تتحدد نهاية الوعي الأوروبي بمصير التيارين الأساسين فيه اللذين بدآ من ديكارت وبيكون
منفرجين، واحد إلى أعلى وهو المثالية أو العقلانية أو الصورية، والثاني إلى أسفل وهو
الواقعية أو التجريبية أو المادية ثم بلغا الذروة: الأول عند هيجل وشلنج والثاني عند
كومت
ومل. ثم بدآ في الانضمام نحو نقطة مركزية واحدة، الأول من أعلى إلى أسفل، والثاني من
أسفل
إلى أعلى حتى التقيا من جديد في الطريق الثالث. وبالتالي يكون للوعي الأوروبي بداية في
الأنا أفكر، ونهاية في الأنا موجود، ويكون تكوينه من البداية إلى الذروة، ومن الذروة
إلى
النهاية في شكل متوازي أضلاع على النحو الآتي:
تتحدد فلسفة القرن العشرين إذن، ليس بالعصر بالضرورة، بل باتجاه المذهب وهدفه. قد
تبدأ
فلسفات القرن العشرين قبله عند الفيلسوف الاسكتلندي توماس ريد (١٧١٠–١٧٩٦م) الذي أراد
شق
طريق ثالث بين مثالية بركلي وشك هيوم، أو عند الفيلسوف الفرنسي مين دي بيران (١٧٦٦–١٨٢٤م)
الذي أراد تأسيس الفلسفة على أساس من تجرِبة الجهد والتذكر سابقًا على برجسون بقرن من
الزمان،
وكلاهما من فلاسفة القرن الثامن عشر، أو عند الفيلسوف الألماني نيتشه (١٨٤٤–١٩٠٠م) أو
دِلتاي
(١٨٣٣–١٩١١م) اللذين أرادا الجمع بين التيارين في فلسفة الحياة، وهما من فلاسفة القرن
التاسع
عشر. بل إن كانط ذاته (١٧٢٤–١٨٠٤م) يُعتبر فيلسوفًا معاصرًا نظرًا لأنه أراد الجمع بين
نفس
التيارين، قطعية فولف وشك هيوم. وقياسًا على ذلك يمكن القول إن اسبينوزا (١٦٣٢–١٦٧٧م)
فيلسوف
معاصر لأنه أراد تجاوز ثنائية ديكارت في توحيده بين الله كطبيعة طابعة والطبيعة كطبيعة
مطبوعة. وبالتالي يكون ديكارت وبيكون هما الفيلسوفان الوحيدان الحديثان اللذان وضعا
هذه الثنائية التي ظل الوعي الأوروبي يجاهد عبر أربعة قرون لتجاوزها وضمها في بؤرة جديدة
كي
يسترد وحدته. وبنفس المعنى قد يكون فلاسفة الرياضة والطبيعة في القرن العشرين مثل
لوكاتش، فيتش، تارسكي من الرياضيين والمناطقة، وبوانكاريه، دوهيم، ماكس بلانك، جيمس جينز،
مدام كوري، رَيشنباخ، شرودنجر، فينر، إدنجتون، هَيزنبرج، بوبر، ناجل، هِمبل … إلخ، من
فلاسفة
العلم امتدادًا لنفس التيارين في القرن التاسع عشر.
ويصعب تصنيف فلاسفة القرن العشرين في اتجاهات متمايزة نظرًا لاشتراكها جميعًا إما
في نقد
المثالية أو نقد التجريبية أو نقدهما معًا من أجل الجمع بينهما مباشرة، أو عن طريق التوسط
بالحياة أو أحد عناصرها. ومع ذلك يمكن تمييز اتجاهات سبعة رئيسية يضم كل منها تيارات
فرعية:
الأول نقد المثالية، ويتضح ذلك عند البرجماتية، والوضعية المنطقية، والواقعية الجديدة.
والثاني نقد التجريبية في علم النفس الخالص، والكانطية الجديدة. والثالث محاولة الجمع
بين
المثالية والواقعية بلا توسط أو بتوسط فلسفة الحياة. والرابع الظاهريات وما ينشأ عن تطبيقها
من فلسفات وجودية. والخامس الشخصانية والتوماوية الجديدة والأوغسطينية الجديدة. والسادس
مدرسة فرانكفورت والفكر السياسي الاجتماعي. والسابع الفلسفة التحليلية، خاصة تحليل اللغة
وبقايا الفكر الرياضي المنطقي والطبيعي عند فلاسفة الرياضة والمنطق وفلاسفة العلوم في
القرن
العشرين.
(١) البرجماتية
وإذا كانت المثالية أهم ما يميز الوعي القومي الألماني، والتجريبية أهم خصائص الوعي
القومي الإنجليزي، والتجرِبة الحية تيار دائم في الوعي القومي الفرنسي، والثورة
الاجتماعية أهم سمات الوعي القومي الروسي، فإن البرجماتية أصبحت شعار الوعي القومي
الأمريكي. فمعظم البرجماتيين، مؤسسوها ومطوروها فلاسفة أمريكيون مثل: بيرس، وليم جيمس،
جون ديوي، جورج هربرت ميد، تفتس، موريس، لويس، وألماني واحد فاهِنجر، وبريطاني واحد
شيلر. والبرجماتية عند بيرس منهج فلسفي لتأسيس المعاني والتصورات والاعتقادات ابتداءً
من أن فكرة الإنسان عن أي شيء هي آثارها الحسية طبقًا لدلالتها العملية.
١ أما الأفكار الصحيحة فهي ما تثبته الفحوص الدقيقة والبحث الرصين. ويميز بين
الاعتقاد والشك؛ الأول توجيه للفعل، والثاني يوجه البحث من أجل الحصول على الاعتقاد.
لذلك جمع بيرس بين البرجماتية أي النزعة العلمية والبحث المنطقي، أي البحث النظري. ففي
نفس الوقت الذي كان فيه مؤسس البرجماتية الحديثة كان أيضًا من رواد المنطق الحديث. فقد
طور، متأثرًا بمورجان، مناهج الجبر عند بول إلى منطق للعَلاقات مميزًا بين العَلاقات
الأحادية والثنائية والثلاثية. وقدم أول معالجة لحساب القضايا كحساب لمقادير الحقائق.
وتشمل مساهمته في فلسفة العلم تقدمًا للصياغات الأولى لنظرية الذبابة في الاحتمال،
وتقديم فكرة تبرير الاستقراء كمنهج ناجح على الأمد الطويل. وقد تأثر بكانط، وتحمس
لدارون، وعارض ديكارت الذي وقع في رأيه ضحية المذهب الاسمي، وتحمس لدانز سكوت وواقعيته.
الفلسفة لديه إحدى مقومات علم الإبداع، وبالتالي فهي فرع العلوم النظرية، وظيفتها بيان
الوحدة في الكثرة في العالم. كل فلسفة تبدأ بالمنطق أو عَلاقة العلامات بالموضوعات. كل
فلسفة «فينومينولوجيا»، أي تجرِبة في العالم يمكن التعبير عنها في مقولات ثلاثة: الكيف،
رد الفعل، التمثل. الكيف هو التلقائية، ورد الفعل هو الواقع، والتمثل هو الإمكان. كان
له أبلغ الأثر على باقي البرجماتيين مثل وليم جيمس وجون ديوي، وعلى بعض المثاليين مثل
رويس. وهو أكثر البرجماتيين اتجاهًا نحو الفلسفة والمنطق والميتافيزيقا، واتجاهًا نحو
الأفكار الواضحة. ووليم جيمس هو المؤسس الثاني للبرجماتية وقد يكون هو المؤسس الأول،
وبيرس هو الثاني؛ نظرًا لأن خلاف بيرس مع جيمس حول مفهوم الحقيقة هو الذي دفع بيرس إلى
البرجماتية.
٢ وتُعرف فلسفته باسم «التجريبية الجذرية». ويرى أن كل الخلافات الميتافيزيقية
يمكن أن تُحل أو أن تقل أهميتها عن طريق النتائج العملية المترتبة عليها. والنظريات
العلمية مجرد أدوات لتوجيه الفعل في المستقبل، وليست إجابات نهائية حول الطبيعة. وفي
الأخلاق والدين، الإنسان حر في أن يقبل أيًّا من الافتراضات المتعارضة حتى ولو كان الاختيار
بينها حاسمًا بالنسبة إليه. وبالرغم من أنه يستطيع نظريًّا الحكم على صحتها إلا أن ما
اختار هو الصحيح بالنسبة إليه، عليه اتباع ميله حتى يكون صادق الاختيار. الأفكار مجرد
شيكات لا بد أن تكون لها قيمة مصرفية، وهو نفس التشبيه الذي استعمله برجسون فيما بعد.
ومقياس الحكم على صدق الفكرة وصوابها هو ما لها من نتائج عملية. وكل مشاكل الميتافيزيقا
لها حلول في علم النفس. وإذا كان بيرس ما زال يجمع بين البرجماتية والمنطق فإن وليم
جيمس يرد كل المسائل الميتافيزيقية والفلسفية إلى البرجماتية من خلال التجارِب النفسية.
رفض جيمس الجدليات الصورية والموضوعات اللاعقلانية متجهًا نحو المبدأ البرجماتي النفعي
بدلًا من الفهم الموضوعي للحقيقة. انتهى إلى الإيمانية، ودافع عن حق الاعتقاد فيما لا
يمكن البرهنة عليه عقلًا، وأخيرًا صب في الدين والتصوف ونادى بتجريبية راديكالية، والتي
تعني الرد الذاتي للواقع إلى التجرِبة الخالصة للشعور. وفي نظريته المحايدة، وهو نفس
التعبير الذي استعمله رَسِل فيما بعد، جعل الرُّوحي والمادي واجهتين مختلفتين لنفس التجرِبة.
وبالتالي أصبحت التجرِبة الحية أو المنفعة العملية هي الطريق الثالث الذي يبحث عنه الوعي
الأوروبي في بداية نهايته ليضم تياريه المتعارضين فيه: المثالية والتجريبية.
ثم حاول جون ديوي الجمع بين آراء بيرس وجيمس في عرض البرجماتية باعتبارها نظرية
منطقية وأخلاقية. فجعل مهمة الفلسفة توضيح أفكار العلوم الطبيعية والفن والمؤسسات
الثقافية والاجتماعية، ونقد المعتقدات التي تؤثر في حياة المجتمع الإنساني.
٣ ورفض نظرية «المشاهد» في المعرفة، فالتجرِبة تعطي مشاكل لحلها والإنسان جزء
منها. وقد تعلم الإنسان الحديث تغيير الطبيعة كما تعلم فهمها. وهو ليس كائنًا سلبيًّا
بل هو جزء من فعل الظاهرة. وأقام جورج هربرت ميد عَلاقة بين الفرد وصياغة الفروض وتحققه
من صدقها من ناحية، وبين المجتمع من ناحية أخرى، ردًّا على اتهام البرجماتية بالفردية.
٤ وكان مهتمًّا مثل وليم جيمس بإعادة النظر إلى تاريخ الفلسفة والميتافيزيقا
بوجه عام من وجهة النظر البرجماتية. كما حوَّل تفتس البرجماتية من مستوى المنطق والفلسفة
إلى مستوى الأخلاق والتربية.
٥ تأثر بكانط، وتعاون مع جون ديوي في كتابة عدة كتب جامعية مقررة لإعادة
كتابة الفلسفة والعلوم الإنسانية من وجهة نظر البرجماتية يتضح فيها الطابع القومي
التدريبي للفلسفة. وفي نفس الوقت لم تتخل البرجماتية عن وجهة نظر في المنطق والفلسفة
والميتافيزيقا على غير الفكرة الشائعة، وكأنها قراءة جديدة لكانط وإعادة صياغة لقضية
الصلة بين النظر والعمل. ثم جمع شارلس موريس بين النظريات البرجماتية، خاصة البرجماتية
الاجتماعية عند ميد، والتجريبية المنطقية.
٦ واعتمد في كتاباته على نتائج المدرسة السلوكية من أجل تحليل سلوك الإنسان
البيولوجي والاجتماعي. وفي نفس الوقت طور أفكار بيرس في المنطق، وأقام علمًا دلاليًّا
جديدًا مما يدل على اعتماد البرجماتية على نظرية في المعرفة والمنطق والميتافيزيقا
نجدها عند كانط وبيرس، أو في المنطق التجريبي القائم على علم النفس أو إبداع نظرية جديدة
كما هو الحال في علم الدلالات. كما جمع لويس بين البرجماتية والتصورية، فكان برجماتيًّا
منطقيًّا مثل بيرس.
٧ ميَّز في المنطق بين الفحوى الدقيق والفحوى المادي مؤكدًا على ضرورة إقامة
الاستدلال الصوري على العَلاقة دون بحث في ماديتها في العالم.
٨ لذلك حاول تأسيس منطق رمزي صوري خالص. ودافع عن المنطق الصوري.
٩ ووضع المنطق في إطار نظرية المعرفة. وأقام هذه البرجماتية التصورية على
دعائم ثلاثة: الأولى أن الحقائق القبلية محددة في الطبيعة ومستنبطة من تحليل التصورات،
والثانية أن اختيار أي نسق تصوري للتطبيق يخضع لضرورة عملية، والثالثة أن هذه التجرِبة
قابلة للتفسير الصوري، ولا تكون إلا كذلك. والغريب أن يخرج المنطق الرمزي والصوري وعلم
الدلالات من ثنايا البرجماتية الذرائعية وكأن انشطار الوعي الأوروبي إلى الصورية
والمادية يتجلى أيضًا في المذهب الواحد وليس في تصنيف مجموع المذاهب وتوالدها.
وفي ألمانيا أسس فاهِنجر فلسفة الوهم، وهو نوع متطرف من البرجماتية أو الذرائعية
ترى
أن المبادئ الرئيسية في العلوم الطبيعية والرياضيات والفلسفة والأخلاق والدين والقانون
مجرد أوهام.
١٠ وبالرغم من أن الحقائق الموضوعية تنقصها إلا أنها مفيدة للعمل. وهي نفس
الفكرة التي عبر عنها كانط في مقالة «في التعبير الشائع: قد يكون صحيحًا نظريًّا ولا
قيمة له عمليًّا» في ١٧٩٣م، ولكن على الوجه الآخر، أي أننا نتعامل مع العلوم ومبادئها
وكأنها صحيحة نظريًّا والحقيقة أنها مفيدة عمليًّا فقط.
وفي إنجلترا جمع شيلر بين البرجماتية والإنسانية فأصبحت البرجماتية لديه نزعة عامة
واتجاهًا نحو الفعل، أقرب إلى مثالية فشته العملية منها إلى نفعية ديوي.
١١ فالحقيقة من خلق الإنسان، والمعرفة ذاتية خالصة. والنتائج الحسنة هي مقياس
الحقيقة. أما العالم فإنه خاضع لإرادة الإنسان. العالم هو ما نصنعه، والواقع تجرِبة
إنسانية. الحقيقة الأولى هي وجود الأنا وحدي مثل فشته. وبالإضافة إلى هذه المثالية
الذاتية أراد شيلر أن يطور المنطق الصوري في اتجاه عملي من أجل صياغة منطق للتطبيق
قادر على خلق الإنسان المتميز أو السوبرمان كما هو الحال عند نيتشه. أيَّد برجماتية
وليم جيمس ونظريته في الحقيقة. وعارض الهيجلية المطلقة التي تبناها برادلي. أعلن أنه
من
أنصار بروتاجوراس في تأكيده على أن الحقيقة والواقع من صنع الإنسان، وأنكر وجود عالم
موضوعي مستقل عنا نُضطر إلى الاعتراف به. وميز بين المذهب الإنساني والبرجماتية النفعية
بأن الأول أكثر اتساعًا وشمولًا ويمكن تطبيقه في المنطق والأخلاق والجمال والميتافيزيقا
واللاهوت، في حين أن للبرجماتية نظرة نفعية ضيقة.
(٣) الواقعية الجديدة
تعبر الواقعية الجديدة عن تيار عام أبرزه الواقعية الجديدة بالمعنى الضيق في إنجلترا
عند صمويل ألكسندر، وفي أمريكا عند بيري. ولكنها كتيار عام يمكن أن تضم كل التيارات
المادية كما هو الحال عند كارنسكي، والأرسطية مثل هُدجسون، والأُنطولوجيا العامة عند
كُولْبه، والواقعية النقدية عند سانتيانا. يجمعها جميعًا العداء للمثالية، ورد الاعتبار
للعالم الخارجي موضوع المعرفة والمستقل عن الذات العارفة. فهو تيار عام شمل الوعي
الأوروبي في روسيا وألمانيا وإنجلترا، وازدهر في أمريكا قدر ازدهار البرجماتية.
ظهرت الواقعية المادية عند كارنسكي في روسيا.
١٧ هاجم المثالية الألمانية، ونقد الدجماطيقية والقبلية، ورفض الكانطية
الجديدة والمثالية الذاتية عند بركلي، وكل التيارات المثالية بأنواعها، وانتقل إلى
المادية. وليس كل مادي جدليًّا بالضرورة، وليس كل مادي ثوريًّا بالضرورة. هناك مادية
منطقية معرفية خالصة مثل مادية كارنكسي، هدفها سلبي محض وهو نقد المثالية، لذلك أرخ
للوعي الأوروبي من وجهة النظر المادية.
وفي ألمانيا عارض كُولْبه مثالية الكانطيين الجدد التي كانت محاولة لإنقاذ كانط من
التفسير الوضعي له، فأصبح رائد الواقعية.
١٨ عكف على وصف منهج العلوم، واعتبره يقوم أساسًا على التحقق من صدق قضاياه
وأحكامه في الواقع. يبدأ بالواقع دون أية محاولة لإثباته ضد المتشككين فيه وضد كل اتجاه
يعطي الأولوية للوعي على الواقع كما هو الحال في المثالية أو حتى في المثالية
الموضوعية. الواقع الطبيعي موجود، وممكن معرفته، والتعامل معه، ولا حاجة إلى إثباته
وإيجاد البراهين على وجود العالم الخارجي، سواء كانت براهين عقلية أو تجريبية.
وفي إنجلترا ظهرت الواقعية في صورة إحياء للأرسطية على يد هُدجسون.
١٩ فخير مفسر لكانط هو أرسطو وليس أفلاطون كما حاولت الكانطية الجديدة. لذلك
صاغ نظرية مادية للواقع، ولكنه اعترف بالعالم اللامرئي بدافع عملي أخلاقي وليس بناء على
اعتقاد نظري. وواضح أثر كانط في التقابل بين العقل العملي والعقل النظري بالرغم من
قراءته من خلال مادية أرسطو، وكأنه أقرب إلى التوماوية الجديدة التي حاولت التخلص من
القراءة الأفلاطونية للفلسفة الحديثة. ولكن أشهر الواقعيين الجدد في بريطانيا، والذي
أصبح عَلَمها الأول، هو صمويل ألكسندر الذي يمثل رد الفعل الواقعي على المثالية في عصره.
٢٠ فالمعرفة جِماع فعل العقل والموضوع في عالم مستقل ذهنيًّا عنا. ومع ذلك تكشف
نظريته في المعرفة عن مذهب ميتافيزيقي يتتبع نشأة العالم من المكان والزمان كمادة أولية
إلى الله، وهو المثل الأعلى الذي لم يتحقق بعد. فهو يجمع بين كانط وبرجسون. حوَّل المكان
والزمان من مجرد صورتين فارغتين للحساسية إلى مادتين أوليتين للعالم، وتصور المادة حركة
وتطورًا خالقًا كما هو الحال عند برجسون. المادة حركة، وخرجت منها مادة ثانية. والحياة
والنفس طفرة بعد سلسلة من القفزات أي الدفعات الكيفية. وبعد خروج هذه القيمة الثلاثية
يأتي الملائكة ثم الله ابتداءً من هذه المادة الأولى: المكان والزمان. ويناضل التطور
الخالق باستمرار من أجل الخلق الجديد. وهنا تصعب التفرقة بين المثالية والواقعية، بين
الدين والفلسفة، بين الجمال والحياة أو بين الرُّوح والطبيعة بعد التوحيد بينهما منذ
شلنج
حتى برجسون. وقد تضم الواقعية الجديدة بالمعنى العام رَسِل، ومور، وهوايتهد، ولكن هؤلاء
في الحقيقة أقرب إلى فلسفة التحليل المعاصرة. وقد تضم كريستيان سمُتس فيلسوف «الكلية».
٢١ وهي الفلسفة التي قدمها هذا الجنرال من جنوب أفريقيا التي تجعل إدراك الكل
شرط إدراك أجزائه، فالعالم يحكمه الكل، ويقوم التطور الخالق فيه بإبداع أشكال جديدة في
المادة ضد قانون حفظ الطاقة. عامل التكامل فيه غير مادي، غيبي، صوفي. ويتجلى في السياسة
في وحدة جنوب أفريقيا مع النظام العنصري الذي يمثل عامل التكامل، الأقلية البيضاء وسط
الأغلبية السوداء. ويمثل ذلك نموذج انتقال فلسفة المركز إلى الأطراف ووظيفتها فيها، سواء
من فلاسفة المركز أو من أساتذة الأطراف.
