرغم من نقده لهيجل، وتخليص الفرد
الأوحد من ثنايا المذهب الكلي الشامل. عارض الشيوعية التي تعطي الأولوية للمجتمع على
الفرد، وتجعل كل الأفراد متشابهين، متكررين، مجردين. كما عارض الثورة والنضال الثوري
للبروليتاريا التي تقضي على فردية الأفراد. ويرى الماركسيون أن شعارات شترنر الثورية
ما
هي إلا وسيلة للمحافظة على مصالح البرجوازية وحمايتها ضد الإفلاس. وكان أقرب الهيجليين
اليساريين إلى كيركجارد دون الإيمان.
كما نقد فيورباخ مثالية هيجل وفهمها لماهية الإنسان التي ردها فيورباخ إلى الوعي
بالذات.
٤٠ ربط المثالية بالدين، وبالتالي فإن نقد المثالية هو نقد للدين. ثم انتقل من
نقد المثالية والدين إلى اكتشاف الإنسان والطبيعة. وقد أدى تصور الهيجليين الشبان
المثالية المجردة إلى رد فعل نحو الحسية المادية. فانتهى فيورباخ الهيجلي الشاب إلى
المادية، ودافع عنها، مما أثر في جميع معاصريه من الهيجليين الشبان حتى اعتبر إنجلز أنهم
كانوا جميعًا فيورباخيين، أي ماديين. ولكن النزعة الإنسانية «الأنثروبولوجية» كانت غالبة
على المادية فأصبحت مادية إنسانية. وفي نظرية المعرفة كان فيورباخ حسيًّا تجريبيًّا
معارضًا للإشراق. ولم ينكر أهمية التصور والفكر. فقد حاول دراسة الموضوع في عَلاقته مع
نشاط الذات. بل إنه حاول وضع افتراضات عن الأسس الاجتماعية للمعرفة البشرية وللوعي
الإنساني ممهدًا بذلك للبعد الاجتماعي عند أقرانه من الهيجليين الشبان، شتراوس وباور
وماركس. ومع ذلك يرى الماركسيون أن نظرته إلى المجتمع نظرة مثالية؛ لأنه أراد جعل
الأنثروبولوجيا علمًا شاملًا لدراسة الحياة الاجتماعية. فالأنثروبولوجيا أساس
«السوسيولوجيا». والمجتمع كائن إنساني، وليس الإنسان كائنًا اجتماعيًّا. ولكن أهم
مساهمة لفيورباخ هي نقده للدين. فالدين هو حلم الإنسانية الأرضي، وعي الإنسان اللاواعي
بذاته. فإذا ما استرد الإنسان وعيه، وانتقل من اللاوعي إلى الوعي، اختفى الدين، وظهر
الإنسان في الطبيعة والمجتمع. الدين اغتراب الإنسان عن نفسه وعن عالمه، وأخذ أهم ما
يتصف به الإنسان وهو الوعي بالذات وموضعته خارجًا عنه في «الله» فيعبده ويقدسه.
والحقيقة أن الإنسان يعبد نفسه، ويقدس صفاته في صورة جوهر متوهَّم مفارِق. ويرجع هذا
الاغتراب إلى شعور الإنسان بالعجز أمام القوى الطبيعية والاجتماعية. يمكن إذن دراسة
الدين عن طريق البحث في جذوره التاريخية والاجتماعية، أي في تكوينه التاريخي. ومع ذلك
يرى الماركسيون أن فيورباخ ما زال مثاليًّا في دراسته للدين والأخلاق. وأنه بسبب
الأنثروبولوجيا لم يستطع أن يجد الوسائل الفعالة لمحاربة الدين، وظن أنه يكفي في ذلك
تحويل اللاوعي إلى وعي عن طريق التربية وتقديم دين جديد كبديل عن الدين القديم،
واستنباط مبادئ الأخلاق من كدح الإنسان لنيل السعادة، والتي يمكن الحصول عليها بالفعل
عن طريق تحديد العقل لمطالب الإنسان وحبه للآخرين. وهي مبادئ عامة وشاملة لكل الشعوب.
كما حاول فيورباخ وضع فلسفة في التاريخ يصف فيها تطور الوعي الأوروبي في مراحله
المتعددة. فقد بدأت الفلسفة الأوروبية بالدين (العصر الوسيط والعصر الحديث حتى قبل
هيجل)، ثم بالمثالية أو الفلسفة التأملية (هيجل) وانتهت أخيرًا إلى الواقعية الحسية أو
المادية الطبيعية (فيورباخ). وهذا التقدم الرُّوحي متصل بالإنسان وليس بالله، وهو نشاط
واعٍ لرقي النوع الإنساني، فالمستقبل لا دين له. وهي نفس الدعوة التي حملها جويو في «لا
دينية للمستقبل». ويرى الماركسيون أن فيورباخ لم يفهم طبيعة ثورة ١٨٤٨م، ولم يقبل
الماركسية بالرغم من انضمامه إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي في أواخر حياته. ومع ذلك
كانت «الفيورباخية» أحد الشروط السابقة في ألمانيا قبل الثورة، وعبَّرت عن مُثل الثورة
البرجوازية الديمقراطية، وكان لها أبلغ الأثر في ماركس وإنجلز. ولا يستطيع الإنسان أن
يكون ماركسيًّا، في رأي ماركس، إلا إذا تطهر في «قناة النار».
ودرس شتراوس تكون الأسطورة في الدين ابتداءً من نقد النصوص ومطبقًا ذلك في نشأة أسطورة
يسوع المسيح.
٤١ وهو نفس الموضوع الذي كتب فيه هيجل الشاب ثم رينان فيما بعد، والذي أصبح من
أهم الموضوعات في علوم التفسير الحديثة بعد نشأة مدرسة تاريخ الأشكال الأدبية عند
بولتمان وديبِليوس، وكما ظهر في كتاب بولتمان «يسوع». هناك تقابل بين «يسوع التاريخ»
و«يسوع الإيمان». الأول لا وسيلة لنا لمعرفته نظرًا لعدم وجود نصوص تاريخية عنه،
والثاني هو ما عاشته الجماعة المسيحية الأولى وما تصورته على أنه يسوع.
٤٢ درس شتراوس روايات الإنجيل، وبين كيف أنها تعبر عن إيمان الجماعة المسيحية
الأولى، وتعكس تصورات كُتاب الأناجيل وأوضاع الجماعة المسيحية الأولى وصراعاتها. ولا
تروي حقائق أو وقائع عن حياة المسيح. فالمسيح أسطورة من نوع أساطير الآلهة في ديانات
الشرق القديم ودين اليونان والرومان. ولا يعني ذلك أن المسيحية ليست دينًا حقيقيًّا
لأن وحدة الله والإنسان ليست في المسيح بل في الإنسانية كلها. وهي عَلاقة حالة وليست
مفارقة، عامة وليست خاصة، فكرية وليست شخصية. وتكشف كتاباته عن تيارات عديدة من
الهيجلية، والداروينية، ووحدة الوجود، والتجرِبة الداخلية الدينية، ونقد الأوضاع
الاجتماعية للعصر.
واستمر باور في دراسة ما بدأه شتراوس في «حياة يسوع».
٤٣ فقد انتهى شتراوس إلى أن المسيح فكرة أسطورية دون نقد للمصادر. أما باور
فإنه انتهى إلى نفس الشيء عن طريق نقد المصادر وبيان إنسانيتها، وليس مصدرها الإلهي،
وبالتالي تعبيرها عن أساطير البيئة الدينية. فلا فرق بين الأناجيل وأشعار هوميروس
وهِزيود أو «حياة الفلاسفة» لديوجينس اللايرتي. انتهى باور إلى أنه طبقًا لنقد النصوص،
وليس لأفكار ميتافيزيقية مسبقة، ليس للمسيح وجود تاريخي أو إلهي، بل هو مجرد مثل أعلى
أفرزه الوعي الديني الراغب في الخلاص. تصوره كل كاتب إنجيل بطريقته الخاصة. ولا يوجد
تصور واحد شامل يجمع بينها. لا يوجد إله شخصي. أو مفارق بل مجرد وعي ديني يفرز مثلًا
أعلى. وفي السياسة أنكر باور أية سلطة في الدولة سواء سلطة الكنيسة أو سلطة الدولة لأن
السلطتين الدينية والمدنية تمنعان حرية الفكر، وأن العقل له سلطان على المملكتين. لا
يعيش الإنسان إلا في ملكوت خاص. مثله الأعلى الحرية حتى وإن لم تتحقق في فعل عملي كما
يريده الماركسيون الذين يصفون باور بأنه كان ثوريًّا في الدين، رجعيًّا في السياسة.
فالدين تعبير عن وعي الإنسان في غياب النقد حتى يشعر بالأمان في عالم غريب عنه لا
يفهمه. والكنيسة هي السبب الرئيسي لعدم تنمية الشعور النقدي عند المؤمن. والدولة
المتعاونة مع الكنيسة هي العدو الأول. لا يريد باور إصلاح الدولة وجعلها أكثر ليبرالية
مما هي عليه بل القضاء عليها نهائيًّا بشكلها الحالي من أجل إقامة دولة حرة بديلة. حاول
إيجاد حل لليهود في ألمانيا بعيدًا عن الإصلاح العملي للوضع القائم أو الإنشائيات
الخطابية للثورة الفرنسية. يتحرر اليهود من خلال تحرر الألمان، وأن يتحولوا إلى مواطنين
لا رعايا. لا حل للمسألة اليهودية إلا بحل المشكلة الدينية والمؤسسة الدينية بأن يصبح
الإنسان مواطنًا حرًّا في دولة حرة كما طالب اسبينوزا من قبل. يتحرر اليهود عن طريق تحريرهم
من اليهودية أولًا كما يتحرر المسيحيون عن طريق
تحريرهم من المسيحية. وبالنسبة للمسألة الاجتماعية لا يتغير شيء في الواقع ما لم يتغير
في الوعي أولًا، ولا يتغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. إن المعرفة الموضوعية
الوحيدة هي معرفة الذات. ومعرفة الذات تتم بالمعرفة النقدية القادرة على الوصول إلى
القيم الشاملة العامة. هذا النقد لا تقدر عليه الجماهير، ولا تقدر عليه إلا الخاصة،
فلاسفة التنوير. الجماهير لا تستطيع الإدراك ولا الفهم، يسودها الجهل، وتحركها الأهواء،
وتتحكم فيها نظم الطغيان، وتوجهها المصالح. لا تحمل الجماهير الأفكار بل تقضي عليها.
لذلك على الفلاسفة الدفاع عن الأفكار ضد خمول الجماهير وثقلها. وهو ما قاله أورتيجا إي
جاسيه بعد ذلك في ثورة الجماهير.
٤٤ كما يبدو باور مثل كارلايل في تصوره للبطولة والأبطال، النخبة القادرة على
تحريك الجماهير كما تحرك النفس البدن. وإذا كان البطل عند كارلايل هو النبي أو المستبد
المستنير فإنه عند باور محب البشرية.
٤٥ وهو الوحيد القادر على إحداث التغير الاجتماعي، الملك الفيلسوف أو الفيلسوف
الملك الذي تصوره أفلاطون، أو النبي الإمام كما تصوره حكماء المسلمين. والتاريخ نفسه
هو
القادر على إحداث هذا التغيير بمساره الحتمي ومنطقه الخاص. وبالنسبة لنا فإن النقد وحده
هو القادر على أن يجعلنا أكثر وعيًا بأنفسنا وبواقعنا الاجتماعي وبقانون التاريخ. وكان
من الطبيعي أن يرد ماركس على هذه المثالية في «نقد النقد».
وكارل ماركس هو آخر الهيجليين اليساريين الذي نقل اليسار الهيجلي من نقد الدين والفكر
والإيديولوجيا إلى نقد المجتمع ونقد الاقتصاد السياسي ونقد التاريخ.
٤٦ وأصبح بالتالي مؤسس الشيوعية، والاشتراكية العلمية، والمادية التاريخية،
والاقتصاد السياسي، وعلم الاجتماع، وعلم بروليتاريا العالم. وما يهمنا هو كارل ماركس
الشاب، الفيلسوف، الهيجلي الشاب، اليساري الهيجلي، وليس ماركس الكهل الذي انقلب على
مثالية الشباب إلى عالم الاقتصاد السياسي، فذاك أدخل في الاشتراكية العلمية. وفي مؤلفات
الشباب تظهر القطيعة مع المثالية الدينية التقليدية عن طريق قراءة اليونان في رسالته
للدكتوراه ثم في تحليله لثورة العصر. كما شن هجومًا قويًّا على مثالية هيجل لرجعيتها
ومحافظتها ولبيان التناقض بين المبادئ المعلنة والوقائع التي تفسرها. ويكون التحرر
للعالم كله بدلًا من تحرير اليهود وحدهم كما أراد موسى هس باسم الصهيونية وبدلًا من
تحرير اليهود عن طريق تحرير المسيحيين وتحرير ألمانيا باسم الأيديولوجية الألمانية التي
تقوم على الوعي الذاتي والحرية والأمة. يتحرر اليهود عن طريق تحرير البروليتاريا
العالمية وتحرير العمال والدخول في الصراع الطبقي، أي عن طريق «الماركسية». فلا فرق بين
يهودي ومسيحي، بين الألماني وغير الألماني. إنما الفرق بين الغني والفقير، بين صاحب رأس
المال والعامل، بين المستغِل والمستغَل. ثم حلل وضع العامل في المجتمع الرأسمالي. وظهرت
لديه مفاهيم التشيؤ والاغتراب، باعتباره فيورباخيًّا. وفي نقده للهيجليين الشبان أسس
«نقد النقد»، وبين حدود تغيير العالم عن طريق الأفكار، وأحدث قطيعة بين الفكر والواقع،
بين المثالية والبروليتاريا، وأعلن الانتقال من فهم العالم إلى تغييره عن طريق وضع
برنامج لعمل ثوري لتغيير الأمر الواقع. وبعد فشل الثورة لجأ ماركس إلى عدة كتابات تجمع
بين المفكر والصحفي لتحليل الحوادث والوقائع. ثم انعزل ماركس وأراد تنظير ذلك كله في
عمل نظري صرف يبقى بعيدًا عن مثالية العصر وحوادثه بداية بنقد الاقتصاد السياسي ونهاية
برأس المال.
وإجابة على السؤال الدائم: ما دور العقل في الوعي الأوروبي كما مثله اليسار الهيجلي؟
هل كان مبررًا للإيمان، كما كان الحال عند اليمين الديكارتي والكانطي، أم كان أساسًا
للإيمان كما هو الحال عند اليسار الديكارتي، اسبينوزا؟ الحقيقة أن الهيجليين الشبان
استطاعوا الخروج على هذا التبرير العقلي للإيمان بصرف النظر عن درجات هذا الخروج؛ فقد
أعلن شترنر أنه لا يوجد إلا الإنسان الأوحد، الفرد الصمد، بلا إله أو آخر أو مجتمع أو
دولة.
٤٧ واللاهوت عند فيورباخ علم إنسان مقلوب أو إسقاط للإنسان من نفسه على الله.
والعقائد الدينية عند شتراوس حصيلة الأساطير المقارنة ولتاريخ الشعوب المجاورة وإفراز
من حضاراتها. والنص الديني عند باور نشأ وتطور في التاريخ، يعبر عن حال الجماعة
المسيحية الأولى. والأيديولوجية الألمانية بالرغم من مهاجمة ماركس وإنجلز لها لمثاليتها
تُعتبر أكبر تطبيق جذري للعقل في المثالية الألمانية، ويمكن أن تكون نموذجًا لمدى تطبيق
العقل إلى أبعد الحدود سواء فيما يتعلق بالتيار الفكري والعقائدي أو فيما يتعلق بالتيار
الاجتماعي عند الاشتراكيين المثاليين. كما أن وضع الدين في الغرب، وكما وصف ماركس، إفراز
للأوضاع الاجتماعية والتركيب الطبقي وإحدى الوسائل لاستغلال الطبقات المحرومة أو إفراز
من حرمانها. «الدين أفيون الشعب، وزفرة المضطهدين».
٤٨
وبتضافر الجهود بين الهيجليين اليساريين وفلاسفة التنوير خرجت دراسات عديدة على الدين
أكثر جذرية، وهي التي يمكن أن نأخذها كنموذج لدراسة تراثنا القديم. وتدور هذه الدراسات
في الميادين الآتية:
- (١)
النقد التاريخي للكتب المقدسة، وهو العلم الذي نشأ في العصر الحديث على
يد اسبينوزا وريتشارد سيمون وجاك أوستريك، وسار فيه فلاسفة التنوير في
القرن الثامن عشر وعلماء النقد، خاصة البروتستانت، في القرن التاسع عشر
والمجددون الكاثوليك في القرن العشرين، من أجل تتبع نشأة العقائد أولًا
كتجرِبة حسية للأحوال النفسية للجماعة ثم تدوينها في النصوص الدينية. وهي
عقائد تحكمها قوانين علم النفس الاجتماعي من حيث الرواية الشِّفاهيَّة وقوانين
نقل التراث المكتوب من حيث هي روايات مدونة.
- (٢)
تاريخ الأديان المقارن. وهو العلم الذي يحاول دراسة كل الظواهر الدينية
دراسة اجتماعية محضة مثل ظاهرة التقديس أو العبادة أو أفكار المطلق
والموجودات العلوية، وكذلك دراسة الأساطير المقارنة والعثور على أبنيتها
النفسية التي تنتج أساطير متشابهة عند مختلِف الشعوب والديانات.
- (٣)
الدين كعلم إنساني. فهناك علم النفس الديني لدراسة الأحوال النفسية، وعلم
الاجتماع الديني لدراسة الظواهر الدينية من حيث هي ظواهر اجتماعية، وعلم
الاقتصاد الديني لدراسة الصلة بين الاقتصاد والدين أو بين الأبنية
الاقتصادية والتصورات الدينية (الرأسمالية والبروتستانتية أو الأشعرية
والاستبداد مثلًا).
- (٤)
تطور الدين في التاريخ. ويتم ذلك عن طريق دراسة الحركات العلمانية
والتيارات الإنسانية والحركات الثورية التي اتُّهمت بالإلحاد ظلمًا وهي تعبير
صادق عن مقاصد الوحي، وهي التيارات الفكرية التي تدعو للعقل دون السر، وللحس
دون الخرافة، وللحرية وليس للجبر، وللثورة وليس للاستغلال، وللعلمانية وليس
للكهنوت، والتركيز على الإنسان لأن الله غني عن العالمين.
وعلى هذا النحو يمكن تطوير الدراسات الدينية التقليدية عن الشخصيات أو العقائد أو
الطقوس، والتي يغلب عليها طابع الفخر بالماضي والاعتزاز بالسلف طلبًا لاستحسان الجماهير،
هذه الدراسات التي تجعلنا نعوِّض عما نحتاجه بإشباع رغباتنا عن طريق التأمل في النموذج
الفريد الذي تحقق لأول مرة في تاريخنا القديم.
٤٩
(٢) الهيجلية الجديدة
وبعد نقد الهيجلية من الهيجليين الشبان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر عادت
من
جديد في نفس الفترة، وفي النصف الأول من القرن العشرين، كرد فعل على الوضعية. فقد أُعطي
اسمُ «الهيجلية الجديدة» لتيار إحياء الفلسفة الهيجلية الذي بدأ في اسكتلندا وإنجلترا
ثم
امتد إلى أمريكا.
