مصير الوعي الأوروبي
أولًا: جدل الأنا والآخر
إن جدل الأنا والآخر هو الصراع بين الجديد والقديم على مستوى الحضارات وفي مسار التاريخ، يحدث عند كل شعب، وعلى مستوى الدوائر الحضارية الكبرى. فإذا كان الغرب هو الأنا فإن الشرق بالنسبة إليه هو الآخر. والعكس بالعكس، إذا كان الشرق هو الأنا فالغرب هو الآخر بالنسبة إليه. وإذا كان العالم الثالث هو الأنا كان الشرق والغرب على السواء هما الآخر بالنسبة له. وإذا كان الشرق والغرب، أي العالم المتقدم المتنافس ذو النظامين المختلفين: الاشتراكية والرأسمالية، هو الأنا فإن شعوب العالم الثالث التي تودُّ كل كتلة جذبها إليها هو الآخر. وإذا كانت اليابان هي الأنا فإن الآخر بالنسبة إليها هو الغرب كآخَر منافس، أو الصين كآخَر تاريخي، أو الاتحاد السوفيتي كآخَر استثماري، أو سواحل شرق آسيا كمجال حيوي، أو العالم كله كمصادر للمواد الأولية وكأسواق للاستهلاك. إذن يتحدد الآخر طبقًا لحاجات الأنا. وإذا كانت الصين هي الأنا فإن الاتحاد السوفيتي هو الآخر الغريم، الإخوة الأعداء، والغرب هو الآخر الحضاري الذي يمكن الحوار معه. ولكن بالنسبة إلى شعوب العالم الثالث في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، يظل الآخر بالنسبة لها هو الغرب، فالأنا هي حضارات الأطراف، والآخر هو حضارة المركز. وبالنسبة لنا، في قلب العالم العربي والإسلامي فإن الآخر بالنسبة لنا على وجه التحديد هو الغرب. وبالرغم من انتشار الإسلام أولًا شرقًا إلا أنه منذ عصر الترجمة الأول عن اليونان في القرن الثاني الهجري ارتبطت الحضارة الإسلامية الناشئة بالغرب. واستمر الأمر كذلك عبر التجارة سلمًا بين الدول الإسلامية وإمبراطورية شارلمان ثم عصر الحروب الصليبية حربًا ابتداءً من القرن الخامس الهجري على مدى مائتي عام في الحملات الصليبية المتتالية. أما هجمات الشرق، التتار والمغول، فقد أتت للحرب، ورجعت بالحضارة، واستقرت سلمًا، تشارك في صنعها. وإبان الاستعمار الحديث قوي الآخر في وعي الأنا، وتأكد عبر التاريخ أكثر من مرة أن الآخر هو الغرب. وقد زاد في ذلك أيضًا الموقع الجغرافي، حوض البحر الأبيض المتوسط والقرب الجغرافي بين الشاطئ الجنوبي والشاطئ الشمالي. ففي الوقت الذي يقوى فيه الشاطئ الجنوبي ويضعف الشاطئ الشمالي، كما كان الحال إبان الفترة الإسلامية الأولى، كنا نحن الآخر بالنسبة إلى الغرب، وفي الوقت الذي يقوى فيه الشاطئ الشمالي ويضعف فيه الشاطئ الجنوبي، كما كان الحال إبان الاستعمار الحديث وقبيل عصر التحرر، يصبح الآخر هو الغرب بالنسبة لنا. فالأمر هو ميزان القوى بين الشاطئين. ولما كان الغرب الحضاري ما زال يمثل التحدي بالنسبة لنا من حيث الإبداع الذاتي كان جدل الأنا والآخر في جيلنا ومنذ عدة أجيال وربما لأجيال أخرى قادمة هي صلة الحضارة الإسلامية الناشئة في طورها الجديد وفي فترتها الثالثة من القرن الخامس عشر الهجري حتى القرن الواحد والعشرين بالحضارة الأوروبية الآفلة في فترتها الرابعة من القرن الواحد والعشرين الميلادي حتى القرن الثامن والعشرين.
(١) مسار الأنا
ويمكن تمثل مسار الأنا بخط بياني يكشف مراحل ثلاثة، كل منها سبعمائة عام، انتهت اثنتان وبدأت الثالثة على التو: الأولى من القرن الأول حتى القرن السابع، وتنتهي بابن خلدون الذي أرخ لها. والثانية من القرن الثامن حتى الرابع عشر والتي انتهت بعصر التحرر من الاستعمار. والثالثة التي بدأت منذ عشر سنوات من القرن الخامس عشر حتى القرن الواحد والعشرين والتي ستشاهد العصر الذهبي الثاني للحضارة الإسلامية على النحو الآتي:

نقطة البداية في المرحلة الأولى ظهور الإسلام وبداية الحضارة الإسلامية، ثم تطورها إبداعًا للعلوم الإسلامية في القرنين الأول والثاني، ثم بعد عصر الترجمة في القرن الثاني ظهور علوم الحكمة ابتداءً من القرن الثالث، ثم بلغت العلوم الإسلامية كلها الذروة في في القرنين الرابع والخامس، في التعددية والعقلانية والعلمية. ثم بدأت النهاية بقضاء الغزالي على العلوم العقلية في نهاية القرن الخامس، وبداية توقف العلوم في القرنين السادس والسابع بالرغم من محاولة ابن رشد. ثم ظهر ابن خلدون في نهاية المرحلة الأولى ليؤرخ لها: كيف قامت الحضارة الإسلامية ولماذا انهارت؟ وبالتالي ظهر الوعي التاريخي في نهاية الدورة الأولى.
وفي المرحلة الثانية توقف العقل عن الإبداع، وبدأت الذاكرة في الحفظ، وتم تسجيل العلوم القديمة كلها في موسوعات كبرى. كما بدأت عملية الاجترار، عن طريق الشروح والملخصات والتخريجات مع إضافات جزئية لُغوية أو فقهية أو صوفية أو أصولية أو حِكمية دون رؤية كلية أو استئناف للعلوم بعد أن اكتملت أبنيتها منذ القرن الخامس، وترسخت في القرنين السادس والسابع. استعارت العلوم بعضها من بعض لإيجاد مادة جديدة للشرح، فشُرح التصوف بالفقه، والكلام بالفلسفة، وشُرحت العلوم العقلية بالعلوم النقلية. فإذا لم يجد الشارح مادة فعلية شرح باللغة والشعر وهي أصوله الأولى قبل نشأة الحضارة الإسلامية. كما ازدوجت الأشعرية، العقائد السائدة بعد انتصار الغزالي لها، بالتصوف بعد انتصار الغزالي له أيضًا؛ الأولى كأيديولوجية للسلطان، والثاني كأيديولوجية للجماهير؛ الأولى لإعطاء الأوامر، والثاني للطاعة؛ الأولى لقهر السلطة، والثاني لاستسلام المعارضة.
وفي المرحلة الثالثة تبدأ الحضارة الإسلامية في النهوض من جديد وكأنها تسير إلى دورة إبداعية ثانية ابتداءً من القرن الخامس عشر بعد دورتها الإبداعية الأولى من القرن الأول حتى القرن السابع، ولعلها سائرة إلى ذروة ثانية تشابه الذروة الأولى في القرنين الرابع والخامس الهجريين، وهي الفترة التي سميناها فجر النهضة العربية الإسلامية، والتي ما زلنا نعاصر بدايتها بعد أن عاصرنا نهاية المرحلة الثانية. فنحن، المخضرمين، نهاية الثانية وبداية الثالثة، نهاية الاستعمار وبداية التحرر، عاصرنا حركات التحرر، وشاهدنا الثورات العربية، ورأينا ضياع فلسطين، وحدثت أمامنا الردة، وربما نكون في نهاية القاع. لذلك نحن في حاجة إلى ابن خلدون جديد، يؤرخ للمرحلة الثانية، عصر الشروح والملخصات، ويضع شروط النهضة للمرحلة الثالثة.
ولا توجد حدود فاصلة بين هذه المراحل، خاصة بين بداياتها ونهاياتها، فالبدايات والنهايات متداخلة، فنهاية المرحلة الأولى قد تستغرق مائتي عام من القرن الخامس حتى القرن السابع وحتى ظهور ابن خلدون. ونهاية المرحلة الثانية قد تستغرق أيضًا مائتي عام من القرن الثاني عشر حتى القرن الرابع عشر، وهو عصر الإصلاح الديني وحتى الصحوة الإسلامية الأخيرة، فالنهاية تنذر بالبداية الجديدة، وقد تستمر بعض عناصر الإبداع حتى في النهاية، خاصة في بداية النهاية، مثل بارقة ابن رشد في الأندلس في القرن السادس، بل وفي مرحلة التوقف والتذكر والتدوين مثل ظهور صدر الدين الشيرازي في القرن العاشر في وسط الفترة الثانية. ولكن هذا التحقيب هو الغالب على رُوح الحضارة ومسارها في التاريخ بصرف النظر عن جوانب الإبداعات الجزئية في مرحلة الحفظ أو بعض جوانب التكرار والتقليد في مرحلة الإبداع.
كما تتداخل البدايات والنهايات مع حضارات أخرى تتقابل بداياتها ونهاياتها معها مما يدل على انتقال الريادات من حضارة إلى أخرى إذا ما شارفت حضارة على نهاية دورة وبدأت حضارة أخرى دورة جديدة. فقد انتقلت الريادة من حضارتي الفرس والروم بعد أن أنهكتهما الحروب وهما في نهاية دورة إلى الحضارة الإسلامية وهي في بداية دورتها الأولى، بعد ظهور قيم جديدة تمثلها شعوب فتية موحدة. كما انتقلت الريادة من الحضارة الإسلامية إلى الحضارة الغربية بعد نهاية الدورة الأولى وانتقال العلم من الشرق إلى الغرب في نهاية العصر المدرسي وإبان عصر الإصلاح، بعد أن اختارت الحضارة الإسلامية في الفترة الثانية الغزالي والأشعرية، واختار الغرب ابن رشد والاعتزال. وقد تنتقل الريادة من الحضارة الغربية التي أوشكت على إكمال دورتها في العصور الحديثة إلى الحضارة الإسلامية في فترتها التالية وبداية دورتها الثانية نحو عصرها الذهبي الثاني، بعد نهضة الأطراف وأفول المركز بعد أن أنهكت الشعوب الأوروبية حربان طاحنتان انتهت الثانية بقنبلتين ذريتين من الغرب على الشرق، ومن المركز على الأطراف. وقد ينتقل المركز الحضاري من الغرب ككل إلى الشرق ككل بعد نهضة الهند والصين واليابان الحديثة. والحضارة الإسلامية في النهاية جزء من حضارة الشرق. ونهضة الشعوب الإسلامية الحالية هي جزء من نهضة شعوب الشرق.
(٢) مسار الآخر
ويتمثل مسار الآخر بخط بياني يكشف عن مراحل ثلاثة انتهت كلها دون بوادر لمرحلة رابعة. وبالتالي يكون مسار الآخر أقدم في الزمان من مسار الأنا بمرحلة. المرحلة الأولى عصر آباء الكنيسة، والثانية العصر المدرسي، والثالثة العصور الحديثة، وذلك طبيعي لأن مسار الأنا بدأ في القرن السابع الميلادي. فمسار الآخر له ثلاث مراحل، الأولى منها سابقة على مسار الأنا. ومسار الأنا له ثلاث مراحل، الأخيرة منها تالية على مسار الآخر، وبالتالي تكون المراحل الثلاثة لمسار الآخر على النحو التالي:

وتمتد المرحلة الأولى من القرن الأول حتى القرن السابع وهو ما يُسمى بالعصر القديم (الكلاسيكي)، وتشمل فترة الآباء، آباء الكنيسة اليونان وآباء الكنيسة اللاتين، وهي الفترة التي تكونت فيها العقائد المسيحية ودُونت فيها النصوص، واستقرت فيها الفرق، وانتصرت الكنيسة على الشيع المناوئة، خاصة شيعة آريوس في القرن الرابع ودعوته التوحيدية. وانفصلت فيها الكنيسة الشرقية عن الكنيسة الغربية في القرن الخامس بسبب معركة الأيقونات ومدى شرعية نظام الرهبنة. وهي الفترة التي حدث فيها التجوهر الكاذب بين الدين الجديد والفلسفة اليونانية الرومانية القديمة عندما أخذت الفلسفة الوثنية صياغة مسيحية، وتحولت آلهة اليونان إلى آلهة الدين الجديد. وفيها أيضًا تم الربط بين المسيحية واليهودية حتى تهودت المسيحية من خلال اليهود الأوائل الذين تحولوا إلى المسيحية وفي مقدمتهم بولس، وكذلك من خلال البيئة الفلسطينية. وفيها أيضًا تحولت الإمبراطورية الرومانية إلى الإمبراطورية المسيحية، إمبراطورية شارلمان كجزء من عملية التجوهر الكاذب في النظم السياسية. وكان التيار السائد في هذه الفترة هو الأفلاطونية والأفلاطونية المحدثة، وهو الذي أعطى نموذج المسيحية الأفلاطونية كما مثلها أوغسطين.