وفي أمريكا ظهرت الواقعية الجديدة بالمعنى الضيق، خاصة عند وُدبريدج، وبيري،
ومونتاجيو. وقد صدر أول بيان لتأسيس الجماعة من ستة فلاسفة أمريكيين من ضمنهم مونتاجيو
وبيري وهم: هولت، مارفين، بيتكين، سبولدنج.
٢٢ يشاركون جميعًا في عدة مبادئ عامة مثل: استقلال موضوع المعرفة عن الذات
العارفة، واعتبار صفات الشيء جزءًا من الشيء وليس مجرد إدراك حسي، وأن ما ندرك هي ظواهر
الأشياء لا حقائقها، وأن هذا الإدراك مباشر دون توسط، وأن الإدراك لا يغير شيئًا من
الموضوع المدرَك. كما تبنوا عدة أسس عامة مشتركة مثل: الحس المشترك، والواقعية
الأفلاطونية، والواحدية الإبستمولوجية. كان وُدبريدج أقربهم إلى فلسفة الوعي منه إلى
الواقعية.
٢٣ فالوعي لديه عَلاقة معنى، ارتباط بالموضوعات. ومفهوم البنية أهم من الجوهر،
فهو أقرب إلى الذات منه إلى الموضوع بالرغم من رفض الواقعية الجديدة لهذه الثنائية
التقليدية. وكان بيري أبرز ممثل للواقعية الجديدة في أمريكا، يعادل صمويل ألكسندر في
إنجلترا، أقرب إلى فلسفة الأخلاق والسياسة منه إلى نظرية المعرفة. دافع عن الديمقراطية
الملتزمة.
٢٤ وفسر مونتاجيو الشعور والوراثة ومتغيراتها تفسيرًا آليًّا.
٢٥ وسمى فلسفته حيوية مادية. لذلك كان أقرب الواقعيين الجدد إلى فلسفة الحياة.
ثم حاول جورج سانتيانا تأسيس الواقعية النقدية ليتمايز بها عن الواقعية الجديدة، ولكنه
انتهى إلى الإغراق في الغنوصية والإيمان ليكشف عن مصير الفلسفة النقدية ذاتها.
٢٦ وارتبط بالكاثوليكية باعتبارها تاريخًا وجمالًا أكثر منها دينًا. بيَّن دور
العقل في النشاطات المتعددة للرُّوح الإنساني. يجمع مذهبُه بين الأفلاطونية والمادية،
بين
الشك والاعتقاد في المعرفة مثل كانط، وبين الرُّوح والمادة في الوجود كما هو الحال عند
شلنج. وبالتالي يكون سانتيانا أكثر الفلاسفة المعاصرين اتجاهًا نحو المذهب، نظرية
المعرفة ونظرية الوجود. كل العمليات العقلية تعبير عن اضطرار حيواني للاعتقاد في بعض
الأشياء مثل الإيمان بوجود المادة. وإدراك الماهيات يمكن أن يشرح الوجود ويوضحه ويجعل
العقل قادرًا على الاحتفاظ بطابع المادة التجريبية المتغيرة وهويتها. وتعني الواقعية
النقدية لديه إثبات الوجود الموضوعي للعالم المادي ثم إدراك الماهيات كصفات موضوعية
للأشياء. موضوع الجمال لديه هو اللذة والسعادة من أجل الخلاص من الجسد. كما يزاوج بين
الشعر والدين. ويقوم الاجتماع البشري على غريزة الصراع من أجل البقاء. لذلك كان من
النخبة المتميزة ضد الديمقراطية. ويمكن أن توصف فلسفته بأنها «شعر السلوك» يغيب فيها
النقد بقدر ما يحضر فيها الإيمان، ويحضر فيها الفرد ما يغيب المجتمع.
ثانيًا: نقد التجريبية
ونظرًا للجذرية المطلقة التي حمل لواءها الفكر التجريبي، وإيثاره رؤية كل شيء بالحس
بعد أن خُدع من قبل باسم المسلَّمات العقلية وبالنظريات المسبقة، وتصوره كل شيء موضوعًا
يخضع للكم والقياس ويوجد في المكان، فالظواهر النفسية لها مظاهرها الفيزيقية، والظواهر
الاجتماعية أشياء. نشأ الفكر المعاصر أيضًا للتركيز على نوعية الظواهر الإنسانية دون
الخروج على النظرية العلمية والعودة إلى المجردات، فالمعنى من الشيء، والظاهرة النفسية
حية في الشعور، والظاهرة الاجتماعية عَلاقات بين الذوات، فارتفع الواقع الحسي درجة نحو
الشعور، وأصبح واقعيًّا شعوريًّا في علمَي النفس والاجتماع. كانت الغاية من نقد
التجريبية رفع الخط النازل من ديكارت وبيكون وإعادته إلى أعلى حتى يلتقي بنقد المثالية
التي بدأت من ديكارت كخط صاعد، وبعد نقده بدأ في النزول من جديد ليلتقي مع نقد
التجريبية. وبالتالي يقترب الخطان نحو بؤرة واحدة لتحقيق وَحدة الشعور الأوروبي في نهاية
مراحل تكوينه. بدأ هذا النقد للمذهب التجريبي في علم النفس من أجل تأسيس علم نفس خالص،
وفي علم الاجتماع من أجل تأسيس علم اجتماع فلسفي أو نفسي خالص، وفي الفلسفة عن طريق
العود إلى كانط لدى الكانطية الجديدة.
(١) نقد علمَي النفس والاجتماع
بدأ نقد علم النفس التجريبي منذ أواخر القرن التاسع عشر في ألمانيا لتأسيس علم النفس
الجِشطلتي وعلم النفس الاستبطاني، بل وفي أمريكا لتأسيس علم النفس الغائي. ففي ألمانيا
نقد جيزر التيارات المادية في علم النفس الحديث.
٢٧ وغلبت على آرائه النزعة الأرسطية حول العِلِّية مع ثنائية شبه ديكارتية في
المعرفة. فالوعي الأوروبي لا يريد التضحية بواقعيته الممثلة في أحد مصادره وهو أرسطو،
وينقذ نفسه من ماديته في نهايته عن طريق العود إلى ديكارت في بدايته. ودرس ليبس أخطاء
البصر،
٢٨ وانتهى إلى نظرية الاستبطان وإلى أن كل موضوع حسي هو كائن حي، وأن كل
تجرِبة تمر بها هي عاطفة أو تعاطف أو وجدان مشترك. ولا يقتصر ذلك فقط على موضوعات علم
النفس بل أيضًا من موضوعات الفلسفة والفن. فمواضيع الإدراك ليست مجرد أشياء متحركة في
المكان بل هي رؤًى حدسية. وواضح من ذلك مدى الاقتراب من نهاية الوعي الأوروبي كما تجسدت
في الظاهريات عند هُوسِرل وشيلر. وقام كوفكا وكوهلر وفِرتهَيمر مؤسسو علم النفس الجِشطلتي
بنقد علم النفس التجريبي.
٢٩ فالكل سابق على الأجزاء، والأجزاء تخضع لقوانين داخل الكل وليست مجرد ترابط
طبقًا للمصادفة أو التجاور. ويتم الإدراك عن طريق تنظيم العين لمجال الرؤية في خطوط
ونقاط. موضوع الرؤية هو ما يظهر للرائي (الذات) وليس المرئي (الموضوع). وهو ما صب في
الظاهريات فيما بعدُ، سواء في سبق الكل على الأجزاء أو في نظرية الرؤية.
٣٠ واعتمد كوفكا على أبحاث كوهلر على الحيوانات. وتصدى للفكرة الشائعة عن
التعليم عن طريق المحاولة والخطأ مؤكدًا أهمية الإدراك الحدسي في التعليم. وانتهى
فِرتهَيمر إلى مفهوم الجِشطلت وهو يبحث الحركة الظاهرية، واكتشف أن إدراك الحركة يتم
عن
طريق تجرِبة متكاملة وليس مجرد ارتباط الحواس، وبالتالي الارتفاع بالتجرِبة على مستوى
الارتباط الشرطي إلى مستوى الشعور الخالص.
وفي أمريكا ظهر علم النفس الغائي في مقابل علم النفس التجريبي عند ماكدوجال.
٣١ فقد رفض تفسير السلوك الإنساني تفسيرًا آليًّا لأن النشاط الإنساني يتجه
نحو غاية. وصنف غايات الغريزة ضمن الغرائز الأولية من أجل تأسيس العلوم الاجتماعية وذلك
مثل: الهروب، النفور، حب الاستطلاع، احتقار النفس، تأكيد النفس، الغريزة الأبوية … إلخ.
ومع أنها غائية نفسية إلا أن لها انعكاساتها على باقي العلل الأخرى. وبالرغم من وقوعه
في الثنائية الميتافيزيقية التقليدية إلا أنه استطاع تصور تفاعل متبادَل بين طرفيها سماه
«النفسية» أو «الحياتية». ويتضح مدى قربه من برجسون واستعماله نفس المصطلحات مثل
«التطور الخلاق» مما يدل على تضافر عديد من التيارات في الفكر الأوروبي نحو غاية واحدة.
ثم أسس مورينو «السوسيومتري» وهو قياس الظواهر النفسية الاجتماعية الصغرى للجماعات
الصغيرة مثل: الأطفال في سن المدرسة، جيران السكن، موظفي المصلحة، طاقم الطائرة، مع
التركيز على العَلاقات الوجدانية بين الأفراد.
٣٢ أنماط هذه العَلاقات الاجتماعية في التعاطف، والتنافر، والحياة، وهي الدوافع
الأولى للتقدم الاجتماعي. وبذلك أصبح بدراسة العَلاقة بين الذوات من رواد علم الاجتماع
الظاهرياتي مثل شيلر في دراسته عن التعاطف الاجتماعي، جوهره وصوره. ثم انتقل من علم
النفس الاجتماعي إلى السياسة، وسلَّم بأزمة الرأسمالية في المجتمع الأمريكي، ولكنه رأى
أنه يمكن عن طريق تحليل العَلاقات النفسية حل المشكلات الناتجة عن هذه الأزمة دون تغيير
البنية الأساسية للمجتمع الرأسمالي، مثل: الملكية الخاصة، والاحتكار، والاستغلال. وفي
أمريكا أيضًا ظهر الفكر السياسي التاريخي عند فيسك في محاولته لتأريخ الفترة
الاستعمارية سلبًا، أي تأريخ النظريات الثورية في أمريكا في العصر الاستعماري.
٣٣ كما ساهم في صياغة هذه النظريات وهي في بداياتها. وكانت أعماله اللاهوتية
في الله وخلود الرُّوح مقروءة في عصره بالرغم من شكه فيها فيما بعد. كان التأليه لديه
أكبر رد فعل على التصورات الوضعية والمادية للتطور، مثل الداروينية التي تقوم على إنكار
الخلق من خارج الطبيعة.
وفي فرنسا ظهر عند جيرفتش علم اجتماع مثالي جدلي كرد فعل على علم الاجتماع الوضعي،
٣٤ فقد أسس نوعًا من علم الاجتماع يقوم على تجاوز النزعة التجريبية مع الإبقاء
على الجدل عند فشته وهيجل لدراسة المجتمع في كل أبعاده ومستوياته وتناقضاته. فهو علم
اجتماعي لا تاريخي، صوري، مثالي أكثر مما هو عند ماكس فيبر. يرفض الحتمية الاجتماعية
والقوانين الموضوعية. رفع علم الاجتماع الوضعي عن طريق العود إلى روسو وفشته. كان أحد
رواد علم اجتماع المعرفة. وارتبط بحركة السلام العالمي.
(٢) الكانطية الجديدة
لم يظهر نقد التجريبية في نقد علم النفس التجريبي وعلم الاجتماع الوضعي فحسب، بل
ظهر
أيضًا في «الكانطية الجديدة» في ألمانيا وفرنسا. وتضم المدرسة الألمانية بعد مؤسِّسَيها
ليبمان ولانجه ست مدارس فرعية: مدرسة ماربورج، والمدرسة الفيزيولوجية، والمدرسة
الواقعية، ومدرسة هيدلبرج أو مدرسة بادن بادن، ومدرسة جوتنجن، والمدرسة الاجتماعية. كما
ارتبط بها فلاسفة كبار مثل: نيقولاي هارتمان وهَيدجر، وعلماء اجتماع مثل ماكس فيبر. أما
الكانطية الجديدة في فرنسا فأشهر ممثل لها هو رينوفييه. وقد اجتمعت المدرسة على عدة
مبادئ عامة مشتركة منها: إحياء الفلسفة النقدية، وإنقاذ الوعي الأوروبي من المذهب
التجريبي والتأويلات الوضعية لكانط عن طريق العود إلى أفلاطون، وقراءة كانط من خلاله،
وتغليب الجانب القَبْلي اللاتجريبي اللانفسي، المنطقي الصوري الترنسندنتالي الخالص، على
الجانب البَعدي التجريبي النفسي المادي في فلسفة كانط، ومعارضة الاتجاه النفسي التجريبي،
خاصة في مدرسة ماربورج عند كوهين وناتورب، وتأسيس الفلسفة على الفكر الخالص، كما أسسها
كانط على الأفلاطونية، والبحث عن المنطقي والقبلي المستقل عن التجرِبة في شتى العلوم
الإنسانية، في الجمال والأخلاق وعلم النفس والقانون والاجتماع والتاريخ. اعتبرَت الشيء
في ذاته تصورًا محدَّدًا وليس شيئًا لا يمكن معرفته كما هو الحال عند كانط. الواقع بناء
عقلي وليس عالمًا مستقلًّا عن العقل. بل إن الشيء في ذاته أو عالم الباطن نفسه الذي آمن
به كانط من بناء العقل. أما عالم الظاهر فإنه عالم واقعي هو عالم الأفكار. وعلى هذا
النحو اعتُبرت الكانطية الجديدة إحدى صور المثالية. فقد تحدث هِرمان كوهين أحد زعماء
مدرسة ماربورج عن العالم باعتباره فعلًا خلاقًا للفكر. وقد اعتُبرت أيضًا إحدى
صور الوضعية؛ لأنها كانت في نفس الوقت ضد الميتافيزيقا التأملية البعيدة عن التجرِبة
وتحليلها بالعقل. لذلك كانت الكانطية الجديدة إحدى الإرهاصات الأولى للظاهريات. وقد
أسس المدرسة فيلسوفان ألمانيان في القرن التاسع عشر: ليبمان، ولانجه، كردِّ فعل على النزعة
التجريبية، ولبيان أهمية القبلي في المعرفة.
٣٥ واشتهر لانجه بتأريخه للمادية من وجهة نظر كانط، والبرهنة على الحدود
الفلسفية للمادية الميتافيزيقية، وتقديره لقيمة المادية كمنبه ومثير للفكر النقدي كما
حدث لكانط مع هيوم.
وتُعتبر «مدرسة ماربورج» أشهر فرع من الكانطية الجديدة. أسَّسها: هِرمان كوهين، بول
ناتورب، إرنست كاسيرر، رودولف شتاملر. اهتمت بفلسفة العلم واستعمال المنطق
الترنسندنتالي عند كانط. اعتبرَت المعرفةَ كلها قَبْلية. ورفضت التسليم بوجود الشيء في
ذاته
لأن الشيء لا يوجد إلا إذا كان معطًى في التجرِبة. ولا يوجد أي واقع إلا ما يضعه الفكر
سواء كان شيئًا أو ذاتًا أو حتى إلهًا. أنكرَت الجانب المادي في فلسفة كانط، وحاولت
إعادة تأسيس المادية الذاتية. وظيفة الفلسفة ليست إعطاء معرفة بالعالم، بل تحديد منهج
ووضع منطق للماهيات. أنكرَت الواقع الموضوعي، وميزت بين المعرفة البَعدية الآتية من
المادة الحسية، والإدراك المعرفي الخالص، وهي عملية منطقية لإبداع تصورات ابتداءً من
مبادئ في مقدمتها مبدأ الالتزام الذي تحول لديها من مستوى العقل العملي، كما هو الحال
عند كانط، إلى مستوى العقل النظري. أعطى هِرمان كوهين المدرسة أساسها النظري بتفسيره
المثالي للتصورات الموضوعية العلمية والمقولات الفلسفية على أنها بناءات منطقية.
٣٦ وطبق ناتورب المنهج الترنسندنتالي لتفسير أفلاطون وعلم النفس ومناهج البحث
في العلوم المضبوطة.
٣٧ لم يساهم ناتورب في تطور الفلسفة النقدية، بل مهد الطريق للتصوف الفلسفي،
وكأن المثالية بالضرورة التي هي عقلانية الدين تعود إليه من جديد، وتتخلى عن عقلانيتها،
وتغرَق في التصوف. ثم طبق إرنست كاسيرر آراء مدرسة ماربورج في تاريخ المعرفة وتاريخ الفلسفة.
٣٨ وهاجم الفكرة القائلة بأن المجردات العلمية انعكاس للواقع. وأحال الواقع
المادي إلى مقولات الفكر الخالص، واستبدل بقوانينه مقولات مثالية. فالإدراك المعرفي نوع
من التفكير الرمزي. درس المعرفة العلمية وتاريخ الفلسفة الحديثة واعتبره تقدمًا
مستمرًّا للصياغات المختلفة. واعتمد على التحليل التفصيلي للمعرفة العلمية في الرياضيات
وعلوم الكيمياء ونظرية النسبية عند أينشتين. وبرهن على موقفه المعرفي بعدة أعمال في
تاريخ الفلسفة القديمة وفي عصر النهضة وفي فلسفة التنوير، وعدة مؤلفات أخرى عن حياة كانط
ولَيبنتز. أما شتاملر فقد طبق مبادئ الكانطية الجديدة كما مثلتها مدرسة ماربورج في فلسفة
القانون،
٣٩ وبالتالي كان أقرب فلاسفة مدرسة ماربورج إلى المدارس الاجتماعية في
الكانطية الجديدة.
وأما المدرسة الفيزيولوجية فكان على رأسها هِرمان فون هلمولتز.
٤٠ وقد حاولَت إيجاد الأسس العقلية التي تقوم عليها العلوم الفيزيولوجية. فلم
تقتصر الكانطية الجديدة على العلوم الإنسانية وحدها بل امتدت أيضًا إلى العلوم
الفيزيولوجية لتخفف من حدة نزعتها التجريبية، وتردها إلى التصورات الذهنية التي تقوم
عليها.
ثم حاولت المدرسة الواقعية بزعامة ريل إحداث التوازن في الكانطية الجديدة باعتبارها
أحد تيارات القرن العشرين التي تحاول الجمع بين البعدين الأساسيين في الوعي الأوروبي:
المثالية والواقعية، وبعد أن ركزت مدرسة ماربورج على الجانب العقلي القبلي.
٤١ وفي نفس الوقت تثبت المدرسة الواقعية أن الواقع ليس تجريبيًّا كما هو الحال
في النزعة التجريبية ولكنه مشروط بالفكر، عودًا إلى كانط من أن الحدوس بلا مقولات
عمياء.
وازدهرت مدرسة هيدلبرج أو مدرسة بادن أو المدرسة التاريخية عند فِندِلبَند
وريكيرت. وقد نشأت ضد النزعة التاريخية والتاريخ الطبيعي، وهي النزعة التجريبية بعد أن
امتدت إلى العلوم التاريخية. فالتاريخ يستند إلى قيم حضارية وليس مجرد وقائع أو حوادث
مادية. والتصورات والمبادئ ليست مجرد انعكاس للواقع، بل تحول الواقع إلى فكر، أي مبادئ
قبلية. وتنكر المدرسة حتمية القوانين التاريخية نظرًا لأنها تحقُّق للقيم، ومن ضمنها
الحرية الإنسانية. كان فِندِلبَند كانطيًّا جديدًا أو فشتيًّا جديدًا أو هيجليًّا جديدًا
نظرًا لتركيزه على القبلي كما يفعل فشته وعلى التاريخ كما فعل هيجل.
٤٢ أرخ للفلسفة من وجهة نظر كانط مبينًا الخلاف المنهجي بين العلوم الطبيعية
والعلوم التاريخية؛ الأولى عامة وشاملة، والثانية خاصة وفردية؛ الأولى إدراك للعام،
والثانية إدراك للخاص. وهو يشبه التقابل عند كانط بين العقل النظري والعقل العملي. وإذا
أمكن البرهنة العلمية على العلوم الطبيعية فإن ذلك يستحيل في العلوم الاجتماعية. ثم بحث
ريكيرت إمكانيات المعرفة ومناهجها في الميادين المختلفة، خاصة العلوم التاريخية والفلسفية.
