بنية الوعي الأوروبي
أولًا: العقلية الأوروبية
إذا كان الوعي الأوروبي ينتسب إلى حضارة طردية، أي تنشأ بفعل الطرد من المركز، وكانت الحضارة الإسلامية كحضارة مركزية تنشأ بفعل المركز ذاته، تكون بنية الوعي الأوروبي حصيلة تكوينه وليست بنية مستقلة سابقة عليه تقوم على تصور ثابت للعالم. بنية الوعي الأوروبي هي تكوينه المستمر نتيجة لتراكم هذا التكوين في أعماق الوعي الأوروبي وترسُّبه فيه حتى أصبح بنية متكونة أو تكوينًا بنيويًّا. ويدل على ذلك استغراق التكوين خمسة فصول: المصادر، والبداية، والذروة، ونهاية البداية، وبداية النهاية في حين استغرقت البنية فصلًا واحدًا. كما يدل على ذلك سبق التكوين على البنية وكأن البنية حصيلة التكوين ومحصلته. فإذا كانت فصول التكوين الخمسة قد اعتمدت على تحليل الأعمال الفكرية وأسهبت فيه لبيان تاريخية الوعي الأوروبي فإن فصل البنية يعتمد على التحليل الفكري الخالص، يحيل الفكر فيها إلى ذاته وليس إلى غيره، إلى الداخل وليس إلى الخارج.
وبهذا المعنى يمكن أن يقال إن هناك عقلية أوروبية لها سمات معينة ورؤية خاصة. وربما كان ما يقال على عقليات الشعوب الأوروبية مثل العقلية الفرنسية والعقلية الألمانية والعقلية البريطانية إنما هو اعتراف بوجود عقليات نوعية داخل العقلية الأوروبية العامة في القرن الماضي عندما ازدهرت القوميات ولم يكن الوعي الأوروبي قد تكون بعد كموضوع مستقل. وقد تكون مفاهيم العقلية البُدائية أو الفكر البَري أو عقليات الشعوب اللاأوروبية مثل العقلية الأفريقية أو العقلية الآسيوية أو العقلية الساميَّة أو العقلية العربية إنما هو إسقاط من العقلية الأوروبية على غيرها، وتصور أن هناك عقليات بقدر ماهناك من حضارات. العقلية الأوروبية هي الجانب النظري في الوعي الأوروبي الذي يشمل العاقل والمعقول، الذات والموضوع، الأنا والعالم.
(١) القطيعة المعرفية
كان الدرس المستفاد من مصادر الوعي الأوروبي وهو في طور التكوين أن كانت الكنيسة في عصر الآباء هي المسيطرة في أمور الدين وعلى شئون العقائد، تنظِّر ما تشاء، وتقبل من النصوص ما تريد. فأصبحت الكنيسة سلطة أولى وأخيرة في عقائد الإيمان ومقياس صحته، فهي جسد المسيح في التاريخ، بل إن الكتاب المقدس تكون فيها وخرج منها، وأصبحت هي ممثلة الفرقة الناجية في مقابل الفرق الضالة، أي الكنائس الخارجة مثل كنائس الدوناتيين، والمتطهرين، والموحدين (الآريوسيين) … إلى آخر هذه الفرق التي رد عليها أوزبيوس وأوغسطين. وفي العصر المدرسي أخذت الجامعات دور الكنائس بنفس السلطة وفرض مقاييس العقائد على المفكرين واللاهوتيين حتى أصبح كل فكر جديد منهاضًا بالضرورة للمؤسسة الدينية القديمة أو الجديدة، الكنيسة أو الجامعة. كانت العقائد وحيًا بالضرورة بكل ما فيها من تجسيم وتشبيه، وكان التنزيه مرفوضًا باعتباره هرطقة الفلاسفة المسلمين وأتباعه المسيحيين واليهود. كانت العقائد أشياء ووقائع تاريخية وليست مجرد مبادئ عامة للسلوك وبواعث على العمل الصالح، وكانت أسرارًا تند عن العقل وتتجاوز البداهة ويقصر عنها الفكر. وكان النص وحيًا أو إلهامًا من وضع الرُّوح القدس تحفظه العناية الإلهية وترعاه الكنيسة، وليس من وضع الجماعة المسيحية الأولى والوعي الجمعي في إطار من الديانات المقارنة والبيئات الثقافية اليهودية واليونانية في فلسطين. وكانت الشعائر والطقوس ضرورة للتعبير عن الإيمان ومقياسًا لصحته. وهي لا تمارَس إلا داخل المؤسسات الدينية لضمان صحة الشكل حتى ولو كان بلا مضمون، وبصرف النظر عن العمل الصالح في الحياة اليومية. وكان المقدس غير الدنيوي، والرُّوحي غير الزمني، والكنيسة غير الحقل والمصنع، والدين غير الدولة، بصرف النظر عن وحدة المكان والزمان والرؤية والنظام والقانون. كان الله مركز الكون، مسيطرًا على الطبيعة والإنسان. يتدخل باسم الفضل في مسار قوانين الطبيعة وفي الحرية الإنسانية. وكان الاختيار لشعب خاص دون باقي الشعوب دونما تبرير أخلاقي أو ديني. وكانت المسيحية غربية وريثة الإمبراطورية الرومانية، يرث الكرسي الرسولي عرش الإمبراطور الروماني. وأصبحت عاصمة الإمبراطورية الرومانية المدينة المقدسة، القدس الجديدة. كان الترهب مقياس الإخلاص، والرهبنة نظام للحياة أعلى من حياة الجسد. توقف التاريخ أو كاد، وغاب الإنسان الحر العاقل المسئول، كما غابت الطبيعة مصدر كل علم ومعرفة، فكان لا بد من القطيعة بين الماضي والحاضر، بين القديم والجديد. وتلك دلالة الإصلاح الديني وعصر النهضة وبداية الوعي الأوروبي.
(٢) الواقع العاري
وأحيانًا يرتبط اسم المذهب بأهم مفهوم فيه مثل: «المثالية»، «الواقعية»، «الحسية»، «التجريبية، «العقلانية»، «الصورية»، «المادية»، «التطورية»، «الحيوية»، «الوضعية»، «الوجودية»، «التحليلية»، «البرجماتية»، «البنيوية»، «الظاهراتية»، «التفكيكية». فاسم المذهب يدل على مفهومه الأساسي أو محوره الرئيسي أو بؤرته المركزية أو منهجه الغالب أو اختياره المفضل لأحد البدائل … إلخ. وقد نشأ ذلك أيضًا في تراثنا القديم مثل: الصفاتية، القدرية، أهل السنة، أهل التوحيد والعدل … إلخ. فتحولت المفاهيم والتصورات وأدوات المعرفة ومناهجها عناوين لمذاهب كاملة، فامتد الجزء إلى الكل، وأصبح بديلًا عنه. تضخم الجزء وأصبح كلًّا حتى نازعته أجزاء أخرى بنفس المشروعية وبنفس المنطق، ووقع نزاع بين الكليات وهو في الحقيقة نزاع بين الجزئيات، ويضع المفكر العربي نفسه طرفًا في هذا النزاع فينتصر لجزء تحول إلى كل، وينتصر آخر لجزء تحول إلى كل، فينشأ الصراع بين الجزئيات الكلية أو بين الكليات الجزئية، ووضَع أغطية ثقافية غربية في واقعٍ مغطًّى، أغطية فوق أغطية حتى أصبح من الصعب تعرية الواقع ورؤيته أو تنظيره تنظيرًا مباشرًا.
وقد يُشتق اسم المذهب الفلسفي من المكان الذي نشأ فيه مثل «ندوة فيينا»، «مدرسة فرانكفورت»، «مدرسة كمبردج»، «مدرسة أكسفورد»، «مدرسة ماربورج»، «مدرسة هيدلبرج»، «مدرسة توبنجن»، وعادة ما يحدث ذلك في المدن التي تحتوي على الجامعات العريقة. وقد نشأ ذلك أيضًا في تراثنا القديم مثل «الحَرُورية» دلالة على الخوارج ونسبة إلى حاروراء. وبالرغم مما يوحي ذلك بأن الفلسفات مرتبطة بالأمكنة التي نشأت فيها إلا أن الفكر الغربي نقل نفسه من مكانه إلى مكان آخر، وسمى البعض منا نفسه «السربوني». وإذا ما تخرج آخر من كمبردج أو أكسفورد جعل فكره وأبحاثه في نفس التيار وكأنه أصبح ممثلًا للمدرسة خارج مكانها في قارة أخرى.
وقد يرتبط اسم المذهب أو مجموعة من المذاهب والتيارات باسم الدولة؛ فهناك المثالية الألمانية، والفلسفة الأنجلوسكسونية، والرُّوحانية الفرنسية، والبرجماتية الأمريكية، وكأن القومية أصبحت عنوانًا لمذهب، ومؤشرًا على تيار، ودليلًا على اتجاه. وانتشر ذلك أيضًا في فكرنا القومي فأصبح البعض منا نصير المثالية الألمانية، والآخر مؤيدًا للفلسفة الأنجلوسكسونية، وثالثًا مروجًا للرُّوحانية الفرنسية … إلخ. فطغت رُوح القوميات الأوروبية على القومية العربية دون محاولات للتعبير المباشر عن رُوح القومية العربية.
وقد يُشتق اسم المذهب من القرن كله فيقال فلسفة القرن السادس عشر وتعني عصر النهضة. وفلسفة القرن السابع عشر وتعني العقلانية، وفلسفة الثامن عشر وتعني التنوير، وفلسفة التاسع عشر وتعني إما المثالية أو الرومانسية أو الوضعية، وفلسفة العشرين وتعني الوجودية أو الظاهراتية أو البنيوية. ولما كان الوعي الأوروبي يزهو دائمًا بأنه مكتشف الزمان والتقدم والتاريخ، فإن القرن العشرين يكون بالضرورة أكثر كمالًا من القرون السابقة عليه. فالفلسفة ابنة عصرها. ومن لا يعرف فلسفة القرن العشرين لا يكون فيلسوفًا. ولما كنا نجري وراء الغرب، وندعي الحداثة، ونضع أنفسنا في قرون لسنا فيها هرعنا إلى فلسفات القرن العشرين وأصبح منا الظاهراتي، والوجودي، والبنيوي، والشخصاني، والتوماوي الجديد، والتفكيكي. مع أن كل حضارة لها عصورها، وكل وعي له فلسفاته ومساره.
وقد يُشتق اسم الفلسفة من العصر كله. فهذه فلسفة العصور الحديثة، وتعني تلك التي نشأت في الغرب منذ القرن السابع عشر حتى العشرين، في مقابل فلسفة العصر الوسيط التي تعني الفلسفة الغربية منذ القرن الحادي عشر حتى الرابع عشر. أما عصر آباء الكنيسة فيعتبر مصدر فلسفة العصر الوسيط أو لاهوتًا يُدرَّس في مدارس العقائد ولرهبان الكنائس. ووضعنا أنفسنا في هذا التحقيب. فنحن ندرس أيضًا فلسفة العصور الحديثة، وفلسفة العصور الوسطى، ونحن لسنا في العصور الحديثة بل إننا في مرحلة انتقال من الإصلاح الديني إلى عصر النهضة، في نهاية السبعمائة سنة الثانية، عصر الشروح والملخصات، بعد السبعمائة سنة الأولى، عصر الإبداع، وعلى مشارف السبعمائة سنة الثالثة بداية الدورة الثانية والإبداع الثاني والريادة الثانية. ولا كنا في العصور الوسطى بل كنا في فترة الإبداع الأولى، في عصرنا الذهبي الأول.
كل هذه التسميات والاشتقاقات كانت محاولة من الوعي الأوروبي لتغطية الواقع العاري بعد عصر النهضة عن طريق تحويل الشخص أو المفهوم أو التصور أو المنهج أو المدنية أو القرن أو العصر إلى مذهب حتى يمكن فهم العالم وتصوره، وتأسيس نظرية معرفة بديلة، وتحقيق الوئام المعرفي بين الأنا والعالم.
لذلك ارتبط المشروع الأوروبي بالذاتية لأنه مشروع معرفي خالص يضع الذات قبل الموضوع كما اتضح ذلك في اليقين الأول عند ديكارت «الكوجيتو»، وفي الثورة الكوبرنيقية عند كانط، وفي «ظاهريات الرُّوح» و«علم المنطق» عند هيجل، وفي «الظاهريات» عند هُوسِرل كما عرضها في «الأفكار». كل المذاهب الفلسفية الكبرى في المحطات الأربعة للوعي الأوروبي: ديكارت، كانط، هيجل، هُوسِرل تبدأ من الذاتية، ومنها خرجت المثالية. فالذات حاملة للمثال، وواضعة للفكر. بل إن المثالية الحسية عند بركلي هي أيضًا ذاتية. والمذهب الحسي التجريبي عند لوك وهوبز وهيوم أيضًا ذاتية حسية. بل إن المذاهب الحيوية والإرادية والإنسانية والوجودية والتحليلية والبرجماتية تنبثق أيضًا من الذاتية التي تعبر عن نفسها بالحياة أو الإرادة أو الإنسان أو الوجود أو الفعل أو العمل. بل إن المذاهب الوضعية التي تعطي الأولوية للواقع على الفكر هي ذاتية مضادة أو ذاتية مقلوبة مثل الوضعية والماركسية والتطورية، ذاتية جمعية أو وعي اجتماعي أو رُوح طبيعية. وأصبحت الذاتية عنوانًا على الوعي الأوروبي وهو في الذروة وفي الفلسفة بعد كانط مثل نيتشه وفي الفلسفة الرومانسية عند شلنج، الذاتية المتحدة بالموضوعية، والرُّوح المساوقة للطبيعة. وهو ما يعادل محمد إقبال لدينا وفلسفته في الذاتية «خودي» التي من نفس الاشتقاق للفظ الله «خودا». فالذاتية هي الله، والله هو الذاتية. لذلك ارتبط محمد إقبال بالفلسفة الغربية وبالمشروع الغربي قبل إفلاسه ونعيه لأهله. الذاتية هي الله والعلم والعالم. هي الحقيقة الأولى. وهي الموضوعية في مرحلة الكمون. لذلك كان للمعرفة الأولوية على الوجود، وكانت نقطة البداية في الوعي الأوروبي المثالية.