وتمتد المرحلة الثانية من القرن الثامن حتى القرن الرابع عشر، أي منذ عصر شارلمان حتى عصر الإحياء، إحياء الآداب القديمة والعودة إلى الوثنية الأولى بعد أن جرب الوعي الأوروبي الفلسفة المدرسية فأضرت أكثر مما نفعت. وهو العصر الذي انتشرت فيه المسيحية إلى الشمال وتحويل القبائل البربرية إلى شعوب متحضرة. توقف الإبداع على مدى ثلاثة قرون في المسيحية الغربية ولكنه استمر في المسيحية الشرقية في بيزنطة. وفي العصر المدرسي بدأ الإبداع من جديد يونانيًّا أكثر منه مسيحيًّا عندما بدأت تُستعمل لغة التنزيه وإسقاط لغة التأليه والتجسيم والتشبيه، ولكنه ظل تنزيهًا بلا ذاتية وبلا تمركز حول الإنسان. بدأ الجدل والمنطق يؤثران في قدرة الفكر على الاستدلال في العصر الوسيط المتقدم في القرنين الحادي عشر والثاني عشر حتى بلغ أوجه في العصر الوسيط المتأخر في القرنين الثالث عشر والرابع عشر. ظهر الفكر العقلاني عند اللاهوتيين الجدليين، وبدأت أهمية التحليل اللُّغوي عند الاسميين، وتأسست الجامعات، وتم اكتشاف الأرسطية منذ شروح بويثيوس لها في القرن الخامس، كما تم الانتقال من المعرفة إلى الوجود ومن الثيولوجيا إلى الأُنطولوجيا في القرن الرابع عشر. وانتهى العصر المدرسي بعصر الإحياء في القرن الرابع عشر إيذانًا ببداية العصور الحديثة، وقد تم بيان ذلك في تكوين الوعي الأوروبي في مرحلة المصادر.
وتمتد المرحلة الثالثة من القرن الخامس عشر حتى القرن الواحد وعشرين، وهي مرحلة العصور الحديثة التي ظهر فيها الوعي الأوروبي، بدايةً في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وذروةً في القرن التاسع عشر، ونهايةً في القرن العشرين. وهي المرحلة التي ظهرت فيها البنية الثلاثية للوعي الأوروبي: العقلانية والتجريبية والطريق الثالث ومرحلتيه الرئيسيتين: الحديثة في القرنين السابع عشر والثامن عشر والمعاصرة في القرنين التاسع عشر والعشرين. وما زالت المرحلة الثالثة والأخيرة لم تنته بعد. إنما بدأت تظهر بوادر بداية النهاية بعد أن ظهرت من قبل نهاية البداية، «الأنا موجود» بعد «الأنا أفكر».
وتتداخل البدايات والنهايات مع الحضارات الأخرى. فالبداية الأولى ترث الحضارة اليونانية والرومانية، وتبلغ ذروتها في العصر الهلينستي، وتنتهي بانتهاء العصر القديم. ونهاية المرحلة الأولى في القرن السابع الميلادي تتداخل بعد بداية المرحلة الإسلامية الأولى في القرن الأول الهجري. وبداية المرحلة الثالثة في القرن الخامس عشر الميلادي تتداخل مع نهاية الفترة الثانية للحضارة الإسلامية في القرن الرابع عشر الهجري. ونهاية المرحلة الثالثة في الوعي الأوروبي في نهاية القرن العشرين وأوائل الواحد والعشرين تتداخل مع بداية المرحلة الثالثة للحضارة الإسلامية، مرحلة الصحوة في بداية القرن الخامس عشر.
والسؤال الآن: هل هناك مرحلة رابعة للوعي الأوروبي، من القرن الثاني والعشرين حتى القرن التاسع والعشرين أم أن الحضارة الأوروبية ستسلم الريادة لحضارة أخرى ولشعب آخر بعد أن خف الدافع الحيوي في الوعي الأوروبي، وبدت مظاهر نهضة شعوب الشرق؟ فإذا كان الوعي الأوروبي على ثقة من بدايته المبكرة في الماضي السابقة على الحضارة الإسلامية بسبعة قرون فإنه ليس على ثقة مماثلة في المستقبل بعد إكمال دورته الحالية في العصور الحديثة. وإذا كانت الحضارة الإسلامية متأخرة عن الوعي الأوروبي بسبعة قرون إلا أن الدافع الحيوي فيها يجعلها على ثقة بالقيام بفترة ثالثة تمثل عصورها الحديثة، وعصرها الذهبي الذي تبلغ فيه الذروة كما بلغته أول مرة في القرن الرابع الهجري.
(٣) تداخل مسارَي الأنا والآخر
ونظرًا للتفاعل التاريخي المتبادل بين مساري الأنا والآخر، ونظرًا للقرب الجغرافي على شاطئَي حوض البحر المتوسط الجنوبي والشمالي حيث يقطن الأنا والآخر، ونظرًا لما يمثله كل منهما من تحدٍّ حضاري للآخر عندما يكون أحدهما في مرحلة الذروة والآخر في مرحلة القاع، فإن وصف تداخل مسارَي الأنا والآخر يبين تداخلهما ثلاث مرات: الأولى في بداية نشأة الحضارة الإسلامية في القرن الأول الميلادي ونهاية عصر الآباء في نهاية القرن السابع الميلادي. والثانية في نهاية المرحلة الأولى للحضارة الإسلامية في القرن السابع الهجري قبل ظهور ابن خلدون والتي تقابل بداية الوعي الأوروبي في عصوره الحديثة في عصر الإحياء والعودة إلى الآداب القديمة الذي سبق الإصلاح الديني وعصر النهضة. والثالثة بداية المرحلة الثالثة للحضارة الإسلامية ابتداء من القرن الخامس عشر الهجري والتي تقابل نهاية الوعي الأوروبي في العصور الحديثة في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين.
ويبدو هذا التداخل على النحو الآتي:

وتجدر المقارنة بين هذه النقاط الثلاثة للالتقاء بين مسارَي الأنا والآخر لمعرفة طبيعة اللحظة التاريخية التي يتم فيها التقابل بين حضارتين، كل منهما تعيش مرحلتها التاريخية الخاصة بها. فالتزامن التاريخي غير التعاصر الحضاري؛ الأول تاريخ موضوعي والثاني تأريخ حضاري؛ الأول خارج الوعي إن وجد، والثاني داخل الوعي؛ الأول تاريخ والثاني تأريخية.
نقطة الالتقاء الأولى بالنسبة لمسار الآخر كانت في القرن السابع الميلادي، نهاية العصر القديم، عصر آباء الكنيسة بعد الاختلاف والافتراق حول العقائد عامة، وطبيعة المسيح خاصة، حول صلة اليهودية بالمسيحية، والعقل بالإيمان، والفرد بالكنيسة. وقد تم النصر للسلطة المركزية الإلهية التشريعية الإيمانية الكنسية، وهو ما يعادل الأشعرية عندنا، وأصبح الحق من جانب المعارضة المقهورة التي تم تكفيرها؛ آريوس وإعلانه إنسانية المسيح، سلسوس وإعلانه التمايز بين اليهودية والمسيحية، دوناتوس ورفض سيطرة روما على شمال أفريقيا والربط بين الدين والوطن، كما فعل لوثر فيما بعد في القرن الخامس عشر، والغنوصية التي رأت الدين حياة باطنية وإشراقًا داخليًّا وزهدًا في الدنيا، وهو جوهر الدين القديم.
وفي لحظة الالتقاء الثانية في القرن الرابع عشر الميلادي بالنسبة لمسار الآخر، والقرن السابع الهجري بالنسبة لمسار الأنا، كان مسار الآخر قد بدأ في الارتفاع من جديد كما كان الحال في القرون الثلاثة الأولى، وذلك بفضل التحول من الأفلاطونية إلى الأرسطية، واكتشاف العقل والطبيعة، وأثر الحضارة الإسلامية عبر الترجمات من العربية إلى اللاتينية على الشاطئ الشمالي للبحر الأبيض المتوسط، خاصة في إسبانيا وجنوب إيطاليا وصقلية، وتقديم نموذج جديد للوحي إلى الوعي الأوروبي وهو الوحي المطابق للعقل والطبيعة، وبداية حركة المفكرين الأحرار مثل أبيلار، ونشأة العلم التجريبي في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، وعصر الإحياء والعودة إلى الآداب القديمة في القرن الرابع عشر، كل ذلك كان وراء نهاية المرحلة الثانية في مسار الآخر وبدايات المرحلة الثالثة.
أما بالنسبة إلى مسار الأنا فقد بدأت الدورة الأولى في الاكتمال، وأصبح المسار هابطًا وهي الفترة التي ظهر فيها ابن خلدون ليؤرخ لهذه المرحلة الأولى. هي فترة سقوط الأندلس تباعًا، طليطلة فأشبيلية وقرطبة ثم غَرناطة أخيرًا. كانت فيها بوادر أخيرة، ابن رشد في القرن السادس دفاعًا عن نموذج وحدة الوحي والعقل والطبيعة، الشاطبي الغَرناطي في القرن الثامن دفاعًا عن نموذج وحدة الوحي والمصلحة والشريعة الوضعية ومقاصد الشريعة، وتحويل العلوم الشرعية إلى علوم سياسية كما فعل ابن الأزرق في «بدائع السلك». ومع ذلك توقفت الحضارة عن الإبداع، وبدأت المرحلة الثانية من القرن السابع حتى القرن الرابع عشر، وفي قاعدتها، عصر الشروح والملخصات. وقد تمت نقطة الالتقاء الثالثة في أجيالنا المعاصرة التي ترى تداخل مسارَي الأنا والآخر منذ فجر النهضة الحديثة فترة نهاية القرن العشرين وبداية الواحد والعشرين الميلاديين بالنسبة للآخر، وفترة نهاية الرابع عشر وبداية الخامس عشر الهجريين بالنسبة للأنا. فبالنسبة إلى مسار الآخر، تنهي الحضارة الأوروبية مرحلتها الثالثة من القرن الخامس عشر حتى القرن الواحد والعشرين، وتكمل دورتها في العصور الحديثة. وهو ما تم وصفه في تكوين الوعي الأوروبي بداية وذروة ونهاية بأزمة العلوم الأوروبية الحديثة وأفول الغرب. أما بالنسبة لمسار الأنا فإنها تمثل لحظة نهاية المرحلة الثانية، عصر الشروح والملخصات، وبداية المرحلة الثالثة المستقبلية ابتداءً من القرن الخامس عشر حتى القرن الواحد والعشرين، وهي التي بدأت إرهاصاتها في الإصلاح الديني وفي الفكر الليبرالي وفي الفكر العلمي العلماني، الروافد الثلاثة التي تكون فكرنا المعاصر.