٤٣ فهناك منهجان: التجريد العام في العلوم الطبيعية والتجريد الفردي في العلوم
التاريخية؛ الأول يضم عددًا لا نهائيًّا من الموضوعات ويسمح بالتجريد والنسق، والثاني
يسمح بإقامة عَلاقات بين الحوادث والظواهر والقيم الأخلاقية. الماهيات الأفلاطونية
موجودة في العالم في صورة قيم باختيار الإنسان الحر، وهي التي تتحكم في السلوك
الاجتماعي. فعلم الأخلاق أساس علم الاجتماع. وتحقيق الفلسفة غايتها في نسقها. وكان
ريكيرت لا يعود فقط إلى كانط بل أيضًا إلى فشته وهيجل. وتحت أثر فشته أقام مثالية
ترنسندنتالية لا تقوم على تجاور المعرفة والوجود، تجاور الصورة والمادية كما هو الحال
عند كانط، بل على التقائهما معًا في وجود شعوري. الفلسفة هي تحوُّل تصور الوجود إلى قيمة،
وتحول الوعي الفردي إلى وعي عام. ليست القيمة شيئًا ماديًّا بل هي موافقة وتصديق،
٤٤ وبالتالي يتحول الواجب الصوري عند كانط إلى قيمة شعورية عند ريكيرت. وواضح
هنا اقتراب الكانطية الجديدة من فلسفة الحياة التي ستظهر أيضًا في العلوم الاجتماعية،
خاصة عند زِمِّل، وتصبح فلسفة مستقلة تمهد الطريق إلى الظاهريات. ثم تطورت مدرسة هيدلبرج
من التاريخ إلى باقي العلوم الإنسانية في فلسفة القيم عند مونستربِرج، ولاسْك، ثم في
علم
الجمال عند كوهين وكريستيانسن. ثم تطورَت إلى ذاتية وإرادية ضد الماركسية وأسسَت علم
اجتماع مناهض لعلم الاجتماع الماركسي عند ثايمر، وريتر.
٤٥ فأنكرَت قوانين تطور المجتمعات. واعتبرَت الاشتراكية مجرد ظاهرة خلقية، مثلًا
أعلى فوق الطبقات، بل إن ماركس نفسه لا بد من تفسيره بكانط وقراءته من خلاله، فماركس
تلميذ هيجل، وهيجل تلميذ كانط. أخرجَت من الشيوعية العلمية مضمونها الاقتصادي السياسي.
كما أنكرَت النضال الثوري وديكتاتورية البروليتاريا. أثَّرَت في الماركسية الرسمية ثم
استعملتها الماركسية التحريفية في الدولية الثانية (برنشتين، كاوتسكي، آدلر، فورلاندر)
ضد الماركسية الداروينية. وأصبحت الفلسفة الرئيسية المناهضة للماركسية. هاجمها لينين،
ومع ذلك ما زال أثرها في فلسفة القيم وفي بعض الاتجاهات الكانطية عند هوجو دي فريس، وكرافت.
٤٦ وبالتالي أصبحت عكس مدرسة فرانكفورت التي تبنت الماركسية داخل العلوم
الاجتماعية، وطورت العلوم الاجتماعية نحو الالتزام، وأعطت الأولوية للبناء الاجتماعي
على الأخلاق المثالية. وقد قام ماركوز بالهجوم على الماركسية الكانطية عند آدلر لتأسيس
ماركسية فرويدية جديدة.
أما مدرسة جوتنجن الكانطية الجديدة فقد كان على رأسها ليونارد نيلسون، مقتفية أثر
جاكوب فريس.
٤٧ ولم تختلف أسسها العامة عن المبادئ المعروفة عند باقي مدارس الكانطية
الجديدة.
ويمثل المدرسة الاجتماعية النسبية جورج زِمِّل.
٤٨ بحث الأثر المتبادل بين الأفراد، وركز على المجموع دون الفرد، وبين أهمية
التفاعل النفسي الذي هو قوام الحياة الاجتماعية والعَلاقات المتبادلة. ويُعرَف عادة بأنه
مؤسس علم الاجتماع الشكلاني؛ لأنه يعتبر أشكال التجمع وأنواع التبادل بين الأفراد هو
موضوع علم الاجتماع. دافع في أول حياته عن علوم إنسانية وضعية نسبية ضد العلوم
المعيارية والمقاييس المطلقة، ثم تخلص بعد ذلك من آثار النزعة التجريبية لصالح
ميتافيزيقا الحياة التي تضم النزعتين والاتجاهين الكانطييَن والكانطييَن الجديدَين:
المثالي والواقعي. فالحياة مفارقة الذات لنفسها دون توقف، وتجاوز الواقع نفسه إلى
مثال.
وقد ارتبط فلاسفة آخرون في ألمانيا بكانط أو بدءُوا بالكانطية الجديدة وجعلوها إحدى
مراحل حياتهم ثم استقلوا عنها وكونوا مذاهبهم وفلسفاتهم الخاصة وذلك مثل ماكس فيبر،
سِيجْوارت، كونو فيشر، نيقولاي هارتمان. نقد فيبر علم الاجتماع الوضعي والماركسي.
٤٩ فالتفسير في العلوم الاجتماعية والتاريخية لا يكون من النوع الفيزيقي
الاقتصادي. ولا يمكن للتحليل الاقتصادي أو التكنولوجي الخالص تفسير تطور الرأسمالية.
فللأفكار الدينية والأخلاقية أهمية أساسية مثل الكالفينية وأخلاق الزهد الصارمة وعقيدة
القدر المسبقة للنجاة أو الهلاك في نشأة الرأسمالية.
٥٠ ركز على أهمية مناهج البحث في العلوم الاجتماعية مبينًا أن دراسة الظاهرة
الاجتماعية مختلفة عن دراسة العلم الخالص لأن الأولى تتضمن الوعي الإنساني والأفعال
الحرة التي لها دلالتها الخاصة، تعتمد على الفهم والتعاطف والحدس من أجل الوصف
والتفسير. لذلك ارتبط بالكانطية الجديدة والوضعية في آنٍ واحد. جوهر الظواهر الاجتماعية،
سياسية أو اقتصادية أو قانونية أو جمالية، لا يتحدد موضوعيًّا بل ذاتيًّا من وجهة نظر
الفاحص، وهي ظواهر لها دلالات حضارية. تدرس العلوم الاجتماعية الجوانب الفردية للظواهر.
وبدلًا من التجريد العلمي اقترح «النمط المثالي»، وهو نمط ليس له أي أساس في الواقع بل
مجرد وسيلة لفهم الواقع وتركيبه وتفسيره على عكس الماركسية التي تركز على العوامل
التاريخية. لذلك جعل البعض علم الاجتماع عند فيبر مشروعًا مناهضًا لعلم الاجتماع
الماركسي الذي يعطي الأولوية للأبنية الاجتماعية. وانتسب سِيجْوارت إلى المثالية الذاتية
على طريقة مدرسة ماربورج.
٥١ وأقام المنطق على علم النفس، وهو علم التفكير الصحيح. الضرورة فيه مقياس
الحقيقة. له دلالة شاملة، وليس على أساس في العالم الموضوعي. يبدأ بمسلَّمات بديهية.
كما
طور نظرية الاستدلال. ومع ذلك نقده هُوسِرل، واعتبره أحد ممثلي النزعة النفسية في المنطق.
وتحت أثر هيجل ونظرته إلى تاريخ الفلسفة انضم كونو فيشر إلى محاولات إحياء الكانطية ولكن
بناءً على معاداة النقيضين المتباعدين: الميتافيزيقا العقلية التأملية والتقدم المادي،
وليس فقط بناء على نقد النزعة التجريبية كما هو الحال عند الكانطيين الجدد.
٥٢ ثم نقل نيقولاي هارتمان الكانطية الجديدة إلى الأُنطولوجيا النقدية.
٥٣ انتسب أولًا إلى مدرسة ماربورج والكانطية الجديدة ثم رفض مثاليتها الذاتية
وتصورها لعَلاقة المعرفة بالوجود. وأسس في مقابلها «الأُنطولوجيا النقدية»، وتعني أنه
في
الوجود هناك العضوي واللاعضوي، الرُّوح والنفس، لا فرق بين الرُّوح والطبيعة على طريقة
شلنج والفلاسفة الألمان من أجل التعبير عن الرُّوح الموضوعي على طريقة هيجل. فالعود هنا
ليس إلى كانط وحده بل إلى الفلاسفة بعد كانط، شراح كانط، هيجل، وشلنج. وطبق مذهبه
الأُنطولوجي النقدي في نظرية القيم والجمال والمعرفة. فاعتبر القيم الأخلاقية موجودة
أُنطولوجيًّا، وكذلك تصورات المعرفة والقيم الجمالية. ومع ذلك لم تخل فلسفته من بعض العناصر
اللاعقلانية والغنوصية. فكل أشكال الوجود عنده سر، وكأنه يعود من جديد إلى ميتافيزيقا
الوجود عند دانز سكوت ووليم أوكام والمعلم إيكهارت، أو إلى السر الأعظم عند يعقوب البوهيمي،
أو حتى عند الوجوديين المعاصرين من أمثال جابريل مارسيل. بدت بذور اللاعقلانية في الفكر
الغربي المعاصر في إطار نقد الميتافيزيقا والمادية بالعودة إلى اللاشعور والإغراق في
الغنوصية والإيمان والتصوف.
وقد امتدت الكانطية الجديدة خارج ألمانيا، في فرنسا عند شارل رينوفييه وهاملان، وفي
إيطاليا عند كانتوني وتوكُّو، وفي روسيا عند ففيدينسكي وشِلبانوف. عُرفت فلسفة شارل
رينوفييه باسم «النقدية الجديدة الظاهراتية».
٥٤ وتقوم على إنكار كل الكائنات الترنسندنتالية مثل: الشيء في ذاته، المطلق،
الحقائق الباطنة. كما ظهرت الكانطية أيضًا خارج المركز في الأطراف، وخارج الوعي
الأوروبي المركزي، بل في امتداداته في أمريكا اللاتينية، ليس بهدف نقد النزعة التجريبية
ورفع اتجاه الوعي الأوروبي من الواقع المادي إلى الواقع الفكري، ولكن تعبيرًا عن
المثالية المتضمَّنة في الدين الذي يمثل جوهر الوعي في الأطراف. ظهر ذلك عند نونيز
ريجويرو في الأرجنتين.
٥٥ أعاد طرح الأسئلة الثلاثة الكانطية المشهورة في «المقدمات لكل ميتافيزيقا
مستقبلة …» وإجابة على السؤال الأول: ماذا يجب عليَّ أن أعرف؟ أجاب ريجويرو بأن العلم
لا يقول أي شيء نهائي عن أي شيء، وفي العالم تناقضات في كل مكان تقضي على غائية
الإنسان. وإجابة على السؤال الثاني: ماذا يجب عليَّ أن أعمل؟ أجاب بأن جوهر الأزمة
وسببها هي أزمة القيم. مشكلة الفعل هي مشكلة القيمة، وعلى الإنسان أن يرفع نفسه من
مستوى الفعل إلى مستوى القيمة حتى يصبح العالم ذا معنى. وإجابة على السؤال الثالث: ماذا
يجب عليَّ أن آمل؟ أجاب بأن المسيح هو المثل الأعلى الذي يجب عليَّ أن آمله. وتبدو هنا
طبيعة الفلسفة في الأطراف؛ إعطاء الأولوية للأخلاق على المعرفة، وللعمل على النظر،
وللقيمة على التصور، بناءً على الوعي الديني الكامن وراء الوعي الفلسفي. وفي منطقتنا
العربية يمثل عثمان أمين هذا التيار، ليس كانط وحده بل المثالية الأوروبية ترجمةً
وتأليفًا وإبداعًا فيما عُرف عنه باسم «الجَوَّانية»،
٥٦ ثم إعادة قراءة التراث القديم، خاصة اللُّغوي والفلسفي والصوفي، بل والفكر
العربي المعاصر، من هذا المنظور.
ثالثًا: الجمع بين المثالية والواقعية
كان نقد العقلانية ونقد التجريبية في الوعي الأوروبي في مرحلة النهاية في القرن
العشرين محاولات سلبية لضم التيارين الرئيسيين فيه نحو بؤرة واحدة مشتركة لإعادة وحدته
من جديد التي بدأ منها. ثم بدأت محاولات إيجابية لضم هذين البعدين في الوعي الأوروبي
كما
فعل كانط من قبل ثم الكانطيين، وهيجل ثم الهيجليين، بما في ذلك الهيجلية الجديدة
والكانطية الجديدة. وقد بدأ هذا الضم عن طريق إيجاد فلسفات تجمع بين الطرفين بصرف النظر
عن الألفاظ مثل: العقلانية والوضعية، والرُّوحانية والوضعية، والمثالية والمادية، الذاتية
والموضوعية، الحدسية والنفعية، العقلانية والواقعية. وهي كلها ألفاظ متقابلة تكشف عن
الرغبة في الجمع بين بُعدي الوعي الأوروبي في ميادين المعرفة والوجود والأخلاق. ولما
صعب التوفيق المباشر بينهما بلا واسطة نشأت فلسفة الحياة بصرف النظر عن مظاهرها لتعيد
الكرة من جديد وتحاول الجمع بين التيارين بتوسط عالم الشعور.
(١) المثالية الموضوعية
بصرف النظر عن دقة التسمية يشير هذان اللفظان المتقابلان إلى كل المحاولات التي نشأت
لضم التيارين المتعارضين في الوعي الأوروبي دون توسط، سواء في الوعي القومي الفرنسي أو
الألماني أو الإنجليزي أو الأمريكي. وقد بدأت هذه المحاولات في الوعي الفرنسي أولًا
لأنه هو الأقرب إلى الوحدة والبداية بالتجرِبة الحية. بدأت المحاولة فيه مبكرًا للغاية
منذ القرن التاسع عشر عند كورنو.
٥٧ اهتم بنظرية الاحتمالات، وحاول أن يشق طريقًا بين العقلانية والوضعية.
فاعتبر النظام والحدوث، الاتصال والانفصال، واقعَين على نفس المستوى. وقد أدى هذا الوضع
الميتافيزيقي إلى أن الإنسان بالرغم من أنه لا يستطيع الوصول إلى الحقيقة في الطبيعة
إلا أنه يمكن أن يَزيد من احتمال تصوره لها. وبالتالي اتفقت رياضياته الاحتمالية مع
نظريته في المعرفة. لقد حاول الجمع بين الفكر والتاريخ وبين العقل والطبيعة في الحياة.
وكتب رافيسون قليلًا إلا أنه أثر أثرًا بالغًا في الفكر الفرنسي في اتجاه الرُّوحانية
الدينامية لمين دي بيران.
٥٨ وكان أستاذًا لبرجسون. تنبأ بفلسفة المستقبل «الرُّوحانية الوضعية» في تقريره
عن الفلسفة الفرنسية. ركز على الجوانب الرُّوحية في الشخصية الإنسانية، خاصة في ميادين
الفن والأخلاق. ربط بين الميتافيزيقا وعلم النفس كعادة الفلاسفة الفرنسيين. وهو بمثابة
شلنج فرنسا.
وفي ألمانيا حاول لوتزه إيجاد فلسفة وسطى بين المثالية والمادية مع سيادة المثالية.
٥٩ وهو تجريبي في العلوم، غائي مثالي في الفلسفة، مؤلِّه في الدين، شاعر وفنان
في الوجدان. سلم بوجود عوالم ثلاث: عالم الحقائق الضرورية، وعالم الوقائع، وعالم القيم.
تسيطر الآلية في ميدان العلوم الطبيعية، ولكنها لا تعطي معاني، فهي مشروطة وتابعة للقيم
وللعقل الذي يحتوي على خطة معينة للعالم. أما علم النفس العِلِّي فإنه يقوم على التوازي
النفسي الجسمي (السيكوفيزيقي)، وهو نوع من الميتافيزيقا التطبيقية يظهر فيها مفهوم
الرُّوح على أنه وحدة التجرِبة. يحاول العلم البرهنة على وجود اتساق في الطبيعة. أما
الوجود فإنه عَلاقة. والشيء ليس مجموعة متراصة من الصفات بل وحدة متكاملة ينظمها قانون.
والأثر الطبيعي يصعب تفسيره كما يصعب تفسير الوجود. ومع ذلك فهو ناتج عن المطلق الواحد
ذاتًا وأفعالًا. والجوهر اللانهائي، أي الله، هو الخير، وهو إله شخصي لأن الشخصانية أعلى
قيمة، وبالتالي الأكثر واقعية. ولا يمكن معرفة كل شيء. وتبقى المعرفة الشاملة وحدها مع
الله. كل مظاهر الوجود مثل وحدة القانون، والمادة، والقوة تنتج الجمال الذي يمكن إدراكه
عن طريق الاستبطان. وواضح بداية توحيد التيارين المثالي والمادي في الجمال والدين. وكان
لمنطق لوتزه أثر واضح على ظاهريات هُوسِرل، وبداية الشخصانية مع الظاهريات وبعدها. كما
استطاع فولْكِلت ضم المثالية الألمانية في شتى صورها منذ كانط ليعيد تحليل المعرفة.
٦٠ فالمعرفة لها مصدران: الأول: المادة التجريبية التي بدونها لا تحدث معرفة
فعلية بالعالم الخارجي، وهي مادة مستقلة عن الوعي. والثاني: الفكر المنطقي الذي يصوغ
المادة الحسية الأولى. فالمعرفة إذن نتاج العمليات العقلية على المادة الحسية. أما
الواقع فإنه يتجاوز الذات، والذات نفسها لا هي واقع مادي ولا هو شعور ذاتي، هي عالم بين
عالمين، بها واقع وبها فكر. وعلى هذا النحو يمكن الارتباط بين التيارين الرئيسيين في
الوعي الأوروبي كإرهاص للظاهريات.
وفي إنجلترا تم التوحيد بين التيارين ليس فقط على مستوى المعرفة والوجود بل أيضًا
على
مستوى الأخلاق على يد سِدجْوِيك.
٦١ حاول في فلسفته الأخلاقية الجمع بين الحدسية والنفعية، إذ إنه وصفها بأنها
نفعية على أساس حدسي. والإلزام الخلقي الذي يشعر به الإنسان والذي يمكِّنه من الحصول
على السعادة يمكن إدراكه بالحدس. أما القواعد الخلقية الخاصة فإنها تُعرف بالمنفعة
لتحقيق هذا الإلزام. وعلى هذا النحو يمكن تبرير شرعية الأخلاقية. وللتوفيق بين المصلحة
الشخصية والمصلحة العامة، أي بين القواعد الخاصة والمبادئ العامة لا بد من التأليه
الطبيعي والعقلي.
٦٢ فالله هو الضامن لإمكانية هذا التوفيق.
وفي أمريكا ظهرت أيضًا محاولات للتوحيد بين التيارين على مستوى الاجتماع والسياسة
على
يد رافائيل.
٦٣ فقد حاول الجمع بين العقلانية والواقعية. فأهمية العقل ترجع إلى أنه مطبق
في ميدان وليس عقلًا في فراغ. ويمكن حل جميع المتناقضات عن طريق جمعها في أقطاب مما يدل
على رغبة الوعي الأوروبي في تجاوز ثنائياته التقليدية والنزوع نحو بؤرة مشتركة واحدة
هي
القطب الذي يتجه إليه التياران المتقابلان. كما حاول كولكنز إقامة مثالية موضوعية مثل
رويس، شخصانية مطلقة، وتأسيسها في الجِشطلت.
٦٤ وهنا تبدو الرغبة في الجمع بين التيارين في وسط ثالث هو علم النفس أو
الشعور، وهو ما تجلى بعد ذلك في الظاهريات.
(٢) فلسفة الحياة
عندما لم تفلح المحاولات التي قدمتها الفلسفات الحديثة من أجل ربط هذين الخطين
المنفرجين: التيار العقلي والتيار التجريبي اللذين خرجا من نقطة البداية الأولى في
الكوجيتو الديكارتي، بعد محاولة كانط للربط بين الحس والفهم والعقل كثلاث طوابق متتالية
في الشعور، ومحاولة هيجل لإعادة الوحدة الباطنية الجدلية بين الفكر والواقع أو بين
المعرفة والوجود بدأت الفلسفة المعاصرة في نقد الاتجاهين معًا حتى يسهل ضمهما معًا في
تيار واحد يصب في بؤرة ثانية هي الشعور. ولما كانت محاولات الجمع الأولى من أجل خلق
مثالية موضوعية قد تمت في النهاية باسم المثالية وتحت تأثيرها وربما لحسابها جاءت
محاولات جديدة باسم فلسفة الحياة تنقد العقل لحساب اللامعقول سواء كان في اللاشعور أو
في إرادة الحياة أو في الحياة — القوة أو في الحياة العاقلة (الطريق الثالث).