ثانيًا: التنظير العقلي
وبناء على متطلبات هذا المشروع المعرفي بدأ الوعي الأوروبي يُظهر قدرة فائقة على التنظير منذ البداية في «أنا أفكر» حتى النهاية في «أنا موجود». أصبح العقل قادرًا على فهم أنساقه الرياضية الخاصة ونظمه الفكرية ومذاهبه الفلسفية. كما استطاع تحويل المادة إلى مفاهيم مثل الحركة والامتداد. «أعطني الحركة والامتداد أعطك العالم». ووحد الإنسان بينه وبين العقل في الإنسان العاقل عودًا إلى الحيوان الناطق. أصبحت وظيفة الوعي الأوروبي تحويل كل شيء إلى عقل حتى لقد اعتبر ماكس فيبر وهُوسِرل التعقيل أو التنظير إحدى السمات الجوهرية للوعي الأوروبي يتميز بها على غيره من الشعوب التي لم تصل إلى هذه الدرجة من القدرة على التنظير، واقتصرت على ممارسة القيم العملية في الأخلاق والدين. لم تثق حضارة بالعقل ثقة الحضارة الأوروبية به باستثناء الحضارة الإسلامية، ووثقت بوسائل المعرفة الإنسانية الحسية والعقلية والوجدانية كما وثق بها الأصوليون القدماء. سماه ديكارت الحس السليم، وسماه كانط العقل النظري، وسماه الإنجليز الحس المشترك، وأطلق عليه هيجل لفظ الرُّوح، وسماه هُوسِرل العقل. أكد الجميع على البداهة، والنور الفطري، وعموم المبادئ، وشمول المصادرات، وعلى أهمية الاتساق، وضرورة الاستنباط وهو ما سماه القدماء التولد، فالنظر يولد العلم، والعلم فطري وكسبي.
(١) العقل النظري
ظهر العقل في الوعي الأوروبي باعتباره عقلًا نظريًّا أولًا ثم تحول بعد ذلك إلى عقل عملي نظري أيضًا. وضح ذلك عند كانط، خاصة في الأخلاق النظرية، وهي تعبير عن العقل العملي النظري. ولم ينقلب على ذلك إلا ماركس في إعطائه الأولوية لتغيير العالم على فهمه وتفسيره، ولكن حتى في هذا التحول ظل مثاليًّا، فالتغيير تعبير عن مقتضيات العقل العملي النظري بمصطلح كانط أو عن تجليات الرُّوح بتعبير هيجل. فالعقل هو الجانب النظري في الوعي الأوروبي، وظيفته التنظير، وتحويل الواقع إلى مثال، والمادة إلى تصور حتى يستطيع الإنسان أن يعيش في عالم يحكمه الفكر. الفكر يشرع للواقع، والواقع ينضوي تحت الفكر.
ظهر التنظير أولًا في العلوم الرياضية، أي على مستوى العقل الخالص، فنشأت الرياضيات الجديدة. أنشأ ديكارت الهندسة التحليلية وأكملها كومت. وحاول لَيبنتز تأسيس رياضيات شاملة لكل العلوم، وأسس حساب التفاضل والتكامل. وقامت الهندسة اللاإقليدية لتبين قدرة العقل ليس فقط على التنظير بل أيضًا على الخيال. وتأسست نظرية المجموعات، ونظرية الكثرة، وحساب الاحتمالات، والجبر الحديث، والمنطق الرياضي، والمنطق الرمزي. وتأسست الرياضيات البحتة، فأصبحت الرياضيات غاية في ذاتها، ذاتًا وموضوعًا.
وامتد التنظير أيضًا إلى العلوم الطبيعية، فتم تحويل الطبيعة إلى رياضة على يد جاليليو، ثم اكتشاف قوانين الطبيعة عند نيوتن. وفي النظرية النسبية ومصادرها في النظرية التموُّجية تحولت العلوم الطبيعية إلى رياضيات بحتة. واستقلت الرُّوح والطبيعة كما نادى الشعراء والفلاسفة الرومانسيون من قبل: جوته، هيجل، شلنج، وكما بين ذلك رَسِل أخيرًا في «تحليل العقل» و«تحليل المادة». فالمادة لا تظهر إلا من خلال الحس، والحس إحدى وظائف العقل ومراحله الأولى كما بين الأصوليون القدماء. والاستقراء استنباط مقلوب. والإحصاء يبدأ من الطبيعة وينتهي بالرياضة مثل حساب الاحتمالات.
وامتد التنظير أيضًا إلى العلوم الإنسانية لبناء نماذج رياضية بعد أن أثبتت الرياضيات صدقها ويقينها. فنشأ منذ البداية علم النفس العقلي عند فولف، وكتب ديكارت رسالة في الإنسان، وكتب اسبينوزا رسالة في الانفعالات، تطبيقًا لنظرية المعرفة العقلية. وحوَّل كانط علم الأخلاق إلى أخلاق عقلية خالصة في «نقد العقل العملي» و«أسس ميتافيزيقا الأخلاق». كما حوَّل بِنتام علم الأخلاق إلى علم حساب الذات. كما ظهر علم السياسة العقلاني عند اسبينوزا في «رسالة في اللاهوت والسياسة»، وعند كانط في «مشروع السلام الدائم»، وعند هيجل في «فلسفة الحق». وتأسس علم الجمال العقلي عند كانط في «نقد ملكة الحكم». كما قام علم القانون العقلي عند فشته في «فلسفة القانون». وأصبح للعقل سلطان على كل شيء، وتحدث كانط عن عصر التنوير، كما كتب توماس بِين «عصر العقل».
كما تحول الدين من مفهومه القديم العقائدي الإيماني الشعائري التاريخي الكنسي إلى دين عقلي خالص، كما كان الحال عند المتكلمين والحكماء في تراثنا القديم. أصبح العقل قادرًا على إثبات وجود الله، ولم يعد الإيمان سرًّا يتجاوز حدود العقل، ولم يعد الله مجسَّمًا أو مشبَّهًا بل أصبح منزَّهًا، ليس كمثله شيء، ذاتًا وصفاتًا وأفعالًا. وأصبح للإنسان حرية اختيار ضد القضاء والقدر المسبقَين وخارج الإرادة الإلهية الشاملة دونما حاجة إلى عون خارجي أو فضل إلهي. أصبح الإنسان مسئولًا عن نفسه لا عن أخطاء غيره، قادرًا على إنقاذ نفسه بنفسه بإرادته الحرة، دون انتظار لمخلِّص، واستعاد الإنسان براءته الأصلية دون تحمل خطيئة ارتكبها غيره، وأصبح خيِّرًا بفطرته. أما الشر فإنه مكتسب من النظم الاجتماعية. حدث تحول جذري في الوعي الأوروبي من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة، من التأليه والتجسيم والتشبيه إلى التنزيه، ومن الجبر والكسب إلى الاختيار، ومن النقل إلى العقل، ومن نظام الإمامة إلى الدولة الوطنية الحديثة، ومن التعيين بالنص إلى الاختيار بالبيعة. وبلُغتنا تم التحول من الأشعرية إلى الاعتزال، بعدنا بألف عام. وابتدأ الوعي الأوروبي في القرن السابع عشر في التمهيد لفلسفة التنوير في القرن الثامن عشر لإعلان استقلال الإنسان عقلًا وإرادة. وما أعلنه لِسِنج في القرن الثامن عشر بانتهاء عصر النبوة، وببلوغ الإنسانية ووصولها إلى مرحلة النضج دون حاجة إلى هداية أو إرشاد أو تدخل أو عون من الخارج، أعلنه الإسلام قبله بألف عام. فالعقلانية الأوروبية امتداد لعقليتنا الإسلامية الاعتزالية الفلسفية الأولى.
وقد شمل التنظير أيضًا باقي مظاهر الحياة العملية، في الحياة اليومية وفي تنظيم العمل وفي الإدارة والتصنيع وفي الحياة السياسية والقانونية. تم تنظيم استعمال الوقت كما هو الحال في تنظيم أوقات الصلاة عند الأصوليين، اقتضاء الفعل في الوقت على الفور وإلا كان على التراخي أو قضاء، وهو أقل قيمة من الإتيان به في الحال. وتم تطبيق العمل طبقًا للوقت وساعات العمل، وتحددت لذلك نظم الإدارة. وبتطبيق العقل في الآلة نشأ التصنيع والتحكم الآلي في الإنتاج الصناعي. فالآلة عقل مادي يعمل ويفكر. وامتد التنظير إلى الحياة السياسية والقانونية، فنشأت الدساتير والقوانين المدنية، وتم إعلان الحقوق والواجبات للمواطنين المتساوين أمام القانون، بما في ذلك رئيس الدولة، وقائد الجيش، ورئيس الشرطة.
(٢) وجهات النظر
لما تحول مركز الكون من الله إلى الإنسان في بداية الوعي الأوروبي وبعد الإصلاح الديني وعصر النهضة أصبح الإنسان مقياسًا لكل شيء، وأُعيد اكتشاف بروتاجوراس في المصدر اليوناني لتأكيد هذه النزعة الإنسانية النسبية، ليس الإنسان العام المطلق بل الإنسان الفردي المتغير. الحقيقة وجهة نظر، إنسانية متغيرة. كان المذهب الإنساني خطوة إلى الأمام، ثم جاء الإنسان الفرد المتغير، وليس الإنسان المطلق، بما هو إنسان، خطوة إلى الخلف. «أنا أفكر فأنا إذن موجود» تعبر عن الإنسان من حيث هو إنسان عند ديكارت وكانط. ولكن ضمت هذه الأنا في ثناياها الأنا النسبي القومي، الفرنسي أو الألماني أو الأوروبي؛ إذ يقول الأنا القومي: أنا أفكر وأنت موضوع تفكيري، ويقول الأنا الأوروبي: أنا أفكر وأنت مجالي الحيوي، ثم أصبح الرُّوح الأوروبي الذي ينبثق من الجسد اللاأوروبي في الشرق القديم حيث لم تستيقظ الرُّوح بعد.
(٣) حدود العقل
ومع ذلك كان للعقل حدود جعلته قاصرًا عن إمداد الوعي الأوروبي بكل ما يحتاج. قصَر الجانب النظري في الوعي الأوروبي عن إشباع حاجاته وكأن مطالب الجسد كانت أوسع نطاقًا من استعدادات الرُّوح.
وقع العقل في الصورية؛ وذلك لأن العقل من حيث هو تعبير جديد عن التقوى القديمة والعواطف المتطهرة التي تستنكف من العالم ومن المادة، ظن أن الحقيقة خارج العالم، في نطاق الصورة المحضة كما كان الحال في العصر الوسيط، فالصورة تحتوي على حقيقة أكثر ما تحتوي الموجودات المركبة من مادة وصورة، والمتعينة في مادة. وتقع العلوم الصورية تحت هذا الحكم، فهي تحاول أيضًا أن تبحث عن الحقيقة المجردة، وأن تنسج الكون في نظرية للمجموعات كما ينسجه الذهن الإلهي دون الاستعانة بالكلام الإنساني أو الإلهي. وكلما زاد التجريد قل الالتصاق بالواقع، وزاد الفهم على حساب التغيير، وقوي النظر على حساب العمل. وبدأ صراع الإرادات الفردية والقوى الاجتماعية من وراء العقل أو من تحته تهز الأنساق الصورية، وتقلب العقل رأسًا على عقب، وتظهر نقائض العقل على أنها البديل الوحيد.
كما وقع العقل في المادية، وكأنه وقع في النقيضين، في الصورية أولًا ثم في المادية ثانيًا. فالعقل يتعامل مع الطبيعة، والطبيعة عالم الأشياء. وحتى يستطيع العقل تصورها وقياسها والتحكم فيها فإنه تصورها مادية كمية مقسمة إلى أجزاء، فاتفقت صورية العقل مع مادية الطبيعة، كل منهما يجد ما ينقصه عند الآخر، وأصبحت عَلاقتهما معًا منذ كانط عَلاقة الصورة بالمادة أو عَلاقة الشكل بالمضمون. فالمثالية والواقعية ليسا نقيضين بل هما صنوان، والعقلانية والحسية أيضًا واجهتان لعملة واحدة، والصورية والمادية يكمل بعضهما بعضًا، كل منهما يعبر عن مطلب ومقتضى، المثال والواقع، النفس والبدن. ويحدث نفس الشيء في العلوم الرياضية، فالهندسة التحليلية والهندسة الوصفية تعبيران مختلفان عن نفس المساحة.
ولما كان العقل موجهًا نحو الطبيعة فإنه يتعامل مع العالم الخارجي، يدركه في ثباته، وإن أدركه في حركته فإن قوانين الحركة هي نفسها قوانين ثابتة، أقرب إلى الميكانيكا منها إلى الديناميكا. لا يستطيع العقل الدخول إلى الباطن، باطن النفس أو حقائق الأشياء، لا يستطيع أن يحركها أو يغيرها وإلا فلَتت منه. لذلك كان أفضل موضوع لديه هو الهندسة، الكم المتصل، أو الحساب، الكم المنفصل. وبالرغم مما حاوله هيجل من وضع حياة في العقل لدرجة تسميته الرُّوح إلا أنه كان حياة للمقولات وصراعًا جدليًّا شبه آلي بين الأضداد، آلة جَهنمية متحركة تأكل كل شيء. فكان لا بد من الانقلاب عليه في كل فلسفات الحياة المعاصرة إلى الحدس أو اللاشعور أو الإرادة أو النزوع أو القوة، بل والبداية باللامعقول وبالاشتباه.
ولما كان العقل يتعامل مع العالم الخارجي الثابت الذي يتحرك آليًّا فقد فقد العالم حرارته، لذلك يتعامل العقل معه ببرود سُمي الموضوعية والحياد حتى يستطيع اكتشاف قوانينه المطردة دونما تدخل من العواطف والانفعالات. فالذاتية ضد الموضوعية، والموقف نقيض الحياد. لذلك أتت الحركة الرومانسية، «العاصفة والاندفاع»، ضد برودة العقل، حرارة الحياة في مقابل برودة الموت، وأخلاق الحياة في مقابل أخلاق القانون.
ونظرًا لانتصارات العقل المستمرة منذ عصر النهضة حتى الذروة، وقدرته على التحول من القديم إلى الجديد، ونقد التراث القديم، وتأسيس اليقين الجديد غرز فيه رُوح التفاؤل، ومع كل انتصار جديد ضد العلوم القديمة وتأسيس العلوم الجديدة تزداد رُوح التفاؤل حتى لم يعد هناك شر. وأصبح هذا العالم هو أفضل العوالم الممكنة، يتضمن انسجامًا وتآلفًا مسبقًا، فالشر ضروري للخير، والموت طريق اكتشاف نعمة الحياة، والمرض هو السبيل إلى الصحة. كان ذلك ممكنًا حتى الذروة ومنذ انتصار الثورة الفرنسية، ولكن بعد أن اشتدت أزمات العصر وكما بدت في الفلسفة المعاصرة في القرن العشرين، بدأ التفاؤل في الخفوت بالرغم مما يقال عن آمال القرن الواحد والعشرين وتوقعاته، وظهرت نغمة التشاؤم عند فلاسفة التاريخ المعاصرين، ولم يعد السؤال هو شروط التقدم، كما كان الوضع في البداية، بل أسباب الانهيار، وهو الآن السؤال في النهاية.