ويلاحَظ أن مسار الآخر أطول عمرًا من حيث الميلاد من مسار الأنا؛ فقد أكمل الآخر ثلاثة مراحل: عصر الآباء (العصر القديم)، والعصر الوسيط (العصر المدرسي)، والعصر الحديث. بينما أكمل الأنا مرحلتين اثنتين، الفترة الذهبية الأولى، عصر الخلق والإبداع في القرون السبعة الأولى، ثم عصر الشروح والملخصات في القرون السبعة التالية، والتي بدأت نهايتها في جيلنا مع بداية الفترة الثالثة في بداية القرن الخامس عشر. وهذا يجعل، في الظاهر، رصيد التجارِب البشرية عند الآخر أكبر مما هي عندنا. أما إذا أضفنا لمسار الأنا حضارات الشرق القديم، خاصة في مصر وما بين النهرين وفارس، حتى مع استبعاد حضارتي الهند والصين، فإن مسار الأنا يكون أكثر عمقًا في التاريخ، وأعمق امتدادًا في الزمان، وتكون الحضارة الإسلامية آخر حلقة من سلسلة حضارات الشرق القديم منذ سبعة آلاف عام، أي أطول من مسار الآخر ثلاث مرات أو أكثر.
ويلاحَظ أيضًا أن مسار الأنا ومسار الآخر في خطين متداخلين على التبادل. إذا كانت دورة الأنا في القمة تكون دورة الآخر في القاعدة، وإذا كانت دورة الأنا في القاعدة تكون دورة الآخر في القمة. إذا كان مسار الأنا في خط نازل يكون مسار الآخر في خط صاعد، وإذا كان مسار الأنا في خط صاعد يكون مسار الآخر في خط نازل. وعندما يكون الأنا أو الآخر في القمة يكون هو الأستاذ وعندما يكون في القاعدة يكون هو التلميذ، عندما يكون في القمة تأتي المعارف من القمة إلى القاعدة، وعندما يكون في القاعدة يأخذ المعارف من القمة. ففي المرحلة الأولى في مسار الآخر كانت هناك قمة في عصر آباء الكنيسة، قمة أوغسطين، ولكن لم تكن هناك قاعدة لأن مسار الأنا لم يكن قد بدأ بعد. وبعد ذلك تداخل مسار الأنا من مسار الآخر، لكل منهما قمة وقاعدة. كانت قمة مسار الأنا في ذروة مرحلته الأولى في القرنين الرابع والخامس، وكانت قاعدته في قاع مرحلته الثانية في عصر الشروح والملخصات وقت إصدار فتاوي ابن الصلاح في القرن التاسع الهجري. وكان قاع مسار الآخر في المرحلة الثانية في العصر المدرسي ثم كانت قمته في المرحلة الثالثة في العصور الحديثة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. فهناك تبادل بين القمة والقاعدة أو بين الأستاذ والتلميذ، بين مساري الأنا والآخر عبر التاريخ. ففي الوقت الذي كان فيه الأنا في المرحلة الأولى في ذروة إبداعه كان الآخر في العصر الوسيط يجمع ويدون ويتعلم ويتتلمذ. وكانت الترجمات من الأنا إلى الآخر قد بدأت منذ القرن الحادي عشر الميلادي، من العربية إلى اللاتينية مباشرة أو من العربية إلى اللاتينية عبر العبرية. وكانت الحروب الصليبية صدمة حضارية لدى الآخر بمجرد اتصاله بحضارة الأنا. أتى الآخر للغزو عسكريًّا فغزا الأنا الآخرَ حضاريًّا. ثم بعد ذلك انقلبت الآية، فبعد أن كان مسار الأنا في القمة في المرحلة الأولى أصبح في القاع في المرحلة الثانية، وبعد أن كان مسار الآخر في القاع في المرحلة الثانية أصبح في القمة في المرحلة الثالثة. وتم تبادل الأدوار. بعد أن كان الأنا يقوم بدور الأستاذ والآخر بدور التلميذ أصبح الأنا يقوم بدور التلميذ والآخر بدور الأستاذ. وقامت حركة الترجمة هذه المرة من الآخر للأنا في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين، وهو ما يعادل فجر النهضة الحديثة منذ الطهطاوي والأفغاني وشبلي شميل في مسار الأنا، من الفرنسية والإنجليزية أساسًا إلى العربية في مصر والشام في عصر محمد علي وإرسال البعثات التعليمية إلى الغرب لهذا الغرض، وإنشاء ديوان الحكمة الثاني، أي مدرسة الألسن خصوصًا لهذا الغرض. وكانت حملة نابليون على مصر صدمة حضارية لدى الأنا رأى فيها صورته في مرآة الآخر.
لذلك كانت المهمة العاجلة لأبناء هذا الجيل هي معرفة في أية مرحلة من التاريخ نحن نعيش؟ فنحن في منطقة التقاء مسارين، مسار الأنا ومسار الآخر، ولكل منهما وعيه التاريخي. نحن جيلٌ ابن عصرين، نعيش في مرحلتين تاريخيتين مختلفتين لحضارتين متمايزتين، نعيشهما في آنٍ واحد، فنحن نعيش في مسار الأنا في المركز، في نهاية القرن الرابع عشر وبداية الخامس عشر، تبدأ فيها الريادة لوعي جديد عربي إسلامي، أفريقي آسيوي. وفي نفس الوقت نعيش في مسار الآخر في الأطراف، في نهاية القرن العشرين وعلى مشارف الواحد والعشرين، في اللحظة التي تنتهي فيها الريادة للوعي الأوروبي. ويخطئ جيلنا عندما يضع نفسه في اللحظة التاريخية التي يعشها الآخر، ويضع نفسه في مسار ليس فيه، وفي وعي لا يتمثله، وفي عصر ليس ابنه، وفي قرن لا يعيش فيه، نتيجة للاغتراب الحضاري الذي يعيشه جيلنا، هو في مسار الأنا ويضع نفسه في مسار الآخر. وهو نفس الخطأ الذي يقع فيه دعاة التراث عندما يعيشون صورة الحاضر في الماضي فيُلغُون اللحظة الحاضرة بلحظة ماضية، ويتصورون أنهم في عصرهم الذهبي وأن الآخر في القاع، ويتمسكون بمسار الأنا في القمة الماضية، ويتنصلون عن مسار الآخر المعاصر في القمة الحاليَّة. الاغتراب إذن مرتان: الأولى عندما يعيش دعاة الحداثة الحاضر وصورة المستقبل فيلحقون اللحظة الحاضرة بلحظة آتية في حضارة بالتجرد تمامًا عن حضارة الأنا. والثانية عندما يعيش دعاة التراث الحاضرَ وصورة الماضي فيلحقون اللحظة الحاضرة بلحظة ماضية في حضارة الأنا بالتجرد تمامًا عن حضارة الآخر. والحاضر هو الحاضر الذي لا هو ماضي الأنا ولا مستقبل الآخر. الأول ترك مسار الأنا والعيش في مسار الآخر، والثاني ترك مسار الآخر والعيش في مسار الأنا. والحاضر هو اللحظة التاريخية التي يلتقي فيها مسار الأنا ومسار الآخر، كلٌّ في مساره التاريخي وفي دورته الحضارية الخاصة صعودًا أو هبوطًا، ارتفاعًا أو سقوطًا كما يتقابل مساران لفَلكَين في لحظة واحدة سرعان ما تختفي عندما يستمر كل فلك في دورته.
(٤) الصور المتبادلة بين الأنا والآخر
نظرًا لتداخل المسارين على الأقل مرتين بين الأنا والآخر فقد كوَّن كل منهما صورة ذهنية في وعيه ما دام يتعامل معه متأثرًا به أو مؤثرًا فيه. لقد كانت صورة الآخر عبر مراحله الثلاثة في وعي الأنا صورة كريمة عاقلة مستنيرة. وكانت صورة الأنا عبر مرحلتيه الاثنتين في وعي الآخر صورة كريهة مَقيتة متخلفة. هذا التقابل التاريخي بين الصورتين هو أحد عوامل الاستعمار والتحرر، وأحد دوافع التحدي، هزيمةً مرة ونصرًا مرة أخرى.
فمنذ أن ترجم الأوائل ثقافة اليونان، وتمثلوها شرحًا وتلخيصًا حتى أصبحت ثقافة الآخر في مرحلة أصول المصادر ثقافة محلية، تدافع عنها ثقافة الأنا، بل لقد جعل الفلاسفة الثقافة العقلية للآخر محكًّا لليقين في تفسير الشريعة كما هو الحال عند إخوان الصفا والفارابي وابن سينا وابن رشد وابن باجة وابن طفيل كما وضح في قصة «حي بن يقظان»، اتفاق الفلسفة والشريعة، أي اتفاق ثقافة الآخر القديمة مع ثقافة الأنا الجديدة. ولم يجد أرسطو رفعة وجلالًا قدر ما وجد في ثقافة الأنا؛ هو المعلم الأول والفارابي المعلم الثاني. ولم يجد المسيح عيسى بن مريم تعظيمًا وإجلالًا قدر ما أعطته ثقافة الأنا، ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها والتي فُضِّلت على نساء العالمين. ولم يجد موسى ولا إبراهيم ولا أنبياء بني إسرائيل رفعة وشأنًا قدر ما وجدوا في ثقافة الأنا. ولم يشهد العالم القديم نظامًا يقوم على التسامح والمساواة بين الطوائف قدر ما وجد في النظام السياسي والاجتماعي للأنا. وفي لحظة الالتقاء الثانية عندما كان الأنا في نهاية القاع والآخر في القمة كانت الصورة الثقافية للآخر أيضًا في وعي الأنا صورة كريمة، فلسفة التنوير وما تقدمه من مُثُل في العقل والحرية والتقدم والعلم والمساواة والديمقراطية لدرجة أن الغرب أصبح نمطًا للتحديث لدى كل تيارات الفكر العربي المعاصر: الإصلاح الديني، والعلمي العلماني، والليبرالي السياسي. وبالرغم مما نال الأنا على يد الآخر من استعمار واستغلال ونهب للثروة، إنما وضعت الأنا ذلك على حساب القوى الاستعمارية والنظم الحاكمة وليس على حساب الثقافة.
أما بالنسبة لصورة الأنا في ذهن الآخر فقد كانت على العكس من ذلك صورة كريهة، حتى في المرحلة الثانية من مسار الآخر، مرحلة العصر الوسيط، عندما كان الآخر تلميذًا والأنا معلمًا، عندما كان الآخر في القاع والأنا في القمة. كانت صورة الكافر، الفاسق، الزنديق، الملحد، المتوحش، المحتل، الحسي، المادي، المتخلف، الجنسي، الفظ، وقد بدا ذلك في كثير من كتب الرحالة والأعمال الأدبية ورسائل اللاهوتيين، واستمرت الصورة عبر المرحلة الثالثة في مسار الأنا منذ عصر النهضة حتى أزمة القرن العشرين: سوء فهم أرسطو، جمع القرآن من روايات الكهان والأحبار والفرق الضالة، التعصب والحرب حتى لقد نشأ مثل «رأس التركي» كنموذج على ذلك، القدرية والاستسلام، التصوف والخنوع، السحر والخرافة، ألف ليلة وليلة، والبساط السحري، الحريم وتعدد الزوجات، الشذوذ الجنسي والغلمان، البذخ والترف والسفاهة، «العربي القبيح في لندن». وحمل الاستشراق التقليدي بعض هذه الصور، ورثتها علوم الأنثروبولوجيا والاجتماع وفلسفات التاريخ التي اعتبرت التقدم انتقالًا من الشرق إلى الغرب، أي من الأنا إلى الآخر، من السحر والخرافة إلى العقل والعلم، ومن طفولة البشرية إلى نضجها.
