الفصل السابع

بنية الوعي الأوروبي

أولًا: العقلية الأوروبية

إذا كان الوعي الأوروبي ينتسب إلى حضارة طردية، أي تنشأ بفعل الطرد من المركز، وكانت الحضارة الإسلامية كحضارة مركزية تنشأ بفعل المركز ذاته، تكون بنية الوعي الأوروبي حصيلة تكوينه وليست بنية مستقلة سابقة عليه تقوم على تصور ثابت للعالم. بنية الوعي الأوروبي هي تكوينه المستمر نتيجة لتراكم هذا التكوين في أعماق الوعي الأوروبي وترسُّبه فيه حتى أصبح بنية متكونة أو تكوينًا بنيويًّا. ويدل على ذلك استغراق التكوين خمسة فصول: المصادر، والبداية، والذروة، ونهاية البداية، وبداية النهاية في حين استغرقت البنية فصلًا واحدًا. كما يدل على ذلك سبق التكوين على البنية وكأن البنية حصيلة التكوين ومحصلته. فإذا كانت فصول التكوين الخمسة قد اعتمدت على تحليل الأعمال الفكرية وأسهبت فيه لبيان تاريخية الوعي الأوروبي فإن فصل البنية يعتمد على التحليل الفكري الخالص، يحيل الفكر فيها إلى ذاته وليس إلى غيره، إلى الداخل وليس إلى الخارج.

وبهذا المعنى يمكن أن يقال إن هناك عقلية أوروبية لها سمات معينة ورؤية خاصة. وربما كان ما يقال على عقليات الشعوب الأوروبية مثل العقلية الفرنسية والعقلية الألمانية والعقلية البريطانية إنما هو اعتراف بوجود عقليات نوعية داخل العقلية الأوروبية العامة في القرن الماضي عندما ازدهرت القوميات ولم يكن الوعي الأوروبي قد تكون بعد كموضوع مستقل. وقد تكون مفاهيم العقلية البُدائية أو الفكر البَري أو عقليات الشعوب اللاأوروبية مثل العقلية الأفريقية أو العقلية الآسيوية أو العقلية الساميَّة أو العقلية العربية إنما هو إسقاط من العقلية الأوروبية على غيرها، وتصور أن هناك عقليات بقدر ماهناك من حضارات. العقلية الأوروبية هي الجانب النظري في الوعي الأوروبي الذي يشمل العاقل والمعقول، الذات والموضوع، الأنا والعالم.

ويمكن تلمس خصائص العقلية الأوروبية في عدة سمات عامة مشتركة ناتجة عن تكوين الوعي الأوروبي، ظروفه البيئية، ومصادره الفكرية، وبدايته وتطوره ونهايته. الوعي الأوروبي وعي خاص مثل كل وعي حضاري آخر، وليس له هذا العموم والشمول الذي تروجه له أجهزة الإعلام الأوروبية، ويروجه معها مثقفونا العلمانيون. له ظروفه البيئية، الجغرافية والتاريخية والسكانية. ففي الجغرافيا تمثل أوروبا الامتداد الغربي لآسيا والساحل الشمالي للبحر الأبيض المتوسط أي أنها تقع غرب قارة الحضارات الشرقية التاريخية وشمال الحضارة الإسلامية، فجمعت الحضارتين من الشرق والجنوب في حين كان الشمال ما زال بربريًّا. والغرب ما زال مجهولًا بالنسبة للقارة الأوروبية. فهو امتداد جغرافي طبيعي لانتقال الحضارة تاريخيًّا من الشرق إلى الغرب. وفي التاريخ تمثل أوروبا حصيلة الحضارات الشرقية في الصين والهند وفارس وما بين النهرين ومصر القديمة وكنعان والحضارة الإسلامية. فهي آخر حلقة من تسلسل حضاري طويل، الحضارة الأوروبية آخر حلقاته. أو بالنسبة إلى السكان فالشعوب الأوروبية، خاصة الجرمانية منها، شعوب غازية بربرية تقوم على الغزو والفتح، والحرب والعدوان، حتى بالرغم من نشر المسيحية فيها ظلت رومانية في البداية والنهاية. وقد ربَّى ذلك فيها إحساسًا بالتفوق انتهى إلى العنصرية العرقية القائمة على اللون، لون البشرة الأبيض في مقابل الأسود والأصفر، غير الملون في مقابل الملون، المركز في مقابل الأطراف. ولها مصادرها الخاصة ومعطاها الديني الخاص اليهودي المسيحي، خصوصية الشعب اليهودي، وخصوصية الإمبراطورية الرومانية. فجمعت بين العنصرية والغزو، بين العرقية والتوسع، بين شعب الله المختار والحضارة العالمية. وله نظامه الديني الخاص، المعبد والكنيسة، والسلطة الدينية المعادية للسلطة السياسية أولًا ثم المهادنة لها بعد انتصار الدولة على الكنيسة. ولها معطاها الديني الخاص العقائدي الشعائري المؤسسي الشيْئِي الذي لا تكفي فيه الأخلاق العملية، ولا يكفي فيه التنزيه العقلي الخالص، ولا يقوم بالضرورة على أصلَي التوحيد والعدل كما هو الحال في العقائد الإسلامية. وللوعي الأوروبي بداية ونهاية، تطور وبناء، نشأة واكتمال، ذروة واضمحلال، مثل كل وعي حضاري آخر.١ فليس هو الوعي الهابط من السماء مكتملًا ولا هو الوعي الباقي إلى الأبد، رمز الخلود وعنوان التفوق. وله عقليته الخاصة التي يتمثلها كل مفكر أوروبي بصيغة الأنا الجمعي عندما يقول: فلسفتنا، أدبنا، علمنا، حضارتنا، تاريخنا. ويتحقق ذلك على مستوى المؤسسات في منظمات الوحدة الأوروبية، والسوق الأوروبية المشتركة، والبرلمان الأوروبي، وفي أوروبا كمركز للنقل بين الشرق والغرب، وكحياد إيجابي بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة. لذلك تقترب أكثر فأكثر من أفريقيا خاصة ومن العالم الثالث عامة. وترنو إلى وحدتها الاقتصادية والسياسية القائمة على تراثها الفكري المشترك. فما هي الظروف التي أدت إلى تكوين العقلية الأوروبية؟ وما هي سماتها؟ وفيم تجلت إبداعاتها؟ وما مظاهر قوتها وضعفها؟ وما هي جوانب عظمتها وحدودها؟

(١) القطيعة المعرفية

كان الدرس المستفاد من مصادر الوعي الأوروبي وهو في طور التكوين أن كانت الكنيسة في عصر الآباء هي المسيطرة في أمور الدين وعلى شئون العقائد، تنظِّر ما تشاء، وتقبل من النصوص ما تريد. فأصبحت الكنيسة سلطة أولى وأخيرة في عقائد الإيمان ومقياس صحته، فهي جسد المسيح في التاريخ، بل إن الكتاب المقدس تكون فيها وخرج منها، وأصبحت هي ممثلة الفرقة الناجية في مقابل الفرق الضالة، أي الكنائس الخارجة مثل كنائس الدوناتيين، والمتطهرين، والموحدين (الآريوسيين) … إلى آخر هذه الفرق التي رد عليها أوزبيوس وأوغسطين. وفي العصر المدرسي أخذت الجامعات دور الكنائس بنفس السلطة وفرض مقاييس العقائد على المفكرين واللاهوتيين حتى أصبح كل فكر جديد منهاضًا بالضرورة للمؤسسة الدينية القديمة أو الجديدة، الكنيسة أو الجامعة. كانت العقائد وحيًا بالضرورة بكل ما فيها من تجسيم وتشبيه، وكان التنزيه مرفوضًا باعتباره هرطقة الفلاسفة المسلمين وأتباعه المسيحيين واليهود. كانت العقائد أشياء ووقائع تاريخية وليست مجرد مبادئ عامة للسلوك وبواعث على العمل الصالح، وكانت أسرارًا تند عن العقل وتتجاوز البداهة ويقصر عنها الفكر. وكان النص وحيًا أو إلهامًا من وضع الرُّوح القدس تحفظه العناية الإلهية وترعاه الكنيسة، وليس من وضع الجماعة المسيحية الأولى والوعي الجمعي في إطار من الديانات المقارنة والبيئات الثقافية اليهودية واليونانية في فلسطين. وكانت الشعائر والطقوس ضرورة للتعبير عن الإيمان ومقياسًا لصحته. وهي لا تمارَس إلا داخل المؤسسات الدينية لضمان صحة الشكل حتى ولو كان بلا مضمون، وبصرف النظر عن العمل الصالح في الحياة اليومية. وكان المقدس غير الدنيوي، والرُّوحي غير الزمني، والكنيسة غير الحقل والمصنع، والدين غير الدولة، بصرف النظر عن وحدة المكان والزمان والرؤية والنظام والقانون. كان الله مركز الكون، مسيطرًا على الطبيعة والإنسان. يتدخل باسم الفضل في مسار قوانين الطبيعة وفي الحرية الإنسانية. وكان الاختيار لشعب خاص دون باقي الشعوب دونما تبرير أخلاقي أو ديني. وكانت المسيحية غربية وريثة الإمبراطورية الرومانية، يرث الكرسي الرسولي عرش الإمبراطور الروماني. وأصبحت عاصمة الإمبراطورية الرومانية المدينة المقدسة، القدس الجديدة. كان الترهب مقياس الإخلاص، والرهبنة نظام للحياة أعلى من حياة الجسد. توقف التاريخ أو كاد، وغاب الإنسان الحر العاقل المسئول، كما غابت الطبيعة مصدر كل علم ومعرفة، فكان لا بد من القطيعة بين الماضي والحاضر، بين القديم والجديد. وتلك دلالة الإصلاح الديني وعصر النهضة وبداية الوعي الأوروبي.

كانت تجرِبة الوعي الأوروبي منذ البداية في عصر النهضة في القرن السادس عشر في القطيعة المعرفية بين الماضي والحاضر، وأن التقدم العلمي خاصة والإنساني عامة مرهون بهذه القطيعة، بقدر ما تكون القطيعة مع الماضي يكون التقدم نحو المستقبل. ظهر نموذج الانقطاع دون التواصل، وهو نموذج العالم الثالث، أو التجاور، وهو نموذج اليابان. ظهر هذا النموذج وكأنه هو النموذج الوحيد لكل الحضارات والثقافات والشعوب في نهضاتها المتتابعة. فإذا ما ظهرت حدود هذا النموذج خارج الوعي الأوروبي نشأ موضوع الحداثة أو التحديث، وظهر شعار التغير من خلال التواصل، وهو نموذج المجتمعات التراثية في العالم الذي يتجسد فيه الوعي الأوروبي. وظهر الصراع بين أنصار القديم وأنصار الجديد، ومحاصرة أنصار الجديد بأنصار القديم، محاصرة الأقلية بالأغلبية، واتهام كل من يريد الجمع بين الشرعيتين من أجل إبداع نموذج التواصل بالتوفيق.٢
وأصبح مفهوم «القطيعة المعرفية» أحد المفاهيم الرئيسية في فلسفة العلوم المعاصرة بعد أن تحول هذا النموذج الأوروبي الخاص إلى معيار معرفي عام. وانتشر المفهوم في الغرب المعاصر عند باشلار وألتوسير وفوكو، وهو يراجع قطيعته الأولى منذ عصر النهضة، ويحاول إعادة تأسيس نظرية المعرفة من جديد ابتداءً من علوم اللسانيات بعد أزمة نظرية المعرفة التقليدية بثنائياتها المعروفة بين القبلي والبعدي، العقلي والحسي، التحليلي والتركيبي، الاستنباطي والاستقرائي، الفطري والكسبي … إلخ. وانتشر المفهوم لدى بعض الباحثين العرب المعاصرين، خاصة في المغرب الأقصى، يطبقونه على تراث الأنا بعد أن استقوه من تراث آخر، ويوظفونه حضاريًّا لإحداث قطيعة بين الماضي والحاضر في التراث أسوة بالنموذج الغربي واعتزازًا بعلوم اللسانيات الحديثة، مع أننا لم نستنفد بعدُ نظرية المعرفة التقليدية. فلا نحن أعملنا العقل ولا نحن اعتمدنا على الحس. وقد يوظفونه سياسيًّا في اللاشعور لإحداث قطيعة تاريخية بين المشرق والمغرب. الأول صوفي إشراقي والثاني عقلاني علمي لصالح الشوفينية الإقليمية وبدافع التغريب.٣
لذلك بدأ المشروع الأوروبي الحديث مشروعًا معرفيًّا خالصًا، يعطي الأولوية للمعرفة على الوجود، وللنظر على العمل، وللعقل على الإرادة، وللفهم على التغيير مما سبب عن حقٍّ انقلاب الماركسية عليه، وقبل أن تأتي النهاية فتقلب الموازين، وتعطي الأولوية للوجود على المعرفة، وللعمل على النظر، وللإرادة على العقل، وللتغيير على الفهم كما بدا ذلك في النزعات اللاعقلانية المعاصرة، خاصة في فلسفات الحياة ممثلةً في نيتشه وفي الوجودية ممثلة في كيركجارد، مما سبب عن حقٍّ ظهور النزعات الفاشيَّة والنازية ووقوع حربين أوروبيتين بينهما عشرون عامًا. وهي النزعات التي أرخ لها جورج لوكاتش في «تحطيم العقل».٤ وهذا لا يعني غياب كل محاولة لإبراز دور الإرادة في البداية المعرفية، كما هو الحال عند ديكارت في تفسير الخطأ بأن الإرادة أوسع نطاقًا من الذهن، وعند كانط في أولوية العقل العملي على النظري، أو غياب كل محاولة عقلية في النهاية الإرادية للمشروع الأوروبي كما هو الحال في البنيوية واللسانيات وبعض التحليلات العقلية للوجود عند هَيدجر وسارتر وميرلوبونتي.

(٢) الواقع العاري

وبعد نجاح عصر النهضة في التحول من القديم إلى الجديد، ومن سلطة الكتاب المغلق إلى كتاب الطبيعة المفتوح، ومن سلطة الكنيسة وأرسطو إلى سلطة العقل، وبعد انهيار التصورات الدينية والأرسطية القديمة للعالم أصبح الواقع عاريًا دون أي غطاء نظري، وحدث انشقاق بين الأنا والعالم. لم يعد العالم مفهومًا. وأصبحت الذات قادرة على الفهم. وهنا بدأت محاولات بناء التصورات الجديدة لتحل محل التصورات القديمة، ولتملأ هذا الفراغ النظري، ولتعيد الوئام بين الأنا والعالم، فيُصبح الأنا عالمًا والعالم معلومًا. لذلك بدأ المشروع الأوروبي في بدايته مشروعًا معرفيًّا خالصًا. وهو ما لم يحدث بعد في مجتمعاتنا الحالية. فالتصورات القديمة للعالم ما زالت موروثة، والكتاب والتراث ما زالا سلطة، والواقع ما زال مغطًّى بنظريات قديمة يتم التسليم بها دون شك أو بحث عن بديل. وما زال الوئام النظري قائمًا بين الأنا والعالم، بين الذات والموضوع: الله موجود، والعالم مخلوق، والنفس خالدة. فأية محاولة لتأسيس نظرية في المعرفة كبداية للنهضة والتحرر والثورة إنما هو تقليد للغرب. وشتان ما بين الواقع العاري في الغرب، والواقع المغطى لدينا. إنما نظرية المعرفة لدينا هي التأويل والتفسير؛ تأويل القديم من أجل إعادة بنائه طبقًا لحاجات العصر. نظرية المعرفة لدينا هي الهرمنيوطيقا الجديدة أو نظرية التفسير.٥
ولما أتت الأغطية النظرية الجديدة بناء على اجتهادات فردية خالصة، وحل المفكر الجديد محل السلطة القديمة ارتبط التصور الجديد باسمه. فنشأت لديهم «الديكارتية» بناء على التصور الذي اقترحه ديكارت للعالم، ثم «الكانطية» اعتمادًا على تصور آخر لكانط، ثم «الهيجلية» و«الماركسية» … إلخ. وتوالت المذاهب مشتقة من أسماء الأعلام لواضعيها. وكلما كان المذهب شاملًا وشامخًا التصق باسم صاحبه. فالكانطية أشمل من الديكارتية، والهيجلية أعم وأضخم من الكانطية. حتى الفلاسفة الذين ليس لديهم مذهب لأنهم ضد المذهب اشتُقت فلسفاتهم من أسمائهم مثل «البرجسونية» و«السارترية». بل إنه تم إسقاط هذه المذهبية الاسمية على العصر الوسيط في حالة إحياء فلسفاته مثل «الأوغسطينية» و«التوماوية». وقد تم ذلك أيضًا منذ بداية العصور الحديثة في الإصلاح الديني في القرن الخامس عشر، فأصبح لدينا «اللوثرية» و«الكالفينية» وكأننا أصبحنا مع علم كلام جديد «النظَّامية»، «الهُذَيلية»، «الواصلية»، «الهِشامية»، «الجُبَّائية»، «الأشعرية» … إلخ. وقد لاحظ ذلك الفارابي من قبل، نسبة الفلسفة إلى صاحبها.٦ بل قيل ذلك أيضًا عن حضارات أخرى مثل حضارتنا إسقاطًا من الآخر علينا، وإسقاطًا من أنفسنا التي يقبع فيها الآخر على أنفسنا مثل السينوية والرشدية، مع أن ابن سينا وابن رشد لا يضعان حقيقة كما يفعل ديكارت وكانط وهيجل بل يصفان شيئًا موجودًا من قبل. الفيلسوف الأوروبي «يضع» في حين أن الفيلسوف الإسلامي «يعرض».٧ وظننا أن من شيمة التفلسف اشتقاق المذاهب من أسماء أشخاصها تقليدًا للغرب، وفرحنا من دخول أسمائنا التاريخ وتحولها إلى مذاهب فلسفية تخليدًا لذكرانا، مع أن الواقع مختلف تمامًا، الواقع عارٍ في الغرب، في حين أن الواقع مغطًّى لدينا، ولكننا نقلد الغرب إحساسًا منا بالنقص. فالأنا المنسي سرعان ما يتحول إلى إثبات باشتقاق اسم المذهب منه. فيقال «الحنفية» أو المشروع «الحنفي» حتى والإنسان ما زال حيًّا إلصاقًا لمذهبه بشخصه، وقضاءً على موضوعية فكره، وجعله مجرد مزاج شخصي، ترجع الحركة فيه إلى مزاجه المتقلب.٨ وقد حدث من شدة ارتباط المذهب بالشخص أن كل من يقول «أنا أفكر» يصبح ديكارتيًّا، وكل من يتحدث عن الفلسفة النقدية يكون كانطيًّا، وكل من يتحدث عن الجدل يكون هيجليًّا، وكل من يقوم بتحليل الشعور وتجارِبه الحية يكون ظاهراتيًّا، وكل من يرى الصراع الطبقي في مجتمعه يكون ماركسيًّا، وكل من يناضل من أجل العدالة الاجتماعية يكون سان سيمونيًّا، وكل من يتحدث عن الحدس والديمومة والتطور الخالق يكون برجسونيًّا، وكل من يعاني ويقلق ويتحدث عن الوجود الإنساني كمشروع تحقق يكون وجوديًّا سارتريًّا أو هَيدجريًّا … إلخ. فتمت إحالة جميع إبداعات الأطراف إلى المركز. واستقطبت أسماء الأعلام المذاهب كلها. كذلك استقطبت المذاهب كل إبداعات أخرى متمايزة عنها. فأخذ الفلاسفة الأوروبيون أكثر مما يستحقونه وأخذ غيرهم من مفكري الأطراف أقل مما يستحقون.٩

وأحيانًا يرتبط اسم المذهب بأهم مفهوم فيه مثل: «المثالية»، «الواقعية»، «الحسية»، «التجريبية، «العقلانية»، «الصورية»، «المادية»، «التطورية»، «الحيوية»، «الوضعية»، «الوجودية»، «التحليلية»، «البرجماتية»، «البنيوية»، «الظاهراتية»، «التفكيكية». فاسم المذهب يدل على مفهومه الأساسي أو محوره الرئيسي أو بؤرته المركزية أو منهجه الغالب أو اختياره المفضل لأحد البدائل … إلخ. وقد نشأ ذلك أيضًا في تراثنا القديم مثل: الصفاتية، القدرية، أهل السنة، أهل التوحيد والعدل … إلخ. فتحولت المفاهيم والتصورات وأدوات المعرفة ومناهجها عناوين لمذاهب كاملة، فامتد الجزء إلى الكل، وأصبح بديلًا عنه. تضخم الجزء وأصبح كلًّا حتى نازعته أجزاء أخرى بنفس المشروعية وبنفس المنطق، ووقع نزاع بين الكليات وهو في الحقيقة نزاع بين الجزئيات، ويضع المفكر العربي نفسه طرفًا في هذا النزاع فينتصر لجزء تحول إلى كل، وينتصر آخر لجزء تحول إلى كل، فينشأ الصراع بين الجزئيات الكلية أو بين الكليات الجزئية، ووضَع أغطية ثقافية غربية في واقعٍ مغطًّى، أغطية فوق أغطية حتى أصبح من الصعب تعرية الواقع ورؤيته أو تنظيره تنظيرًا مباشرًا.

وقد يُشتق اسم المذهب الفلسفي من المكان الذي نشأ فيه مثل «ندوة فيينا»، «مدرسة فرانكفورت»، «مدرسة كمبردج»، «مدرسة أكسفورد»، «مدرسة ماربورج»، «مدرسة هيدلبرج»، «مدرسة توبنجن»، وعادة ما يحدث ذلك في المدن التي تحتوي على الجامعات العريقة. وقد نشأ ذلك أيضًا في تراثنا القديم مثل «الحَرُورية» دلالة على الخوارج ونسبة إلى حاروراء. وبالرغم مما يوحي ذلك بأن الفلسفات مرتبطة بالأمكنة التي نشأت فيها إلا أن الفكر الغربي نقل نفسه من مكانه إلى مكان آخر، وسمى البعض منا نفسه «السربوني». وإذا ما تخرج آخر من كمبردج أو أكسفورد جعل فكره وأبحاثه في نفس التيار وكأنه أصبح ممثلًا للمدرسة خارج مكانها في قارة أخرى.

وقد يرتبط اسم المذهب أو مجموعة من المذاهب والتيارات باسم الدولة؛ فهناك المثالية الألمانية، والفلسفة الأنجلوسكسونية، والرُّوحانية الفرنسية، والبرجماتية الأمريكية، وكأن القومية أصبحت عنوانًا لمذهب، ومؤشرًا على تيار، ودليلًا على اتجاه. وانتشر ذلك أيضًا في فكرنا القومي فأصبح البعض منا نصير المثالية الألمانية، والآخر مؤيدًا للفلسفة الأنجلوسكسونية، وثالثًا مروجًا للرُّوحانية الفرنسية … إلخ. فطغت رُوح القوميات الأوروبية على القومية العربية دون محاولات للتعبير المباشر عن رُوح القومية العربية.

وقد يُشتق اسم المذهب من القرن كله فيقال فلسفة القرن السادس عشر وتعني عصر النهضة. وفلسفة القرن السابع عشر وتعني العقلانية، وفلسفة الثامن عشر وتعني التنوير، وفلسفة التاسع عشر وتعني إما المثالية أو الرومانسية أو الوضعية، وفلسفة العشرين وتعني الوجودية أو الظاهراتية أو البنيوية. ولما كان الوعي الأوروبي يزهو دائمًا بأنه مكتشف الزمان والتقدم والتاريخ، فإن القرن العشرين يكون بالضرورة أكثر كمالًا من القرون السابقة عليه. فالفلسفة ابنة عصرها. ومن لا يعرف فلسفة القرن العشرين لا يكون فيلسوفًا. ولما كنا نجري وراء الغرب، وندعي الحداثة، ونضع أنفسنا في قرون لسنا فيها هرعنا إلى فلسفات القرن العشرين وأصبح منا الظاهراتي، والوجودي، والبنيوي، والشخصاني، والتوماوي الجديد، والتفكيكي. مع أن كل حضارة لها عصورها، وكل وعي له فلسفاته ومساره.

وقد يُشتق اسم الفلسفة من العصر كله. فهذه فلسفة العصور الحديثة، وتعني تلك التي نشأت في الغرب منذ القرن السابع عشر حتى العشرين، في مقابل فلسفة العصر الوسيط التي تعني الفلسفة الغربية منذ القرن الحادي عشر حتى الرابع عشر. أما عصر آباء الكنيسة فيعتبر مصدر فلسفة العصر الوسيط أو لاهوتًا يُدرَّس في مدارس العقائد ولرهبان الكنائس. ووضعنا أنفسنا في هذا التحقيب. فنحن ندرس أيضًا فلسفة العصور الحديثة، وفلسفة العصور الوسطى، ونحن لسنا في العصور الحديثة بل إننا في مرحلة انتقال من الإصلاح الديني إلى عصر النهضة، في نهاية السبعمائة سنة الثانية، عصر الشروح والملخصات، بعد السبعمائة سنة الأولى، عصر الإبداع، وعلى مشارف السبعمائة سنة الثالثة بداية الدورة الثانية والإبداع الثاني والريادة الثانية. ولا كنا في العصور الوسطى بل كنا في فترة الإبداع الأولى، في عصرنا الذهبي الأول.

كل هذه التسميات والاشتقاقات كانت محاولة من الوعي الأوروبي لتغطية الواقع العاري بعد عصر النهضة عن طريق تحويل الشخص أو المفهوم أو التصور أو المنهج أو المدنية أو القرن أو العصر إلى مذهب حتى يمكن فهم العالم وتصوره، وتأسيس نظرية معرفة بديلة، وتحقيق الوئام المعرفي بين الأنا والعالم.