٥٠ لم يهتموا بالجانب الصوري في جدل هيجل بل اهتموا فقط بالرُّوح وما سماه هيجل
قوة النفي، وما سماه بوزانكويت حجة حدوث العالم. وامتدت أيضًا إلى سائر أنحاء القارة
الأوروبية لدوافع مختلفة.
٥١ فبينما نشأت في اسكتلندا وإنجلترا كرد فعل على المادية الطبيعية والتاريخية
والوضعية دفاعًا عن الدين والفلسفة التأملية فقد اتحدت في فرنسا مع الوجودية، ووضع
الجدل في الشعور وتم تفسير هيجل من خلال فلسفة الحياة. وإذا كان التناقض له حل عند
برادلي فإنه لا حل له عند كروتشه وفال. وإذا كان الهيجلية وسيلة لتبرير الدولة
الاستعمارية عند بوزانكويت فإنها وسيلة للمصالحة بين الطبقات والمجتمع في الدولة
الفاشيَّة القائمة على الشركات عند هيرنج وجانتيله.
كان توماس هيل جرين مثاليًّا في الفلسفة وليبراليًّا في السياسة.
٥٢ هاجم المذهب التجريبي، خاصة مبدأ هيوم الذي ينكر الشيء الواقعي والذي لا
يُنتبه إليه إلا من خلال الحواس. فالواقعي عند جرين هو المتصل بشيء آخر. وهذه العَلاقة
عمل
الذهن الذي ليس مجرد نتاج الإحساسات. كما نقد المذهب التجريبي الذي جعل الإحساسات السبب
الوحيد للفعل الإنساني وليست البواعث أو الوعي العقلي. كما هاجم الأخلاق النفعية
والوضعية والتطورية عند سبنسر. وفي نفس الوقت نقد التيارات الغنوصية الإشراقية. ودافع
عن وجود ذات عاقلة لا تستمد من الحس. فالعقل كلي وشامل لا يُرَد إلى ما هو أقل منه. كما
قام بتحليل الغايات حتى يمكن الانتهاء إلى النتائج. فالعلل الغائية هي التي تُحدَّد
نتائجها مسبقًا.
وتأثر بوزانكويت بالمثالية الهيجلية وحاول قراءتها ابتداءً من فكرة الفرد.
٥٣ فالفرد في مذهبه هو الشامل العِياني، الكلي الحسي، فيه تتآلف المتناقضات،
وهو قادر على الاستقلال والاعتماد على الذات. ولا يجد الفرد نفسه في الشخص بل في
التعالي على الذات في الفن والدين والمجتمع وفي المطلق. تبدو الهيجلية الجديدة هنا
محاولة لاكتشاف طريق ثالث هو الفرد، يلتقي فيه الخطان المتباعدان في الوعي الأوروبي حتى
يلتقيا أخيرًا في نقطة واحدة، وبهذا المعنى يلتقي بوزانكويت وكيركجارد في اكتشاف هذا
البعد الغائب في فلسفة هيجل وهو الفردية.
وهاجم برادلي الأخلاق النفعية مثل جرين، خاصة النزعة النفسية اللانقدية.
٥٤ وفي نفس الوقت بيَّن إمكانية التعبير عن الواقع في صيغ وعبارات ضد النزعة
الإشراقية أيضًا مثل جرين. وقد تأثر ليس فقط بهيجل بل أيضًا بكانط، أي بأصول هيجل
المذهبية. ويمكن لديه الانتقال من الظاهر إلى الواقع دون حاجة إلى عمل نظامين مستقلين
لكل منهما، كما هو الحال في ثنائية كانط بين الظاهر والشيء في ذاته. ومن ثم يكون الجدل
عند هيجل هو هذه المحاولة للانتقال من أحدهما إلى الآخر في نسق واحد هو علم المنطق.
لذلك كانت المثالية لديه جدلية. وتكون الهيجلية الجديدة على هذا النحو عند برادلي، كما
كانت عند جرين، محاولة لتطهير الفكر المعاصر من آثار المذاهب الحسية والنفعية ومذهب اللذة
في التراث التجريبي من خلال الهيجلية التي رفضها برادلي أولًا
ثم قبِلها ثانيًا لمساعدته في عملية الكشف عن مستويات الحقيقة، ورفع التيار التجريبي
المادي في الوعي الأوروبي إلى مستوًى أعلى حتى يقترب من التيار العقلي المثالي. ومع ذلك
فقد انتهى برادلي إلى نوع من التصوف الأخلاقي.
وعند ماكْتاجَرْت الواقع رُوح كما هو الحال عند هيجل.
٥٥ الواقعي مثالي، والمثالي واقعي. والمجتمع أيضًا مكون من أرواح. فالرُّوح عام
وشامل للواقع والإنسان. المادة والمكان والزمان مجرد ظواهر لحقيقة واحدة هي الرُّوح.
وبالرغم من إنكاره للزمان كظاهر إلا أن مصير الإنسان هو الخلود الفردي. ويغيب في مذهبه
التصور التقليدي لله، المنزه أو الشخصي. يكفي إثبات الرُّوح كواقع، وهو يعادل الوظيفة
التي يقوم بها الله في المذاهب الفلسفية.
وانتسب تيلور إلى المثالية الهيجلية في سنواته الأولى.
٥٦ ثم تطور إلى نوع من المدرسية الجديدة دون صياغة مذهب فلسفي بعينه. ينتقل من
التجرِبة الخلقية إلى الله. وأحيانًا يجعل أساس الإيمان في الكونيات وفي الشعور وفي
التجرِبة الدينية. ويدافع عن إيمانه باعتباره كاثوليكيًّا إنجليزيًّا على أسس فلسفية
كما
كان الحال في العصر الوسيط. ويدل ذلك على انتهاء كثير من الهيجليين الجدد إلى التجرِبة
الدينية أو الصوفية وإنهاء عصر التنوير الذي منه خرجت، فقد كان هيجل تلميذ كانط، وكان
كانط فيلسوف التنوير. وكان اليسار الهيجلي ممثل التنوير الألماني يريد إحداث ثورة في
ألمانيا مثل الثورة الفرنسية بعد فشلها في فرنسا بعودة المَلكية إليها.
وفي إيطاليا كان أول الهيجليين الجدد فرانشسكو دي سانكتيس.
٥٧ طبق مثالية هيجل في النقد الأوروبي، وأعطى تفسيرًا جديدًا لعواطف الشعراء،
ومُثُلهم، وربطهم بالتاريخ المدني الإيطالي. وعلى أكتافه قامت المثالية الإيطالية الجديدة
في ١٩٠٠م. وعلى هذا النحو ارتبطت الهيجلية الجديدة بالليبرالية التي كانت مسيطرة على
اليسار الهيجلي، والتي كانت ذائعة الصيت في إيطاليا عند الليبراليين الخلَّص من أمثال
جيوبرتي وروزميني في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
وقد استمرت قوة الدفع الهيجلية في الهيجلية الجديدة في القرن العشرين، حتى إنه ليصعب
التمييز في الوعي الأوروبي بين الذروة في القرن التاسع عشر وبين النهاية في القرن
العشرين، من الناحية الزمنية، نظرًا لارتباطهما معًا في الهيجلية الجديدة خاصة، وفي
المثالية بوجه عام. وقد ظهر ذلك بوجه خاص في إيطاليا عند جانتيله وكروتشه. رفض جانتيله
تمييز كروتشه بين العقل النظري والعقل العملي،
٥٨ فالواقع الوحيد هو عمل الفكر، وهو نفسه فعل الخلق، والطبيعة فكر ميت،
وبتصورها تصبح معقولة، والشيء في ذاته يظل كما هو خارج فعل الخلق. وعلى هذا النحو ظل
جانتيله نصف هيجلي ونصف كانطي. وواضح من مؤلفاته أن الهيجلية الجديدة لديه هي إعادة
كتابة تاريخ الفلسفة والمنطق والفن والدين برُوح هيجلية، أي فعل الفكر باعتباره فعلًا
خالصًا، وعلم المنطق باعتباره نظرية المعرفة، اعتمادًا على عملَي هيجل الرئيسيَّين
«ظاهريات الرُّوح»، و«علم المنطق». أما كروتشه فقد ظهر في مذهبه أثر «ظاهريات الرُّوح»
لهيجل مع إضافة قَسَمة كانطية سابقة وهي التمييز بين الفكر والعمل كلحظتين للرُّوح.
٥٩ ثم ينقسم الفكر إلى شعر وفن من ناحية ومنطق من ناحية أخرى. وينقسم العمل
إلى اقتصاد وأخلاق. وبينهما عَلاقة جدلية تكشف عن تطور الرُّوح تطورًا ذاتيًّا. هذا
التقسيم لعمل الرُّوح قد لا يبعد عن تقسيم أرسطو القديم للعلوم والذي عرضه الحكماء
المسلمون. فالفلسفة إما نظرية أو عملية، والنظرية منطق وطبيعيات وإلهيات، والعملية
أخلاق وسياسة واقتصاد. إلا أن كروتشه أبقى المنطق، ووضع الشعر والفن بدل الطبيعيات
والإلهيات. فالطبيعيات أصبحت موضوعًا لعلم الطبيعة، والإلهيات أصبحت هي فعل الرُّوح.
كما
ترك السياسة للعلوم السياسية، وأبقى الأخلاق والاقتصاد.
وظهرت الهيجلية الجديدة في أمريكا عند رويس وهوكنج. صاغ رويس فلسفة مثالية مطلقة.
٦٠ فالواقع حامل لعقل مطلق يتجلى في عقولنا، يوجه الأفراد، ويعطي دلالات
للتجارِب. ومن أجل الحصول على تصور لعالم مستمر منظم لا بد من التسليم بوجود تجرِبة مطلقة
تعلم كل الوقائع وتخضع لها باعتبارها قانونًا عامًّا، وهو الله، وفي طور مفهوم المعنى
الداخلي لفكرة، وباعتباره غايةً تُحققها هذه الفكرة. ومن هذه الفكرة يتم استنباط العالم
الخارجي. مهمة المنطق تفسير أنماط النظم الموضوعية التي لها دلالة ميتافيزيقية وكونية.
الواقع كله عقل مطلق وشامل، يتجلى في العقول البشرية على نحو فردي. فالفرد له عَلاقة
بالمطلق عن طريق مشاركة التجرِبة الفردية مع التجرِبة المطلقة وفهم الإنسان لهذه
المشاركة. والمنطق هو وسيلة هذا الفهم. ولما كانت عَلاقة الإنسان بالواقع هو عَلاقة عقل
بعقل فالمنطق هو أفضل آلة لفهم صلة العقول بعضها بالبعض الآخر وتفسيرها. وواضح من
مؤلفاته غلبة تاريخ الفلسفة الحديثة وتأويلها على نحو مثالي ثم تأويل المثالية على أساس
أنها حدس ديني. تظهر الهيجلية في البحث عن «الرُّوح» ثم في تحويل هذا الرُّوح إلى «علم
المنطق». كما تبدو آثار الفلسفة في القرن العشرين في العثور على فلسفات الحياة مثل
فلسفة وليم جيمس التي يلتقي فيها أخيرًا التياران الرئيسان في الفلسفة الأوروبية:
العقلانية والتجريبية أو المثالية والواقعية في ثورة واحدة هي التجرِبة الحية أو «الأنا
موجود» كنقطة نهاية في مقابل «الأنا أفكر» كنقطة بداية. كما حاول هوكنج الجمع بين
المثالية والبرجماتية مع اقترابٍ أكثر نحو الواقعية أسوة بالواقعية الجديدة في القرن
العشرين.
٦١ كما حاول الجمع بين الاقتصاد الحر والاقتصاد الجماعي، كما هو الحال في مفهوم
«الذات الجماعية» عند جورج هربرت بالمر، مع التركيز على البعد الفردي فيها.
٦٢ وحاول أيضًا الجمع بين المثالية الألمانية بطابعها الشمولي والبرجماتية
الأمريكية بطابعها الفردي في طريق ثالث يظهر فيه الله في التجرِبة الحية كما هو الحال
عند وليم جيمس، عودًا إلى الأوغسطينية القديمة.
وفي فرنسا، ظهرت الهيجلية الجديدة من خلال الوجودية وفلسفة الحياة عند هيبوليت.
٦٣ أوَّلَ فلسفة هيجل على أنها فلسفة حياة في «ظاهريات الرُّوح»، وفلسفة وجود في
«علم المنطق»، فهيجل بالنسبة إلى المحدثين مثل أرسطو بالنسبة إلى القدماء. أُنطولوجيا
الحياة عند هيجل أساس معرفتنا بالوجود الإنساني. كما ظل ماركس هيجليًّا، يحتفظ بعدة
عناصر مثالية. وبالرغم من أن الهيجلية فلسفة ألمانية بالأصالة إلا أنها استطاعت أن
تنتشر خلال الهيجلية الجديدة إلى باقي الأقطار الأوروبية التي لا تشارك المزاج الألماني
في ميتافيزيقاه، في إنجلترا الحسية، وأمريكا البرجماتية، وإيطاليا الليبرالية، وفرنسا
الحيوية الوجودية.
رابعًا: تطور المثالية
استمرت المثالية وهي التيار الرئيسي الأعم الذي منه خرجت الهيجلية الجديدة؛ استمرت
في
الإبقاء على البعد العقلاني في الوعي الأوروبي مؤصلًا جذوره في البداية عند ديكارت، كما
هو الحال عند ألكييه في هذا القرن آخر العقلانيين الديكارتيين في فرنسا، أو عند اسبينوزا،
كما هو الحال عند سبير أحد المثاليين الروس، وبرنشفيج آخر ممثل للعقلانية الأوروبية في
فرنسا، والذي أثار حفيظة عديد من الوجوديين الفرنسيين مثل: سارتر وميرلوبونتي وجابريل
مارسيل، أو عند لَيبنتز، كما هو الحال عند فيكتور كوزان ممثل المذهب العقلاني الانتقائي
في
النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أو تيشمولر في ألمانيا في نفس الوقت، أو كوتورا في
فرنسا في أوائل هذا القرن. وقد تمتد جذور المثالية الحديثة إلى كانط، كما هو الحال عند
رائدها الاسكتلندي سير وليم هاملتون في القرن الماضي أو لاشيلييه في هذا القرن. وقد تمتد
جذورها إلى الكانطيين، خاصة شلنج، كما هو الحال أيضًا عند كوزان في القرن الماضي، وبرنشفيج
في هذا القرن. تطورت المثالية التقليدية عودًا إلى العقلانية القديمة في بدايتها الأولى
عند ديكارت والديكارتيين، أو بدايتها الثانية عند كانط والكانطيين، بعيدًا عن بدايتها
الثالثة المتشابهة عند هيجل والهيجليين اليساريين والهيجلية الجديدة.
ومن ثنايا المثالية التقليدية خرجت مثالية أخرى صورية رياضية منطقية تتجاوز المذاهب
الفلسفية وأمزجة الفلاسفة وأهواءهم إلى تأسيس العلوم الصورية الخالصة في الفلسفة، أعني
الرياضة والمنطق. أبقت العقلانية دون مذاهب فلسفية، واقتصرت على تحليل العقل الخالص مما
أوقعها في الصورية، وجعلها هدفًا للفكر المعاصر للنقد إيثارًا للحياة والمضمون. كما هو
الحال في الظاهريات عند هُوسِرل.
ويصعب تصنيف هؤلاء المثاليين التقليديين أو الصوريين طبقًا لمبدأ واحد، فالأرجح هو
الترتيب الزماني حتى يمكن الكشف عن تكوين الوعي الأوروبي، ولكن هذا الترتيب الزماني
أيضًا محكوم بتطور الوعي القومي الخاص بكل شعب داخل الوعي القومي الأوروبي العام. فهناك
وعي ألماني، وآخر إنجليزي، وثالث فرنسي، ورابع أمريكي، وخامس إيطالي … إلخ. وكما وضح
ذلك في الهيجلية الجديدة. وهناك أيضًا التصنيف المذهبي الخالص طبقًا للجذور، فمن
المثاليين التقليديين من ينتسب إلى ديكارت أو اسبينوزا أو لَيبنتز أو كانط أو شلنج أو
فشته أو مين دي بيران، ومع ذلك رأينا أن التصنيف طبقًا للمبدأين الأولين أفضل لبيان
التكوين، أي الترتيب الزماني لرؤية مسار الوعي الأوروبي العام في تياره الأول وبُعده
المثالي، ثم تخصيص ذلك بالوعي القومي الخاص في إطار الوعي العام. ويكفي الإشارة إلى
الجذور في كلتا الحالتين.
(١) المثالية التقليدية
ونعني بالمثالية التقليدية تطور المثالية الأوروبية في بدايتها الأولى عند ديكارت
والديكارتيين، خاصة اسبينوزا ولَيبنتز، والثانية عند كانط والكانطيين، خاصة فشته وشلنج،
واستمرارها بعد الهيجليين اليساريين والهيجلية الجديدة. وقد بدأت في اسكتلندا عند السير
وليم هاملتون. ويبدو أن اسكتلندا، آخر من دخل المسيحية من بلدان الشمال، أكثر المناطق
الأوروبية نشاطًا، سواء في العصر الوسيط أو في العصور الحديثة، ولكن تطورت المثالية
بصورة واضحة في فرنسا عند فيكتور كوزان، كوتورا، لاشيلييه، بوترو، برنشفيج، وفي ألمانيا
عند أوبرفيج، ترندلبرج، تيشمولر، مونستربرج، هوفدنج، وفي أمريكا عند براونسون، كريتون،
وفي روسيا عند سبير، بولجاكوف. وقد استمرت حوالَي قرن ونصف من الزمان، القرن التاسع
عشر والنصف الأول من القرن العشرين.
فالحس عند سير وليم هاملتون يعطينا معرفة مباشرة بالأشياء.
٦٤ ولكنها ليست معرفة مطلقة لثلاثة أسباب؛ الأول: أنها معرفة ظاهرية لموضوع
يوجد بالفعل. والثاني: أن الموضوع ينتج المعرفة ثم يتغير من خلال الحواس والوسائط التي
تدركه بها. والثالث: أن التفكير في شيء يتطلب أن يكون هذا الشيء خاضعًا لشروط معينة مثل
تلك التي حددها كانط. فالتصور هو شرط وجود الموضوع. لذلك أنكر هاملتون الحقيقة
الموضوعية، واتجه نحو الغنوصية. إذ لا يُدرَك الواقع المطلق إلا بمعرفة تأتي من وراء
الطبيعة، أي من الوحي وحده. ويقبل القبلي مثل كانط، ويثبت المسلَّمات الخلقية كأساس
للإيمان. وفي المنطق قدم منطقًا كميًّا للمجهول محاولًا رد الاستدلال المنطقي إلى
المعادلات الرياضية، أي رد المنطق إلى الحساب. ويُعتبر أحد مؤسسي المنطق الرياضي.
وقامت المثالية الفرنسية على الانتقائية عند فيكتور كوزان.