ظهرت فلسفة اللاشعور عند إدوارد فون هارتمان،
٦٥ فاللاشعور لديه، مثل شوبنهور، أساس الوجود والأخلاق، والرغبة أساس الشقاء،
وتركها أساس السعادة. ويمكن للإنسان أن يتجاوز السعادات الدنيوية عن طريق تنظيم المجتمع،
وذلك عن طريق ترك أوهام ثلاثة مسيطرة على الإنسان: السعادة الدنيوية، السعادة الأخروية،
السعادة في تقدم المجتمع، ومن ثَم أصبح ممثلًا للرهبنة السياسية والفكرية، وبالتالي جمع
بين النزعة الإرادية عند شوبنهور وعقلانية هيجل وتصور شلنج حتى يتغلب على النزاع بين
العقلانية واللاعقلانية، وذلك بوضع اللاشعور كبؤرة مشتركة يلتقي فيها التياران. كما أثبت
مطلقًا محايدًا ما دامت الفكرة والإرادة متفقتين. وتحته تتدرج كل القيم في وحدانية
ذاتية، مثالية ظاهرية، واقعية ترنسندنتالية، شقًّا لطريق ثالث بين الآلية والحيوية، يقوم
على الغائية. حاول صياغة مذهب حيوي جديد، ونقل شوبنهور من التشاؤم إلى التفاؤل، ومن
اللاغائية إلى الغائية.
ثم تحول عالم اللاشعور من مستوى الميتافيزيقا إلى مستوى علم النفس على يد فرويد.
٦٦ استعمل في علاجه وسائل التنويم المغناطيسي بالإضافة إلى مناهج الارتباط
الحر وتفسير الأحلام. ولم يكتشف وسائل العلاج النفسي للأمراض النفسية والعصبية فحسب،
بل
انتهى إلى نظرية نفسية تعتمد على مركزية الغريزة الجنسية وعالم اللاشعور في حياة
الإنسان. فالنفس الإنسانية تتكون من ثلاثة مستويات: «الأنا» وهو المستوى الاجتماعي
الظاهر ومجموعة الرغبات الباطنة، و«الأنا الأعلى» الذي يقوم بدور الرقيب والذي يمثل
الأخلاق والدين والقانون والمدنية، و«الهو» الذي يمثل الواقع الاجتماعي. وكان له أثره
البالغ في تجاوز الثنائية الديكارتية بين العقل والشعور، وبين النفس والبدن. ثم قلل
آدلر من أهمية الغريزة الجنسية وزاد من أهمية الأنا.
٦٧ وحلل عقدة النقص الناتجة عن العيوب الجسمية والنفسية وتعويض الأنا عن ذلك
وتحويلها إلى مغالاة في التفوق. ثم قدم يونج نوعًا من التحليل النفسي هو «علم النفس
التحليلي» الذي يحلل الصراع والتوتر الحالي عند المرضى، ويرفض التفسير الجنسي للأمراض
العصبية، ويتمايز عن التحليل النفسي عند فرويد وعلم النفس الفردي عند آدلر.
٦٨ يستعمل منهج فرويد في الارتباط الحر وتحليل الأحلام، ومع ذلك له آلياته
الخاصة لتحليل تداعي الكلمات يختلف فيها عن فرويد. يقلل من أهمية دور الجنس، ويؤكد على
أهمية دور الصراع الحالي على صراع الطفولة وعقدها الماضية في شرح الأمراض العصبية
وتفسيرها. وهو معروف أيضًا بتصنيفه لأنماط الشخصية إلى انطوائية وانبساطية طبقًا لاتجاه
الفرد في العالم الخارجي. ويميز بين وظائف أربعة للعقل: التفكير، والشعور، والإحساس،
والحدس. وغاية الإنسان في الحياة هي تحقيق الانسجام النفسي بين تنمية الذات والإخلاص
للعالم الخارجي.
وتأخذ فلسفة الحياة في ألمانيا منحًى آخر انطلاقًا من اللاشعور إلى ما فوق الشعور،
وتتحول إلى إرادة القوة، وتتجسد في «السوبرمان» عند نيتشه.
٦٩ غلب على كتاباته الرمز والغموض، وأسلوبه نثري عويص لا يخلو من شاعرية مثل
أسلوب لاروشفوكو، فوفنارج، وطريقته لا مدرسية. درس شوبنهور وإمرسون، وتعلم منهما أكثر
مما تعلم من كانط أو هيجل. ويعتبره فوكو مع ماركس وفرويد أعظم ثلاثة فلاسفة معاصرين.
عارض نماذج فلسفة التنوير، وآثر النَّموذج الأرستقراطي للإنسان المتفوق. ركز على الجوانب
اللاشعورية والإرادية للإنسان (ديونيزيوس) على حساب الجوانب العقلية الشعورية (أبوللو).
نظريته للمعرفة أداتية، والحقيقة لديه وجهة نظر، كما سيبدو عند أورتيجا فيما بعد، ضد
الوضعية التي تثبت موضوعية الوقائع بلا تفسير. لذلك كان نيتشه من واضعي أسس علم اجتماع
المعرفة، وكما هو واضح في دراسته في الصلة بين العقائد وظروف نشأتها الاجتماعية
والتاريخية، كما فعل مانهايم فيما بعد ومدرسة فرانكفورت، بل ولدى فلاسفة العلم مثل كون
وفيرباند. وبالرغم من حاجة الإنسان إلى الميتافيزيقا إلا أنه عادى المثالية التي تعقل
الحياة وتنفي الوجود. نقد الثنائية التقليدية التي تفصل الحياة عن الوجود كما هو الحال
عند ديكارت وكانط. ونقد الأخلاق المسيحية والنفعية، وعادى الدين وآمن بالإلحاد. وهو صاحب
العبارة الشهيرة «إن الله قد مات» منتهيًا إلى العدمية المطلقة. ساهم في نقد اللغة
باعتباره العمل الرئيسي للفلسفة، فالتفكير لغة لتزييف الواقع. دور اللغة الكشف عن
التجارِب الحية حتى نبقى على مستوى البيولوجيا دون أبنية نظرية أو لغة فردية. وعلى هذا
النحو يكون نيتشه أحد رواد فلسفة التحليل المعاصرة، بل وأحد المصادر الرئيسية في الفلسفة
المعاصرة ينقلها من فلسفة الحياة إلى فلسفة الوجود كما هو الحال عند ياسبرز في كتابيه:
«نيتشه»، «نيتشه والمسيحية»، وهَيدجر في كتابه «نيتشه» (جزءان).
٧٠ ثم شاعت فلسفة الحياة عند كُتاب الجمهور العريض في ألمانيا أيضًا مثل أوكن.
٧١ وهو صاحب ميتافيزيقا رُوحية في مقابل المثالية والمادية وأشكالها من طبيعية
ووضعية وآلية. والحياة الرُّوحية تجرِبة تقوم على المعارضة والصراع لتؤكد الذات المقاوِمة
لإيجاد بدائل عن النزعتين الرُّوحية والطبيعية. وهي اختيار حاسم في المواقف. وكل
المتعارضات جزء من الحياة الرُّوحية. والتوفيق بين النزعتين كدافعين حيويين ليس مجرد
حدس
عقلي بلى هو جهد فردي شجاع، عمل ملتزم ومخلص. ويحاول أوكن بذلك التوفيق بين التجرِبة
الحية والبروتستانتية الليبرالية. ويضع بدلًا من العقلانية المثالية مثاليةً نشطة قائمة
على فهم الحضارة وإيجاد الدلالة الرُّوحية للحركات التاريخية. فحوادث التاريخ وحدات حياة،
والمنهج التاريخي يرد الوقائع الجزئية إلى عَلاقاتها مع نفسها ومع منطقها الذاتي في جدل
تاريخي يقوم على نقد ذاتي للمبادئ المباطنة في الذهن والتي تقوم الأبنية الفلسفية عليها.
٧٢ كما طالب بضرورة التجديد الحضاري وكأنه بداية طريق طويل يحذر من الأزمة،
سار فيه شبرانجر، واشبنجلر، وتوينبي فيما بعد. وقد تقوم فلسفة الحياة على أساس بيولوجي
كما هو الحال عند دريش.
٧٣ أسس «الحيوية الجديدة» ضد التفسير الآلي للحياة، ويقوم المذهب على التسليم
بوجود قوة حيوية أبدية أو كمال أو طبيعي ذي حياة بالقوة، وهو المفهوم الأرسطي القديم
«الأنتلخيا». والغائية تحدد المسار الكلي للعملية الحيوية التي لا يمكن تفسيرها
بالعلم.
وفي فرنسا ظهرت فلسفة الحياة عند جان ماري جويو.
٧٤ وبالرغم من عمره القصير إلا أنه يُعتبر نيتشه فرنسا. جمع بين فلسفة الحياة
والمادية. والأخلاق تعبير عن فورة الحياة، بلا إلزام ولا جزاء. وتكوِّن مع الدين
والاجتماع والجمال علوم المستقبل التي ترث الدين، فالمستقبل لا دين له. غلب على أسلوبه
الإنشاء وهو في حُمُوَّة معارضة الفلسفة العقلية القديمة. ثم استأنف نفس التيار فوييه
لإعادة بناء الميتافيزيقا في التجرِبة.
٧٥ حاول تأصيل اللاعقلانية بكتابة تاريخها الحديث، كما حاول صياغة فلسفة
تصورات العالم مثل دِلتاي تقوم على رصد مختلِف صيغ التعبيرات عن الحياة. ولكن تظل فلسفته
قائمة على إعادة النظر في الأخلاق المثالية وتأسيسها على العلوم الاجتماعية، ونقد
الأخلاق الكانطية ووضعها في نسق واحد مع الفن والدين والقانون والاجتماع. تقوم الأخلاق
الجديدة على «الفكرة-القوة» وهي تعادل إرادة القوة عند نيتشه. وكان من أوائل الذين
كتبوا في «علم نفس الشعوب» سواء على المستوى القومي أو على المستوى الأوروبي. وكان يغلب
عليه أيضًا الخطابة والإنشاء. كما ظهرت فلسفة الحياة عند جورج سُورل ليضع أسس نظرية
العمل المباشر مؤكدًا على دور العنف في التاريخ.
٧٦ العنف تعبير عن الإرادة، وهي الفكرة في أفعالها المتحققة، خلق وإبداع،
أخلاق وفعل وإنتاج. يرفض الحلول الوسط لأنها علامة البرجوازية الساقطة. الأساطير
الاجتماعية وسائل لا عقلية لتوجيه الشعوب، وهي قادرة على العمل المباشر. ولا تقوم
الاشتراكية إلا بالعنف الذي تمارسه البروليتاريا المتعلمة والمنظمة. ثم استطاع برجسون
صياغة فلسفة الحياة على نحو علمي دقيق وبأسلوب فلسفي محكم.
٧٧ وأراد أن يشق طريقًا ثالثًا بين الصورية والمادية. أبدع عالمًا فلسفيًّا
جديدًا وأسلوبًا يجمع بين الدقة العلمية والصورة الأدبية. بدأ بالهجوم على المادية في
علم النفس، وعلى التوازي بين الظاهرة النفسية والظاهرة الجسمية وقوانين الإحساس عند
فِشنر، وعلم النفس المعملي عند فُوند لإثبات الديمومة والإحساس الداخلي بالزمان، علامة
الحرية، كمعطًى مباشر للوجدان. كما فنَّد النظريات النفسية المادية التي تعتبر ملكات
النفس مثل التذكر في مراكز حسية في المخ كما هو الحال عند شاركو. ثم فند النظرية
التطورية الآلية المادية عند دارون ولامارك وسبنسر. وحاول الرد على أينشتين وإثبات خلطه
في الزمان بين المعية والديمومة، ثم أوقف المعركة بعد رد أينشتين عليه وعدم قدرة برجسون
على مجاراته في الرياضيات. وارتبطت فلسفته بالجمال في دراسته عن الضحك، ولتطبيق نفس
الحدس وهو تحول الحياة إلى الآلة، والكيف إلى كم، والمتحرك إلى ثابت، هو ما يدفع
الإنسان إلى الضحك. وأخيرًا ردَّ على تصور علم الاجتماع الوضعي للدين عند دوركايم وليفي
برِيل للتمييز بين الدين الثابت والدين المتحرك، ولنقد الإلزام الخلقي عند كانط ووضع
أخلاق حيوية تقوم على نداء البطل ودافع الرُّوح. وبقدر ما كان الفكر الغربي المعاصر يحاول
تجاوز الثنائية الديكارتية القديمة إلا أنه في معرض رفعه للمادية وقع في ثنائية أخرى
من
أجل كشف البعد الشعوري الذي ردته المادية إلى مستواها. وقع في ثنائية جديدة، ثنائية
العقل والحدس، المادة والذاكرة، الكم والكيف، الامتداد والتوتر، التطور والخلق، المكان
والزمان، الخارج والداخل، الثابت والمتحرك. وهي أشكال جديدة للثنائية القديمة بين البدن
والنفس. واهتم دوكاس مثل برجسون بعلم النفس الرُّوحي الذي يكشف عن عالم الحياة، ظاهرها
وباطنها من خلال التراسل الرُّوحي.
٧٨
وفي إسبانيا ظهرت فلسفة الحياة عند أونامونو وأورتيجا بحيث لم يعد هناك فرق بينها
وبين الفلسفة الوجودية. تقوم فلسفة أونامونو على ثنائية الصراع بين العقل والإيمان،
والفكر والحياة، والمدنية والحضارة.
٧٩ الطرف الأول يمثل التجرِبة الخارجية والآلية ويعادل العقل والكم والمكان عند
برجسون. والثاني يمثل الحياة والباطن والحركة مثل الحدس والكيف والزمان عند برجسون. وهو
بذلك لا يعبر عن أزمة إسبانيا وحدها بل عن أزمة الوعي الأوروبي كله. الفرد غاية في
ذاته. والمسئولية الفردية تقع على المدينة تجاه كل إنسان. ومع أن الإنسان يعيش في مجتمع
إلا أنه يعيش بلحمه وعظمه ودمه في حين أن المجتمع مجرد. الإنسان العِياني بالضرورة ضد
كل
ما هو مجرد في المجتمع والإنسانية. وعلى هذا النحو تتأسس الأُنطولوجيا العِيانية. والكلمة
لديه تعني قدرة الإنسان على إدراك العالم إدراكًا حدسيًّا مباشرًا ثم تحويله إلى قول
وفعل، إلى لغة وسلوك. ويؤمن أونامونو بالخلود لأن الإيمان يتجاوز العقل، ويتفوق عليه.
ويتضح هنا في بداية التحول من فلسفة الحياة إلى الوجودية الجمع بين الفلسفة والأدب
كأسلوبين في التعبير.
٨٠ واستمر في نفس التيار تلميذه أورتيجا إي جاسيه.
٨١ وبالرغم من أثر الكانطية الجديدة عليه إلا أنه كان ضد العقلانية الأوروبية،
فالحياة لها الأولوية على كل شيء، والأشياء ليس لها وجود أو قيمة مستقلة عن الحياة، تأخذ
الأشياء دلالاتها من حياة الإنسان. الحياة في جانب والعقل في جانب آخر، ولا يعني ذلك
أنهما منفصلان. هناك تعارض جدلي بينهما، ووجود الإنسان وسط هذا الجدل. ليست الحياة وجودًا
بل صيرورة، غاية وتحقق، حاضر ومستقبل، زمان وكرامة. والوجود الإنساني هو الذات وسط
الظروف، الأنا في التاريخ، الوجود في الموقف. أما ما اصطُلح عليه سلفًا باسم نظرية
المعرفة فهي وجهة نظر لتفسير العالم ولما كانت وجهات النظر متعددة فهناك فلسفات متعددة،
كلها صواب. المطلق الوحيد هي الحياة الفردية، الأنا وظروفه الذي عليه تلتقي كل وجهات
النظر. لذلك عُرفت فلسفته باسم «فلسفة المنظور». ومن ثم لا فرق بين الفلسفة والفن،
كلاهما منظور.
٨٢ والفلسفة عند شيراو بالاو ليست مجرد تلاعب بالمفاهيم والتصورات بل هي
وسيلة لمساعدة الإنسان على تطوير إمكانياته الفطرية لتحقيق الشخصية.
٨٣ الفلسفة أقرب إلى التربية، تهدف إلى تحقيق رسالة علمية. وهنا يبدو أيضًا
التحول من فلسفة الحياة إلى الفلسفة الوجودية من خلال الظاهريات. وكما هو العادة في
انتقال الفلسفة الأوروبية من المركز إلى الأطراف فقد انتقلت فلسفة الحياة من أوروبا إلى
أمريكا اللاتينية مثلًا عند أليخاندرو ديُوستُوَا.
٨٤ فقد ميز بين نوعين من الحرية: الثابت والمتحرك، مثل قسمة برجسون للدين
والأخلاق؛ الثابت ينطلق بالنظام الكوني وتناغم الظواهر، والمتحرك خلق وإبداع متعلق
بالإنسان. ليس العالم وجودًا كما هو عليه بل كما نعيشه ونجربه. عالم الشعور هو نقطة
الالتقاء بين الحريتين، وتكون الغلبة فيه للحرية المتحركة على الحرية الثابتة، أي
للإنسان على الطبيعة. وعلى هذا الأساس تكون الأخلاق ممكنة بغلبة الحرية على الحتمية.
وواضح أن فلسفة الأطراف كامتداد لفلسفة المركز مركزة في أمريكا اللاتينية أكثر منها في
آسيا وأفريقيا نظرًا للقرب الحضاري بين أوروبا وأمريكا على عكس البعد الحضاري بين
أوروبا من ناحية وأفريقيا وآسيا من ناحية أخرى.
(٣) الطريق الثالث
منذ بداية الوعي الأوروبي وشقه إلى قسمين متباعدين ومتنافرين ابتداءً من ديكارت وبيكون
حتى أتت البدايات التالية للربط بينهما ولإعادة الوَحدة إليه. ظهر ذلك في البداية
الثانية عند كانط الذي حاول الجمع بين الحساسية الترنسندنتالية والجدل الترنسندنتالي،
أو
بين هيوم دون الوقوع في الشكية وفولف دون الوقوع في القطعية. كما ظهر في البداية
الثالثة عند هيجل الذي حاول الجمع بين التيارين معًا، الحسي والعقلي، دون الوقوع في
التجاور والثبات والتخارج كما كان الحال عند كانط، وجعلهما وَحدة عضوية واحدة متحركة،
فالصلة بينهما صلة جدلية تاريخية. كانت هذه المحاولات تتم عن طريق المسك بالخطين معًا،
وتقريب المسافة بينهما إلى أقصى حد ممكن، نقد عيوب كل تيار بعيوب الآخر، وإلغاء
الطرفين، أو ضرب كل منهما بالآخر حتى يظهر الصواب في الوسط المتناسب. وكان ذلك يتم
بثلاث طرق: الأولى: نقد الصورية التي انتهت إليها العقلانية لإنزال هذا التيار إلى أسفل
حتى يقترب من الحس والتجرِبة من خلال الحدس والتجرِبة الحية. والثانية: نقد المادية التي
انتهت إليها الحسية التجريبية لرفع هذا التيار إلى أعلى ليقترب من العقل من خلال الوعي
أو الشعور. والثالثة: القيام بالحركتين معًا من خلال اكتشاف طريق ثالث بين الطرفين،
وإيجاد مقولة ثالثة مثل التجرِبة الحية، الشعور بالزمان، الوجود الإنساني … إلخ، لشق
طريق
الوسط مباشرة واللجوء إلى التجربة الحية التي تمسك بالطرفين في آنٍ واحد، فإذا ما ظهر
الوسط الجديد اقترب الطرفان القديمان. وظهر فلاسفة يمثلون هذا التيار الثالث الذي يجمع
بين التيارين المتباعدين بصرف النظر عن مكانهم الجغرافي: ألمانيا، بريطانيا، فرنسا،
إيطاليا، إسبانيا، أمريكا، مما يدل على وحدة الوعي الأوروبي على الرغم من تركيز بعض
مناطقه على تيار دون آخر مثل المثالية في ألمانيا، والحسية في إنجلترا، والتيار الثالث
في فرنسا.