ثانيًا: مظاهر العدم في الوعي الأوروبي
والسؤال الآن: ما هو مصير الوعي الأوروبي؟ إذا كانت هذه هي مصادره، وهذا هو تكوينه، وتلك هي بنيته، وهكذا كانت نهاية بدايته وبداية نهايته تعبيرًا عن أزمته، فما هو مستقبله ومصيره؟ لقد بدأ الوعي الأوروبي متفائلًا، ظانًّا أنه قادر على أن يعيش إلى الأبد. وها هو يغشاه التشاؤم، وتسوده رُوح العدمية. وإذا كان القوس قد بلغ نهايته، وإذا كانت الدورة قد اكتملت فهل هو قادر على الاستمرار في دور الريادة؟ ألا يخضع الوعي الأوروبي ذاته لقانون التاريخ ومسار الحضارات الذي ابتدعه هو نفسه في فلسفات التاريخ، وبالتالي يكون إحدى حلقات التاريخ، وحلقة في مسار الحضارات؟ هل هناك وعي مستمر إلى الأبد، ومرحلة تاريخية تكون هي نهاية المراحل، تجُبُّ ما قبلها وتُلغي ما بعدها؟ قد تثير كلمة المصير بعض الأشجان لأنها تعبر عن الحزن والنهاية، كما يعني المصير المقدر المحتوم الذي لا مفر منه والقانون التاريخي الضروري الذي يطوي كل شيء فيه، ومع ذلك فقد تبشر أيضًا بميلاد جديد أو تحول في شيء آخر، كما عنى هيجل في مؤلف الشباب «رُوح المسيحية ومصيرها». كما لا تعني أي تَشفٍّ أو فرح في نهاية وعي؛ لأن كل وعي متناهٍ بالضرورة، «وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ».
(١) فلسفات العدم
وقد تراكمت فلسفات العدم في الوعي الأوروبي وهي في مرحلة بداية النهاية بحيث أصبحت إحدى علاماته الرئيسية دليلًا ومؤشرًا على مصيره. وبالرغم من أن نيتشه سابق لأوانه في التعبير عن أزمة العصر إلا أنه أكبر ممثل لها في انتهائه إلى العدمية الشاملة، وإعلان «موت الإله»، ووضع حد نهائي لما تبقى من العقائد والأخلاق المسيحية، عقائد الضعفاء وأخلاق العبيد، ورفض كل الفلسفات الميتافيزيقية، والعودة إلى الإنسان الأول كمصدر للفلسفة وإلى أشكال تعبيرها في التراجيديا، والعودة إلى الحياة على أنها مجرد إرادة قوة، وخلق الإنسان المتفوق القادر على كل شيء.
ومن مظاهر العدم أيضًا قلب طرفَي المعادلة وجعل الأدنى هو الأعلى، والأعلى هو الأدنى، وهو ما سماه ماكس شيلر «قلب القيم». لم يستطع الوعي الأوروبي، كما كان في البداية، المحافظة على التمييز بين المستويات، والذي كان أحد شعاراته عند هُوسِرل في النهاية. فردَّ الأعلى إلى الأدنى فوقع في المادية، وردَّ الأدنى إلى الأعلى فوقع في الصورية، ووحد بينهما ووقع في إرادة الحياة، وجاورهما ووقع في التوازي النفسي الفيزيقي. في هذه الفوضى الشاملة لعدم تحديد العَلاقة بين المستويين لاحظ بعض المحدثين أن الدافع الغالب هو «قلب القيم»، جعل أعاليها أسافلها، وأسافلها أعاليها، تدنيس الآلهة، وتقديس الأصنام.
كما بدأت الأزمة، أزمة الضياع، بعد آخر وهج للشمعة قبل الانطفاء في مرحلة نهاية البداية، وهي الظاهريات، عندما استعمل الوجوديون هذا الضوء الأخير في تحليل الوجود الإنساني وانتهوا إلى وصف الواقعة الإنسانية بأنها عدم، وموت، وحصر، وهم، وضيق، وضياع للفرد في الجماعة، وثرثرة، وغثيان، وقيء، وفراغ، وعبث … إلخ. فالإنسان عند هَيدجر وجود من أجل الموت، وعند مارسيل وجود شخص يموت، وعند سارتر الوجود عدم وغثيان، والآخر هو الجحيم، وعند كامو الوجود الإنساني تناقض وسخف ولا معقول بلا غاية أو هدف، مصيره الانتحار، وعند ميرلوبونتي ومارسيل الوجود الإنساني جسم، والنفس أحد أبعاده. ومنذ كيركجارد الوجود الإنساني تناقض وفضيحة وعار حتى انتهت كثير من الفلسفات الوجودية إلى العبث واللامعقول، على عكس الوعي الأوروبي في البداية عندما كان يتسم بالعقل، والهدف، والغاية، والحرية، والتقدم، والوضوح، والاتساق.
ثم جاءت فلسفة الاختلاف عند دريدا لتؤكد على الموت في الرُّوح وضياع كل شيء، والوقوع في متاهات لفظية بدعوى تحليل الخطاب من أجل الانتهاء إلى لا شيء. لم يعد هناك شيء يتماثل مع شيء آخر، ولم تعد هناك معرفة ممكنة، واستحال الاستدلال في نفسه وعلى غيره. انتهت قوانين الفكر الأولى، وفي مقدمتها قانون الهُوية، ولم يبق إلا قانون الاختلاف، وتحول الخطاب إلى مجموعة من الألفاظ، مونادات لا رابط بينها. أصبح الخطاب غاية في نفسه وليس أداة لإيصال معنًى أو لاقتضاء فعل. إن الكتابة عند بارت تبدأ من الصفر وتنتهي إلى الصفر، وإن الكاتب يبدأ الكتابة بمجرد وضع القلم على الورقة دون أن يكون في ذهنه شيء ودون أن يقصد التعبير عن أي معنًى ودون أن يهدف إلى إثبات شيء أو نفي آخر، وكأن العبارة مجرد إفراز بيولوجي صرف.
وكانت البنيوية إحدى المحاولات الأخيرة للَّحاق برُوح الفلسفة الحديثة التي فقدتها الفلسفة المعاصرة، والعودة من ماركس إلى هيجل لاكتشاف البنية عبر التاريخ، فانتهت إلى بنية فارغة من أي مضمون، وعادت إلى الصورية، إلى الوجود في الأذهان وليس إلى الوجود في الأعيان، ووقعت في عالم الضرورة الخالي من الحرية يتحكم فيها قانون الطرفين والوسط دون حيوية الفعل ورد الفعل ودون حياة الصراع والتناقض. ووجدت مادتها أيضًا في اللغة كعالم مستقل بذاته، صوتيات وأبنية وتراكيب وعلامات، أو في أساطير الشعوب «البُدائية» وعاداتها وأعرافها للبحث عن «البُدائي» الأولى، الفطري، قبل أساليب التحضر وقضايا المنطق. النِّيئ قبل المطبوخ. والعسل قبل السكر، والطعام قبل آداب المائدة.
بل إن ما يسمى بالفلسفة الفرنسية الجديدة، بعد أن هدأت ثورات الشباب في ١٩٦٨م، لم يستطع الوعي الأوروبي من خلالها أن يأخذ دفعة جديدة؛ لأنها ليس بها فكر واضح، ولم ترتبط بأيٍّ من التيارات الفكرية التي تمثل البنية الرئيسية في الوعي الأوروبي، وخارج قانون الفعل ورد الفعل. جمعت بين الفكر والأدب مما جعلها أقرب إلى «المحاولات» منها إلى الخطاب الفلسفي. تحولت إلى ظاهرة إعلامية، وابتلعتها حياة الموضة، وأصبحت إحدى صيحات العصر التي سرعان ما تختفي إلى صيحة أخرى، فقاعة هواء سرعان ما تنفجر بلا صوت ودون أن يشعر بها أحد مثل تيارات أخرى غيرها. كان يحيطها الشك من مجموع القوى الغربية. ماذا تحتل؟ وعمن تعبر؟ وماذا تريد؟ وما البديل المطروح؟ سلب أكثر منه إيجاب.
(٢) الموت في الرُّوح
وفي الرسم، ظهر الفن التجريدي الذي لا يعبر عن عواطف أو انفعالات بل يرسم أشكالًا وصورًا خارجية، وعلى المتلقي أن ينفعل هو بها ويعطيها مضمونًا من لديه. ضحى الفنان التجريدي بالمضمون من أجل الشكل، كما فعل الفيلسوف البنيوي في تعامله مع الظاهرة اللُّغوية أو الاجتماعية. يعود إلى الكلاسيكية الأولى بعد أن كانت الرومانسية رد فعل عليها تعبيرًا عن دينامية الوعي الأوروبي في قوة دفعه الأولى في مرحلة الذروة. أرادت التكعيبية البحث عن الأبعاد الثلاثة للزمان في المكان. وتجاوزت السريالية الواقع إلى واقع آخر متوهم أو من صنع الخيال. واكتفت الانطباعية بالحساسية الجمالية بلا أشكال ولكن بلا عمق شعوري. وتتضافر المذاهب الفنية كلها ضد التعبيرية القديمة. وتكتفي بالصوري في الفن التجريدي أو بالمادي في الفن الانطباعي. فأزمة الفن الحديث هي تعبير عن أزمة الوعي الأوروبي في مرحلة النهاية.
(٣) أزمة الغرب
وظهر مفكرون لا هَمَّ لهم إلا التنبيه على أزمة الغرب من مختلِف التيارات الفكرية والمذاهب السياسية، وشاعت كتاباتهم داخل أوروبا وخارجها، وتلقفتها الدوائر الدينية والمحافظة، الوعي الأوروبي قبل بدايته، والتي كانت «المهماز» على نشأة الوعي الأوروبي في بدايته واكتشاف عالم الذاتية وتحديد مشروعه المعرفي والأخلاقي، تجد فيها شاهدًا على صحة العقائد وضرورة العودة إلى الإيمان كما هو الحال في التوماوية الجديدة. لقد حاول البعض إحياء الحضارة الغربية عن طريق الرُّوح والإيمان مثل برجسون، وياسبرز، ومارسيل، وأونامونو، وبرديائيف، وسولوفييف، وشِستوف، وكما يدعو إلى ذلك بعض المرددين في فكرنا المعاصر في الأوساط الدينية إسلامية ومسيحية على حد سواء. ولكن التاريخ لا يعود إلى الوراء، وإن الإيمان بالتقدم في الوعي الإنساني كما هو الحال عند ليون برنشفيج يجُبُّ الإيمان بكل شيء آخر سواه. ومنهم من لفظ ولاءه للغرب كلية، وانتسب إلى حضارة أخرى، إلى وعي جديد في إطار وعي العالم الثالث، في أفريقيا وآسيا، في العالم العربي الإسلامي، وعي الأنا مثل جارودي، وفايس، وبوكاي … إلخ. ومنهم من نقد الغرب، ونبه على مخاطره وأعلن نهاية دورته في العصر الحديث مثل توينبي، وبرجسون، وهُوسِرل. ومنهم من لجأ إلى الإرادة، والشعب، والعرق لعل الوعي الأوروبي في بداية النهاية يستطيع أن يجد دفعة جديدة له بالعودة إلى الرومانية والوثنية والجرمانية القديمة، إلى مصادره في البيئة الأوروبية نفسها.
والغريب أنه بعد ذروة فلسفة التنوير، وما بلغه الوعي الأوروبي من إعلاء لمبادئ الحرية والإخاء والمساواة، واستلهامه الفعل والطبيعة والتاريخ، ينهار ذلك كله في حربين أوروبيتين طاحنتين قامتا على أيديولوجيات عنصرية وفاشيَّة، تصنف البشر طبقًا لأجناسهم: الأبيض والأسود، الآري والسامي، الغربي والشرقي، المتقدم والمتأخر، النظيف والقذر، العالم والجاهل، السيد والعبد، الحي والميت … إلخ. يحدث ذلك داخل الوعي الأوروبي ذاته مقسمًا ذاته إلى شعوب متفاوتة في الرقي والنقاء العرقي مع فارق في الدرجة ثم خارجه مع فارق في النوع في آسيا وأفريقيا، مع الجنس الأصفر والجنس الأسود. وما زال الحكم العنصري في جنوب أفريقيا شاهدًا على ذلك. ولما لم يعد هناك معيار عام وشامل يوحد بين البشر جميعًا استحال الحوار العقلي، ولم تبق إلا الإرادات المتصارعة. نشأت حربان أوروبيتان مدمرتان بينهما نيف وعشرون عامًا للسيادة على البحار والسيطرة على المواد الأولية. نشأت الحربان في المركز وامتدت إلى الأطراف لما كانت الأطراف ما زالت المجال الحيوي للمركز في عصر ما قبل التحرر الوطني. ولم تكتف الحرب الأخيرة باستعمال الأسلحة التقليدية ولكنها جربت أخطر سلاح عرفته البشرية ألا وهو السلاح النووي بإلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما وناجازاكي، على الحليف الآسيوي، اليابان، في الأطراف، وليس على المركز الأوروبي. فالتناقض بين دولتين أوروبيتين ينتميان إلى المركز مثل ألمانيا وفرنسا أو ألمانيا وإنجلترا تناقض ثانوي، بينما التناقض بين دولة أوروبية في المركز ودولة آسيوية في الأطراف تناقض رئيسي. فالدافع عنصري وليس عسكريًّا لأن الهزيمة بدأت تلوح في الأفق، والتسليم بدا مطروحًا. كان القصد كسر شوكة الشرق حتى لا تقوم قائمة للأطراف، وتجريب سلاح الغرب في الشرق تأكيدًا على التفوق العنصري، عقدة العظمة في مقابل عقدة النقص، وإبداع الجنس الأبيض في الفتك بالجنس الأصفر تأكيدًا لعَلاقة السيد بالعبد، والغالب بالمغلوب.