ثالثًا: الواقع والقيمة
(١) اتحاد الواقع والقيمة
ولقد استطاع المشروع المعرفي في بداية الوعي الأوروبي في اختياريه الرئيسيين، العقلانية والتجريبية، مواجهة موضوع الواقع والقيمة والانتهاء إلى رأي واحد فيما يتعلق بالصلة بينهما وهو الاتحاد. فالقيمة واقع، والواقع قيمة بصرف النظر عن المدخل النظري لكل من التيارين، المدخل العقلي أو المدخل التجريبي. ويظهر ذلك بوضوح في التطبيقات العملية لكل من التيارين في الأخلاق والسياسة.
وقد قامت التجريبية بنفس الشيء باسم التجرِبة ولتحقيق نفس الهدف وهو اتحاد القيمة والواقع، ففرض لوك قيمة التسامح في الدين في «رسالة في التسامح»، ووضع نسقًا عقلانيًّا للعقائد في «معقولية الدين المسيحي»، وكما هو الحال في علم الكلام الاعتزالي وأولوية العقل على النقل. وفي «رسالتان في الحكومة» فرض العقل فيه الحكم النيابي الذي يقوم على الانتخاب الحر والتمثيل البرلماني ضد الحكم الإلهي ونظم القهر والطغيان، وتأسيس المجتمع المدني الحر ضد المجتمع الكنسي القديم، وإقامة السلطة على العَقد الاجتماعي وليس على السلطة الأبوية، وإعادة تفسير قصة آدم لينقض بها نظم الملكية الوراثية، ونظم العبودية، وأساليب الغزو والاستيلاء ومجتمعات الحرب من أجل حكومة مفوضة من الشعب ويمكن إقالتها أيضًا من الشعب بسحب التفويض عنها. وحاول هوبز في «التنين» — بالرغم مما يقال عنه في كتبنا المدرسية ومقرراتنا الجامعية من أنه نفي لأخلاق التضحية والإيثار لأخلاق الأنانيَّة والأثرة — تأسيس المجتمع المدني الحر الخالي من السيطرة وتطبيق قواعد النقد العقلي في الكتاب المقدس وموضوعات الوحي والإلهام والسلطة الدينية والمعجزات والشياطين. كما عرض لذلك «في الإنسان» و«في المواطن». وكذلك فعل هيوم في كتاباته الأخلاقية والسياسية والجمالية وفي محاوراته عن الدين الطبيعي ترسيخًا لقواعد العدل الاجتماعي وتأسيسًا للدين الطبيعي في التجرِبة البشرية، وكأنه يبحث عن «أسباب النزول». كما حلل الذوق والإحساس الجمالي والتراجيديا وكأنه يبحث عن «التصوير الفني» والصور البلاغية في القرآن الكريم. ويتصدى لمظاهر الخرافة واليأس والانتحار ويثبت خلود الرُّوح، على عكس ما قيل لنا في الترجمات ومقدماتها وفي الملخصات الجامعية من أنه حسي تجريبي مادي ينكر الوحي ويهدم الأخلاق. كما حلل حرية الصحافة، وأراد تحويل السياسة إلى علم، ووضع المبادئ الأولى للحكومة الرشيدة، واستقلال البرلمان، وميَّز بين الملكية والجمهورية، وطالب بتعدد الأحزاب السياسية، ودافع عن الحريات المدنية بحثًا عن النظام السياسي الكامل. وقد تم تدعيم ذلك أيضًا بنظرية تجريبية في المعرفة وتحليل للواقع التاريخي حتى يظهر اتحاد الواقع بالقيمة. واستمر الحال كذلك طوال فلسفة التنوير في ألمانيا وفرنسا، في الأخلاق وفي السياسة من أجل خلق مفهوم المواطن الصالح وتأسيس المجتمع المدني والتشريع للعَلاقات الدولية. واستمر العقل قادرًا على رعاية القيمة وتحقيقها في الواقع وفي ذروة الوعي الأوروبي قبل انقلاب الرومانسية عليه والتضحية بالعقل وربما بالقيمة أيضًا في سبيل الحياة كواقع أوحد. واستمرت الليبرالية الأوروبية على نفس المنوال في القرن التاسع عشر عند جون ستيوارت مِل في دفاعه عن الحكومة النيابية، والديمقراطية، والنظم البرلمانية، والانتخاب الحر، وتحرير المرأة، وإعادة النظر في قانون الأحوال الشخصية، خاصة قوانين الزواج والطلاق. وبيَّن طبيعة الدين وفائدته، وأرسى قواعده في التجرِبة البشرية مثل هيوم بحثًا تلقائيًّا عن «أسباب النزول». واستمرت الليبرالية في القرن العشرين تخفف من غلواء النظم الرأسمالية والشمولية، وتستميت في الدفاع عن حرية الفرد والنظام الديمقراطي.
(٢) انفصال الواقع والقيمة
ومع ذلك، بدأ الواقع في الانفصال عن القيمة تدريجيًّا منذ بداية الوعي الأوروبي حتى بلغ ذروته في النهاية، فحدثت أزمة القرن العشرين، وكأن العقل والقيمة كانا عاجزين عن احتواء الواقع كله. كان العقل محدودًا باللاعقل، وكانت القيمة محدودة بالقومية والعرقية. بدا ذلك واضحًا في اليمين الديكارتي، وفي اليمين الكانطي، وفي اليمين الهيجلي، وفي اليمين الظاهراتي، وهي المحطات الأربعة في مسار الوعي الأوروبي.
فمنذ الثنائية الديكارتية المشهورة والعقل والواقع بدَوَا متباعدَين منذ البداية، ويزداد التباعد كلما تقدم الوعي الأوروبي حتى قمة الانفراج في الذروة وقبل العودة من جديد إلى التقارب والالتحام في الظاهريات. لما عجز العقل عن السيطرة عن الواقع تحقيقًا لقيمة المثال، بحث الواقع عن موجِّه آخر له فوجده في الإرادة واللاعقل والنزوع والمجال الحيوي والقوة العضلية وفي حروب الغزو والاستيطان. فعند ديكارت الأخلاق المؤقتة خارج نطاق العقل. وهي: العادات والأعراف والتقاليد ونظم الحكم والعقائد وكل المسلَّمات المدونة، وكأن العقل لا يعمل بيقين إلا في العلوم والرياضيات ولا شأن له بالحياة العملية. والإرادة أوسع نطاقًا من الذهن في العمليات. لذلك يحدث الخطأ لأن العقل لا يستطيع أن يوجه كل شئون الحياة. ومصير النفس غير مصير البدن، متمايزان، الأول إلى الخلود والثاني إلى الفناء. والانفعالات أبخرة صاعدة من الدماغ تسري في الأعصاب. وبالتالي تنشأ الرياضيات من ناحية والفيزيولوجيا من ناحية أخرى. أما الحيوانات فآلات حية لما كانت أجسامًا بلا نفوس، وبالتالي انفصل العقل عن الواقع، وبُذرت بدايات الانفراج والسقوط، الصورية والمادية. انفصل الواقع عن القيمة وأصبح بلا قيمة، مجرد مادة صماء. وأصبحت قيمة العقل صورية محضة، فارغة بلا مضمون، بل إن العقل قد قام أحيانًا بتبرير ما هو قائم دون أن يغيره حتى يتحد بالقيمة. تم ذلك عند اليمين الديكارتي عند لَيبنتز ومالبرانش وعند بسكال عندما كانت وظيفة العقل فهم العقيدة دون نقدها، وتبريرها دون إعادة بنائها. فإذا كان هذا العالم هو أفضل العوالم الممكنة فكيف يمكن تغييره نحو قيمة أفضل؟ وإذا كان الشر ضروريًّا لفهم الخير فكيف يمكن التصدي للشر باعتباره نقيض القيمة وتحويله إلى الخير باعتباره قيمة؟ وإذا كان التناقض في العالم أحد مظاهر الانسجام المسبق فكيف يمكن حله والدخول مع أحد أطرافه تحريرًا للواقع وتغييره نحو الطرف الأكثر قيمة؟ وكيف يمكن التوحيد بين الشرق والغرب والاستيلاء على الرابطة الجوهرية بينهما، وهي مصر، لصالح الغرب، وبالتالي يستولي الغربي على العالم كله ويكون الواقع كله بلا قيمة كما اقترح لَيبنتز؟ وكيف يمكن مد ثقافة الغرب وعقائده حتى الصين، وتُلغَى خصائص الشعوب الثقافية كما فعل مالبرانش، وكما نعلم أن التبشير كان مقدمة للاستعمار؟ وكيف يكون التناقض في النصوص الدينية تعبيرًا عن التناقض في الإنسان دون التضحية بقيمة النقد التاريخي والبحث العلمي كما هو الحال عند بسكال؟ وإذا كان الإيمان بالعقائد القديمة التي ثار عليها عصر النهضة هو وسيلة تحول الإنسان من الشقاء والبؤس إلى العظمة والجلال فإن الوعي الأوروبي يكون قد تنازل عن مشروعه وعن مشروعية وجوده وهو التأسيس الجديد للمعرفة من أجل فهمٍ أصوب للواقع.
واستمرت هذه الثنائية في القرن الثامن عشر عند كانط، ثنائية القبلي والبعدي، الظاهر والباطن، الصوري والمادي، النظري والعملي، التحليلي والتركيبي، الرياضيات والطبيعيات. فيستمر انفصال الواقع عن القيمة، ويظل الانفراج قائمًا، والفم مفتوحًا. ولم تنجح عَلاقة الشكل بالمضمون أن توحد بين القيمة والواقع توحيدًا عضويًّا فعليًّا جوهريًّا، بل ارتبطا فيما بينهما ارتباطًا آليًّا خارجيًّا ثابتًا مصطنعًا سهُل فكُّه بعد ذلك بخروج التيارات المثالية الصورية الفارغة من كانط والتيارات الحسية التجريبية المادية الوضعية من كانط أيضًا.
وقد يكون من أسباب انفصال الواقع عن القيمة هو أن التيار الحسي التجريبي منذ القرن السابع عشر قد تنازل العقل فيه عن بنيته الداخلية واستقلاله الذاتي بالرغم من وجوده كثورة خارجية وآلة ناقدة. كان العقل مجرد جماع للحس وحصيلة للمدركات الحسية، ومخزنًا داخليًّا لكل ما يأتي من الخارج عبر الحواس الخمسة وكأننا ما زلنا في تصور قوى النفس في العصر الوسيط، الخارجية في الحواس الخمس، والداخلية في التذكر والتوهم والتخيل. ولكن العصر الوسيط حرص على تأييد العقل بقوة خارجية مستمدة من العقل الفعال الذي يجاوز الحس، وبالتالي حدث التوازن في العقل بين ما يأتي من الخارج وبين ما يأتي من أعلى. وفي بداية الوعي الأوروبي في التيار العقلاني اعتمد العقل على نفسه. وحدث لديه التوازن بين ما يأتي من الخارج وما يأتي من الداخل بعد تحول الأعلى إلى الداخل. أما عند لوك وهوبز وهيوم فكان العقل مجرد انعكاس داخلي للواقع الخارجي عبر الحواس. فتم التنازل عن الأساس الداخلي للقيمة، وبدأ الانفصام بين الواقع والقيمة.
وتبلورت النظرية العنصرية في القرن التاسع عشر، تمد العنفوان الاستعماري بأحد دوافعه وتبريراته. صبت فيه الرُّوح القومية للشعوب والعقليات المتميزة للأجناس. كما صُبَّت فيها التطورية والوضعية وكل التيارات المادية في القرن التاسع عشر. فالفرق بين هيجل وكومت أو بين شلنج ودارون ليس كبيرًا. وغذى ذلك كله فلسفات التاريخ التي جمعت بين التقدم العقلي والتقدم المادي في مسار تاريخي طويل، ينطلق من الشرق إلى الغرب، من طفولة البشرية إلى رجولتها. انقلب ذلك كله إلى استعمار في الخارج، وتصنيع في الداخل، إلى هدم واستيلاء وغزو في الخارج، وتشييد وإبداع وتطوير في الداخل. فانقلبت الثنائية المعرفية بين الداخل والخارج إلى ثنائية عملية بين داخل أوروبا وخارجها. وظهر التراكم الرأسمالي في الغرب الناتج عن نهب المستعمرات واستثماره في التصنيع والتشييد والبناء والتخطيط والعمران. عمار في الداخل وخراب في الخارج. وسرعان ما ظهرت الآثار السلبية أيضًا في الداخل، بؤس العمال، سيطرة رأس المال، احتكار السلع، استغلال البشر، سيادة المادة على الإنسان، واعتبار المادة غاية والإنسان وسيلة. وظهرت الماركسية لتوحد بين الواقع والقيمة ولتنقد المجتمع الصناعي. وعلى مستوى نظرية المعرفة استمرت الخسارة إلى النصف، فاعتُبرت الطبيعة رُوحًا أو بديلًا عنها كما ظهر في الوضعية والتطورية. واعتُبر العقل، كما كان الحال عند التجريبيين من قبل، مجموعة من الإحساسات والتراكم التجريبي وإحدى وظائف الجهاز العصبي كما هو الحال عند ماخ وأفيناريوس. هناك قوانين للذهن هي قوانين الإحساس. وهناك مناهج للعلوم الاجتماعية هي مناهج الكيمياء والطبيعة. أصبحت الطبيعة خالقة لكل شيء، والمادة لها السيادة على كل شيء، وأصبح العقل المستقل القديم من بقايا الدين والميتافيزيقا.
ظن الوعي الأوروبي أن الواقع أصبح عاريًا من النظرية فغطاه بمشروعه المعرفي المتأرجح بين العقلانية والتجريبية، فنَدَّ الواقع النظري عنه، فواجهه بالعقل الثوري أحيانًا. ثم فُرِّغ العقل من مضمونه وتحول إلى صورة خالصة كما فُرِّغ من أساسه، وتحول إلى مخزون حسي وتراكم تجريبي، فنَدَّ الواقع العملي عنه، وانفصل الواقع عن القيمة، فأصبحت القيمة بلا واقع بل تعبير عن الذاتية الخالصة، والواقع بلا قيمة بل تعبير عن القوة الخالصة. أصبحت القيمة ذاتية خالصة، نسبية من فرد إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر، لا تناصرها إلا القوة المادية والإرادة العضلية. وتنتهي إلى صراعات قيم لا يمكن الاحتكام فيها إلى قيمة مستقلة، إنما الغلبة للأقوى في حالة الصراع، أو للمصلحة المشتركة في حالة الوفاق، فهي أقرب إلى الهوى والمصلحة منها إلى القيمة الموضوعية المستقلة. والواقع مادة صرفة، مجموع قوًى خالٍ من أي قيمة، بما في ذلك الطبيعة والإنسان. وسرعان ما انتهى التفاؤل في البداية إلى تشاؤم في النهاية، كما انتهى دافع التقدم إلى رصد مظاهر النكوص، وخبا الدافع على الخلق والإبداع بخواء الرُّوح، وسريان الموت في البدن. وبالرغم من محاولة بعض الفلاسفة المعاصرين — مثل نيقولاي هارتمان وصمويل ألكسندر ولُوِي لافِل ورينيه لوسِن ومونييه وبعض التوماويين الجدد — إعادة الوحدة بين الواقع والقيمة، فالقيمة واقع والواقع قيمة، بل إن القيمة هي الواقع الوحيد والواقع هو القيمة الوحيدة، إلا أن الفصم بين الواقع والقيمة في الوعي الأوروبي كان فتقًا لا رتق له.