٦٥ وتعني الانتقائية أن أية مدرسة فلسفية يمكن أن تقوم على حقائق موجودة في
اعتقادات ومذاهب متعددة. وقد حاول كوزان تجميع هذه الحقائق مستمدة من المذاهب المثالية
لهيجل وشلنج وفلسفة الوحي والمونادولوجيا عند لَيبنتز وبعض المذاهب المثالية الأخرى.
كان
خصمًا لدودًا للمادية. فالله خالق العالم، وهناك حياة أخرى بعد الموت، ولا فرق بين
حقائق الفلسفة وعقائد الإيمان. ويبدو أن المزاج الفرنسي الحي كما ظهر عند ديكارت ومين
دي بيران ورافيسون وبرجسون وميرلوبونتي غير قادر على إيجاد أنساق فلسفية ميتافيزيقية
كما هو
الحال في المزاج الألماني عند هيجل خاصة. وكان له أثر كبير في تطوير المثالية في فرنسا.
وعرض كوتورا منطق رسِل وهوايتهد للجمهور العريض وطوَّر منطق رسِل.
٦٦ وحاول تأسيس العقلانية المنطقية للمبادئ الرياضية. أعاد اكتشاف لَيبنتز
فيلسوف اللامتناهي. وهاجم النظرة المتناهية للرياضيات، ودافع عن اللامتناهي الفعلي.
وكان أول من استعمل نتائج جبر المنطق في دراسته للمنطق الذي قام به العالم الروسي
بورتسكي. نقد نظرية كانط في الرياضيات ومبادئها المنطقية. كما تحدى بوانكاريه في نظريته
شبه الكانطية للرياضيات.
وانتسب لاشيلييه إلى المثالية الكانطية المطعمة بالرُّوحانية الفرنسية على طريق مين
دي
بيران ورافيسون.
٦٧ ويدل ذلك على قرب نقد الصورية والنزول من مثالية العقل إلى التجرِبة الحية
كطريق ثالث بين الخطين المتباعدين في الوعي الأوروبي: العقلانية والتجريبية. وقام بوترو
بنفس الشيء دفاعًا عن فلسفة الحياة، كنقطة متوسطة يقفل فيها الوعي الأوروبي فمه المفتوح
بفكيه: الأعلى وهو العقلانية، والأدنى وهو التجريبية.
٦٨ دافع عن الحدوث في الطبيعة واللاحتمية في الميتافيزيقا، وكان متأثرًا
بالمذهب الرُّوحي عند مين دي بيران.
وكان برنشفيج آخر ممثل للعقلانية التقليدية في فرنسا قبل تلاميذه مثل: ألكييه، جوييه،
شول، وغيرهم من أساتذة السربون حتى ثورة الشباب في ١٩٦٨م.
٦٩ ويمتد أثره إلى كل الفلاسفة الوجوديين وفلاسفة الحياة في فرنسا الذين ثاروا
على عقلانيته وتفاؤله ومثاليته. فلسفته تركيب مثالي من اسبينوزا وكانط وشلنج مع التأكيد
على دور الفكر الخلاق في الثقافة والعلوم. تسري الرُّوح في العقلانية، وتاريخ الرُّوح
هو
تاريخ الرياضة وتاريخ الفلسفة. ومصر هي علم المصريات. اهتم بإعادة كتابة تاريخ المذهب
العقلاني باعتباره أحد البعدين الرئيسيين في الوعي الأوروبي منذ ديكارت، واسبينوزا،
وبسكال، مع التركيز على بسكال نظرًا لما يمثله من فعل العقل في الإيمان. كما وصف تطور
المثالية الأوروبية باعتبارها التعبير الأول والأصيل عن الوعي الأوروبي، وبيَّن مسارها
وارتقاءها واكتمالها، كما فعل هُوسِرل في «أزمة العلوم الأوروبية» في نفس الفترة. كما
حاول
رفع العِلِّية الطبيعية إلى مستوى الأسس الرياضية من خلال وصف التجرِبة الإنسانية. ولما
كانت المثالية مرتبطة بمعرفة الذات وبالحياة الرُّوحية وبالدين فقد كشف وصفه لها عن
أساسها الديني الدفين.
ولم تخل أمريكا من المثاليين التقليديين وذلك مثل: براونسون وكريتون. كان براونسون
تلميذًا لفيكتور كوزان.
٧٠ كما تأثر بالمثالي الإيطالي جيوبرتي مما يدل على أن الفكر في العالم الجديد
إنما هو امتداد لروافد الفكر في العالم الأوروبي القديم. وبالرغم من أنه من أنصار مذهب
التأليه الطبيعي إلا أنه يصف فلسفته بأنها أقرب إلى العقلانية منها إلى الإيمانية.
وتابع كريتون خط الفلسفة التأملية والمنطق بداية من كانط.
٧١
وازدهرت ألمانيا مثل فرنسا بأنصار المثالية التقليدية، موطن لَيبنتز وكانط وشلنج
عند
أوبرفيج، ترندلبرج، تيشمولر، ومونستربرج. اهتم أوبرفيج بتاريخ الفلسفة، وتاريخ المنطق
متأثرًا بهيجل والنزعة التاريخية.
٧٢ وحاول ترندلبرج أن يضع مفهوم الحركة بدلًا من مفهوم الجدل عند هيجل، وجعل
الغائية محور فلسفته، الغائية الحية الأرسطية وليست الغائية الصورية المنطقية عند هيجل.
٧٣ عارض هيجل لأنه استعمل العالم الخارجي لاستنباط مقولاته الخاصة، ثم عزا لها
استقلالًا وهميًّا عن العالم الخارجي الذي نشأت منه. حاول قراءة هيجل من خلال أرسطو.
فهيجل هو أرسطو العصر الحديث لولا صوريته وآليته على عكس مادية أرسطو وغائيته. وانتقل
تيشمولر من المثالية إلى الشخصانية محاولًا إنزال التيار العقلاني المثالي من أعلى إلى
أسفل في نقطة متوسطة هي الأنا.
٧٤ فالأنا مباشر في التجرِبة الحية كوَحدة واحدة وجوهر فعلي. وعالم الأفكار مجرد
إسقاط منها لتحديداتها الخاصة. والطبيعة مجرد مظهر، تُدرَك قياسًا على الأنا. الوعي
والمعرفة متمايزان: الأول خاص ودال، والثاني عام وصوري. الواقع مونادولوجيا بطريقة
لَيبنتز. وهنا تبدو الشخصانية وهي تتولد من ثنايا المثالية التقليدية. وعلى نحو آخر
واعتمادًا على فشته اعتبر مونستربرج العقل الخالص به مبادئ قبلية تجعله قادرًا على
تحقيق مبادئ تفارق الفرد مفارقة لا يمكن نفيها وإثباتها بالتحليلات النفسية.
٧٥ وهنا تبدو المثالية التقليدية متجهة نحو علم النفس ومكتشفه فشته دون التخلي
عن كانط، مع التركيز على أولوية نظرية القيم على نظرية المعرفة، كما هو الحال عند
الكانطيين، وإعطاء الأولوية للعقل العملي على العقل النظري. وبالرغم من أن هوفدنج
دانماركي الأصل إلا أن الفلسفة في الدانمارك أحد روافد الفلسفة الألمانية.
٧٦ يصنفه الوضعيون مع المثالية الواحدية. ويصنف هو نفسه في الواحدية النقدية.
الواقع لديه غير معروف، ومع ذلك يستطيع الشعور واتحاده بالتجارِب الحية أن يحل معضلات
الميتافيزيقا. وتظهر المثالية التقليدية لديه في النزعة التاريخية المستمدة من هيجل
المتأخر الذي طبق مذهبه في «ظاهريات الرُّوح» و«علم المنطق» في فلسفة التاريخ، وتاريخ
الفلسفة، وفلسفة الدين، وعلم الجمال.
أما المثالية الروسية فتظهر عند سبير وبولجاكوف وآخرين تذكرهم كتب تاريخ الفلسفة
الروسية على مستوى الوعي القومي الخالص ولا تذكرهم كتب تاريخ الفلسفة الغربية على
المستوى القومي الأوروبي العام. تأثر سبير باسبينوزا وكانط.
٧٧ التجرِبة الحسية والاستدلال المنطقي لديه متناقضان؛ الأولى تعطينا المعرفة
بالمتغيرات، والثاني يعطينا المبادئ القبلية. الأولى تعرفنا بالوجود، والثاني بالماهية.
الأولى تكشف التغاير، والثاني يثبت الهُوية. وهي الثنائيات التقليدية في الفلسفة الحديثة
منذ ديكارت، والتي حاول كانط الجمع بينها بطريقة المضمون والصورة، البعدي والقبلي، والتي
حاول هيجل تصورهما في صيرورة واحدة في الرُّوح والطبيعة، في المنطق والوجود، في الذات
والموضوع. ثم نظر بولجاكوف للفيكية، الأيديولوجية الليبرالية الرُّوحية للبرجوازية الروسية.
٧٨ بدأ بتأييد الماركسية القانونية، ونقد النارودية، الأيديولوجية الديمقراطية
للفلاحين التي تقوم على بعض الأحلام الاشتراكية وتطبيق قانون الإصلاح الزراعي. ثم تحول
إلى الرأسمالية وأصبح من كبار المدافعين عنها. أراد اختبار ماركس بكانط فانتهى إلى
معاداة المادية التاريخية والنظرية الماركسية في التقدم. وأخيرًا استقر في التصوف
محاولًا الجمع بين العلم والفلسفة والدين في نطاق الإيمان دون الوقوع في خرافات الدين
وأساطيره الشائعة. اعتمدت فلسفته الدينية المتأخرة على مفاهيم المطلق (الله)، والكون،
والحكمة باعتبارها وجودًا ثالثًا يضم الله والكون. واتسمت فلسفته باللاعلمية سواء في
البداية أو في النهاية مما يكشف عن الباعث الديني الدفين في المثالية التقليدية.
(٢) الصورية المنطقية الرياضية
يمثل هذا التيار أحد روافد المثالية العقلية دون مذاهبها الفلسفية والاكتفاء بالجانب
المنطقي الرياضي فيها معطيًا الأولوية للعقل النظري على العقل العملي ومؤسسًا بذلك أحد
فروع علم المنطق وهو «المنطق الرياضي». وقد ساهم فيه العقلانيون الألمان والنمساويون
أكثر من غيرهم؛ الألمان مثل: زِرميلو، شرودر، ديدكيند، كانتور، هيلبرت، جنتسن. والنمساويون
مثل: بولزانو، فريجه. كما ساهم فيه المثاليون الإنجليز بدرجة أقل مثل: دي مورجان، بول،
رامزي. كما ساهم فيه الروس مثل لوباتشفسكي، والتشيكوسلوفاكيون مثل جودل. ويمكن وصف
تسلسلهم تاريخيًّا طبقًا للوعي الأوروبي العام وبصرف النظر عن الشعور القومي. ويمكن
أيضًا تصنيفهم طبقًا للوعي القومي الخاص نظرًا لأن معظمهم من الألمان والنمساويين،
الألمان لغة، ثم الإنجليز. ويمكن ثالثًا تصنيفهم طبقًا لموضوعاتهم في المنطق أو
الرياضة، حسابًا أم هندسة. وقد فضلنا الترتيب التاريخي الصِّرف نظرًا للطابع الصوري
الخالص للتيار الذي لا يتجلى فيه الوعي القومي الخاص كما يتجلى في المذاهب الفلسفية.
ومع ذلك يظل الغالب على الترتيب التاريخي الوعي القومي الألماني النظري الخالص.
وأول ممثل لهذا التيار الصوري المنطقي الرياضي هو بولزانو.
٧٩ حاول تأسيس نظرية في العلم أقرب إلى المنطق التقليدي المنقول على مستوى
المنطق الرمزي والرياضي منها إلى نظرية الحرية والذاتية والمقاومة كما هو الحال عند
فشته. كما تحتوي كتاباته على إرهاصات نظرية الأعداد اللامتناهية عند كانتور.
٨٠ كما أسس لوباتشفسكي الهندسة الجديدة على نحو صوري خالص بعد تأكيده على
ثنائية الصوري (الرياضي) والمادي في الفلسفة الحديثة.
٨١ وبنى جورج بول أول نسق منطقي رياضي عُرف بعد ذلك باسم «جبر المنطق»، قبل
كوتورا، يربط فيه بين المنطق والجبر.
٨٢ وقدم بحوثًا أخرى في نظرية الاحتمالات والتحليلات الرياضية. اهتم بفلسفة
أرسطو واسبينوزا مما يدل على صعوبة الفصل في المثالية التقليدية بين مثالية المذاهب
الفلسفية ومثالية المنطق والرياضة. وقد كان له أبلغ الأثر في تطور فكرة جبر المنطق عند
بيرس، وشرودر، وبورتسكي. ثم اتجه المنطق نحو مزيد من الصورية عند دي مورجان مؤسس منطق
العَلاقات.
٨٣ وعلى هذا النحو تكون الصورية المنطقية الرياضية قد ظهرت في الوعي القومي
الخالص النمساوي (بولزانو)، والروسي (لوباتشفسكي)، والإنجليزي (بول)، والألماني (دي
مورجان) قبل أن يطور الوعي القومي الألماني هذا الاتجاه نحو مزيد من الإحكام الصوري.
قدم شرودر تلخيصًا لأعمال السابقين في جبر الرياضة مع بعض الإضافات معطيًا صورة للموضوع
في القرن التاسع عشر.
٨٤ وساهم ديدكيند في تطوير علم الحساب.
٨٥ وقدم كانتور، أبو نظرية المجموعات، أول نظرية صورية للَّامتناهي تقوم على عدم
مساواة الأعداد الطبيعية مع الأعداد الفعلية.
٨٦ وبالتالي يوجد أكثر من عدد لا نهائي واحد ما دام العدد يتكاثر باستمرار.
وجمع فريجه بين المنطق والرياضة واللغة ممهدًا بذلك لفلسفة اللغة المعاصرة.
٨٧ فالبرهان في الرياضيات يتم التصديق عليه في كل خطوة دون ترك أي مجال للحدس
فيه. والمسلَّمات تكون صادقة أولية. والأفضل أن تكون حقائق المنطق. لذلك لا بد من ترجمة
البراهين إلى لغة صورية بمصطلحات متفق عليها وأبنية نموذجية حتى تتضح معانيها وترابطها.
وقد أبدع فريجه في اختراعه المحلل الكمي والبناء المتغير لتحويل التعبيرات العامة في
لغة. هذا النموذج في البرهان هو أساس الفلسفة اللُّغوية الحديثة. وساهم رامزي في حل
معضلات رد الرياضيات إلى المنطق في «مبادئ الرياضة» لرسِل وهوايتهد.
٨٨ وعلى ضوء تحليلات فتجنشتين اقترح عدة تعديلات على مبادئ الرياضة، خاصة في
رؤيتها للوظائف. حذف مسلَّمات الرد تبسيطًا لنظرية الأنماط.
٨٩ ولتحديد أفضل للهُوية رفض التمييز بين الجزئيات والكليات، ودافع عن تأويل
فتجنشتين للقضايا العامة. واقترح نظرية ذاتية للاحتمال ونظرية برجماتية للاستقراء. وقدم
نظرية للنظريات، ونظرية في طبيعة العَلاقات العِلِّية. وقدم هيلبرت عدة بحوث على نظرية
العوامل الجبرية والأعداد الجبرية.
٩٠ وساهم في تأسيس الرياضيات والمنطق الرياضي كنسق محكم من المصادرات، فأسس
بذلك عالم المصادرات. وقدم حساب القضايا والحساب الوظيفي. وقد أدى ذلك إلى ظهور الاتجاه
الشكلاني وتأسيس نوع جديد من الرياضيات. وقدم جنتسن نسقًا للاستنباط الطبيعي للمنطق الأولي.
٩١ وحوَّل المبادئ المنطقية إلى لغة صورية بإعطاء القواعد التي تتحكم في استعمال
الروابط المنطقية خلافًا للصياغات السابقة لحساب القضايا التي استعملت مناهج أولية
«أكسيومية». ثم برهن على اتساق نظرية العدد الخالص القديمة مستعملًا الاستقراء
اللانهائي. وقد أدت أعمال جودل إلى عديد من الاكتشافات الرياضية مثل إكمال البرهنة على
الحساب الوظيفي من الدرجة الأولى، ونظرية جودل.
٩٢ ودخل في حوار مع رسِل وهوايتهد حول «مبادئ الرياضيات». وأخيرًا ساهم زِرميلو
في تأسيس الرياضيات الحديثة بنظرية معروفة باسمه «نظرية زِرميلو الأولية للمجموعات»
٩٣، والإعلان الصريح عن أولية الاختيار، والبرهنة على مساواتها للقضية
القائلة بأن كل فئة يمكن تنظيمها تنظيمًا جديدًا.
من هذا العرض لأهم ممثلي الاتجاه الصوري الشكلاني في المنطق والرياضة كأحد روافد
المثالية التقليدية يتضح غياب المذاهب الفلسفية، حتى الرياضية منها مثل لَيبنتز، وتحويلها
إلى شكلانية خالصة، حتى أصبح المنطق الرياضي علمًا مستقلًّا منزوعًا من الوعي الأوروبي
كتجرِبة أوروبية حية. أصبح يعيش على ذاته، متقوقعًا على نفسه، الصورة فيه هي المضمون،
والمضمون هو الصورة، حتى أصبح غير مفهوم، وكأن العقل أنتج اللامعقول في صيغة المجرد.
أصبح
البرهان فارغًا من غير مضمون. وكان برهان الصدق الوحيد هو الاتساق، اتساق النتائج مع
المقدمات وليس التطابق، تطابق النتائج مع العالم الخارجي، وليس حدس الشعور الذاتي. وقد
انتهى ذلك كله في الفلسفات التحليلية واللُّغوية في القرن العشرين بمزيد من التفكيك حتى
تحولت الصورية إلى عدم مطلق وخواء شعوري أدى إلى ثورة «الفينومينولوجيا» على الصورية
من
أجل اكتشاف التجرِبة الحية في الشعور.
خامسًا: الوضعية
الوضعية في القرن التاسع عشر وتكوين الوعي الأوروبي في الذروة اسم عام يشمل عديدًا
من
التيارات المادية والتطورية والحسية والتجريبية والنفعية والوضعية. فهو تيار خاص أصبح
عنوانًا لتيار أعم وأشمل. يعبر عن هذا البعد الثاني في الوعي الأوروبي، وريث التجريبية
في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وكان يمكن أخذ اسم تيار خاص آخر كي يصبح اسمًا
للاتجاه الكلي مثل: المادية أو التطورية أو الحسية أو التجريبية أو النفعية. ولكن اسم
«الوضعية» كان أفضل التسميات نظرًا لأنها تضم باقي التيارات، وفي ونفس الوقت تطوير لها،
كما أنها آخرها، فقد امتدت طوال القرن التاسع عشر عند أوجست كومت وحتى النصف الأول من
القرن العشرين عند ليفي برِيل. وكل التيارات الأخرى إنما تقع في هذه الفترة.