وقد بدأ ذلك منذ القرن الثامن عشر ووقوع كانط في الجمع الآلي بين التيارين. فقد حاول
توماس ريد شق طريق ثالث بين مثالية بركلي وشك هيوم، كما حاول مين دي بيران تأسيس
الفلسفة على تجرِبة الجهد والتذكر قبل برجسون بقرن من الزمان. وقد حاول معظم فلاسفة
الحياة ذلك، خاصة في فرنسا عند جويو، وفوييه، وبرجسون، وفي إسبانيا عند أونامونو
وأورتيجا، بل أيضًا عند كبار الفلاسفة في القرن التاسع عشر مثل كيركجارد ونيتشه. بل لقد
كان ذلك هو المشروع الرئيسي للفلاسفة بعد كانط: فشته، وهيجل، وشلنج، وشوبنهور. ثم تحول
الأمر إلى مشروع قصدي، سواء قبل الظاهريات عند دِلتاي وبرنتانو، أو في الظاهريات عند
هُوسِرل
وشيلر، أو بعد الظاهريات في الوجودية الظاهراتية عند ميرلوبونتي وجابريل مارسيل وياسبرز
وهَيدجر وسارتر. وأصبح طابعًا عامًّا لكل الفلسفات المعاصرة بين الظاهريات والوجودية
مثل
الشخصانية والتوماوية الجديدة. بل لقد تجاوز ذلك إلى فلسفة العلم ذاتها الرياضي
والطبيعي، كما هو الحال عند هوايتهد وبرود.
وكان دِلتاي أول من حاول شق هذا الطريق الثالث ابتداءً من فلسفة الحياة.
٨٥ تأثر بكانط وبالتجريبية الإنجليزية معًا. ركز على نظرية المعرفة آخذًا في
الاعتبار الرغبة الإنسانية والفكر والحس، فالعقل والحس كلاهما مظهران للنشاط الإنساني.
نقَد التأملات الميتافيزيقية على أسس تجريبية بالرغم من أهمية الميتافيزيقا في تكوين
تصورات العالم. كما نقد التجارِب الحسية على أسس عقلية بالرغم من أهمية هذه التجارِب
في
الكشف عن الحياة. كان همه الأول خلق فلسفة حياة قائمة على فحص الدراسات الإنسانية
والاجتماعية ودراسة العَلاقة بين التجارِب الحية والتعبير والفهم، فهم العقل، وكيف يتوجه
نحو الأدب واللغة والتاريخ. وكان من أوائل واضعي علم التفسير «الهرمنيوطيقا» الحديث.
سُميت فلسفته «تصورات العالم» التي تجتمع فيها كل العلوم الإنسانية تعبيرًا عن مرحلة
تاريخية معينة تعبر عن «رُوح العصر» كما شاء هيجل من قبل لولا أنه استل الشعور من
التاريخ. ثم طور شبرانجر فكر دِلتاي مؤيِّدًا علم النفس الوضعي دون شرح أو تفسير بل
اعتمادًا على الفهم وحده.
٨٦ وهي التفرقة التي ستظهر فيما بعد في الظاهريات الاجتماعية بين الشرح أو
التفسير وبين الفهم. واقترح أنماطًا مثالية تمثل مقولات قيم مطلقة. هذه الأنماط لفهم
الشخصية هي مجرد مخططات للفهم، مجرد أداة نظرية لفهم الناس. وكان ذلك مقدمة لعلم النفس
الوصفي عند برنتانو، وفي الظاهريات عندما كانت في مرحلتها الأولى علم نفس وصفي.
ولكن الذي نقل فلسفة الحياة إلى فلسفة الشعور القصدي قبل الظاهريات هو برنتانو.
٨٧ حاول إنقاذ علم النفس من النزعة التجريبية مثل باقي فلاسفة الحياة. ميز بين
ثلاث صور للنشاط النفسي: التمثل، والحكم، وظاهرة المحبة والكراهية. وهي ثلاثة أحوال
للقصدية، أي موضوعات نفسية يتجه الشعور نحوها برؤية حدسية باطنية. ويمكن للحكم أن يكون
واضحًا بذاته ويكون صائبًا كما يكون الحب صحيحًا. الحياة العقلية أساسها في النفس.
فالعقل يتجه نحو الشعور. وأفعال العقل أفعال شعورية وهو ما سيسميه هُوسِرل فيما بعد فعل
الشعور العاقل، ومضمون الشعور العاقل.
٨٨ والنفس خالصة، أقرب إلى الرُّوح منها إلى البدن، والرُّوح حامل للخير والعدل
والحكمة، تأتي من الله. كان أرسطي النزعة وكأن الوعي الأوروبي لينقذ حاضره بالعودة إلى
ماضيه. كما ميَّز مينونج بين ثلاثة عناصر في التفكير: فعل الذهن، مضمون الذهن، موضوع
المضمون.
٨٩ الموضوع في العالم الخارجي يتجه نحو الذهن. قد يكون موجودًا وقد لا يكون.
أما المضمون فهي صفة الذهن التي تمكِّن الانتباه من أن يتجه نحو الموضوع. لقد أعلن مينونج
اكتشاف علم قبلي جديد كما أعلن هُوسِرل فيما بعدُ وضع الصياغة الأخيرة له في الظاهريات.
ويتمحور هذا العلم الجديد على نظرية الموضوعات. وهو ليس ميتافيزيقا كما أراد كانط أو
فلسفة محكمة كما أراد هُوسِرل بل علم الواقع الذي طوره هُوسِرل في مقولته الشهيرة: «كل
شعور
هو شعور بشيء»، ثم هَيدجر في شعاره «العودة إلى الأشياء ذاتها». كل قصد للشعور موضوع
سواء
كان طبيعيًّا أو رياضيًّا أو نفسيًّا، إلى أسفل أو إلى أعلى أو إلى الإمام. والأحكام
إما واضحة أو مجرد افتراض. ومع ذلك ظلت الموضوعات لديه أقرب إلى علم النفس منها إلى
الميتافيزيقا. لذلك اتهمه هُوسِرل بالوقوع في النزعة النفسية. وجعل إرِينفِلز الرغبة
أول
عامل في التقييم.
٩٠ ففي الرغبات تتولد البواعث والقيم. وكان له أثره البالغ على نظرية القيم
بالرغم من نسبيته ونزعته التطورية وإعطائه الأولوية لعلم النفس على الأخلاق. وقد أيقظ
برنتانو أيضًا شتومف من سباته كما أيقظ هيوم كانط، مما يدل على أنساب الفلاسفة وتولد
بعضهم من بعض.
٩١ وهو أفلاطوني واقعي مثل معظم الفلاسفة المعاصرين الذين يريدون الجمع بين
التيارين المتباعدين: الأفلاطونية والأرسطية، وكما حاول الفارابي من قبل في «الجمع بين
رأيَي الحكيمين، أفلاطون الإلهي وأرسطوطاليس الحكيم» وكأن الفلسفة الأوروبية المعاصرة
هي
مشروع الفارابي بعد ألف عام. طبق شتومف نظريته في تحليل العواطف في علم نفس الصوت
والموسيقى، وتحليل الصلة بين الإحساسات والتمثلات، ومحاولة إعادة بناء الميتافيزيقا
استقرائيًّا باعتبارها استمرارًا للعلوم. ونظرًا لأهمية شتومف كمرحلة متوسطة نحو
الظاهريات بين برنتانو وهُوسِرل، أهداه هُوسِرل كتابه «بحوث منطقية».
وفي إنجلترا حدث نفس الشيء، نقد التيارين المتباعدين: الصوري في الرياضيات والمادي
في
الطبيعيات والتوسط بينهما بالإنساني سواء في الأدب أو في الفلسفة أو في تاريخ الفلسفة.
فطبق كارول الرياضيات في الانتخابات وفي أدب الأطفال.
٩٢ أدخل في مجموعته القصصية الأولى بعض الأحاديث المنطقية الفلسفية التي تقوم
على التناقض. ثم تم الانتقال من الرياضيات والطبيعيات إلى «فلسفة العضو الحي» عند
هوايتهد، من مرحلته الأولى كفيلسوف الرياضة والطبيعة إلى مرحلته الثانية كفيلسوف الحياة
والصيرورة والواقع وكأنه برجسون إنجلترا.
٩٣ لذلك كتب عنه برجسون كما كتب عن وليم جيمس. وتمتد جذور فلسفته إلى
التجريبية البريطانية. فالطبيعة لديه موضوع للملاحظة من خلال الإدراك الحسي. ونقَد قسمة
الطبيعة إلى طبيعة ظاهرة وهي علم التجرِبة المباشرة مثل اللون والصوت، والطبيعة العِلِّية،
عالم العلم الذي يخبرنا بالعالم على ما هو عليه، عالم الجزئيات المتحركة والحاملة للون
والصوت. العلم الطبيعي كشف حساب الإدراك الحسي وليس التأمل حول العلل. ومتأثرًا
بالنظريات النسبية قام بتحليل هذا العالم من خلال الحواس إلى بنية ذات أربعة أبعاد
تتداخل فيها الحوادث، أهمها بُعد المكان ودور المفاهيم الرياضية مثل النقطة والخط التي
لا تعطي مباشرة في التجرِبة، بل يتم تحديدها وكأنها أشياء أو مجموعة حوادث متداخلة فيما
بينها في نموذج من البساطة والوضوح. وأعاد تأسيس الميتافيزيقا ابتداءً من النسبية مع
نقد
الميتافيزيقا التقليدية التي تقوم على التسليم بالجوهر الثابت الذي له صفات الأجسام
الثابتة على طريقة نيوتن، أو الحس الخالص على طريقة هيوم. وهو القسمة القديمة الناتجة
عن
ثنائية ديكارت لقسمين غير متعادلين. هناك واقع واحد، الظاهر كما يبدو للحس، أو لا شيء
خارج التجرِبة. لا توجد تصورات ثابتة ولا جواهر في العالم. والإنسان وسط هذا كله بعواطفه
وأفكاره ودينه. الطبيعة واقع متغير، عملية متطورة، تجرِبة حية. لذلك قارب هوايتهد
الواقعية الجديدة التي تضم المثالية والواقعية معًا أو المثالية الموضوعية. الواقع
صيرورة كلية، كل جزء فيه عملية تطور وخلق ذاتي عن طريق الاختيار وإعادة التنظيم للمادة
بحيث تصبح مادة متطورة ذاتية للكل المثالي، مثل دوائر النبات والكائنات العضوية الأخرى.
ويقترح هوايتهد استعمال مفاهيم نابعة من دراسة العضو الحي ثم ينتقل منها إلى تفسير
الحياة اليومية من الطبيعيات إلى علم النفس الإنساني، محاولة لتصوير الواقع الإنساني
دونما حاجة إلى الخطاب المجرد للتعبير عن الحياة اليومية. ثم تحول من ذلك كله إلى
فلسفة الدين، فصيرورة الله الأولى، إلى العالم الطبيعي، طبيعة الله الثانية. وهكذا يتم
العودة إلى العالم من أجل اكتشاف الله. وفي فلسفته الاجتماعية يرى هوايتهد أن الأفكار
هي العامل الحاسم في التاريخ، وأن الشخصيات المتميزة مثل العلماء هم الذين يسيطرون على
العالم. وكان برود مثل دِلتاي على مستوى إنجلترا.
٩٤ أخذ من العلم مناهجه الفعالة. وصنف كل القضايا المستعملة في كل العلوم،
وحدد مفاهيمها الأساسية للبحث عن رؤية شاملة وراء العلوم، واصفًا التجارِب الجمالية
والدينية والأخلاقية والسياسية. بحَث الصلة بين الرياضة والمادة الحسية، وكذلك الصلة
بين
النسبية والقياس. كل شيء يحدث في ارتباطات المادة دون أي توجيه لا مادي. أما الصفات
الثانية فهي انبثاقات من فوق الطبيعة، انبثاقات القوانين والصفات والأنواع. المادة
والنفس حياة العقل، وتبقى النفس بعد الموت في مكان كوني لا محدود. وتتحدد وتنفصل عن
الجسم في شروط معينة. لذلك اهتم بعلم النفس الرُّوحي مثل برجسون وجابريل مارسيل. كان
أقرب
إلى الواقعية الجديدة نظرًا لربطه بين الماهية والوجود. ثم انتقل من ميدان العلوم
الطبيعية إلى ميدان الفلسفة العامة. وحلل الأفكار والعقائد في عدة ميادين، بما في ذلك
فلسفة الذهن والميتافيزيقا والمعرفة. ميز بين الفلسفة النقدية والفلسفة التأملية؛
الأولى تقوم بتحليل المفاهيم الأساسية لقضايا العلم والحياة اليومية ولكنها قد تعطي
تصورًا ضيقًا للحياة، والثانية بالرغم من أنها لا تعطي حقائق قابلة للبرهنة عليها إلا
أنها يمكن أن تكوِّن رؤية كلية جامعة لنتائج العلوم الطبيعية والدين والفن والنظريات
الاجتماعية والحس المشترك.
وانتقالًا للفلسفة الأوروبية من المركز إلى الأطراف، خاصة في أمريكا اللاتينية، انتقلت
فلسفة الحياة أيضًا بحثًا عن طريق ثالث يتكامل فيه البعدان الرئيسيان للحياة، المثال
والواقع، بناء على مطلب الحياة الوطنية. فهاجم كورن الوضعية الساذجة والقطعية دفاعًا
عن
وضعية وطنية أرجنتينية.
٩٥ وآمن بالحدس والغائية والتطور والقيمة والإيمان الشخصي على طريقة برجسون.
كما جمع بين الحرية الأخلاقية والحرية الاقتصادية بناء على ظروف العالم الثالث. كما
تدور فلسفة تلميذه روميرو حول محاور ثلاثة: الأول المشكلات أو الإشكاليات على طريقة
أرسطو، وتعني إعطاء الحق لكل الوقائع ضد بناء المذهب، وهذا هو مقياس المعرفة. والثاني
فلسفة تصورات العالم واعتبار البنيوية تصورًا باطنيًّا جديدًا للعالم في مقابل تصورات
خارجية مثل التطورية والآلية والعقلية. والثالثة الشخصانية، وتشير إلى بعد المفارقة،
أي
إلى ميدانَي القيمة والتاريخ.
٩٦ وواضح تكيف الفكر الغربي المعاصر مع ظروف العالم الثالث في رفض المذهبية،
والرغبة في تكوين فلسفة جديدة للتاريخ وتأكيد حقوق الإنسان.
رابعًا: الظاهريات
والظاهريات عند هُوسِرل هي تقريبًا خاتمة المطاف في تكوين الوعي الأوروبي؛ لأن الفلسفة
الوجودية هي تطبيق للمنهج الظاهرياتي في الوجود، ولأن الشخصانية حلقة اتصال بين الظاهريات
والشخصانية عند شيلر والشخصانية عند مونييه في فرنسا وباون وزملائه في أمريكا، ولأن
التوماوية الجديدة والأوغسطينية الجديدة، مثل فلسفة بلوندل ونيبور، تجمع بين فلسفة الحياة
والظاهريات والشخصانية والتوماوية الجديدة، وترتبط بالظاهريات المتأخرة عند هُوسِرل،
خاصة في
مخطوطاته، عندما تحولت إلى نزعة أخلاقية صوفية رُوحية إيمانية. أما الفكر السياسي
الاجتماعي الاقتصادي التاريخي ومدرسة فرانكفورت فإنه يمثل محاولة في الظاهريات
الاجتماعية عن طريق رفض الفكر السياسي التقليدي والماركسية الداروينية من أجل تحليل
جدلي اجتماعي على مستوى الإنسان. أما الفلسفة التحليلية التي تضم الفكر الرياضي المنطقي
وفلسفة العلوم فإنها أيضًا خرجت من ثنايا الظاهريات عن فتجنشتين. فالظاهريات عند هُوسِرل
نهاية تكوين الوعي الأوروبي، وما بعدها تطبيقات لها في الأخلاق والدين والسياسة والمنطق
واللغة … إلخ. الظاهريات إذن أكثر من فلسفة فيلسوف بعينه، بل هي الوعي الأوروبي نفسه
عندما يعلن عن نهاية البداية عند ديكارت وبداية النهاية في الوجودية العدمية والفلسفة
التفكيكية. ومع ذلك فقد ارتبطت باسم إدموند هُوسِرل.
٩٧ فقد صاغ الظاهريات كعلم خالص شعوري لا تجريبي ولا صوري من أجل تحقيق وَحدة
الوعي الأوروبي وإعادة تأسيس نظرية العلم التي حاولها ديكارت ثم كانط ثم فشته ثم هيجل.
وكانت الهدف الأقصى للوعي الأوروبي كبديل عن الوحي القديم الذي مثلته الكنيسة والعلم
القديم الذي مثله أرسطو. الظاهريات هو مشروع الفلسفة الأوروبية كلها بعد أن تحقق منذ
ديكارت حتى هُوسِرل. هي القصدية الحضارية للوعي الأوروبي بعد أن استعاد وجوده من ثنايا
العصر الوسيط والفلسفة المدرسية والسلطة الكنسية وتبعية القدماء، وأثبت ذاته في العصور
الحديثة منذ إحياء الآداب القديمة والإصلاح الديني وعصر النهضة، وبدايةً بديكارت الذي
وضع
بؤرة الذاتية في «الأنا أفكر» واكتمالها في «الأنا موجود». لم تنشأ الظاهريات مرة واحدة
وإلى الأبد بل خرجت من أزمة العلوم الإنسانية، خاصة المنطق والرياضة تجاوزًا وعلم النفس
والفلسفة حقيقة. كانت الظاهريات حتى ١٩٠١م، أي حتى «بحوث منطقية»، مجرد دراسات في الرياضة
والمنطق وعلم النفس، ولم تكتمل كظاهريات إلا في ١٩١٣م بظهور الجزء الأول من «الأفكار»
ثم
ظهور الجزأين الثاني والثالث في ١٩٢٤-١٩٢٥م. ثم تحولت الظاهريات بعد ذلك إلى تطبيقات
في
العلوم الإنسانية لإثبات أصالة المنهج وجِدَّته في التطبيق في المنطق وعلم النفس والفلسفة
والأخلاق والحضارة. وهي مرحلة «علم النفس الفينومينولوجي» ١٩٢٥م، «المنطق الصوري والمنطق
الترنسندنتالي» ١٩٢٩م، «التجرِبة والحكم» الذي ظهر قبل وفاته بقليل في ١٩٣٨م، ثم مؤلفاته
في
تاريخ الفلسفة: «الفلسفة الأولى» بجزأيها ١٩٢٣-١٩٢٤م، «تأملات ديكارتية» ١٩٢٩م، وأخيرًا
«أزمة العلوم الأوروبية» ١٩٣٥-١٩٣٦م.
(١) المصادر والتكوين
وتُعتبر ظاهريات هُوسِرل مراجعة للمحاولات السابقة لنقد المنطق الصوري ونقد المنطق
التجريبي، ومحاولة تأسيس علم جديد خالص ينبثق من عالم الشعور. فقد حلل هُوسِرل مرات عديدة
المنطق الرياضي عند بولزانو في نظرية العلم، كما ناقش نظرية الفكر عند ميمِّل. لم يستطع
هذا المنطق أن يشق طريق الظاهريات لأنه لم يستطع البحث عن الماهية بالحدس القبلي،
وإقامة الفلسفة وعلم النفس على معرفة الماهية. إن غياب حدس الماهيات في المنطق الرياضي
جعله مجرد منطق خالص للتمثلات كما هو الحال في عمل النفس، أو جعله صوريًّا خالصًا كما
هو
الحال في الرياضة. لقد خلط المنطق الرياضي بين المنطق والرياضة. صحيح أنه قدم لنا نظرية
جديدة في نقد العقل ولكنه لم يعطنا تقييمًا لها. لذلك أتت الظاهريات لتطوير هذه النظرية
وبيان إمكانياتها، وتوضيح ما غمض منها، وإكمال ما نقص فيها، ونقلها من المستوى الرياضي
والمنطقي إلى المستوى الظاهرياتي. إن التحليل النظري للتصورات خطوة حاسمة نحو
الظاهريات. ولكن المنطق الرياضي من حيث هو نظرية في العلم نظرية رياضية تنقصها نظرية
في
المعرفة ونظرية في المنطق. لذلك أتت الظاهريات لتقوم بدور حاسم في تطوير المنطق الرياضي
ونقله من علم الصور المنطقية إلى علم الأُنطولوجيا العامة.
وقد تناول هُوسِرل أيضًا المنطق الفلسفي عند لوتزه وبيَّن أن الحس الجذر بالمبادئ
ينقصه، إذ لم يستطع النفاذ إلى الأسس النظرية للأفكار، ولم يستطع توضيح المشكلات
المتشعبة منه. لقد كان جل همه محاولة التوفيق بين الذهن والعاطفة دون القيام ببحث جذري
حاسم في الموضوع. لم يستطع لوتزه في تفسيره لنظرية المُثُل أن يستخلص كل إمكانياتها،
وظلت
نظرية المعرفة لديه مملوءة بالتناقضات. ولم تتجاوز الظاهريات على يديه إقامة بعض
العَلاقات القبلية بين المضامين الحسية دون أن يعرف التصور الحقيقي لحدس الماهيات أو
مقياسًا مطلقًا للحقيقة. لذلك كان تصوره القبلي بلا قيمة. وقد استطاعت الظاهريات وحدها
إعطاء نظرية عامة للشعور من حيث هو مضمون وبناء للأشياء. وهكذا من مشاكل الصلة بين
المنطق والرياضة وعلم النفس بدأت الظاهريات تشق طريقها الخاص.