ونظرًا لارتباط التصورات الجديدة بأسماء أصحابها وباجتهاداتهم الخاصة فإنه غالبًا ما يتم العثور عليها عن طريق حدوس مفاجئة في ليالي مفترجة مثل ليلة ١٠ نوفمبر ١٦١٩م التي اكتشف فيها ديكارت «علمًا رائعًا». وكان لدى البعض منهم إحساس بالجدة والابتكار. لذلك سمى بيكون مشروعه «الآلة الجديدة» وهو المنطق الاستقرائي في مقابل الآلة القديمة وهو منطق أرسطو. وسمى جاليليو علمه «العلوم الجديدة»، وسمى فيكو علمه «العلم الجديد». وكان هذا الإحساس بالجدة قد بدأ من قبل منذ القرن الثالث عشر عند ريمون لول بعنوان «الفن العظيم» أو «العام». وهي نفس الفترة التي نعيشها نحن الآن في مشروع «التراث والتجديد» إعلان عن التحول من القديم إلى الجديد، ونقل مسار الحضارة نقلًا نوعيًّا من مرحلة إلى مرحلة.١٠

لذلك ارتبط المشروع الأوروبي بالذاتية لأنه مشروع معرفي خالص يضع الذات قبل الموضوع كما اتضح ذلك في اليقين الأول عند ديكارت «الكوجيتو»، وفي الثورة الكوبرنيقية عند كانط، وفي «ظاهريات الرُّوح» و«علم المنطق» عند هيجل، وفي «الظاهريات» عند هُوسِرل كما عرضها في «الأفكار». كل المذاهب الفلسفية الكبرى في المحطات الأربعة للوعي الأوروبي: ديكارت، كانط، هيجل، هُوسِرل تبدأ من الذاتية، ومنها خرجت المثالية. فالذات حاملة للمثال، وواضعة للفكر. بل إن المثالية الحسية عند بركلي هي أيضًا ذاتية. والمذهب الحسي التجريبي عند لوك وهوبز وهيوم أيضًا ذاتية حسية. بل إن المذاهب الحيوية والإرادية والإنسانية والوجودية والتحليلية والبرجماتية تنبثق أيضًا من الذاتية التي تعبر عن نفسها بالحياة أو الإرادة أو الإنسان أو الوجود أو الفعل أو العمل. بل إن المذاهب الوضعية التي تعطي الأولوية للواقع على الفكر هي ذاتية مضادة أو ذاتية مقلوبة مثل الوضعية والماركسية والتطورية، ذاتية جمعية أو وعي اجتماعي أو رُوح طبيعية. وأصبحت الذاتية عنوانًا على الوعي الأوروبي وهو في الذروة وفي الفلسفة بعد كانط مثل نيتشه وفي الفلسفة الرومانسية عند شلنج، الذاتية المتحدة بالموضوعية، والرُّوح المساوقة للطبيعة. وهو ما يعادل محمد إقبال لدينا وفلسفته في الذاتية «خودي» التي من نفس الاشتقاق للفظ الله «خودا». فالذاتية هي الله، والله هو الذاتية. لذلك ارتبط محمد إقبال بالفلسفة الغربية وبالمشروع الغربي قبل إفلاسه ونعيه لأهله. الذاتية هي الله والعلم والعالم. هي الحقيقة الأولى. وهي الموضوعية في مرحلة الكمون. لذلك كان للمعرفة الأولوية على الوجود، وكانت نقطة البداية في الوعي الأوروبي المثالية.

ثانيًا: التنظير العقلي

وبناء على متطلبات هذا المشروع المعرفي بدأ الوعي الأوروبي يُظهر قدرة فائقة على التنظير منذ البداية في «أنا أفكر» حتى النهاية في «أنا موجود». أصبح العقل قادرًا على فهم أنساقه الرياضية الخاصة ونظمه الفكرية ومذاهبه الفلسفية. كما استطاع تحويل المادة إلى مفاهيم مثل الحركة والامتداد. «أعطني الحركة والامتداد أعطك العالم». ووحد الإنسان بينه وبين العقل في الإنسان العاقل عودًا إلى الحيوان الناطق. أصبحت وظيفة الوعي الأوروبي تحويل كل شيء إلى عقل حتى لقد اعتبر ماكس فيبر وهُوسِرل التعقيل أو التنظير إحدى السمات الجوهرية للوعي الأوروبي يتميز بها على غيره من الشعوب التي لم تصل إلى هذه الدرجة من القدرة على التنظير، واقتصرت على ممارسة القيم العملية في الأخلاق والدين. لم تثق حضارة بالعقل ثقة الحضارة الأوروبية به باستثناء الحضارة الإسلامية، ووثقت بوسائل المعرفة الإنسانية الحسية والعقلية والوجدانية كما وثق بها الأصوليون القدماء. سماه ديكارت الحس السليم، وسماه كانط العقل النظري، وسماه الإنجليز الحس المشترك، وأطلق عليه هيجل لفظ الرُّوح، وسماه هُوسِرل العقل. أكد الجميع على البداهة، والنور الفطري، وعموم المبادئ، وشمول المصادرات، وعلى أهمية الاتساق، وضرورة الاستنباط وهو ما سماه القدماء التولد، فالنظر يولد العلم، والعلم فطري وكسبي.

(١) العقل النظري

ظهر العقل في الوعي الأوروبي باعتباره عقلًا نظريًّا أولًا ثم تحول بعد ذلك إلى عقل عملي نظري أيضًا. وضح ذلك عند كانط، خاصة في الأخلاق النظرية، وهي تعبير عن العقل العملي النظري. ولم ينقلب على ذلك إلا ماركس في إعطائه الأولوية لتغيير العالم على فهمه وتفسيره، ولكن حتى في هذا التحول ظل مثاليًّا، فالتغيير تعبير عن مقتضيات العقل العملي النظري بمصطلح كانط أو عن تجليات الرُّوح بتعبير هيجل. فالعقل هو الجانب النظري في الوعي الأوروبي، وظيفته التنظير، وتحويل الواقع إلى مثال، والمادة إلى تصور حتى يستطيع الإنسان أن يعيش في عالم يحكمه الفكر. الفكر يشرع للواقع، والواقع ينضوي تحت الفكر.

ظهر التنظير أولًا في العلوم الرياضية، أي على مستوى العقل الخالص، فنشأت الرياضيات الجديدة. أنشأ ديكارت الهندسة التحليلية وأكملها كومت. وحاول لَيبنتز تأسيس رياضيات شاملة لكل العلوم، وأسس حساب التفاضل والتكامل. وقامت الهندسة اللاإقليدية لتبين قدرة العقل ليس فقط على التنظير بل أيضًا على الخيال. وتأسست نظرية المجموعات، ونظرية الكثرة، وحساب الاحتمالات، والجبر الحديث، والمنطق الرياضي، والمنطق الرمزي. وتأسست الرياضيات البحتة، فأصبحت الرياضيات غاية في ذاتها، ذاتًا وموضوعًا.

وامتد التنظير أيضًا إلى العلوم الطبيعية، فتم تحويل الطبيعة إلى رياضة على يد جاليليو، ثم اكتشاف قوانين الطبيعة عند نيوتن. وفي النظرية النسبية ومصادرها في النظرية التموُّجية تحولت العلوم الطبيعية إلى رياضيات بحتة. واستقلت الرُّوح والطبيعة كما نادى الشعراء والفلاسفة الرومانسيون من قبل: جوته، هيجل، شلنج، وكما بين ذلك رَسِل أخيرًا في «تحليل العقل» و«تحليل المادة». فالمادة لا تظهر إلا من خلال الحس، والحس إحدى وظائف العقل ومراحله الأولى كما بين الأصوليون القدماء. والاستقراء استنباط مقلوب. والإحصاء يبدأ من الطبيعة وينتهي بالرياضة مثل حساب الاحتمالات.

وامتد التنظير أيضًا إلى العلوم الإنسانية لبناء نماذج رياضية بعد أن أثبتت الرياضيات صدقها ويقينها. فنشأ منذ البداية علم النفس العقلي عند فولف، وكتب ديكارت رسالة في الإنسان، وكتب اسبينوزا رسالة في الانفعالات، تطبيقًا لنظرية المعرفة العقلية. وحوَّل كانط علم الأخلاق إلى أخلاق عقلية خالصة في «نقد العقل العملي» و«أسس ميتافيزيقا الأخلاق». كما حوَّل بِنتام علم الأخلاق إلى علم حساب الذات. كما ظهر علم السياسة العقلاني عند اسبينوزا في «رسالة في اللاهوت والسياسة»، وعند كانط في «مشروع السلام الدائم»، وعند هيجل في «فلسفة الحق». وتأسس علم الجمال العقلي عند كانط في «نقد ملكة الحكم». كما قام علم القانون العقلي عند فشته في «فلسفة القانون». وأصبح للعقل سلطان على كل شيء، وتحدث كانط عن عصر التنوير، كما كتب توماس بِين «عصر العقل».

كما تحول الدين من مفهومه القديم العقائدي الإيماني الشعائري التاريخي الكنسي إلى دين عقلي خالص، كما كان الحال عند المتكلمين والحكماء في تراثنا القديم. أصبح العقل قادرًا على إثبات وجود الله، ولم يعد الإيمان سرًّا يتجاوز حدود العقل، ولم يعد الله مجسَّمًا أو مشبَّهًا بل أصبح منزَّهًا، ليس كمثله شيء، ذاتًا وصفاتًا وأفعالًا. وأصبح للإنسان حرية اختيار ضد القضاء والقدر المسبقَين وخارج الإرادة الإلهية الشاملة دونما حاجة إلى عون خارجي أو فضل إلهي. أصبح الإنسان مسئولًا عن نفسه لا عن أخطاء غيره، قادرًا على إنقاذ نفسه بنفسه بإرادته الحرة، دون انتظار لمخلِّص، واستعاد الإنسان براءته الأصلية دون تحمل خطيئة ارتكبها غيره، وأصبح خيِّرًا بفطرته. أما الشر فإنه مكتسب من النظم الاجتماعية. حدث تحول جذري في الوعي الأوروبي من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة، من التأليه والتجسيم والتشبيه إلى التنزيه، ومن الجبر والكسب إلى الاختيار، ومن النقل إلى العقل، ومن نظام الإمامة إلى الدولة الوطنية الحديثة، ومن التعيين بالنص إلى الاختيار بالبيعة. وبلُغتنا تم التحول من الأشعرية إلى الاعتزال، بعدنا بألف عام. وابتدأ الوعي الأوروبي في القرن السابع عشر في التمهيد لفلسفة التنوير في القرن الثامن عشر لإعلان استقلال الإنسان عقلًا وإرادة. وما أعلنه لِسِنج في القرن الثامن عشر بانتهاء عصر النبوة، وببلوغ الإنسانية ووصولها إلى مرحلة النضج دون حاجة إلى هداية أو إرشاد أو تدخل أو عون من الخارج، أعلنه الإسلام قبله بألف عام. فالعقلانية الأوروبية امتداد لعقليتنا الإسلامية الاعتزالية الفلسفية الأولى.

وقد شمل التنظير أيضًا باقي مظاهر الحياة العملية، في الحياة اليومية وفي تنظيم العمل وفي الإدارة والتصنيع وفي الحياة السياسية والقانونية. تم تنظيم استعمال الوقت كما هو الحال في تنظيم أوقات الصلاة عند الأصوليين، اقتضاء الفعل في الوقت على الفور وإلا كان على التراخي أو قضاء، وهو أقل قيمة من الإتيان به في الحال. وتم تطبيق العمل طبقًا للوقت وساعات العمل، وتحددت لذلك نظم الإدارة. وبتطبيق العقل في الآلة نشأ التصنيع والتحكم الآلي في الإنتاج الصناعي. فالآلة عقل مادي يعمل ويفكر. وامتد التنظير إلى الحياة السياسية والقانونية، فنشأت الدساتير والقوانين المدنية، وتم إعلان الحقوق والواجبات للمواطنين المتساوين أمام القانون، بما في ذلك رئيس الدولة، وقائد الجيش، ورئيس الشرطة.

(٢) وجهات النظر

لما تحول مركز الكون من الله إلى الإنسان في بداية الوعي الأوروبي وبعد الإصلاح الديني وعصر النهضة أصبح الإنسان مقياسًا لكل شيء، وأُعيد اكتشاف بروتاجوراس في المصدر اليوناني لتأكيد هذه النزعة الإنسانية النسبية، ليس الإنسان العام المطلق بل الإنسان الفردي المتغير. الحقيقة وجهة نظر، إنسانية متغيرة. كان المذهب الإنساني خطوة إلى الأمام، ثم جاء الإنسان الفرد المتغير، وليس الإنسان المطلق، بما هو إنسان، خطوة إلى الخلف. «أنا أفكر فأنا إذن موجود» تعبر عن الإنسان من حيث هو إنسان عند ديكارت وكانط. ولكن ضمت هذه الأنا في ثناياها الأنا النسبي القومي، الفرنسي أو الألماني أو الأوروبي؛ إذ يقول الأنا القومي: أنا أفكر وأنت موضوع تفكيري، ويقول الأنا الأوروبي: أنا أفكر وأنت مجالي الحيوي، ثم أصبح الرُّوح الأوروبي الذي ينبثق من الجسد اللاأوروبي في الشرق القديم حيث لم تستيقظ الرُّوح بعد.

ولما كان الاجتهاد الذاتي باستمرار وجهة نظر بعد أن انهارت التصورات الكلية أمامها تعددت وجهات النظر بتعدد المنظِّرين. ولم يعد في الإمكان إيجاد حقائق كلية بديلة بعد أن اكتسب الوعي الأوروبي مناعة ضد قبولها، وبعد أن ثبت لديه بالدليل القاطع زيفها وبطلانها وعدم قيامها على العقل والطبيعة. أصبحت «وجهة نظر» «ركن النظر»، كل منها يرد الكل إلى أجزائه،١١ فوقع الوعي الأوروبي منذ بدايته في خطأ رد الكل إلى الجزء: العالم مثال، العالم واقع، العالم عقل، العالم حس، وكل وجهة نظر تنفي الأخرى. صحيح أنه كانت هناك محاولات لنيل الكل وعدم التنازل عنه، ورفض رده إلى الأجزاء منذ بداية الوعي الأوروبي عند اسبينوزا، وفي الذروة عند هيجل، وفي النهاية عند هُوسِرل، وفي العلوم الإنسانية عند الجِشطلت، ولكن ظلت وجهات النظر هي الغالبة، وكان الكل إحدى وجهات النظر مثل غيرها وليس على النقيض منها، لدرجة أن وجهة النظر تحولت إلى مذهب فلسفي معاصر هو المنظور عند أورتيجا إي جاسيه.١٢
ولما كانت وجهات النظر كلها معقولة، فكلها ترد الكل إلى أحد أجزائه، وليس لأحد الأجزاء فضل على الجزء الآخر، تساوت المذاهب، وأصبحت كلها على نفس القدر من الصواب والخطأ. تكافأت الأدلة، بتعبير القدماء، وغاب الترجيح. فتحولت التعددية إلى مذهب كما هو الحال عند وليم جيمس في «عالم متعدد»، وأصبح الاختلاف حول الحقيقة هو الحقيقة ذاتها. فتأصلت التعددية دون تكفير لأحد الأجزاء للجزء الآخر، وتعددت وجهات النظر دون تحويل إحداها للأخرى. أصبح الوعي الأوروبي يزهو بأنه وحده حضارة التعدد والاختلاف، كما هو الحال في حضارتنا القديمة: «اختلاف الأئمة رحمة بينهم»، «كلكم رادٌّ وكلكم مردود عليه»، «أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم». وكانت التعددية قد أصبحت أحد مبادئ علم أصول الفقه في الاجتهاد والاستفتاء «الصواب متعدد»، «الحق النظري متعدد، والحق العملي واحد». أصبحت التعددية أيضًا قوام الحياة السياسية في نظام تعدد الأحزاب أساس النظم الديمقراطية الحديثة، ودعامة الحرية والمساواة، حرية الفرد، ومساواة الجميع أمام القانون.١٣
ومن كثرة تراكم وجهات النظر وتضاربها بحيث استوت جميعها أمام العقل، لا فرق بين حق وباطل، صواب وخطأ، بدأت النسبية تسري في الوعي الأوروبي حتى أصبحت جزءًا من نسيجه، نسبية الحقيقة وتغيرها ضد إطلاقها وثباتها. كل شيء متغير، وكل شيء نسبي، ووجد الوعي الأوروبي في مصدره اليوناني ما يؤكد له نسبيته عند هرقليطس. ثم عبر عن ذلك هيجل في أن التغير هو المطلق الوحيد، وأن المطلق الوحيد هو التغير. وأعطى كيركجارد الأولوية للصيرورة على الوجود. ورأى دارون التطور في الطبيعة، لا فرق بين الجماد والحياة. وأكدت فلسفات التاريخ نفس الشيء بمحاولاتها رصد مراحل التقدم البشري عبر المجتمعات والحضارات. واستمر الحال حتى الفلسفة المعاصرة عند برجسون في «التطور الخلاق» وهوايتهد في «العملية والواقع» إيثارًا للمتحول على الثابت، حتى لقد رأى البعض منا في مشاريعه الفكرية المعاصرة أن بداية النهضة عندنا أيضًا هو في التحول من الثابت إلى المتحول.١٤
ونظرًا لتهدم الأنساق القديمة، وانهيار التصورات الموروثة تحت معاول النقد العقلي والعلمي الجديد بدأ الشك في الموروث القديم يثبت فاعليته وأهميته. فأصبح الشك أولى مقدمات النظر كما كان الحال في تراثنا القديم لدى علماء أصول الدين، خاصة المعتزلة منهم، في اعتبار النظر أول الواجبات على المكلَّف، واعتبار الشك أولى مقدمات النظر.١٥ «أنا أشك فأنا إذن أفكر». بدأ الوعي الأوروبي بالشك المنهجي عند ديكارت بعد أن كان الشك فلسفة تقضي على كل شيء كمعول هدم وتقويض لا يستثني شيئًا عند مونتاني. واستمر الشك بصور عديدة بعد مونتاني وديكارت في التوقف عن الحكم فيما يتعلق بحقائق الأمور لأن العقل لا يصدر أحكامًا إلا على الظواهر كما هو الحال عند كانط، وفي الشك في وجود تصورات ذهنية سابقة على الحس ومستقلة عنه عند لوك وهوبز وهيوم، وفي التوقف عن الحكم فيما يتعلق بالوقائع المادية في العالم الخارجي والموضوعة بين قوسين عند هُوسِرل. ثم تحول الشك من منهج إلى طبيعة، ومن أداة إلى مزاج، ومن وسيلة إلى غاية حتى ضاع الاعتقاد الجديد كما ضاع الإيمان القديم.
ومن كثرة الشك والتقلب، ولطول البحث والتنقيب، وبهدم اليوم ما تم اكتشافه بالأمس، وبتقويض الغد ما يتم إثباته اليوم، تساوى كل شيء مع كل شيء، لم يعد هناك شيء ثابت يُعرف على نحو مطلق، ولم يعد هناك يقين دائم بشيء لا منهجًا ولا موضوعًا ولا غاية. انتهى الوعي الأوروبي إلى العدمية المطلقة، وانقلب المشروع ا لمعرفي رأسًا على عقب، من العقل إلى الإرادة، ومن اليقين إلى الشك، ومن البحث إلى الأزمة، ومن الفكر إلى النزوع، من التفاؤل إلى التشاؤم، ومن التقدم إلى الانهيار، ومن المَلاء إلى الخلاء، ومن الرُّوح إلى الخواء. كما تجلى ذلك في أوضح صورة عند نيتشه ثم عند فلاسفة الوجود، خاصة عند هَيدجر وسارتر، وفي الفلسفة التفكيكية عند دريدا. لقد أعلن نيتشه أن عصر العدمية قادم، كما أعلن سارتر أن الوجود عدم، كما ينتهي التفكيك إلى عدم. وإذا كان الوعي الأوروبي في مرحلة الذروة قد اكتشف أن العقل هو الوجود، كما بان ذلك عند هيجل، فإنه في مرحلة النهاية قد اكتشف أن الوجود عدم.١٦ فإن كان العقل هو البداية فإن العدم هو النهاية.

(٣) حدود العقل

لقد استطاع العقل، الجانب النظري في الوعي الأوروبي، أن يصل إلى أعلى درجة ممكنة من العموم والشمول كما وضحت في الرياضيات الشاملة عند لَيبنتز ضد تأليه الأشخاص، وتجسيم العقائد، وتشبيه الصفات، وخصوصية العرق والدم ونقاء العنصر. كما استطاع أن يدرك موضوعاته، بالرغم من وجهات النظر. وأصبح العقل والطبيعة صنوان في مقابل النقل وما بعد الطبيعة، وضد السحر والخرافة والوهم. كما استطاع السيطرة على الانفعالات والأهواء والتحكم في الغرائز ضد الإنسان المتوحش وصراع الإرادات وشريعة الغاب. كما أنه استطاع تأسيس المجتمع الرشيد ضد مظاهر الفوضى وصنوف الإرهاب.١٧

ومع ذلك كان للعقل حدود جعلته قاصرًا عن إمداد الوعي الأوروبي بكل ما يحتاج. قصَر الجانب النظري في الوعي الأوروبي عن إشباع حاجاته وكأن مطالب الجسد كانت أوسع نطاقًا من استعدادات الرُّوح.

وقع العقل في الصورية؛ وذلك لأن العقل من حيث هو تعبير جديد عن التقوى القديمة والعواطف المتطهرة التي تستنكف من العالم ومن المادة، ظن أن الحقيقة خارج العالم، في نطاق الصورة المحضة كما كان الحال في العصر الوسيط، فالصورة تحتوي على حقيقة أكثر ما تحتوي الموجودات المركبة من مادة وصورة، والمتعينة في مادة. وتقع العلوم الصورية تحت هذا الحكم، فهي تحاول أيضًا أن تبحث عن الحقيقة المجردة، وأن تنسج الكون في نظرية للمجموعات كما ينسجه الذهن الإلهي دون الاستعانة بالكلام الإنساني أو الإلهي. وكلما زاد التجريد قل الالتصاق بالواقع، وزاد الفهم على حساب التغيير، وقوي النظر على حساب العمل. وبدأ صراع الإرادات الفردية والقوى الاجتماعية من وراء العقل أو من تحته تهز الأنساق الصورية، وتقلب العقل رأسًا على عقب، وتظهر نقائض العقل على أنها البديل الوحيد.

كما وقع العقل في المادية، وكأنه وقع في النقيضين، في الصورية أولًا ثم في المادية ثانيًا. فالعقل يتعامل مع الطبيعة، والطبيعة عالم الأشياء. وحتى يستطيع العقل تصورها وقياسها والتحكم فيها فإنه تصورها مادية كمية مقسمة إلى أجزاء، فاتفقت صورية العقل مع مادية الطبيعة، كل منهما يجد ما ينقصه عند الآخر، وأصبحت عَلاقتهما معًا منذ كانط عَلاقة الصورة بالمادة أو عَلاقة الشكل بالمضمون. فالمثالية والواقعية ليسا نقيضين بل هما صنوان، والعقلانية والحسية أيضًا واجهتان لعملة واحدة، والصورية والمادية يكمل بعضهما بعضًا، كل منهما يعبر عن مطلب ومقتضى، المثال والواقع، النفس والبدن. ويحدث نفس الشيء في العلوم الرياضية، فالهندسة التحليلية والهندسة الوصفية تعبيران مختلفان عن نفس المساحة.

ولما كان العقل موجهًا نحو الطبيعة فإنه يتعامل مع العالم الخارجي، يدركه في ثباته، وإن أدركه في حركته فإن قوانين الحركة هي نفسها قوانين ثابتة، أقرب إلى الميكانيكا منها إلى الديناميكا. لا يستطيع العقل الدخول إلى الباطن، باطن النفس أو حقائق الأشياء، لا يستطيع أن يحركها أو يغيرها وإلا فلَتت منه. لذلك كان أفضل موضوع لديه هو الهندسة، الكم المتصل، أو الحساب، الكم المنفصل. وبالرغم مما حاوله هيجل من وضع حياة في العقل لدرجة تسميته الرُّوح إلا أنه كان حياة للمقولات وصراعًا جدليًّا شبه آلي بين الأضداد، آلة جَهنمية متحركة تأكل كل شيء. فكان لا بد من الانقلاب عليه في كل فلسفات الحياة المعاصرة إلى الحدس أو اللاشعور أو الإرادة أو النزوع أو القوة، بل والبداية باللامعقول وبالاشتباه.

ولما كان العقل يتعامل مع العالم الخارجي الثابت الذي يتحرك آليًّا فقد فقد العالم حرارته، لذلك يتعامل العقل معه ببرود سُمي الموضوعية والحياد حتى يستطيع اكتشاف قوانينه المطردة دونما تدخل من العواطف والانفعالات. فالذاتية ضد الموضوعية، والموقف نقيض الحياد. لذلك أتت الحركة الرومانسية، «العاصفة والاندفاع»، ضد برودة العقل، حرارة الحياة في مقابل برودة الموت، وأخلاق الحياة في مقابل أخلاق القانون.

وقد ارتبط العقل دائمًا بالطبقة المتوسطة التي بيدها السلطة في حين ارتبطت الطبقة العليا بالإرادة والقوة، والطبقة الدنيا بالحس والتجرِبة. كانت وظيفة العقل تبرير النظم الاجتماعية والسياسية، وإيجاد شرعية مقبولة لها، يفهم كل شيء، أي يبرر وجوده دون الثورة عليه، لذلك وجد الحجج على الشيء ونقيضه. لقد ظهر العقل في مرحلة تحول المجتمع الأوروبي من الإقطاع إلى الرأسمالية للمجتمع الحر المفتوح، فأصبحت الليبرالية دعامة للرأسمالية، وشرع أخلاق القانون والنظام دعمًا للتماسك الاجتماعي، وفرض أخلاق الواجب تدعيمًا للسلوك الاجتماعي الفاضل، سلوك الطبقة المتوسطة في مقابل تحايل الطبقة العليا وانحراف الطبقة الدنيا. لقد حاول ماركوز إعادة تفسير العقل باعتباره ثورة لتغيير الوضع قاضيًا على الاشتباه في فلسفة هيجل: هل هو إعادة تفسير العقل باعتباره ثورة لتغيير الوضع قاضيًا على الاشتباه في فلسفة هيجل: هل هو فيلسوف الثورة أو فيلسوف النظام؟ إلا أن ذلك كان قراءة عصرية له من منظور ثورة الشباب.١٨ إن قراءة من عصر هيجل لهيجل ربما جعلته فيلسوف الدولة البروسية القائمة.

ونظرًا لانتصارات العقل المستمرة منذ عصر النهضة حتى الذروة، وقدرته على التحول من القديم إلى الجديد، ونقد التراث القديم، وتأسيس اليقين الجديد غرز فيه رُوح التفاؤل، ومع كل انتصار جديد ضد العلوم القديمة وتأسيس العلوم الجديدة تزداد رُوح التفاؤل حتى لم يعد هناك شر. وأصبح هذا العالم هو أفضل العوالم الممكنة، يتضمن انسجامًا وتآلفًا مسبقًا، فالشر ضروري للخير، والموت طريق اكتشاف نعمة الحياة، والمرض هو السبيل إلى الصحة. كان ذلك ممكنًا حتى الذروة ومنذ انتصار الثورة الفرنسية، ولكن بعد أن اشتدت أزمات العصر وكما بدت في الفلسفة المعاصرة في القرن العشرين، بدأ التفاؤل في الخفوت بالرغم مما يقال عن آمال القرن الواحد والعشرين وتوقعاته، وظهرت نغمة التشاؤم عند فلاسفة التاريخ المعاصرين، ولم يعد السؤال هو شروط التقدم، كما كان الوضع في البداية، بل أسباب الانهيار، وهو الآن السؤال في النهاية.