ويمكن تصنيف التيارات الجزئية تحت هذه التسمية العامة وفي هذه الفترة إلى ستة تيارات
متمايزة بالرغم مما بينها من عناصر مشتركة واحدة تجمعها مثل المادية أو الطبيعية أو
الحسية التجريبية أو النفعية. الأول: هو المادية التقليدية وريثة المادية الفرنسية في
القرن الثامن عشر، وقد ظهرت عند: روبينيه، كوفييه، دالتون، فون هلمولتز، فون همبولت،
جوبينو في فرنسا وألمانيا وإنجلترا على حد سواء. والثاني: التطورية وهي خطوة أبعد من
المادية التقليدية بإدخال عنصر التطور فيها، وذلك عند: لامارك، سان هيلير، دارون، هكسلي،
سبنسر، هيكل. والثالث والرابع: الحسية والتجريبية اللذان سادا علم النفس في علم النفس
الفيزيولوجي. ولا يمكن التمييز بينهما. فالتجرِبة تراكم حسي، وذلك عند: بينيكه، فشنر،
تين،
شاركو، أفيناريوس، ماخ، فوند، بافلوف، تسهين، بيرسون، واطسون. والخامس: النفعية عند:
بِنتام، جيمس مِل، جون استيوارت مِل، بين، جيفونز، جون أوستن. والسادس: الوضعية بالمعنى
الخاص عند: أوجست كومت، بَكْلي، جونسون، لسفيتش، جودل، دوركايم، أرديجو، بيرسون، ليفي
بريل. ونظرًا لوجود سمات مشتركة بين التيارات الستة كلها يمكن أن يدخل الفيلسوف الواحد
في أكثر من تيار، وأن ينتقل من تيار إلى آخر مثل ماخ وأفيناريوس، فهما ماديان طبيعيان
يدخلان مع المادية، وفي نفس الوقت حسيان تجريبيان يدخلان في الحسية والتجريبية.
ولكن الصعوبة هي نفسها. هل يكون ترتيب الفلاسفة زمانيًّا تاريخيًّا داخل كل تيار بصرف
النظر عن الشعور القومي الخاص، الألماني أو الفرنسي أو الإنجليزي نظرًا لأنهم ينتسبون
جميعًا إلى شعور كلي عام هو الشعور الأوروبي، أم يُراعى في الترتيب الشعور القومي الخاص؟
والحقيقة أنه نظرًا لزيادة الترابط بين جوانب الوعي الأوروبي المختلفة وتحققاته في
مظاهر الوعي القومي الخاص آثرنا الحفاظ على وَحدة الوعي الأوروبي كمبدأ أولًا حرصًا على
تكوينه التاريخي، وفي نفس الوقت الإشارة إلى الوعي القومي الخاص الذي ينفرد كل منه
بمزاج فلسفي خاص: التجريد والميتافيزيقا في ألمانيا، الحس والتجرِبة في إنجلترا، التجرِبة
الحسية في فرنسا، العملية في أمريكا، الليبرالية في إيطاليا، الاجتماعية في روسيا. ومع
ذلك نجد الوعي القومي قد استطاع الجمع بين أكثر من مِزاج. ففي الوعي القومي الألماني
تجريد وحسية، صورية ومادية، ميتافيزيقا وعلم. ويحدث ذلك أيضًا في الوعي الفرنسي، والوعي
البريطاني، والوعي الأمريكي. فالتياران الرئيسيان في الوعي الأوروبي العام: العقلانية
والتجريبية ينعكسان أيضًا في الوعي القومي الخاص، لذلك حرصنا في عرض كل تيار على وحدة
الوعي الأوروبي كمبدأ أول ثم تخصيص الوعي القومي كمبدأ ثانٍ.
ولما كان من الصعب عرض ستة تيارات في أحد المذاهب في القرن التاسع عشر حتى لا نفقد
الرؤية الكلية، ضممنا كل تيارين في تيار واحد. فأصبح لدينا ثلاثة تيارات: المادية
والتطورية، الحسية والتجريبية، النفعية والوضعية. وكان يمكن إسقاط الواو كحرف عطف بين
التيارين فيصبح لدينا المادية التطورية، الحسية التجريبية، النفعية الوضعية، إلا أنه
إذا
جاز إسقاط الواو في الحالتين الأولى والثانية أعني المادية والتطورية، والحسية
والتجريبية نظرًا لارتباط التيارين الجزئيين دونما حاجة إلى واو العطف. فالتطورية حركة
المادة والتجريبية تراكم الحس إلا أنه لا يجوز إسقاطها في الحالة الثالثة ليقال:
النفعية الوضعية. فهما تياران متمايزان بالرغم مما بينهما من سمات عامة مشتركة. لذلك
آثرنا إبقاء واو العطف.
(١) المادية والتطورية
ويَجمع ممثلي هذا التيار نظريةُ التطور سواء قبل دارون أو نظرية دارون أو التطور بعد
دارون. وكلهم يمثلون التطور المادي سواء كان حيًّا أم آليًّا، منفصلًا أو متصلًا. وقد
ظهر ذلك في فرنسا عند روبينيه، لامارك، كوفييه، جوبينو، سان هيلير، أو في إنجلترا عند
دالتون، دارون، هكسلي، سبنسر، أو في ألمانيا عند فشنر، فون هلمولتز، ألكسندر فون همبولت،
ديتزجن، هيكل.
استلهم روبينيه، أول التطوريين في فرنسا، تعاليم لوك وكوندياك.
٩٤ وفي نفس الوقت تأثر بأفكار لَيبنتز. أثبت الجوهر المادي وهو الزمان والمكان
اللانهائي. يحكم تعدد المادة مبدأ الوحدة والانسجام داخل مبدأ العِلِّية طبقًا لتصور
هيوم.
ويتكون كل شيء في الكون من الخلايا الحية بعد أن خلق الله العالم من جوهر مادي. وفي
نظرية المعرفة، الحواس مصدر للمعرفة وللفكر النظري. وهناك ثلاثة أنواع من الإدراك:
الحسي، والاستدلالي، والحدسي. ولكن الأفكار نسخ من الأشياء وليست مفارقة لها أو مستقلة
عنها. لذلك نقد مثالية أفلاطون وواقعية الأفكار لديه. ومع ذلك لا يقتصر عمل الحس لديه
على العالم الخارجي وحده فالمعرفة لا حدود لها. ومع ذلك لم يقع في الغنوصية، والتزم
بالفكر المادي. وعند روبينيه تبدو المادية وحدها كوريث لمادية فلاسفة التنوير في القرن
الثامن عشر دون أن تؤثر فيها الحركة، كما سيحدث في مفهوم التطور بعد ذلك، وكأن الهيجلية
وتصورها للعالم كصيرورة لم تثمر بعد. ولم تنتقل المادية الخالصة إلى المادية التطورية
إلا على يد لامارك الذي قدم أول نظرية متكاملة لتطور العالم الحي تقوم على التفاعل بين
البيئة وبين الكائن الحي.
٩٥ فالبيئة تجعل العضو قادرًا على اكتساب صفات جديدة يمكن أن تنتقل بعد ذلك
بالوراثة، وهي الفكرة التي استمدها دارون وأثبتها فيما بعد. وهاجم النظرية
الميتافيزيقية القديمة عن البقاء الثابت للأنواع، كما هاجم نظرية الكوارث عند كوفييه.
بل قد يظهر الحي من اللاحي عن طريق بعض «السوائل المادية»، من البسيط إلى المركب. ومع
ذلك لا يسير التطور من تلقاء نفسه بل في حاجة إلى غائية حالة في الطبيعة، نوع من القصد
الإلهي، عودًا إلى تصور هردر في عصر التنوير في التوحيد بين غائية الطبيعة والعناية
الإلهية، أو حتى عند اسبينوزا في التوحيد بين صفات الله وقوانين الطبيعة. وإذا كان بعض
اللاماركيين الجدد قد أبرزوا دور العوامل اللامادية في دورة التطور (العقل، الرُّوح)
فإن
البعض الآخر جعلها فيزيولوجية خالصة، وأنكر الدور الإبداعي للانتخاب الطبيعي، وأنكر
الغائية في تكوين العضو الحي وفي مسار الطبيعة. وهذه هي اللاماركية الآلية كما ظهرت عند
سبنسر. يقف التطور ما دام يوجد توازن بين العضو والبيئة، وينشأ التطور إذا ما اضطرب هذا
التوازن، وقد سبب ذلك رد فعل مثالي عند اللاماركية النفسية التي جعلت مصدر التطور في
الصور الأولية للوعي والإرادة مركزًا على المبدأ الإبداعي في إطار النزعة الحيوية.
٩٦ وساهم كوفييه في تطوير النظرية المقارنة للتشريح ونشأة الكون،
٩٧ وصاغ مدخلًا ميتافيزيقيًّا لدراسة الظاهرة الطبيعية عرف باسم نظرية
الكوارث التي استبعدت تطور الحيوانات والنباتات كما هو الحال عند سان هيلير. فبدلًا من
خلق إلهي واحد هناك سلسلة من الأفعال المتكررة مثل المعجزات تكون أحد العوامل الطبيعية
في التطور. فهو تطور منفصل وليس متصلًا، بزوايا وليس خطًّا مستقيمًا كما هو الحال في
الطفرة عند برجسون أو الكمون عند النظَّام في تراثنا القديم. ويلاحظ أنه في العصر
الرومانسي نشأت نظرية التطور، ولكن بدلًا من أن تكون تقدمًا في الرُّوح أصبحت تطورًا
في
المادة. ولكن يرجع الفضل في كلتا الحالتين إلى مفهوم الصيرورة في الميتافيزيقا خاصة في
مذهب هيجل. في الرومانسية يكون التقدم انعراجًا إلى أعلى فتنتهي إلى التصوف. وفي التطور
يكون التقدم سقوطًا إلى أسفل فتكون المادية. وفي الفلسفة يكون التقدم إلى الأمام فتنشأ
فلسفة التاريخ. هذه الاتجاهات الثلاثة للوعي الأوروبي: الدين، والعلم، والفلسفة هي التي
ستحدد بنيته، ورؤيته للعالم، وطريقته في التعامل مع الظواهر. وقدم سان هيلير مفهوم
«الخطة الموحدة للبنية» لفهم العالم العضوي
٩٨ وقد انتهى أيضًا مثل لامارك ودارون إلى أثر البيئة في تطور العضو،
وإمكانية توريث الخصائص المكتسبة مما سيسمح بعد ذلك بصياغة أخيرة لنظرية التطور عند
دارون. وقد انتهت نظرية التطور العضوي إلى بعض النتائج في النظرة للإنسان والمجتمع كما
بدا ذلك في النظرية العضوية عند جوبينو التي تقوم على تفوق الجنس الشمالي على الأجناس
الجنوبية والشرقية.
٩٩ فالعنصر الأبيض هو الذي يحتكر الجمال والذكاء والقوة. وباتصاله بباقي
الشعوب انتقلت إليها صفة واحدة من الصفات الثلاثة. فهناك شعوب بها الجمال دون القوة
والذكاء، وشعوب أخرى بها القوة دون الجمال والذكاء، وشعوب ثالثة بها الذكاء دون الجمال
والقوة. وقد كانت هذه النظرية العنصرية أحد المكونات النظرية للاستعمار الأوروبي، سيطرة
الجنس الأبيض على الأجناس السوداء والصفراء والسمراء في أفريقيا وآسيا وأمريكا
اللاتينية.
وفي إنجلترا ظهرت المادية التطورية أولًا عند دالتون الذي ساهم في تحديد الصلة بين
التصور الفلسفي للذرة والعناصر الأولية وبين الوقائع التجريبية.
١٠٠ والعناصر الكيميائية أنواع من الذرات ذات مواصفات كَمية محددة مثل الوزن.
ولا يمكن قسمتها. إنما توجد معًا كوَحدة واحدة. اكتشف القانون البسيط للعَلاقات المتعددة،
وهو أحد قوانين الكيمياء. كما ساعد على نقل التصور الفلسفي للذرة إلى النظرية العلمية
في مقابل التصور المادي للعلوم الطبيعية. ولكن دارون هو الذي أعطى نظرية التطور صياغتها
النهائية والتي عُرفت بعد ذلك باسم «الداروينية».
١٠١ فكل أنواع الكائنات الحية قد تطورت من أشكال بسيطة أولية بالانتخاب
الطبيعي، ولا يختلف تطور الإنسان البيولوجي في طبيعته عن تطور الكائنات الحية. ولا يعني
ذلك بالضرورة أن يكون السلوك الإنساني سلوكًا طبيعيًّا وحشيًّا. ومع ذلك ظل هذا الاتهام
يلاحق نظرية التطور من خصومها الأخلاقيين والدينيين. وقد أخذت «الدارونية الجديدة»
تصورًا آليًّا للتطور على يد مؤسسها فايسمان، واستمرار نواة البلاسما كعنصر ثابت في التطور.
١٠٢ وتابعه في ذلك البيولوجي الهولندي دي فريز، والسويدي يوهانس، والبريطاني
هكسلي، والأمريكي سيمبسون. فالداروينية الجديدة مثل اللاماركية الجديدة كلاهما تصور آلي
مادي للتطور. وكان أبرزهم توماس هنري هكسلي.
١٠٣ ربط دارون بهيوم لتفسير نشأة الإحساسات في الإنسان تفسيرًا ماديًّا بالرغم
من غنوصيته لأنه لا يمكن معرفة أسباب الإحساسات معرفة علمية دقيقة. ولكن المهم في
المادية التطورية هي نتائجها في الحياة الأخلاقية والاجتماعية كما بدت في «الداروينية
الاجتماعية».
١٠٤ إذ يرى بعض ممثليها أن الانتخاب الطبيعي ما زال قائمًا حتى اليوم، بينما
يرى فريق آخر أن الانتخاب الطبيعي انتهى منذ مائة عام. ولكن يمكن للشعوب بعد ما تنتهي
أن تعود إلى الحياة من جديد بفضل العلم والتكنولوجيا. وسبب التأخر في العالم هو وجود
الشعوب الدنيا. والعمال مواطنون من الدرجة الثانية لأنهم يمثلون طبقة دنيا في المجتمع.
والرأسمالية تطور راقٍ للنظم السياسية والاقتصادية. وظيفة التطور خلق «سوبرمان» فردي
واجتماعي، ولا مكان لحقوق الضعفاء. لا فرق بين شرائع التطور الإنساني والحيواني، بين
القوانين الاجتماعية وشريعة الغاب. وكان نيتشه من أهم ممثلي الداروينية الاجتماعية مما
أثار حفيظة المثاليين والأخلاقيين ورجال الدين. وكان سبنسر هو آخر التطوريين الإنجليز.
١٠٥ سمى مشروعه «نسق الفلسفة التركيبية» كما سمى هيجل من قبل مشروعه «نسق
العلم». وأهمها على الإطلاق من ناحية النتائج المترتبة على نظرية التطور في العلوم
الإنسانية هو «المبادئ الأولى للأخلاق». وهي آخر محاولات التيار التجريبي من أجل إيجاد
نسق عام للعلوم الإنسانية التجريبية بعد تأسيسها منذ «إعادة البناء العظيم» عند فرنسيس
بيكون. وهو يعادل محاولة برنشفيج لإقامة أنساق في التيار العقلي منذ ديكارت وفولف وكانط
وبعد هيجل وكوزان. وواضح أن المحاولات النسقية في العقلانية أطول وأغزر منها في
التجريبية، فقد استمرت حتى النصف الأول من القرن العشرين بينما توقفت محاولات الأنساق
التجريبية في آخر القرن التاسع عشر. وتتميز الفلسفة عند سبنسر بعموميتها على خلاف باقي
العلوم. وتدعي صحة نظرياتها في كل الميادين. ولكن التطورية كنظرية فلسفية محكمة هي التي
يمكن الدفاع عنها على أساس تجريبي، ويثبت سبنسر صحتها مبينًا أن التطور أو التقدم صحيح،
ومساره في الطبيعة آلي، من التعدد اللامتجانس إلى الأحادية المتجانسة. ويتم ذلك في
الطبيعة العضوية أكثر مما يتم في الطبيعة اللاعضوية، كما يقع في الحياة الفردية
والجماعية، ويتحقق في الأخلاق الإنسانية. وبالرغم من أن العلم يقوم على التجرِبة إلا
أن
مفهوم اللامعروف ظل أساسيًّا في مذهبه، هذا اللامعروف هو ميدان الدين، فالعلم والدين
متآزران. لذلك جمع سبنسر في مذهبه بين المثالية الذاتية والتجريبية وبين الغنوصية، بين
المثالية والموضوعية على أساس أن الواقع المطلق هو مصدر المعرفة الغنوصية. ولكنه كان
معاديًا للاشتراكية الطوباوية والمادية بالرغم من مشاركته في الأساس المادي لها.
وفي ألمانيا كانت المادية هي الغالبة على التطورية كما هو الحال عند ألكسندر فون
همبولت الذي ارتبطت المادية لديه بعلم الجغرافيا، وفون هلمولتز الذي ارتبطت المادية
لديه بعلم الكيمياء. ولم ينتسب إلى التطور صراحة إلا هيكل. عارض فون همبولت الطبيعيات
المثالية عند هيجل وشلنج والطبيعيات المادية عند كومت.
١٠٦ وأراد أن يسلك طريقًا ثالثًا كإرهاص للفلسفة المعاصرة التي تميزت بهذا
الاتجاه، بين فلسفة المثاليين وعلم الوضعيين، فتصور المادة تحتوي على نشاط داخلي، فهي
مادة ورُوح، تدرك بالحس والعقل، وبالتالي يمكن نقد العلم التجريبي بالميتافيزيقا، كما
يمكن نقد الميتافيزيقا بالعلم من أجل تأسيس ميتافيزيقا تقوم على العلم، كما حاول برجسون
فيما بعد. ويمكن تصور الطبيعة على نحو شعري مما يسمح بإدراك لها عن طريق الاتحاد بها.
وفي السياسة تعاطف فون همبولت مع الثورة الفرنسية، واهتم بالجناح الجذري في البرجوازية
الألمانية. وربط فون هلمولتز بين علم النفس وعلم الكيمياء في منهج نفسي كيميائي لدراسة
الأجسام الحية.
١٠٧ فالنظرة الحيوية وحدها دون مادية صورة بلا مضمون، والنظرة المادية وحدها
دون تصور حيوي مادة بلا صورة. لذلك يمكن تطوير المادية في علوم الحياة. وكان من الطبيعي
أن ينجذب أحيانًا نحو كانط. وله اكتشافات في علم الأعصاب لأن الجهاز العصبي هو الذي
يظهر فيه هذا الجمع بين المادة والحياة. ولكن هيكل وحده من بين الماديين الألمان هو
الذي جمع بين المادية والتطور.
١٠٨ دافع عن دارون ونظريته في التطور والمادية التاريخية الطبيعية. وطور
الدارونية خطوة أبعد في عديد من القضايا النظرية مثل قانون الوراثة البيولوجية ونظرية
التكوين الوراثي المتعدد التي استطاعت الاستدلال على تكوين الطبيعة من المادة
اللاعضوية، كما ركز أكثر من دارون على أهمية التكيف مع البيئة. نقد التصور الديني
المثالي للعالم، ودافع عن التصور المادي في العلم الطبيعي، ثم تحول موقفه إلى مؤشر على
الصراع الطبقي. ولما عاداه المثاليون والكنيسة اضطر إلى بعض التراجع عن مواقفه الأولى
فاستبدل بالإيمان الكنسي الإيمان بقوى الطبيعة الإلهية على طريقة اسبينوزا في وحدة
الوجود، والتوحيد بين صفات الله وقوانين الطبيعة، وعلى طريقة هردر في التوحيد بين
العناية الإلهية ومسار التاريخ.