رابعًا: المذاهب الفلسفية
(١) مكونات المذهب
وهي العناصر التي يتكون منها كل مذهب، والنظريات التي يضمها، والمباحث التي يقوم بها، ومجموعة الآراء والنظريات التي ينتظمها. ويضم كل مذهب مكونات ثلاثة: نظرية في المعرفة، ونظرية في الوجود، ونظرية في القيم، وقد يضم عنصرًا رابعًا وهو الدين أو مبحث المقدس. فنظرية المعرفة أو «الإبستمولوجيا» تبحث في وسائل المعرفة وتجيب على سؤال: كيف أعرف؟ وهو ما يقابل نظرية العلم عند علماء أصول الدين، أو المنطق عند علماء أصول الفقه وعلوم الحكمة أو الإشراق عند الصوفية. وتضم تحليلًا للمعرفة الحسية والمعرفة العقلية الذوقية والمعرفة التاريخية. قد يُرد الحس إلى العقل فينشأ المذهب العقلاني، وقد يرد العقل إلى الحس فينشأ المذهب الحسي، وقد يقبل الذوق أو الوجدان فينشأ المذهب الحدسي أو الجمالي. أما المعرفة التاريخية — وهي التي تعادل المعرفة النقلية المتواترة في تراثنا القديم — فقد يقبلها البعض وقد يرفضها البعض الآخر نظرًا لعدم استقلالها وارتباطها بالحس والعقل في شروط يقينها ومقياس صدقها كما هو الحال في علم أصول الفقه القديم. ونظرية الوجود أو «الأُنطولوجيا» هي موضوع المعرفة إجابة على سؤال: ماذا أعلم؟ وهو يقابل نظرية الوجود عند علماء أصول الدين، والطبيعيات في علوم الحكمة، والأحكام الشرعية في علم أصول الفقه، والمكاشفات في علوم التصوف. وتضم تحليلات للموضوعات في العالم الخارجي المتوارثة منذ طبيعيات أرسطو مثل: الحركة والزمان والمكان والصورة والمادة. ونظرية القيم أو «الأكسيولوجيا» إجابة على سؤال: ماذا أفعل؟ بعد الانتقال من الخارج إلى الداخل، ومن الطبيعة إلى الإنسان، ومن المعرفة إلى الأخلاق، ومن النظر إلى العمل. وهي تعادل أنساق العقائد عقليات وسمعيات وأصلَي التوحيد والعدل في علم أصول الدين، والأوامر والنواهي في علم أصول الفقه، والإلهيات في علوم الحكمة، والفناء في الله والاتحاد به في علوم التصوف. وتدرس موضوعات حرية الإرادة والمسئولية، والخير والشر، والحكم الخلقي، وسُلم القيم. أما المبحث الرابع فهو الدين أو المقدس إجابة على سؤال: ماذا أعتقد؟ ما هي قواعد الإيمان؟ بعد أن تحول الوعي الأوروبي من الدين إلى العلم، ومن الوحي إلى العقل، ومن المعطَى القبلي إلى المعطَى البعدي. فالإصلاح الديني في القرن الخامس عشر لم يقضِ على الدين في ذاته ولكنه أعطى تأويلًا إنسانيًّا حرًّا باطنيًّا قلبيًّا له، آخذًا في الاعتبار معطيات العصر الجديد ونشأة القوميات: الحرية، حرية القراءة والتفسير، والاستقلال الوطني. وهو نفس الموضوع الغالب على كل علومنا القديمة العقلية النقلية أو النقلية الخالصة، والتي كانت هي الأساس، وكانت المباحث الثلاثة الأولى مجرد مقدمات لها.
ويمكن استعراض بعض المذاهب الفلسفية، خاصة في المحطات الأربعة الكبرى في مسار الوعي الأوروبي من البداية إلى النهاية: ديكارت، كانط، هيجل، هُوسِرل، لبيان مدى تناولها لهذه المباحث الثلاثة. فتوجد نظرية المعرفة في «قواعد لهداية الذهن»، «مقال في المنهج»، ونظرية الوجود في «التأملات في الفلسفة الأولى» نظرًا لأنها تعرض لموضوعات الفلسفة: خلود النفس وخلق العالم ووجود الله، ونظرية القيم في «مقال في الإنسان». ولم يشأ كتابة مبحث صريح في الدين لأن مباحثه الثلاثة الأولى ما هي إلا دين مقنَّع. وقد يضم عمل واحد المباحث الثلاثة أو الأربعة مثل «التأملات في الفلسفة الأولى» بالرغم من أنها كلها أقرب إلى نظرية الوجود. فالتأمل الأول «في الأشياء التي يمكن أن توضع موضع الشك» في نظرية المعرفة، والتأمل الثاني «في طبيعة النفس الإنسانية وأن معرفتها أيسر من معرفة الجسم»، والثالث «في أن الله موجود» والرابع «في الصواب والخطأ» في الأخلاق، في موضوع الخير والشر، أي في نظرية القيم، والخامس «في ماهية الأشياء المادية والعود إلى الله ووجوده»، والسادس «في وجود الأشياء المادية وفي التمييز الحقيقي بين نفس الإنسان وبدنه» في نظرية الوجود، وجود النفس ووجود الله ووجود العالم. كما يمكن عرض مؤلفات اسبينوزا أيضًا لتغطي هذه النظريات الثلاثة. نظرية المعرفة في «رسالة في إصلاح الذهن»، ونظرية الوجود في «الأخلاق»، ونظرية القيم في «رسالة في الانفعالات». أما مبحث الدين فقد خصص له اسبينوزا مؤلفًا صريحًا هو «رسالة في اللاهوت والسياسة». وقد يضم مؤلَّف واحد المباحث الثلاثة أو الأربعة مثل «الرسالة القصيرة»، «أفكار ميتافيزيقية».
وتظهر نفس المباحث الثلاثة أو الأربعة بصورة أوضح في فلسفة كانط: نظرية المعرفة في «نقد العقل الخالص»، ونظرية الوجود في «نقد العقل العملي» لما كان يتناول حقائق الأشياء، فالأخلاق هي الوجود، ونظرية القيم في «نقد ملكة الحكم»، فالجمال مع الحق والخير هي القيم الثلاثة التي تكوِّن مبحث القيم. ومبحث الدين في «الدين في حدود العقل وحده». وقد لخص كانط هذه المباحث الثلاثة الأولى في «المقدمات لكل ميتافيزيقا مستقبلة تريد أن تصير علمًا» إجابة على الأسئلة الثلاثة: ماذا يجب عليَّ أن أعرف؟ ماذا يجب عليَّ أن أفعل؟ ماذا يجب عليَّ أن آمل؟ ويمكن تصنيف باقي أعمال كانط الأخرى في هذه المباحث الثلاثة أو الأربعة: نظرية المعرفة في «المنطق»، «ماذا يعني التوجه في الفكر؟» … إلخ. ونظرية الوجود في «المبادئ الميتافيزيقية الأولى لعلم الطبيعة»، «رسالة ١٧٧٠م»، «محاولة لتقديم مفهوم الكم السلبي في الفلسفة» … إلخ، ونظرية القيم في «أسس ميتافيزيقا الأخلاق»، «الأنثروبولوجيا من وجهة النظر البرجماتية»، «تأملات في التربية»، «محاضرات في الأخلاق»، «ملاحظات حول الإحساس بالجميل والجليل»، «فلسفة التاريخ» … إلخ، ونظرية الدين في «رسائل في الأخلاق والدين»، «أفكار متتالية حول العدل الإلهي والدين» … إلخ. بل ويمكن تفسير عمل بمفرده على أنه يضم المباحث الثلاثة أو الأربعة مثل «نقد العقل الخالص». فالحساسية الترنسندنتالية تمثل نظرية المعرفة، والتحليل الترنسندنتالي (الذهن) يحتل نظرية الوجود نظرًا لوجود المقولات المستقل عن الحساسية، والجدل الترنسندنتالي (العقل) يمثل نظرية القيم؛ إذ تدور موضوعاته حول مُثُل العقل الثلاثة: وجود الله، وخلود النفس، وخلق العالم، وهي ركائز الأخلاق والدين. وقد ظهر نفس الشيء في «التأملات في الفلسفة الأولى» عند ديكارت.
كما تظهر نفس المباحث الثلاثة أو الأربعة في فلسفة هيجل: نظرية المعرفة في «ظاهريات الرُّوح»، ونظرية الوجود في «علم المنطق»، ونظرية القيم في «مبادئ فلسفة الحق»، «محاضرات في علم الجمال»، «محاضرات في فلسفة التاريخ»، وأخيرًا يوجد مبحث الدين في «محاضرات في فلسفة الدين». ويمكن عرض كل مؤلَّف بحيث تظهر النظريات الثلاثة فيه لتقوم بعملية تغطية نظرية كاملة للواقع العاري. ففي «ظاهريات الرُّوح» يحتل «الوعي» نظرية المعرفة، و«الوعي بالذات» نظرية الوجود نظرًا لتأكيده على استقلاله ووجوده، و«العقل» نظرية القيم نظرًا لاشتماله على الدين. وفي «علم المنطق» يمثل «المنطق الذاتي» نظرية المعرفة، و«المنطق الموضوعي» نظرية الوجود، و«المنطق الذاتي الموضوعي» نظرية القيم. وفي «دائرة المعارف الفلسفية»، يمثل «المنطق» نظرية المعرفة، و«فلسفة الطبيعة» نظرية الوجود، و«فلسفة الرُّوح» نظرية القيم والدين.
كما يضم كل مذهب جانبين: الأول نظري يعرض للأس النظرية العامة للمذهب، والثاني تطبيقي، يطبق الأسس النظرية في شتى ميادين المعرفة الإنسانية: الأخلاق، والسياسة، والقانون، والتاريخ … إلخ. الأول منهجي يعرض للمنهج، والثاني موضوعي يطبق المنهج في موضوعات الفلسفة ومباحثها الرئيسية: المعرفة، والوجود، والقيم. ويمكن عرض المذاهب الفلسفية الرئيسية الأربعة عند ديكارت، وكانط، وهيجل، وهُوسِرل بناء على هذه القسمة الثنائية. فديكارت يعرض الجانب النظري المنهجي في «قواعد لهداية الذهن» ثم يلخص هذه القواعد الحادية والعشرين في «مقال في المنهج» في أربع قواعد. ثم يطبق هذا المنهج في فلسفته في الفلسفة العامة في «تأملات في الفلسفة الأولى» وفي «مبادئ الفلسفة». كما يعرض كانط أصول فلسفته النقدية في كتبه النقدية الثلاثة: «نقد العقل النظري»، «نقد العقل العملي»، «نقد ملكة الحكم» ثم يطبقها في الدين في «الدين في حدود العقل وحده»، وفي الأخلاق «أسس ميتافيزيقا الأخلاق»، وفي التربية في «تأملات في التربية»، وفي فلسفة التاريخ في «فلسفة التاريخ»، وفي السياسة الدولية في «مشروع السلام الدائم». ويطبق هيجل مذهبه النظري ومنهجه الجدلي الذي عرضه في «ظاهريات الرُّوح» وفي «علم المنطق»، مرة في الفلسفة في «محاضرات في تاريخ الفلسفة»، ومرة في التاريخ في «محاضرات في فلسفة التاريخ»، ومرة في علم الجمال في «محاضرات في علم الجمال» ومرة في الدين في «محاضرات في فلسفة الدين». كما يطبق هُوسِرل مبادئ فلسفته النظرية ومنهجه الظاهرياتي الذي عرضه في «الأفكار» مرة في المنطق في «المنطق الصوري والمنطق الترنسندنتالي» وفي «التجرِبة والحكم»، ومرة في الفلسفة في «الفلسفة الأولى»، ومرة في علم النفس في «علم النفس الفينومينولوجي»، ومرة في «فلسفة التاريخ» في «أزمة العلوم الأوروبية». ويمكن عرض باقي المذاهب بنفس الطريقة وبيان جانبها النظري المنهجي أولًا ثم تطبيقاتها العملية ثانيًا، كمشروع معرفي أولًا ثم كمشروع أخلاقي ثانيًا.
(٢) بنية المذهب
ويمثل جانب الرفض الجانب العنيف من المذهب الذي يرفض فيه الفيلسوف أخطاء الفكر في عصره. هذه الأخطاء كانت إلى حينٍ اكتشافات تعبر عن احتياجات العصر الماضي. فمثلًا نشأت قطعية فولف التي رفضها كانط في عصره كرد فعل على مذاهب الشك في القرن السابق عند مونتاني وتعرية الواقع كله من أية نظرية. حاول فولف إعطاء معرفة شاملة بديلة للوحي، كما كان الحال في العصر الوسيط، تعطي الواقع أساسًا نظريًّا متكاملًا. وقد كان شك مونتاني نفسه رد فعل على قطعية الفلسفة المدرسية. فإذا ما تطور الواقع، وتطور الإحساس به تظهر العلوم العقلية عند فولف قطعية منفصلة عن التجرِبة بعد أن تجاوزتها التجرِبة وفيزيقا نيوتن. ويظهر كانط لرفضها ونقد العقل المنفصل عن التجرِبة. وفي نفس الوقت كانت حسية هيوم وشكه في المعارف العقلية تعبيرًا عن احتياجات عصره الذي اكتشف عدم تطابق النظريات الاجتماعية والسياسية. فرفض كل القوانين العقلية وآمن بشهادة الحس. واعتبر كل التصورات والمفاهيم العقلية مجرد نتاج للحس وللعادة وللربط بين العلة والمعلول ولتداعي المعاني. وعندما ظهر التطرف في رفض العقل، ظهر كانط دفاعًا عن العقل ورفضًا للاتجاه الحسي عند هيوم باعتباره شاكًّا في قدرة العقل. ورفَض هيجل كل الاتجاهات الصورية المجردة وريثة الاتجاه العقلي التقليدي، وكل الاتجاهات الحسية التجريبية وريثة الاتجاه الحسي التقليدي من أجل العثور على واقع هو أيضًا فكر، وعلى فكر هو أيضًا واقع. ورفَض كل الثنائيات بين العقل والحس، واعتبار الحس إحدى مراحل تطور العقل، ورفض كل عَلاقات التيار التقليدي بين الصورة والمضمون، واعتبار المضمون تطورًا للصورة، والصورة مضمونًا مجردًا في مرحلته الأولى. كما يرفض هُوسِرل كل الاتجاهات الصورية في المنطق والرياضة وكل الاتجاهات المادية في علم النفس وفي الفلسفة بعد أن كانت الصورية وسيلة لإنقاذ البعد المثالي في الوعي الأوروبي، وبعد أن كانت المادية وسيلة للتأكيد على بعد الواقع فيه. واستمرت جميع الفلسفات المعاصرة بعمليات الرفض هذه حتى أصبح الرفض عند ماركوز هو رُوح الفلسفة. فنقد كل من برجسون، ومونييه، وشيلر، وميرلوبونتي، وسارتر، وجابريِل مارسيل، وياسبرز، وأورتيجا إي جاسيه، وأونامونو، كل التيارات الصورية في المنطق أو في العلوم الإنسانية، كما نقدوا كل التيارات الحسية التجريبية. الأولى تُرد إلى أعلى والثانية تُرد إلى أسفل. الأولى تعطي الواقع أكثر مما يستحق، والثانية تعطي الواقع أقل مما يستحق.