ثالثًا: الواقع والقيمة

وإذا كان المشروع المعرفي النظري هو بداية الوعي الأوروبي إلا أنه اصطدم بالمشروع الأخلاقي العملي، فاضطر لمواجهته وتضمُّنه مباشرة أو عن طريق غير مباشر. وإذا كان المشروع المعرفي يهدف إلى تغطية الواقع العاري، بعد عصر النهضة، بغطاء نظري بديل، فإن المشروع الأخلاقي كان يهدف إلى تأسيس العمل كبديل عن الممارسات الدينية القديمة للفرد أو الدولة، للمؤمن أو للكنيسة. ولكن ظلت الأولوية للمشروع النظري على المشروع العملي. وإذا تناول النظر موضوع العمل فإنه يتناوله كموضوع نظر كما وضح ذلك عند كانط في «نقد العقل العملي»، وهو في الحقيقة تحليل نظري للعقل العملي، أو كما يقول كانط نفسه «النظرية الابتدائية للعقل النظري العملي». وإذا كانت المثالية هي التي حملت لواء المشروع المعرفي بالأساس فإن التجريبية هي التي حملت لواء المشروع العملي، ولو أن كلًّا منهما تعرض للمشروعين معًا. فالمثالية نظرية في المعرفة لها تطبيقاتها في الأخلاق، والتجريبية نظرية في الواقع لها انعكاساتها في المعرفة. ويمكن القول أيضًا وعلى نحو مختلف أن المثالية هي أساسًا نظرية في الأخلاق، أولوية الذات في الموضوع، تطبيقًا لقول المسيح: «ماذا لو كسبتَ العالم وخسرت نفسك؟» ثم عبرت عن نفسها في صيغة نظرية في المعرفة، وأن التجريبية هي أساسًا نظرية في المعرفة، رؤية الواقع المباشر من خلال الحس، ثم تم تطبيقها في ميدان الأخلاق. ويمكن القول أيضًا على نحو ثالث ومخالف أيضًا أن كلا التيارين كقصدين في الوعي الأوروبي موقفان خلقيان عمليان سواء المثالية أو الواقعية العقلانية أو التجريبية في صيغتين نظريتين لما كان المشروع المعرفي هو أهم ما يميز الوعي الأوروبي في البداية١٩ فقضية الواقع والقيمة هي في حقيقة الأمر قضية النظر والعمل في الوعي الأوروبي.

(١) اتحاد الواقع والقيمة

ولقد استطاع المشروع المعرفي في بداية الوعي الأوروبي في اختياريه الرئيسيين، العقلانية والتجريبية، مواجهة موضوع الواقع والقيمة والانتهاء إلى رأي واحد فيما يتعلق بالصلة بينهما وهو الاتحاد. فالقيمة واقع، والواقع قيمة بصرف النظر عن المدخل النظري لكل من التيارين، المدخل العقلي أو المدخل التجريبي. ويظهر ذلك بوضوح في التطبيقات العملية لكل من التيارين في الأخلاق والسياسة.

ففي العقلانية الجذرية التي مثلها اليسار الديكارتي، وهو اسبينوزا، كانت القيمة من مقتضيات العقل ومن متطلبات الواقع على حد سواء، فاتحدت القيمة بالعقل والواقع مثل الوحدة الثلاثية في تراثنا القديم بين الوحي والعقل والواقع.٢٠ ولكن الوعي الأوروبي في بدايته وهو يتحول من الدين إلى العلمانية حوَّل الوحي إلى قيمة، والدين إلى أخلاق، والشريعة الإلهية إلى قانون مدني. فأصبح الدين شاملًا يقوم على مبادئ عامة تُشابه أصلَي التوحيد والعدل عند المعتزلة. وفي السياسة فرض العقل قيمة الحرية والديمقراطية ضد التبعية للكنيسة والحكم الثيوقراطي، لخلق نموذج لمجتمع مدني جديد: مواطن حر في دولة حرة. واستمرت العقلانية الجذرية عند فشته في وحدة النظر والعمل، وجعل موضوع العلم هو الحرية، وأن العالم هو نتاج الحرية. وقد بلغت قمة الوحدة بين العقل والواقع أو بين الرُّوح والطبيعة عند هيجل في المثالية المطلقة وعند شلنج في فلسفة الهُوية. وقد استمر اليسار الهيجلي في الدفاع عن حرية الفرد وحرية الوطن بتأسيس الوعي القومي المستقل القائم على مفاهيم الاستقلال الذاتي والحرية. ورعت الهيجلية الجديدة بناء الدولة في إنجلترا وإيطاليا وروسيا، دفاعًا عن الأخلاق الطبيعية، والقانون الطبيعي. واستمر الحال كذلك حتى المثالية التقليدية طوال القرن التاسع عشر التي بدأ الواقع يسقط منها شيئًا فشيئًا منضمًّا إلى الواقع المادي التطوري وابتلاع المثالية في الفكر الصوري الرياضي المنطقي. وقد ساند ذلك نظرية في المعرفة تقوم على العقل، وترفض أن تند عنه أية استثناءات إرادية أو سياسية. فالعقل قادر على أن يفرض القيمة ويحققها في الواقع نظرًا للتماثل التام بينهما.

وقد قامت التجريبية بنفس الشيء باسم التجرِبة ولتحقيق نفس الهدف وهو اتحاد القيمة والواقع، ففرض لوك قيمة التسامح في الدين في «رسالة في التسامح»، ووضع نسقًا عقلانيًّا للعقائد في «معقولية الدين المسيحي»، وكما هو الحال في علم الكلام الاعتزالي وأولوية العقل على النقل. وفي «رسالتان في الحكومة» فرض العقل فيه الحكم النيابي الذي يقوم على الانتخاب الحر والتمثيل البرلماني ضد الحكم الإلهي ونظم القهر والطغيان، وتأسيس المجتمع المدني الحر ضد المجتمع الكنسي القديم، وإقامة السلطة على العَقد الاجتماعي وليس على السلطة الأبوية، وإعادة تفسير قصة آدم لينقض بها نظم الملكية الوراثية، ونظم العبودية، وأساليب الغزو والاستيلاء ومجتمعات الحرب من أجل حكومة مفوضة من الشعب ويمكن إقالتها أيضًا من الشعب بسحب التفويض عنها. وحاول هوبز في «التنين» — بالرغم مما يقال عنه في كتبنا المدرسية ومقرراتنا الجامعية من أنه نفي لأخلاق التضحية والإيثار لأخلاق الأنانيَّة والأثرة — تأسيس المجتمع المدني الحر الخالي من السيطرة وتطبيق قواعد النقد العقلي في الكتاب المقدس وموضوعات الوحي والإلهام والسلطة الدينية والمعجزات والشياطين. كما عرض لذلك «في الإنسان» و«في المواطن». وكذلك فعل هيوم في كتاباته الأخلاقية والسياسية والجمالية وفي محاوراته عن الدين الطبيعي ترسيخًا لقواعد العدل الاجتماعي وتأسيسًا للدين الطبيعي في التجرِبة البشرية، وكأنه يبحث عن «أسباب النزول». كما حلل الذوق والإحساس الجمالي والتراجيديا وكأنه يبحث عن «التصوير الفني» والصور البلاغية في القرآن الكريم. ويتصدى لمظاهر الخرافة واليأس والانتحار ويثبت خلود الرُّوح، على عكس ما قيل لنا في الترجمات ومقدماتها وفي الملخصات الجامعية من أنه حسي تجريبي مادي ينكر الوحي ويهدم الأخلاق. كما حلل حرية الصحافة، وأراد تحويل السياسة إلى علم، ووضع المبادئ الأولى للحكومة الرشيدة، واستقلال البرلمان، وميَّز بين الملكية والجمهورية، وطالب بتعدد الأحزاب السياسية، ودافع عن الحريات المدنية بحثًا عن النظام السياسي الكامل. وقد تم تدعيم ذلك أيضًا بنظرية تجريبية في المعرفة وتحليل للواقع التاريخي حتى يظهر اتحاد الواقع بالقيمة. واستمر الحال كذلك طوال فلسفة التنوير في ألمانيا وفرنسا، في الأخلاق وفي السياسة من أجل خلق مفهوم المواطن الصالح وتأسيس المجتمع المدني والتشريع للعَلاقات الدولية. واستمر العقل قادرًا على رعاية القيمة وتحقيقها في الواقع وفي ذروة الوعي الأوروبي قبل انقلاب الرومانسية عليه والتضحية بالعقل وربما بالقيمة أيضًا في سبيل الحياة كواقع أوحد. واستمرت الليبرالية الأوروبية على نفس المنوال في القرن التاسع عشر عند جون ستيوارت مِل في دفاعه عن الحكومة النيابية، والديمقراطية، والنظم البرلمانية، والانتخاب الحر، وتحرير المرأة، وإعادة النظر في قانون الأحوال الشخصية، خاصة قوانين الزواج والطلاق. وبيَّن طبيعة الدين وفائدته، وأرسى قواعده في التجرِبة البشرية مثل هيوم بحثًا تلقائيًّا عن «أسباب النزول». واستمرت الليبرالية في القرن العشرين تخفف من غلواء النظم الرأسمالية والشمولية، وتستميت في الدفاع عن حرية الفرد والنظام الديمقراطي.

(٢) انفصال الواقع والقيمة

ومع ذلك، بدأ الواقع في الانفصال عن القيمة تدريجيًّا منذ بداية الوعي الأوروبي حتى بلغ ذروته في النهاية، فحدثت أزمة القرن العشرين، وكأن العقل والقيمة كانا عاجزين عن احتواء الواقع كله. كان العقل محدودًا باللاعقل، وكانت القيمة محدودة بالقومية والعرقية. بدا ذلك واضحًا في اليمين الديكارتي، وفي اليمين الكانطي، وفي اليمين الهيجلي، وفي اليمين الظاهراتي، وهي المحطات الأربعة في مسار الوعي الأوروبي.

فمنذ الثنائية الديكارتية المشهورة والعقل والواقع بدَوَا متباعدَين منذ البداية، ويزداد التباعد كلما تقدم الوعي الأوروبي حتى قمة الانفراج في الذروة وقبل العودة من جديد إلى التقارب والالتحام في الظاهريات. لما عجز العقل عن السيطرة عن الواقع تحقيقًا لقيمة المثال، بحث الواقع عن موجِّه آخر له فوجده في الإرادة واللاعقل والنزوع والمجال الحيوي والقوة العضلية وفي حروب الغزو والاستيطان. فعند ديكارت الأخلاق المؤقتة خارج نطاق العقل. وهي: العادات والأعراف والتقاليد ونظم الحكم والعقائد وكل المسلَّمات المدونة، وكأن العقل لا يعمل بيقين إلا في العلوم والرياضيات ولا شأن له بالحياة العملية. والإرادة أوسع نطاقًا من الذهن في العمليات. لذلك يحدث الخطأ لأن العقل لا يستطيع أن يوجه كل شئون الحياة. ومصير النفس غير مصير البدن، متمايزان، الأول إلى الخلود والثاني إلى الفناء. والانفعالات أبخرة صاعدة من الدماغ تسري في الأعصاب. وبالتالي تنشأ الرياضيات من ناحية والفيزيولوجيا من ناحية أخرى. أما الحيوانات فآلات حية لما كانت أجسامًا بلا نفوس، وبالتالي انفصل العقل عن الواقع، وبُذرت بدايات الانفراج والسقوط، الصورية والمادية. انفصل الواقع عن القيمة وأصبح بلا قيمة، مجرد مادة صماء. وأصبحت قيمة العقل صورية محضة، فارغة بلا مضمون، بل إن العقل قد قام أحيانًا بتبرير ما هو قائم دون أن يغيره حتى يتحد بالقيمة. تم ذلك عند اليمين الديكارتي عند لَيبنتز ومالبرانش وعند بسكال عندما كانت وظيفة العقل فهم العقيدة دون نقدها، وتبريرها دون إعادة بنائها. فإذا كان هذا العالم هو أفضل العوالم الممكنة فكيف يمكن تغييره نحو قيمة أفضل؟ وإذا كان الشر ضروريًّا لفهم الخير فكيف يمكن التصدي للشر باعتباره نقيض القيمة وتحويله إلى الخير باعتباره قيمة؟ وإذا كان التناقض في العالم أحد مظاهر الانسجام المسبق فكيف يمكن حله والدخول مع أحد أطرافه تحريرًا للواقع وتغييره نحو الطرف الأكثر قيمة؟ وكيف يمكن التوحيد بين الشرق والغرب والاستيلاء على الرابطة الجوهرية بينهما، وهي مصر، لصالح الغرب، وبالتالي يستولي الغربي على العالم كله ويكون الواقع كله بلا قيمة كما اقترح لَيبنتز؟ وكيف يمكن مد ثقافة الغرب وعقائده حتى الصين، وتُلغَى خصائص الشعوب الثقافية كما فعل مالبرانش، وكما نعلم أن التبشير كان مقدمة للاستعمار؟ وكيف يكون التناقض في النصوص الدينية تعبيرًا عن التناقض في الإنسان دون التضحية بقيمة النقد التاريخي والبحث العلمي كما هو الحال عند بسكال؟ وإذا كان الإيمان بالعقائد القديمة التي ثار عليها عصر النهضة هو وسيلة تحول الإنسان من الشقاء والبؤس إلى العظمة والجلال فإن الوعي الأوروبي يكون قد تنازل عن مشروعه وعن مشروعية وجوده وهو التأسيس الجديد للمعرفة من أجل فهمٍ أصوب للواقع.

واستمرت هذه الثنائية في القرن الثامن عشر عند كانط، ثنائية القبلي والبعدي، الظاهر والباطن، الصوري والمادي، النظري والعملي، التحليلي والتركيبي، الرياضيات والطبيعيات. فيستمر انفصال الواقع عن القيمة، ويظل الانفراج قائمًا، والفم مفتوحًا. ولم تنجح عَلاقة الشكل بالمضمون أن توحد بين القيمة والواقع توحيدًا عضويًّا فعليًّا جوهريًّا، بل ارتبطا فيما بينهما ارتباطًا آليًّا خارجيًّا ثابتًا مصطنعًا سهُل فكُّه بعد ذلك بخروج التيارات المثالية الصورية الفارغة من كانط والتيارات الحسية التجريبية المادية الوضعية من كانط أيضًا.

وقد يكون من أسباب انفصال الواقع عن القيمة هو أن التيار الحسي التجريبي منذ القرن السابع عشر قد تنازل العقل فيه عن بنيته الداخلية واستقلاله الذاتي بالرغم من وجوده كثورة خارجية وآلة ناقدة. كان العقل مجرد جماع للحس وحصيلة للمدركات الحسية، ومخزنًا داخليًّا لكل ما يأتي من الخارج عبر الحواس الخمسة وكأننا ما زلنا في تصور قوى النفس في العصر الوسيط، الخارجية في الحواس الخمس، والداخلية في التذكر والتوهم والتخيل. ولكن العصر الوسيط حرص على تأييد العقل بقوة خارجية مستمدة من العقل الفعال الذي يجاوز الحس، وبالتالي حدث التوازن في العقل بين ما يأتي من الخارج وبين ما يأتي من أعلى. وفي بداية الوعي الأوروبي في التيار العقلاني اعتمد العقل على نفسه. وحدث لديه التوازن بين ما يأتي من الخارج وما يأتي من الداخل بعد تحول الأعلى إلى الداخل. أما عند لوك وهوبز وهيوم فكان العقل مجرد انعكاس داخلي للواقع الخارجي عبر الحواس. فتم التنازل عن الأساس الداخلي للقيمة، وبدأ الانفصام بين الواقع والقيمة.

واستمر ذلك في القرن الثامن عشر سواء عند هيوم في إنجلترا أو عند فلاسفة التنوير في فرنسا الذين تأثروا بمفهوم العقل كمخزون للحس من الفلسفة البريطانية. فأصبح العقل أيضًا مهزوزًا من الأساس وإن استطاع القيام بدوره وتفجير نفسه في النظم الاجتماعية والسياسية. فحدثت الثورة الفرنسية تتويجًا للعقل كما جسدته فلسفة التنوير، ولكن نظرًا لأن العقل كان مجرد مخزون نفسي للحس، فقد قدرته على النور الطبيعي، وقلت دعوته إلى الشمول والعموم، تحولت فلسفة التنوير على مستوى الممارسة إلى الإعلاء من شأن الشعوب القومية على حساب الإنسانية الواحدة التي تتساوى فيها الشعوب جميعًا، أوروبية ولا أوروبية، بيضاء أو سوداء. فبدأ التهكم على باقي الشعوب والديانات والعادات والأعراف والثقافات غير الأوروبية في تركيا وشمال أفريقيا وفارس والهند والصين، وأصبحت مبادئ الثورة الفرنسية وقيمها: العقل، والحرية، والإخاء، والمساواة، والعلم، والتقدم، وسائل لاستعلاء الشعب الفرنسي خاصة، والشعوب الأوروبية عامة، على باقي الشعوب غير الفرنسية أولًا وغير الأوروبية ثانيًا. وتحول نابليون من مجسد لرُوح الثورة إلى مستعمر أوروبي لباقي الشعوب. ألهب خيال الشعراء والفنانين والفلاسفة باعتباره ثائرًا ثم تحولوا عنه عندما نصَّب نفسه إمبراطورًا ووضع على رأسه التاج.٢١ لذلك انحسرت قيم التنوير داخل الشعوب الأوروبية. فالعقل والطبيعة والإنسان والحرية والتقدم والحرية والإخاء والمساواة، كل ذلك لفرنسا أولًا وللشعوب الأوروبية ثانيًا، والخرافة والوهم والجهل والسحر والقهر والطغيان والتخلف والاستغلال لغيرها من الشعوب. وقد مهدت هذه الصورة الكريهة للشعوب اللاأوروبية في القرن الثامن عشر لرُوح الاستعمار في القرن التاسع عشر، فكان المستعمرون يحاربون صورًا ذهنية ترسبت في وعيهم عن الآخرين قدر محاربتهم من أجل احتلال الأرض، واسترقاق العبيد، ونهب الثروات. وظهر تنافس قوي داخل فلسفة التنوير، فالأمة الفرنسية ضد الأمة الألمانية أو الإيطالية مما يسبب الحروب القومية بين الشعوب الأوروبية، والتي دامت بعضها سبعين عامًا أو مائة عام. وبدأت المركزية الأوروبية في الظهور، واعتبر الغرب نفسه نهاية تطور الحضارة البشرية التي بدأت في الشرق القديم، والإنسانية ما زالت في طفولتها الأولى.

وتبلورت النظرية العنصرية في القرن التاسع عشر، تمد العنفوان الاستعماري بأحد دوافعه وتبريراته. صبت فيه الرُّوح القومية للشعوب والعقليات المتميزة للأجناس. كما صُبَّت فيها التطورية والوضعية وكل التيارات المادية في القرن التاسع عشر. فالفرق بين هيجل وكومت أو بين شلنج ودارون ليس كبيرًا. وغذى ذلك كله فلسفات التاريخ التي جمعت بين التقدم العقلي والتقدم المادي في مسار تاريخي طويل، ينطلق من الشرق إلى الغرب، من طفولة البشرية إلى رجولتها. انقلب ذلك كله إلى استعمار في الخارج، وتصنيع في الداخل، إلى هدم واستيلاء وغزو في الخارج، وتشييد وإبداع وتطوير في الداخل. فانقلبت الثنائية المعرفية بين الداخل والخارج إلى ثنائية عملية بين داخل أوروبا وخارجها. وظهر التراكم الرأسمالي في الغرب الناتج عن نهب المستعمرات واستثماره في التصنيع والتشييد والبناء والتخطيط والعمران. عمار في الداخل وخراب في الخارج. وسرعان ما ظهرت الآثار السلبية أيضًا في الداخل، بؤس العمال، سيطرة رأس المال، احتكار السلع، استغلال البشر، سيادة المادة على الإنسان، واعتبار المادة غاية والإنسان وسيلة. وظهرت الماركسية لتوحد بين الواقع والقيمة ولتنقد المجتمع الصناعي. وعلى مستوى نظرية المعرفة استمرت الخسارة إلى النصف، فاعتُبرت الطبيعة رُوحًا أو بديلًا عنها كما ظهر في الوضعية والتطورية. واعتُبر العقل، كما كان الحال عند التجريبيين من قبل، مجموعة من الإحساسات والتراكم التجريبي وإحدى وظائف الجهاز العصبي كما هو الحال عند ماخ وأفيناريوس. هناك قوانين للذهن هي قوانين الإحساس. وهناك مناهج للعلوم الاجتماعية هي مناهج الكيمياء والطبيعة. أصبحت الطبيعة خالقة لكل شيء، والمادة لها السيادة على كل شيء، وأصبح العقل المستقل القديم من بقايا الدين والميتافيزيقا.

وبلغ الانفصام بين القيمة والواقع ذروته الثانية في القرن العشرين عندما بدأت الأزمة، ونشِبت حربان أوروبيتان في عشرين عامًا، وأُلقيت قنبلتان ذريتان على مئات الألوف من البشر، بل وتحدث البعض عن انهيار القيم، وقلب القيم، وضياع القيم، ونهاية عصر القيم. فالقيمة لفظ يتم تحليله في عبارة، أما الشيء نفسه فخالٍ من القيمة. وتم الفصل نهائيًّا باسم العلم والموضوعية بين حكم الواقع وحكم القيمة، بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون.٢٢ فالواقع بلا قيمة، والقيمة لا واقع لها، فحدثت الأزمة في العلوم الإنسانية التي اتبعت النموذج الصوري مرة فآثرت القيمة وضحَّت بالواقع، ثم اتبعت النموذج الطبيعي مرة فآثرت الواقع وضحَّت بالقيمة. ولما حاولت شق طريق ثالث وقعت في التجاور السيكوفيزيقي، وأرادت قياس الواقع من أجل الحكم على القيمة، فخلطت بين الكم والكيف، بين المكان والزمان، بين الامتداد والتوتر، بين المنقسم والمتصل، بين السكون والحركة، بين العقل والحدس، بين الحتمية والحرية، بين الخارج والداخل، بين السلحفاة وأخيل كما لاحظ برجسون. وبدأ الخواء في الرُّوح، والموت في النفس نظرًا لانفصام الواقع عن القيمة، وظهرت مفاهيم العدم والعدمية والحصر والهم والقلق والحزن حتى الموت. كثر الحديث عن أزمة القرن العشرين، وإفلاس المشروع الحضاري الغربي: أكبر قدر ممكن من الإنتاج لأكبر قدر ممكن من الاستهلاك لأكبر قدر ممكن من السعادة. فالإنتاج في أزمة بعد تحرر شعوب العالم الثالث وسيطرتها على مواردها الأولية وأسواقها وبعد أزمة الطاقة والعمالة. والاستهلاك في أزمة بعد رفض الثقافة المضادة في الغرب والتي تتمثلها أجيال جديدة من الشباب خاصة بعد ثورة ١٩٦٨م، ورفضها أنماط الاستهلاك. والسعادة لم يحصل عليها بدليل تزايد معدلات الجريمة، قتل الآخر، والانتحار، وقتل النفس. والحاسبات الآلية قللت من معدلات الذكاء الطبيعي للإنسان، وثورة البيولوجيا والكيمياء حولت الطبيعي إلى اصطناعي، وتم التحكم في نمو الخلايا حتى ندَّت عن الضبط، وانتشرت بلا نظام، فاستشرى السرطان. تلوثت البيئة نتيجة التصنيع، وقُطعت الأشجار، ورُمي بالنُّفايات في الأنهار، وماتت الأسماك، وضاع نقاء الهواء، وعاش الإنسان تحت رعب الخطر النووي في العالمين الأول والثاني، والتهديد بالموت جوعًا وقحطًا في العالم الثالث.

ظن الوعي الأوروبي أن الواقع أصبح عاريًا من النظرية فغطاه بمشروعه المعرفي المتأرجح بين العقلانية والتجريبية، فنَدَّ الواقع النظري عنه، فواجهه بالعقل الثوري أحيانًا. ثم فُرِّغ العقل من مضمونه وتحول إلى صورة خالصة كما فُرِّغ من أساسه، وتحول إلى مخزون حسي وتراكم تجريبي، فنَدَّ الواقع العملي عنه، وانفصل الواقع عن القيمة، فأصبحت القيمة بلا واقع بل تعبير عن الذاتية الخالصة، والواقع بلا قيمة بل تعبير عن القوة الخالصة. أصبحت القيمة ذاتية خالصة، نسبية من فرد إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر، لا تناصرها إلا القوة المادية والإرادة العضلية. وتنتهي إلى صراعات قيم لا يمكن الاحتكام فيها إلى قيمة مستقلة، إنما الغلبة للأقوى في حالة الصراع، أو للمصلحة المشتركة في حالة الوفاق، فهي أقرب إلى الهوى والمصلحة منها إلى القيمة الموضوعية المستقلة. والواقع مادة صرفة، مجموع قوًى خالٍ من أي قيمة، بما في ذلك الطبيعة والإنسان. وسرعان ما انتهى التفاؤل في البداية إلى تشاؤم في النهاية، كما انتهى دافع التقدم إلى رصد مظاهر النكوص، وخبا الدافع على الخلق والإبداع بخواء الرُّوح، وسريان الموت في البدن. وبالرغم من محاولة بعض الفلاسفة المعاصرين — مثل نيقولاي هارتمان وصمويل ألكسندر ولُوِي لافِل ورينيه لوسِن ومونييه وبعض التوماويين الجدد — إعادة الوحدة بين الواقع والقيمة، فالقيمة واقع والواقع قيمة، بل إن القيمة هي الواقع الوحيد والواقع هو القيمة الوحيدة، إلا أن الفصم بين الواقع والقيمة في الوعي الأوروبي كان فتقًا لا رتق له.

رابعًا: المذاهب الفلسفية

ونظرًا لارتباط الفلسفة الأوروبية بأسماء الأشخاص فقد بلغت عبقرية الأفراد وإبداعات الفلاسفة إلى حد أن أصبحت فلسفاتهم مذاهب تزداد شموخًا ورسوخًا كلما تقدم الوعي الأوروبي من البداية إلى النهاية، خاصة في مرحلة الذروة التي أصبحت تُعرف بعصر المذاهب الشامخة في النصف الثاني من القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر.٢٣ كانت هذه المذاهب بديلًا عن الأنساق القديمة التي مثلتها الكنيسة وأرسطو طوال العصور الوسطى، وكانت أسمك غطاء نظري قدمه الوعي الأوروبي للواقع العاري بعد عصر النهضة. لكل مذهب عناصره ومكوناته، نظرياته وأسسه، مناهجه وتطبيقاته، مقدماته ونتائجه، ولكل مذهب بنيته الثلاثية في الهدم والبناء والجانب الضمني المستتر أو الدافع عليه. وتتوالد المذاهب بعضها عن بعض كما هو الحال في أنساب الفلاسفة وكما كان الحال في أنساب الآلهة عند القدماء.