(٢) الحسية والتجريبية
تظهر الحسية والتجريبية امتدادًا للخط النازل الذي يبدأ من فرنسيس بيكون مارًّا بلوك
وهوبز في القرن السابع عشر وهيوم وكل الماديين الفرنسيين والحسيين الإنجليز في القرن
الثامن عشر. وتزدهر في ألمانيا عند بينيكه، فشنر، أفيناريوس، ماخ، فوند، تسيهن، وفي
فرنسا عند تين وشاركو، وفي روسيا عند بافلوف، وفي إنجلترا عند بيرسون، وفي أمريكا عند
واطسون. ويغلب عليهم جميعًا ميدان علم النفس السيكوفيزيقي الذي ثار عليه هُوسِرل وبرجسون
ورافيسون ووليم جيمس وكل أعمدة علم النفس الفلسفي المعاصر. ويغلب على الوعي القومي
الألماني أكثر من غلبته على الوعي القومي الفرنسي. ويقل في الوعي القومي الروسي
والأمريكي نظرًا لسيادة التيارات المثالية عليهما في القرن التاسع عشر. ويبدو أن الحسية
التجريبية في الوعي القومي الإنجليزي قد أعطت ما عندها في القرنين السابع عشر والثامن
عشر، وتحولت إلى نفعية في القرن التاسع عشر ووضعية في القرن العشرين.
وقد بدأ التيار الحسي التجريبي في ألمانيا على يد بينيكه بعد أن قسم كانط إلى قسمين:
أعلى وأدنى، مقولة وحدس، صورة ومادة، تركهما كانط مفككَين، وربطهما هيجل على نحو شاعري
أسطوري رومانسي.
١٠٩ أخذ الأدنى وترك الأعلى فأصبح حسيًّا تجريبيًّا. وكان له أبلغ الأثر في علم
النفس وفي التربية في القرن التاسع عشر. ونشأ فشنر إبان نهضة العلم الحديث، بعيدًا عن
التأملات الميتافيزيقية.
١١٠ بدأ عالِمَ طبيعةٍ يؤمن بالاستقراء والتمثيل، ويطبق المنهج العلمي الطبيعي في
دراسة التاريخ من أجل الوصول إلى قوانين أقرب إلى الإجراءات العلمية. طور نوعًا من
المثالية الموضوعية من نوع بركلي أو أوكن أو شلنج.
١١١ كل شيء في الشعور، ولا توجد جواهر أو أشياء في ذاتها. كل شيء، نباتًا أو
حيوانًا أو إنسانًا، يشارك في الرُّوح. والرُّوح متطورة على نحو منفصل أو متقطع وليس
على
نحو متصل ومطرد كما هو الحال عند الماديين التطوريين. الله هو الشعور اللانهائي، الشعور
المطلق، دون عالم موضوعي. والشر يتعلق بمستويات الشعور الدنيا وليس له وجود موضوعي لأن
العالم نفسه انبثاق من الشعور. وهو شاعر ذو خيال يصف الحقيقة على أنها رؤية النهار،
والجهل على أنه رؤية الليل.
١١٢ وربما يكون برجسون قد ظلمه في رسم صورة مادية له، خالطًا بين المادة
والرُّوح، الكم والكيف، المكان والزمان كما فعل في «رسالة في المعطيات البديهية للوجدان».
وقد تكون البرجسونية محاولة لجعل فشنر أكثر أحكامًا في عالم الشعور بعيدًا عن حسية
القرن التاسع عشر وتجريبيته. وصاغ أفيناريوس «النقدية التجريبية» التي هاجمها لينين
في
كتابه الشهير «المادية والنقدية التجريبية»، وهي إحدى الصور المغالية للوضعية مع
التأكيد على استبعاد الميتافيزيقا واستبقاء المعرفة التجريبية وحدها.
١١٣ وتشبه نظرية ماخ، ونظرية الواحدية المحايدة. كما يرفض التمييز بين النفسي
والفيزيقي أو بين الحساسية الذاتية والعالم الخارجي، ويؤثر التفاعل المتبادل بين الأنا
والبيئة، وواضح من المذهب كله أنه رد فعل على مثالية القرن التاسع عشر سواء التقليدية
منها أو الهيجلية الجديدة أو الصورية المنطقية الرياضية. ثم أسس ماخ فلسفة تجريبية جذرية.
١١٤ فالعقل لا يستطيع أن يدرك أي شيء يتجاوز الحس. والنظرية العلمية نظرية حسية
تقوم على تحليل المدركات الحسية. موضوع العلوم كلها موضوع واحد هو تحليل الإحساسات في
كل علم. ويُعتبر أب الوضعية المنطقية. كان له أكبر الأثر على أينشتين. نقده لينين على
أنه مثالي أنا وحدي. ونقده هُوسِرل على أنه تصور الشيء مجموعة من الإدراكات الحسية. وحاول
فوند التوفيق بين اسبينوزا ولَيبنتز وكانط وهيجل.
١١٥ وجعل المعرفة على مراحل؛ أولًا: الحس المباشر وهو المعرفة التجريبية، ثانيًا:
الإدراك العقلي للعلوم المحددة من أجل الحصول على وجهات نظر متعددة حول نفس الموضوع،
ثالثًا: التركيب الفلسفي للمعرفة وهو موضوع الميتافيزيقا التي تضم العلوم الطبيعية وعلم
النفس، وتجمع بين المادة والمثالية. موضوعها الوجود الكلي، ونظامها إرادي لتحقيق نسق
مثالي للقيم الرُّوحية. ويُعتبر فوند مؤسس علم النفس التجريبي الذي يقوم على التوازي
بين
الظاهرة النفسية والظاهرة التجريبية الذي كان أحد العوامل المنبهة والمثيرة للفكر
الأوروبي المعاصر، خاصة عند هُوسِرل وبرجسون. حاول الجمع بين القياس الفيزيولوجي المضبوط
والقياس الفيزيولوجي المنطقي للمنبهات والاستجابات مع التحليل الاستنباطي للتجرِبة
الباطنية التي تتداخل بين المنبه والاستجابة. ولكنه وقع في التوازي بين النفسي
والفيزيولوجي ورد الأول إلى الثاني. مهمة علم النفسي الباطني تصنيف الحواس طبقًا للحاجة
والشدة والديمومة والامتداد والعواطف المصاحبة من لذة وألم، توتر وتراخٍ، إثارة وإحباط
… إلخ.
وقد أحدث ذلك رد فعل عند تسيهن الذي حاول تجاوز علم النفس التجريبي إلى علم
النفس الوصفي كما هو الحال في الظاهريات.
١١٦
وفي روسيا أسس بافلوف الدراسات التجريبية في موضوع النشاط العصبي الراقي في الحيوان
والإنسان عن طريق منهج الانعكاسات الشرطية، مما ساعد على اكتشاف القوانين الرئيسية لنشاط
المخ.
١١٧ كما أدت دراسته لفيزيولوجيا الهضم إلى التعرف على سلوك الحيوانات. كما
استطاع التعرف على ظواهر اللعاب النفسي مع غياب المنبع الخارجي، ومنها وضع نسقًا
للعلامات على النشاط النفسي. وقد أدى ذلك ومن خلال المادية التاريخية إلى الربط بين
اللغة والفكر، بين الفكر والمنطق. وتعتبر اكتشافاته أساس السيبرنيطيقا المعاصرة التي
تقوم على تقليد نشاط المخ ونقله إلى الحاسب الآلي. وفي إنجلترا حاول كارل بيرسون التعرف
على القوانين الطبيعية للمدركات الحسية، واعتبر الزمان والمكان من فعل الذهن.
١١٨ انتهى إلى المثالية الذاتية. نقده لينين كما نقد ماخ في «المادية
والتجريبية النقدية». وفي أمريكا طبق واطسون المناهج الموضوعية للعلوم البيولوجية
واستبعد منهج الاستبطان وأسس المدرسة السلوكية.
١١٩
(٣) النفعية والوضعية
بالرغم من اشتراك النفعية والوضعية في تيارٍ عامٍّ واحد وهو التيار التجريبي، الخط
النازل من فرنسيس بيكون حتى الوضعية المنطقية في القرن العشرين، إلا أنه يمكن التمييز
بينهما، فالنفعية مذهب في اللذة الفردية والمنفعة العامة، والوضعية نزعة تجريبية في
العلوم الاجتماعية كما هو واضح من تسميتها «الوضعية الاجتماعية» قبل أن تتحول إلى
المنطق وتصبح «الوضعية المنطقية» في القرن العشرين.
وقد أفرز الوعي القومي البريطاني، وربما وحده دون غيره، المذهب النفعي. أسسه بِنتام
الذي تُوفي بعد هيجل بعام واحد، وفي نفس العام الذي تُوفي فيه جوته، في ذروة المثالية
والرومانسية في الوعي الألماني، وكأن الوعي الأوروبي قد انقسم على نفسه إلى قسمين: ذروة
الرومانسية إلى أعلى، وذروة النفعية إلى أسفل.
١٢٠ لقد وُضعت الطبيعة البشرية تحت إمرة سيدين مطلقين: الألم واللذة. ويصدر
الحكم الخلقي على الأفعال بناء على الإقلال من الألم والزيادة في اللذة. وأقام لذلك
حساب اللذات طبقًا لشدتها ودوامها ونطاقها. ووضع لذلك قواعد تشبه القواعد الفقهية في
تراثنا القديم مثل «درْء المَضارِّ مقدَّم على جلب المصالح»، «لا ضرر ولا ضرار»، «المصلحة
أساس الشرع» بعد توسيع مفهومَي اللذة والألم إلى مفهومَي النفع والضرر، على ما هو الحال
في
مذهبه المنفعة العامة. وبالرغم من صعوبة تحويل حساب اللذة والألم إلى حساب كمي دقيق
سواء في الأفعال أم في آثار الأفعال إلا أن ذلك يدل على التيار العام للمذهب الحسي
التجريبي كما بدا في علم النفس الفيزيولوجي الذي يقيس الظواهر النفسية ابتداءً من أعراضها
الفيزيقية. كما حاول بِنتام بيان آثار المذهب على المؤسسات القانونية والاجتماعية. وطور
جيمس مِل المذهب النفعي إلى التربية والسياسة والاقتصاد.
١٢١ فبين أثر التربية على حياة الناس ونظمهم. وفي السياسة يمكن إقناع الناس
بالعقل حتى تتأسس ممارساتهم السياسية عقليًّا. وفي الاقتصاد اعتمد على ريكاردو. وكان
له
أثره الكبير على التفكير الاقتصادي عند كارل ماركس. النفعية أولًا نظرية تجريبية في
المعرفة ثم تتحول إلى مذهب في الأخلاق وعلم النفس والاجتماع والسياسة والاقتصاد
والقانون والجمال. وعند أصحابها المذهب التجريبي وحده هو الاتجاه الجذري في الفلسفة دون
المثالية أو الليبرالية أو الاشتراكية وقد تطورت فلسفته على يد ابنه وتلميذه جون
استيوارت مِل الذي أصبح مشهورًا بالمذهب النفعي.
١٢٢ بدأ أولًا بوضع قواعد منطق الاستقراء. وشرح معنى الخطاب الدال، وقدم ثلاثة
تمييزات رئيسية؛ الأول: التمييز بين الألفاظ العامة والألفاظ الفردية، والثاني: التمييز
بين الألفاظ المجردة والألفاظ العِيانية، والثالث: التمييز بين المفهوم والماصدق. كما
وحد
من ناحية أخرى بين المدركات الحسية وصفات الأشياء، وأثبت مبدأ اطراد قوانين الطبيعة.
وفي الأخلاق والسياسة يُعتبر مِل استمرارًا لبِنتام مع تطوير مذهب اللذة الخاصة إلى مذهب
المنفعة العامة، فالمصلحة أساس الخير، والواجب تحقيق أكبر قدر ممكن من السعادة إلى أكبر
عدد ممكن من الناس. الحرية حق طبيعي للفرد. وتشمل حرية الاعتقاد والذوق والعمل
والاجتماع. وظيفة الأوامر الاجتماعية أو السلطة السياسية المصالحة بين حرية الفرد
ومصلحة الجماعة، كذلك أيَّد كومت واختلف معه في مفهوم التخطيط الاجتماعي لخطورته على
الحرية الفردية. كما تأثر جون أوستين ببِنتام، خاصة في تصوره للطبيعة بالرغم من تمييزه
بين
ما هو كائن وما ينبغي أن يكون.
١٢٣ وما ينبغي أن يكون هو المفيد النافع. والقانون أمر الحاكم، يعبر عن رغبته،
وتؤيده العقوبات في حالة العصيان. الحاكم هو الفرد أو الجماعة التي تعوَّد الشعب على
طاعته وطاعتها. ترجع أهمية القانون إلى أنه يوضح كثيرًا من المسائل التي تقع فيها
المنازعات. وهناك أنواع عديدة من القانون مثل قانون العقود، والقوانين الأخرى التي
تجعل الناس قادرين على التزامات تتجاوز مفهوم القانون بالمعنى الحرفي. وتكون أقرب إلى
تحقيق المنافع والمصالح منها إلى الإلزام الخلقي أو الطاعة السياسية. وحاول ألكسندر بين
تأسيس مذهب المنفعة على تحليل «الذهن» من أجل البحث عن الشروط الفيزيقية للحالات
الذهنية في إطار المدرسة الحسية التجريبية البريطانية.
١٢٤
وقد استطاع الوعي القومي الفرنسي تحويل النفعية الإنجليزية، سواء مذهب اللذة الفردية
عند بِنتام أو مذهب المنفعة العامة عند مِل إلى وضعية اجتماعية على يد أوجست كومت
ودوركايم وليفي برِيل وما يسمى بالمدرسة الاجتماعية الفرنسية التي هي تطوير لكل التيار
التجريبي منذ فرنسيس بيكون والتجريبية الإنجليزية في القرنين السابع عشر والثامن عشر،
وبلوغه الذروة في العلوم الاجتماعية كما بلغت المثالية الذروة عند شلنج. وقد تُوفي قبل
كومت بثلاث سنوات، شلنج في ١٨٥٤م وكومت في ١٨٥٧م، القمة والقاعدة في الوعي الأوروبي.
لقد
تتبع كومت تطور الفكر البشري والمجتمع البشري من مراحلهما اللاهوتية والميتافيزيقية إلى
المرحلة الوضعية على ما عُرف بقانون الحالات الثلاث.
١٢٥ وتتميز المرحلة الأخيرة بالعلوم الوضعية التي تدرس وقائع موضوعية وتربط
بينها، وتستبعد التأملات اللاهوتية والميتافيزيقية التي لا يمكن التحقق من صدقها عن
العلل الأولى والغايات القصوى. وبالتالي أصبح كومت أحد رواد علم الاجتماع الحديث
باعتباره دراسة وضعية للأبنية الاجتماعية، الثبات الاجتماعي، وتطورها، الحَراك
الاجتماعي. الدراسة الوضعية هي دراسة الوقائع المباشرة دونما حاجة إلى توسط مقولة أو
تصور أو برهان، وهي نفس ما يقوله هُوسِرل وبرجسون في الفلسفة المعاصرة إلا أن المعطى
المباشر هو معطى الشعور أو الوجدان، فالمعرفة تتم في حدود العلم. ووظيفة العالِم التعرف
على القوانين العلمية والتنبؤ بمسارها من أجل السيطرة عليها بغية تحقيق المنفعة
العملية. مهمة الفلسفة توضيح العلم، موضوعاته ومناهجه. الفلسفة هي فلسفة العلم. وتكشف
الوضعية الاجتماعية عند كومت عن تفاؤل شديد بالنسبة لمستقبل البشرية وإمكانية تنظيم
المجتمع على أسس علمية تلبية لحاجاته، وقضاءً لمصالحه، طبقًا لقدرة العلم على التنبؤ
ثم
التطبيق. أصبحت الوضعية دينًا جديدًا، دين العلم أو دين الإنسانية وبديلًا عن الدين
القديم. والسؤال: هل استطاعت الوضعية الاجتماعية التخلي عن الفكر الاجتماعي الطوباوي
الذي نشأت منه عند سان سيمون؟ وهل تمثل تقدمًا بالنسبة إلى البشرية أم أنها تمثل جناحًا
محافظًا رجعيًّا في الفكر الاجتماعي على ما بيَّن ماركوز في «العقل والثورة»؟
١٢٦ ثم درس تلميذه دوركايم المجتمع باعتباره واقعًا رُوحيًّا خاصًّا تختلف
قوانينه عن قوانين علم النفس الفردي.
١٢٧ يقوم كل مجتمع على أفكار جمعية يدرسها علم الاجتماع كما يدرس الوقائع
الاجتماعية مثل القانون، والأخلاق، والدين والعواطف، والعادات … إلخ. وهي أفكار أو نظم
أو وقائع تفرض نفسها على الوعي الإنساني من البيئة الاجتماعية. ويخضع تطور كل مجتمع إلى
عوامل ثلاثة: كثافة السكان، تطور وسائل الاتصال، الوعي الجمعي. والترابط الاجتماعي
التقليدي آلي لأنه يقوم على روابط الدم، وفي العالم الحديث أصبح عضويًّا يقوم على تقسيم
العمل. والتعاون بين الطبقات الاجتماعية تلبية لضرورات الحياة. والدين عامل رئيسي في
حياة المجتمع، تتغير أشكاله طبقًا لتطور المجتمع لأن المجتمع يحدد نفسه من خلال الدين.
يوجد الدين ما دام يوجد الإنسان. وتأثر ليفي برِيل بدوركايم أثناء دراسته للشعوب
«البُدائية» حيث انتهى إلى تقسيم المجتمعات طبقًا لطرق تفكيرها إلى مجتمعات بدائية طبقًا
لمظاهر التفكير البدائي من سحر وخرافة، ومجتمعات متطورة طبقًا لطرق التفكير المنطقي من
استدلال وبرهان.
١٢٨ الأولى: تفكير عن طريق عوامل تفوق الطبيعة ولا عِلية، والثانية: تفكير طبيعي
عِليٌّ. لا تعرف المجتمعات البُدائية قوانين الفكر الرئيسية: الهُوية، وعدم التناقض،
والثالث المرفوع. ولا تدرك العَلاقة بين العلة والمعلول بل تشارك مشاركة مباشرة في مجرى
الحوادث.
ثم انتقلت الوضعية الاجتماعية الفرنسية إلى إنجلترا وأمريكا وروسيا وألمانيا
وإيطاليا. ففي إنجلترا نقد بَكْلي التفسير اللاهوتي للتاريخ من أجل اكتشاف قوانين تطور
التاريخ في عدة بلدان.
١٢٩ وقد اعتبر، مثل كومت، العامل الثقافي هو العامل الرئيسي في تطور المجتمعات،
ولكنه أنكر التطور الأخلاقي، وركز على أهمية العوامل الطبيعية لدرجة أنه أصبح ممثل
الحتمية الجغرافية. وبالتالي نقل بَكْلي في إنجلترا الوضعية الاجتماعية الفرنسية من مستوى
علم الاجتماع إلى مستوى التاريخ والجغرافيا، وكما فعل ابن خلدون في النظرية الجغرافية.