(٣) توالد المذاهب
ولما كانت المذاهب الفلسفية وجهات نظر لأصحابها يشرح بعضها بعضًا لمزيد من التأييد والبرهان أو يقرأ بعضها بعضًا لمزيد من التأويل والإكمال من أجل القلب والتغيير، وقلب الصلة من هذا الوجه إلى الوجه الآخر، ظهرت ثلاثة نماذج من توالد المذاهب: إما الاستمرار، وإما الاستمرار مع الانقطاع، وإما الانقطاع. ولا توجد فواصل حاسمة بين هذه النماذج الثلاثة بل يوجد مجرد تمايز بينها. فلا يوجد استمرار بين مذهبين إلى حد التطابق ولا حتى عند الشراح. وقد يكون نموذجا الاستمرار والانقطاع أقرب إلى الاستمرار أو أقرب إلى الانقطاع. وقد يكون نموذج الانقطاع أقرب إلى القراءة والتأويل لصعوبة التفرقة بين العدو والصديق، بين الحاكم والمحكوم، وبين السيد والعبد.
ويمكن إعطاء عدة نماذج من توالد المذاهب الفلسفية عن طريق التواصل والاستمرار؛ من ديكارت إلى لَيبنتز، ومن ديكارت إلى مالبرانش، وهو ما عُرف باسم عقلانية القرن السابع عشر. ومن لوك إلى هوبز إلى هيوم وهو ما عُرف باسم تجريبية القرنين السابع والثامن عشر، ومن كيركجارد إلى هَيدجر إلى سارتر أو من كيركجارد إلى ياسبرز إلى مارسيل في وجودية القرنين التاسع عشر والعشرين، ملحدة أو مؤمنة، لما كان الإلحاد هو الإيمان، والإيمان هو الإلحاد. ومن الحسيين الأنجلوسكسونيين إلى فلاسفة دائرة المعارف الفلسفية، ومن لامارك إلى دارون إلى سبنسر إلى هيكل في المذهب التطوري … إلخ، وكأننا أمام رواة الحديث، وسلسلة متصلة لا انقطاع فيها، ولا إرسال من الأول أو الوسط أو النهاية. وقد يكون هذا التواصل داخل الوعي القومي الواحد أو بين وعيين قوميين في إطار الوعي الأوروبي العام.
والنموذج الثالث، وهو الأشهر والأوقع، هو نموذج الانقطاع والتضاد والتقابل من أجل قلب المائدة وكشف الوجهة الأخرى من العملة ضد الأخرى مثل جون لوك في «محاولة في الفهم الإنساني» إلى لَيبنتز في «المحاولات الجديدة» دفاعًا عن العقل ضد الحس، ومن هيوم إلى كانط دفاعًا عن القبلي ضد الشك فيه، ومن فولف إلى كانط دفاعًا عن النقد ضد القطع، ومن هيجل إلى كيركجارد دفاعًا عن الوجود ضد العقل، ومن هيجل إلى ماركس دفاعًا عن الواقع ضد المثال، ومن هيجل إلى فيورباخ دفاعًا عن الطبيعة الحسية ضد جدل التصورات، ومن باور وشترنر وفيورباخ إلى ماركس دفاعًا عن النقد الاجتماعي ضد النقد الأيديولوجي، ومن كانط إلى برجسون دفاعًا عن الحدس ضد العقل، والدافع الحيوي ضد الإلزام الخلقي، ومن فشنر وشاركو إلى برجسون دفاعًا عن الحرية والديمومة والذاكرة ضد مُعامل الإحساس والسيكوفيزيقا، ومن دارون وسبنسر ولامارك إلى برجسون دفاعًا عن التطور الخالق ضد التطور الآلي المادي، ومن دوركايم وليفي برِيل إلى برجسون دفاعًا عن الدين الدينامي ضد الدين الثابت، ومن ديكارت إلى سارتر دفاعًا عن الأنا موجود ضد الأنا أفكر، ومن أفلاطون إلى هَيدجر دفاعًا عن الوجود ضد الثنائية، ومن السيكوفيزيقا إلى ميرلوبونتي دفاعًا عن الوجود في العالم … إلخ. فكل مذهب نقيض الآخر وعلى الضد منه، يقلبه رأسًا على عقب، ولا وجه للمصالحة بينهما، ثنائية متعارضة، إثبات ونفي، إيجاب وسلب، بناء وهدم كالملاك والشيطان، الأبيض والأسود، الإيمان والكفر، الإسلام والجاهلية.
ونتيجة هذا التوالد المذهبي طبقًا لقانون الفعل ورد الفعل والتوسط طُبعت العقلية الأوروبية بطابع خاص، وتكوَّن لها مزاج خاص، وأصبح لها نظرة خاصة للأمور. فقدت التوازن، وضاع منها التكامل. وفي كل مرة تضع ما رفضته سابقًا أو ترفض ما وضعته من قبل. وأصبح من الصعب عليها إدراك الظاهرة نفسها في جميع جوانبها في آنٍ واحد. أصبحت عقلية وحيدة الجانب، أحادية الطرف، ترفض وتضع، وتضع وترفض. واستحال عليها أن تدرك الظاهرة أو تثبتها في مكانها الصحيح وعلى مستواها الحقيقي. أصبحت عقلية تقوم بتصنيف الظواهر دائمًا إلى طرفين متناقضين ثم إلى طرف ثالث يتنازعه هذان الطرفان، وبالتالي كان الجدل يعبر عن طبيعتها وجوهرها، الصراع والتناقض ثم المصالحة والوفاق، الحرب الساخنة ثم الحرب الباردة، الستار الحديدي ثم البريسترويكا. أصبحت عقلية ثنائية، تفصل باستمرار بين ما هو جوهر وعرض، شارط ومشروط، قبلي وبعدي. وقد ظهر ذلك بوضوح عند كانط. ثم وُضعت المشاكل باستمرار على هذا النحو: هل العالم فكرة أم واقع؟ مثال أم شيء؟ هل الفكر سابق على الوجود أم الوجود سابق على الفكر؟ هل النفس مستقلة عن البدن أم مرتبطة به؟ هل الزعامة من الفرد أم من المجتمع؟ هل البطل صانع التاريخ أم التاريخ يصنعه؟ وهي الطريقة اليونانية القديمة التي تدل على تطهر مثالي يتفق مع رغبة الشعور الأوروبي الدفينة في اللَّحاق بالعواطف الدينية التي ما زالت موجودة فيه بعد رفض صياغات العقائدية الموروثة من العصور الوسطى. أصبحت العقلية الأوروبية مانوية أكثر منها مسيحية، تقوم على الثنائية المتعارضة بين النور والظلمة، الحق والباطل، الخير والشر، الرُّوح والمادة. وقد تظهر المسيحية في الجمع بين طرفي الثنائية المتعارضة في شخص ثالث كما هو الحال في الأقانيم الثلاثة: الأب، والابن، والرُّوح القدس، والذي عبر عنه هيجل في منهجه الجدلي خير تعبير، فكان أقرب إلى عقلية التوحيد والجمع بين النقيضين في لحظة الجدل الثالث، مركب الموضوع ونقيضه، وبالتالي كان أقرب الفلاسفة الأوروبيين إلى الشرق. وهذا يفسر إعجابه بالشرق القديم، بالصين والهند وفارس ومصر.
ولكثرة التجزئة من جراء وجهات النظر ورد الكل إلى أحد أجزائه اتسمت العقلية الأوروبية أي الجانب العاقل في الوعي الأوروبي بالتفرق والتشتت وأحادية الطرف في نظرتها إلى الموضوع طبقًا لجدل «إما … أو». فالواقع إما مثال كما تقول المثالية أو واقع كما تقول الواقعية. والعالم إما معقول كما هو الحال في المذهب العقلي أو محسوس كما هو الحال في المذهب الحسي. وعلى الإنسان أن يختار بين أحد المذهبين وكأنهما متعارضان لا يمكن الجمع بينهما في كلٍّ واحد. أصبحت العقلية الأوروبية عقلية مفرِّقة ترى عاملًا واحدًا وليس كل العوامل، جانبًا واحدًا وليس كل الجوانب. وأصبحت كل الأسئلة موضوعة وضعًا خاطئًا مثل: هل العالم واقع أم مثال؟ هل وسيلة المعرفة العقل أم الحس؟ هل الأولوية للفرد على الجماعة كما تفعل الرأسمالية أم للجماعة على الفرد كما تفعل الاشتراكية؟ كلها أسئلة موضوعة وضعًا خاطئًا لأنها تريد رد الكل إلى أحد أجزائه. فالإجابة في الجمع بين الطرفين: العالم واقع ومثال، وسيلة المعرفة العقل والحس، القيمة فردية واجتماعية. هذه العقلية التوحيدية التي عبرها عنها الفارابي في حضارتنا في «الجمع بين رأيي الحكيمين، أفلاطون الإلهي وأرسطوطاليس الحكيم» على الرغم من سخرية الأوروبيين والمتغربين كيف يجمع الفارابي بين مذهبين متناقضين؟ استفهام من عقلية مفرِّقة موجه إلى عقلية موحِّدة. والغريب أن النظريات العنصرية الغربية في القرن الماضي عند رينان وليون جوتييه قد اتهمت الحضارات السامية بالجمع بين النقيضين دون أي إحساس بالتناقض على عكس العقلية الأوروبية الآرية التي تفكر طبقًا لقانون الاتساق، مما يدل على سوء فهم لعقلية التوحيد وجهل بالعقلية الأوروبية المفرِّقة. وفيم الإعجاب بهيجل والمنهج الجدلي الذي يقوم على الصراع بين النقيضين وهو آريٌّ؟ وماذا عن الإسلام وهو يجمع بين النقيضين، اليهودية والمسيحية، وهو ساميٌّ؟ وفيم نقد منطق أرسطو الذي يقوم على الاتساق، اتساق النتائج مع المقدمات وهو آري؟
ونظرًا لأنه لا يوجد شيء إلا ويمكن الشك فيه بحيث لم يعد هناك يقين، وأنه لا يوجد بناء إلا ويمكن هدمه بحيث لم يعد هناك شيء ثابت، اتسم الوعي الأوروبي بالحَيرة وعدم الاستقرار، والبحث الدائم عن شيء لا يمكن تثبيته أو التأكد من وجوده أو حتى من إمكانية إدراكه بالرغم من المناهج الحدسية ووسائل التحقق المنطقي والعلمي. أصبح الوعي الأوروبي متجهًا نحو بؤرة لا يمكن تثبيتها، يصوِّب نظره دائمًا فتقع رؤيته حولها وليس تجاهها. فأصيبَ بالحَيرة الدائمة. أصبح قلقًا لا يستقر له حال على منهج أو موضوع، نتيجة أو غاية. يحاول مرة بالعقل، ومرة أخرى بالحس، ومرة ثالثة بالوجدان، وفي كل المرات لا يدرك إلا الأجزاء. يحاول مرة إدراك الظاهر، ومرة ثانية إدراك الباطن، وفي كل مرة لا يدرك أيضًا إلى الأجزاء. وفي كل الحالات لا ينتهي إلى شيء، يتساوى كل شيء مع كل شيء، وتتكافأ الأدلة. يعود من حيث أتى، ويأتي من حيث عاد. حاولت العلوم الإنسانية تبني نموذج العلوم الرياضية في اليقين مرة ثم نموذج اليقين في العلوم الطبيعية مرة أخرى. وكان من الصعب تحويل موضوع المعرفة إلى الذات العارفة ثم تحويل الذات العارفة إلى موضوع للمعرفة، فلا يمكن رد الإنسان إلى ما هو أعلى منه ولا يمكن رده إلى ما هو أقل منه، وظلت العلوم الإنسانية متأرجحة بين النموذجين تبحث لها عن طريق ثالث مستقل وجدته في الظاهريات التي انقسمت على نفسها من جديد إلى أفلاطونية وأرسطية أو مثالية ووجودية. وانتهى الفريقان إلى تحليل اللغة الذي أدى في النهاية إلى التفكيك والانتهاء إلى لا شيء. أصبحت العقلية الأوروبية مكتسبة، وفقدت فطرتها ونورها الطبيعي. أصبحت وليدة التاريخ وحصيلة التجرِبة الأوروبية الخاصة. خسرت نفسها وإن توهمت أنها كسَبت العالم.
وبالرغم من هذه السلبيات في العقلية الأوروبية نتيجة للتوالد المذهبي فإنها أيضًا لم تَخلُ من الإيجابيات، خاصة في مثل مجتمعاتنا التي لم يتم فيها تعرية الواقع بعد، وظل غطاؤها النظري الموروث قائمًا، بل ويزداد سمكًا وتماسكًا بعد اكتساب مناعة تاريخية وحاضرة ضد الانتقادات السطحية ومحاولات الهدم الساذجة التي تعتمد على معاول مستمدة من الخارج يسهل حصارها وردها وإعادة توجيهها ضد من يستعملها.