(١) مكونات المذهب

وهي العناصر التي يتكون منها كل مذهب، والنظريات التي يضمها، والمباحث التي يقوم بها، ومجموعة الآراء والنظريات التي ينتظمها. ويضم كل مذهب مكونات ثلاثة: نظرية في المعرفة، ونظرية في الوجود، ونظرية في القيم، وقد يضم عنصرًا رابعًا وهو الدين أو مبحث المقدس. فنظرية المعرفة أو «الإبستمولوجيا» تبحث في وسائل المعرفة وتجيب على سؤال: كيف أعرف؟ وهو ما يقابل نظرية العلم عند علماء أصول الدين، أو المنطق عند علماء أصول الفقه وعلوم الحكمة أو الإشراق عند الصوفية. وتضم تحليلًا للمعرفة الحسية والمعرفة العقلية الذوقية والمعرفة التاريخية. قد يُرد الحس إلى العقل فينشأ المذهب العقلاني، وقد يرد العقل إلى الحس فينشأ المذهب الحسي، وقد يقبل الذوق أو الوجدان فينشأ المذهب الحدسي أو الجمالي. أما المعرفة التاريخية — وهي التي تعادل المعرفة النقلية المتواترة في تراثنا القديم — فقد يقبلها البعض وقد يرفضها البعض الآخر نظرًا لعدم استقلالها وارتباطها بالحس والعقل في شروط يقينها ومقياس صدقها كما هو الحال في علم أصول الفقه القديم. ونظرية الوجود أو «الأُنطولوجيا» هي موضوع المعرفة إجابة على سؤال: ماذا أعلم؟ وهو يقابل نظرية الوجود عند علماء أصول الدين، والطبيعيات في علوم الحكمة، والأحكام الشرعية في علم أصول الفقه، والمكاشفات في علوم التصوف. وتضم تحليلات للموضوعات في العالم الخارجي المتوارثة منذ طبيعيات أرسطو مثل: الحركة والزمان والمكان والصورة والمادة. ونظرية القيم أو «الأكسيولوجيا» إجابة على سؤال: ماذا أفعل؟ بعد الانتقال من الخارج إلى الداخل، ومن الطبيعة إلى الإنسان، ومن المعرفة إلى الأخلاق، ومن النظر إلى العمل. وهي تعادل أنساق العقائد عقليات وسمعيات وأصلَي التوحيد والعدل في علم أصول الدين، والأوامر والنواهي في علم أصول الفقه، والإلهيات في علوم الحكمة، والفناء في الله والاتحاد به في علوم التصوف. وتدرس موضوعات حرية الإرادة والمسئولية، والخير والشر، والحكم الخلقي، وسُلم القيم. أما المبحث الرابع فهو الدين أو المقدس إجابة على سؤال: ماذا أعتقد؟ ما هي قواعد الإيمان؟ بعد أن تحول الوعي الأوروبي من الدين إلى العلم، ومن الوحي إلى العقل، ومن المعطَى القبلي إلى المعطَى البعدي. فالإصلاح الديني في القرن الخامس عشر لم يقضِ على الدين في ذاته ولكنه أعطى تأويلًا إنسانيًّا حرًّا باطنيًّا قلبيًّا له، آخذًا في الاعتبار معطيات العصر الجديد ونشأة القوميات: الحرية، حرية القراءة والتفسير، والاستقلال الوطني. وهو نفس الموضوع الغالب على كل علومنا القديمة العقلية النقلية أو النقلية الخالصة، والتي كانت هي الأساس، وكانت المباحث الثلاثة الأولى مجرد مقدمات لها.

وتوجد هذه المباحث الثلاثة أو الأربعة في أي مؤلف غربي عن الفلسفة العامة كمدخل أو مقدمة. ونكررها نحن أيضًا في مداخلنا ومقدماتنا عن الفلسفة العامة أسوة بالغرب.٢٤ مع أن موقفنا الحضاري مختلف تمامًا عن الموقف الغربي. ففي الغرب جاءت هذه المباحث الثلاثة أو الأربعة لتغطية الواقع الأوروبي العربي بعد القطيعة المعرفية بعد عصر النهضة وتأسيس الفكر النظري الجديد. أما عندنا فلم تحدث قطيعة معرفية بعد. وما زال الواقع مغطًّى، والوئام المعرفي بين الأنا والعالم قائمًا، لذلك لا تجد هذه المباحثُ الفلسفية الثلاثة في جامعاتنا وبين طلابنا أي صدًى إلا من كلام محفوظ لا بداية له ولا نهاية، لا غاية له ولا هدف. إنما أسس الفلسفة لدينا تتحدد في موقفنا الحضاري الآن الذي يضم جبهات ثلاثة: الموقف من التراث القديم، والموقف من التراث الغربي، والموقف من الواقع أو نظرية التفسير. لذلك كانت قضايا التراث والتجديد، الأصالة والمعاصرة مثيرة للأذهان. وكان الموقف من الغرب، جدل الأنا والآخر أحد الموضوعات المَعيشة. وكان الواقع الذي نرزح تحته ونواجه قضاياه ونحاول الدخول فيها ابتداءً من النص الهم الرئيسي في وعينا الجمعي.٢٥

ويمكن استعراض بعض المذاهب الفلسفية، خاصة في المحطات الأربعة الكبرى في مسار الوعي الأوروبي من البداية إلى النهاية: ديكارت، كانط، هيجل، هُوسِرل، لبيان مدى تناولها لهذه المباحث الثلاثة. فتوجد نظرية المعرفة في «قواعد لهداية الذهن»، «مقال في المنهج»، ونظرية الوجود في «التأملات في الفلسفة الأولى» نظرًا لأنها تعرض لموضوعات الفلسفة: خلود النفس وخلق العالم ووجود الله، ونظرية القيم في «مقال في الإنسان». ولم يشأ كتابة مبحث صريح في الدين لأن مباحثه الثلاثة الأولى ما هي إلا دين مقنَّع. وقد يضم عمل واحد المباحث الثلاثة أو الأربعة مثل «التأملات في الفلسفة الأولى» بالرغم من أنها كلها أقرب إلى نظرية الوجود. فالتأمل الأول «في الأشياء التي يمكن أن توضع موضع الشك» في نظرية المعرفة، والتأمل الثاني «في طبيعة النفس الإنسانية وأن معرفتها أيسر من معرفة الجسم»، والثالث «في أن الله موجود» والرابع «في الصواب والخطأ» في الأخلاق، في موضوع الخير والشر، أي في نظرية القيم، والخامس «في ماهية الأشياء المادية والعود إلى الله ووجوده»، والسادس «في وجود الأشياء المادية وفي التمييز الحقيقي بين نفس الإنسان وبدنه» في نظرية الوجود، وجود النفس ووجود الله ووجود العالم. كما يمكن عرض مؤلفات اسبينوزا أيضًا لتغطي هذه النظريات الثلاثة. نظرية المعرفة في «رسالة في إصلاح الذهن»، ونظرية الوجود في «الأخلاق»، ونظرية القيم في «رسالة في الانفعالات». أما مبحث الدين فقد خصص له اسبينوزا مؤلفًا صريحًا هو «رسالة في اللاهوت والسياسة». وقد يضم مؤلَّف واحد المباحث الثلاثة أو الأربعة مثل «الرسالة القصيرة»، «أفكار ميتافيزيقية».

وتظهر نفس المباحث الثلاثة أو الأربعة بصورة أوضح في فلسفة كانط: نظرية المعرفة في «نقد العقل الخالص»، ونظرية الوجود في «نقد العقل العملي» لما كان يتناول حقائق الأشياء، فالأخلاق هي الوجود، ونظرية القيم في «نقد ملكة الحكم»، فالجمال مع الحق والخير هي القيم الثلاثة التي تكوِّن مبحث القيم. ومبحث الدين في «الدين في حدود العقل وحده». وقد لخص كانط هذه المباحث الثلاثة الأولى في «المقدمات لكل ميتافيزيقا مستقبلة تريد أن تصير علمًا» إجابة على الأسئلة الثلاثة: ماذا يجب عليَّ أن أعرف؟ ماذا يجب عليَّ أن أفعل؟ ماذا يجب عليَّ أن آمل؟ ويمكن تصنيف باقي أعمال كانط الأخرى في هذه المباحث الثلاثة أو الأربعة: نظرية المعرفة في «المنطق»، «ماذا يعني التوجه في الفكر؟» … إلخ. ونظرية الوجود في «المبادئ الميتافيزيقية الأولى لعلم الطبيعة»، «رسالة ١٧٧٠م»، «محاولة لتقديم مفهوم الكم السلبي في الفلسفة» … إلخ، ونظرية القيم في «أسس ميتافيزيقا الأخلاق»، «الأنثروبولوجيا من وجهة النظر البرجماتية»، «تأملات في التربية»، «محاضرات في الأخلاق»، «ملاحظات حول الإحساس بالجميل والجليل»، «فلسفة التاريخ» … إلخ، ونظرية الدين في «رسائل في الأخلاق والدين»، «أفكار متتالية حول العدل الإلهي والدين» … إلخ. بل ويمكن تفسير عمل بمفرده على أنه يضم المباحث الثلاثة أو الأربعة مثل «نقد العقل الخالص». فالحساسية الترنسندنتالية تمثل نظرية المعرفة، والتحليل الترنسندنتالي (الذهن) يحتل نظرية الوجود نظرًا لوجود المقولات المستقل عن الحساسية، والجدل الترنسندنتالي (العقل) يمثل نظرية القيم؛ إذ تدور موضوعاته حول مُثُل العقل الثلاثة: وجود الله، وخلود النفس، وخلق العالم، وهي ركائز الأخلاق والدين. وقد ظهر نفس الشيء في «التأملات في الفلسفة الأولى» عند ديكارت.

كما تظهر نفس المباحث الثلاثة أو الأربعة في فلسفة هيجل: نظرية المعرفة في «ظاهريات الرُّوح»، ونظرية الوجود في «علم المنطق»، ونظرية القيم في «مبادئ فلسفة الحق»، «محاضرات في علم الجمال»، «محاضرات في فلسفة التاريخ»، وأخيرًا يوجد مبحث الدين في «محاضرات في فلسفة الدين». ويمكن عرض كل مؤلَّف بحيث تظهر النظريات الثلاثة فيه لتقوم بعملية تغطية نظرية كاملة للواقع العاري. ففي «ظاهريات الرُّوح» يحتل «الوعي» نظرية المعرفة، و«الوعي بالذات» نظرية الوجود نظرًا لتأكيده على استقلاله ووجوده، و«العقل» نظرية القيم نظرًا لاشتماله على الدين. وفي «علم المنطق» يمثل «المنطق الذاتي» نظرية المعرفة، و«المنطق الموضوعي» نظرية الوجود، و«المنطق الذاتي الموضوعي» نظرية القيم. وفي «دائرة المعارف الفلسفية»، يمثل «المنطق» نظرية المعرفة، و«فلسفة الطبيعة» نظرية الوجود، و«فلسفة الرُّوح» نظرية القيم والدين.

وأخيرًا تظهر نفس المباحث وإن كانت بصورة أقل في الظاهريات: نظرية المعرفة في «الأفكار»، ونظرية الوجود في «التجرِبة والحكم» خاصة بقراءة هَيدجر وميرلوبونتي، العالم السابق على الحمل، ونظرية القيم في «أزمة العلوم الأوروبية» التي تكشف عن فقدان الوعي الأوروبي لعالم الحياة. بل ويمكن تجميع مؤلفات هُوسِرل في هذه المباحث الثلاثة. فتشمل نظرية المعرفة «دراسات منطقية»، «الشعور الداخلي بالزمان»، «المنطق الصوري والمنطق الترنسندنتالي». وتشمل نظرية الوجود «نشأة الهندسة»، ولو أن الغالب على هُوسِرل هو المعرفة لا الوجود مما سبب انقلاب هَيدجر عليه، وتشمل نظرية القيم مخطوطات k التي تتحدث عن الوعي الأوروبي الأخلاقي الديني. وقد يضم عمل واحد النظريات الثلاثة مثل «الأفكار»؛ فالجزء الأول «مقدمة عامة للفينومينولوجيا الخالصة» في نظرية المعرفة، والجزء الثاني «بحوث فينومينولوجية للتكوين» في نظرية الوجود، والجزء الثالث «الفينومينولوجيا وأسس العلوم» في نظرية القيم. بل إن الجزء الثاني نفسه بتركيبه الثلاثي يضم هذه الأبحاث الثلاثة: «تكوين الطبيعة المادية» في نظرية الوجود، و«تكوين الطبيعة الحية» في نظرة المعرفة، و«تكوين عالم الرُّوح» في نظرية القيم. ويمكن استعراض جميع المذاهب الفلسفية على هذا النحو لولا أننا اكتفينا بالمحطات الأربعة على مسار الوعي الأوروبي من البداية إلى النهاية: ديكارت، كانط، هيجل، هُوسِرل.

كما يضم كل مذهب جانبين: الأول نظري يعرض للأس النظرية العامة للمذهب، والثاني تطبيقي، يطبق الأسس النظرية في شتى ميادين المعرفة الإنسانية: الأخلاق، والسياسة، والقانون، والتاريخ … إلخ. الأول منهجي يعرض للمنهج، والثاني موضوعي يطبق المنهج في موضوعات الفلسفة ومباحثها الرئيسية: المعرفة، والوجود، والقيم. ويمكن عرض المذاهب الفلسفية الرئيسية الأربعة عند ديكارت، وكانط، وهيجل، وهُوسِرل بناء على هذه القسمة الثنائية. فديكارت يعرض الجانب النظري المنهجي في «قواعد لهداية الذهن» ثم يلخص هذه القواعد الحادية والعشرين في «مقال في المنهج» في أربع قواعد. ثم يطبق هذا المنهج في فلسفته في الفلسفة العامة في «تأملات في الفلسفة الأولى» وفي «مبادئ الفلسفة». كما يعرض كانط أصول فلسفته النقدية في كتبه النقدية الثلاثة: «نقد العقل النظري»، «نقد العقل العملي»، «نقد ملكة الحكم» ثم يطبقها في الدين في «الدين في حدود العقل وحده»، وفي الأخلاق «أسس ميتافيزيقا الأخلاق»، وفي التربية في «تأملات في التربية»، وفي فلسفة التاريخ في «فلسفة التاريخ»، وفي السياسة الدولية في «مشروع السلام الدائم». ويطبق هيجل مذهبه النظري ومنهجه الجدلي الذي عرضه في «ظاهريات الرُّوح» وفي «علم المنطق»، مرة في الفلسفة في «محاضرات في تاريخ الفلسفة»، ومرة في التاريخ في «محاضرات في فلسفة التاريخ»، ومرة في علم الجمال في «محاضرات في علم الجمال» ومرة في الدين في «محاضرات في فلسفة الدين». كما يطبق هُوسِرل مبادئ فلسفته النظرية ومنهجه الظاهرياتي الذي عرضه في «الأفكار» مرة في المنطق في «المنطق الصوري والمنطق الترنسندنتالي» وفي «التجرِبة والحكم»، ومرة في الفلسفة في «الفلسفة الأولى»، ومرة في علم النفس في «علم النفس الفينومينولوجي»، ومرة في «فلسفة التاريخ» في «أزمة العلوم الأوروبية». ويمكن عرض باقي المذاهب بنفس الطريقة وبيان جانبها النظري المنهجي أولًا ثم تطبيقاتها العملية ثانيًا، كمشروع معرفي أولًا ثم كمشروع أخلاقي ثانيًا.

(٢) بنية المذهب

ولكل مذهب بنية محددة مطردة تنتظم المذاهب كلها. وهي أيضًا بنية ثلاثية مثل عناصر المذاهب: المعرفة، والوجود، والقيم. وهي بنية تقوم على جدل الهدم والبناء، الرفع والوضع، على ما هو معروف في الفعل الأثير عند هيجل Aufheben، وكما كشف عنهما المنهج الظاهرياتي في قاعدتي «الرد» و«البناء» أو «التكوين». وكما عرضهما ديكارت في مرحلتي «الشك» و«اليقين» أو كانط في «الظاهر» و«الشيء في ذاته». ثم هناك قاعدة ثالثة وراء الهدم والبناء تكشف عن الدافع أو الباعث أو القصد أو الغاية والهدف. وهي اللحظة الثالثة التي يكتمل فيها جدل الهدم والبناء وهي الغائية والجمال عند كانط كما عبر عنهما في «نقد ملكة الحكم»، أو مركب الموضوع في جدل هيجل، أو الإيضاح عند هُوسِرل، القاعدة الثالثة في قواعد المنهج الظاهرياتي.
ويقوم الجانب الأول من المذهب وهو الهدم بنقض المذاهب السابقة وبيان عيوبها، وبالتالي رفع الغطاء النظري السابق من أجل إفساح المجال لوضع الغطاء النظري الجديد، وذلك عن حق. فبعد تطور الواقع وتكشُّف بعض جوانبه الأخرى التي لم يتم اكتشافها في المذهب السابق عمدًا أو عن غير عمد يأتي المذهب الجديد ليُلبس الواقع العاري ثوبًا جديدًا غير الثوب القديم، وإلى حين، حتى يتغير الواقع مرة ثانية، ويبلى الثوب الجديد، فيقوم المذهب الثالث، ويكشف عيوب المذهب الثاني، وقِدم الثوب القديم، وإلباس الواقع ثوبًا ثالثًا جديدًا وهكذا، ما دام في الوعي الأوروبي قدرة على النقد والتغيير، الهدم والبناء، خلع الثوب القديم وإلباس الواقع العاري الثوب الجديد، ما دام المخزن النظري ما زال قادرًا على توريد الأثواب النظرية ولم يفرغ بعد، ولم ييأس بعد من تجارِب المحاولة والخطأ المتكررة. وقد يكون المنقوض عصرًا بأكمله كما هو الحال في بداية الوعي الأوروبي ونقد كل من ديكارت وبيكون للقدماء، أي الكنيسة وأرسطو والفلسفة المدرسية. وقد يكون المنقوض شخصًا مثل نقد كانط لفولف وهيوم، ونقد هيجل لشلنج وفلاسفة التنوير. وقد يكون النقد لمذهب بأكمله مثل نقد كانط للقطعية والشكية، ونقد هيجل للصورية والمادية، ونقد هُوسِرل للصورية والتجريبية. وقد يكون النقد لمذهب واحد مثل نقد لَيبنتز لِلُوك. وقد يكون لمذهبين متضادَّين مثل نقد كانط لقطعية فولف وشك هيوم، ونقد هيجل لهُوية شلنج وحسية فلسفة التنوير، ونقد هُوسِرل لصورية المنطق والرياضة وتجريبية الفلسفة وعلم النفس. ولا يكاد يخلو مذهب فلسفي من جانب نقدي لمذهب سابق أو معاصر حتى يحدد نفسه أولًا عن طريق السلب والنفي.٢٦ وكلما كان المذهب رافضًا قَوِيَ بناؤه سلبًا. فديكارت ينقد القدماء، أي الفلسفة المدرسية، وبيكون ينقد «الأورجانون» القديم، واسبينوزا يقوِّض الحكم الإلهي اليهودي والخرافات والمعجزات وحرفية النصوص الدينية وقدسيتها في التراث اليهودي القديم. وبسكال ينقد الجِزوِيت ويبين انتهازيتهم في علم «الحيل».٢٧ ولَيبنتز ينقد لوك واعتبارَه الحسَّ مصدرَ كل شيء بما في ذلك العقل. ويكتب «المحاولات الجديدة» ردًّا على «محاولة في الفهم الإنساني» للوك على طريقة قدمائنا في «الرد على …» أو «نقض كذا» … وينقد كانط شك هيوم وقطعية فولف والإيمان الكنسي وحرفية تفسير النصوص. كما يرفض هيجل صورية شلنج، وفلسفة الهُوية، ورومانسية فشته، وفلسفة الذاتية، وآلية كانط والفلسفة النقدية. ويرفض هُوسِرل صورية المنطق والرياضة، ومادية وتجريبية علم النفس والفلسفة. ويرفض برجسون عقلانية المذاهب المثالية، ومادية المذاهب التطورية والسيكوفيزيقية والاجتماعية. ولا يوجد فيلسوف معاصر إلا ويبدأ بنقد هذين العيبين الصوري والمادي مثل ميرلوبونتي، وياسبرز، ومارسيل، وأورتيجا إي جاسيه، وأونامونو، ونيتشه وهَيدجر … إلخ.

ويمثل جانب الرفض الجانب العنيف من المذهب الذي يرفض فيه الفيلسوف أخطاء الفكر في عصره. هذه الأخطاء كانت إلى حينٍ اكتشافات تعبر عن احتياجات العصر الماضي. فمثلًا نشأت قطعية فولف التي رفضها كانط في عصره كرد فعل على مذاهب الشك في القرن السابق عند مونتاني وتعرية الواقع كله من أية نظرية. حاول فولف إعطاء معرفة شاملة بديلة للوحي، كما كان الحال في العصر الوسيط، تعطي الواقع أساسًا نظريًّا متكاملًا. وقد كان شك مونتاني نفسه رد فعل على قطعية الفلسفة المدرسية. فإذا ما تطور الواقع، وتطور الإحساس به تظهر العلوم العقلية عند فولف قطعية منفصلة عن التجرِبة بعد أن تجاوزتها التجرِبة وفيزيقا نيوتن. ويظهر كانط لرفضها ونقد العقل المنفصل عن التجرِبة. وفي نفس الوقت كانت حسية هيوم وشكه في المعارف العقلية تعبيرًا عن احتياجات عصره الذي اكتشف عدم تطابق النظريات الاجتماعية والسياسية. فرفض كل القوانين العقلية وآمن بشهادة الحس. واعتبر كل التصورات والمفاهيم العقلية مجرد نتاج للحس وللعادة وللربط بين العلة والمعلول ولتداعي المعاني. وعندما ظهر التطرف في رفض العقل، ظهر كانط دفاعًا عن العقل ورفضًا للاتجاه الحسي عند هيوم باعتباره شاكًّا في قدرة العقل. ورفَض هيجل كل الاتجاهات الصورية المجردة وريثة الاتجاه العقلي التقليدي، وكل الاتجاهات الحسية التجريبية وريثة الاتجاه الحسي التقليدي من أجل العثور على واقع هو أيضًا فكر، وعلى فكر هو أيضًا واقع. ورفَض كل الثنائيات بين العقل والحس، واعتبار الحس إحدى مراحل تطور العقل، ورفض كل عَلاقات التيار التقليدي بين الصورة والمضمون، واعتبار المضمون تطورًا للصورة، والصورة مضمونًا مجردًا في مرحلته الأولى. كما يرفض هُوسِرل كل الاتجاهات الصورية في المنطق والرياضة وكل الاتجاهات المادية في علم النفس وفي الفلسفة بعد أن كانت الصورية وسيلة لإنقاذ البعد المثالي في الوعي الأوروبي، وبعد أن كانت المادية وسيلة للتأكيد على بعد الواقع فيه. واستمرت جميع الفلسفات المعاصرة بعمليات الرفض هذه حتى أصبح الرفض عند ماركوز هو رُوح الفلسفة. فنقد كل من برجسون، ومونييه، وشيلر، وميرلوبونتي، وسارتر، وجابريِل مارسيل، وياسبرز، وأورتيجا إي جاسيه، وأونامونو، كل التيارات الصورية في المنطق أو في العلوم الإنسانية، كما نقدوا كل التيارات الحسية التجريبية. الأولى تُرد إلى أعلى والثانية تُرد إلى أسفل. الأولى تعطي الواقع أكثر مما يستحق، والثانية تعطي الواقع أقل مما يستحق.