وفي أمريكا استطاع جونسون أن ينقل الوضعية الاجتماعية الفرنسية من مستوى علم الاجتماع
إلى مستوى المنطق واللغة، وبالتالي يُعتبر أحد رواد الوضعية المنطقية.
١٣٠ ويضرب على ذلك مثلًا بأننا إذا أردنا أن نعرف كلمة «جاذبية» فإنها تدل على
ظواهر كثيرة. ولكن إذا أردنا أن نعرف ما هي الجاذبية نكون أشبه بالطفل الذي يذهب إلى
الأوبرا وبعد أن يستمع إلى الغناء ويشاهد الرقص وينفد صبره فيقول لقد ملِلت هذا كله أريد
أن أرى الأوبرا. فنحن مع الجاذبية، نعايشها، ولكننا لا نستطيع أن نحددها في كلمات. وقد
استمر هذا التيار في الوضعية المنطقية، خاصة عند جون أوستن في كتابه الشهير «كيف نصنع
الأشياء بالكلمات». وفي روسيا كان لسفتش وضعيًّا أولًا ثم تحول إلى الفلسفة التجريبية
النقدية الجديدة في ألمانيا: جورينج، ريش، بتسهولد، من أجل تطوير كومت بناء على تجارِب
جديدة خالصة.
١٣١ وكان مثل باقي الوضعيين ضد الفلسفات النظرية ويحاول توحيد العلوم
الاجتماعية من أجل تصور شامل للحياة الاجتماعية. وفي ألمانيا نقل فريدريش جُودَل الوضعية
الاجتماعية إلى ميدان الأخلاق من أجل تأسيس أخلاق إنسانية طبيعية.
١٣٢ وكتب تاريخ النظريات الأخلاقية من وجهة النظر الوضعية عارضًا الأخلاق عند
فيورباخ وكومت ومِل. وإذا كانت الإنسانية عند كومت دينًا جديدًا فإن الثقافة الوطنية
دين
جديد عند جُودَل، وكلاهما بديلان عن الدين القديم. وفي إيطاليا نقل أرديجو الوضعية إلى
ميدان علم النفس.
١٣٣ ويكون السؤال: هل انتشار الوضعية في جنوب إيطاليا أحد آثار السيكوفيزيقا في
التراث الإسلامي القديم وترجمته إلى اللاتينية في العصر الوسيط؟
سادسًا: الليبرالية والاشتراكية
وآخر تيار ظهر في القرن التاسع عشر هو الفكر السياسي بروافده العديدة الليبرالية
وتفريعاتها مثل الفوضوية والبرجوازية الوطنية، والاشتراكية سواء كانت مثالية طوباوية
أخلاقية دينية أم مادية كما مثلتها الماركسية. وقد تنازعت الفكر السياسي المذاهب
الفلسفية التي سادت القرن التاسع عشر، فردية أم اجتماعية؛ فالفردية ظهرت في الليبرالية
والفوضوية والبرجوازية الوطنية، والاجتماعية ظهرت في الاشتراكية. كما تنازعت الاشتراكية
المذاهب الفلسفية، مثالية أو مادية؛ فظهرت المثالية في الاشتراكية الطوباوية كما ظهرت
المادية في الاشتراكية المادية كالماركسية. ويمتد الفكر السياسي الليبرالي والاشتراكي
حتى القرن العشرين حتى رايِت مِيلز من أواخر الليبراليين الأمريكيين وماركسيِّي القرن
العشرين.
وكالعادة يتم تصنيف الفلاسفة طبقًا للترتيب التاريخي من أجل وصف تكوين الوعي الأوروبي
وبيان تاريخيته. وفي نفس الوقت وفي إطار تاريخ الوعي الأوروبي العام هناك أيضًا الوعي
القومي الخاص في إطار تاريخ الوعي الأوروبي العام حتى ولو أدى ذلك إلى بعض التفاوت في
الترتيب الزماني والذي لا يتعدى سنوات معدودة.
(١) الليبرالية والفوضوية والبرجوازية الوطنية
قد يبدو من الغريب الجمع بين هذه الضروب المختلفة من الفكر السياسي في تيار واحد.
ولكن الحقيقة أن الخلاف بين هذه المذاهب الثلاثة خلاف في الدرجة وليس خلافًا في النوع
في حين أن الفرق بين الليبرالية والاشتراكية خلاف في النوع وليس خلافًا في الدرجة.
فالليبرالية تأكيد على حرية الإنسان وديمقراطية الحكم وما ينتج عن ذلك من نظام اقتصاد
حر. والفوضوية هي أيضًا ليبرالية ولكن ترفض أن يكون للمجتمع أي وجود مستقل عن الفرد أو
أن يكون هناك أي قيد على الحرية حتى ولو كان باسم العَقد الاجتماعي وديمقراطية الحكم
وتمثيل الشعب، وكما وضح عند شترنر الهيجلي الشاب في «الفرد وصفاته». أما البرجوازية
الوطنية فهي ليبرالية فردية واجتماعية ترتبط بالطبقة المتوسطة التي تريد التمسك بالحرية
الفردية وبديمقراطية الحكم، ولكن تظل مثالية النظر تدافع عن مصالح الطبقة المتوسطة، والتي
قد تتفق أحيانًا مع الطبقة العاملة أو مع الطبقة العليا. وكل مذهب يتولد من السابق
ضرورة. فالفوضوية تتولد من الليبرالية، والبرجوازية الوطنية تتولد من الاثنين معًا. وقد
جاء الفكر الاشتراكي ردًّا على هذا كله من أجل إعطاء الأولوية للمجتمع على الفرد
ولسيطرة الدولة على وسائل الإنتاج في مقابل الاقتصاد الحر.
ازدهرت الليبرالية في أمريكا وإيطاليا. وكان رائد الليبراليين في أمريكا هو توماس
جيفرسون مؤلف إعلان الاستقلال الذي يكشف عن إيمان عميق بمبادئ الديمقراطية.
١٣٤ عارض مركزية هاملتون، وأصر على حرية الكلمة والتعليم والحرية الدينية
والتسامح. ومع ذلك اهتم بالعلوم والرياضيات من أجل تأسيس المجتمع الليبرالي على أسس علمية
رصينة دون الاكتفاء بشعارات فلسفة التنوير. وكان جيوبرتي أول الليبراليين في إيطاليا.
١٣٥ درس الصلة بين الحس والعقل وهي المشكلة الكانطية الهيجلية في عصره. جعل
الوجود الإنساني أحد مظاهر الوجود العام
١٣٦ كما هو الحال عند شلنج وهَيدجر من الوجوديين
المعاصرين. وتتفرد الرُّوح بخلقها الخاص أسوة بفشته. أساس الفردية إذن ليس ذاتيًّا بل
إلهي. وتستطيع الذاتية أن تصل إلى الشمول إذا أصبحت عاقلة. وواضح من الليبرالية في هذه
الفترة مدى تأثرها بالمثالية الألمانية. أما روزميني فقد جمع بين المثالية والمدرسية
من
خلال التجرِبة الإنسانية.
١٣٧ وبالرغم من تمييزه بين النظام الطبيعي والنظام فوق الطبيعي إلا أن كليهما
مظهران لوجود شامل تتوحد فيه كل الموجودات. ومن الواضح صبغة الليبرالية الإيطالية
بالدين وبالتصوف وانتهاء ممثلي الليبرالية فيها إلى سلك الرهبنة.
أما الفوضوية فهي ليبرالية ممتدة إلى المجتمع كي تجعله أحد أبعاد الفرد، فتطوى الحرية
الفردية الاجتماعي داخلها بدلًا من أن يحد المجتمع من الحرية الفردية. وبعد أن أعطى
ماكس شترنر الهيجلي الشاب الفوضوية أساسها الميتافيزيقي ظهرت في الوعي القومي الفرنسي
والروسي في أسسها الاجتماعية، وكرد فعل على سطوة المجتمع عند الاشتراكيين الطوباويين
أو
سطوة الطبقة عند الماركسيين الماديين. فظهرت الفوضوية في الوعي القومي الفرنسي عند
برودون، وفي الوعي القومي الروسي عند باكونين، وكروبتكين، وإيما جولدمان.
كان برودون في فرنسا أول من نادى بإلغاء المِلكية الخاصة لأن فيها قيدًا على حرية
الفرد.
١٣٨ وهي الفكرة التي بدأت عند جان جاك روسو ثم استقرت عند ماركس فيما بعد. درس
موضوع الفقر وبحث عن أسبابه وعدالة توزيع الدخول القومية بين الناس في «فلسفة البؤس»
والذي رد عليه ماركس في كتابه «بؤس الفلسفة». تغلب عليه المثالية الانتقائية. أنزل الجدل
الهيجلي من مستوى المنطق إلى مستوى المجتمع، ومن جدل الخاصة إلى جدل العامة. كما أكد
على أهمية الصراع ولكنه صراع الأفكار وليس صراع الطبقات. تصور الخير والشر ظاهرتين
اجتماعيتين ولكنه تصور العَلاقة بينهما على نحو آلي، إذا زاد واحد نقص الآخر. وتبلورت
الفوضوية في الوعي القومي الروسي عند باكونين، وكروبتكين، وإيما جولدمان. كان باكونين
انتقائيًّا في الفلسفة.
١٣٩ جمع في مذهبه روافد عديدة من الفلسفة الغربية مثالية وليبرالية. درس فشته
وهيجل، وفسر هيجل على نحو محافظ. ومع ذلك لحق بالهيجليين الشباب، ونظم الفوضويين،
وعارض ماركس في الدولية الأولى. اعتبر الدولة القائمة على أسطورة الله هو القاهر الوحيد
للإنسان، وأن الدين جنون جماعي، وأن الوعي القبيح للمضطهدين وللكنيسة حانة سماوية ينسى
المضطهدون فيها آلامهم، ولكي يعيش الإنسان حرًّا عليه القضاء على الدولة وإبعاد مبدأ
السلطة من حياة الناس. الاشتراكية غريزة بشرية تلقائية، خاصة عند الفلاحين، دونما حاجة
إلى تنظير ثوري. ولذلك يرفض مناهج التغيير العلمي للمجتمع التي تتبناها الماركسية. كما
يرفض مفاهيم ماركس للطبقة والصراع الطبقي ودكتاتورية البروليتاريا. وقد ذاعت آراؤه عند
الفقراء في إيطاليا وإسبانيا بالرغم من نقد ماركس وإنجلز ولينين لها. أما كروبتكين فقد
تحول من الجغرافيا الطبيعية كما كان يفعل الأمراء في عصره إلى جماعة «النارودنيك» وهي
أيديولوجية ثورية فلاحية تقوم على بعض الأحلام الاشتراكية وعلى بعض الإجراءات الإصلاحية
الزراعية الجذرية.
١٤٠ ثم صاغ نظرية الشيوعية الفوضوية التي يتكون المجتمع فيها من كونفدراليات، أي
وحدات منتجة حرة نتيجة للثورة الاجتماعية. وضد تصور ماركس للتاريخ قدم تصورًا آخر يقوم
على التعاون المتبادل، وجعله أساس التنمية الاجتماعية. رفض الجدل الماركسي، واعتبر
المنهج الاستنباطي الاستقرائي في العلوم الطبيعية هو المنهج الصحيح. جمع كروبتكين في
تصوراته للمجتمع وللعلم بين الوضعية والمادية الآلية نظرًا لتأثره بوضعية كومت وسبنسر.
ويصعب في الفوضوية التمييز بين الفكر الثوري والممارسات الثورية كما هو واضح، خاصة عند
إيما جولدمان.
١٤١
وتضم البرجوازية الوطنية مجموعة من المفكرين الاقتصاديين الواقعيين المتشائمين مثل
مالتوس، وعلى نقيض الاشتراكية الطوباوية أو الماديين الذين حاولوا إخضاع الاقتصاد إلى
تحليل كمي صرف مثل جيفونز أو المثاليين الذين ما زالوا متأثرين بالمثالية التقليدية مثل
كيريفسكي وخومياكوف. وقد ترجع التسمية إلى نقد الماركسية لهم بأنهم ما زالوا يعبرون عن
الطبقة الوسطى فكرًا ومصالح.
ففي إنجلترا وضع مالتوس قانونًا مؤداه أن ازدياد السكان يتضاعف طبقًا لمتوالية عددية
٢–٤–٨–١٦ في حين أن الإنتاج يزيد طبقًا لمتوالية حسابية ١-٢-٣-٤.
١٤٢ وبالتالي ينتهي العالم إلى كارثة الجوع والموت لأن زيادة السكان تسبق
بمراحل زيادة الإنتاج. ولا سبيل إلى اكتفاء البشرية إلا بالموت والحروب أو بالزهد
وتحديد النسل وعدم الزواج. والعجيب أن يخرج هذا الفكر التشاؤمي في عصر الرومانسية قمة
الوعي الأوروبي، ومن قسيس مؤمن يبرر الكوارث والحروب. كما استعمل جيفونز المنهج الرياضي
في التحليل الاقتصادي.
١٤٣ لم يتخلص من مادية ساذجة قاسية، مثل اقتصاد مالتوس، في فهمه للاقتصاد. وفي
المنطق كان من أنصار بول. وفي نظرية المعرفة كان أقرب إلى اللاأدرية.
وفي روسيا تعتبر حركة السلافيين حركة وطنية مثالية تقوم على حب الوطن. والوطن هو
الدين والتراث الرُّوحي للشعب والأرض والتاريخ كما هو الحال في الحركة السلفية في تاريخنا
المعاصر. ومن ممثليها كيريفسكي الذي أسس جريدة «أوروبي موسكوفي» لتكون لسان حال الحركة.
١٤٤ وهو اسم يتناقض مع أهداف الحركة وهي مقاومة التغريب الأوروبي والدفاع عن
الهُوية والثقافة الوطنية. وفي نظرية المعرفة تتجاوز الحركة حدود العقل، وتغرق في الدين
وحدسه الذي يقرب من التصوف، وتجعل الدين حياة الأفراد والشعوب. هو الذي يمدها بتصوراتها
للعالم وببواعثها على السلوك. ولما كانت المسيحية الأرثوذكسية دين الشعوب السلافية
فالمستقبل لهذه الشعوب. كما تدعو الحركة إلى عدم مقاومة الشر بالعنف، وترفض الصراع
الطبقي، وتريد العودة إلى أشكال الحياة الاجتماعية الأولى في الريف وفي أخلاق القرية.
وبالرغم من نقدها للميتافيزيقا في بعض أخطائها وللمجتمع البرجوازي وبعض عيوبه إلا أنها
ظلت مثالية دينية في النظر وبرجوازية وطنية في الممارسة. وقد اتضح ذلك أيضًا عند
خومياكوف الذي عارض المادية، ونقد المثالية الألمانية التقليدية، وانتسب إلى المثالية
الموضوعية النابعة من الإرادة الدينية الصوفية.
١٤٥ المثل العقلاني الحر هو المبدأ الأول للوجود. ولا يمكن إدراكه بوسائل
المعرفة العادية، الحس والعقل، بل بالمعرفة الباطنية. ولا تكتمل الرؤية العقلية إلا
بالاستعانة بالدين، وتدخل العناية الإلهية في حياة الفرد والجماعة. ويُعتبر منظِّر
النبلاء بالرغم من نقده النسبي للنظام الاجتماعي الروسي الإقطاعي. اقترح بعض الإصلاحات
الاجتماعية كان الهدف منها مساعدة النبلاء للحفاظ على امتيازاتهم في وقت تحول اجتماعي
من الرأسمالية إلى الاشتراكية.
وفي ألمانيا ظهرت أفكار البرجوازية الوطنية عند ثلاثة ممثلين لها: لاسال، ودوهرنج،
وبرنشتين. صاغ لاسال فلسفة مثالية انتقائية فيها أثر هيجل وفشته.
١٤٦ وفسر هيجل على نحو مدرسي ومادي. واستعمل فلسفته للمصالحة بين الأضداد، بين
العمال وأصحاب العمال، بين الدولة التسلطية والحركات الديمقراطية. دافع عن مالتوس
والاقتصاد التشاؤمي التقليدي، كما دافع عن قانون العمال الرجعي الذي أصدرته الدولة
البروسية والقائل بعدم جدوى صراع العمال من أجل تحسين الأجور. لذلك اعتبرته الحركة
الماركسية انتهازيًّا في الحركة العمالية الألمانية، مدافعًا عن بسمارك. نقده ماركس
ولينين بالرغم من أنه قادر على الإثارة وإحداث الشغب. وحاول دوهرنج إقامة فلسفة توفيقية
يجمع فيها بين الوضعية والمادية الميتافيزيقية والمثالية كما تفعل البرجوازية الصغيرة
ومثقفو الطبقة المتوسطة الذين يريدون الحصول على كل شيء، الأعلى والأدنى.
١٤٧ رأى أنه لا يمكن القضاء على الرأسمالية بل يكفي تقوية الحركة العمالية.
لذلك هاجمه ماركس وإنجلز أثناء تأسيس الحزب الاشتراكي الديمقراطي، ونال شهرته من هذا
الهجوم. واتُّهم أيضًا بأنه كان معاديًا للسامية وبالعنصرية. أما برنشتين، آخر ممثلي
البرجوازية الوطنية في الوعي القومي الألماني، فقد أعاد النظر في المسلَّمات الأساسية
للماركسية في الفلسفة والاقتصاد السياسي تحت شعار «العود إلى كانط».
١٤٨ ورفض أي حل مادي للمشكلة الأساسية في الفلسفة. واعتبر الجدل الهيجلي
والماركسي جدلًا واحدًا بصرف النظر عن مستويات التطبيق. وأنكر إمكانية قيام الاشتراكية
العلمية. واعتبر الاشتراكية مجرد اتجاه أخلاقي مثالي. رفض دكتاتورية البروليتاريا،
والصراع الطبقي، وحتمية انتصار الطبقة العاملة. وأثبت فقط إمكانية إصلاح أحوالهما في
إطار النظام الرأسمالي مثل دوهرنج. ووضع شعار «النهاية لا شيء، الحركة كل شيء». هاجم
بليخانوف وأنصاره من الاقتصاديين والمنشفيك (الأقلية). كما هاجمه لينين في الحركة
الدولية.
(٢) الاشتراكية الطوباوية
كانت الاشتراكية الطوباوية تحولًا طبيعيًّا من الليبرالية الفردية والفوضوية
والبرجوازية الوطنية إلى حلم جماعي بالتقدم والعدالة الاجتماعية بعد أن أعطت الثورة
الفرنسية أملًا جديدًا للشعوب في قدرتها على التخلص من نظم القهر والطغيان. وقد ظهرت
بوضوح في الوعي القومي الفرنسي الذي أحدث الثورة الفرنسية، وذلك عند سان سيمون، فورييه،
ديزامي، كابيه، بلانكي، وكان معظمهم في النصف الأول من القرن التاسع عشر. كان سيمون
فيلسوفًا ماديًّا ضد مذهب التأليه الديني أو الطبيعي.