تعطي المذاهب قوة رفض رهيبة للماضي بكل ثقله وللموروث بكل الثقة الموضوعة فيه. فالماضي مهما بلغ من صدقه فإن الواقع سيتخطاه لا محالة. التقدم يفرض نفسه، والواقع أكثر غنًى وتجددًا من كل الأغطية النظرية السالفة. كل مذهب يرفض ويهدم ويصارع وينقد ويثور ويغضب لشيء، وينادي ويثبت ويدافع ويؤكد شيئًا آخر مما طبع العقلية الأوروبية بطابع الحماس والحمية، هجومًا على شيء أو دفاعًا عن شيء آخر. لقد استطاعت العقلية الأوروبية تعرية الواقع من كل غطاء فكري أو عقائدي سابق، تعطي الباحث حماسًا لا يعوَّض، ورغبة عارمة في وضع نظرية من لديه. إن تعرية الواقع هذه مكسب هائل بالنسبة لبيئة أكثر ما يضرها تغليف واقعها بعشرات من الأقنعة الماضية والحاضرة، الانفعالية منها والتبريرية. كما تقدم المذاهب الفلسفية تحليلات وافية لجوانب الواقع المختلفة، إذ يرى الباحث الواقع وهو يتحول إلى نظرية أو النظرية وهي في طور النشوء ومطابقتها للواقع والتحقق من صدقها بالرجوع إليه في كل مراحله وعلى جميع مستوياته، وبالتالي فهي تقدم وجهات نظر عديدة، وحججًا مختلفة، وثراءً فكريًّا يفيد بيئة يعمها الخطاب الواحد، والرأي الواحد، والعقيدة الواحدة. كما تفسح المذاهب مجالًا واسعًا لدراسة البواعث والمقاصد لدى الباحث نحو البحث والتحليل، وقد لا تبعد كثيرًا عن مقاصد الوحي الأساسية في المحافظة على الحياة ومقوماتها، العقل، والحرية، والتعرف على الحقيقة الثابتة الدائمة، والعيش وَفقًا للطبيعة، واحترام الإنسان وحقوقه، وهي الحقائق الإنسانية العامة التي هي أساس كل وحي. عرَفها الوعي الأوروبي تلقائيًّا واعتمادًا على جهد الإنسان الخاص. تؤكد المذاهب بما لا يدع مجالًا للشك قدرة العقل الإنساني على الوصول إلى الحقائق بجهده الخاص، وتعطي ثقة لا حد لها بالذهن الإنساني في الوصول إلى الحقائق وعلى رؤية صائبة للواقع، ومن ثم ارتبطت الحقيقة بهذا الجهد المتواصل في البحث عنها ورفض الحقائق الجاهزة المسبقة التي لم يتم التصديق بها أو التحقق من صدقها بالعقل أو في الواقع. ومن هنا يأتي قول لِسِنج المشهور: لو وضعوا الحقيقة في يدي اليمنى، والبحث عن الحقيقة في يدي اليسرى لاخترت اليسرى.
ونظرًا لهذا القلق المستمر والبحث الدءوب عن نقطة ثابتة ظهرت رُوح التغير والجِدة. كل مذهب جديد يشبع رغبة حالية. ثم يتطور الواقع وينكشف قصور الفكر فينشأ مذهب جديد ليشبع حاجة جديدة، وهكذا. فبعد تعرية الواقع من كل نظرة متكاملة قد يقدمها الوحي مثلًا كان من الصعب تغطيته من جديد بنظرة إنسانية واحدة وشاملة تلم بجوانب الموضوع كله. فالنظرة الإنسانية بطبيعتها وحيدة الجانب. هذا التغير المستمر وعدم الاستقرار أو البحث الدائب عن الحقيقة أدى إلى كثرة الإنتاج الفكري ووفرة المذاهب التي قد تضيع الحقيقة بينها. فالكل ممكن، والكل صحيح ولكن إلى حد معين. اتسم الإبداع الأوروبي بالإيقاع السريع. كل يوم يظهر جديد لا يستمر أكثر من يوم واحد ثم يصبح باليًا. تتغير مظاهر الحداثة كل عام، عقلية «الموضة». وتتغير أجيال الحاسبات الآلية كل عدة سنوات، وتُخرج المطابع يوميًّا آلاف الابتكارات حتى إنه ليصعب اللَّحاق بها أو معرفتها. لم يعد تراث قديم. ولم تظهر الحاجة إلى الارتباط بالقديم. لم تظهر أمثلة تقول: «اللي فات قديمه تاه» كما هو الحال في وعينا الحضاري، بل كان الوعي الأوروبي أقرب إلى «كل يوم هو في شأن».
خامسًا: الوعي التاريخي
أدت ظروف الوعي الأوروبي من قطيعة معرفية، وتنظير، وفصل بين الواقع والقيمة، وتوالد المذاهب الفلسفية إلى جعله وعيًا تاريخيًّا، وأصبحت هذه الصفة المكتسبة إحدى علامات زهوه وفخره على غيره من الشعوب والحضارات باعتبار أنه هو الوحيد الذي استطاع اكتشاف الزمان الإنساني والتاريخ الإنساني. لقد عرَف القدماء الزمان كعدد للحركة، الزمان المكاني الطبيعي. وعرَف أوغسطين الزمان الإنساني ولكنه كان ذاكرة من ثناياها يتم إثبات وجود الله باعتباره كل الزمان أو الخلود. وعرَفت البروتستانتية اللحظة كما عرَفها ديكارت. وأكد الوجوديون على الزمان كنسيج للوجود وما يتلوه من موت، أي نهاية الزمان. استطاع الوعي الأوروبي إذن نقل الزمان من الخارج إلى الداخل، من الطبيعة إلى الإنسان، وبالتالي اكتشف صراع الحياة والموت، والوجود الزماني.
(١) مراحل الوعي الأوروبي
بالرغم من أن مراحل الوعي الأوروبي أقرب إلى التكوين منها إلى البنية إلا أنها في حقيقة الأمر أقرب إلى نقد وظائف العقل واكتشاف الوعي الأوروبي لذاته من خلال تجليات العقل لملء الفراغ النظري والعملي في العصور الحديثة، كما ظهرت فكرة رُوح العصر للتعبير عن طبيعة المرحلة ونوعية إسهامها. وبصرف النظر عن بدايات الوعي الأوروبي في عصر الإحياء في القرن الرابع عشر، والإصلاح الديني في القرن الخامس عشر، «وعصر النهضة» في القرن السادس عشر فإنه يمكن تحديد أربع مراحل لتطور الوعي الأوروبي في العصور الحديثة. فقد تجلى الجانب العاقل في الوعي الأوروبي في فلسفات أربعة على مدى أربعة قرون متتالية: العقلانية في السابع عشر، والتنوير في الثامن عشر، والعلم في التاسع عشر، وأزمة الإنسان والعلوم الإنسانية في القرن العشرين.
وفي عصر العلم والثورة الصناعية في القرن التاسع عشر بلغت المثالية أوجها في النصف الأول من القرن مزدوِجة بالرومانسية، وبلغت المادية أوجَها في النصف الثاني من القرن مع التطورية الدارونية والماركسية. وبالرغم من اختلاف التيارين إلا أنهما قالا نفس الشيء بلغتين مختلفتين: وحدة الذات والموضوع عند فشته، ووحدة المثال والواقع عند هيجل، ووحدة الرُّوح والطبيعة عند شلنج. وهو يعادل ما قاله دارون من وحدة سلسلة التطور للأحياء، أو ما قاله ماركس من وحدة الطبقة العاملة، أو ما قاله كومت من وحدة المعرفة الإنسانية وهي المعرفة العلمية. وسرعان ما تحول المشروع المعرفي إلى مشروع عملي، وتم الانتقال من العلم إلى الصناعة، ومن تراكم رأس المال الصناعي عند أصحاب رءوس الأموال إلى تراكم البؤس العمالي لدى الطبقة العاملة. وكثرت الاكتشافات العلمية والاختراعات الحديثة، وحلت الآلة تدريجيًّا محل الإنسان في الإنتاج، وظهرت طبقة العمال، وبدأت بذور الثورات الاشتراكية، وبلغ المد الاستعماري أوجَه. فالاستعمار على ما تحلل الماركسية أعلى مرحلة من مراحل الرأسمالية لتجميع رءوس الأموال، ونهب الثروات، واسترقاق العبيد، وفتح الأسواق.
هذه المراحل الأربعة: من العقلانية، إلى التنوير والثورة الاجتماعية، إلى العلم والصناعة، إلى أزمة الوجود، إنما هي مراحل طبيعية تلقائية، كل منها تتولد عن الأخرى تولدًا طبيعيًّا: العقل وامتداده في التنوير، والعلم وامتداده في أزمة الإنسان. وأصبحت هذه المراحل إحدى مميزات الوعي الأوروبي وجوهر تاريخه، يمكن استعماله كنموذج من بين نماذج أخرى في حضارات أخرى، كما يمكن استعماله كقياس مع الفارق وضرب الأمثلة للفهم والتفسير دون الحذو والتقليد، فلكل حضارة وعيها ومسارها. وإذا قيل مرة: لا يمكن حرق المراحل، والقفز فوقها، فإن ذلك يعني هذا المسار الطبيعي التلقائي، العقل شرط التنوير، والتنوير شرط التثوير، والتثوير قبل العلم، والعلم قبل الصناعة، وتغيير المجتمع قبل تغير أنماط الإنتاج، والثورة السياسية قبل الثورة الصناعية. وإن كل من يحاول نقل المجتمعات النامية من مرحلة التراث إلى مرحلة التصنيع فإنه إنما يقفز على مراحل قياسًا على مسار الوعي الأوروبي واعتبارًا بنموذجه وضربًا بالأمثال. إنما التحدي الحقيقي لكل التحديثيين والثوريين هو في اكتشاف مسار الوعي الحضاري، وتحديد في أية مرحلة يعيشها جيل التحديث والثورة حتى لا يقوم بدور جيل مضى فتنشأ الحركة السلفية أو دور جيل آتٍ فتنشأ الحركة العلمانية.
(٢) تراكم الوعي الأوروبي
وبالإضافة إلى هذه المراحل الأربعة عبر القرون حدث تراكم تاريخي بين المذاهب الفلسفية. يبني كل فيلسوف لاحق على فيلسوف سابق إما تطويرًا أو قراءة أو نقدًا أو قلبًا رأسًا على عقب، بل إنه يمكن عمل معادلات يُوضع فيها الفلاسفة في طرفيها لبيان كيفية التراكم على النحو الآتي: ديكارت = أنسيلم + أوغسطين. اسبينوزا = ديكارت + أموري دي بين. كانط = ديكارت + لَيبنتز. فشته = كانط + ديكارت. هيجل = فشته + اسبينوزا. شلنج = كانط + اسبينوزا. هُوسِرل = ديكارت + كانط. شيلر = هُوسِرل + برجسون. مين دي بيران = ديكارت + برجسون. برجسون = أرسطو + أفلوطين … إلخ. وهكذا. ولا يهم التتالي الزماني بقدر ما يهم التراكم المذهبي. ولكي تكون المعادلة أكثر دقة يمكن أن يكون طرفها الثاني ثلاثة مذاهب وليس فقط اثنين. مثلًا: شلنج = كانط + فشته + اسبينوزا.
ويبدو التراكم الفلسفي في كتابات الفلاسفة أنفسهم على غيرهم، كتابة اللاحقين على السابقين شرحًا وقراءة وتطويرًا أو نقدًا وقلبًا وتغييرًا. ويبدأ التراكم ضئيلًا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ويزداد تباعًا في القرنين التاسع عشر والعشرين. في القرن السابع عشر كتب اسبينوزا «مبادئ فلسفة ديكارت» يشرح ويطور أسس المدرسة الديكارتية. ويكاد يكون هو الوحيد الذي كتب عن غيره من معاصريه أو السابقين عليه بقليل. أما كانط فقد كتب عن معاصريه أو السابقين عليه في «تقدم الميتافيزيقا في ألمانيا» أو مراجعته لكتاب هردر عن فلسفة التاريخ، وحديثه عن «تاريخ العقل النظري» في آخر «نقد العقل الخالص». وفي القرن التاسع عشر ازداد التراكم التاريخي بصورة واضحة عند هيجل في الاختلاف بين مذهبي فشته وشلنج ثم في محاضرات في تاريخ الفلسفة وباقي محاضراته في فلسفة التاريخ، وعلم الجمال، وفلسفة الدين. كذلك كتب فيورباخ «نقد فلسفة هيجل» و«تاريخ الفلسفة الحديثة من بيكون حتى اسبينوزا» و«وضع ونقد وتطوير فلسفة لَيبنتز» و«بيير بايل، محاولة في تاريخ الفلسفة والإنسانية». ولأول مرة يظهر تاريخ الفلسفة بعد هيجل، وكأن الوعي الأوروبي بدأ يتحول من مجرد وعي حضاري إلى وعي حضاري تاريخي يجمع بين التيارين الأساسيين العقلاني الممثَّل في لَيبنتز والعقلاني الحسي الممثَّل في بيير بايل صاحب «القاموس الفلسفي». كما كتب ماركس ضد أقرانه من اليسار الهيجلي: شتراوس، فيورباخ، شترنر، باور «العائلة المقدسة»، «الأيديولوجية الألمانية» لينتقل من نقد الفكر إلى نقد المجتمع. كما كتب باور «نفير يوم القيامة ضد هيجل، الملحد والمسيح الدجال، إنذار» لإحداث تراكم عكسي، أي قلب العملة على وجهها الآخر حتى تكتمل الصورة، جدل العقل وجدل الواقع وجدل الشعور. وقد حدث التراكم التاريخي في التيار الحسي التجريبي، خاصة عند جون ستيوارت مِل بدراسته عن بِنتام، وكولريدج، وأوجست كومت والوضعية.
وقد ازداد التراكم التاريخي في القرن العشرين في كل الاتجاهات العقلية والتجريبية والوجودية والماركسية. ففي التيار العقلاني ظهر التراكم عند ليون برنشفيج في دراستيه عن «بسكال»، ونشره للأعمال الكاملة له وللأفكار، ودراسته المقارنة بين ديكارت وبسكال، والقراءات المختلفة لمونتاني، ودراسته عن اسبينوزا ومعاصريه. وقد خصص الجزء الأول من كتاباته الفلسفية لديكارت واسبينوزا وكانط. وهنا يعود الوعي الأوروبي إلى بداياته في عقلانية القرنين السابع والثامن عشر، إلى المحطتين الأولى والثانية، ديكارت وكانط، عود على بدأ. ويكشف برنشفيج عن وجود تقدم في الوعي الأوروبي من خلال تاريخ الفلسفة، وذلك في كتابه الرائد «تقدم الوعي في الفلسفة الغربية»، وهو من أوائل الذين أدركوا أن هناك شيئًا اسمه «الرُّوح الأوروبي» كما بين ذلك في كتابه المعنون بهذا الاسم. ويكشف تطور الوعي الأوروبي عن ذاته ليس فقط في الفلسفة بل أيضًا في الرياضيات وهي فلسفة الفلسفة، وكما بين ذلك في كتابه «مراحل الفلسفة الرياضية» وكذلك في «أعمار العقل».
وفي الاتجاه التجريبي حدث التراكم التاريخي عند رَسِل في كتابه الضخم «تاريخ الفلسفة الغربية» وفي جزأيه الآخرين «حكمة الغرب»، وكأن الوعي الأوروبي بدأ يرصد مساره، ويعي شرط حياته. مع أنه كان قد بدأ حياته بالحوار مع التيار العقلاني في «فلسفة لَيبنتز» والذي تلته المرحلة الرياضية في «مبادئ الرياضيات». وتبعه في ذلك آير في كتابه عن «هيوم»، وكتابه الآخر عن «رَسِل»، رابطًا بي بداية التيار ونهايته. ولكن يبدو أن التراكم المثالي العقلاني كان أضخم وأقوى من التراكم الحسي التجريبي.