ويقوم الجانب الثاني من المذهب وهو البناء أو التكوين بإعادة صياغة مذهب جديد بناءً على أخطاء المذهب المنقوض لإكمال جوانب النقص فيه، وإبراز ما خفي عنه آخذًا في الاعتبار المكتسبات الجديدة للوعي الأوروبي. فالأنا أفكر Cogito عند ديكارت ضد «أنا أُومِن» Credo في العصور الوسطى، ووحدة النفس والبدن، والله والعالم، والطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة عند اسبينوزا رد فعل على ثنائية ديكارت، والفصل بين النفس والبدن، والله والعالم. والفلسفة النقدية عند كانط ضد قطعية فولف وشك هيوم، ونظرية العلم عند فشته التي تأخذ الحرية موضوعًا للعلم ضد ثنائية العقل النظري والعقل العملي عند كانط. والجدل عند هيجل ضد الآلية والثبات في مقولات كانط. ووحدة الرُّوح والطبيعة وفلسفة الهُوية عند شلنج ضد ثنائية كانط. وصِلة الصورة بالمادة، والمقولة بالحدس والشعور باعتباره ذاتًا مفكرًا أو موضوع التفكير في آنٍ واحد عند هُوسِرل ضد الأنا أفكر الفارغ من غير مضمون أو الذي يأخذ مضمونه من الخارج سواء من الكمال الإلهي أو من الامتداد الطبيعي عند ديكارت. والحدس عند برجسون في مقابل العقل عند العقليين، والحس عند التجريبيين، والوجود عند الوجوديين ضد الماهية عند المثاليين. والجسم عند ميرلوبونتي ضد النفس عند الديكارتيين. الهدم والبناء إذن واجهتان لعملة واحدة مثل السلب والإيجاب، يمكن قلب الهدم فيصبح بناء، وقلب البناء فيصبح هدمًا. بل إن البناء ذاته بناء وقتي سرعان ما يتحول إلى سلب فينهدم بنقد المذهب اللاحق عليه. كل بناء إذن هو سلب بالنسبة للمذهب اللاحق، وكل سلب هو بناء بالنسبة للمذهب السابق. فليس هناك سلب مطلق أو إيجاب مطلق، وليس هناك هدم دائم أو بناء أبدي. وأصبحت المذاهب نسبية، والحقيقة متغيرة. وكان العنصر الدائم في جدل الهدم والبناء هو رُوح العصر، والظروف الاجتماعية، والمرحلة التاريخية أي تاريخية الوعي الأوروبي على عكس ما قيل بعد ذلك، وروجت له أجهزة الإعلام الغربية، وروجناه معها، من إطلاقية الوعي الأوروبي وشمول الحضارة الأوروبية وعالميتها كممثل للحضارة الإنسانية جمعاء.
أما الجانب الثالث من المذهب، وهو الجانب المستتر الضمني، فهو الهدف غير المعلن الذي من أجله تم الهدم والبناء، الغاية القصوى من عملية التفلسف، البواعث الشعورية مرة على يمينها ومرة على يسارها، ومرة فوقها ومرة تحتها، دون القدرة على التصويب نحو البؤرة ذاتها وكأن الوعي قد أصيب بالشلل وعدم القدرة على توجيه حركة الأطراف. هي الدلالة في مرحلة ما قبل التصور الذهني والصياغة اللفظية. هي النية والعقد قبل مرحلة الفعل والتنفيذ. كان هدف ديكارت إثبات الأنا وظهور الله داخلها، عودًا إلى الأوغسطينية ولَحاقًا بالبروتستانتية، الصلة المباشرة بين الإنسان والله، وبدايةً بالذاتية التي أغفلتها الفلسفة المدرسية لحساب الأرسطية والتوماوية والفلسفة الطبيعية، حتى لقد تحول المسيح ذاته إلى موجود طبيعي، وواقعة كونية، واقعة التجسد. وكان هدف كانط جعل الأنا أفكر، بعد أن أثبتها ديكارت، مركز العالم، يدور العالم حولها، ولا تدور هي حول العالم، تشرِّع للواقع بمقولاتها، ويصبح الواقع مفهومًا بفضلها، وبدونها يصبح دافعًا مصمتًا بلا دلالة ولا نظر. وكان هدف هيجل ابتلاع الأنا التاريخ كله وتحويل الموضوعية إلى ذاتية والذاتية إلى موضوعية في مسار واحد، وفي جدل خلاق، حقيقة واحدة من البداية إلى النهاية على مسار متعدد اللحظات. وكان هدف هُوسِرل هو الإعلان النهائي عن وحدة الذات والموضوع، العقل والطبيعة، وغلق الفم المفتوح، والبداية الثانية بعد البداية الأولى عند ديكارت، أو نهاية البداية. وكان هدف برجسون الحرص على حياة الذات الباطنية بعد أن تم تفريغها إلى صورة عند المثالية وإلى مادة عند التجريبيين. وكان هدف شيلر ومونييه هو بناء نسيج وجودي حول الذاتية وتحويلها من المشروع المعرفي إلى الوجود الحي، وكذلك الأمر عند سائر الوجوديين. هذا الحدس المستتر هو قلب الفيلسوف وليس عقله، رُوحه وليس لفظه، وهو في الغالب حدس ديني يقوم على عقيدة دينية قديمة عرضها الفيلسوف على المستوى الإنساني الخالص، وعرَّفها بالجهد الإنساني المحض، وعرضها بالعقل الخالص. وعلى هذا النحو يكون ما رفضه الشعور الأوروبي أولًا، وهي المسلمات الدينية العقائدية الشعائرية الكنسية الشيئية، قد عادت إلى الظهور على نحو طبيعي تلقائي كمقتضًى من مقتضيات الواقع وكأحد متطلبات العقل بحيث ظهرت وحدة الوحي والعقل والطبيعة. وهو نموذجنا القديم الذي قامت عليه الحضارة الإسلامية، اعتمادًا على البحث الحر، وبالجهد الإنساني المستقل. فإذا كان ديكارت قد رفض البداية بالفلسفة المدرسية، بالعقائد الكنسية أو بالفلسفة الأرسطية، وآثر البداية على نحو جديد، بالكوجيتو، فإن الكوجيتو يقوم في الحقيقة على واقعة ضمنية من العهد الجديد وعلى أحد دوافعه طبقًا لعبارة المسيح «ماذا لو كسَبتَ العالم وخسِرْتَ نفسك؟» وإذا كان كانط قد رفض القطعية والشك وأسَّس النقد فإن النقد قائم على حدس ديني أساسي وهو أن الإيمان شرط المعرفة وسابق عليها. وإذا كان هيجل قد أقام الجدل فإن مؤلفات الشباب تكشف عن مصادره الدينية في السقوط والارتفاع، في الخطيئة والخلاص، وأن لحظات الجدل الثلاثة قد تكون قراءة علمانية جديدة للتثليث. فالمنطق، والطبيعيات، والإلهيات، وهي الأقسام الرئيسية في «دائرة المعارف»، قد لا تبعد كثيرًا عن الله، والابن، والرُّوح القدس. وإذا كان هُوسِرل قد أراد إكمال الكوجيتو، وجعل موضوع التفكير جزءًا من الأنا أفكر، وجعل الداخل شرط الخارج في نظرية الشعاع المزدوِج، وجعل الرؤية، الشعاع من الداخل إلى الخارج، شرط الإدراك، الشعاع من الخارج إلى الداخل، وجعل المعاني المستقلة أقرب إلى الماهيات الأفلاطونية الحالَّة في الشعور، كل ذلك لا يبعد كثيرًا عن الأوغسطينية القديمة، والتي يستشهد بها هُوسِرل ذاته في «تأملات ديكارتية» في عبارة «في داخلك أيها الإنسان تكمن الحقيقة». وإذا كان برجسون قد رفض المثالية وتصوُّرَها لعمل الذهن والتجريبية وتصوُّرَها لعمل الإحساس فإن الحدس لديه أقرب إلى الرؤية الصوفية الباطنية، والتطور الخالق أقرب إلى الخلق الإلهي في الطبيعة، والدين الدينامي أقرب إلى رُوحانيات الصوفية، واستقلال الذاكرة عن المادة هو نفس تميز النفس عن البدن لإثبات خلود النفس ولكن بمنهج علمي، والمعطيات البديهية للوجدان أقرب إلى أحوال الصوفية. وإذا كان شيلر ومونييه قد جعلا الشخص في أعلى سلم القيم فقد لا يبعد ذلك كثيرًا عن شخص السيد المسيح. بل إن وصف ميرلوبونتي وجابريِل مارسيل للجسم قد يوازي وصف اللاهوتيين لجسد السيد المسيح. وإن أوصاف الحرية عند سارتر أنها مجانية ومطلقة وشاملة قد لا تبعد كثيرًا عن صفات الفعل الإلهي. فهناك باعث ديني أصيل مستتر وراء كل مذهب، حتى ولو كان أشد المذاهب إيغالًا في الإلحاد واعترافًا صريحًا به مثل نيتشه وسارتر. لذلك كان الإلحاد إيمانًا مقلوبًا، وكان الملحدون هم المخمورون بالنشوة الإلهية. فالملحدون هم المؤمنون، والمؤمنون هم الملحدون، وقد يكون سارتر هو المؤمن وبسكال هو الملحد، ونيتشه هو المؤمن ومالبرانش هو الملحد. وهيجل نفسه هو واضع هذا الاشتباه. لذلك قد يكون هذا الجانب الضمني أو المستتر شعوريًّا قصديًّا عند الفيلسوف، كما هو الحال عند ديكارت وكانط وبرجسون. وقد يكون لا شعوريًّا لا قصديًّا بل طبيعي تلقائي كما هو الحال عند هُوسِرل.٢٨

(٣) توالد المذاهب

وتتراكم المذاهب الفلسفية، ويتوالد بعضها عن بعض، يبني كل فيلسوف لاحق على الفيلسوف السابق، ويكتب عنه أحيانًا شرحًا أو قراءة أو نقدًا. ولما كان الوعي الأوروبي في بدايته عند ديكارت ما زال بلا بعد تاريخي حديث كثرت الإشارة إلى القدماء عامة أو إلى أوغسطين أو توما الأكويني خاصة، أي إلى نموذجي الفكر المسيحي في عصر آباء الكنيسة وفي العصر المدرسي، أو الإشارة إلى إرهاصات العصر الحديث خاصة عند العلماء السابقين على عصر النهضة الذين حاولوا الخروج من العصر المدرسي مثل: ريمون لول، آلان اللِّيلي، روجر بيكون … إلخ.٢٩

ولما كانت المذاهب الفلسفية وجهات نظر لأصحابها يشرح بعضها بعضًا لمزيد من التأييد والبرهان أو يقرأ بعضها بعضًا لمزيد من التأويل والإكمال من أجل القلب والتغيير، وقلب الصلة من هذا الوجه إلى الوجه الآخر، ظهرت ثلاثة نماذج من توالد المذاهب: إما الاستمرار، وإما الاستمرار مع الانقطاع، وإما الانقطاع. ولا توجد فواصل حاسمة بين هذه النماذج الثلاثة بل يوجد مجرد تمايز بينها. فلا يوجد استمرار بين مذهبين إلى حد التطابق ولا حتى عند الشراح. وقد يكون نموذجا الاستمرار والانقطاع أقرب إلى الاستمرار أو أقرب إلى الانقطاع. وقد يكون نموذج الانقطاع أقرب إلى القراءة والتأويل لصعوبة التفرقة بين العدو والصديق، بين الحاكم والمحكوم، وبين السيد والعبد.

ويمكن إعطاء عدة نماذج من توالد المذاهب الفلسفية عن طريق التواصل والاستمرار؛ من ديكارت إلى لَيبنتز، ومن ديكارت إلى مالبرانش، وهو ما عُرف باسم عقلانية القرن السابع عشر. ومن لوك إلى هوبز إلى هيوم وهو ما عُرف باسم تجريبية القرنين السابع والثامن عشر، ومن كيركجارد إلى هَيدجر إلى سارتر أو من كيركجارد إلى ياسبرز إلى مارسيل في وجودية القرنين التاسع عشر والعشرين، ملحدة أو مؤمنة، لما كان الإلحاد هو الإيمان، والإيمان هو الإلحاد. ومن الحسيين الأنجلوسكسونيين إلى فلاسفة دائرة المعارف الفلسفية، ومن لامارك إلى دارون إلى سبنسر إلى هيكل في المذهب التطوري … إلخ، وكأننا أمام رواة الحديث، وسلسلة متصلة لا انقطاع فيها، ولا إرسال من الأول أو الوسط أو النهاية. وقد يكون هذا التواصل داخل الوعي القومي الواحد أو بين وعيين قوميين في إطار الوعي الأوروبي العام.

أما نموذج التواصل والانقطاع فيوجد في مذاهب فلسفية أخرى، من ديكارت أو اسبينوزا أي من الثنائية إلى الأحادية، ومن كانط إلى فيشته وهيجل وشلنج وشوبنهور، أي من ثنائية النظري والعملي، والظاهر والشيء في ذاته إلى التوحيد بينهما في الذاتية أو الجدل أو الهُوية أو الإرادة، ومن هُوسِرل إلى شيلر أي من المثالية الأفلاطونية إلى الواقعية الحيوية، ومن هُوسِرل إلى شيلر، أي من المثالية الأفلاطونية إلى الواقعية الحيوية، ومن هُوسِرل إلى هَيدجر، أي من الفينومينولوجيا إلى الأُنطولوجيا، ومن ماركس إلى ألتوسير، من الماركسية التطورية إلى الماركسية البنيوية، ومن هَيدجر إلى دريدا، أي من تحليل اللغة لاكتشاف الوجود الإنساني إلى تحليل اللغة والانتهاء إلى الصفر. هذه قراءة في الزمان، أي قراءة اللاحق للسابق على نحو طبيعي عن طريق التأويل، وبالتالي تأسس علم الهرمنيوطيقا. وقد تكون القراءة عكسية رجوعًا إلى الوراء، إسقاطًا للحاضر في الماضي أو كما يقول برجسون معراج الحاضر في الماضي بناء على الحركة التراجعية للحقيقة، وذلك مثل قراءة ماركس لديموقراطيس وهراقليطس على أنهما مؤسِّسا الجدل المادي، وقراءة هَيدجر لكانط وتأويل الحساسية الترنسندنتالية على أنها تحليل للوجود، وقراءة هَيدجر لنيتشه على أنه تحليل للوجود الإنساني، وقراءة هَيدجر للطبائعيين الأوائل على أنهم مؤسسو علم الوجود، وقراءة برجسون لأفلوطين على أنه أول من اكتشف الحدس والديمومة، وقراءة ياسبرز لنيتشه مرتين على أنه مؤمن مقنَّع، إنقاذًا للمسيحية من تقويض نيتشه لها، وقراءة ميرلوبونتي لجولدشتين على أنه وصف للسلوك … إلخ. وقد أشار هُوسِرل من قبل في «أزمة العلوم الأوروبية» وهو يرصد مسار الوعي الأوروبي إلى المنهج التقدمي التراجعي في تقدم الحقيقة وتكاملها تقدمًا في الزمان أو في تراجع الحقيقة واكتشاف مصادرها صعودًا في الزمان، وكما طبق ذلك أيضًا في «نشأة الهندسة».٣٠

والنموذج الثالث، وهو الأشهر والأوقع، هو نموذج الانقطاع والتضاد والتقابل من أجل قلب المائدة وكشف الوجهة الأخرى من العملة ضد الأخرى مثل جون لوك في «محاولة في الفهم الإنساني» إلى لَيبنتز في «المحاولات الجديدة» دفاعًا عن العقل ضد الحس، ومن هيوم إلى كانط دفاعًا عن القبلي ضد الشك فيه، ومن فولف إلى كانط دفاعًا عن النقد ضد القطع، ومن هيجل إلى كيركجارد دفاعًا عن الوجود ضد العقل، ومن هيجل إلى ماركس دفاعًا عن الواقع ضد المثال، ومن هيجل إلى فيورباخ دفاعًا عن الطبيعة الحسية ضد جدل التصورات، ومن باور وشترنر وفيورباخ إلى ماركس دفاعًا عن النقد الاجتماعي ضد النقد الأيديولوجي، ومن كانط إلى برجسون دفاعًا عن الحدس ضد العقل، والدافع الحيوي ضد الإلزام الخلقي، ومن فشنر وشاركو إلى برجسون دفاعًا عن الحرية والديمومة والذاكرة ضد مُعامل الإحساس والسيكوفيزيقا، ومن دارون وسبنسر ولامارك إلى برجسون دفاعًا عن التطور الخالق ضد التطور الآلي المادي، ومن دوركايم وليفي برِيل إلى برجسون دفاعًا عن الدين الدينامي ضد الدين الثابت، ومن ديكارت إلى سارتر دفاعًا عن الأنا موجود ضد الأنا أفكر، ومن أفلاطون إلى هَيدجر دفاعًا عن الوجود ضد الثنائية، ومن السيكوفيزيقا إلى ميرلوبونتي دفاعًا عن الوجود في العالم … إلخ. فكل مذهب نقيض الآخر وعلى الضد منه، يقلبه رأسًا على عقب، ولا وجه للمصالحة بينهما، ثنائية متعارضة، إثبات ونفي، إيجاب وسلب، بناء وهدم كالملاك والشيطان، الأبيض والأسود، الإيمان والكفر، الإسلام والجاهلية.

وقد تولدت المذاهب بعضها عن بعض في عِقد فريد طبقًا لقانون الفعل ورد الفعل والتوسط، ثم الفعل المعدل إلى رد الفعل المعدل إلى التوسط الجديد. وقد يكون هذا التولد تاريخيًّا زمنيًّا بعَلاقة تاريخية عِلِّية بين المذهبين، وقد يكون ماهويًّا فكريًّا في عَلاقة تكاملية لا تاريخية بينهما في صورة أشمل وأعم لإيجاد التوازن في الوعي الأوروبي وفي ذهن الفيلسوف. وقد تكون بينهما العَلاقة تاريخية ولا تاريخية، عِلِّية وماهوية، زمانية ولا زمانية في آنٍ واحد. فالمذهب العقلي عند ديكارت والمذهب الحسي عند بيكون متقابلان على نحو لا تاريخي، ولكن المذهب الحسي عند لوك والمذهب العقلي عند لَيبنتز متضادان على نحو تاريخي. والمذهب القطعي عند فولف والمذهب الحسي عند هيوم متضادان أيضًا على نحو تاريخي. وقد استدعى كلاهما ظهور مذهب ثالث يجمع بينهما هو مذهب كانط، أي الفلسفة النقدية. ثم تظهر عقلانية جديدة أقل صورية، وأقرب إلى الحياة والحركة مثل عقلانية هيجل وفشته وشلنج تولِّد نقيضًا لها في مادية تطورية حركية أيضًا في تطورية دارون ووضعية أوجست كومت. ثم تظهر عقلانية جديدة أقل أسطورية ورومانسية وأقرب إلى العلوم الاجتماعية في الكانطية الجديدة وتقترب منها وفي مقابلها تجريبية جديدة أقل مادية وأقرب إلى الخبرات الحية المعيشة في الواقعية الجديدة. ثم تظهر عقلانية حية موجهة نحو الشعور وتحليل التجارِب الحية في الظاهريات تتحول إلى عقلانية وجودية تنقلب على الماهيات والمعاني المستقلة إلى تحليل وجودي للواقعة الإنسانية عند هَيدجر وسارتر. فكل المذاهب التي تنتهي بلفظ «الجديدة» مثل «الهيجلية الجديدة» أو «الكانطية الجديدة» أو «الواقعية الجديدة» إنما هي مرحلة ثانية من الفعل المعدل أو رد الفعل المعدل أو التوسط بين الفعل ورد الفعل. ويحدث ذلك أيضًا في المذاهب الفنية، من الكلاسيكية إلى الرومانسية إلى الكلاسيكية الجديدة إلى الرومانسية الجديدة. فالصواب هو تصحيح لخطأ سابق ثم يصبح هو ذاته خطأ بالنسبة لصواب لاحق. ما تم بناؤه بالأمس يُهدم اليوم، وما يُهدم اليوم يعاد بناؤه غدًا وكأنه لا إجماع للأمة على شيء، وكأن حديث الفرقة الناجية قد انتقل من وعينا إلى وعيهم.٣١

ونتيجة هذا التوالد المذهبي طبقًا لقانون الفعل ورد الفعل والتوسط طُبعت العقلية الأوروبية بطابع خاص، وتكوَّن لها مزاج خاص، وأصبح لها نظرة خاصة للأمور. فقدت التوازن، وضاع منها التكامل. وفي كل مرة تضع ما رفضته سابقًا أو ترفض ما وضعته من قبل. وأصبح من الصعب عليها إدراك الظاهرة نفسها في جميع جوانبها في آنٍ واحد. أصبحت عقلية وحيدة الجانب، أحادية الطرف، ترفض وتضع، وتضع وترفض. واستحال عليها أن تدرك الظاهرة أو تثبتها في مكانها الصحيح وعلى مستواها الحقيقي. أصبحت عقلية تقوم بتصنيف الظواهر دائمًا إلى طرفين متناقضين ثم إلى طرف ثالث يتنازعه هذان الطرفان، وبالتالي كان الجدل يعبر عن طبيعتها وجوهرها، الصراع والتناقض ثم المصالحة والوفاق، الحرب الساخنة ثم الحرب الباردة، الستار الحديدي ثم البريسترويكا. أصبحت عقلية ثنائية، تفصل باستمرار بين ما هو جوهر وعرض، شارط ومشروط، قبلي وبعدي. وقد ظهر ذلك بوضوح عند كانط. ثم وُضعت المشاكل باستمرار على هذا النحو: هل العالم فكرة أم واقع؟ مثال أم شيء؟ هل الفكر سابق على الوجود أم الوجود سابق على الفكر؟ هل النفس مستقلة عن البدن أم مرتبطة به؟ هل الزعامة من الفرد أم من المجتمع؟ هل البطل صانع التاريخ أم التاريخ يصنعه؟ وهي الطريقة اليونانية القديمة التي تدل على تطهر مثالي يتفق مع رغبة الشعور الأوروبي الدفينة في اللَّحاق بالعواطف الدينية التي ما زالت موجودة فيه بعد رفض صياغات العقائدية الموروثة من العصور الوسطى. أصبحت العقلية الأوروبية مانوية أكثر منها مسيحية، تقوم على الثنائية المتعارضة بين النور والظلمة، الحق والباطل، الخير والشر، الرُّوح والمادة. وقد تظهر المسيحية في الجمع بين طرفي الثنائية المتعارضة في شخص ثالث كما هو الحال في الأقانيم الثلاثة: الأب، والابن، والرُّوح القدس، والذي عبر عنه هيجل في منهجه الجدلي خير تعبير، فكان أقرب إلى عقلية التوحيد والجمع بين النقيضين في لحظة الجدل الثالث، مركب الموضوع ونقيضه، وبالتالي كان أقرب الفلاسفة الأوروبيين إلى الشرق. وهذا يفسر إعجابه بالشرق القديم، بالصين والهند وفارس ومصر.

ولكثرة التجزئة من جراء وجهات النظر ورد الكل إلى أحد أجزائه اتسمت العقلية الأوروبية أي الجانب العاقل في الوعي الأوروبي بالتفرق والتشتت وأحادية الطرف في نظرتها إلى الموضوع طبقًا لجدل «إما … أو». فالواقع إما مثال كما تقول المثالية أو واقع كما تقول الواقعية. والعالم إما معقول كما هو الحال في المذهب العقلي أو محسوس كما هو الحال في المذهب الحسي. وعلى الإنسان أن يختار بين أحد المذهبين وكأنهما متعارضان لا يمكن الجمع بينهما في كلٍّ واحد. أصبحت العقلية الأوروبية عقلية مفرِّقة ترى عاملًا واحدًا وليس كل العوامل، جانبًا واحدًا وليس كل الجوانب. وأصبحت كل الأسئلة موضوعة وضعًا خاطئًا مثل: هل العالم واقع أم مثال؟ هل وسيلة المعرفة العقل أم الحس؟ هل الأولوية للفرد على الجماعة كما تفعل الرأسمالية أم للجماعة على الفرد كما تفعل الاشتراكية؟ كلها أسئلة موضوعة وضعًا خاطئًا لأنها تريد رد الكل إلى أحد أجزائه. فالإجابة في الجمع بين الطرفين: العالم واقع ومثال، وسيلة المعرفة العقل والحس، القيمة فردية واجتماعية. هذه العقلية التوحيدية التي عبرها عنها الفارابي في حضارتنا في «الجمع بين رأيي الحكيمين، أفلاطون الإلهي وأرسطوطاليس الحكيم» على الرغم من سخرية الأوروبيين والمتغربين كيف يجمع الفارابي بين مذهبين متناقضين؟ استفهام من عقلية مفرِّقة موجه إلى عقلية موحِّدة. والغريب أن النظريات العنصرية الغربية في القرن الماضي عند رينان وليون جوتييه قد اتهمت الحضارات السامية بالجمع بين النقيضين دون أي إحساس بالتناقض على عكس العقلية الأوروبية الآرية التي تفكر طبقًا لقانون الاتساق، مما يدل على سوء فهم لعقلية التوحيد وجهل بالعقلية الأوروبية المفرِّقة. وفيم الإعجاب بهيجل والمنهج الجدلي الذي يقوم على الصراع بين النقيضين وهو آريٌّ؟ وماذا عن الإسلام وهو يجمع بين النقيضين، اليهودية والمسيحية، وهو ساميٌّ؟ وفيم نقد منطق أرسطو الذي يقوم على الاتساق، اتساق النتائج مع المقدمات وهو آري؟

والغريب أن يدخل باحثونا ومفكرونا وطلابنا في هذه المعارك وهم ليسوا أطرافًا فيها، ويغلِّبون رأيًا على رأي، ويفاضلون بين جزء وجزء، ويفضلون طرفًا على طرف. والحقيقة في الجمع بين الاثنين ينسون حضارتهم وعقليتها التوحيدية وهم في خضم تقليد الحضارة الأوروبية، فيقعون أسرى عقليتها المفرقة. لذلك أثرت العقلية الأوروبية على أنماط التفكير عامة وعلى كل عقلية ناهضة، وجعلتها تنقل أنصاف الحقائق على أنها كل الحقائق، فتحزبت حيث لا أحزاب، واختارت بين بدائل حيث لا اختيار، ووضعت أنفسها في معارك لم تخضها، وانتصرت لأحد المتحاربَين وهي في موقف المتفرج.٣٢

ونظرًا لأنه لا يوجد شيء إلا ويمكن الشك فيه بحيث لم يعد هناك يقين، وأنه لا يوجد بناء إلا ويمكن هدمه بحيث لم يعد هناك شيء ثابت، اتسم الوعي الأوروبي بالحَيرة وعدم الاستقرار، والبحث الدائم عن شيء لا يمكن تثبيته أو التأكد من وجوده أو حتى من إمكانية إدراكه بالرغم من المناهج الحدسية ووسائل التحقق المنطقي والعلمي. أصبح الوعي الأوروبي متجهًا نحو بؤرة لا يمكن تثبيتها، يصوِّب نظره دائمًا فتقع رؤيته حولها وليس تجاهها. فأصيبَ بالحَيرة الدائمة. أصبح قلقًا لا يستقر له حال على منهج أو موضوع، نتيجة أو غاية. يحاول مرة بالعقل، ومرة أخرى بالحس، ومرة ثالثة بالوجدان، وفي كل المرات لا يدرك إلا الأجزاء. يحاول مرة إدراك الظاهر، ومرة ثانية إدراك الباطن، وفي كل مرة لا يدرك أيضًا إلى الأجزاء. وفي كل الحالات لا ينتهي إلى شيء، يتساوى كل شيء مع كل شيء، وتتكافأ الأدلة. يعود من حيث أتى، ويأتي من حيث عاد. حاولت العلوم الإنسانية تبني نموذج العلوم الرياضية في اليقين مرة ثم نموذج اليقين في العلوم الطبيعية مرة أخرى. وكان من الصعب تحويل موضوع المعرفة إلى الذات العارفة ثم تحويل الذات العارفة إلى موضوع للمعرفة، فلا يمكن رد الإنسان إلى ما هو أعلى منه ولا يمكن رده إلى ما هو أقل منه، وظلت العلوم الإنسانية متأرجحة بين النموذجين تبحث لها عن طريق ثالث مستقل وجدته في الظاهريات التي انقسمت على نفسها من جديد إلى أفلاطونية وأرسطية أو مثالية ووجودية. وانتهى الفريقان إلى تحليل اللغة الذي أدى في النهاية إلى التفكيك والانتهاء إلى لا شيء. أصبحت العقلية الأوروبية مكتسبة، وفقدت فطرتها ونورها الطبيعي. أصبحت وليدة التاريخ وحصيلة التجرِبة الأوروبية الخاصة. خسرت نفسها وإن توهمت أنها كسَبت العالم.

وبالرغم من هذه السلبيات في العقلية الأوروبية نتيجة للتوالد المذهبي فإنها أيضًا لم تَخلُ من الإيجابيات، خاصة في مثل مجتمعاتنا التي لم يتم فيها تعرية الواقع بعد، وظل غطاؤها النظري الموروث قائمًا، بل ويزداد سمكًا وتماسكًا بعد اكتساب مناعة تاريخية وحاضرة ضد الانتقادات السطحية ومحاولات الهدم الساذجة التي تعتمد على معاول مستمدة من الخارج يسهل حصارها وردها وإعادة توجيهها ضد من يستعملها.