ثالثًا: هل هناك مظاهر أمل في الوعي الأوروبي؟
قد يبدو لبعض المتفائلين أن الوعي الأوروبي بالرغم من مظاهر العدم التي بدأت تتبدى فيه، خاصة بعد الحروب الأوروبية، استطاع أن ينهض بنفسه، ويبدأ نهضة ثانية، ويتولد من جديد. كيركجارد يعتبر نفسه لوثر الثاني، وفوكو وهابرماس وتوينبي كل منهم يعتبر نفسه هيجل الثاني، وهُوسِرل يعتبر نفسه ديكارت الثاني. لقد كان الوعي الأوروبي باستمرار قادرًا على تجاوز أزماته، إذ إنها أزمات عابرة لا تمثل عوائق أبدية بالنسبة له. وطالما تعرض الوعي الأوروبي لأزمات مماثلة منذ نشأته: المَلكية والإقطاع والرأسمالية والانهيار الاقتصادي والحروب. وفي كل مرة يخرج منها منتصرًا ومتكيفًا مع الأوضاع الجديدة.
والحقيقة قد يتعلق الأمر كله بالموقف السياسي والحضاري للباحث. هل الكوب نصفه مملوء أم نصفه فارغ؟ بالنسبة للأوروبي المتفائل من المركز الكوب نصفه مملوء، وبالنسبة إلى المتشائم بالنسبة لمصير الوعي الأوروبي وأنا من الأطراف نصفه فارغ. فالعلم سلطة، والرأي قوة، ووجهة النظر معركة، ولا مجال هنا للصواب والخطأ بل لميزان القوى، ليس الراهن بل في المستقبل نظرًا لأننا بصدد المصير.
(١) فائض الإنتاج والقوة العسكرية
يبدو أنه حتى المتفائلين يرون علامات التفاؤل في المشروع المعرفي الأوروبي، بل في مشروعه العملي، في إنتاجه المادي وقوته العسكرية، ينتقلون من الظن إلى اليقين، ومن الشكل إلى الحسم، ومن التردد إلى القرار. فهناك وفرة في الإنتاج في البلاد الصناعية المتقدمة يجعل المجتمع الأوروبي كما كان دائمًا مجتمع الوفرة. الفائض الزراعي والصناعي ما زال يفجر الأسواق. وفائض الإنتاج الياباني باعتباره بلدًا صناعيًّا رأسماليًّا غربيًّا أصبح عبئًا على الاقتصاد الياباني ترجو التخفف منه عن طريق خفض الإنتاج، وإعطاء عطلة مدفوعة الأجر أضعافًا مضاعفة للعمال وموظفي الشركات. أصبح ارتفاع سعر الين خطرًا يهدد الصناعات الصغيرة. وما زالت الخطة القادمة إغراق أسواق العالم كله بفائض القيمة الياباني عن طريق شراء أسهم الشركات الغربية ذاتها. واستطاعت الشركات المتعددة الجنسيات أن تنتج على مستوى العالم طبقًا لقرب المواد الأولية وأسواق الاستهلاك والعمالة الرخيصة أجزاء الآلات ثم تجميعها بمزيد من التخصص والفاعلية، وتجنبًا لطرق المواصلات الطويلة، وتجنبًا لتأميم صناعات كاملة إذا ما تمت في بلد واحد. ما زال المركز ينتج، والأطراف تستهلك، وباتساع ثروة بعض الأطراف بسبب عائدات النفط أو تجارة المخدرات ازداد الاستهلاك، وازدادت قدرتها على استيعاب فائض الإنتاج في المركز.
(٢) سطوة العلم وثورة المعلومات
ما زال الغرب مهد العلم، ومبدع التكنولوجيا، وقد يظل كذلك لأجيال عديدة، وكلما أحرز سبقًا تجاوز نفسه بنفسه، وما زالت أجيال الحاسبات الآلية تتوالى، والتكنولوجيا المصغرة تفتح كل يوم آفاقًا جديدة. وما زالت الحضارة التي توحدت بالعلم والتكنولوجيا لم تُلقِ السلاح بعد، يأتيها الباحثون من الأطراف للبحث أو الدراسة، للاكتشاف أو التمرين، يُرصد فيها للبحث العلمي أضعاف ما يُصرف في الأطراف، وأصبحت مراكز العلم هي مراكز إصدار القرارات. الفلسفة علمية، والدين علم، والفن علمي، وتنظيم المجتمع علمي، والأخلاق علمية. تحول العلم إلى مطلق جديد بدلًا من المسلَّمات القديمة التي كان الوعي الأوروبي تركها وراءه وهو في بدايته في العصور الحديثة. فإذا كانت حضارة الشرق هي الدين فإن حضارة الغرب هي العلم. وفي كل عصر تنشأ علوم جديدة هي علوم المستقبل، كانت الرياضيات كذلك ثم أعقبتها الطبيعيات، والآن هي علوم الهندسة الوراثية القادرة على خلق الحياة والإبقاء عليها والتحكم في مسارها، ظنيٌّ على المستوى النظري ولكنه يقينيٌّ على المستوى العملي.
ومع ذلك بدأت الآثار السلبية لسطوة العلم تبدو داخل الوعي الأوروبي في نهايته، خلق عالم مصطنع وهمي بديل عن العالم الحقيقي، أنساق نظرية كلها محتملة لفهم الواقع دون أن تكون بديلًا عنه. فقدت العالم الداخلي، عالم الحياة، المنظور الإنساني للواقع وللإنسان. وبدأت اتجاهات داخل فلسفة العلم ذاتها أقرب إلى اللاعقلانية وتدعو إلى التصوف، وتكتشف الإيمان داخل العلم، والمسيح داخل تطور الكون في الماضي والحاضر والمستقبل. واسترعى العلماء سحر الشرق، والعلم الصيني القديم، وكيمياء المصريين القدماء، والمنطق البوذي الهندي. وبدأت الآثار الجانبية في تطبيقات العلم في الظهور ليس فقط على مستوى الصناعة والتلوث، فذاك قد ظهر منذ القرن الماضي، ولكن هذه المرة في الآثار الجانبية للتدخل الخارجي في مسار الخلايا الحية كما هو الحال في الهندسة الوراثية والكيمياء العضوية، وانتشر السرطان نتيجة لذلك، واستعصت السيطرة عليه لصعوبة التفرقة بين ما هو طبيعي وما هو مصطنع في الجسم الحي وفي النبات، وإحداث خلل في النمو الطبيعي للخلايا الحية. تحولت الكيمياء إلى طبيعية ثانية. وضاعت الطبيعة الأولى بالرغم من صيحة روسو في بداية الوعي الأوروبي «عَود إلى الطبيعة».
أما بالنسبة إلى ثورة المعلومات، فإن العصر الحديث، والوعي الأوروبي في بداية النهاية، قد أحدث ثالث ثورة في حياته منذ الثورة الصناعية في القرن الماضي إلى الثورة التكنولوجية الحديثة في منتصف هذا القرن إلى ثورة المعلومات في هذا الجيل. لقد اتسعت المعلومات العلمية بحيث وجب التفكير في تنظيمها من أجل سهولة السيطرة عليها واستخدامها بسهولة ويسر، فتم تصغير مصادرها في البطاقات الشمسية، وتصغير حجمها في الأجيال الجديدة «للكومبيوتر»، وتم تنظيمها في أنساق يسهل الدخول إليها والخروج منها، كما أنها أصبحت قادرة على اقتراح اتخاذ قرار، وأرشد قرار طبقًا للمتاح من المعلومات. وتم إنشاء بنوك للمعلومات، مثل بنوك الأعضاء وبنوك الدم، من أجل استثمارها لمن يحتاج. وأُنشئت شبكة للاتصالات عبر الأقمار الصناعية بحيث لم يعد هناك مجهول في الزمان أو المكان، كل الماضي حاضر، وكل الأماكن مرئية. أصبح العالم كله نظامًا واحدًا، ونسقًا واحدًا في يد مراكز المعلومات، ويستطيع الإنسان في مكان وزمان معينين أن يعيش في كل الأمكنة والأزمنة. لم يعد هناك داعٍ للتنقل لإحضار المعلومات، فالمعلومات لا مكان لها ولا زمان، يكفي الضغط على زر في جهاز فتظهر المعلومات على الشاشة الضوئية. العلم يأتي للإنسان ولا يذهب الإنسان إليه.
ومع ذلك فما زالت ثورة المعلومات كمية لا كيفية. تعطي معلومات ولا تعطي علمًا. تجمع أخبارًا ولا تضيف جديدًا. إبداعها محدود في إطار ما يغذي به الإنسان الحاسب الآلي، فهو دائرة مغلقة، يعطي إمكانيات متضخمة في الداخل، ومعادلات ارتباط دون أن يقدر على الخروج منها. فهو أشبه بالمنطق الصوري القديم، عندما تكون النتائج فيه مرهونة بصحة المقدمات ومتضمنة فيها. يظن العالِم أن الحاسب الآلي يأتي لمساعدته ويعطيه ما لا يعرف، وفي الحقيقة إن الحاسب الآلي مشروط بما يغذيه به العالِم. ليس الحاسب الآلي هو المركز والذاتُ تدور حوله بل الذات هي المركز والحاسبُ الآلي يدور حولها، ثورة كوبرنيقية ثانية. ومنذ متى كان الكم يتحول إلى كيف والمعلومات إلى علم؟ ومنذ متى كانت معلوماتنا عن أي شيء كاملة وجوانبه معلومة؟ وهل يمكن ضرب المعلومات في بعضها حتى يزداد حجمها، وبالتالي تزداد علمًا؟ إنه مهما نفخنا في البالون فإنه يكبر بزيادة الهواء فيه ولا يكبر هو نفسه حجمًا ولا يزيد. وماذا عن مدى تطابق المعلومات مع الواقع ذاته؟ وهل الواقع مجرد تراكم معلومات؟ وماذا عن الحرية الباطنة في الواقع، الكُمُون والطفرة، وهو ما يجعل التنبؤ بمسار الواقع في المستقبل تنبؤًا لا حتميًّا، مجرد احتمال؟ إن تجميع المعلومات من أجل اتخاذ القرار يُسقط من حسابه عنصر اللاتحدد في الفعل الإنساني، والقدرة على الإبداع الذاتي، ويمنع من الاتصال المباشر بالواقع ورؤيته مباشرة، وهو مصدر كل علم. يقفز على الخصوصيات لحساب العموميات، ويتجاوز المضمون لحساب الشكل. وقد كانت كل المعلومات عن طريق الأقمار الصناعية متوافرة في حرب أكتوبر ١٩٧٣م لدى الأعداء إلا اندلاع الحرب.