ثم ازداد التراكم بشكل ملحوظ في تيارات الفلسفة المعاصرة التي أرادت شق طريق ثالث بين التيارين الرئيسيين في الوعي الأوروبي العقلانية والتجريبية مثل الظاهراتية، والوجودية، والبرجسونية والبرجماتية، وماركسية القرن العشرين … إلخ. ففي الظاهراتية ربط هُوسِرل في نهاية الوعي نفسه بديكارت في بدايته في «تأملات ديكارتية»، وأرخ للوعي كله في رائعته «أزمة العلوم الأوروبية»، كما أرخ لباقي العلوم الإنسانية مثل الفلسفة الأولى في «الفلسفة الأولى»، ولعلم النفس في «علم النفس الظاهرياتي». وفي الوجودية الظاهراتية كتب هَيدجر عن «كانط ومشكلة الميتافيزيقا» وعن شلنج شارحًا رسالته عن الحرية الإنسانية، وعن «نيتشه» مبينًا انتقال الوعي الأوروبي من الحساسية الترنسندنتالية إلى الوجودية، ومن إرادة القوة إلى تحليل أبعاد الوجود الإنساني. كما ربط ياسبرز نفسه بنيتشه مرتين في «نيتشه» ثم في «نيتشه والمسيحية» ليبين نكوص الوعي الأوروبي على عقبيه من نقد الدين إلى تبرير الدين من جديد كما كان الحال في بداية الوعي عند ديكارت. ولكنه استعرض تطور الوعي الأوروبي في صورة أسماء أعلام في «الفلاسفة الكبار» مما يكشف عن مدى ارتباط المذاهب الفلسفية بأسماء أصحابها. كما كتب جابريِل مارسيل عن معاصره جوزايا رويس «ميتافيزيقا رويس» تقوية للوجودية المؤمنة الفرنسية والأمريكية. وقد قارن ريكور بين ياسبرز ومارسيل في كتابه «جابريِل مارسيل وكارل ياسبرز» تقوية للصلة بين الوجودية المؤمنة الفرنسية والألمانية. ثم كتب جوليان مارياس «تاريخ الفلسفة» لعمل شريط كامل لتاريخ الفلسفة الغربية معلنًا بداية النهاية.
وفي بعض فلسفات الحياة حدث نفس التراكم الفلسفي، فقد كتب برجسون عن أينشتين «الديمومة والمعية» محاورًا إياه من أجل التمييز بين الزمان والمكان، كما كتب عن هوايتهد ووليم جيمس ورافيسون مطورًا فلسفة الحياة باعتبارها إحدى الاختيارات الأخيرة في الوعي الأوروبي. كما كتب جاك شيفالييه تلميذ برجسون عن «ديكارت» من أجل ربط النهاية بالبداية. وألف بلوندل عن أستاذه «أوليه لابرون» من أجل تدعيم فلسفة الحياة. وكتب وليم جيمس عن «رالف بارتون بيري» مقارنًا بين البرجماتية والواقعية الجديدة كبديلين معاصرين لأزمة الثنائية الأوروبية بين العقلانية والتجريبية. وكتب دِلتاي عن شلايرماخر «حياة شلايرماخر وأعماله» تدعيمًا لفلسفة الحياة والهرمنيوطيقا التي تكشف عن عَود الرُّوح إلى ذاته من خلال القراءة. كذلك كتب فوييه عن «جويو» مشاركة في نفس التيار، فلسفة الحياة، والأفكار-القوة. كما نقد ماركوز ممارسات الماركسية السوفيتية مبينًا عدم تطابق النظر والعمل. كما حاول كُورْش من خلال مدرسة فرانكفورت بيان الصلة بين الماركسية والفلسفة في «الماركسية والفلسفة» من خلال ماركس الشاب، ومحاولة صياغة الماركسية في عدة مبادئ عامة وليس فقط كتحليل للمجتمع ولأنماط الإنتاج، ومقدمًا لقراءة رأس المال كما فعل ألتوسير، ومحولًا الماركسية إلى اختيار وجودي. كذلك حاول فروم من خلال مدرسة فرانكفورت أيضًا بحث تصور ماركس للإنسان في «تصور ماركس للإنسان» مزاوجًا بينه وبين فرويد في «رسالة فرويد».
وظهر التراكم الفلسفي في الوعي الأوروبي أخيرًا في ماركسية القرن العشرين. فقد كتب لوكاتش عن «جوته وعصره» مبينًا أهمية تطبيق المنهج الماركسي في الأدب وليس فقط في الاقتصاد. كما أرخ لمبحث الأُنطولوجيا في ثلاثة أجزاء: الأول «ماركس»، والثاني «هيجل»، والثالث «العمل»، مبينًا أن الماركسية أساسًا مبحث في الأُنطولوجيا. وهو ما بينه من قبل في «ماركس الشاب». كما حاول ألتوسير الانتقال من الماركسية الدارونية إلى الماركسية البنيوية في «دفاعًا عن ماركس»، قراءة رأس المال»، «لينين والفلسفة» عائدًا بالماركسية إلى نشأة العلوم السياسية، ومعطيًا الأولوية للقانون والسياسة وليس للاقتصاد، كما بين ذلك في «مونتسكيو، السياسة، والتاريخ». وأخيرًا حاول جورج نوفاك بيان منطق للماركسية في «منطق الماركسية» مركِّزًا على أهمية المنهج الجدلي باعتباره منطقًا، ومقارنًا بينه وبين المنطق الصوري الأرسطي. كما استعاد سيدني هوك والماركسية الليبرالية ماركس الشاب ووضَعه من جديد في إطار اليسار الهيجلي في «من هيجل إلى ماركس». فماركسية القرن العشرين مراجعة لماركسية القرن التاسع عشر وتخليص لها من إطارها الدارويني، ونقلها على مستوى الظاهريات والوجودية والبنيوية وعلم التحليل النفسي وسائر فلسفات القرن العشرين.
وبالإضافة إلى حدوث هذا التراكم التاريخي من خلال تناول فيلسوف لاحق لفيلسوف سابق حتى ينشأ تيار فلسفي، حدث تراكم تاريخي آخر يأخذ هذه التيارات في الاعتبار ويحقِّبها، ويميز بين مراحلها، ليس فقط داخل الوعي الأوروبي بل وخارجه أيضًا، باعتبار أن الوعي الأوروبي هو آخر حلقة من تطور الوعي البشري كله. وتأسس علم جديد هو فلسفة التاريخ لرصد مسار هذا التراكم داخل الوعي الأوروبي وخارجه.
لقد بدأ الوعي الأوروبي في بدايته فرديًّا في عصر النهضة، وبدأ التراكم فيه بطيئًا في القرن السابع عشر. فالذي يحرك التاريخ مثلًا عند ميكيافيللي هي العبقرية، الفردية، عبقرية الأمير. ثم سار الوعي الأوروبي في مسار إنساني خالص، معتمدًا على ذاته، وبجهده الخاص، وهو الدرس المستفاد من عصر النهضة بالرغم من محاولات البعض مثل بوسويه وبسكال الدفاع عن تدخل الإرادة الإلهية في التاريخ. وقد بدأ التحول عند هردر ولورُوي بتحويل الإرادة الإلهية إلى قانون للتاريخ، والعناية الإلهية إلى غائية فيه. وقد كان مقياس التقدم في الوعي الأوروبي هو مُثُل التنوير، الإنسان والعقل والحرية والعلم والطبيعة والتقدم والديمقراطية والعدالة والمساواة. فالغرب عند بودان هو الذي ابتدع فنون الحرب والمهارات اليدوية، أي التصنيع. وهو موطن الحرية والديمقراطية عند فولتير، والعَقد الاجتماعي عند روسو، وهو المرحلة الإنسانية الأخيرة عند فيكو، والمرحلة التجريبية عند تورجو، والمرحلة العلمية الوضعية عند كومت، ومرحلة الجمع بين النهائي واللانهائي عند كوزان، ومرحلة الفن عند نيتشه. وقد جمعها وجعلها فشته أساس تحقيبه الخماسي: مرحلتان للتقدم الأعمى ومرحلتان للتقدم الحر، ومرحلة متوسطة بينهما: من العقل الغريزي والعقل التسلطي إلى العقل الواعي وهو العلم، والعقل المهيمن وهو الفن، وما بينهما عملية التحرر وهي ما زالت في إطار الشك والحرية غير المنظمة.
وقد غلب التصور الحيوي على فلسفات التاريخ وتشبيه مسار التاريخ ومراحله بعمر الإنسان وأطواره مما يدل على أن الوعي الأوروبي وعي تاريخي صرف له بداية وتطور واكتمال ونهاية، وليس الوعي الخالد الأبدي الباقي على مر العصور والأزمان. وقد وضح ذلك عند لاموته في القرن السابع عشر، فالتاريخ لديه مثل الإنسان كلاهما له عمر، يتطور من الطفولة والشباب إلى مرحلة النضج حتى الكهولة والفناء. وتابعه في ذلك خوري سان بيير، إذ يتقدم الوعي البشري من العصر الحديدي في أفريقيا وأمريكا حيث طفولة البشرية التي يسودها الفقر والجهل إلى العصر البرونزي عصر النضج والشباب إلى العصر الذهبي، عصر الكهولة ثم تنتهي الدورة. فأطوار الإنسان مثل أحقاب التاريخ، إنما الخلاف في المدة الزمنية، عام من الإنسان يعادل مائة عام من التاريخ. وإذا كان الإنسان في نهاية العمر يخبو فالإنسانية على العكس من ذلك تزدهر في نهاية الأطوار. وهي نفس الحجة التي اتبعها ابن سينا من قبل لإثبات خلود النفس. ففي نهاية العمر، مسار البدن يخبو ويخفت ومسار النفس ينمو ويزدهر. كذلك يحدد هردر مسار التقدم في أربع مراحل: من الطفولة إلى الشباب إلى الرجولة إلى الكهولة ثم تبدأ الدورة من جديد. كما يسير التقدم عند لسنج من مرحلة الطفولة وهي مرحلة العهد القديم إلى مرحلة المراهقة والصبا وهي مرحلة العهد الجديد والمسيحية إلى مرحلة الرجولة والنضج وهي مرحلة التنوير وإعلان استقلال الإنسان عقلًا وإرادة.
ولما كان مسار التاريخ يتحقق في دورات حيوية فإن الدورة تتضمن خطين: تقدم ونكوص. فإذا كان الوعي الأوروبي في البداية فإن خط التقدم يكون أبرز من خط النكوص وأطول لأن الدورة الثانية سرعان ما تبدأ من جديد. فعند بودان بعد الدورة الأولى تسقط الإنسانية ولكنها تنهض من جديد، فالنهوض أقوى من السقوط لأن الوعي الأوروبي ما زال شابًّا في بدايته، وقد يتوازن التقدم والنكوص ويتعادلان. وعند لاموته بدأت دورة جديدة منذ عصر النهضة وديكارت حتى عصر التنوير، وما زالت مرحلة الفناء قادمة، فكان من أوائل الذين تصوروا بداية النهاية في الوعي الأوروبي. وقد يرجح النكوص على التقدم كما هو الحال لدى خوري سان بيير وتصوره التاريخ سقوطًا من العصر الذهبي طبقًا لعقيدة السقوط المسيحية والطرد والحرمان. وإذا كانت البداية سقوطًا والتقدم وسطًا فإن النهاية تكون سقوطًا كذلك. وعند فيكو تسقط البشرية بعد دورتها الأولى بسبب الترف وحب المال والأنانيَّة، وتبدأ دورة ثانية بعد أن تكون قد اكتسبت تقدمًا من خبرتها السابقة، فالدورة الثانية لا تبدأ من الصفر. ولكن يبلغ السقوط قمته عند روسو، فالتقدم لديه يسير القهقري، من حالة الطبيعة حيث البراءة والحرية والمساواة إلى حالة المدنية حيث الصراع والقهر والنزاع، فكان أول الناعِين صراحة مسار الحضارة الأوروبية لذاتها في قمة عصر التنوير.
وفي القرن العشرين لم تعد فلسفات التاريخ تهتم بالتحقيب بل بالدلالة الأخيرة لفلسفة التاريخ وبلورة مفهوم الوعي التاريخي كما هو الحال عند دِلتاي، أو «نقد العقل الجدلي» كما هو الحال عند سارتر، أو بالحديث عن محركات التاريخ ودوراته مع تلمس نهاية دورة حالية في أزمة العصر كما هو الحال عند توينبي، أو بالحديث عن أزمة العصر كما فعل هُوسِرل في «أزمة العلوم الأوروبية»، أو بيان السقوط النهائي كما فعل اشبنجلر في «سقوط الغرب».
سادسًا: البنية والتاريخ
(١) تاريخ البنية
بعد هذا التطور الكمي التراكمي للوعي الأوروبي يتكشف بناء خاص ينشأ في البداية ويكتمل في النهاية. وتتحول أبعاد هذا البناء إلى مقاصد أو بواعث أو اتجاهات في مسار الوعي الأوروبي حتى يصعب بعدها التمييز بين البناء والمسار، بين الرؤية وتحققها في التاريخ. وقد اكتسب الوعي الأوروبي هذه البنية عبر مساره منذ مصادره الأولى حتى بدايته وتطوره ونهايته.
ففي مرحلة المصادر؛ المصدر اليوناني الروماني، والمصدر اليهودي المسيحي، والبيئة الأوروبية نفسها، تبدأ البنية الثلاثية في الظهور ثم في التشعيب، كل مصدر يأخذ مكانه في أول السباق الثلاثي الحارات. يمثل المصدر اليوناني الروماني التيار الصاعد إلى أعلى نظرًا لما يحتله من قوة على التنظير والصورية في المنظور. ويمثل المصدر اليهودي المسيحي التيار المستقيم الذي ينبثق من داخل الإيمان، من البعد الباطني الذي سيتحول فيما بعد إلى الذاتية الترنسندنتالية. وتمثل البيئة الأوروبية نفسها التيار النازل أي الواقع التجريبي الذي أخذ يشد الوعي الأوروبي نحوها بعيدًا عن المصدرين الآخرين، واقتضى المذهب الحسي التجريبي وتحولاته الوضعية كغطاء نظري له. فالمصادر الثلاثة انتظمت في بنية ثلاثية منذ البداية وكأنها تمهد الطريق وتعبِّده لتاريخ ثلاثي للبنية.