تعطي المذاهب قوة رفض رهيبة للماضي بكل ثقله وللموروث بكل الثقة الموضوعة فيه. فالماضي مهما بلغ من صدقه فإن الواقع سيتخطاه لا محالة. التقدم يفرض نفسه، والواقع أكثر غنًى وتجددًا من كل الأغطية النظرية السالفة. كل مذهب يرفض ويهدم ويصارع وينقد ويثور ويغضب لشيء، وينادي ويثبت ويدافع ويؤكد شيئًا آخر مما طبع العقلية الأوروبية بطابع الحماس والحمية، هجومًا على شيء أو دفاعًا عن شيء آخر. لقد استطاعت العقلية الأوروبية تعرية الواقع من كل غطاء فكري أو عقائدي سابق، تعطي الباحث حماسًا لا يعوَّض، ورغبة عارمة في وضع نظرية من لديه. إن تعرية الواقع هذه مكسب هائل بالنسبة لبيئة أكثر ما يضرها تغليف واقعها بعشرات من الأقنعة الماضية والحاضرة، الانفعالية منها والتبريرية. كما تقدم المذاهب الفلسفية تحليلات وافية لجوانب الواقع المختلفة، إذ يرى الباحث الواقع وهو يتحول إلى نظرية أو النظرية وهي في طور النشوء ومطابقتها للواقع والتحقق من صدقها بالرجوع إليه في كل مراحله وعلى جميع مستوياته، وبالتالي فهي تقدم وجهات نظر عديدة، وحججًا مختلفة، وثراءً فكريًّا يفيد بيئة يعمها الخطاب الواحد، والرأي الواحد، والعقيدة الواحدة. كما تفسح المذاهب مجالًا واسعًا لدراسة البواعث والمقاصد لدى الباحث نحو البحث والتحليل، وقد لا تبعد كثيرًا عن مقاصد الوحي الأساسية في المحافظة على الحياة ومقوماتها، العقل، والحرية، والتعرف على الحقيقة الثابتة الدائمة، والعيش وَفقًا للطبيعة، واحترام الإنسان وحقوقه، وهي الحقائق الإنسانية العامة التي هي أساس كل وحي. عرَفها الوعي الأوروبي تلقائيًّا واعتمادًا على جهد الإنسان الخاص. تؤكد المذاهب بما لا يدع مجالًا للشك قدرة العقل الإنساني على الوصول إلى الحقائق بجهده الخاص، وتعطي ثقة لا حد لها بالذهن الإنساني في الوصول إلى الحقائق وعلى رؤية صائبة للواقع، ومن ثم ارتبطت الحقيقة بهذا الجهد المتواصل في البحث عنها ورفض الحقائق الجاهزة المسبقة التي لم يتم التصديق بها أو التحقق من صدقها بالعقل أو في الواقع. ومن هنا يأتي قول لِسِنج المشهور: لو وضعوا الحقيقة في يدي اليمنى، والبحث عن الحقيقة في يدي اليسرى لاخترت اليسرى.

ونظرًا لهذا القلق المستمر والبحث الدءوب عن نقطة ثابتة ظهرت رُوح التغير والجِدة. كل مذهب جديد يشبع رغبة حالية. ثم يتطور الواقع وينكشف قصور الفكر فينشأ مذهب جديد ليشبع حاجة جديدة، وهكذا. فبعد تعرية الواقع من كل نظرة متكاملة قد يقدمها الوحي مثلًا كان من الصعب تغطيته من جديد بنظرة إنسانية واحدة وشاملة تلم بجوانب الموضوع كله. فالنظرة الإنسانية بطبيعتها وحيدة الجانب. هذا التغير المستمر وعدم الاستقرار أو البحث الدائب عن الحقيقة أدى إلى كثرة الإنتاج الفكري ووفرة المذاهب التي قد تضيع الحقيقة بينها. فالكل ممكن، والكل صحيح ولكن إلى حد معين. اتسم الإبداع الأوروبي بالإيقاع السريع. كل يوم يظهر جديد لا يستمر أكثر من يوم واحد ثم يصبح باليًا. تتغير مظاهر الحداثة كل عام، عقلية «الموضة». وتتغير أجيال الحاسبات الآلية كل عدة سنوات، وتُخرج المطابع يوميًّا آلاف الابتكارات حتى إنه ليصعب اللَّحاق بها أو معرفتها. لم يعد تراث قديم. ولم تظهر الحاجة إلى الارتباط بالقديم. لم تظهر أمثلة تقول: «اللي فات قديمه تاه» كما هو الحال في وعينا الحضاري، بل كان الوعي الأوروبي أقرب إلى «كل يوم هو في شأن».

لذلك لا يمكن لمجتمعات غير أوروبية أن تنقل هذه المذاهب التي تعبر عن تقلبات النظرية على واقع خاص. ومع ذلك فقد نشأت حركات التقليد في هذه المجتمعات للمذاهب الفكرية والمدارس الفنية وحتى أساليب الحياة الأوروبية حتى أصبح الوعي الأوروبي هو مصدر الإبداع الوحيد والوعي اللاأوروبي مصدر التقليد. ومع ذلك تُعتبر المذاهب بالنسبة للحضارات غير الأوروبية نماذج فكرية لما يمكن أن يكون عليه الفكر في صراعه مع التقليد للماضي وفي محاولاته لاستبصار الواقع. وبهذا المعنى تكون المعرفة بالحضارة الأوروبية وبغيرها من الحضارات عوامل مشجعة ونماذج صادقة لوعي خاص في ظروف خاصة لإبداع خاص.٣٣

خامسًا: الوعي التاريخي

أدت ظروف الوعي الأوروبي من قطيعة معرفية، وتنظير، وفصل بين الواقع والقيمة، وتوالد المذاهب الفلسفية إلى جعله وعيًا تاريخيًّا، وأصبحت هذه الصفة المكتسبة إحدى علامات زهوه وفخره على غيره من الشعوب والحضارات باعتبار أنه هو الوحيد الذي استطاع اكتشاف الزمان الإنساني والتاريخ الإنساني. لقد عرَف القدماء الزمان كعدد للحركة، الزمان المكاني الطبيعي. وعرَف أوغسطين الزمان الإنساني ولكنه كان ذاكرة من ثناياها يتم إثبات وجود الله باعتباره كل الزمان أو الخلود. وعرَفت البروتستانتية اللحظة كما عرَفها ديكارت. وأكد الوجوديون على الزمان كنسيج للوجود وما يتلوه من موت، أي نهاية الزمان. استطاع الوعي الأوروبي إذن نقل الزمان من الخارج إلى الداخل، من الطبيعة إلى الإنسان، وبالتالي اكتشف صراع الحياة والموت، والوجود الزماني.

وفي نفس الوقت بعد بداية الوعي الأوروبي توالت المذاهب الفلسفية وتراكمت، ونقد بعضها بعضًا، وأوَّل بعضها بعضًا. وبدأ الوعي الأوروبي في كل عصر يمثل مرحلة تتلوها مراحل أخرى. فتم اكتشاف بعد آخر للزمان، غير البعد الإنساني الباطني، وهو الزمان كتاريخ، كتوالٍ للأجيال، وتتالٍ للعصور. فنشأ مفهوم العصور الحديثة من القرن السابع عشر حتى العشرين. حدث تراكم في الوعي التاريخي الأوروبي حتى نشأت فلسفة التاريخ لتصف مسار هذا الوعي داخليًّا وخارجيًّا باعتباره إحدى حلقات الوعي الإنساني العام. ونشأ مفهوم التقدم خاصة في بداية الوعي الأوروبي حتى الذروة قبل أن يتحول إلى نكوص، أي التقدم المعكوس، وبالتالي أصبح الوعي الأوروبي يزهو على أقرانه بموضوعين: الإنسان والتاريخ. وكلاهما زمان، الزمان الفردي والزمان الجماعي.٣٤

(١) مراحل الوعي الأوروبي

بالرغم من أن مراحل الوعي الأوروبي أقرب إلى التكوين منها إلى البنية إلا أنها في حقيقة الأمر أقرب إلى نقد وظائف العقل واكتشاف الوعي الأوروبي لذاته من خلال تجليات العقل لملء الفراغ النظري والعملي في العصور الحديثة، كما ظهرت فكرة رُوح العصر للتعبير عن طبيعة المرحلة ونوعية إسهامها. وبصرف النظر عن بدايات الوعي الأوروبي في عصر الإحياء في القرن الرابع عشر، والإصلاح الديني في القرن الخامس عشر، «وعصر النهضة» في القرن السادس عشر فإنه يمكن تحديد أربع مراحل لتطور الوعي الأوروبي في العصور الحديثة. فقد تجلى الجانب العاقل في الوعي الأوروبي في فلسفات أربعة على مدى أربعة قرون متتالية: العقلانية في السابع عشر، والتنوير في الثامن عشر، والعلم في التاسع عشر، وأزمة الإنسان والعلوم الإنسانية في القرن العشرين.

كانت العقلانية في القرن السابع عشر تتويجًا لنضال العقل في عصر النهضة. فأصبح له سلطان على كل شيء: الدين، والفلسفة، والعلم، والسياسة، والاجتماع، والأخلاق، والقانون. وبلغ الوعي الأوروبي أعلى درجة ممكنة من الشمول والاتساع.٣٥ بدأها ديكارت وسار معه الديكارتيون النسبيون (اليمين) منهم والجذريون (اليسار). أبقى اليمين الديكارتي عند لَيبنتز ومالبرانش على الثنائية الديكارتية، في حين حاول اليسار الديكارتي عند اسبينوزا الانتقال منها إلى الواحدية. ارتد العقل لدى اليمين الديكارتي إلى بعض تبريرات العصور الوسطى لقواعد الإيمان، بينما استمر العقل لدى اليسار الديكارتي نحو مزيد من التطبيق في المعرفة أو الوجود أو القيم. وقد ازدوج العقل في المدرسة الديكارتية مع الحس في المدرسة التجريبية عند بيكون وهوبز ولوك بالرغم من اختلاف وسائل المعرفة. فكلاهما، العقل والحس، وظيفتان للفكر مرة في العلم ومرة في المجتمع، لا فرق في ذلك بين العقليين والحسيين. كلهم عقليون بالمعنى الواسع. إنما الاختلاف فقط في تحديد وظيفة العقل وفي نشأة التصورات الذهنية قبل الحس أم بعده. ولكن في حقيقة الأمر لا فرق بين هوبز وتصوره للإنسان وللمواطن وللدولة وبين اسبينوزا في تصوره للمواطن الحر في الدولة الحرة. فبالرغم من الاختلاف حول نظرية المعرفة إلا أن الاتفاق تام في السياسة والمجتمع. قد يختلف التوجه النظري في المشروع المعرفي ويتفق التوجه العملي في المشروع السياسي، تعدد في النظر واتفاق في العمل، وهو درسنا في الوحدة الوطنية.٣٦
وفي عصر التنوير في القرن الثامن عشر تم تفجير العقل في المجتمع أكثر وأكثر، بعد هوبز وتفجيره في المجتمع البريطاني المسيحي، واسبينوزا وتفجيره في المجتمع اليهودي في الشتات، فاندلعت الثورات، واهتزت الأنظمة، وسقطت العروش والتيجان، وتأسس كل شيء في العقل والطبيعة، وخرجت أفكار الحرية والعدالة والمساواة والتقدم والإنسان والطبيعة والتاريخ. تحولت الفلسفة إلى ثورة، والفيلسوف إلى كاتب للجماهير وقائد لهم.٣٧ تحول العقل من ثورة في العلم إلى ثورة في المجتمع، ومن انقلاب في النظر إلى انقلاب في العمل، ومن قطيعة في المشروع المعرفي إلى قطيعة في النظام السياسي. وقد تساوى في ذلك التيار العقلي والتيار الحسي اللذان تم الجمع بينهما، سواء عند كانط وهردر ولسنج في ألمانيا، أو عند روسو وديدرو وفولتير ودالمبير وفلاسفة دائرة المعارف في فرنسا. فقد ربط كانط بين العقل والحس في العقل النظري. وأقام هردر فلسفته في التاريخ بناء على تقدم العقل والعلم الطبيعي. ووحد لسنج بين دين العقل ودين الطبيعة. وتابع مندلسون أستاذه كانط في الربط بين العقل والحس. أما فلاسفة التنوير قد تمثلوا الفلسفة الحسية التجريبية الأنجلوسكسونية عند لوك وهيوم، وجمعوا بينها وبين التراث العقلي الديكارتي الاسبينوزي. فتمت الثورة باسم العقل والواقع، البداهة العقلية والرؤية الحسية، النظر العقلي والإدراك الحسي.

وفي عصر العلم والثورة الصناعية في القرن التاسع عشر بلغت المثالية أوجها في النصف الأول من القرن مزدوِجة بالرومانسية، وبلغت المادية أوجَها في النصف الثاني من القرن مع التطورية الدارونية والماركسية. وبالرغم من اختلاف التيارين إلا أنهما قالا نفس الشيء بلغتين مختلفتين: وحدة الذات والموضوع عند فشته، ووحدة المثال والواقع عند هيجل، ووحدة الرُّوح والطبيعة عند شلنج. وهو يعادل ما قاله دارون من وحدة سلسلة التطور للأحياء، أو ما قاله ماركس من وحدة الطبقة العاملة، أو ما قاله كومت من وحدة المعرفة الإنسانية وهي المعرفة العلمية. وسرعان ما تحول المشروع المعرفي إلى مشروع عملي، وتم الانتقال من العلم إلى الصناعة، ومن تراكم رأس المال الصناعي عند أصحاب رءوس الأموال إلى تراكم البؤس العمالي لدى الطبقة العاملة. وكثرت الاكتشافات العلمية والاختراعات الحديثة، وحلت الآلة تدريجيًّا محل الإنسان في الإنتاج، وظهرت طبقة العمال، وبدأت بذور الثورات الاشتراكية، وبلغ المد الاستعماري أوجَه. فالاستعمار على ما تحلل الماركسية أعلى مرحلة من مراحل الرأسمالية لتجميع رءوس الأموال، ونهب الثروات، واسترقاق العبيد، وفتح الأسواق.

وفي أزمة القرن العشرين والإعلان عن بداية النهاية بدأت تتكشف حدود المراحل السابقة وهدمها رأسًا على عقب، والانتقال من العقلانية إلى اللاعقلانية، أو تحطيم العقل كما يقول لوكاتش، أو اللامعقول والعبث عند الوجوديين، والانتقال من التنوير إلى النزعة الإرادية كما وضح في النازية والفاشيَّة، ومن العلم إلى الدين والتصوف كما حدث في الفلسفات الإشراقية المعاصرة. انكشفت الأزمة في الوجودية وعدميتها، وفي البرجماتية وإنكارها المعيار النظري للصدق، وفي التحليلية وإنكارها المعاني المستقلة والكليات السابقة على الأجزاء. وحدثت الثورة الصناعية الثانية، عصر التكنولوجيا والحاسبات الآلية والهندسة الوراثية في نفس الوقت الذي بدأت هموم القرن الواحد والعشرين، والسباق نحو غزو الفضاء. وبدأت أزمة الوعي الأوروبي ليس فقط في العلم بل أيضًا في الممارسة: حربان عالميتان على مدى عشرين عامًا، وقنبلتان ذريتان، وترسانة من السلاح تكفي لتدمير الكون عشرين مرة. وكما بدأ الوعي الأوروبي مساره في «الأنا أفكر» فإنه انتهى في «الأنا موجود».٣٨

هذه المراحل الأربعة: من العقلانية، إلى التنوير والثورة الاجتماعية، إلى العلم والصناعة، إلى أزمة الوجود، إنما هي مراحل طبيعية تلقائية، كل منها تتولد عن الأخرى تولدًا طبيعيًّا: العقل وامتداده في التنوير، والعلم وامتداده في أزمة الإنسان. وأصبحت هذه المراحل إحدى مميزات الوعي الأوروبي وجوهر تاريخه، يمكن استعماله كنموذج من بين نماذج أخرى في حضارات أخرى، كما يمكن استعماله كقياس مع الفارق وضرب الأمثلة للفهم والتفسير دون الحذو والتقليد، فلكل حضارة وعيها ومسارها. وإذا قيل مرة: لا يمكن حرق المراحل، والقفز فوقها، فإن ذلك يعني هذا المسار الطبيعي التلقائي، العقل شرط التنوير، والتنوير شرط التثوير، والتثوير قبل العلم، والعلم قبل الصناعة، وتغيير المجتمع قبل تغير أنماط الإنتاج، والثورة السياسية قبل الثورة الصناعية. وإن كل من يحاول نقل المجتمعات النامية من مرحلة التراث إلى مرحلة التصنيع فإنه إنما يقفز على مراحل قياسًا على مسار الوعي الأوروبي واعتبارًا بنموذجه وضربًا بالأمثال. إنما التحدي الحقيقي لكل التحديثيين والثوريين هو في اكتشاف مسار الوعي الحضاري، وتحديد في أية مرحلة يعيشها جيل التحديث والثورة حتى لا يقوم بدور جيل مضى فتنشأ الحركة السلفية أو دور جيل آتٍ فتنشأ الحركة العلمانية.

(٢) تراكم الوعي الأوروبي

وبالإضافة إلى هذه المراحل الأربعة عبر القرون حدث تراكم تاريخي بين المذاهب الفلسفية. يبني كل فيلسوف لاحق على فيلسوف سابق إما تطويرًا أو قراءة أو نقدًا أو قلبًا رأسًا على عقب، بل إنه يمكن عمل معادلات يُوضع فيها الفلاسفة في طرفيها لبيان كيفية التراكم على النحو الآتي: ديكارت = أنسيلم + أوغسطين. اسبينوزا = ديكارت + أموري دي بين. كانط = ديكارت + لَيبنتز. فشته = كانط + ديكارت. هيجل = فشته + اسبينوزا. شلنج = كانط + اسبينوزا. هُوسِرل = ديكارت + كانط. شيلر = هُوسِرل + برجسون. مين دي بيران = ديكارت + برجسون. برجسون = أرسطو + أفلوطين … إلخ. وهكذا. ولا يهم التتالي الزماني بقدر ما يهم التراكم المذهبي. ولكي تكون المعادلة أكثر دقة يمكن أن يكون طرفها الثاني ثلاثة مذاهب وليس فقط اثنين. مثلًا: شلنج = كانط + فشته + اسبينوزا.

ويبدو التراكم الفلسفي في كتابات الفلاسفة أنفسهم على غيرهم، كتابة اللاحقين على السابقين شرحًا وقراءة وتطويرًا أو نقدًا وقلبًا وتغييرًا. ويبدأ التراكم ضئيلًا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ويزداد تباعًا في القرنين التاسع عشر والعشرين. في القرن السابع عشر كتب اسبينوزا «مبادئ فلسفة ديكارت» يشرح ويطور أسس المدرسة الديكارتية. ويكاد يكون هو الوحيد الذي كتب عن غيره من معاصريه أو السابقين عليه بقليل. أما كانط فقد كتب عن معاصريه أو السابقين عليه في «تقدم الميتافيزيقا في ألمانيا» أو مراجعته لكتاب هردر عن فلسفة التاريخ، وحديثه عن «تاريخ العقل النظري» في آخر «نقد العقل الخالص». وفي القرن التاسع عشر ازداد التراكم التاريخي بصورة واضحة عند هيجل في الاختلاف بين مذهبي فشته وشلنج ثم في محاضرات في تاريخ الفلسفة وباقي محاضراته في فلسفة التاريخ، وعلم الجمال، وفلسفة الدين. كذلك كتب فيورباخ «نقد فلسفة هيجل» و«تاريخ الفلسفة الحديثة من بيكون حتى اسبينوزا» و«وضع ونقد وتطوير فلسفة لَيبنتز» و«بيير بايل، محاولة في تاريخ الفلسفة والإنسانية». ولأول مرة يظهر تاريخ الفلسفة بعد هيجل، وكأن الوعي الأوروبي بدأ يتحول من مجرد وعي حضاري إلى وعي حضاري تاريخي يجمع بين التيارين الأساسيين العقلاني الممثَّل في لَيبنتز والعقلاني الحسي الممثَّل في بيير بايل صاحب «القاموس الفلسفي». كما كتب ماركس ضد أقرانه من اليسار الهيجلي: شتراوس، فيورباخ، شترنر، باور «العائلة المقدسة»، «الأيديولوجية الألمانية» لينتقل من نقد الفكر إلى نقد المجتمع. كما كتب باور «نفير يوم القيامة ضد هيجل، الملحد والمسيح الدجال، إنذار» لإحداث تراكم عكسي، أي قلب العملة على وجهها الآخر حتى تكتمل الصورة، جدل العقل وجدل الواقع وجدل الشعور. وقد حدث التراكم التاريخي في التيار الحسي التجريبي، خاصة عند جون ستيوارت مِل بدراسته عن بِنتام، وكولريدج، وأوجست كومت والوضعية.

وقد ازداد التراكم التاريخي في القرن العشرين في كل الاتجاهات العقلية والتجريبية والوجودية والماركسية. ففي التيار العقلاني ظهر التراكم عند ليون برنشفيج في دراستيه عن «بسكال»، ونشره للأعمال الكاملة له وللأفكار، ودراسته المقارنة بين ديكارت وبسكال، والقراءات المختلفة لمونتاني، ودراسته عن اسبينوزا ومعاصريه. وقد خصص الجزء الأول من كتاباته الفلسفية لديكارت واسبينوزا وكانط. وهنا يعود الوعي الأوروبي إلى بداياته في عقلانية القرنين السابع والثامن عشر، إلى المحطتين الأولى والثانية، ديكارت وكانط، عود على بدأ. ويكشف برنشفيج عن وجود تقدم في الوعي الأوروبي من خلال تاريخ الفلسفة، وذلك في كتابه الرائد «تقدم الوعي في الفلسفة الغربية»، وهو من أوائل الذين أدركوا أن هناك شيئًا اسمه «الرُّوح الأوروبي» كما بين ذلك في كتابه المعنون بهذا الاسم. ويكشف تطور الوعي الأوروبي عن ذاته ليس فقط في الفلسفة بل أيضًا في الرياضيات وهي فلسفة الفلسفة، وكما بين ذلك في كتابه «مراحل الفلسفة الرياضية» وكذلك في «أعمار العقل».

وفي الاتجاه التجريبي حدث التراكم التاريخي عند رَسِل في كتابه الضخم «تاريخ الفلسفة الغربية» وفي جزأيه الآخرين «حكمة الغرب»، وكأن الوعي الأوروبي بدأ يرصد مساره، ويعي شرط حياته. مع أنه كان قد بدأ حياته بالحوار مع التيار العقلاني في «فلسفة لَيبنتز» والذي تلته المرحلة الرياضية في «مبادئ الرياضيات». وتبعه في ذلك آير في كتابه عن «هيوم»، وكتابه الآخر عن «رَسِل»، رابطًا بي بداية التيار ونهايته. ولكن يبدو أن التراكم المثالي العقلاني كان أضخم وأقوى من التراكم الحسي التجريبي.

ثم ازداد التراكم بشكل ملحوظ في تيارات الفلسفة المعاصرة التي أرادت شق طريق ثالث بين التيارين الرئيسيين في الوعي الأوروبي العقلانية والتجريبية مثل الظاهراتية، والوجودية، والبرجسونية والبرجماتية، وماركسية القرن العشرين … إلخ. ففي الظاهراتية ربط هُوسِرل في نهاية الوعي نفسه بديكارت في بدايته في «تأملات ديكارتية»، وأرخ للوعي كله في رائعته «أزمة العلوم الأوروبية»، كما أرخ لباقي العلوم الإنسانية مثل الفلسفة الأولى في «الفلسفة الأولى»، ولعلم النفس في «علم النفس الظاهرياتي». وفي الوجودية الظاهراتية كتب هَيدجر عن «كانط ومشكلة الميتافيزيقا» وعن شلنج شارحًا رسالته عن الحرية الإنسانية، وعن «نيتشه» مبينًا انتقال الوعي الأوروبي من الحساسية الترنسندنتالية إلى الوجودية، ومن إرادة القوة إلى تحليل أبعاد الوجود الإنساني. كما ربط ياسبرز نفسه بنيتشه مرتين في «نيتشه» ثم في «نيتشه والمسيحية» ليبين نكوص الوعي الأوروبي على عقبيه من نقد الدين إلى تبرير الدين من جديد كما كان الحال في بداية الوعي عند ديكارت. ولكنه استعرض تطور الوعي الأوروبي في صورة أسماء أعلام في «الفلاسفة الكبار» مما يكشف عن مدى ارتباط المذاهب الفلسفية بأسماء أصحابها. كما كتب جابريِل مارسيل عن معاصره جوزايا رويس «ميتافيزيقا رويس» تقوية للوجودية المؤمنة الفرنسية والأمريكية. وقد قارن ريكور بين ياسبرز ومارسيل في كتابه «جابريِل مارسيل وكارل ياسبرز» تقوية للصلة بين الوجودية المؤمنة الفرنسية والألمانية. ثم كتب جوليان مارياس «تاريخ الفلسفة» لعمل شريط كامل لتاريخ الفلسفة الغربية معلنًا بداية النهاية.

وفي بعض فلسفات الحياة حدث نفس التراكم الفلسفي، فقد كتب برجسون عن أينشتين «الديمومة والمعية» محاورًا إياه من أجل التمييز بين الزمان والمكان، كما كتب عن هوايتهد ووليم جيمس ورافيسون مطورًا فلسفة الحياة باعتبارها إحدى الاختيارات الأخيرة في الوعي الأوروبي. كما كتب جاك شيفالييه تلميذ برجسون عن «ديكارت» من أجل ربط النهاية بالبداية. وألف بلوندل عن أستاذه «أوليه لابرون» من أجل تدعيم فلسفة الحياة. وكتب وليم جيمس عن «رالف بارتون بيري» مقارنًا بين البرجماتية والواقعية الجديدة كبديلين معاصرين لأزمة الثنائية الأوروبية بين العقلانية والتجريبية. وكتب دِلتاي عن شلايرماخر «حياة شلايرماخر وأعماله» تدعيمًا لفلسفة الحياة والهرمنيوطيقا التي تكشف عن عَود الرُّوح إلى ذاته من خلال القراءة. كذلك كتب فوييه عن «جويو» مشاركة في نفس التيار، فلسفة الحياة، والأفكار-القوة. كما نقد ماركوز ممارسات الماركسية السوفيتية مبينًا عدم تطابق النظر والعمل. كما حاول كُورْش من خلال مدرسة فرانكفورت بيان الصلة بين الماركسية والفلسفة في «الماركسية والفلسفة» من خلال ماركس الشاب، ومحاولة صياغة الماركسية في عدة مبادئ عامة وليس فقط كتحليل للمجتمع ولأنماط الإنتاج، ومقدمًا لقراءة رأس المال كما فعل ألتوسير، ومحولًا الماركسية إلى اختيار وجودي. كذلك حاول فروم من خلال مدرسة فرانكفورت أيضًا بحث تصور ماركس للإنسان في «تصور ماركس للإنسان» مزاوجًا بينه وبين فرويد في «رسالة فرويد».

وظهر التراكم الفلسفي في الوعي الأوروبي أخيرًا في ماركسية القرن العشرين. فقد كتب لوكاتش عن «جوته وعصره» مبينًا أهمية تطبيق المنهج الماركسي في الأدب وليس فقط في الاقتصاد. كما أرخ لمبحث الأُنطولوجيا في ثلاثة أجزاء: الأول «ماركس»، والثاني «هيجل»، والثالث «العمل»، مبينًا أن الماركسية أساسًا مبحث في الأُنطولوجيا. وهو ما بينه من قبل في «ماركس الشاب». كما حاول ألتوسير الانتقال من الماركسية الدارونية إلى الماركسية البنيوية في «دفاعًا عن ماركس»، قراءة رأس المال»، «لينين والفلسفة» عائدًا بالماركسية إلى نشأة العلوم السياسية، ومعطيًا الأولوية للقانون والسياسة وليس للاقتصاد، كما بين ذلك في «مونتسكيو، السياسة، والتاريخ». وأخيرًا حاول جورج نوفاك بيان منطق للماركسية في «منطق الماركسية» مركِّزًا على أهمية المنهج الجدلي باعتباره منطقًا، ومقارنًا بينه وبين المنطق الصوري الأرسطي. كما استعاد سيدني هوك والماركسية الليبرالية ماركس الشاب ووضَعه من جديد في إطار اليسار الهيجلي في «من هيجل إلى ماركس». فماركسية القرن العشرين مراجعة لماركسية القرن التاسع عشر وتخليص لها من إطارها الدارويني، ونقلها على مستوى الظاهريات والوجودية والبنيوية وعلم التحليل النفسي وسائر فلسفات القرن العشرين.