٩٨
ولما كانت الظاهريات تتجه نحو عالم الشعور تقابلت مع فلسفة الحياة في صيغة فلسفة
تصورات العالم عند دِلتاي، والتي كانت تحاول قبلها حل أزمة العلوم الإنسانية. فاعتبرت
ميدانها عالم الحياة، وهو العالم الذي نظَّرته الظاهريات. كما فرقت بين علوم الإنسان
وعلوم
الطبيعة، وهي التفرقة التي سماها هُوسِرل فيما بعدُ التفرقة بين علوم الماهيات وعلوم
الوقائع. رفض هُوسِرل هذه الفلسفة لأنها لم تتجاوز النزعة التاريخية، ولأنها كانت أسيرة
رُوح
العصر الذي تصور هيجل أن الفلسفة تعبير عنه، وبالتالي فهي ما زالت مشوبة بالوقائع المادية
ولم تصل بعد إلى علم الماهيات. ما زالت علمًا نسبيًّا، ولم تتخلص بعد من الشك في الحصول
على المطلق الدائم. وقد انتهت أخيرًا إلى الوقوع في الاتجاه الطبيعي، وأصبحت اتجاهًا
نسبيًّا. صحيح أنها حاولت وضع نقد للعقل التاريخي، هذا العقل الذي أهمله كانط، وفي نفس
الوقت وضع أسس لعلم نفس جديد خالص مناهض لعلم النفس الطبيعي، ولكنها لم تستطع أن تقيم
نظرية علمية محكمة، وأن تضع المشاكل وتحلها بطريقة منهجية. ينقصها إذن التنظير العقلي
المجرد للتجرِبة الباطنية. كما ينقصها التحليل المنطقي والرياضي. لقد لجأت فلسفة الحياة
إلى الحدس العِياني ولكنها ظلت أسيرة الجزئي والفردي دون أن تضعه في علم رياضي شامل
وموضوعي. لقد اعتنت بالتطور والارتقاء أكثر مما اعتنت بالبناء، فجاءت الظاهريات لتعتني
بالبناء أكثر مما تعتني بالتطور. وبهذا المعنى تصبح الفلسفة علمًا محكمًا كما كتب هُوسِرل
في مقاله الشهير «الفلسفة باعتبارها علمًا محكمًا» ١٩١١م، والذي يُعد فاتحة للعلم الجديد،
علمًا نظريًّا خالصًا استطاع أن يطهِّر نفسه من الاتجاه الطبيعي السائد في المذاهب
التجريبية المتعلقة بعلوم الإنسان أو من الاتجاه النسبي الشكي السائد في فلسفة تصورات
العالم، وتصبح الظاهريات مرادفة لهذا العلم المحكم الباحث عن المطلق.
٩٩
كما عرض هُوسِرل، قبل إعلان محاولته لحلِّ أزمة العلوم الإنسانية، لبرنتانو الذي
حاول من
قبلُ وضع أسس لعلم النفس الوصفي يفرق فيه بين الظاهرة الفيزيقية والظاهرة النفسية حتى
يحل أزمة علم النفس التجريبي، ويقضي على سيادة الاتجاه الطبيعي في العلوم الإنسانية كما
فعل هُوسِرل فيما بعد. لقد وصف برنتانو لأول مرة بناء الشعور على أنه قصد متبادل، وفتح
بذلك آفاقًا جديدة في علم النفس، خاصة في ميدان العواطف والرغبات، حتى إن الظاهريات في
بدئها كانت علم نفس وصفي قبل أن تستقل كعلم خاص. لقد رفض برنتانو من قبلُ علم النفس الذي
يقوم على تتبع نشأة الظواهر النفسية في مظاهرها المادية محاولًا إيجاد علل مادية
وارتباطات حسية بينها، ولجأ إلى تحليل الظواهر الباطنة. ولكنه، في رأي هُوسِرل، لم يستطع
التخلص من شوائب الاتجاه الطبيعي. وظلت التجرِبة عنده مادية وليست خالصة. لم يكن علم
النفس الوصفي حدسًا للماهيات المستقلة، ولم يستطع العثور على مفاهيم ملائمة يعبر من
خلالها عن مضامينه الجديدة. لقد ظل قاصرًا عن التفرقة بين الإدراك الخارجي والإدراك
الداخلي، بين الظاهرة الفيزيقية والظاهرة النفسية بعد أن صنف كثيرًا من الظواهر النفسية
على أنها ظواهر فيزيقية، وكثيرًا من الظواهر الفيزيقية على أنها ظواهر نفسية. لذلك
اقترحت الظاهريات إعادة تصنيف الأشياء في مقولات مختلفة كإمكانيات خالصة للشعور مرتبطة
بنظرية الكثرة في الرياضيات دون الاكتفاء بتصنيف علم النفس الوضعي للظواهر النفسية إلى
تمثلات وأحكام وعواطف وانفعالات، أي إن علم النفس وحده لا يكفي دون الأنا الترنسندنتالي.
ينقص علم النفس الوصفي إذن نظرية في المعرفة تعطيه أساسه النظري حتى يصبح تحليلًا
للماهيات، أي إنه لم يمارس «تعليق الحكم» الذي كان في إمكانه تخليصه من رواسب الاتجاه
المادي، كما تنقصه مسائل البناء نظرًا لغياب المنطق الخالص. صحيح أن علم النفس الوصفي
قام بتحليل الجانب اللُّغوي من التجارِب الحية ولكنه لم يقُم معه الجانب المنطقي الذي
استطاعت الظاهريات تحليله. لقد حاول علم النفس الوصفي وضع الظواهر النفسية في عدة
مجموعات دون أن يعطي كل ظاهرة استقلالها الخاص وماهيتها المستقلة. خلاصة القول إن كل
أوجه النقد التي وجهها برنتانو إلى علم النفس التجريبي وجهها هُوسِرل بدوره إلى علم النفس
الوصفي: بقايا الاتجاه الطبيعي، عدم فاعلية نقد الاتجاه التجريبي، بقايا الاتجاه
التجريبي في علم النفس، غياب علم النفس كفلسفة وصفية خالصة، غياب الفلسفة
الترنسندنتالية، إهمال الأسس النظرية للذاتية، عدم التعرف على المعنى الحقيقي للقصد
المتبادل، العجز عن تحقيق مشروع الفلسفة الحديثة، أعني إقامة علم الذاتية
الترنسندنتالية. إن عيوب علم النفس الوصفي جعلته قاصرًا عن أن يصير ظاهريات.
١٠٠
ولقد حاول علم النفس النظري الذي وضع شتومف أسسه حل مشاكل العلوم الإنسانية، خاصة
علم
النفس، ونقد الاتجاهات الصورية والنفسية والطبيعية والنسبية والشكية كما فعل هُوسِرل
في
تمييزه بين الفعل والمضامين الأولى. لقد أعطى علم النفس النظري للظاهريات تحليل مضامين
الشعور واستعار منه هُوسِرل تمييزه بين المضمون غير المستقل والمضمون المستقل في تمييزه
بين المضمون الحسي والمضمون المجرد. كما تابع هُوسِرل شتومف في فكرته عن اتحاد الصفات
الحسية في كلٍّ واحد، وهو ما سماه هُوسِرل اتصال الظواهر النفسية. كما استخدم هُوسِرل
فكرته
عن «التمثل العام» من حيث هو اقتصاد في الفكر في إقامة نظريته عن «الوَحدة المثالية
للنوع». لقد استطاع شتومف وقف تيار علم النفس التجريبي وإقامة نظرية في المعرفة مستقلة
عن علم النفس. ولقد أهدى هُوسِرل كتابه «بحوث منطقية» إلى شتومف عرفانًا منه بأنه هو
الوحيد تقريبًا الذي استطاع تصور الظاهريات قبل أن يضع فيها هُوسِرل اللمسات
الأخيرة.
وإذا كانت الظاهريات قد استطاعت شق طريق ثالث بين المنطق الصوري وعلم النفس التجريبي،
وهو طريق الشعور الذي حاولت فلسفة الحياة بشتى صيغها اكتشافه حتى يتخلى المنطق عن
صوريته، وعلم النفس عن ماديته، والشعور عن غموضه وحيرته بين التيارين وعدم تحرره نهائيًّا
من النزعة الطبيعية، فإن هُوسِرل قد حاول ذلك من جديد مرة أخيرة قبل أن يكشف عن الظاهريات
كعلم نهائي وكفلسفة أبدية. إذ تكشف مؤلفات هُوسِرل عن هذه المحاولات الثلاثة: نقد الصورية
في الحساب والمنطق والرياضة، نقد المادية في علم النفس، ثم تأسيس علم الشعور في علم
دقيق. نقد هُوسِرل الصورية في «فلسفة الحساب» بنقده التيار الصوري في فهم العدد من أجل
البحث عن أسسه النفسية، ونقدها في المنطق في «المنطق الصوري والمنطق
الترنسندنتالي»، معيدًا بناء منطق التصورات باعتباره منطق قضايا ومنطق اتساق ومنطق
حقيقة. كما أن التصورات أو المعاني هي الماهيات في الشعور أو هي أنطولوجيا
المناطق.
بدأ هُوسِرل فكره بالدخول في المعارك الدائرة في فيينا حول طبيعة الرياضة وماهيتها.
وشارك في حل المسائل المعروضة، وقدم حلوله في رسالتيه للدكتوراه: الأولى «مساهمة في
حساب المتغيرات» في فيينا ١٨٨٢م (وهو ما زال مخطوطًا حتى الآن)، والثانية «مفهوم العدد»
في
هاله ١٨٨٧م، ثم في عمله الفلسفي الأول «فلسفة الحساب» الذي نشر الجزء الأول منه في هاله
١٨٩١م. حاول هُوسِرل رد التصورات والمفاهيم الرياضية إلى أسسها النفسية معارضًا بذلك
جميع
الاتجاهات التي ترد هذه المفاهيم إلى أسس صورية محضة. كان هُوسِرل أولًا من أنصار الاتجاه
النفسي في المنطق والرياضة، وهو الاتجاه الذي رفضه بعد ذلك في الجزء الأول من «بحوث
منطقية». تناول هُوسِرل في هذه الفترة مشاكل الكل والجزء قبل أن يعالجها في المنطق، كما
عرض لمشكلة الصفات الحسية لوَحدةٍ ما قبل أن يعرض لها في الظاهريات. لذلك دخلت كثير من
المفاهيم الرياضية واستقرت في الظاهريات مثل: الكميات الخيالية، المضمون الأولي، العدد،
الحكم. وبقيت تمييزات كثيرة بين المستويات المختلفة مثل التمييز بين الوصف النفسي
للظواهر وبين تحليل المعاني أو بين المضمون النفسي والمضمون المنطقي … إلخ. أراد هُوسِرل
في هذه الفترة حل أزمة الرياضة بإرجاعها إلى علم النفس، وكان ذلك مقدمة لاكتشاف عالم
الشعور.
١٠١
ثم حاول هُوسِرل مرة ثانية، وذلك بعد بناء الظاهريات كمنهج في الجزء الأول من «الأفكار»
١٩١٣م، إعادة بناء المنطق الصوري وتحويله إلى ظاهريات في «المنطق الصوري والمنطق
الترنسندنتالي» ١٩٢٩م لإنزال المنطق الصوري إلى عالم الشعور، وتحويل الصور العقلية
الخالصة إلى قوالب للشعور تكون مناطق فيه يمكن أن تصبح بعد ذلك علمًا للأُنطولوجيا العامة.
حوَّل هُوسِرل منطق القضايا إلى رياضة صورية، من أرسطو إلى لَيبنتز وبولزانو، ثم حوَّل
الرياضة الصورية إلى نظرية الكثرة، ريمان. كان للمنطق الصوري القديم والجديد جانبان:
القضايا والأُنطولوجيا، ثم انتقل المنطق من المجال الصوري الموضوعي إلى المجال
الترنسندنتالي، أي من أرسطو وريمان إلى ديكارت وبولزانو. وبدلًا من تحليل القضايا أو
الصور الرياضية يتم تحليل الشعور الذي يقوم بإجراء الأحكام، ويتحول المنطق الموضوعي إلى
ظاهريات للعقل.
١٠٢
ثم دخل هُوسِرل معركة ثانية شبيهة بالأولى، وعلى النقيض منها، لتحديد — هذه المرة
— الصلة بين
المنطق وعلم النفس. فقد كتب هُوسِرل قبل «بحوث منطقية» عدة مقالات عن «حساب التتابع ومنطق
المضمون» وعن «جبر المنطق» وكذلك «دراسات نفسية عن المنطق الأولي» وأيضًا «الصراع بين
النفسيين والصوريين في المنطق الحديث»، كما كتب عدة بحوث عن تاريخ المنطق، ثم انصبت هذه
المحاولات الجزئية كلها في عمله الضخم «بحوث منطقية» بأجزائه الثلاثة ١٩٠١-١٩٠٢م، يهاجم
في الجزء الأول منه «مقدمة في المنطق الخالص» الاتجاه النفسي في المنطق، ويقدم في
الجزأين التاليين بحوثًا ستة، ينتهي منها في المبحث السادس من المنطق إلى الظاهريات.
غيَّر هُوسِرل إذن اتجاهه الأول النفسي في «فلسفة الحساب»، ووقف موقف المعارضة منه، واعتبره
اتجاهًا ماديًّا نسبيًّا تطوريًّا (فرارو) ووقوعًا في الشك وإنكارًا لقوانين الفكر. لقد
اعتبر الاتجاهُ النفسي في المنطق قوانين الفكر، مثل قانون التناقض وقانون الهُوية، قوانين
طبيعية أو وظيفية دون أن يكون لها أي أساس فكري أو منطقي، بل مجرد بعض الصور التركيبية
للفكر. لقد أراد المنطق الأنثروبولوجي الوصول إلى الموضوعية، ولكنه انتهى إلى الخلط بين
الواقعي والمثالي، بين أساس الحكم وأساس الحقيقة، بين حقيقة الواقع وحقيقة العقل.
١٠٣ أراد هُوسِرل رفع المنطق المادي إلى عالم الشعور، وتحويل مضمونه النفسي إلى
تجرِبة حية في الشعور. كان الهدف رفع المنطق من مجرد إحساسات نفسية (مِل) أو تكوينات
بيولوجية (سبنسر) أو ترسبات أنثروبولوجية (سيجوارت، إردمان) إلى منطق للشعور تصبح فيه
المادة تجرِبة حية. لقد وجه هُوسِرل في الجزء الأول أعنف نقد للاتجاه النفسي في المنطق،
وحول المنطق إلى علم معياري نظري أو «نظرية في العلم» أو «علم العلم»؛ وذلك لأن نقص
العلوم الجزئية يرجع أساسًا إلى نقص جذري في بنائها النظري، أي في التصور العام للمنطق.
ولا تستطيع العلوم الجزئية تكملة هذا النقص إلا بإرجاع أسسها النظرية إلى الميتافيزيقا
والمعرفة، أي إلى المنطق الخالص. فالمنطق في الحقيقة هو المعرفة نفسها. المنطق علم نظري
قبل أن يكون علمًا معياريًّا وظيفته وضع القواعد، وقبل أن يكون علمًا محليًّا وظيفته
تطبيق هذه القواعد في العلوم الجزئية. لقد أراد الاتجاه النفسي في المنطق جعل المنطق
فرعًا من علم النفس أو اعتباره فيزيقا الفكر (سبنسر) حيث تكون قوانين الفكر فيه قوانين
بيولوجية محضة. فلا فرق بين الأشكال المنطقية والمعادلات الكيميائية. يرفض هُوسِرل ذلك
كله، ويجعله خلطًا بين المادة والصورة أو وقوعًا في الشك أو في النسبية. كما يرفض
اعتباره اقتصادًا في الفكر (ماخ، أفيناريوس).
وفي البحوث الستة التالية حاول هُوسِرل بناء أهم المشاكل المنطقية. فدرس الصلة بين
التعبير والدلالة، وميَّز بين العلامة والمعنى، وجعل المعنى مستقلًّا عن علامته، واعتبره
وحده مثالية بالرغم من تغير معاني الكلمات طبقًا لأفعال الشعور المعطية لهذه المعاني
(المبحث الأول). ثم رفض هُوسِرل النظريات الحديثة في التجريد، نظريات مِل وسبنسر وهيوم
ولوك التي تعتبر النوع المنطقي مجرد ارتباطات حسية، والتي تنكر وجود الموضوعات العامة
المستقلة عن هذه الارتباطات ونشأتها في الوقائع الجزئية. ولا يرضى هُوسِرل عن نظرية بركلي
في التمثل ويعتبرها أيضًا قضاء على وجود الموضوعات المثالية (المبحث الثاني). ثم فصَّل
هُوسِرل في مشكلة الكل والجزء، واعتبر الكل سابقًا على أجزائه ومستقلًّا عنها، في حين
أن
الجزء غير مستقل، ويعتمد على الكل الذي هو موجود فيه، كما هو الحال في علم النفس
الجِشطلتي، وبرجسون في رؤيته للظواهر الحية، وليفي شتراوس في البنيوية (المبحث الثالث).
ثم
فرق هُوسِرل بين المدلولات غير المستقلة والمدلولات المستقلة، ووضع للمعاني المستقلة
منطقًا خالصًا للمعاني (المبحث الرابع). ثم انتهى هُوسِرل إلى المنطق الشعوري الذي يقتصر
على تحليل التجارِب الحية ومضامينها، فالشعور في نفس الوقت هو الأنا الخالص والإدراك
الباطني. لذلك كانت التجرِبة الحية قصدًا متبادلًا يضم الأنا الخالص ومضمونه معًا.
وأصبحت وظيفة الحكم هي وضع مادة أفعال الشعور في تمثلات تقوم هي نفسها بوضع أسس له. إذ
يقوم التمثل بإعطاء وَحدةٍ كيفية لأفعال الشعور (المبحث الخامس). وأخيرًا ينتهي هُوسِرل
إلى
تحويل المنطق إلى ظاهريات، ويحلل القصد المتبادل، ويبين طرق ملئه. وتصبح المعرفة هي
عملية هذا الملء، وتكون درجات المعرفة طبقًا لدرجات هذا الملء. وهي عملية تحويل الإحساس
إلى ذهن (المبحث السادس).
١٠٤
وأخيرًا حاول هُوسِرل للمرة الثالثة التوحيد بين المنطق وعلم النفس في «التجرِبة والحكم»
الذي ظهر في ١٩٣٨م، والذي يرجع عنوانه إلى مخطوط ١٩٢٩م. يدرس فيه هُوسِرل للمرة الأخيرة
التجارِب السابقة على الأحكام، ويصف بناء الشعور من حيث هو قصد متبادل، التجرِبة الحية
مضمونه، والصورة الخالصة قالبه. فبعد أن أنزل هُوسِرل المنطق من الصورة إلى المادة في
المرة الأولى ورفع المنطق من المادة إلى الصورة في المرة الثانية حاول أن يشق الطريق
الثالث بالدخول في أعماق الشعور وتحليل التجرِبة الحية في عالم الشعور. ويتم ذلك بثلاثة
طرق: الأول بناء التجرِبة السابقة على الحكم أو التجرِبة من حيث هي استقبال محض للعالم
الخارجي يمكن إدراكها إدراكًا مباشرًا بالحدس أو بعد الإيضاح ثم إدراك عَلاقاتها وأسسها.
الثاني بناء الفكر الحملي وموضوعات الذهن، وذلك بمعرفة البناء العام للحمل ونشأة أشكال
المقولات ونشأة الموضوعات ودالات الأحكام. الثالث بناء الموضوعات على وجه العموم وأشكال
الأحكام العامة، وذلك ببناء العموميات التجريبية من أجل الحصول على العموميات الخالصة
عن
طريق الرؤية الحدسية للماهيات. وبذلك حاول هُوسِرل شق طريق ثالث ليحل الأزمتين في العلوم
الإنسانية: أزمة الصورية وأزمة المادية.
(٢) المنهج والتطبيق
لم يكتف هُوسِرل بوضع الظاهريات كعلم بل حاول صياغتها كمنهج للعلوم الإنسانية مكون
من
خطوات ثلاث: تعليق الحكم، والبناء والتكوين، والإيضاح. ويكتفي الدارسون بذكر الخطوتين
الأُوليين دون الثالثة مع أنها هي الخطوة الوحيدة التي يظهر فيها لفظ منهج في تعبير
هُوسِرل «منهج الإيضاح». فالمنهج الظاهرياتي هو في الحقيقة منهج للإيضاح. وما الخطوتان
الأُوليان إلا مقدمة للخطوة الثالثة أو مجرد أفكار موجهة دون أن يتم صياغتها في قواعد
للمنهج، كما هو الحال عند ديكارت في «مقال في المنهج» أو «قواعد لهداية الذهن». بل إن
الظاهريات كانت في مرحلة الجزأين الأول والثاني من «الأفكار» أقرب إلى الفلسفة منها
إلى المنهج. ولم يتم صياغتها في منهج إلا في الجزء الثالث. وبالتالي يكون تعليق الحكم
هو موضوع الجزء الأول «مقدمة عامة في الظاهريات الخالصة» ١٩١٣م، و«البناء» أو «التكوين»
هو موضوع الجزء الثاني «بحوث ظاهراتية للبناء» ١٩٢٤-١٩٢٥م، و«الإيضاح» موضوع الجزء
الثالث «الظاهريات وأسس العلوم» ١٩٢٤-١٩٢٥م.