وكان المصدر اليوناني ثلاثي البنية كذلك، ظهرت في المذاهب الفلسفية الكبرى في الحضارة اليونانية. فكان أفلاطون يمثل الخط الصاعد، وبالتالي أصبح هو رصيد العقلانية الأوروبية بعد نشأة الوعي الأوروبي في البداية. فبقاء الصورة المفارقة المستقلة عن المادة مثل القبلي المستقل عن البعدي والسابق عليه في الفلسفة النقدية. لذلك كان كانط أفلاطون العصر الحديث. وكان سقراط يمثل البعد الإيماني الداخلي الباطني اليهودي المسيحي. لذلك اتحد بالمسيح في عصر آباء الكنيسة وسُمي «القديس سقراط»، كما سُمي المسيح المعلم. وكان حوار سقراط مع السوفسطائيين مثل حوار المسيح مع الفريسيين والصدوقين والكتبة والرؤساء والكهنة. وكان أرسطو يمثل الخط النازل أي البيئة الأوروبية نفسها، الواقع الحسي التجريبي، لذلك كان الوعي الأوروبي أرسطيًّا بطبعه وبمتطلبات واقعه، وأصبح المذهب التجريبي والمنهج العلمي أهم ما يفخر به الوعي الأوروبي.
أما المصدر الروماني فكان تحولًا طبيعيًّا وتكرارًا للبنية اليونانية الثلاثية مع اختلال في التوازن بين الأبعاد الثلاثة نظرًا لطغيان المزاج الأوروبي والواقع الأوروبي وعصر الفتوح ورُوح الإمبراطورية عليه، فقلَّت الأفلاطونية، ولكن ازدهرت السقراطية في الرواقية الرومانية عند سنيكا وماركوس أورليوس. ثم ازدهرت الأرسطية من خلال الشُّكَّاك الرومان، وأتباع بيرون، وسكتوس أمبريقوس ومن خلال الأبيقورية. واستمر ذلك حتى بداية الشك الحديث عند مونتاني في القرن السادس عشر والحسية التجريبية الإنجليزية في القرنين السابع عشر والثامن عشر.
وقد استمرت هذه التيارات الثلاثة عبر العصر الوسيط بفترتيه عصر آباء الكنيسة والعصر المدرسي. فاستمر التيار الصاعد، الأفلاطونية، عند آباء الكنيسة اليونان واللاتين الأفلاطونيين المحدثين. وبلغ الذروة لدى القديس أوغسطين. واستمر التيار الإيماني القبلي الباطني الإنساني عند حركات الهرطقة الأولى وكل تيارات المعارضة، المفكرين الأحرار قبل الأوان مثل آريوس وسلسوس، والثوريين السابقين لعصرهم مثل دوناتوس. وظهر التيار الأرسطي الثالث متأخرًا ابتداءً من بويثيوس شارح أرسطو الأول في نهاية العصر القديم. وفي العصر المدرسي استمرت التيارات الثلاثة: الأفلاطونية عند يوحنا سكوت إريوجينا في القرن التاسع، والأفلاطونية الإشراقية الأوغسطينية عند القديس أنسيلم في القرن الحادي عشر وعند مدرسة شارتر والتصوف التأملي والقديس بونافنتورا في القرن الثالث عشر. أما التيار الباطني فقد مثَّله بدايات الفكر الحر والسقراطية الجديدة عند بعض الجدليين في القرن الحادي عشر وأبيلار في القرن الثاني عشر. أما التيار الأرسطي الثالث فبلغ الذروة بطبيعة الحال عند توما الأكويني في الثالث عشر وفي الأُنطولوجيا التجريبية ونشأة العلم الطبيعي في القرن الرابع عشر، عند دانز سكوت ووليم أوكام وروجر بيكون.
وفي بداية الوعي الأوروبي ظهرت البنية الثلاثية من جديد. ظهرت العقلانية الممثلة في الأفلاطونية في مرحلة المصادر عند ديكارت «أنا أفكر فأنا إذن موجود»، وعند الديكارتية بجناحيها النسبي عند مالبرانش ولَيبنتز، والجذري عند اسبينوزا، والمستقلة عند بسكال ونيقول ومدرسة بور رويال. ولما كان هذا التيار يثبت خطأ الحواس، ويحول العالم إلى حركة وامتداد أصبح يمثل خطًّا إلى أعلى، وينتهي إلى الصورية الرياضية، الفك الأعلى في فم الوعي الأوروبي المفتوح. كان يحاول إنقاذ الإيمان العقلي أو العقل الإيماني بعيدًا عن التأليه والتجسيم والتشبيه مثبتًا نظرية في الذات والصفات والأفعال وكأنها اكتشاف متأخر للاعتزال بعد سبعمائة عام أو يزيد، وتحول من أشعرية العصور الوسطى عند توما الأكويني. كان تيارًا متطهرًا، مستنكفًا من العالم، رافضًا التلوث به. فالمادة ليس بها فكر. ما لقيصر لقيصر، أي المادة للعالم والبدن للإنسان، وما لله لله أي الفكر للعقل والنفس للإنسان أيضًا، وتلك هي الثنائية الديكارتية المشهورة، ثنائية الفكر والمادة، النفس والبدن، الصورية والمادية، المثالية والواقعية، الله والعالم، الله وقيصر. ولكنها في الحقيقة أعطت ما لقيصر لله، وما لله لله. أعطت كل شيء إلى الله، وردت البدن إلى النفس، والعالم إلى الله، والمادة إلى الفكر. فكان لا بد من أن تحدث الثورة عليها طبقًا لقانون الفعل ورد الفعل.
وقد حاول كانط في الفلسفة النقدية أن يقفل هذا الفم المفتوح، وأن يعيد التوازن إلى الوعي الأوروبي وأن يجمع بين الله والعالم، النفس والبدن، الفكر والواقع، العقل والحس، ديكارت وبيكون، لَيبنتز ولوك، قطعية فولف وشك هيوم. ولكنه وحد بينهما عن طريق التجاور وسيطرة الأعلى على الأدنى، وشرطه له. العقل يبدأ بالحس ويستقل عنه. لذلك كانت الصلة بينهما صلة الصورة بالمضمون، التصورات بلا حدوس فارغة والحدوس بلا تصورات عمياء، صلة خارجية آلية، يتجاور فيها الطرفان ويتماسان. أراد أن يجمع بين أفلاطون وأرسطو، الرواقية والأبيقورية، اليونانية والرومانية، المسيحية واليهودية، الله وقيصر، ولكن كطبقتين، إحداهما فوق الأخرى برُوح التطهر والتقوى الباطنية. وظهر لأول مرة التركيب الثلاثي وسط الثنائية الأولى: الحس والذهن والعقل، الصورة والمقولات والمُثُل. «وُلد كانط في لندن وعاش في برلين، وتُوفي في روما». كان الهدف حل الثنائية في بداية الوعي الأوروبي، كيف يكون الحكم القبلي التركيبي ممكنًا؟ ولكنه انتهى إلى ثلاثية التساؤل: ماذا يجب عليَّ أن أعرف؟ ماذا يجب عليَّ أن أعمل؟ ماذا يجب عليَّ أن آمل؟ ولم ينجح التوحيد الخارجي الآلي الثابت. وظلت العَلاقة بين الطرفين عَلاقة الحاكم بالمحكوم، والآمر بالمأمور، والشارط بالمشروط. كان التوحيد مجرد نية صادقة، والأعمال بالنيات، ولكن النتيجة كانت ثلاثية النقد، وثلاثية العقل، وثلاثية التصور. ظل التوحيد في التقوى الباطنية، إيمان صادق وعمل صالح، ولكنه لم يستطع حل الأشكال المعرفي، ثنائية العصر الحديث. لم يستطع كانط بمشروعه العملي حل الإشكال النظري. وعندما اقترح الغائية والجمال في «نقد ملكة الحكم» كحل لثنائية العقلين النظري والعملي، أي حل ثنائية المعرفة والأخلاق في الدين والجمال، أتى الحل الثالث ثنائيًّا في حاجة إلى توحيد جديد بين الحكم الغائي والحكم الجمالي.
ومع ذلك فإن أقرب الاختبارات، لو كنت أوروبيًّا، هو التحول من المشروع المعرفي في الفلسفة الحديثة في القرنين السابع عشر والثامن عشر إلى المشروع العملي في الفلسفة المعاصرة في القرنين التاسع عشر والعشرين، مرحلة اليسار الهيجلي الذي قام بنقد الدين، شتراوس، ونقد المثالية، فيورباخ، ونقد الأيديولوجيا، باور وشترنر، ونقد المجتمع، كارل ماركس، وهي المرحلة التي قامت فيها الثورة الليبرالية بعد الثورة الفرنسية بنصف قرن، ثورة ١٨٤٨م، مرحلة ماركس الشاب، والمخطوطات الاقتصادية الفلسفية. وبعد أن أقوم بتطهير الفكر ونقد الواقع، أكون ماركسيًّا، ليس داروينيًّا بالضرورة، بل ماركسي جديد، يأخذ في الاعتبار الإنجازات الفلسفية في القرن العشرين. وأقربها مدرس فرانكفورت، النظرية النقدية، ماركسية البناء الفوقي، والتنظير المباشر للواقع وقت هزيمة الليبرالية وصعود النازية والفاشيَّة، وقيام الثورة الاشتراكية. إن الطريق الثالث الذي حاولته الفلسفة المعاصرة، خاصة الظاهريات والوجودية الظاهراتية، وفلسفات الحياة، والشخصانية، والتوماوية الجديدة والواقعية الجديدة، والبرجسونية … إلخ، أمكن احتواؤه إما في الفلسفات المثالية كرد فعل على أزمة الوعي الأوروبي، أو في الإيمان الديني التقليدي كرد فعل على عجز المثالية عن تغيير واقع الأزمة. ولم يتجاوز في مشروعه العملي النقد الليبرالي للمجتمع البرجوازي، وبالتالي تظل الماركسية الجديدة، ماركسية القرن العشرين التي استطاعت العودة إلى اليسار الهيجلي وماركس الشاب، هي قطب الجذب الأول في الوعي الأوروبي ما دامت الإبداعات الجديدة للأجيال الجديدة لم تتجاوز الثقافة المضادة كأحد شواهد العصر.
(٢) بنية التاريخ
والعَلاقة بينهما عَلاقة تصادم وتعارض وتضاد: فالصراع بين الدين والعلم مشهور في تاريخ الوعي الأوروبي. كان الدين ضد العلم في البداية ثم أصبح العلم ضد الدين بعد انتصار العلم وتقهقر الدين حتى النهاية. كذلك نشأ الصراع بين الدين والفلسفة، خاصة في مرحلة المصادر في العصور الوسطى ثم في عصر التنوير. وتم تكفير المفكرين الأحرار عبر التاريخ حتى انتصر الفكر الحر على المسلَّمات والعقائد والمؤسسات الدينية. وفي هذا الصراع كانت الفلسفة، أي البعد المستقيم بين التيار الصاعد وهو الدين والتيار النازل وهو العلم، هي التي تحمل لواء الفكر الحر لصالح الدين والعلم على حد سواء. وما زال هذا التقسيم واردًا حتى الآن، تقسيم عمل، وتوزيع اختصاصات، ومصالحة تاريخية بعد الحرب الشعواء التي سقط دونها الشهداء منذ «الهراطقة» الأوائل حتى المفكرين الأحرار في العصر المدرسي وعلماء عصر النهضة وفلاسفة التنوير، حرقًا أو سجنًا. ومهما كانت هناك من محاولات للقيام بعلوم ربط بين هذه التخصصات الثلاثة مثل فلسفة الدين للربط بين الدين والفلسفة، أو اللاهوت العلمي كأحد فروع اللاهوت، أو العلم اللاهوتي كما هو الحال عند تِيَّار دو شاردان للربط بين الدين والعلم، إلا أن التمايز ظل قائمًا بين هذه الرؤى الثلاثة نظرًا لطول الخصام والصراع بينها. وقد تحول الأمر من مجرد رؤًى بنيوية في الوعي الأوروبي إلى عقليات متمايزة داخله. فهذا صاحب عقلية علمية، وهذا يتميز برُوح فلسفية، وثالث له عقلية دينية. ففي موضوع نشأة العالم إذا قبِل الله فهو متدين، وإن قبِل قِدم العالم فهو فيلسوف، وإن قبِل السديم فهو عالم، وهكذا في سائر الموضوعات.

كان الوعي الأوروبي في عصوره الحديثة في البداية في «الأنا أفكر» حتى النهاية في «الأنا موجود» قد مر بفترتين كبيرتين: الأولى الفلسفة الحديثة الممتدة حول الأنا أفكر حيث قدم الوعي الأوروبي أولًا مشروعه المعرفي القائم على العقل بصرف النظر عن الخلاف حول تفسيره ونشأته بين المدرستين العقلية والتجريبية، والثانية الفلسفة المعاصرة الممتدة حول «الأنا موجود» والتي قدم فيها الوعي الأوروبي أولًا مشروعه السياسي القائم على ثورة الجماهير، وتأسيس الدولة الوطنية الحديثة بعد عصر الإمبراطوريات. الأولى امتدت في القرنين السابع عشر والثامن عشر. والثانية استغرقت القرنين التاسع عشر والعشرين. وكان التحول من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية في نهاية القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر، فترة فشته وهيجل والرومانسية التي بلغ فيها الوعي الأوروبي الذروة. ولا يوجد تواصل طبيعي بين الفترتين بل تحول جذري أو انقلاب، من العقل إلى العاطفة، ومن المعقول إلى اللامعقول، ومن الماهية إلى الوجود، ومن الفرد إلى المجتمع، ومن التفاؤل إلى التشاؤم، ومن التقدم إلى النكوص، ومن البداية إلى النهاية. كان معظم فلاسفة الفترة الأولى رياضيين، وكان معظم فلاسفة الفترة الثانية بيولوجيين، علماء أحياء أو فنانين. فالوعي الأوروبي هذا، بالإضافة إلى بنيته الثلاثية: الدين والعلم والفلسفة، انقسم على نفسه وأصبحت له واجهتان مثل واجهتَي القمر، الأولى منيرة في البداية والأخرى مظلمة حتى النهاية. ولو سألنا: ما جوهر الوعي الأوروبي؟ لكانت الإجابة: أي مرحلة، الأولى أم الثانية؟ فالجوهر مختلف، هناك جوهران للوعي الأوروبي، واجهتان متباينتان لقمر واحد، ويتحدد الجوهر طبقًا لوضع الرائي ومكانه في الفترة الأولى أم الثانية. فإذا كان الوعي الأوروبي في بنيته تثليثًا فإنه في تاريخيته ثنائيٌّ مانويٌّ. وفي كلتا الحالتين فقد وحدته وتوازنه.
Science, Technology and Spiritual Values, Possible models and future options. Science, Technology and spiritual Values: An Asian Approach to Modernization pp. 23–32, Tokyo 1987.
Martin Bernal: Black Athena, The Afroasiatic roots of classical civilization vol. I, Rutgers Uni. Press, New Brunswick, New Jersey 1987.