وبالإضافة إلى حدوث هذا التراكم التاريخي من خلال تناول فيلسوف لاحق لفيلسوف سابق حتى ينشأ تيار فلسفي، حدث تراكم تاريخي آخر يأخذ هذه التيارات في الاعتبار ويحقِّبها، ويميز بين مراحلها، ليس فقط داخل الوعي الأوروبي بل وخارجه أيضًا، باعتبار أن الوعي الأوروبي هو آخر حلقة من تطور الوعي البشري كله. وتأسس علم جديد هو فلسفة التاريخ لرصد مسار هذا التراكم داخل الوعي الأوروبي وخارجه.

لقد بدأ الوعي الأوروبي في بدايته فرديًّا في عصر النهضة، وبدأ التراكم فيه بطيئًا في القرن السابع عشر. فالذي يحرك التاريخ مثلًا عند ميكيافيللي هي العبقرية، الفردية، عبقرية الأمير. ثم سار الوعي الأوروبي في مسار إنساني خالص، معتمدًا على ذاته، وبجهده الخاص، وهو الدرس المستفاد من عصر النهضة بالرغم من محاولات البعض مثل بوسويه وبسكال الدفاع عن تدخل الإرادة الإلهية في التاريخ. وقد بدأ التحول عند هردر ولورُوي بتحويل الإرادة الإلهية إلى قانون للتاريخ، والعناية الإلهية إلى غائية فيه. وقد كان مقياس التقدم في الوعي الأوروبي هو مُثُل التنوير، الإنسان والعقل والحرية والعلم والطبيعة والتقدم والديمقراطية والعدالة والمساواة. فالغرب عند بودان هو الذي ابتدع فنون الحرب والمهارات اليدوية، أي التصنيع. وهو موطن الحرية والديمقراطية عند فولتير، والعَقد الاجتماعي عند روسو، وهو المرحلة الإنسانية الأخيرة عند فيكو، والمرحلة التجريبية عند تورجو، والمرحلة العلمية الوضعية عند كومت، ومرحلة الجمع بين النهائي واللانهائي عند كوزان، ومرحلة الفن عند نيتشه. وقد جمعها وجعلها فشته أساس تحقيبه الخماسي: مرحلتان للتقدم الأعمى ومرحلتان للتقدم الحر، ومرحلة متوسطة بينهما: من العقل الغريزي والعقل التسلطي إلى العقل الواعي وهو العلم، والعقل المهيمن وهو الفن، وما بينهما عملية التحرر وهي ما زالت في إطار الشك والحرية غير المنظمة.

وقد غلب التصور الحيوي على فلسفات التاريخ وتشبيه مسار التاريخ ومراحله بعمر الإنسان وأطواره مما يدل على أن الوعي الأوروبي وعي تاريخي صرف له بداية وتطور واكتمال ونهاية، وليس الوعي الخالد الأبدي الباقي على مر العصور والأزمان. وقد وضح ذلك عند لاموته في القرن السابع عشر، فالتاريخ لديه مثل الإنسان كلاهما له عمر، يتطور من الطفولة والشباب إلى مرحلة النضج حتى الكهولة والفناء. وتابعه في ذلك خوري سان بيير، إذ يتقدم الوعي البشري من العصر الحديدي في أفريقيا وأمريكا حيث طفولة البشرية التي يسودها الفقر والجهل إلى العصر البرونزي عصر النضج والشباب إلى العصر الذهبي، عصر الكهولة ثم تنتهي الدورة. فأطوار الإنسان مثل أحقاب التاريخ، إنما الخلاف في المدة الزمنية، عام من الإنسان يعادل مائة عام من التاريخ. وإذا كان الإنسان في نهاية العمر يخبو فالإنسانية على العكس من ذلك تزدهر في نهاية الأطوار. وهي نفس الحجة التي اتبعها ابن سينا من قبل لإثبات خلود النفس. ففي نهاية العمر، مسار البدن يخبو ويخفت ومسار النفس ينمو ويزدهر. كذلك يحدد هردر مسار التقدم في أربع مراحل: من الطفولة إلى الشباب إلى الرجولة إلى الكهولة ثم تبدأ الدورة من جديد. كما يسير التقدم عند لسنج من مرحلة الطفولة وهي مرحلة العهد القديم إلى مرحلة المراهقة والصبا وهي مرحلة العهد الجديد والمسيحية إلى مرحلة الرجولة والنضج وهي مرحلة التنوير وإعلان استقلال الإنسان عقلًا وإرادة.

ولما كان مسار التاريخ يتحقق في دورات حيوية فإن الدورة تتضمن خطين: تقدم ونكوص. فإذا كان الوعي الأوروبي في البداية فإن خط التقدم يكون أبرز من خط النكوص وأطول لأن الدورة الثانية سرعان ما تبدأ من جديد. فعند بودان بعد الدورة الأولى تسقط الإنسانية ولكنها تنهض من جديد، فالنهوض أقوى من السقوط لأن الوعي الأوروبي ما زال شابًّا في بدايته، وقد يتوازن التقدم والنكوص ويتعادلان. وعند لاموته بدأت دورة جديدة منذ عصر النهضة وديكارت حتى عصر التنوير، وما زالت مرحلة الفناء قادمة، فكان من أوائل الذين تصوروا بداية النهاية في الوعي الأوروبي. وقد يرجح النكوص على التقدم كما هو الحال لدى خوري سان بيير وتصوره التاريخ سقوطًا من العصر الذهبي طبقًا لعقيدة السقوط المسيحية والطرد والحرمان. وإذا كانت البداية سقوطًا والتقدم وسطًا فإن النهاية تكون سقوطًا كذلك. وعند فيكو تسقط البشرية بعد دورتها الأولى بسبب الترف وحب المال والأنانيَّة، وتبدأ دورة ثانية بعد أن تكون قد اكتسبت تقدمًا من خبرتها السابقة، فالدورة الثانية لا تبدأ من الصفر. ولكن يبلغ السقوط قمته عند روسو، فالتقدم لديه يسير القهقري، من حالة الطبيعة حيث البراءة والحرية والمساواة إلى حالة المدنية حيث الصراع والقهر والنزاع، فكان أول الناعِين صراحة مسار الحضارة الأوروبية لذاتها في قمة عصر التنوير.

وتُثبت تاريخية الوعي الأوروبي، وأنه آخر مرحلة من مراحل تطور الوعي البشري، أنه ليس خلقًا عبقريًّا على غير منوال. بل سبقته حضارات وشعوب، وتتلوه حضارات أخرى وشعوب. ففي كثير من فلسفات التاريخ، يتم التحقيب ابتداءً من الشرق القديم مارًّا بالشرق الوسيط حتى الغرب الحديث. وقد ظهر لأول مرة عند بودان في القرن السادس عشر إذ يسير التاريخ من جنوب الشرق حيث يسود الدين إلى وسط الشرق حيث تسود الحكمة العملية حتى الشمال حيث تظهر فنون الحرب والمهارات اليدوية، أي الصناعة في الحرب والسلم. وفي القرن السابع عشر يستمر بيكون في التحقيب الثلاثي من العصور القديمة وهي حضارة الشرق القديم إلى العصور الوسطى الحديثة وهي حضارة اليونان والرومان إلى العصور الحديثة وهي حضارة الغرب. وقد تبنى لاموته نفس المسار من الشرق القديم وطفولة البشرية إلى الرومان (عصر أوغسطس) إلى البرابرة الجرمان. وفي القرن الثامن عشر يحدد هردر مسار التقدم في أربع مراحل: من الطفولة في الشرق القديم ما عدا مصر والصين إلى الشباب في مصر والصين إلى الرجولة عند اليونان إلى الكهولة عند الرومان. وتبدأ الدورة الجديدة من جديد في الغرب: من الطفولة في ألمانيا البربرية إلى الشباب في العصور الوسطى إلى الرجولة في الإصلاح الديني إلى الكهولة في عصر التنوير. ثم يأتي كوندرسيه ويقسِّم مراحل تطور البشرية إلى عشرة: ثلاثة في الشرق القديم: اعتماد الإنسان على طبيعته الجسمية والعقلية، واستئناس الحيوان مع الرعي والزراعة. وثلاثة منها في العصور الوسطى: العلوم والفنون عند اليونان، الحرب والتشريع وضعف الدين وضياع المسيحية بسبب الرق والجهل والاستبداد عند الرومان، والفساد والطغيان حتى الحروب الصليبية. وثلاثة في العصور الحديثة: إقطاع وبارود حتى اختراع المطبعة، وطباعة وإصلاح وثورات حتى ديكارت، وحقوق الإنسان والعقل والعلم والديمقراطية ومُثُل التنوير حتى الثورة الفرنسية. وفي القرن التاسع عشر استمر نفس التحقيب الثلاثي عند هيجل من الشرق القديم حيث المجرد والحجارة إلى الشرق الأوسط حيث التحدد الرُّوحي إلى الغرب الحديث حتى الذاتية المطلقة. وعند كوزان: من الشرق حيث اللانهائي إلى العصور القديمة عند اليونان والرومان حيث النهائي إلى العصور الحديثة حيث يقع الجدل بين اللانهائي والنهائي. أما بالنسبة للمستقبل فقد تُرك الأمر مفتوحًا عند خوري سان بيير، عصر ذهبي قادم في بداية الوعي الأوروبي أو تقدم لا محدود، المرحلة العاشرة عند كوندرسيه.٣٩

وفي القرن العشرين لم تعد فلسفات التاريخ تهتم بالتحقيب بل بالدلالة الأخيرة لفلسفة التاريخ وبلورة مفهوم الوعي التاريخي كما هو الحال عند دِلتاي، أو «نقد العقل الجدلي» كما هو الحال عند سارتر، أو بالحديث عن محركات التاريخ ودوراته مع تلمس نهاية دورة حالية في أزمة العصر كما هو الحال عند توينبي، أو بالحديث عن أزمة العصر كما فعل هُوسِرل في «أزمة العلوم الأوروبية»، أو بيان السقوط النهائي كما فعل اشبنجلر في «سقوط الغرب».

كان ظهور فلسفات التاريخ في الغرب دليلًا على تاريخية الوعي الأوروبي كما كان ظهور أرسطو مؤرخًا دليلًا على تاريخية الوعي اليوناني، وظهور ابن خلدون دليلًا على تاريخية الحضارة الإسلامية في فترتها الأولى، وظهور الوعي التاريخي من ثنايا مشروع «التراث والتجديد» دليلًا على تاريخية الحضارة الإسلامية في نهاية فترتها الثانية وبداية فترتها الثالثة. وقد ربط الوعي الأوروبي التاريخي في ذيله وكبدايات له تاريخ شعوب الشرق إما صراحة بالإشارة إلى الشرق القديم أو الشرق الأوسط كما هو الحال عند بودان، وبيكون، ولاموته، وهردر، ولسنج، وكوندرسيه، وهيجل، وكوزان، وإما ضمنًا عند فيكو، وكومت، وفشته بالإشارة فقط إلى المرحلة الإلهية أو الدينية أو الغريزية والتي قد لا تتعدى مرحلة أساطير اليونان، وهو ما يكشف عنصرية الوعي الأوروبي الذي لا يعترف بتاريخية أبعد من اليونان.٤٠ ويلاحَظ في الحالة الأولى أنه قد تم اختزال مراحل التاريخ قبل الغرب في فترة واحدة هي فترة الشرق، طفولة الإنسانية، بما في ذلك الصين والهند وفارس وحضارات ما بين النهرين ومصر. أما حضارة اليونان والرومان فإنها تشغل فترة متوسطة بين الشرق والغرب في مقابل الغرب الحديث الذي يضم فترة واحدة، وكأن سبعة آلاف من السنين تعادل خمسمائة عام، وهي تاريخ الغرب الحديث. وقد تم تصور هذه المرحلة الشرقية الأولى على أنها تمثل الجهل والخرافة والتعصب والسحر والدين، والتجريد أو المادية أو كلاهما معًا، في مقابل العلم والعقل والتسامح والتنوير والذاتية، وهي سمات حضارة الغرب. فهناك اختلاف نوعي بين الشرق والغرب، وكأن الإنسانية تخرج من الظلام إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، ومن الخرافة إلى العقل، ومن السحر إلى العلم، ومن القهر إلى الحرية، ومن التسلط إلى الديمقراطية. وقد تم وضع أفريقيا وأمريكا الهندية مع الشرق، والإشارة إليها عرضًا على هامشه. ثم تنافست القوميات الغربية فيما بينها، كل منها — الألماني أو الفرنسي … إلخ — يعتبر نفسه ذروة الذروة وقمة التطور في الوعي الأوروبي. ثم يتوقف التاريخ الإنساني بعد الغرب الحديث وكأن الزمان نفسه قد توقف، وأصبح الوعي الأوروبي ممثلًا للحضارة الإنسانية جميعًا في الماضي والحاضر والمستقبل.

سادسًا: البنية والتاريخ

إذا كانت البنية خاتمة التكوين ومحصلته النهائية، وكان التتالي في الزمان تحليلًا، والمعية الزمانية تركيبًا، تظل العَلاقة في الوعي الأوروبي بين البنية والتاريخ قائمة لمَّا كان التاريخ هو التكوين.٤١ وبالرغم من أن عنوان «البنية والتاريخ» يبدأ بالبنية إلا أنه في حالة الوعي الأوروبي التاريخ يسبق البنية. البنية من صنع التاريخ لأنها متكونة في الوعي التاريخي، والتاريخ من صنع البنية التي تكونت في التاريخ. هناك عَلاقة دائرية إذن في الوعي الأوروبي بين تاريخ البنية وبنية التاريخ. تاريخ البنية يبين كيف تكونت البنية في الوعي التاريخي، وبنية التاريخ تبين كيف تتحكم البنية في العقلية الأوروبية وفي رؤيتها للواقع والتاريخ. وإن شئنا هي عَلاقة جدلية بين البنية كبناء فوقي والتاريخ كبناء تحتي. بالرغم من أن البنية من صنع التاريخ إلا أنها استقلت بذاتها وأصبحت فاعلة بذاتها محددة لرؤية الواقع ومؤثرة في مجرى التاريخ. البنية مرة مفعول والتاريخ فاعل، وهذا هو تاريخ البنية. والبنية مرة فاعل والتاريخ مفعول، وهذه هي بنية التاريخ. ولكنها ليست دائرة مفرغة، البيضة والدجاجة أو السحاب والماء، أيهما يأتي أولًا، لأن البنية من صنع التاريخ، تكونت عبر الوعي الأوروبي من البداية إلى النهاية، وعبر مراحله الأربعة من القرن السابع عشر حتى القرن العشرين. فالتاريخ هو البداية، والبنية مكتسبة، لذلك كانت العقلية الأوروبية وهي حصيلة البنية والتاريخ عقلية مكتسبة. ولو كان هناك تاريخ آخر لكانت هناك بنية أخرى، وبالتالي عقلية أخرى. على عكس ما وصفت به العقلية الأوروبية العقليات اللاأوروبية بأسماء «العقلية البدائية» أو «الفكر البري» وجعلتها عقلية فطرية مغروزة في النفس، جوهرية، ماهوية، عرقية. العقلية الأوروبية رؤية وتصور ومنظور، تكونت عبر تاريخ خاص، ثم استقلت عن تاريخها لطول تكرارها في كل العصور.

(١) تاريخ البنية

بعد هذا التطور الكمي التراكمي للوعي الأوروبي يتكشف بناء خاص ينشأ في البداية ويكتمل في النهاية. وتتحول أبعاد هذا البناء إلى مقاصد أو بواعث أو اتجاهات في مسار الوعي الأوروبي حتى يصعب بعدها التمييز بين البناء والمسار، بين الرؤية وتحققها في التاريخ. وقد اكتسب الوعي الأوروبي هذه البنية عبر مساره منذ مصادره الأولى حتى بدايته وتطوره ونهايته.

ففي مرحلة المصادر؛ المصدر اليوناني الروماني، والمصدر اليهودي المسيحي، والبيئة الأوروبية نفسها، تبدأ البنية الثلاثية في الظهور ثم في التشعيب، كل مصدر يأخذ مكانه في أول السباق الثلاثي الحارات. يمثل المصدر اليوناني الروماني التيار الصاعد إلى أعلى نظرًا لما يحتله من قوة على التنظير والصورية في المنظور. ويمثل المصدر اليهودي المسيحي التيار المستقيم الذي ينبثق من داخل الإيمان، من البعد الباطني الذي سيتحول فيما بعد إلى الذاتية الترنسندنتالية. وتمثل البيئة الأوروبية نفسها التيار النازل أي الواقع التجريبي الذي أخذ يشد الوعي الأوروبي نحوها بعيدًا عن المصدرين الآخرين، واقتضى المذهب الحسي التجريبي وتحولاته الوضعية كغطاء نظري له. فالمصادر الثلاثة انتظمت في بنية ثلاثية منذ البداية وكأنها تمهد الطريق وتعبِّده لتاريخ ثلاثي للبنية.

وكان المصدر اليوناني ثلاثي البنية كذلك، ظهرت في المذاهب الفلسفية الكبرى في الحضارة اليونانية. فكان أفلاطون يمثل الخط الصاعد، وبالتالي أصبح هو رصيد العقلانية الأوروبية بعد نشأة الوعي الأوروبي في البداية. فبقاء الصورة المفارقة المستقلة عن المادة مثل القبلي المستقل عن البعدي والسابق عليه في الفلسفة النقدية. لذلك كان كانط أفلاطون العصر الحديث. وكان سقراط يمثل البعد الإيماني الداخلي الباطني اليهودي المسيحي. لذلك اتحد بالمسيح في عصر آباء الكنيسة وسُمي «القديس سقراط»، كما سُمي المسيح المعلم. وكان حوار سقراط مع السوفسطائيين مثل حوار المسيح مع الفريسيين والصدوقين والكتبة والرؤساء والكهنة. وكان أرسطو يمثل الخط النازل أي البيئة الأوروبية نفسها، الواقع الحسي التجريبي، لذلك كان الوعي الأوروبي أرسطيًّا بطبعه وبمتطلبات واقعه، وأصبح المذهب التجريبي والمنهج العلمي أهم ما يفخر به الوعي الأوروبي.

أما المصدر الروماني فكان تحولًا طبيعيًّا وتكرارًا للبنية اليونانية الثلاثية مع اختلال في التوازن بين الأبعاد الثلاثة نظرًا لطغيان المزاج الأوروبي والواقع الأوروبي وعصر الفتوح ورُوح الإمبراطورية عليه، فقلَّت الأفلاطونية، ولكن ازدهرت السقراطية في الرواقية الرومانية عند سنيكا وماركوس أورليوس. ثم ازدهرت الأرسطية من خلال الشُّكَّاك الرومان، وأتباع بيرون، وسكتوس أمبريقوس ومن خلال الأبيقورية. واستمر ذلك حتى بداية الشك الحديث عند مونتاني في القرن السادس عشر والحسية التجريبية الإنجليزية في القرنين السابع عشر والثامن عشر.

وقد استمرت هذه التيارات الثلاثة عبر العصر الوسيط بفترتيه عصر آباء الكنيسة والعصر المدرسي. فاستمر التيار الصاعد، الأفلاطونية، عند آباء الكنيسة اليونان واللاتين الأفلاطونيين المحدثين. وبلغ الذروة لدى القديس أوغسطين. واستمر التيار الإيماني القبلي الباطني الإنساني عند حركات الهرطقة الأولى وكل تيارات المعارضة، المفكرين الأحرار قبل الأوان مثل آريوس وسلسوس، والثوريين السابقين لعصرهم مثل دوناتوس. وظهر التيار الأرسطي الثالث متأخرًا ابتداءً من بويثيوس شارح أرسطو الأول في نهاية العصر القديم. وفي العصر المدرسي استمرت التيارات الثلاثة: الأفلاطونية عند يوحنا سكوت إريوجينا في القرن التاسع، والأفلاطونية الإشراقية الأوغسطينية عند القديس أنسيلم في القرن الحادي عشر وعند مدرسة شارتر والتصوف التأملي والقديس بونافنتورا في القرن الثالث عشر. أما التيار الباطني فقد مثَّله بدايات الفكر الحر والسقراطية الجديدة عند بعض الجدليين في القرن الحادي عشر وأبيلار في القرن الثاني عشر. أما التيار الأرسطي الثالث فبلغ الذروة بطبيعة الحال عند توما الأكويني في الثالث عشر وفي الأُنطولوجيا التجريبية ونشأة العلم الطبيعي في القرن الرابع عشر، عند دانز سكوت ووليم أوكام وروجر بيكون.

وفي بداية الوعي الأوروبي ظهرت البنية الثلاثية من جديد. ظهرت العقلانية الممثلة في الأفلاطونية في مرحلة المصادر عند ديكارت «أنا أفكر فأنا إذن موجود»، وعند الديكارتية بجناحيها النسبي عند مالبرانش ولَيبنتز، والجذري عند اسبينوزا، والمستقلة عند بسكال ونيقول ومدرسة بور رويال. ولما كان هذا التيار يثبت خطأ الحواس، ويحول العالم إلى حركة وامتداد أصبح يمثل خطًّا إلى أعلى، وينتهي إلى الصورية الرياضية، الفك الأعلى في فم الوعي الأوروبي المفتوح. كان يحاول إنقاذ الإيمان العقلي أو العقل الإيماني بعيدًا عن التأليه والتجسيم والتشبيه مثبتًا نظرية في الذات والصفات والأفعال وكأنها اكتشاف متأخر للاعتزال بعد سبعمائة عام أو يزيد، وتحول من أشعرية العصور الوسطى عند توما الأكويني. كان تيارًا متطهرًا، مستنكفًا من العالم، رافضًا التلوث به. فالمادة ليس بها فكر. ما لقيصر لقيصر، أي المادة للعالم والبدن للإنسان، وما لله لله أي الفكر للعقل والنفس للإنسان أيضًا، وتلك هي الثنائية الديكارتية المشهورة، ثنائية الفكر والمادة، النفس والبدن، الصورية والمادية، المثالية والواقعية، الله والعالم، الله وقيصر. ولكنها في الحقيقة أعطت ما لقيصر لله، وما لله لله. أعطت كل شيء إلى الله، وردت البدن إلى النفس، والعالم إلى الله، والمادة إلى الفكر. فكان لا بد من أن تحدث الثورة عليها طبقًا لقانون الفعل ورد الفعل.

وفي نفس الوقت الشعوري، وإن كان قبله بقليل من حيث الزمان التاريخي،٤٢ ظهر بيكون ليؤسس التيار الثاني، التجريبية، والذي يمثل الأرسطية التجريبية والشُّكَّاك الرومان في مرحلة المصادر أو الواقع الأوروبي ذاته ومتطلباته في التنظير المباشر للواقع، ولينظر ما سيقذفه ديكارت فيما بعد فيه بلا تنظير، أي البدن العضوي والحيوان الآلي والعالم المادي بعد أن استخلص زبدته في النفس والفكر. وبالرغم من أنه سمى منطقه «الآلة الجديدة» في مقابل المنطق الأرسطي القديم فقد كان التقابل هنا بين منطق الاستقراء والحس الجديد في مقابل منطق الاستنباط العقلي القديم. إلا أن الأرسطية كمذهب طبيعي في مقابل الأفلاطونية كمذهب مثالي هي التي ظهرت وراء التيار الثاني التجريبي في بداية الوعي الأوروبي. وهو الذي يمثل الفك النازل من فم الوعي الأوروبي المفتوح. واستمر التيار في المدرسة الأنجلوسكسونية عند هوبز ولوك في القرن السابع عشر وهيوم في إنجلترا وفلاسفة التنوير في فرنسا في القرن الثامن عشر. أرادت هذه المدرسة أيضًا أن تعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله ولكنها انتهت بأن أعطت ما لقيصر لقيصر وما لله لقيصر، فتحول الفكر إلى مادة، والعقل إلى حس، والنفس إلى بدن، والمثال إلى واقع، والله إلى عالَم. وأصبح فم الوعي الأوروبي المفتوح إلى أقصى درجة من الانفتاح، انعراج إلى أعلى، وانحدار إلى أسفل. لم يبدأ الوعي الأوروبي متوازنًا بل متأرجح الكفتين، مرة أفلاطونيًّا ومرة أرسطيًّا، مرة رواقيًّا ومرة أبيقوريًّا، مرة مسيحيًّا ومرة يهوديًّا.

وقد حاول كانط في الفلسفة النقدية أن يقفل هذا الفم المفتوح، وأن يعيد التوازن إلى الوعي الأوروبي وأن يجمع بين الله والعالم، النفس والبدن، الفكر والواقع، العقل والحس، ديكارت وبيكون، لَيبنتز ولوك، قطعية فولف وشك هيوم. ولكنه وحد بينهما عن طريق التجاور وسيطرة الأعلى على الأدنى، وشرطه له. العقل يبدأ بالحس ويستقل عنه. لذلك كانت الصلة بينهما صلة الصورة بالمضمون، التصورات بلا حدوس فارغة والحدوس بلا تصورات عمياء، صلة خارجية آلية، يتجاور فيها الطرفان ويتماسان. أراد أن يجمع بين أفلاطون وأرسطو، الرواقية والأبيقورية، اليونانية والرومانية، المسيحية واليهودية، الله وقيصر، ولكن كطبقتين، إحداهما فوق الأخرى برُوح التطهر والتقوى الباطنية. وظهر لأول مرة التركيب الثلاثي وسط الثنائية الأولى: الحس والذهن والعقل، الصورة والمقولات والمُثُل. «وُلد كانط في لندن وعاش في برلين، وتُوفي في روما». كان الهدف حل الثنائية في بداية الوعي الأوروبي، كيف يكون الحكم القبلي التركيبي ممكنًا؟ ولكنه انتهى إلى ثلاثية التساؤل: ماذا يجب عليَّ أن أعرف؟ ماذا يجب عليَّ أن أعمل؟ ماذا يجب عليَّ أن آمل؟ ولم ينجح التوحيد الخارجي الآلي الثابت. وظلت العَلاقة بين الطرفين عَلاقة الحاكم بالمحكوم، والآمر بالمأمور، والشارط بالمشروط. كان التوحيد مجرد نية صادقة، والأعمال بالنيات، ولكن النتيجة كانت ثلاثية النقد، وثلاثية العقل، وثلاثية التصور. ظل التوحيد في التقوى الباطنية، إيمان صادق وعمل صالح، ولكنه لم يستطع حل الأشكال المعرفي، ثنائية العصر الحديث. لم يستطع كانط بمشروعه العملي حل الإشكال النظري. وعندما اقترح الغائية والجمال في «نقد ملكة الحكم» كحل لثنائية العقلين النظري والعملي، أي حل ثنائية المعرفة والأخلاق في الدين والجمال، أتى الحل الثالث ثنائيًّا في حاجة إلى توحيد جديد بين الحكم الغائي والحكم الجمالي.