١٤٩ وكان ضد المثالية الألمانية من أجل دراسة الطبيعة. درس طبيعة المجتمعات
الإنسانية، وانتهى إلى حتمية قوانين تطورها، وضرورة معرفة هذه القوانين. لقد ساهمت
فلسفات التاريخ التي حاولت التعرف على قوانين تقدمه في التقدم الإنساني قبل مساهمة
العلوم الاجتماعية. وقد آن الأوان للانتقال من عصر فلسفة التاريخ إلى عصر العلوم
الاجتماعية، أي من القرن الثامن عشر إلى القرن التاسع عشر. فكل نظام اجتماعي يمثل خطوة
على مسار التقدم الإنساني والديني والأخلاقي والاجتماعي، ويتميز هذا المسار بمراحل
ثلاثة: الدين، والميتافيزيقا، والعلم. وهي نفس المراحل التي عدها كومت تلميذ سان سيمون
وسكرتيره في قانون الحالات الثلاث. وكل مرحلة فكرية معرفية تعبر عن نفسها في إطار نظام
اجتماعي. فالدين يوجد في مرحلة الإقطاع، والميتافيزيقا في مرحلة البرجوازية، والعلم في
مرحلة الاشتراكية. لذلك انضم بحماس إلى الثورة الفرنسية لأنها ضد المَلكية، وحاول تصور
مجتمع اشتراكي يرث الطبقة البرجوازية. ثم اعتزل النشاط السياسي للتفرغ للكتابة. وارتبط
بالمؤرخ تييري كما ارتبط بتلميذه كومت. وضمت كتاباته السياسية فكرتين: الأولى الحاجة
إلى تأسيس الرؤى السياسية على العلوم التاريخية والاجتماعية. والثانية بيان أوجه الصراع
بين الصناعيين والشعب المنتج الفعال من ناحية والطفيليين البيروقراطيين من ناحية أخرى.
وقد ألهم عديدًا من دعاة التصنيع الذين لم يكونوا من الطبقة العاملة من أجل التحول إلى
الصناعات المنتجة. وهي الثنائية المشهورة التي استقرت فيما بعد بين الياقات الزرقاء
والياقات البيضاء، بين العمال والإدارة، كما قامت بتوسيع مفهوم الطبقة العاملة التي
شملت العمال والصناعيين والمنتجين، العامل بيده والعامل بعقله. لقد كان سان سيمون أول
الثوريين الاشتراكيين الذين انتقلوا من الثورة على المَلكية والإقطاع إلى تأسيس الجمهورية
وبناء المجتمع الاشتراكي. ويكون السؤال: كيف حول أوجست كومت فلسفة أستاذه الثورية
الاشتراكية إلى فلسفة محافظة رجعية، خاصة لو صحت قراءة ماركوز له في «العقل والثورة»؟
١٥٠ ويكون السؤال بالنسبة لنا: كيف استطاع السان سيمونيون تأسيس مجتمعاتهم
الاشتراكية المنتجة خارج فرنسا في مصر، وما دلالة ذلك بالنسبة لنا، صورة مصر في الوعي
الأوروبي منذ لَيبنتز الذي جعلها الرابطة الجوهرية بين الشرق والغرب، ومنذ حملة نابليون
على مصر، أم الدنيا؟ ثم نقَد فورييه المجتمع البرجوازي وبيَّن تناقض أفكار الثورة
الفرنسية مع الواقع، التفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء، بين الأقلية والأغلبية.
١٥١ أدرك أهمية المادية كأساس للاشتراكية، ومع ذلك استعاد آراء روسو، واعتبر
الحاجات والانفعالات والعواطف الإنسانية خيِّرة لا داعي لقهرها، وأن الشر ينشأ من المجتمع
لا من الإنسان، ويسهل التغلب على الشر عن طريق خلق مجتمع جديد، بعض الوحدات الاجتماعية
المنتجة «الكتائب» والتي حاول سان سيمون إنشاءها لتكون بمثابة نواة للمجتمع الجديد. لكل
عضو فيه حق العمل وواجب الرعاية. ولا تعني المهنة الحرفة بالمعنى الضيق بل العمل المنتج
بالمعنى العام لا فرق في ذلك بين عمل يدوي وعمل عقلي. واضح إذن أن ظهور الاشتراكية
الطوباوية في عصر الرومانسية وكأننا في مدينة فاضلة كتلك التي تخيلها أفلاطون عند
اليونان أو أوغسطين في عصر آباء الكنيسة أو مور وكامبانيللا في عصر النهضة. وكان الانتقال
من الاشتراكية الطوباوية إلى الاشتراكية المادية على يد ماركس انتقالًا طبيعيًّا بعد
اشتداد ضنك الطبقة العاملة، وبعد فشل ثورة ١٨٤٨م، والتي جعلته ينقد البرجوازية كما نقدت
البرجوازية الإقطاع. وكان ديزامي ماديًّا من أنصار هلفسيوس.
١٥٢ أنكر الدين بمعناه التقليدي الشائع: الطقوس والشعائر والعقائد والكنائس
والمعجزات. لذلك اعتبره الغرب ملحدًا. عارض الاتجاه السلمي عند كابيه في تصوره
للشيوعية، كما عارض الاشتراكية المسيحية عند لامنيه. وصفه ماركس بأنه مؤسس النزعة
الإنسانية الواقعية والذي وضع الأساس المنطقي للشيوعية. وواضح أيضًا أن الاشتراكية
الطوباوية كانت مرحلة طبيعية انتقالية نحو الماركسية، وأن اتهامها من منظور ماركسي
متأخر بأنها تحريفية هو نقد لا تاريخي، نقد الحاضر للماضي مع أن الماضي خطوة إلى
الحاضر. ولولا الليبرالية والفوضوية والبرجوازية الوطنية لما كانت الاشتراكية
الطوباوية. ولولا الاشتراكية الطوباوية ونقدها لما كانت الماركسية. وما زالت الاشتراكية
الطوباوية تكشف عن قوة فلسفة التنوير والتثوير وغلبتها على المادية الدارونية التي
قامت عليها الماركسية بعد ذلك. قد يسهل نقد الممارسة في الاشتراكية الطوباوية ولكن يصعب
نقد الأساس النظري الذي قامت عليه وفلسفة التنوير ما زالت حديثة، والرومانسية كرد فعل
عليها غالبة. وإن نجاح الماركسية على مستوى العمل نظرًا لتعلمها من فشل الثورة الفرنسية
ثم ثورة ١٨٤٨م في تحقيق العدل الاجتماعي لا يعني بالضرورة سلامة الأساس النظري الذي
قامت
عليه، والذي كان مجرد الفلسفة السائدة في عصرها، أعني الداروينية الاجتماعية. وقد يكون
نجاح الماركسية على يد لينين في تحقيق الثورة الاشتراكية في روسيا هو الذي أدى إلى
الانتقال، عن لا وعي، من النجاح على مستوى العمل إلى الاعتقاد بالصحة على مستوى النظر.
وإذا كانت الاشتراكية الطوباوية ناجحة على مستوى النظر وفاشلة على مستوى العمل فإن
الماركسية كرد فعل على الاشتراكية الطوباوية قد تكون ناجحة على مستوى العمل وأقل نجاحًا
على مستوى النظر. ويكون التحدي بالنسبة لنا: هل يمكن تحقيق نجاح في نقل مجتمعاتنا
الإقطاعية والرأسمالية إلى مجتمعات اشتراكية على مستوى النظر وعلى مستوى العمل على حد
سواء؟ إن التمسك بالماركسية كدليل للعمل الثوري والقطع بالماركسية كداروينية، أي كفلسفة
سائدة في العصر، لهو وقوع في القطعية المضادة لرُوح التنوير، والذي كان أحد مصادر
الماركسية، والتي كانت الماركسية إحدى مراحلها المتطورة. فالماركسية في النهاية إحدى
صياغات الفكر الاشتراكي المتأخرة وليست الصياغة الوحيدة بعد أن تعلمت من تجارِب النجاح
والفشل في الممارسات الثورية منذ الثورة الفرنسية حتى نجاح الثورة الاشتراكية في روسيا.
ثم بيَّن كابيه تفوق الاشتراكية على الرأسمالية في أسلوب روائي.
١٥٣ وآثر أن يكون التحول الاشتراكي سلميًّا عن طريق الإصلاحات التدريجية دون
اللجوء إلى نضال البروليتاريا كما أراد ماركس بعد ذلك. ترك مكانًا للدين في مجتمع
المستقبل. وكان مثاليًّا يجمع بين عقلانية القرن السابع عشر مع تأصيل لها في
الأفلاطونية والأفلاطونية الجديدة. ومع ذلك اعتبره ماركس مروجًا جيدًا للأفكار الشيوعية.
وواضح أن الخلاف مع الماركسية في طريق الممارسة وأساليب العلم الثوري بالنسبة للعمل
السري وطرق العنف، فالماركسية بهذا المعنى استفادت من أشكال الممارسة في العمل الثوري
للاشتراكية الطوباوية. وكان بلانكي هو آخر الاشتراكيين الطوباويين في فرنسا.
١٥٤ بل إنه انتقل من الاشتراكية إلى الشيوعية، وهي أحد أشكال الفكر الاشتراكي،
ومن المثالية الثورية إلى المادية الجدلية، فأصبح شيوعيًّا طوباويًّا. كوَّن فلسفته في
إطار المادية الآلية العقلية التي اتُّهمت بالإلحاد في القرن الثامن عشر، وكذلك في إطار
الاشتراكية الطوباوية، خاصة «البابوفية».
١٥٥ وبالرغم من فلسفته المادية إلا أنه أعطى تفسيرًا مثاليًّا للتقدم التاريخي
على أساس أنه كشف للتنوير. والتاريخ تقدم من الفردية المطلقة عند الإنسان البُدائي خلال
مراحل متعددة حتى الوصول إلى الشيوعية، وهي صورة المجتمع المستقبلي، تتويج التقدم
الإنساني. كان على وعي بالمتناقضات في المجتمع الرأسمالي وبصراع القوى الاجتماعية فيه.
ومع ذلك أراد حل هذه التناقضات بأساليب التآمر مما أدى إلى فشل كل محاولات التغيير
الثوري التي قام بها أنصاره. فالثورة لا تتحقق إلا إذا قامت جماهير الشعب العامل بقيادة
الحزب الثوري على ما انتهت إليه الماركسية فيما بعد. وقد أثرت «البلانكية» في الحركات
الثورية خارج فرنسا، في روسيا (النارودية) مما جعله موضوعًا للثناء من الماركسيين
اللينينيين بالرغم من إدانة ممارساته السياسية.
وفي إنجلترا ظهرت الاشتراكية الطوباوية عند جودوين، وأوين، وبراي، ووليم موريس. اعتبر
جودوين أن كل الحكومات فاسدة بالضرورة بسبب مصالحها وتميزاتها القومية أو الطبقية،
١٥٦ لذلك آثر نوعًا من الفوضوية، مجتمعًا بلا حكومة، يقوم على أساس نفعي وحتمي
كبديل عن مجتمع الحكومات الفاسدة. وكان له أثر كبير على المثقفين في عصره. ارتبط
بالرومانسيين مثل وُردزوُرث وشيلي. هاجمه مالتوس نظرًا لتفاؤله الشديد. جمع بين الفوضوية
والرومانسية الاشتراكية مثل باكونين وكروبتكين. وكان رد فعل على الهيجلية مثل
الماركسية. وقاد أوين حملة ضد مساوئ النظام الصناعي في بريطانيا، سواء فيما يتعلق بأوضاع
العمل أو بالتنظيمات الإدارية.
١٥٧ وانتقل من النقد النظري إلى الممارسة الفعلية، فأنشأ مصنعًا للقطن وأداره
كنَموذج للعَلاقة بين العمال والإدارة. دافع عن المِلكية الجماعية وعن حقوق المنتجين
التعاونيين ضد احتكار الدولة، والتي استبعدها أيضًا معظم الاشتراكيين الطوباويين فيما
بعد، وكما فعل الفوضويون من قبل. نقد مالتوس، وبين إمكانية زيادة الإنتاج بما يفوق زيادة
عدد السكان. فتفاؤل الاشتراكية الطوباوية على النقيض من تشاؤم مالتوس. ويلاحظ أن الوعي
القومي الإنجليزي الذي أفرز المدرسة الحسية التجريبية استطاع أيضًا أن يساهم في
الاشتراكية الطوباوية ويقيمها على أسس مثالية عقلانية. اتُّهم بالإلحاد مع أنه من
المؤلهة، إلا أنه في رفضه للمِلكية الخاصة مثل برودون لاحظ أن الدين من أقوى الحجج
للدفاع عنها فرفض الاثنين معًا. كما بين أهمية التربية في التجمعات الديمقراطية
التعاونية التي حاول سان سيمون تكوينها في فرنسا ومصر. لم تكن الاشتراكية الطوباوية
مجرد نظرة أخلاقية أو أحلام غير قابلة التحقيق، إذ حاولت تطبيق مبادئها النقدية للمجتمع
الصناعي الرأسمالي، فشارك أوين في تأسيس عدة شركات ومصانع ليبين إمكانية تحقيق النظم
الإدارية والعمالية الجديدة. كما لم يكن الاشتراكيون الطوباويون مجرد منظِّرين أصحاب
فكر
بل كانوا من العمال. فقد كسَب أوين قُوتَه بنفسه منذ سن العاشرة. أما براي فقد رأى أن
القوة الدافعة في التطور الإنساني هي حاجاته المادية، وأن مأساة الشعب العامل هو نظام
التبادل.
١٥٨ جعل العمل وحده مصدر القيمة. ولا بد أن تكون قوى العمل والإنتاج على نظام
اشتراكي. وصور المجتمع الشيوعي في المستقبل كما تصوره أوين. والطريق لتحقيق هذا المجتمع
هي التعاونيات
الصناعية والعمالية. ويتم تنظيم فروعها الأخرى على نحو لا مركزي وخلال نظام يقوم على
«عملة العملة» يتم تداولها في البنوك والأسواق. وقد كان له تأثير كبير على برودون، فقد
كانت قنوات الوعي القومي المتعددة تصب جميعًا في الوعي الأوروبي العام. وكان على وعي
بالصراع الطبقي، وبأن الطبقة العاملة وحدها القادرة على تحقيق الشيوعية. ومع ذلك
الإصلاح والتغير الاجتماعي التدريجي هو الطريق إلى الشيوعية. نقد الرأسمالية وأوضاعها
في بريطانيا والولايات المتحدة. ويدل ذلك على أن الاشتراكية التعاونية كانت إحدى أشكال
الاشتراكية الطوباوية قبل الماركسية، وأن الماركسية ما هي إلا شكلها الأخير، صب فيها
كثير من الاجتهادات السابقة مثل: العمل مصدر القيمة، المِلكية الجماعية، التشريعات
العمالية … إلخ. ويكون السؤال: هل استطاعت الماركسية بالرغم من التجارِب العديدة السابقة
التخليَ عن كل صور الفكر الاشتراكي الطوباوي؟ وبالرغم من انتساب وليم موريس إلى عائلة
أرستقراطية إلا أنه نقد النظام البرجوازي.
١٥٩ شارك في بلورة الأفكار الطوباوية وطبقها في الفنون، واعتبرها وسائل سلمية
لتحقيق التغير الاجتماعي. فالفن قادر على التعبير عن العواطف الاشتراكية. جمع بين
الثورة والأدب. وكان له أبلغ الأثر في تطور الأدب الديمقراطي الثوري في إنجلترا.
وفي إيطاليا دعا بيزاكاني إلى تطبيق نظام اشتراكي،
١٦٠ واعتبر المِلكية الخاصة سبب شق المجتمع الواحد إلى طبقات متنافرة كما نادى
روسو وبرودون وكل الاشتراكيين. ودعا إلى تأسيس المِلكية العامة وتنظيم الاقتصاد الجماعي
من أجل القضاء على اللامساواة والاستغلال. وطالب بنزع ملكية البرجوازيين والقضاء على
الإقطاع عن طريق ثورة الفلاحين. وبالرغم من اشتراكيته الطوباوية إلا أنه كان ماديًّا
في
نظرية المعرفة رافضًا الدين كما عرفته التجرِبة الأوروبية وكما عاشه الوعي
الأوروبي.
وفي أرمينيا ظهرت الاشتراكية الطوباوية عند نالبانديان الذي حاول ضم المادية مع
الجدل، والحس والعقل، والاستنباط والاستقراء.
١٦١ نقد المثالية عند كانط وفشته وهيجل ونتائجها السياسية. وفي الجمال له نظرة
واقعية للفن. وهو مؤسس الحركة الثقافية التقديمة الأرمينية في القرن التاسع عشر. ويدل
ذلك على استقلال الوعي القومي للقوميات داخل روسيا في أرمينيا وفي غيرها من الدول
الاشتراكية، كما يدل على أن الاشتراكية الطوباوية المادية كانت الخطوة قبل الأخيرة
للاشتراكية الداروينية عند ماركس. وفي الصرب ظهرت الاشتراكية الطوباوية عند ماركوفتش.
١٦٢ نقد الرأسمالية دفاعًا عن كوميونة باريس، وشارك في الدولية الأولى. وظن أنه
بعد انتصار الثورة الشعبية القائمة على أساس العائلة البطركية والتجمعات الريفية يمكن
التحول إلى الاشتراكية دون المرور بالرأسمالية. وتُعتبر أفكاره أساس البرنامج
الديمقراطي الاشتراكي الصربي. ظهرت لديه رُوح دارون كما ظهرت عند ماركس. ومع ذلك ظل
مثاليًّا. كان ماديًّا فقط في الأخلاق والجمال وإن لم يكن قد توصل إلى قوانين الجدل.
ويدل ذلك على مساهمة القوميات في أوروبا الشرقية في الاشتراكية الطوباوية قدر مساهمة
القوميات داخل الاتحاد السوفيتي. وكلتا المنطقتين تاريخيًّا يدخلان في إطار الإسلام
الثقافي أو على أطرافه. هناك تأثر بماركس دون تبنيه كلية. وظلت الاشتراكية مرتبطة
بالتراث الفلسفي المثالي القديم والثورة الوطنية البرجوازية المعاصرة.
وفي ألمانيا حاول فيتلنج إقامة مجتمع شيوعي يقوم على الانسجام بين القدرات والرغبات،
بين الأفراد والجماعات،
١٦٣ ويتم ذلك عن طريق الدكتاتورية التي جعلها ماركس دكتاتورية البروليتاريا.
فلا تأتي الحكومة الشيوعية إلا بالثورة. بيَّن أهمية العلوم والفلسفة في المجتمع، وتشمل
العلوم الطبيعيات الفلسفية والميكانيكا الفلسفية والطب الفلسفي، أما الفلسفة فهي اتجاه
نحو الواقع العِياني ضد التجريد الفلسفي عند هيجل. وبالرغم من نقده للدين إلا أنه استعمل
الإنجيل للتبشير بأفكاره الاشتراكية الثورية.