١٠٥ وتتوجه كل خطوة إلى أحد الأبعاد الرئيسية في الوعي الأوروبي: تعليق الحكم
لإبعاد الواقع المادي (الخط النازل) عن بنية الشعور، والبناء لتكوين الماهية في الشعور
(الخط الصاعد)، والإيضاح لتحويل القصد المتبادل إلى نظرية في الحدس الموضوعي (الخط
المستقيم) على النحو الآتي:
ويعني «تعليق الحكم» وضع العالم بين قوسين أو وضعه خارج الميدان أو إخراجه عن دائرة
الاهتمام. ويعني ذلك عدم الحديث عن الظاهرة المادية وإزاحتها جانبًا وعدم التعرض لها
أو
إصدار حكم عليها. ويرمي هُوسِرل من ذلك إلى القضاء على الاتجاه الطبيعي بكل مظاهره
المادية، نفسية ووضعية، وأنثروبولوجية وبيولوجية، وذلك بالتفرقة بين «علم الماهيات» الذي
يأخذ الماهية موضوعًا له و«علم الوقائع» الذي يأخذ الواقعة موضوعًا له. لقد اعتبرت
العلومُ الإنسانية التي اتخذت العلوم الطبيعية نموذجًا لها الظاهرةَ الإنسانية
واقعةً مادية مع أنها في الحقيقة ماهية خالصة. لذلك يأتي «الرد الظاهرياتي» أولًا ليطهر
الوعي من الواقعة المادية، ثم يأتي «الرد الماهوي» ثانيًا ليخلص الوعي من الواقعة
النفسية حتى يمكن إدراك الموضوع الخالص في الشعور. ويفرق هُوسِرل بين التعالي وبين
المحايثة أو المباطنة كما فعل كانط من قبل. الأول الظاهرة التجريبية المحضة التي تتعدى
الشعور وتتجاوز التجرِبة الحية، وهو معنى يشبه ما عُرف به التعالي عند كانط، ويختلف
تمامًا عن معناه عند الوجوديين من تعالي الذات على نفسها وإحساسها بأنها تتجاوز حدود
الموضوع. فالظاهرة المتعالية يُعلَّق الحكم عليها لأنها ظاهرة مادية خالية من كل معنًى،
ظاهرة مصمتة. ولا تصبح دالة إلا بعد حلولها في الشعور كتجرِبة حية. أما «المباطنة» أو
«المحايثة» فإنها تعني وجود الظاهرة كتجرِبة حية في الشعور حيث يمكن بناؤها بعد القضاء
عليها كظاهرة متعالية. يعني هُوسِرل بلفظ المباطنة ما عناه كانط أيضًا، ولكن هُوسِرل
كشف عن
مضمونه صراحة، ورفض كل كلمة فيها مقطع Trans الذي يدل
على التعالي والتجاوز والمفارقة. وقد خصص هُوسِرل محاضرات خمسة لهذه التفرقة في كتابه
«فكرة الظاهريات» ١٩٠٧م.
ويعني تعليق الحكم أيضًا «قلب النظرة» من الخارج إلى الداخل، ورفض رؤية الظواهر في
المكان، بل رؤيتها في الزمان، خاصة وأن الظاهريات نشأت أساسًا كتحليل للشعور الداخلي
بالزمان في محاضرات هُوسِرل «ظاهريات الشعور الداخلي بالزمان» ١٩٠٥م، وكما هو الحال عند
برجسون في تحليله للديمومة. فالشعور لدى هُوسِرل يتكون من ثلاثة أبعاد للزمان: التوتر،
الاستدعاء، الانتظار أو التوقع. فالحاضر، كما هو الحال عند برجسون، مفتوح نحو الماضي
عن
طريق التذكر، ونحو المستقبل عن طريق التطلع. والماضي في النهاية هو مستقبل الحاضر. وهي
الأبعاد الثلاثة التي أطلق عليها هَيدجر لفظ «الجذب». ويستعمل هُوسِرل كثيرًا المقطع
Ur الذي يدل على الأصل والنشأة لبيان تكوين الظواهر
في الشعور الداخلي بالزمان. لذلك تحدث هُوسِرل عن «أصل العالم» (مخطوط) يبين فيه نشأة
العالم في الشعور لا كما يوحي العنوان من أنه حديث عن نشأة الكون كما هو الحال في علم
الجغرافيا الطبيعية والكونية و«أصل الهندسة» يبين فيه أيضًا نشأة الأشكال الهندسية
كمناطق في الشعور.
ولا يعني تعليق الحكم الإيمان بوجود «الشيء في ذاته» كما هو الحال عن كانط لأن
الظاهريات عود إلى الأشياء ذاتها. وبهذا المعنى يكون هُوسِرل مثل الفلاسفة الذين أتوا
بعد
كانط، فشته وهيجل وشلنج وشوبنهور، الذين رفضوا الشيء في ذاته الذي لا يمكن معرفته إلا
بالإيمان، وحاولوا معرفته بنظرية العلم (فشته) أو بالجدل (هيجل) أو بالهُوية (شلنج) أو
بالإرادة (شوبنهور). لقد قضى هُوسِرل مثلهم على هذا التعارض بين الظاهرة موضوع العقل
النظري والشيء في ذاته موضوع العقل العملي، واعتبار الظاهر ظاهرة تكشف عن الوجود كتجرِبة
حية في الشعور فتصبح مرادفة للشيء نفسه.
وقد قيل كثيرًا عن أوجه الشبه بين «تعليق الحكم» عند هُوسِرل والشك عند ديكارت. فكلاهما
خطوة منهجية يتم فيها القضاء على الأوهام والمعتقدات الساذجة والأحكام المسبقة والأخطاء
الشائعة حتى يمكن بعدها في الخطوة التالية — وهي البناء عند هُوسِرل أو تطبيق قواعد المنهج
الأربعة عند ديكارت — القيام بالخطوة الإيجابية في المنهج، والتي يتم فيها الوصول إلى
اليقين. كما قيل أيضًا عن أوجه الشبه بين تعليق الحكم عند هُوسِرل ونقد العقل النظري
عند
كانط من أن كليهما مجرد تمهيد لما سيتلو من بناء عند هُوسِرل وإقامة قواعد الإيمان عند
كانط. كما قيل أيضًا إن تعليق الحكم يفيد المعنى الأول لكلمة
Aufheben عند هيجل وهو الهدم، وأن التكوين يفيد
المعنى الثاني وهو البناء. وبالتالي يكون هُوسِرل في قواعد المنهج الظاهرياتي قد كشف
عن
بنية المذهب الفلسفي وجدلية الهدم والبناء.
١٠٦
ثم يأتي البناء أو التكوين بعد تعليق الحكم كخطوة ثانية يظهر الشعور فيها كقصد متبادل
مكون من قالب Noése ومضمون Noême؛ الأول يمثل الجانب النظري أو العقل في الأنا الخالص، وهو ما
عبر عنه ديكارت باسم «الأنا أفكر» أو ما سماه كانط «الأنا الترنسندنتالي»، أي الذات
التقليدية في نظرية المعرفة. والثاني يمثل الموضوع، وهو الذي جعله ديكارت حركة
وامتدادًا، والذي اعتبره كانط مجرد ظاهرة أو حدس حسي. وهو عند هُوسِرل مضمون الشعور ليقضي
على الاتجاه الطبيعي الذي يجعله مستقلًّا عن الذات العارفة، وليقضي على الاتجاه الحسي
عند
هيوم الذي يجعله مجرد انطباعات حسية. يرى هُوسِرل إذن أن الشعور هو ذات وموضوع معًا.
وبذلك ينتهي هذا التعارض التقليدي بين الذات والموضع كما ينتهي هذا الصراع التاريخي بين
المثالية التي تعطي الأولوية للذات على حساب الموضوع وبين الواقعية التي تعطي الأولوية
للموضوع على حساب الذات. الذات والموضوع عند هُوسِرل واجهتان لشيء واحد وهو الشعور الذي
هو ذات عارفة وموضوع للمعرفة. ومهمة الظاهريات تحليل الشعور أي تحليل القصد المتبادل،
وهو في نفس الوقت تحليل للمعرفة والوجود في آنٍ واحد. هذه الوحدة بين الذات والموضوع،
بين المعرفة والوجود، بين الصورة والمادة، بين المثالي والواقعي هي التي جعلت الظاهريات
في النهاية أقرب إلى وحدة الوجود الصوفية التي تتم فيها الوحدة بين الله والعالم، أي
بين
الحقيقة والواقع، بين الحق والخلق بتعبير ابن عربي. وبذلك ينتهي هُوسِرل إلى مشروع لَيبنتز
لإقامة رياضيات شاملة أو أُنطولوجيا عامة يتم فيها التوحيد بين الممكن والواقع أو بين
العقل والوجود. وبهذا المعنى تكون الظاهريات تعبيرًا عن الفكر المعاصر الذي لا يود
اعتبار الموضوع شيئًا بل عَلاقة، كما هو الحال في منطق العَلاقة عند رَسِل، أو في بناء
العَلاقات عند ليفي شتراوس، أو في اعتبار الموضوع متضايفًا مع الشعور بتعبير برنتانو
وهُوسِرل. يتميز الشعور بأنه «يتجه نحو» أو «ينطلق نحو» أو «يمتد نحو».
ويضع هُوسِرل نظريته في الحدس ليعيد بها بناء نظرية الإدراك الحسي التقليدية. فالحدس
لديه إدراك مباشر كما هو الحال عند الحدسيين، ولكنه يقوم على رؤية مزدوِجة يسميها نظرية
«الشعاع المزدوِج» والتي يتم فيها توجيه شعاع من الذات نحو الموضوع، أي من قالب الشعور
إلى مضمون الشعور، وتوجيه شعاع ثانٍ من الموضوع نحو الذات، أي من مضمون الشعور إلى قالب
الشعور، وبدون هذا الشعاع المزدوِج لا يصبح الإدراك ممكنًا. فالانتباه كما هو الحال عند
مين دي بيران هو شرط الإحساس، ولا يمكن للحواس أن تقوم بوظيفتها في الإدراك الحسي إلا
بفعل الانتباه. الإدراك الحسي دون انتباه لا يتعدى مجرد انطباع حسي يحوله فعل الانتباه
إلى إدراك حسي بالفعل.
وتمتد عملية البناء إلى جميع أحوال الشعور والظواهر النفسية مثل التذكر والتخيل
والتصور، فكل ذلك يمكن تحليله في القصد المتبادل كما فعل سارتر في دراسته عن «الخيال»
و«المخيلة»، لذلك انتهت الظاهريات إلى الإغراق في تحليل عمليات الإبداع الفني، وأصبحت
العلم الذي «يفسر» و«يفهم» الظواهر النفسية، يفسر النشأة ويفهم الماهية.
والشعور عند هُوسِرل نوعان: الشعور المحايد والشعور الواضع؛ الأول مجرد شعور قبل أن
يبدأ عملية تحليل القصد المتبادل. والثاني شعور يبدأ من هذا التحليل للظواهر المعرفية
أو
العملية الإرادية التي تتعلق بالرغبات والميول. ولمضمون الشعور أنماط خمسة يسميها هُوسِرل
أنماط وجود وهي: الواقعي، الممكن، المحتمل، المشكل، المشكوك فيه. وذلك في مقابل أنماط
خمسة لقالب الشعور يسميها هُوسِرل أنماط الاعتقاد وهي: اليقين، الافتراض، الظن، السؤال،
الشك.
ويتم البناء في موضوعات ثلاثة بيَّنها هُوسِرل في الجزء الثاني من «الأفكار»: بناء
الطبيعة المادية، بناء الطبيعة الحية، بناء عالم الرُّوح. فالواقع عند هُوسِرل مكون من
ثلاث
دوائر متداخلة: المادة الدائرة الكبرى، والحياة الدائرة الوسطى، والرُّوح الدائرة الصغرى.
وكل دائرة مكونة من مراتب ثلاثة: فالطبيعة المادية تبدأ من الطبيعة العامة، تتلوها
منطقة الأشياء التي تخضع للإدراك الحسي، تتلوها حساسية البدن ككل. أما الطبيعة الحية
فتبدأ أيضًا بالطبيعة الحية العامة. تتلوها الطبيعة الحية من خلال البدن، تتلوها
الطبيعة الحية من خلال الاستبطان، وفي هذه الأخيرة تظهر الذات الخالصة. أما عالم الرُّوح
فإنه يتكون أيضًا بالتعارض بين العالم الطبيعي والعالم الشخصي، وذلك بفعل تعليق الحكم،
ثم يتلو ذلك ظهور البواعث في العالم الشخصي. وأخيرًا تظهر أولوية العالم الشخصي. وينتهي
هُوسِرل من ذلك كله إلى أن العقل والواقع، أو الشعور والواقعة الطبيعية، يكشفان عن هذه
الدوائر الثلاثة المتداخلة ذات المركز الواحد: الذات الخالصة، الآخرين، عالم الأشياء.
وهو ما عبر عنه الوجوديون بعد ذلك، سارتر، وهَيدجر، وميرلوبونتي باسم الوجود في العالم.
فالذات مركز لعالمَين: عالم الإنسان وعالم الأشياء، وبذلك وضع هُوسِرل أسس علم الاجتماع
الظاهرياتي لدراسة الآخر، وعلم الوجود الظاهرياتي لدراسة الشيء.
١٠٧ وبعد اكتشاف البناء لهذه المناطق الثلاثة يأتي «الإيضاح» وهي الخطوة
الثالثة في «المنهج الظاهرياتي». مهمته توضيح الصلة بين الفينومينولوجيا والأُنطولوجيا،
وكذلك الصلة بين الظاهريات وعلم النفس وذلك لوجود ثلاث مناطق متداخلة: النفس، والبدن،
والشيء؛ فالنفس موضوع الظاهريات، والبدن موضوع علم النفس، والشيء موضوع الأُنطولوجيا.
وهي
المناطق الثلاثة التي عرضها هُوسِرل في نظرية البناء. الظاهريات في منطقة الشعور الخالص،
وعلم النفس في منطقة الموجودات الحسية، والأُنطولوجيا لعالم الأشياء. مهمة منهج الإيضاح
تحديد الصلة بين هذه المناطق الثلاثة، وأيضًا تحديد الصلة بين العلوم الإنسانية المطابقة
لها، وذلك عن طريق البحث عن الوضوح الحدس أو عن طريق التحليلات اللُّغوية للتصورات مثل:
التصور المنطقي الصوري، التصور المنطقتِيِّ (نسبة إلى منطقة) الشعوري، والتصور المادي.
وهو
ما يطابق أنواع المنطق الثلاثة التي حددها هُوسِرل في «المنطق الصوري والمنطق
الترنسندنتالي»: علم الصور العامة الخالصة، منطق الاتساق، منطق الحقيقة. ويفرق هُوسِرل
بين أنواع عديدة من الإيضاح: التوضيح، السبر أو الكشف، ثم الشرح.
١٠٨ ويكون الإيضاح في اللغة، وذلك بالتمييز بين الألفاظ المحكمة والألفاظ
المتشابهة، كما هو الحال عند الأصوليين، في حين أن التوضيح يتم بين الأشياء. أما السبر
أو
الكشف فيتم في الشعور لاستكشاف مناطقه، وهو ما يؤدي في النهاية إلى الشرح والبيان وإخراج
مضمونه إلى حيز الرؤية الواضحة.
ومنهج الإيضاح في جوهره هو منهج للتمييز، والتمييز رُوح العلم، وهو منهج يقوم أساسًا
على منع الوقوع في الخلط. وإن تاريخ العلم الحديث ليثبت أن تقدمه كان مرهونًا برفع
الخلط والتمييز بين مستويين مختلفين من حيث الدرجة أو من حيث النوع، وكما حدث في علم
النفس التجريبي في الخلط بين الظاهرة النفسية والظاهرة الجسمية أو في العلوم الإنسانية
التي اتخذت العلوم الطبيعية نموذجًا لها، بين الواقع والماهية، بين الواقعة الطبيعية
والشعور، بين الواقع والعقل. وفي بعض الأحيان يتم التمييز بين مستويات ثلاثة مثل:
الطبيعة المادية، الطبيعة الحية، عالم الرُّوح، كما هو واضح في البناء أو في إيضاح
التصورات: التصور الصوري، التصور المنطقتي، التصور المادي؛ الأول منفصل عن المادة
تمامًا، والثاني مرتبط بالمادة، والثالث مادي محض، كما هو الحال عند ابن سينا في أنواع
الموجودات قبل الكثرة، ومع الكثرة، وبعد الكثرة؛ الأول موضوع الأُنطولوجيا، والثاني
موضوع الظاهريات، والثالث موضوع علم النفس. مهمة الإيضاح رفع الخلط في العلوم القطعية
التي تخلط بين الغريزة والحدس، التصور الشعبي والتصور النظري، الظن واليقين. وهو موجه
أساسًا ضد تحيز العلوم التجريبية لطرف واحد دون الطرف الآخر من أجل إعادة التوازن إلى
الظاهرة. يقوم بالتعميم ضد التخصيص، وبالرفع ضد السقوط، وبالتوسع ضد قصر النظر وضيق
الأفق حتى يعيد بناء المثالي، ويعيد التوازن إلى الوعي الأوروبي في خط مستقيم بدلًا من
الانعراج الصوري والسقوط المادي. وقلب القلب عود إلى الوضع الصحيح كما أن سلب السلب
إيجاب، وهو عود إلى الأصل والأَولِي في مقابل التابع والثانوي في العلوم الطبيعية.
١٠٩ الإيضاح إذن هو السبيل لإقامة نظرية في الوضوح، وهذا الذي يسمح بحدس
الماهيات، أي رؤية العموميات الخالصة، فلا حدس دون وضوح، وهو ما أثبته برنتانو من قبل
في
كتابه «الحدس والوضوح».
الإيضاح هو الحل النهائي لأزمة العلوم الإنسانية التي تقوم أساسًا على الخلط بين
المستويات، أو على المزج بينهما، أو على التوحيد بين مستويين، أو على وضعهما متوازيين
على
نفس المستوى، أو على تماثلهما، أو على رد أحدهما للآخر، أو على رد أحدهما مكان الآخر،
أو
على استبدال أحدهما بالآخر. يقوم الإيضاح إذن بعدل الظاهرة وإرجاع المستويات، لذلك كان
الإيضاح منهجًا للمرور من مستوًى إلى آخر: من الصوري إلى الترنسندنتالي، ومن المادي إلى
الشعوري. فالإيضاح إذن ليس نظرية في المعرفة فحسب بل هو نظرية في الوجود، يقوم على حفظ
المستويات ثم الربط بينها ربطًا صحيحًا مستعمِلًا مفاهيم جديدة للربط، مثل «حامل»: فالواقعة
حاملة للماهية وليست مرادفة لها، ومثل «يعطي»: فالفعل يعطي المعنى وليس مرادفًا له، ومثل
«طرف متضايف»: فالآخر طرف متضايف مع الشعور وليس خارجًا عنه. يقوم الإيضاح أيضًا بالتخلي
عن الألفاظ القديمة مثل «شيء» ووضع ألفاظ جديدة مثل «حالة الشيء» حتى ينتقل المستوى من
المادة إلى الشعور، أو التخلي عن لفظ مثل «فكرة» أو «مثال»
idée ووضع لفظ جديد مثل
idéa-tion، ويعني به هُوسِرل عملية تحويل العالم إلى
فكرة أو مثال، وذلك للقضاء على صورية المثال القديم وتحويل الصوري إلى ترنسندنتالي، وكما
هو حاصل في علم أصول الدين في الصلة بين الواحد والتوحيد. والإيضاح أيضًا منهج جدلي بين
الألفاظ والتصورات؛ إذ يتم العثور في مفهوم واحد على مفهومين متمايزين كما هو الحال عند
برجسون، أو يضع المذهبين المتعارضين في مذهب واحد ثم يرفضهما معًا. مهمة الإيضاح إذن
الكشف عن الوَحدة الباطنة في الوجود؛ وحدة المعرفة والوجود في الظاهريات، وحدة الذات
والموضوع في الأنا أفكر، وحدة الأنا والآخر في التجرِبة المشتركة، وحدة الأجزاء
المتناثرة في الكل الواحد … إلخ. خلاصة القول: إن الإيضاح القائم على التمييز حركة
إصلاحية في التاريخ. وذلك لأن مهمة الظاهريات مهمة إصلاحية إن لم تبشر بعالم جديد فعلى
الأقل تحل أزمة العلوم الإنسانية. ويذكر هُوسِرل دائمًا لفظ «الإصلاح»، ويستعمل مفاهيم
الصراع والمعركة والنفي والاحتجاج والاعتراض والجدل والمحاجَّة والمراجعات.