لذلك أتى الكانطيون بعد كانط٤٣ ليعيدوا الكرَّة من جديد، توحيد فكَّي الفم المفتوح الموروث من ديكارت وبيكون، والذي تم تقويته بالرغم من محاولة كانط في التوحيد الآلي الثابت التجاوري، في ثنائية النظري والعملي، المعرفة والأخلاق، القبلي والبعدي، الظاهر والباطن، الصورة والمادة، الشارط والمشروط، الله والعالم، الله وقيصر. فأراد فشته أولًا ثم هيجل ثانيًا التوحيد بين طرفي الثنائية، الذات والموضوع، عن طريق الجدل والحركة والتغير والصيرورة من الذاتية إلى الموضوعية إلى وحدة الذات والموضوع. فالأنا تضع نفسها حين تقاوم عند فشته، الأنا يخلق اللاأنا ثم يوجد الأنا المطلق في لحظة ثالثة يتوحد فيه الأنا واللاأنا. والمنطق الذاتي يتحول إلى منطق موضوعي من أجل خلق المنطق الذاتي الموضوعي عند هيجل. فالجدل وحَّد طرفي الثنائي في جدل ثلاثي بإضافة عنصر الحركة والتغير، والصراع والتناقض، وكأن التثليث في اللاشعور، جدل العقيدة، الأب والابن والرُّوح القدس، الجنة ثم الطرد ثم العودة إلى الجنة من جديد بعد الغفران والخلاص قد تحول من البعد الرأسي إلى البعد الأفقي، من جدل الخلود والزمان خارج التاريخ إلى جدل الزمان داخل التاريخ. ولكن يبدو أن هذا الصراع الحسي الميتافيزيقي، الدنيوي الأخروي، الإلهي القيصري لم يستهوِ الإحساس بالتقوى والرغبة في التأمل والتطهر عند البعض الآخر. فآثر شلنج الهُوية المطلقة بين الطرفين بين الرُّوح والطبيعة، الله والعالم، معطيًا الأولوية للثابت على المتحول. وردًّا عليه آثر شوبنهور العودة إلى عالم الحياة عن طريق الإرادة، فالعالم إرادة وامتثال، وأعطى الأولوية للمشروع العملي على المشروع المعرفي، ولكن الحياة لديه لم تكن جديرة بالحياة، فآثر الخلاص منها عن طريق التطهر بالفن مثل البوذي الشرقي القديم. وكان للشر الأولوية على الخير، وللسقوط الأولوية على الخلاص. لم يكن ملكوت السموات قريبًا كما بشر المسيح. ويأسًا منه تقضي الحياة على نفسها بالموت، فكان ذلك مرحلة أخرى بعد روسو، ييأس الوعي الأوروبي من نفسه، واحتواء عناصر العدم في وجوده وهو في الطريق إلى الذروة. ظل الوعي الأوروبي ثنائيًّا في التقابل بين الطرفين أولًا ثم في الصراع بينهما ثانيًا. وعندما حاول التوحيد بينهما في طرف ثالث يجمعهما ظل أسطوريًّا صوريًّا حتى في تصور هيجل للدولة، وتصور ماركس للبروليتاريا.
وبدأ الخصام من جديد في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين بين التيارين المتباعدين، كل واحد يحاول أن يجعل نفسه نموذجًا لعلوم الإنسان. وظلت الظاهرة الإنسانية متأرجحة بين نمط العلوم الرياضية العقلية تارة وبين نمط العلوم الطبيعية الحسية تارة أخرى. فنشأت أزمة العلوم الإنسانية في القرن العشرين وضرورة صياغة مناهج مستقلة حلًّا للأزمة الصورية والوضعية، وحلًّا للخلط بين المستويات كما ظهر في السيكوفيزيقا. وهنا ظهر الطريق الثالث، طريق فلسفات الحياة: نيتشه، وبرجسون، وهُوسِرل، وشيلر وغيرهم. كما ظهر فلاسفة الوجود رافضين رفع الوجود الإنساني إلى ما هو أكبر منه وهو العقل، أو ردَّه إلى ما هو أقل منه وهو المادة. وظل الوعي الأوروبي يتأرجح من جديد بين هذا التيار وذاك محاولًا المسك بهما معًا، مرة من خلال الكانطية الجديدة التي تعود إلى الواقع دون أن تفرِّط في المثال، ومرة من خلال الواقعية الجديدة أو الماركسية الجديدة التي تكشف المثال دون أن تفرِّط في الواقع، ومرة من خلال السقراطية الجديدة التي تريد الجمع بينهما عن طريق العودة إلى سقراط، أي إلى وحدة الشعور. ومن ذلك الظاهريات التي أرادت إنهاء الفم المفتوح، وإطباق الفكين معًا، والعودة إلى ديكارت من جديد، نقطة البداية في «الأنا أفكر» ونهايتها في «الأنا موجود». فأصبح الوعي الأوروبي من جديد وحتى النهاية متشعبًا إلى ثلاثة اتجاهات: فكَّان مفتوحان، ولسان ممتد بينهما: فلسفة الرُّوح ممثِّلةً الفك الأعلى، وفلسفة الطبيعة ممثِّلةً الفك الأسفل، واللسان الممتد ممثلًا فلسفة الوجود. وهي نفسها ثلاثية المصدر، أفلاطون وأرسطو وسقراط، المسيحية واليهودية ومحاولة اكتشاف دين ثالث بينهما وجَده لِسِنج في فلسفة التنوير، ووجده الوعي الأوروبي في مشروعه المعرفي الأخلاقي، عالم الذاتية، ابتداءً من «الأنا أفكر» حتى «الأنا موجود»، الرواقية والأبيقورية وأخلاق الاشتباه المعاصرة. ضاعت وحدته الداخلية، وتصارعت فيه المذاهب الثنائية والثلاثية، المانوية والمسيحية، كل منها يدعي أنه الحقيقة الكاملة. حَكَمها قانون الفعل ورد الفعل وليس الصحة النظرية. أخذت العقلية الأوروبية هذا الطابع التقسيمي التجزيئي وصدَّرته خارجها، ترويجًا لثقافتها، وقبِلته الثقافات اللاأوروبية في الأطراف، تقليدًا للمركز. فقضت على وحدة العقل خارج الوعي الأوروبي لدى الشعوب اللاأوروبية.٤٤
ظل الوعي الأوروبي في مصادره وبدايته وذروته ونهايته ثنائي الإيقاع أو ثلاثي الحركة، ولكنه لم يكن أبدًا توحيديًّا، مع أن مشروع الوعي الأوروبي منذ الإصلاح الديني وعصر النهضة بدأ باكتشاف الذاتية كعالم وحيد، وبؤرة أولى، منها تنبثق تصورات العالم وموجِّهات السلوك، والممثلة في البداية في «أنا أفكر فأنا إذن موجود» وفي النهاية في «أنا أفكر فأنا إذن موضوع التفكير». لكن هذه الوحدة في البداية كقصد حسن وفي النهاية كغاية تكسرت في ثنائية وثلاثية المصدر وتاريخ البنية. فالمصادر ثلاثية: اليوناني الروماني، واليهودي المسيحي، والواقع الأوروبي. والمصدر اليوناني الروماني ثنائي بين عقلانية اليونان وحسية الرومان. والمصدر اليوناني ثلاثي: أفلاطون وأرسطو وسقراط. والمصدر الروماني ثنائي: الرواقيون والأبيقوريون. والمصدر اليهودي المسيحي ثنائي: اليهودية والمسيحية. واليهودية ثنائية: يهودية الشريعة والأحبار، ويهودية الصوفية، «الحلقة» و«الهجدة»، النزعة الخصوصية والنزعة الشاملة، الصهيونية والتنوير.٤٥ والمصدر المسيحي ثنائي: أفلاطونية مسيحية وأرسطية مسيحية، آباء كنيسة يونان وآباء كنيسة رومان، عصر الآباء والفلسفة المدرسية، أوغسطين وتوما الأكويني. أما الواقع الأوروبي فهو المصدر الوحيد الواحدي التوحيدي، ولكنه واقع روماني، مزاج مادي، طبيعة دنيوية أقرب إلى اليهودية منه إلى المسيحية، وإلى الرومان منه إلى اليونان، وإلى التجريبية منه إلى العقلانية. لذلك ظهر في العنصرية الدفينة، وفي المركزية الأوروبية، وفي الرأسمالية، وفي الاستعمار.
لذلك تحطم المشروع المعرفي، واستنفد الوعي الأوروبي قواه، وجرب العقل الأوروبي كل الاحتمالات، ولم ينته إلى غلق الفم المفتوح. وظل ثنائي الطابع، ثلاثي الاتجاه، متعدد المشارب. وكلما حاول الكَرَّة اقترب من كل شيء إلا التوحيد، ولم يستطع أبدًا التصويب نحو القلب، وفقد السيطرة على توجيه الأطراف إذا ما أراد الإمساك بأي شيء. لذلك دعا لسنج إلى أخذ موقف ناثان الحكيم، إذ يستحيل التمييز بين الخاتم الصحيح والخواتم المزيفة، ولكن على كل ابن أن يسلك وكأنه لديه الخاتم الصحيح، فالعبرة بالعمل لا بالنظر. الحقيقة النظرية لا يمكن معرفتها أو الوصول إليها بعد أن جرب العقل الأوروبي كل شيء ولم يصل إلى شيء، إنما الحقيقة العملية وحدها يمكن ممارستها. وإذا كان لسنج قد عبر عن ذلك أدبيًّا فإن فاهِنجر قد عبر عن ذلك في الفلسفة، فلسفة «كأن»،٤٦ على الإنسان أن يسلك سلوكًا صالحًا وكأن سلوكه يقوم على مبدأ صحيح، ظن في النظر ويقين في العمل. وهو درس في علم أصول الفقه القديم في قواعد الاجتهاد: الحق النظري متعدد والحق العملي واحد.٤٧

ومع ذلك فإن أقرب الاختبارات، لو كنت أوروبيًّا، هو التحول من المشروع المعرفي في الفلسفة الحديثة في القرنين السابع عشر والثامن عشر إلى المشروع العملي في الفلسفة المعاصرة في القرنين التاسع عشر والعشرين، مرحلة اليسار الهيجلي الذي قام بنقد الدين، شتراوس، ونقد المثالية، فيورباخ، ونقد الأيديولوجيا، باور وشترنر، ونقد المجتمع، كارل ماركس، وهي المرحلة التي قامت فيها الثورة الليبرالية بعد الثورة الفرنسية بنصف قرن، ثورة ١٨٤٨م، مرحلة ماركس الشاب، والمخطوطات الاقتصادية الفلسفية. وبعد أن أقوم بتطهير الفكر ونقد الواقع، أكون ماركسيًّا، ليس داروينيًّا بالضرورة، بل ماركسي جديد، يأخذ في الاعتبار الإنجازات الفلسفية في القرن العشرين. وأقربها مدرس فرانكفورت، النظرية النقدية، ماركسية البناء الفوقي، والتنظير المباشر للواقع وقت هزيمة الليبرالية وصعود النازية والفاشيَّة، وقيام الثورة الاشتراكية. إن الطريق الثالث الذي حاولته الفلسفة المعاصرة، خاصة الظاهريات والوجودية الظاهراتية، وفلسفات الحياة، والشخصانية، والتوماوية الجديدة والواقعية الجديدة، والبرجسونية … إلخ، أمكن احتواؤه إما في الفلسفات المثالية كرد فعل على أزمة الوعي الأوروبي، أو في الإيمان الديني التقليدي كرد فعل على عجز المثالية عن تغيير واقع الأزمة. ولم يتجاوز في مشروعه العملي النقد الليبرالي للمجتمع البرجوازي، وبالتالي تظل الماركسية الجديدة، ماركسية القرن العشرين التي استطاعت العودة إلى اليسار الهيجلي وماركس الشاب، هي قطب الجذب الأول في الوعي الأوروبي ما دامت الإبداعات الجديدة للأجيال الجديدة لم تتجاوز الثقافة المضادة كأحد شواهد العصر.

(٢) بنية التاريخ

ونظرًا لطول تاريخ هذه البنية الثلاثية منذ المصادر الأولى وعبر البداية وحتى النهاية ترسخت البنية في الوعي الأوروبي حتى تحولت إلى عقلية أو منظور أو رؤية أو تصور للعالم. إذا أراد الأوروبي أن ينظر إلى شيء فإما أن ينظر إلى أعلى طبقًا للخط الصاعد، أو ينظر إلى أسفل طبقًا للخط النازل، أو ينظر إلى الأمام محاولًا الجمع بين الاثنين وهو الطريق الثالث المعاصر الذي حاول ضم فكَّي الفم المفتوح. يمثل الخط الصاعد الأول الدين، والخط النازل الثاني العلم والخط الثالث المستقيم الفلسفة. وأصبح الأوروبي إما متدينًا أو عالمًا أو فيلسوفًا. ولا يمكن المصالحة بين الثلاثة كما هو الحال في فكرنا المعاصر بين الشيخ والتقني والأفندي.٤٨ فالمتدين يعمل لله، والعالم يعمل لقيصر، والفيلسوف إما أن يعطي ما لله لله وما لقيصر لقيصر وهي الثنائية التقليدية، وإما أن يرد ما لقيصر لله وهو المثالي، أو ما لله لقيصر وهو الواقعي. ولكن يظل التحدي هو الوحدة المطلقة بين ما لله وما لقيصر، كانت صورية عند شلنج، وجدلية عند فشته وهيجل، وإرادية عند شوبنهور. وبالرغم من محاولة هيجل وضع الدين والفلسفة والعلم كنماذج متعددة للرُّوح المطلق إلا أنها ظلت بنية ثلاثية ثابتة في الوعي الأوروبي. وتتعدد المصطلحات طبقًا للنموذج. فيقال مثلًا: المؤمن (الدين) والفيلسوف (الفلسفة) والعالم (العلم)، الله والطبيعة والإنسان. والإيمان، والإدراك المباشر، والحدس، الوحي والمصادرات أو المسلَّمات والقبلي، الخطيئة والخطأ والشر، الخلق والتطور والصيرورة، الأخرويات والمستقبليات والغائية، الفضل الإلهي واللاتحديد أو اللايقين والطفرة والكُمُون، الكنيسة والجمعية العلمية والجمعية الفلسفية … إلخ. فنفس الشيء له أسماء ثلاثية طبقًا للمنظور الصاعد أو النازل أو المستقيم.

والعَلاقة بينهما عَلاقة تصادم وتعارض وتضاد: فالصراع بين الدين والعلم مشهور في تاريخ الوعي الأوروبي. كان الدين ضد العلم في البداية ثم أصبح العلم ضد الدين بعد انتصار العلم وتقهقر الدين حتى النهاية. كذلك نشأ الصراع بين الدين والفلسفة، خاصة في مرحلة المصادر في العصور الوسطى ثم في عصر التنوير. وتم تكفير المفكرين الأحرار عبر التاريخ حتى انتصر الفكر الحر على المسلَّمات والعقائد والمؤسسات الدينية. وفي هذا الصراع كانت الفلسفة، أي البعد المستقيم بين التيار الصاعد وهو الدين والتيار النازل وهو العلم، هي التي تحمل لواء الفكر الحر لصالح الدين والعلم على حد سواء. وما زال هذا التقسيم واردًا حتى الآن، تقسيم عمل، وتوزيع اختصاصات، ومصالحة تاريخية بعد الحرب الشعواء التي سقط دونها الشهداء منذ «الهراطقة» الأوائل حتى المفكرين الأحرار في العصر المدرسي وعلماء عصر النهضة وفلاسفة التنوير، حرقًا أو سجنًا. ومهما كانت هناك من محاولات للقيام بعلوم ربط بين هذه التخصصات الثلاثة مثل فلسفة الدين للربط بين الدين والفلسفة، أو اللاهوت العلمي كأحد فروع اللاهوت، أو العلم اللاهوتي كما هو الحال عند تِيَّار دو شاردان للربط بين الدين والعلم، إلا أن التمايز ظل قائمًا بين هذه الرؤى الثلاثة نظرًا لطول الخصام والصراع بينها. وقد تحول الأمر من مجرد رؤًى بنيوية في الوعي الأوروبي إلى عقليات متمايزة داخله. فهذا صاحب عقلية علمية، وهذا يتميز برُوح فلسفية، وثالث له عقلية دينية. ففي موضوع نشأة العالم إذا قبِل الله فهو متدين، وإن قبِل قِدم العالم فهو فيلسوف، وإن قبِل السديم فهو عالم، وهكذا في سائر الموضوعات.

كان الوعي الأوروبي في عصوره الحديثة في البداية في «الأنا أفكر» حتى النهاية في «الأنا موجود» قد مر بفترتين كبيرتين: الأولى الفلسفة الحديثة الممتدة حول الأنا أفكر حيث قدم الوعي الأوروبي أولًا مشروعه المعرفي القائم على العقل بصرف النظر عن الخلاف حول تفسيره ونشأته بين المدرستين العقلية والتجريبية، والثانية الفلسفة المعاصرة الممتدة حول «الأنا موجود» والتي قدم فيها الوعي الأوروبي أولًا مشروعه السياسي القائم على ثورة الجماهير، وتأسيس الدولة الوطنية الحديثة بعد عصر الإمبراطوريات. الأولى امتدت في القرنين السابع عشر والثامن عشر. والثانية استغرقت القرنين التاسع عشر والعشرين. وكان التحول من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية في نهاية القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر، فترة فشته وهيجل والرومانسية التي بلغ فيها الوعي الأوروبي الذروة. ولا يوجد تواصل طبيعي بين الفترتين بل تحول جذري أو انقلاب، من العقل إلى العاطفة، ومن المعقول إلى اللامعقول، ومن الماهية إلى الوجود، ومن الفرد إلى المجتمع، ومن التفاؤل إلى التشاؤم، ومن التقدم إلى النكوص، ومن البداية إلى النهاية. كان معظم فلاسفة الفترة الأولى رياضيين، وكان معظم فلاسفة الفترة الثانية بيولوجيين، علماء أحياء أو فنانين. فالوعي الأوروبي هذا، بالإضافة إلى بنيته الثلاثية: الدين والعلم والفلسفة، انقسم على نفسه وأصبحت له واجهتان مثل واجهتَي القمر، الأولى منيرة في البداية والأخرى مظلمة حتى النهاية. ولو سألنا: ما جوهر الوعي الأوروبي؟ لكانت الإجابة: أي مرحلة، الأولى أم الثانية؟ فالجوهر مختلف، هناك جوهران للوعي الأوروبي، واجهتان متباينتان لقمر واحد، ويتحدد الجوهر طبقًا لوضع الرائي ومكانه في الفترة الأولى أم الثانية. فإذا كان الوعي الأوروبي في بنيته تثليثًا فإنه في تاريخيته ثنائيٌّ مانويٌّ. وفي كلتا الحالتين فقد وحدته وتوازنه.

كان الأمل في كل المحاولات التوحيدية في الوعي الأوروبي، سواء في اللاهوت التوحيدي.٤٩ في اللاهوت، أو فلسفات الوحدة المطلقة عند شلنج، أو في التوحيد بين الذاتية والموضوعية عند فشته، أو بين الواقع والمثال عند هيجل، أو بين الأنا أفكر والأنا موجود عند هُوسِرل، ولكنها ظلت محاولات مثل غيرها لا يتوقف أحد عندها باعتبارها اليقين في مقابل الظن أحد نماذج الخواتم وليس بالضرورة الخاتم الصحيح عند ناثان الحكيم لِلِسنج. ظل الوعي الأوروبي، وكما يروي سولوفييف في مَثله عن الحقيقة الضائعة مثل السكير آخر الليل الذي يرجع إلى الفندق ويمر أمام غرفته جيئة وذَهابًا دون أن يستطيع التعرف عليها. يكفيه فخرًا أنه حاول،٥٠ فله أجر الاجتهاد مرة حتى ولو كان قد أخطأ. إنما يظل السؤال بالنسبة لنا: ومتى يكون له أجران إن أصاب؟
١  «موقفنا الحضاري»، دراسات فلسفية ص١٦.
٢  «التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم»، أزمة التغير الاجتماعي ص٣٧–٧١؛ «التراث والتغير الاجتماعي»، دراسات فلسفية ص١٣٥–١٥٢.
Science, Technology and Spiritual Values, Possible models and future options. Science, Technology and spiritual Values: An Asian Approach to Modernization pp. 23–32, Tokyo 1987.
٣  ومن أشهر هؤلاء: الإخوة الأصدقاء محمد أركون، محمد عابد الجابري، وجيل جديد من المفكرين الشبان والباحثين العرب.
٤  جورج لوكاتش: تحطيم العقل (ثلاثة أجزاء).
٥  لذلك أتت ثلاثيتنا الأولى كلها حول نظرية التفسير: «مناهج التفسير»، «تفسير الظاهريات»، «ظاهريات التفسير» (بالفرنسية).
٦  الفارابي: ما ينبغي أن يقدم قبل تعلم الفلسفة، المجموع ص٥٧–٦٤.
٧  التراث والتجديد، موقفنا من التراث القديم. ص٨٣–٨٦ يضع pose، يعرض expose.
٨  ناهِض حَتَّر: التراث والغرب والثورة في فكر حسن حنفي، عَمان ١٩٨٦م.
٩  «موقفنا من التراث الغربي»، قضايا معاصرة، ج٢، في الفكر الغربي المعاصر ص٢٧-٢٨.
١٠  الآلة الجديدة Novum Organum. العلوم الجديدة The new sciences. ريمون لول (١٢٣٥–١٣١٥م)، الفن العظيم Ars Magna أو العام Generalis.
١١  وجهة النظر Point de vue، «ركن النظر» Coin de vue.
١٢  «ثورة الجماهير عند أورتيجا إي جاسيه»، دراسات فلسفية ص٤٤٦–٤٨٦.
١٣  «الجذور التاريخية لأزمة الحرية والديمقراطية في وجداننا المعاصر»، «الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م»، الجزء الثاني: الدين والتحرر الثقافي ص٩٩–١١٨.
١٤  أدونيس: «الثابت والمتحول، بحث في الإبداع والاتباع عند العرب»، (ثلاثة أجزاء).
١٥  «من العقيدة إلى الثورة، محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين»، الجزء الأول: المقدمات النظرية ص٣٣٥–٣٦٧.
١٦  J. Hyppolite: Logique et Existence.
١٧  «أزمة العقل أم انتصار العقل؟»، قضايا معاصرة، ج٢، في الفكر الغربي المعاصر ص٣٤–٦٠.
١٨  «العقل والثورة عند ماركوز»، قضايا معاصرة، ج٢، في الفكر الغربي المعاصر ص٤٦٦–٥٢٥.
١٩  وهذا هو تفسير أستاذنا المرحوم الدكتور عثمان أمين لمشروع الفلسفة الغربية.
٢٠  H. Hanafi: Les Méthodes d’exégèse: La structure a priori du donné révélé pp. 309–321.
٢١  وذلك مثل فشته وبيتهوفن.
٢٢  حكم الواقع Jugement de fait، حكم القيمة Jugement de valeur.
٢٣  E. Bréhier: Histoire de la philosophie, Tome II, philosophie moderne. Le XIX siècle, période des systèmes 1800–1850.
٢٤  مثلًا د. توفيق الطويل: أسس الفلسفة.
٢٥  «موقفنا الحضاري»، دراسات فلسفية ص٩–٥٠.
٢٦  Bergson: L’intuition philosophique, La Pensée et le mouvant pp. 117–142.
٢٧  علم الحيل La casuistique.
٢٨  «موقفنا من التراث الغربي»، قضايا معاصرة ٤٨، في الفكر الغربي المعاصر ص٢٨؛ وأيضًا: L’Exégèse de la phénoménologie, pp. 442–58.
٢٩  يكثر ديكارت من الإشارة إلى القدماء Les Anciens.
٣٠  المنهج التقدمي التراجعي: Progressive-Regressive Methode, E. Husserl Krisis, pp. 71–74; Der Ursprung der Geometrie.
٣١  «موقفنا من التراث الغربي»، قضايا معاصرة، ج٢، في الفكر الغربي المعاصر ص٢٦-٢٧.
٣٢  المصدر السابق ٣٣-٣٤.
٣٣  المصدر السابق ص٢٨-٢٩.
٣٤  انظر بحثينا: «لماذا غاب مبحث الإنسان في تراثنا القديم؟» دراسات إسلامية ص٣٩٣–٤١٥، «لماذا غاب مبحث التاريخ في تراثنا القديم؟» نفس المصدر ص٤١٦–٤٥٦.
٣٥  المصدر السابق ص٣٧.
٣٦  «الدين والثورة في مصر» ١٩٥٢–١٩٨١م، الجزء الثامن: اليسار الإسلامي والوحدة الوطنية.
٣٧  موقفنا من التراث الغربي، قضايا معاصرة ج٢ في الفكر الغربي المعاصر ص٣٧.
٣٨  انظر: تقديمنا لكتاب جان بول سارتر: تعالي الأنا موجود، الظاهرة ١٩٧٧م، بيروت ١٩٨١م.
٣٩  انظر لمزيد من التفصيل كتابنا: لسنج: تربية الجنس البشري، المقدمة ص٧٢–٢٠٥.
٤٠  تجدر الإشارة هنا إلى ما صدر أخيرًا من مشروع ثلاثي بعنوان «أثينا السوداء» لمؤلفه مارتن برنال، والذي يبين فيه زحزحة مصر في الاستشراق ووضع اليونان بدلًا عنها كمصدر للحضارة الأوروبية. ويحاول المؤلف إعادة مصر وأفريقيا والشرق إلى مكانها الطبيعي كمصدر للوعي الأوروبي.
Martin Bernal: Black Athena, The Afroasiatic roots of classical civilization vol. I, Rutgers Uni. Press, New Brunswick, New Jersey 1987.
٤١  التتالي في الزمان Diachronism، المعية في الزمان Synchronism.
٤٢  ديكارت ١٥٩٦–١٦٥٠م، بيكون ١٥٦١–١٦٢٦م.
٤٣  الكانطيون بعد كانط Post-kantians.
٤٤  «موقفنا الحضاري»، دراسات فلسفية ص٣٩.
٤٥  النزعة الشاملة Universalism، النزعة الخصوصية Particularism.
٤٦  فلسفة كأن Als Ob.
٤٧  الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م، الجزء الثامن: اليسار الإسلامي والوحدة الوطنية.
٤٨  هذه مصطلحات عبد الله العروي في «العرب والفكر التاريخي».
٤٩  اللاهوت التوحيدي Unitariansm.
٥٠  في فيلم «طار فوق عش المجانين» حاول جاك نيكلسون خلع حوض المياه من الأرض فلم يستطع. فلما استعجب باقي المرضى قال: ولكني حاولت. ثم جاء الهندي الذي ظنته المستشفى مريضًا عقليًّا وأبكم، وهو الذي يستغفلها، وخلعه وقذف به من النافذة وهرب وراءه خارج الأسوار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