(٣) مجتمع الرفاهية والخدمات
يظل المجتمع الأوروبي هو الذي استطاع أن يوفر أكبر قدر ممكن من الرفاهية والخدمات: وسائل حديثة في المواصلات والاتصالات، تحكم في حرارة الجو صيفًا وشتاء، سهولة الحياة، الجمع بين العمل والرفاهية، الإخلاص في العمل وحب الحياة، دقة المواعيد إحساسًا بالزمان على عكس صورة الشرقي الذي يَعُد الزمان لديه بالسنوات والدهور وليس بالساعات والدقائق. كل شيء سهل الحصول عليه والتخلص منه بالنسبة للأطراف حيث يصعب الحصول على شيء أو التخلص من أي شيء. لا يصارع الأوروبي من أجل حقوقه الطبيعية الأولية في الغذاء والكساء والصحة والتعليم، بينما يتصارع الناس في الأطراف من أجل قوت يومهم، وكساء أبدانهم، وعلاج مرضاهم، وتعليم أولادهم. الدولة في خدمة الشعب، والنظام منتخب من الناس، والتخطيط يتم لصالح الأغلبية. يتمتع الأوروبي بالحريات العامة التي حصل عليها وبحقوق الإنسان والمواطن التي ناضل من أجلها، ولم يعلن عن ذلك فقط بل مارسها داخل حدود أوطانه، على عكس باقي الشعوب التي طالما مارس فيها الحكام السياسة بالقهر ضد الخصوم السياسيين وفوق رءوس الناس. يهرع إلى الغرب المهاجرون طلبًا لوسائل الراحة ولتوفير الخدمات وهربًا من مجتمع الضنك والنقص والضيق. ويفخر الوعي الأوروبي أنه أقام وحدته، وأسس سوقه، وانتخب برلمانه. يتجول الأوروبي بين الدول الأوروبية دون تأشيرات دخول ودون مطاردة من أجهزة الأمن، ودون قيود تحويل عملة، ودون رسوم جمركية. أوروبا هي ميزان الثقل بين الشرق والغرب، يخطب الشرق الآسيوي والغرب الأمريكي معًا وُدَّها، جنة الله على الأرض كما كانت دمشق وبغداد والقاهرة قديمًا.
إن أقصى ما استطاع الوعي الأوروبي أن يقدمه هو مشروعه لتحقيق مجتمع الرفاهية والخدمات، مجتمع الوفرة والاستهلاك، فكانت النتيجة عكس ما انتهى إليه، وانقلب الضد إلى الضد. لم يستطع الوعي الأوروبي أن يحقق ملكوت الله على الأرض، فما لقيصر لقيصر وما لله لقيصر، ولم يستطع أن يحقق ملكوت الأرض، مجتمع الرفاهية والخدمات؛ لأنه منفصل عن ملكوت الله. لقد فصل أوغسطين في مرحلة المصادر بين مدينة الله ومدينة الشيطان فلا هو استطاع تحقيق مدينة الله ولا هو استطاع إيقاف الاستمرار في مدينة الشيطان. وقد يرجع ذلك في بداية الوعي الأوروبي إلى فصل مشروعه المعرفي عن مشروعه الأخلاقي، فلما أتى إلى المشروع العملي فصل بين الواقع والقيمة، فأصبح الواقع بلا قيمة، والقيمة بلا واقع، وبالتالي تكون مظاهر الأمل في الوعي الأوروبي خادعة، بدأت تتكشف على أنها وهم، وأن الوعي الإنساني أكثر عمقًا وشمولًا مما استطاع الوعي الأوروبي أن يقدمه، ومن ثم تصبح فلسفات العدم ومظاهر الموت من الرُّوح هي الأكثر تعبيرًا عن جوهره، والأكثر رسوخًا في أعماقه، ويكون المتشائمون أكثر صدقًا من المتفائلين.
(٤) ريح الحرية في أوروبا الشرقية
رابعًا: مظاهر الأمل في وعي العالم الثالث
وإذا كان مسار الآخر في نهاية القرن العشرين وبداية الواحد والعشرين في انهيار على ما بدا في فلسفات العدم والموت في الرُّوح وأزمة الغرب فإن مسار الأنا في نهاية القرن الرابع عشر وبداية الخامس عشر في صعود على ما يبدو من مظاهر الأمل في وعي العالم الثالث. ومسار الأنا في حقيقة الأمر بالرغم من أنه يعبر عن مراحل الحضارة الإسلامية في التاريخ إلا أنه يعبر أيضًا عن مسار العالم الثالث لما كانت الحضارة الإسلامية أساسًا منتشرة في آسيا وأفريقيا كثقافة، وفي أمريكا اللاتينية كهموم وأهداف وطموحات ومصير. فشعوب أمريكا اللاتينية بالنسبة للشعوب الإسلامية في أفريقيا وآسيا، هم المؤلَّفة قلوبُهم الجدد، أهل الكتاب عن جدارة، خاصة بعد أن تحول الأوروبيون إلى رومانيين وجرمانيين ووثنين وبرابرة، شعوبًا وقوادًا، باستثناء القلة التي يمثلها رجل من آل فرعون يكتم إيمانه.
وبالرغم من أن مظاهر الأمل هذه ليست بنفس الحسم الدلالي إلا أنها تُعتبر ضمن المؤشرات العامة على مسار الأنا الصاعد من جديد في بداية مرحلة جديدة، مرحلة ثالثة لدورة حضارية ثانية تأتي قمتها على مستوى العصر الذهبي القديم في الدورة الأولى في القرنين الرابع والخامس. وقد تكون إرهاصات أكثر منها ظواهر، وعلامات أكثر منها دلالات كاملة إلا أن الذي يسبر أغوار وعي العالم الثالث يدرك أنها بدايات ظواهر، مؤشرات على إبداعات نظرية وعلمية ما زالت تتخلق. تعكس الحالة الراهنة لوعي العالم الثالث بما فيه من لاتحدد وغموض وتشتت وخطابة وحماس. ولكنه خطاب جديد على أية حال يمكن تحليل نسقه.
(١) حركات التحرر الوطني
وفي مقابل مظاهر اليأس والقنوط في الوعي الأوروبي هناك مظاهر أمل ودواعي تفاؤل في وعي العالم الثالث. وتأتي في المقدمة حركات التحرر الوطني، فقد قامت شعوب العالم الثالث بإنجاز ضخم في القرن العشرين الأوروبي، ألا وهو التحرر من الاستعمار، وهو أمر ليس بالهين لأنه كان بداية انحسار المد الاستعماري في القرن الماضي وبعد الحرب الأوروبية الأولى في هذا القرن. وقد استُشهد الآلاف بل الملايين من أجل الحصول على الاستقلال، وأنشئت أحزاب باسم أحزاب الاستقلال، وجبهات ومنظمات باسم جبهات ومنظمات التحرير. وما زالت الحركات مستمرة لتصفية آخر جيوب الاستعمار الاستيطاني في فلسطين وفي جنوب أفريقيا، وما زالت مراحل الاستقلال كلها لم تتم. أنجز الجيل الماضي الاستقلال السياسي عن طريق النضال الوطني وحروب التحرير الشعبية كما حدث في الجزائر. وما زال جيلنا يناضل من أجل الاستقلال الاقتصادي والعلمي والثقافي والحضاري.
وفي نفس الوقت تم تخطيط الاقتصاد الوطني من أجل تنمية مستقلة، وسيطرة الدولة على وسائل الإنتاج، وأولوية القطاع العام على القطاع الخاص، وأهمية التصنيع، والانتقال من الزراعة إلى الصناعة، ومنها الصناعات الثقيلة. وقامت مذاهب سياسية اقتصادية تشق طريقًا ثالثًا بين الماركسية والرأسمالية مثل الاشتراكية العربية، والاشتراكية الأفريقية، والتسيير الذاتي، والمزارع التعاونية، وتأميم المصالح الأجنبية. وأصبح الاقتصاد جزءًا من التنمية الشاملة التي تقوم على مشاركة العمال في إدارة العمل والأرباح وفي رءوس الأموال، والعمالة الوطنية، وحقوق العمال، ومجانية التعليم، وتخطيط المدن الجديدة، ووضع سياسة وطنية للتحكم في الأسعار، ودعم المواد الغذائية، واتباع سياسات عامة منحازة لصالح الجماهير، وتمثيلها في المجالس النيابية، والاعتماد على المدخرات الوطنية في الاستثمار أكثر من اعتمادها على الديون الأجنبية.
كما حدثت تغيرات جوهرية في النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية لدى الشعوب المتحررة. فقد تغيرت النظم الملكية إلى نظم جمهورية شعبية ديمقراطية. كما استطاعت شعوب العالم الثالث، بعد ثورتها ضد الاستعمار أو أثناءها، القضاء على الإقطاع، حيث كان يملك أقل من ١٪ مجموع أراضي البلاد بينما كان أكثر من ثلاثة أرباع الشعب من الأُجراء الزراعيين. استطاعت ثورة شعوب العالم الثالث أن تصدر قوانين الإصلاح الزراعي، وتحديد الحد الأعلى للملكية للأراضي، وإقامة الجمعيات التعاونية في الريف، فهزت البنية الطبيعية للمجتمع التقليدي، كما قضت على النظم الرأسمالية التي كانت متحالفة مع الإقطاع إبان الحكم الاستعماري، واستبدلت بها نظمًا اشتراكية مستقلة تقوم على تذويب الفوارق بين الطبقات، وتحقيق العدالة الاجتماعية، ووضع حد أدنى لسياسة الأجور، وفرض الضرائب التصاعدية على مرتفعي الدخول.
وقدمت شعوب العالم الثالث أيضًا تجرِبة فريدة هي تجرِبة الحزب الواحد الذي يجسد القوى الوطنية في البلاد، ويعبر عن مصلحة الجماهير، ويبلور تحالف قوى الشعب العاملة، خاصة إذا تعددت الاتجاهات داخل الحزب الواحد، وقام حوار فكري وطني خلاق بين مختلِف التيارات فيه، فالاتفاق في الأهداف الوطنية يقتضي وحدة التنظيم السياسي، وهو واقع أكثر صراحة مما يحدث في النظم السياسية الغربية التي تختلف فيها الأحزاب ظاهرًا، وتتم معارك انتخابية طاحنة بين عمال ومحافظين، بين جمهوريين وديمقراطيين، والأهداف واحدة، الاستعمار والاستغلال والسيطرة على مقدرات الشعوب. كما قدمت شعوب العالم الثالث تجارِب سياسية عديدة منها حكومات الوحدة الوطنية أو الائتلاف الوطني تأكيدًا على رُوح الأمة ولأفكار العروة الوثقى وليس لاتفاق مصالحَ وقتيٍّ أو لديمقراطية زائفة تقوم على الأغلبية والأقلية التي قد تطمس فيها الأغلبية حق الأقلية، وقد تتحول الأغلبية فيها أحيانًا إلى إرهاب وتسلط باسم الأكثرية.
وإذا كانت الثورة الاشتراكية في روسيا والثورة الفرنسية والثورة الأمريكية قد أصبحت في الغرب أشهر الثورات فإن ثورات العالم الثالث قد توالت منذ حروب التحرير في أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا حتى الثورات الشعبية الحالية. فالثورات العربية والثورات الأفريقية وأخيرًا الثورة الإسلامية في إيران أعطت رصيدًا ثوريًّا ضخمًا لتجارِب الثورات في العالم الثالث. وقد قامت الجيوش الوطنية بدور أساسي فيها، فقد كانت طليعة القوى الثورية تنظيمًا وقيادة، وكانت على اتصال بالقوى الوطنية في البلاد وبالتيارات الفكرية الرئيسية فيها. عُهد إليها بالتنمية وأدوات تنفيذها في البداية لقدرتها على التنظيم وفاعليتها. وظهرت نظريات عديدة عن دور الجيوش في البلاد النامية وكأننا في عصر الثورة الفرنسية، نابليون يجسد رُوح الثورة. كما حدثت هبات شعبية كثيرة لتأخذ الشعوب حقوقها بأيديها من الطغاة كما حدث في ثورة الفلبين، وثورة السودان، والانتفاضات الشعبية في كوريا الجنوبية وبورما وهايتي والصين، والانتفاضة الشعبية في فلسطين.