(٣) الاشتراكية المادية
وهي آخر صياغة لتطور الفكر الاشتراكي. قام بها ماركس معتمدًا على المادية الداروينية
التي كانت شائعة، وتعبر عن رُوح العصر. وقد عبر عنها ماركس في مرحلة «رأس المال» وليس
ماركس الشاب أحد الهيجليين الشبان والجناح اليساري في اليسار الهيجلي. وقد بدأت في
روسيا عند هرتزن وبليخانوف، ولينين، وكاوتسكي، وفي ألمانيا عند ماركس المتأخر، وديتزجن،
وإنجلز، وميهرنج، وفي إيطاليا عند لابريولا، وجرامشي، وفي فرنسا عند لافارج، ولانجفين،
وفي بولندا عند روزا لكسمبورج. ففي روسيا بدأ هرتزن التحول من المثالية الهيجلية إلى
المادية الجدلية، وتحويل الفكر الاجتماعي السياسي إلى تصور علمي للواقع وكأساس للثورة
القادمة.
١٦٤ وأعمل النظر طويلًا في الفكر الاجتماعي الطوباوي للثورة الفرنسية والتاريخ
الرومانسي لعصر النهضة والفلسفة الكلاسيكية في القرن التاسع عشر. ثم بدأ في صياغة
أُنطولوجيا مادية، وأعطى تفسيرًا ماديًّا للجدل عند هيجل سماه بعد ذلك «جبر الثورة».
وانتهى بنفسه إلى المادية الجدلية وإلى التماثل بين النظر والعمل، والوجود والفكر،
والفرد والمجتمع. وحاول تأسيس منهج في المعرفة مطابق للواقع تتم فيه وحدة الفكر
والتجرِبة. وفي فلسفة التاريخ درس تطور المجتمعات وانتهى إلى أن مسار التاريخ يتم
باجتماع عاملين: تلقائية السيرورة التاريخية، ووعي الأفراد ونشاطهم كما قال كورنو من
قبل، التقاء الحتمية التاريخية مع حرية الفعل الإنساني. كما حاول تحويل فلسفة التنوير
إلى حركة جماهيرية وإلى فعل ثوري. ولكن فشل ثورة ١٨٤٨م كان بمثابة هزيمة شخصية له في
فرنسا وإيطاليا لأنه كان منظِّرها. وجعله يعتقد أنه لا يوجد تطابق في الفكر الأوروبي
بين
المثال والواقع، بين ما ينبغي أن يكون ما هو كائن. أصابه التشاؤم، وشك في إمكانية نجاح
الثورة الاشتراكية في الغرب، ثم حاول تجاوز هذه الأزمة بتثوير الفلاحين في روسيا
باعتبارهم خميرة الثورة. ولكن حوادث ١٨٦٠م جعلته يتشكك نهائيًّا في قيم البرجوازية. كان
صديقًا لباكونين يشاركه نفس الهموم ثم انفصل عنه في موجة التشاؤم. أدرك أخيرًا أهمية
الطبقة العاملة أثناء انعقاد الدولية الأولى. وهذا يدل على أن التفكير في الثورة،
إمكانياتها ووقوعها، كان أحد الموضوعات الفلسفية الرئيسية في الفلسفة الغربية في النصف
الثاني من القرن التاسع عشر، وأن انتقال الفيلسوف من المثالية إلى المادية إنما يتم بعد
عدة صدمات في الواقع الاجتماعي، كما يتم الانتقال من الأشعرية إلى الاعتزال في
مجتمعاتنا المعاصرة. لا فرق إذن بين العالِم والمواطن، بين النظر والعمل، بين العلم
والممارسة، بين التفكير والثورة. وقد يكون فشل ثورة ١٨٤٨م وأثره على الفكر الأوروبي مثل
هزيمة ١٩٦٧م في جيلنا وأثرها على الفكر العربي.
١٦٥
كما تحول كارل ماركس بعد هزيمة ١٨٤٨م من مرحلة ماركس الشاب، الهيجلي اليساري، إلى
ماركس رأس المال منذ «البيان الشيوعي».
١٦٦ ففي هذا البيان يوجد تصور مادي جذري للعالم، للمعرفة وللسلوك، للفرد
وللمجتمع. الجدل هو النظرية الوحيدة للتطور، نظرية الصراع الطبقي. والدور التاريخي
الثوري للبروليتاريا في العالم، خالقة المجتمع الشيوعي الجديد. المادية الجدلية
والتاريخية فلسفة علمية صحيحة، يجتمع فيها الجدل والمادية والفهم المادي للطبيعة
والمجتمع، والنظر والعمل. وقد ساعدت على التغلب على الطبيعة الميتافيزيقية للمادية قبل
ماركس والتي كان يغلب عليها طابع التأمل والنزعة الإنسانية والفهم المثالي للتاريخ.
وبالتالي أصبح منهج ماركس أكثر المناهج ملاءمة للمعرفة ولتغيير العالم. وقد أثبت تطور
العلم والممارسة في القرنين التاسع عشر والعشرين تجاوز الماركسية لكل أشكال المثالية
والمادية الميتافيزيقية. واجهت الماركسية باعتبارها الأيديولوجية الوحيدة للبروليتاريا
كل التيارات اللاعلمية المناهضة لها وكل أفكار البرجوازية الصغيرة. ولما كان ماركس
عالمًا ثوريًّا أو ثوريًّا عالمًا اشترك في نضال البروليتاريا من أجل التحرر. وكان
لثورة ١٨٤٨-١٨٤٩م أثر بالغ في تطوير النظرية الثورية الاشتراكية والصراع الطبقي
ودكتاتورية البروليتاريا ووسائلها لتحقيق الثورة الاشتراكية في المجتمع البرجوازي،
وضرورة التحالف بين العمال والفلاحين. وفي «رأس المال» انتقل ماركس من مرحلة الفرض إلى
مرحلة العلم. وبعد وضع مبادئ الاقتصاد السياسي أرسى قواعد الشيوعية العالمية تطبيقًا
للمادية الجدلية. وبالرغم من تحقيق النظرية الماركسية في الواقع وتصديقها فيه فقد طورها
لينين بناء على الظروف التاريخية المستجِدة بعد انتصار الثورة الاشتراكية في بلاد عديدة.
ويلاحَظ أن الماركسية على هذا النحو هي إحدى مراحل الفكر الاشتراكي الأوروبي في مرحلة
انتقاله من المثالية الطوباوية إلى الواقعية المادية. اكتسبت رُوح العصر، وقامت على
الفلسفة السائدة فيه، ومع ذلك لم تخل من طوباوية وحلم شيوعي، ولكنها أضافت القطعية
وأحيانًا التعصب للرأي والمذهبية وبالتالي خفَّت منها حدة التنوير والقدرة على الحوار
مع
الخصوم. وقد تطورت هي نفسها بناء على الظروف التاريخية المتجددة، وبتغير الأطر الفلسفية
النظرية وتعددها. فتعددت ماركسيات القرن العشرين بتعدد فلسفات القرن العشرين.
وإذا كنا قد حرصنا على تتبع الوعي القومي الخاص، الفرنسي أو الألماني أو البريطاني
أو
الروسي في إطار الوعي الأوروبي العام فإننا خرقنا القاعدة بالنسبة لماركس وحده الذي وُجد
بعد هرتزن وقبل بليخانوف. وذلك لأن الماركسية لم تعد تعبِّر عن الوعي القومي الألماني
بقدر تعبيرها عن الاشتراكية المادية كأحد إبداعات الوعي الأوروبي العام. ولكن استمرارًا
للقاعدة بعد هذا الاستثناء الأوحد فإن الاشتراكية المادية قد ظهرت بعد المادية الجدلية
عند هرتزن عند بليخانوف الذي عرض الماركسية كفلسفة مادية للتاريخ.
١٦٧ ثم اقترن اسم لينين بماركس فيما عُرف في التاريخ باسم الماركسية اللينينية.
١٦٨ هاجم أنصار «النارودية»، وبين أن الطبقة العاملة وحدها هي الأقدر على
النضال. وفي الفلسفة حلل أهم إنجازات العلم الطبيعي في ضوء المادية الجدلية في «المادية
والنقدية التجريبية»، وطور المبادئ الرئيسية للماركسية اللينينية، خاصة في نظرية
المعرفة. نقد الحسية التجريبية عند ماخ، فهو في ظاهره مادي وفي حقيقته مثالي بتركيزه
على
المنطق والمعرفة، وتحويل العالم الواقعي إلى عالم حسي، والعالم الموضوعي إلى عالم ذاتي
خالص كما فعل بركلي من قبل. وقدم نظرية جديدة في المعرفة تميز بين الأفكار كانعكاسات
للواقع وأفكار من الواقع؛ الأولى ذاتية نسبية، والثانية موضوعية علمية. وما زال نقد
لينين للآلية نقدًا صحيحًا. وفي مقابل ماخ هناك المادية الجدلية رُوح الماركسية وأساسها
النظري. كما طبق لينين الجدل في الاقتصاد والسياسة والاجتماع من أجل تأسيس المجتمع
الاشتراكي، واعتبر أن دراسة هيجل مقدمة ضرورية لفهم ماركس. كما حلل نمط الإنتاج
الرأسمالي إكمالًا لما بدأه ماركس من قبل في «رأس المال». واكتشف القوانين المتحكمة في
تطور الرأسمالية. ويمكن للتطور اللامتكافئ للرأسمالية في مرحلة الاستعمار أن يؤدي إلى
انتصار الاشتراكية في أحد البلدان وليس في كلها في نفس الوقت. أما البروليتاريا فهي
قائدة للنضال الثوري وموجهة له. وهي ليست دكتاتورية كما صورها ماركس. ثم بحث كيفية
الانتقال من الثورة إلى الدولة. كما بين أهمية نقد الدين والتخلص من التصور الديني
للعالم من أجل فهم مادي للتاريخ باعتبار أن المادية التاريخية هي النظرية العلمية التي
تؤدي إلى معرفة قوانين التطور الاجتماعي. كما حاول تطوير علم الاجتماع الماركسي بتحليل
الطبقات، والصراع الطبقي، والدولة والثورة، والعَلاقة بين الجماهير والحزب والقيادات،
والسياسة والاقتصاد، والأخلاق الاجتماعية، والفن الاجتماعي. كما حاول تأسيس فلسفة
ماركسية للتاريخ تصف تطور الفكر البشري من الفلسفة القديمة إلى المادية الفرنسية إلى
كانط وهيجل إلى الفكر الثوري الروسي عند بلنسكي وهرتزن وتشرنيشفسكي. فنقل بذلك الفكر
الاجتماعي الثوري في روسيا من الفلسفة العلمية إلى فلسفة التاريخ. ويبدو على فكر لينين
طابع العمل أكثر من طابع النظر، كما يتضح ذلك من عناوين مؤلفاته؛ وذلك لأن لينين كان
يقوم بتنظير الواقع تنظيرًا مباشرًا، ولا يتعامل مع النظريات بقدر ما يحاول فهم
الأحداث.
وفي ألمانيا قام ديتزجن بما قام به أولًا هرتزن في روسيا، اكتشاف قوانين المادية
الجدلية في الفكر والواقع قبل تطبيقها في التاريخ والسياسة.
١٦٩ وفي نظرية المعرفة جعل الوعي حصيلة المادة المتحركة الموجودة مسبقًا. مادة
الوعي هي المخ، ووظائفه في الإدراك الحسي، لذلك ينقد كانط، فالمعرفة والصور المجردة صور
للعالم الخارجي، وتتحقق فيه بالتجرِبة. ويدافع عن ماخ والتوحيد بين المعرفة الذهنية
والمدركات الحسية. وفي نفس الوقت يهاجم ماخ دفاعًا عن المادية الجدلية عند ماركس
وإنجلز. وقد اتُّهم بالإلحاد، وهي التهمة التقليدية التي تلقى في الوعي الأوروبي على
كل
ناقد لأوضاع الدين في الغرب واستغلاله ضد الفقراء والعلماء. أما إنجلز فهو قائد البروليتاريا
وصديق ماركس ومساعده الأول في صياغة الماركسية والمادية التاريخية الجدلية والشيوعية
العلمية.
١٧٠ نقد مذهب شلنج على أساس أنه مذهب صوفي رجعي. كما نقد هيجل لتناقضاته
الفلسفية ولمحافظته السياسية. اهتم بأحوال الطبقة العاملة، واكتشف تناقضات المجتمع
الرأسمالي، ونقد الطوباوية لاعتقادها بإمكانية استسلام الرأسمالية وتركها السلطة بمحض
إرادتها واختيارها الحر. بيَّن دور البروليتاريا في التاريخ. أصبح صديقًا لماركس وتعاونا
معًا من أجل تحرير البروليتاريا من عبودية الرأسمالية. ونقدا معًا هيجل وفيورباخ
واليسار الهيجلي بوجه عام، ولإرساء قواعد المادية التاريخية الجدلية. وفي نفس الوقت عملا
معًا لتنظيم الرابطة الشيوعية التي تحولت بعد ذلك إلى حزب ثوري للبروليتاريا. وأعلنا
معًا في «البيان الشيوعي» بداية الماركسية الكاملة والأيديولوجية العلمية للطبقة
العاملة. وبين دور الفلاحين كحليف للبروليتاريا في مقابل خيانة البرجوازية. ظل يبحث في
تطوير المادية الجدلية والتاريخية عارضًا من خلالها مبادئ الفلسفة الماركسية ومطبقًا
إياها في العلوم الطبيعية. وتنبأ بعديد من الاكتشافات العلمية في القرن العشرين. ونظرًا
لخبرته واتساع اطلاعه في العلوم استطاع أن يصوغ نسقًا متآلفًا لتصنيف العلوم يقوم على
التمييز بينها طبقًا للصور الموضوعية للحركة والمادة. لذلك رفض أن يفرض على الفلسفة دور
أم العلوم، وبيَّن أهميتهما وقيمتها المنهجية. وفي عرضه لتاريخ المذاهب الفلسفية بيَّن
طابعها الطبقي. كما أن نقده للغنوصية ومحاولته لتأسيس نظرية في المعرفة يُعتبر إسهامًا
في المنطق الجدلي. نقد المادية الساذجة في تصورها للتاريخ وردَّ الاعتبار إلى دور الأفكار
كعامل مؤثر وفعال في حركة التاريخ. كما نقد العَلاقة الآلية بين البنية الفوقية والبنية
التحتية وردَّ الأولى إلى الثانية. اهتم بالحركة الثورية في روسيا وتنبأ بوقوع الثورة
فيها. وكان يشارك حتى آخر يوم في حياته في الحياة السياسية في أوروبا باعتباره مع ماركس
زعيمين للطبقة العاملة. وتشبه روزا لكسمبورج لينين في نشاطه الثوري وتأسيس الحزب
الشيوعي الألماني.
١٧١ وتكونت فلسفة ميهرنج في إطار الفلسفة الألمانية التقليدية وبعض آراء لاسال.
١٧٢ وبعد أن درس الصراع الطبقي في نهاية ١٨٨٠م وكذلك مؤلفات ماركس وإنجلز انتهى
إلى وجهة النظر البروليتارية؛ إذ نقد التحريفية والإصلاحية للماركسية (برنشتين،
كامبفماير)، وناضل ضد علم الاجتماع البرجوازي (برنتانو، بارت) وضد الكانطية الجديدة،
ودافع عن الماركسية ضد الهجوم على رأس المال. كما عرض الأفكار الرجعية لشوبنهور ونيتشه
وهارتمان التي ذاعت في نهاية القرن التاسع عشر. وسخر من الجمال عند كانط، نظرية الفن
للفن، والمذهب الطبيعي في الفن. وعرض كاوتسكي الأفكار الماركسية.
١٧٣ واختلف معه لينين حول ضرورة القضاء على البروليتاريا بعد تشكك كاوتسكي في
دورها، وحول ضرورة القيام بالثورة في كل الظروف والأحوال. كون جماعة مركزية في الحزب
الديمقراطي الاشتراكي الألماني. كما حاول الجمع بين المثالية والمادية على طريقة فلاسفة
القرن العشرين. يتهمه الماركسيون بالانتهازية والتحريفية والردة عن الماركسية. وواضح
أن
الماركسيات قد تعددت في القرن العشرين ولكنها أصبحت جميعًا أشبه بالفرق الضالة أمام
الماركسية اللينينية، الفرقة الوحيدة الناجية.
وفي إيطاليا تخلى لابريولا عن الديمقراطية البرجوازية والمثالية الهيجلية اقتناعًا
منه بأن المادية الجدلية والشيوعية لم تعد افتراضًا قابلًا للشك؛ إذ إنها حصيلة الصراع
الطبقي بل وصراع العصر كله.
١٧٤ وقد تضمن البيان الشيوعي ثورة في العلوم الاجتماعية. وبالرغم من أن البنية
الفوقية انعكاس لما تحتها إلا أن ذلك ليس مدعاة للوقوع في الحتمية المادية الاقتصادية.
العامل الاقتصادي مجرد أداة تحدد اتجاه التفكير في الفن والدين والمعرفة الإنسانية. نقد
الفلاسفة المعاصرين له مثل نيتشه وإدوارد فون هارتمان، وكروتشه، والكانطيين الجدد. ثم
قام جرامشي بدور رئيسي في عرض الفلسفة الآلية، الأساس الأيديولوجي للانحراف اليميني
السائد في بعض الأحزاب الشيوعية الأوروبية في العشرينيات.
١٧٥ كما عرض لمشاكل المادية التاريخية وأبدى اهتمامًا بعلم الجمال وعلم
الاجتماع وتاريخ الفلسفة. درس الثقافة الإيطالية، ونقد الكاثوليكية. كما تناول أسس
العَلاقات بين البناء التحتي والبناء الفوقي أو عَلاقة البروليتاريا بالأنتلجنسيا، وبيَّن
دور الأيديولوجيات والثورة الثقافية والمثقف الثوري العضوي في التطور الاجتماعي. عارض
كل التيارات المثالية والاجتماعية الوضعية في الفلسفة، خاصة كروتشه.
وفي فرنسا عمل لافارج في ميادين الفلسفة والاقتصاد السياسي وتاريخ الأديان والأخلاق
والأدب واللغة.
١٧٦ واستطاع أن يتخلص من آثار سان سيمون والوضعية. ناضل ضد الفوضوية
والانتهازية الرأسمالية الداعية إلى أن النمو لا يتم إلا في سلام، وإلى الإصلاحية
والقومية. أكد على حتمية قوانين الطبيعة وقوانين التاريخ في وصفه للعَلاقة بين البناء
التحتي والبناء الفوقي. هاجم التوفيق بين ماركس وكانط، بين المادية والمثالية. وعارض
الاشتراكية الداروينية والنظريات اللاعلمية. وفي الدين رفض الغنوصية وبين أن الدين وعي
زائف تستغله النظم الرأسمالية لتثبيت الوضع القائم. ويرى الماركسيون التقليديون أنه لم
يستطع أن يدرك بما فيه الكفاية أن المرحلة الراهنة في التاريخ الأوروبي تمثل مرحلة
الاستعمار، أعلى مراحل الرأسمالية. كما ساهم لانجفين في نقد الوضعية واللاتحدد والذاتية
من خلال البحث العلمي الدقيق.
١٧٧ وقد انتشرت الاشتراكية المادية خارج حدود أوروبا الجغرافيا في آسيا
وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. وحدثت فيها إبداعات من وحي خصوصيات الشعوب وثقافاتها في
العالم الثالث، خاصة في الصين والهند الصينية وأمريكا اللاتينية.
١٧٨ ويكون السؤال: إلى أي حد تكون ثقافة المركز بعد انتشارها في الأطراف
امتدادًا للمركز وتقليدًا له أم إبداعًا للأطراف؟