١١٠
أما تطبيقات المنهج أو الظاهريات التطبيقية فإنها ليست في الذاتية فحسب، كردِّ فعل
على
أزمة العلوم الإنسانية التي اتخذت مرةً العلوم الطبيعية ومرةً أخرى العلوم الصورية
نموذجًا لها، بل أيضًا في العَلاقات بين الذوات. وهناك نوعان من العَلاقات بين الذوات:
الأول هو التجرِبة المشتركة التي يتم من خلالها الوصول إلى الموضوعية في العلوم
الإنسانية، وذلك باشتراك الذات مع الآخر في نفس التجرِبة الشعورية ضمانًا لعدم الخطأ،
خاصة
وأن التجرِبة تحتوي على ماهية مستقلة عن الطرفين، وتتميز بموضوعية صورية من خلال مناطق
الشعور، فضلًا عن أن كلا الطرفين يبدآن بالتجرِبة الحسية، أي من الوقائع نفسها، وبذلك
يكون
الضامن للموضوعية أولًا: التجرِبة المشتركة، وثانيًا: وجود الماهيات المستقلة، وثالثًا:
البدء بعالم الوقائع؛ لذلك تحولت الظاهريات إلى حلقات بحث تخرج من «مدينة العلماء» كما
أوصى هُوسِرل بذلك، وهو ما سماه الأصوليون «الإجماع». والنوع الآخر من العَلاقات بين
الذوات هو
التجرِبة المشتركة للحضارة كلها، وهو الشعور الجماعي أو الشعور الحضاري، أو بتعبير دِلتاي:
«الشعور التاريخي»، فإذا كانت الذاتية اتجاهًا رأسيًّا يوضع فيه الشعور بين عالمين:
عالم الصورة وعالم المادة، فالشعور الجماعي اتجاه أفقي يوضع فيه الشعور بين حركتَي التاريخ:
الخلف والأمام، وبالتالي تظهر الظاهريات على أنها فلسفة في التاريخ يضع فيها الشعور الأوروبي
في كل مرحلة جانبًا من الظاهريات حتى تأتي آخر مرحلة فيه لتكملها وتضعها مرة واحدة وإلى
الأبد. ولا يقصد بالشعور الجماعي ما يعنيه الاجتماعيون باسم الشعور الجمعي الذي هو
أقرب إلى الشيء/الواقعة. الشعور الجماعي هو شعور مثالي كالشعور الفردي تمامًا، تعيش
الحضارة فيه كما يعيش الشعور الفردي تجرِبة حية. والحقيقة أنه يصعب التفرقة بين الشعور
الفردي والجماعي. فلكل منهما نفس البناء، فالجانب العقلي أو الصوري، قالب الشعور، والذي
سماه هُوسِرل
Noése في الشعور الفردي يقابل الاتجاه
العقلي في الشعور الأوروبي ابتداءً من ديكارت. والجانب المادي أو التجريبي، مضمون الشعور،
والذي سماه هُوسِرل
Noême في الشعور الفردي يقابل الاتجاه
التجريبي في الشعور الأوروبي ابتداءً من ديكارت أيضًا بالإضافة إلى بيكون. والجانب الحي
في الشعور الفردي الذي سماه هُوسِرل عالم
الحياة
Lebenswelt يقابل في الشعور الأوروبي فلسفة الحياة عند دِلتاي وشيلر ودريش
وبرجسون وغيرهم ممن رفضوا هذا التعارض التقليدي بين الصوري والمادي، المثالي والواقعي،
العقلي والتجريبي. لذلك تصعب التفرقة في الظاهريات بين العلم أو النظرية
Eidos وبين المقصد أو الغاية في التاريخ
Telos. وقد وضح هذا الارتباط بين الشعورين، الفردي
والجماعي، في «تأملات ديكارتية» التي عرض فيها هُوسِرل الظاهريات كنظرية في الذات أو
في
الشعور الفردي وكنظرية في العَلاقات بين الذوات بمعنييها: الخبرة المشتركة في المعرفة
والخبرة الجماعية في الحضارة ابتداءً من ديكارت الذي يبدأ الشعور الأوروبي عنده.
١١١
لقد استطاعت الظاهريات أخيرًا بتصورها للشعور على أنه قصد متبادل ضم الخطين
المتباعدين: العقلي والتجريبي نحو نقطة واحدة، وأصبحا خطين ملتقيين في الكوجيتو كما
تصوره هُوسِرل على أنه «كوجيتاتوم»، وحدة الذات والموضوع، والأنا والآخر، والعقل
والتجرِبة، وبالتالي تحقق مشروع الحضارة الأوروبية لإقامة علم شامل هو الظاهريات التي
كان
الجميع يبحثون عنها ويحاولون التعبير عنها بأشكال متعددة. لقد كان هذا المشروع هو
الباعث الأول الذي يحرك الحضارة الأوروبية، وهو الغائية الكامنة في تاريخها. لذلك كان
الشعور الأوروبي تقدميًّا بالطبع يسير نحو غاية، وينحو نحو الكمال، ويتسم بطابع البحث
الدائب والمستميت عن الحقيقة طبقًا لشعار لِسِنج: «لو أعطيت لي الحقيقة في اليد اليمنى
والبحث عن الحقيقة في اليد اليسرى لاخترت اليسرى.» أصبحت الظاهريات هي «الفلسفة الأولى»
التي كان يبحث القدماء عنها، وكتب هُوسِرل لذلك بالفعل جزأين لها ١٩٢٤-١٩٢٥م. كما كانت
هي
نفس المشروع الذي حاول صياغته لَيبنتز لإقامة رياضة شاملة.
ظهر هُوسِرل في النهاية ليختم الوعي الأوروبي بدايةً بالأنا أفكر أو الكوجيتو، ونهايةً
بالأنا موجود، أي موضوع التفكير. وبالتالي توحد الذات والموضوع، المعرفة والوجود، المثال
والواقع، العقل والحس، الصوري والمادي، أو بتعبير القدماء التنزيل والتأويل.
وانتهت الثنائية الديكارتية، وانفراج الشعور في خطين متباعدين، وتم إغلاقهما من
جديد في بؤرة واحدة هي الشعور باعتباره قصدية. بالظاهريات تكتمل المثالية الغربية بعد
أن بدأت عند ديكارت، وتطورت ببدايات جديدة عند كانط وهيجل حتى انتهت أخيرًا عند هُوسِرل،
وبالتالي تنتهي قصة الوعي الأوروبي، ويُغلَق قوسان جديدان في تاريخ الوعي الإنساني عبر
تاريخ الحضارة البشرية، والذي حمل لواءه الأنبياء والفلاسفة والعلماء والمصلحون والأدباء
والشعراء والقادة العظام.
١١٢
لقد استطاعت الظاهريات أن تكشف أزمة الوعي الأوروبي في تصوره للعالم، والتي انعكست
على
رؤيته للعلوم الإنسانية. وإن تاريخ الوعي الأوروبي لهو في الحقيقة تاريخ هذه الأزمة
التي لم تنقطع والتي لم تنفرج إلا بعد اكتمال الظاهريات.
لقد ظل الوعي الأوروبي عاجزًا عن تحديد ميدان مستقل للعلوم الإنسانية بالرغم من
اعتباره الإنسان بؤرة الكون وإعلان حقوق الإنسان. فإذا كان القرن التاسع عشر هو عصر
انتصار العلوم الطبيعية منهجًا وتطبيقًا وأثرًا، حتى إنه ليؤرَّخ للحضارة الأوروبية بعد
أن
استقر فيها المنهج التجريبي وأثبت خصوبته وجِديته، وبعد أن تمت تطبيقاته في العلوم، وحدث
الانقلاب الصناعي، أي الثورة التكنولوجية الأولى، وأصبح التقدم يقاس بالسنوات لا بالقرون؛
إذا كان القرن التاسع عشر كذلك فإنه يمكن أن يقال إن القرن العشرين هو بداية أزمة
العلوم الإنسانية، بل وبداية أزمة الضمير الأوروبي نفسه. إذ كان بمثابة مرآة عكست
انتصارات القرن السابق وصورتها بوصفها عقبات وخيمة تهدد كِيان العلم، وتنذر الحضارة
الأوروبية بالخطر حتى لقد تنبأ البعض لها بالفناء، مثل نيتشه وانتهائه إلى العدمية،
واشبنجلر وتأكيده على انهيار الغرب. ولكن المحاولة العلمية الجادة في هذا الموضوع هي
تلك التي قام بها هُوسِرل في آخر حياته، آخر صيحة له بعد أن أسس الظاهريات، واطمأن إلى
أنه عثر في النهاية على هذا العلم الشامل الذي طالما راود الفلاسفة الأوروبيين، والذي
جعلته الحضارة الأوروبية مطلبًا وغاية. وهي المحاولة التي ضمنها كتابه الضخم «أزمة
العلوم الأوروبية والظاهريات الترنسندنتالية».
١١٣
ولقد بدت هذه الأزمة في تردد الوعي الأوروبي وحيرته أمام الظاهرة الإنسانية، مرة يقيمها
على العلم الطبيعي، ومرة أخرى
يقيسها على العلم الرياضي. لقد ظل المثل الأعلى للمنهج العلمي حتى أواخر القرن التاسع
عشر هو منهج العلوم الطبيعية التي يُعد بالفعل أهم مكاسب الحضارة الأوروبية منذ عصر
النهضة إن لم يكن أهمها على الإطلاق، والذي أصبح نموذجًا لكل فكر يريد أن يصير علمًا.
واستطاعت العقلية الأوروبية بفضله القضاء على كثير من النظريات الذاتية ووجهات النظر
والأبنية الأسطورية والميتافيزيقية. أصبح منهج العلوم الطبيعية شرط اليقين والضامن
للموضوعية والكفيل بتقدم العلم. وأثبت تاريخ العلم حتى هذا العصر صدقه. وأصبح المعمل
هو
بداية العصر، فيه تقاس الظواهر، ويُكشف القانون في تجرِبة معملية، صورة مصغرة لما يحدث
في
الطبيعة الخارجية التي أمكن السيطرة عليها والتنبؤ بأحداثها بفضل الجهد الإنساني في
اكتشاف القوانين العلمية واختراع أجهزة الضبط والقياس. كان لا بد من تحويل كل ظاهرة في
الخارج إلى ظاهرة معملية، ظاهرة حسية كمية تخضع للقياس ويمكن الوصول فيها إلى قانونها
الموضوعي الذي يحكمها.
وكانت العلوم الإنسانية في هذا الوقت ما زالت في نطاق النظريات الفلسفية العقلية
والحدسية تخضع لأهواء الفلاسفة ولأمزجتهم الشخصية أو نتاجًا لظروف العصر وأحداثه أو خليطًا
من العلم والأسطورة، تصل فيها البساطة إلى حد السذاجة، أو صدًى لبعض المعتقدات الموروثة
الشعبية أو الدينية. كانت علوم النفس والاجتماع والأخلاق والقانون والسياسة والجمال صدًى
لرُوح الفيلسوف ونزعته المثالية التي كانت في الغالب صدًى لإيمان مستنير. كان الإنسان
من
طبقة والطبيعة من طبقة أخرى. ولما كان الإنسان أشرف ما في الكون فكيف يقاس بمقياس
العلوم الطبيعية التي تدرس الأشياء الأقل كمالًا؟ لذلك سارع علماء النفس والاجتماع
الأخلاق وغيرها من العلوم الإنسانية إلى تبني هذا المثل الرائع الذي أعطته العلوم
الطبيعية بمنهجها التجريبي، وحولت الظاهرة النفسية إلى ظاهرة معملية، فنشأ علم النفس
التجريبي، وخرج من معامل الفيزيولوجيا لأول مرة على يد فوند وفشنر وآخرين حتى شاركو.
وفي علم الاجتماع نشأت المدرسة الاجتماعية الفرنسية التي وضع أسسها أوجست كومت ثم
دوركايم وليفي برِيل. فاعتبر دوركايم الظواهر الاجتماعية أشياء تخضع للكم والقياس.
واعتبر ليفي برِيل تحليل العقل جزءًا من علم الاجتماع أو علم الإنسان أو علم الوراثة
أو
البيولوجيا. وكان أوجست كومت قد وضع من قبل قانون الحالات الثلاثة لفلسفة في التاريخ
ترى أن العصر الحاضر هو عصر العلم والتجريب بعد أن انقضى العصر اللاهوتي والميتافيزيقي
إلى غير رجعة. وفي علم الأخلاق حوَّل ليفي برِيل هذا العلم المعياري القديم إلى دراسة
للعادات وجعله فرعًا من علم الاجتماع.
ولقد تقدمت العلوم الإنسانية بعد تبنيها مناهج العلوم الطبيعية، واستطاعت أن تتخلى
أيضًا عن النظرات الفلسفية الذاتية والجوانب الأسطورية فيها. ولكن بعد ذلك، وفي أوائل
القرن العشرين بدأت الأزمة في الظهور. فقد تكشف للبعض مثل هُوسِرل وبرجسون ومونييه
وميرلوبونتي وجيرفتش ولمعظم الفلاسفة المعاصرين أن الظاهرة الإنسانية ليست كالظاهرة
الطبيعية، وأنها من نوعية مخالفة، وأن الظاهرة النفسية مختلفة عن الظاهرة الفيزيقية،
وأن الظاهرة الاجتماعية ليست شيئًا ملموسًا يقاس كمًّا. إذا كانت الظاهرة الطبيعية كمًّا
فالظاهرة النفسية كيفٌ، وإذا كانت الظاهرة الطبيعية يمكن قياسها فالظاهرة النفسية تنِد
عن
القياس، وإذا كانت الظاهرة الطبيعية يمكن التنبؤ بمسارها ووقوعها إذا علمنا قانونها
وسيطرنا عليها فالظاهرة الإنسانية تنِد عن القانون وتتميز بحرية باطنة فيها لا يمكن
التنبؤ بمجراها ووقت وقوعها أو بأشكالها المستقبلة، وإذا كانت الظاهرة الطبيعية موضوعًا
فإن الظاهرة الإنسانية أقرب إلى الذات، والإنسان ذات وليس موضوعًا، وهو ما عناه
الوجوديون بعد ذلك وأطلقوا عليه التعالي أو المفارقة.
١١٤
ومن ناحية أخرى رأى البعض أن نموذج اليقين في العلم هو المنهج الرياضي، أي اتساق الفكر
مع نفسه لا تطابُقه مع الواقع كما هو الحال في المنهج التجريبي. بل إن العلوم الرياضية
أقوى يقينًا من العلوم الطبيعية لأن معدل التغير في الأولى أقل بكثير من نسبة الخطأ في
الثانية. بل إن العلوم الطبيعية نفسها تتخذ اليقين الرياضي نموذجًا لها في الموضوعية
والشمول. وبالتالي فعلى العلوم الإنسانية إن أرادت أن تصير علومًا مضبوطة أن تأخذ
الرياضة نموذجًا لها، فهي الأصل في البحث عن اليقين، وأن تتبنى المنهج الصوري، خاصة وأن
أزمة العلوم الإنسانية التي تبنت المنهج التجريبي أخذت في الظهور، ولم يكن هناك مفر من
الرجوع إلى الأصل في العلوم الرياضية. ومن ثم أخذت العلوم الإنسانية تنمو نموًّا
رياضيًّا، وتتبنى المناهج الإحصائية. وأصبحت الظواهر كلها، طبيعية أم رياضية أم إنسانية،
مجرد معادلات ورموز، وأصبح اليقين كله في الوصول إلى نظرية شاملة تشابه نظرية الكثرة
أو
نظرية المجموعات في الرياضة البحتة. وأصبح نموذج العلم هو الرياضة الشاملة التي حاول
لَيبنتز من قبل وضع أسسها، والتي يعتبرها هُوسِرل المشروع الأوروبي لإقامة نظرية في العلم
مرادفة للبحث عن الحقيقة وبديل للحقيقة ذاتها. وكما كان خلاص العلوم الإنسانية من قبل
على يد بيكون ومِل فإن خلاصها الآن يتم على يد كانتور، وديدكيند، وريمان،
وبولزانو.
ولكن حدثت أزمة ثانية، ففي هذه المرة أيضًا ندَّت الظاهرة الإنسانية عن التحليل
الرياضي، وظهرت نوعيتها المستقلة، ولم يعد في الإمكان تحليلها على أنها مجرد مجموعة من
التصورات الرياضية أو المفاهيم المنطقية. الظاهرة الإنسانية ظاهرة حية، والرياضة علم
صوري محض، ولا يمكن دراسة الحياة بمنهج موضوعي فارغ من كل مضمون. وقد أدى ذلك كما لاحظ
هُوسِرل إلى فقدان عالم الحياة في العلوم الإنسانية. وأصبحت أزمة العلوم الإنسانية في
جوهرها أزمة للشعور الأوروبي نفسه بفقده التجرِبة الحسية التي هي مصدر العلم ومادته،
ومن
ثم كانت الظاهريات دعوة للحياة التي لا يمكن وضعها في نطاق العقل أو ردها إلى المادة.
وعلى مشارف هاتين الأزمتين الأولى والثانية بدأت الظاهريات في البحث عن منهج خاص للعلوم
الإنسانية يحفظ نوعية الظاهرة، ويميزها عن الظاهرتين الطبيعية والرياضية، وبالتالي شق
طريق ثالث هو الظاهريات.
١١٥ وإن كانت الظاهريات قد جاءت كرد فعل لأخطاء علمية في العلوم الإنسانية التي
تبنت العلوم الطبيعية أو العلوم الرياضية كنموذج لها، إلا أنها لم تكن في نهاية الأمر
سوى استكشاف لعالم الشعور.
١١٦
ولقد اعتبر هُوسِرل نفسه نبي العصر مثلما كان سقراط وأوغسطين من قبل وديكارت من بعد
ينبه الحضارة الأوروبية إلى الخطر المحدق بها والذي سيؤدي بها إلى الهلاك؛ وذلك لأن
أزمة العلوم الإنسانية أخطر بكثير مما تتصور، إذ إنها تعبر عن أزمة الإنسانية الأوروبية
أو أزمة الوجدان الأوروبي الذي فقد عالم الحياة. ويعبر هُوسِرل عن هذه الأزمة بعديد من
الألفاظ: فقدان، خَسارة، قلب، انهيار، سقوط، فصم، خلط، استبدال، ضيق، ضياع، فقر، نسيان،
سوء فهم، كسر … إلخ. وبهذا المعنى تكون الظاهريات دعوة مثالية من نوع جديد، مثالية
الشعور أو تيارًا رُوحيًّا إشراقيًّا من نوع تقليدي مثل سقراط وأوغسطين، أو إن شئنا نزعة
صوفية يسهل على أي اتجاه اجتماعي عملي مثل الماركسية رفضها. كما تدل أقوال هُوسِرل
واعترافاته الأخيرة على أن الظاهريات نزعة صوفية في صياغة عقلية تُعتبر بحق بمثابة حكمة
الإشراق في الوعي الأوروبي.
١١٧ وتكون الظاهريات بهذا المعنى إحدى الاتجاهات الرُّوحية المعاصرة وريثة
المثالية الترنسندنتالية التي هي بدورها وريثة الإيمان التقليدي. لذلك يصرح هُوسِرل في
آخر العلوم الأوروبية مستهدفًا إعطاء أوروبا دَفعة رُوحية جديدة قائلًا: إن لمحنة الوجود
الأوروبي مَخرجَين فقط: سقوط أوروبا في غربتها عن معنى حياتها العقلي وسقوطها إلى درك
العداء للرُّوح والبربرية أو ولادة أوروبا من جديد من رُوح الفلسفة من خلال بطولة العقل
التي استطاعت القضاء نهائيًّا على الاتجاه الطبيعي. فلنكافح ضد هذه الأخطاء باعتبارنا
أوروبيين طيبين في شجاعة لا يتوانى كفاحها الدائم. ومن هذا الاحتراق الناتج عن العدم
الناشئ عن عدم الاعتقاد ونار الشك الحارقة في رسالة الغرب الإنسانية، ومن رماد الجهد
الكبير لفونكس
١١٨ تُبعث حياة داخلية، وتعود الرُّوح كضمان لمستقبل كبير وطويل للإنسانية، حينئذٍ
تكون الرُّوح وحدها هي الخالدة.
١١٩