ونظرًا لأن شعوب العالم الثالث قد جزأها الاستعمار، ووضع لها حدودًا مصطنعة تقسم القبائل في دولتين متجاورتين حتى ينشأ الولاء المزدوِج بين الأمة والوطن، بين القبيلة والدولة، فتختلق الدولتان المتجاورتان فيما بينهما صراعًا على الحدود فتنشأ الحروب والنزاعات، كما هو الحال في أفريقيا الآن، استطاعت أن تتجاوز التجزئة إلى الوحدة، ونشأت منظمات وحدوية مثل جامعة الدول العربية، ومنظمة الوَحدة الأفريقية، ومنظمة جنوب شرقي آسيا، ومنظمة شعوب أمريكا اللاتينية … إلخ. كما نشأت تجمعات إقليمية داخلية مثل مجلس التعاون العربي، ومجلس التعاون الخليجي، والاتحاد المغاربي العربي … إلخ. فطريق الوَحدة قادم، وأيديولوجيات الوَحدة سائرة وفعالة. وهذا مؤشر على تخلق وعي جديد هو وعي العالم الثالث.
(٢) العمق التاريخي، والموقع الجغرافي، والإمكانيات المادية والبشرية
وبالإضافة إلى العمق التاريخي هناك الموقع الجغرافي المتميز وسط العالم وحلقات الوصل بين القارات والمحيطات التي حاول الاستعمار البريطاني الاستيلاء عليها حتى سيطر على العالم كله: جبل طارق مدخل البحر الأبيض في الطريق إلى الهند، عدن مدخل المحيط الهندي من البحر الأحمر، سنغافورة نقطة الالتقاء بين المحيطين الهندي والهادي لتحويط جنوب شرق آسيا وانطلاقًا إلى الصين، هونج كونج نقطة ارتكاز على الساحل الشرقي لآسيا من المحيط الهادي أو بعد الالتفاف حول جنوب شرق آسيا، ومثل قناة السويس بدلًا من الالتفاف حول أفريقيا كلها من الجنوب، وباب المندب لربط البحر الأحمر بالمحيط الهندي. وقد حاول الاستعمار الأمريكي نفس الشيء بالاستيلاء على بنما نقطة الوصل بين المحيطين الأطلنطي والهادي والتي تقسم الأمريكتين إلى قسمين بدلًا من الالتفاف حول أمريكا الجنوبية كلها. وقد حاول الاتحاد السوفيتي نفس الشيء بمعاهدته مع تركيا لاستخدام مضيقَي البسفور والدردنيل للوصول من مياه البحر الأسود إلى البحر الأبيض المتوسط. وقام الاستعمار الفرنسي باحتلال أجزاء من الشواطئ الشمالية لأمريكا الجنوبية مثل جويانا وبعض جزر البحر الكاريبي. وقام الاستعمار البرتغالي بنفس الشيء في البرازيل، والاستعمار الهولندي في جزر الهند الشرقية … إلخ. لقد كان حلم كل جماعة أن تكون وسط العالم وهذا واضح في الخرائط القديمة: الصين، والقدس، ومصر … إلخ، إحساسًا بأهمية الموقع الجغرافي. كانت القارة الأوروبية ثم الأمريكيتان تمثل أطراف العالم القديم.
أما من حيث الإمكانيات البشرية فيضم العالم الثالث أكثر من ثلاثة أرباع البشرية — الصين وحدها ربع سكان المعمورة — ومجموع سكان العالم العربي في آخر القرن سيعادل مجموع سكان الدول الأوروبية، كما أن تعداد مصر وحدها سيفوق نصف مقدار سكان العالم العربي، وفي نهاية القرن أيضًا سيفوق تعداد المسلمين في الاتحاد السوفيتي مقدار سكان روسيا البيضاء. فالانفجار السكاني في العالم الثالث عنصر إيجابي وليس عنصرًا سلبيًّا. فبالإضافة إلى ما يمثله من قوة معنوية بشرية فإنه يمثل ضغوطًا على الأنظمة السياسية من أجل توفير الغذاء والسكن والتعليم والصحة وباقي الخدمات لهذه الأمواج المتلاطمة من البشر. وإن تعمير الصحاري الممتدة في أرجاء العالم الثالث لقادر على استيعاب هذه القوة البشرية. إنما هو الاستثمار وضرورة إعادة توزيع الدخل بحيث تشارك فيه الأغلبية مع الأقلية. فلا يُعقل أن يستأثر ٥٪ من السكان في مجتمعٍ ما بأكثر من نصف الدخل القومي. إن العرب مثلًا يعيشون على خمس أراضيهم الزراعية ويتركون الباقي بلا زراعة، والموارد المائية موجودة، والطاقة البشرية متوافرة. وقد كانت سياسة تحديد النسل بصرف النظر عن أسمائها: تنظيم الأسرة … إلخ، إنما تهدف إلى سلب العالم الثالث أحد عناصر قوته المعنوية الإنتاجية، لذلك يتم تنظيم هذه الحملات باستمرار بأموال المعونات الأجنبية لدول العالم الثالث.
(٣) الأيديولوجيات السياسية المستقلة
وتتجه كل الأيديولوجيات السياسية في العالم الثالث نحو الوحدة، الوحدة العربية، الوحدة الأفريقية، الوحدة الإسلامية، التضامن الأفريقي الآسيوي، حركة عدم الانحياز … إلخ. وقد حدد عبد الناصر في «فلسفة الثورة» الدوائر الثلاثة المتداخلة التي تعيش فيها مصر قلب العالم الثالث وأحد مؤسسي حركة عدم الانحياز مع الهند ويوغوسلافيا: الأولى العربية، والثانية الأفريقية، والثالثة الإسلامية أو الأفريقية الآسيوية. فمصر مركز الثقل في العالم الأفريقي الآسيوي، وحلقة الوصل بين أفريقيا وآسيا. تتشابه حضارتها القديمة ودورها مع حضارة المِكسيك ودورها في قلب أمريكا اللاتينية. وقد حاول «الكتاب الأخضر» وضع نظرية ثالثة مستقلة عن الرأسمالية والاشتراكية، وهو تعبير جديد عن اتجاه ثقافي عام «لا شرقية ولا غربية» مغروز في وجدان الجماهير، وتحاول أن تجد أسسًا عامة مثل الديمقراطية المباشرة، ورفض التمثيل.
(٤) الإبداع الذاتي في العلوم السياسية
وفي أمريكا اللاتينية تبلورت نظرية «الاعتماد على الذات» أو التنمية المستقلة في مقابل نظرية التبعية، وانتشرت بعد ذلك في أفريقيا وآسيا، وأصبحت أحد العناصر الثابتة في نظريات التنمية. وهو الكوجيتو العملي في العالم الثالث الذي يبدأ بتنمية الذات دون الاعتماد على الغير. وهي الثورة الكوبرنيقية أيضًا لأن الآخر يدور حول الذات وليست الذات التي تدور حول الآخر.
(٥) المشاريع العربية المعاصرة
وبالرغم من أن المشاريع العربية المعاصرة في كثير منها ما زالت مرتبطة بثقافة المركز إلا أنها ليست تابعة لها. أحيانًا تأخذ مذاهبه أو مناهجه كأداة للتحليل، ومع ذلك فهي تدل على رغبة دفينة في الإبداع، وفي التعبير عن الواقع المحلي، وعن استعمال ثقافة الآخر من أجل تجديد مسار الأنا. ولكن جيلًا جديدًا قد يكون أقدر على الإبداع الذاتي الخالص دون استعانة بثقافة الآخر، بعد أن يكون قد تملَّك أدوات تحليله. ومثله موجود في الهند والصين وإيران وفي أفريقيا السوداء وفي أمريكا اللاتينية. إنما المشاريع العربية مجرد نموذج لأنها أقرب لنا، وإن كانت المشاريع الأفريقية الآسيوية أيضًا ليست بعيدة عنا. لم نشأ أن نذكر نماذج منها نظرًا لارتباطنا بثقافتنا الوطنية.
خامسًا: هل هناك مظاهر ردة وانكسار في وعي العالم الثالث؟
إذا كانت مظاهر العدم سائدة في الوعي الأوروبي ومظاهر الأمل فيه تكاد تكون معدومة أيضًا فإن مظاهر الأمل في وعي العالم الثالث حقيقة واقعة، ومظاهر الردة والانكسار تكاد تكون ظاهرية خارجية، قشور قديمة تتساقط بطبيعتها من أجل نضج اللب ونماء الأصل. العدم في الوعي الأوروبي أصيل والأمل فيه خادع، بينما الأمل في وعي العالم الثالث أصيل ومظاهر الردة والانكسار فيه خادعة. وإذا كان الوعي الأوروبي كوبًا نصفه فارغ فإن وعي العالم الثالث كوب نصفه مملوء. وإذا كانت رُوح التشاؤم هي الغالبة في الوعي الأوروبي كما بدت عند فلاسفة التاريخ المعاصرين فإن رُوح الأمل هي الغالبة كما بدت لدى كثير من كتاب العالم الثالث.
وبالرغم من أنه يمكن رصد بعض محددات العالم الثالث ومظاهر السلب في وعيه إلا أنه يظل مع ذلك واقعًا تاريخيًّا من حيث الماضي، وإمكانيات حالية من حيث الحاضر، واحتمالات إيجابية من حيث المستقبل. وفيما يتعلق بالمصير لا يكون الأمر حسابًا كميًّا للحاضر بل رؤية كيفية لإمكانيات المستقبل. فالتاريخ «حامل» يبشر بمولود جديد. وتتلخص هذه المحددات في ثلاث: عوامل التجزئة في العالم الثالث، والثورات المضادة فيه، ومظاهر التخلف التي أصبحت من سمات مجتمعاته لدرجة أنهما أصبحا صِنوين.
(١) هل هناك عوامل تجزئة في العالم الثالث؟
يذكر المتشائمون منا أو الشامتون الغربيون أن وعي العالم الثالث لا وجود له نظرًا للتباين الشديد بين شعوبه. بل إنه لا يمكن تحديده على وجه الدقة تحديدًا جامعًا مانعًا. يضم مناطق مترامية الأطراف لا رابط تاريخيًّا بينها: الصين واليمن، الهند وجابون، فيتنام والمغرب، تاهيتي ومصر … إلخ. تشغلها نزاعات الحدود مثل السنغال وموريتانيا، المغرب والجزائر، المغرب والبوليزاريو، ليبيا وتشاد … إلخ. وقد يصل الأمر إلى حد النزاع المسلح ونشوب الحرب بين الإخوة الأعداء. تكثر فيها الخلافات العرقية وصراعات القبائل، والحزازات التاريخية. تتحكم في بعض منا الأقليات مثل الهنود في أوغندا. وتتنافر فيما بينها للمصالح المتعارضة بين الدول.
والحقيقة أن هذه المظاهر هي مجرد ظواهر سطحية تكشف وحدة أعمق ممتدة عبر التاريخ، وترتكز على مصالح الحاضر والمصير المشترك. وهي مظاهر عامة من مخلفات الاستعمار، فقد أراد الاستعمار بعد أن يرحل أن يضع حدودًا مصطنعة بين الدول الأفريقية خاصة والآسيوية عامة، وقسمة القبائل إلى نصفين، الأول في دولة والثاني في أخرى حتى تشغل نزاعات الحدود عن بناء الدولة والتنمية، وتعوق الوحدة طبقًا للمبدأ المشهور «فرق تسد». وقد ساعد على ذلك أيضًا الجهل السائد، والوعي السياسي الناقص، والنظم الحاكمة التي تعتمد على نزاعات الحدود لتقوية أوضاعها الداخلية، القهر، والفقر، باسم المحافظة على التراب الوطني وحماية الحدود من الغزو الخارجي. وأحيانًا تلعب النظم الحاكمة لعبة الاستعمار القديم في الرغبة في التوسع باسم الدولة القومية. ولكن الدخول في أعماق وعي العالم الثالث يجد وحدة الوعي والرؤية والتجانس بالرغم من الاختلاف في عوامله المادية القبَلية واللُّغوية والجغرافية. فالأفريقية كماهية تجمع الشعوب الأفريقية. والآسيوية كماهية تعبر عن رُوح الشعوب الآسيوية، واللاتينية الأمريكية تكشف عن وحدة باطنية ترتبط بها شعوب أمريكا الوسطى، وهي التي تظهر في الأدب والفكر والفن، وتكمن وراء التنظيمات السياسية الإقليمية الوحدوية مثل منظمة الوحدة الأفريقية، ومنظمة شعوب أمريكا اللاتينية، ومنظمة شعوب جنوب شرقي آسيا … إلخ. ولقد حاول كثير من المفكرين في القارات الثلاث صياغة هذه الوحدة الباطنية فيما يُعرف باسم الفلسفة الأفريقية أو فلسفة «البانتو». وتركز على استقلال الوعي عن حوامله المادية، ووجوده في الزمان، واتجاهه نحو المطلق عن طريق العلو أو المفارقة، ومظاهر التعبير عنه في الفن والتقاليد والتراث الشعبي والديانات المحلية وقيمها في الجماعة والعمل المشترك. كما ظهرت محاولات للتعبير عن الرُّوح الآسيوي كما عبرت عنه البوذية والكونفوشيوسية والشِّنتُوية: الاستنارة الداخلية والطبيعة والمجرد من البوذية، والأخلاق العملية من الكونفوشيوسية، والدولة والإمبراطورية من الشِّنتُوية.
وبالإضافة إلى تأصل وحدة الوعي في العالم الثالث في التاريخ والحضارة، ولها أساسها الثقافي والديني، فإنها ترتكز أيضًا على هموم العصر وإشكالاته الرئيسية لتحديث المجتمع مثل الأصالة والمعاصرة، التراث والتجديد، القديم والجديد، الأنا والآخر. وتثار هذه الإشكالات في كل أرجاء العالم الثالث بنفس الطريقة، وتفرض نفس الحلول، وتقوم نفس الحركات، وتمر شعوبه بنفس التجارِب، نجاحًا أم فشلًا. فوحدة الإشكال تعبير عن وحدة الوعي. كلها مجتمعات تراثية تنتقل من القديم إلى الجديد، تمر بمرحلة انتقالية من نظام اجتماعي قديم إلى نظام اجتماعي جديد. لذلك عظُم التأثير المتبادل بينها على مستوى تبادل الخبرات وإثراء النظريات، وإنجازات فرق البحث. أما عن هموم المستقبل وتوجهاته فتجمع شعوب العالم الثالث وحدة المصير للتخلص من بقايا الاستعمار القديم، ومظاهر الاستعمار الجديد، وتنمية المجتمع، ومواجهة التخلف، والاعتماد على الذات، وتنمية الموارد المائية، والتوسع الزراعي، والتحول الصناعي، وتقوية التبادل التجاري، وإنشاء السوق المشتركة بينها. عوامل الوحدة إذن في وعي العالم الثالث هي الأساس والجوهر وما عوامل التجزئة إلا عوارض طارئة.
(٢) هل هناك ردة أو ثورة مضادة في أنظمة الحكم؟
وبالرغم من الإنجاز الضخم الذي قامت به شعوب العالم الثالث في التحرر من الاستعمار، أكبر إنجاز تاريخي في هذا القرن، إلا أن بعض الثورات الوطنية انقلبت على نفسها وتحولت إلى ثورات مضادة، وربما بفعل نفس القادة الوطنيين الذين قادوا حركة التحرر الوطني. وفي نفس الجيل، وفي مدة قصيرة، تحولت من النقيض إلى النقيض، من مناهضة الاستعمار إلى التحالف معه، ومن مقاومة العنصرية إلى التسليم بها، ومن الصراع ضد الصهيونية إلى الاستسلام لها، ومن التنمية المستقلة إلى التبعية الاقتصادية، ومن الوحدة العربية أو الأفريقية أو الآسيوية إلى الانعزالية والطائفية والتجزئة، ومن تعبئة الجماهير وحشدها إلى سلبيتها وفتورها، ومن الدعوة إلى التحرر وحرية المواطن إلى أشنع أساليب القمع والتسلط، ومن إثبات الهُوية القومية إلى الوقوع في التغريب.
ولما كان القادة الوطنيون الذين قادوا معارك التحرر الوطني من الطبقة المتوسطة فإنها اعتمدت على طبقتها لتحديث المجتمع وقيام الدولة. ونظرًا لارتباطهم فيما بينهم بزمالة الدراسة وصداقة العمر ورفقة السلاح نشأت الشِّلَلية في المال والإدارة، وأصبح أهل الثقة أفضل من أهل الخبرة، ونشأت الطبقة الجديدة كي تُثرِي على حساب الثورة، طبقة الإداريين والفنيين الذين كانوا الوسطاء بين القادة والشعب، فأخذوا من كلا الطرفين: المكاسب الخاصة من القادة وحكم الشعب. ومع ذلك فبازدياد حدة التقابل بين الأغنياء والفقراء، فإن الطبقات الفقيرة قد تكون قادرة اليوم على الثورة من جديد، من القواعد لا من القمم، فتجرف مكاسب الطبقة المتوسطة التي اتسع نطاقها، وأصبحت تكوِّن نوعًا من الإقطاع الجديد. وإذا كان حجم الطبقة الجديدة قد اتسع في عمر الثورة فإن حجم الطبقات الفقيرة قد ازداد اتساعًا في عصر الثورة المضادة، وأصبحت تفرز قادتها من النقابات والاتحادات والجمعيات الأهلية. وتمثل ضغطًا شعبيًّا على أجهزة الحكم من أجل التغير الاجتماعي.
وصحيح أيضًا انتشار الفساد الاجتماعي في الدول الحديثة الاستقلال، وتفشي الرشوة، والسطو على المال العام، والاتِّجار في السوق السوداء، وتهريب مدخرات البلاد إلى الخارج. فقد تم في عمر الثورة القضاء على التنظيمات الشعبية التي كانت تقوم بمهمة تربية الشباب مثل الإخوان المسلمين في مصر حتى أصبح الميدان فارغًا من أية مهمة تربوية، كما ازداد الفقر، وأصبحت الرشوة أحد مصادر توزيع الدخل القومي من الدرجة الثانية، واتسع نشاط القطاع الخاص، وأصبحت العمولات إحدى وسائل التنشيط الاقتصادي، كما تقلص نشاط القطاع العام ودون رقابة محكمة على المال العام مما جعله موضوعًا للسرقة والنهب وحرق المخازن. ومع ذلك يمكن القضاء على مظاهر الفساد بإعادة تربية الشباب عن طريق التنظيمات الشعبية، وزرع قيم الولاء الوطني، والارتباط بمشروع قومي موحد يبغي الصالح العام، وتقوية الدولة ورقابتها على النشاط الاقتصادي، ورفع مستوى دخل الطبقات الفقيرة، وإعادة توزيع الدخل القومي عن طريق إعادة النظر في سياسة الأجور كلها.
وصحيح أيضًا أن التحرر الوطني كان من ضمن شعاراته الدفاع عن الهُوية ضد التغريب، وإثبات الأنا في مواجهة الآخر، إلا أنه بعد الاستقلال، وبعد فتور الأنا بعد أن حقق مطلب الاستقلال، وبعد حاجة الأنا للآخر في التنمية، وفي التحول من الثورة إلى الدولة وقع الأنا في التغريب رغبة في التمتع بالمزايا الاستهلاكية التي قدمها الآخر، وبأساليب حياة الرفاهية التي يعيش فيها. فبدأ الاستقلال الوطني يضيع شيئًا فشيئًا، وبدأ ارتهان الإرادة الوطنية. اقترن التغريب بالتبعية كما اقترنت التبعية بالتغريب، ومع ذلك، التغريب سطحي، فما أكثر الانتفاضات الشعبية والثورات الوطنية التي يتم فيها خلع هذا الإزار الرقيق لتظهر الشخصية الوطنية وهي في عنفوان أصالتها، تثبت هويتها المستقلة، وتضع التقابل بين الأنا والآخر إلى حد التناقض. وعلى هذا النحو تكون جميع مظاهر الثورة المضادة في أنظمة الحكم الوطنية مؤقتة وسطحية سرعان ما تنتهي لكي تظهر ثورة الأعماق.
(٣) هل التخلف حقيقي أم ظاهري؟
ومما لا شك فيه أن التخلف إحدى السمات العامة لدى شعوب العالم الثالث، بمعنى نقص الخدمات، وانخفاض معدل الاستهلاك، وانخفاض مستوى الدخل الفردي، والتضخم، والغلاء، والديون الخارجية، وانخفاض معدل التنمية، واختلال ميزان المدفوعات … إلخ. ولكن بمعنًى آخر وبمقياس مختلف قد لا تكون هذه المجتمعات متخلفة بل مختلفة نوعيًّا عن غيرها، مجتمعات تراثية ترتبط بالقديم في مقابل مجتمعات لا تراثية منفصلة عن القديم. وليس أحدهما مقياسًا للآخر، وليس أحدهما خيرًا والآخر شرًّا.
والتخلف بالمقياس الأول ظاهري، إذ يمكن التوجه إلى قضايا التنمية بالاعتماد على الذات كما حدث في الصين وفيتنام والهند ومصر الناصرية والجزائر بعد الاستقلال والعراق قبل الحرب. ويكمن في التراث الثقافي القومي مفاهيم للتقدم والتنمية حتى ولو كان بمعنى التقدم الرُّوحي والكمال الأخلاقي، إلى أعلى وليس إلى الأمام، الرُّوحي وليس المادي، الفردي وليس الاجتماعي. وإن كان التقدم المادي يعتمد على التخطيط والفعل الإرادي فإن مفاهيم التقدم التقليدية قد تعطي الأولوية للقضاء والقدر وللإرادة الإلهية. ولكن بتأويل جديد للمفاهيم التقليدية يمكن إعادة بناء الثقافة الوطنية وتحويلها من العقيدة السائدة إلى البديل الممكن. وإن الإحساس بالدور التاريخي لشعوب العالم الثالث وبأنها مؤهلة إلى دور القيادة يجعلها قابلة للاعتماد على الذات والتنمية المستقلة، وأخذ الطريق الصعب، وحل المشكلات حلًّا جذريًّا، والتحول من نمط الاستهلاك إلى نمط الإنتاج، ومن الاعتماد على الغير إلى الاعتماد على الذات، ومن نقل المعلومات إلى الإبداع الذاتي.
وقد ذاعت أخبار الفقر والجوع والقحط والجفاف لدى شعوب القارة، الأفريقية خاصة. الموتى بالمئات كل يوم، والكوارث الطبيعية، الفيضانات والجراد، والحروب القبلية، والإنسان عاجز أن يفعل شيئًا، والشعوب تعاني مما عجزت عنه القادة. والحقيقة أن كل ذلك مقدور عليه عن طريق إيقاف نهب ثروات العالم الثالث، خاصة في المواد الأولية والمعادن، النفط والذهب والنحاس … إلخ. وإن نقص السدود والخزانات لحجز المياه للاستفادة بها في الري في أوقات الجفاف لراجع إلى نقص في التمويل، والذي يمكن أن يتم إذا ما تحولت عوائد المعادن والنفط وثروات باطن الأرض إلى الاستثمارات الزراعية. وإن الرجل الأبيض في أفريقيا هو المسئول تاريخيًّا عن التصحر عندما كان يزرع الأرض ولا يراعيها، يأخذ ولا يعطي. كما أن إعادة توزيع الدخل القومي لدى شعوب العالم الثالث تحل قضية فقر الأغلبية في مقابل ترف الأقلية. لدى شعوب العالم الثالث أكبر فائض للأموال المودعة في البنوك الغربية لتصنيع الغرب وتصدير منتجاته إلى الدول النامية وهي أولى بالاستثمار فيها، كما أن تحويل محاور الثقافات الوطنية في المجتمعات التقليدية، من الله إلى الإنسان، ومن الرُّوح إلى الطبيعية لقادر على توجيه الشعوب إلى الأرض، والعمل فيها، وزرعها، والسيطرة على مواردها.
ولا تعني الأمية لدى الشعوب التقليدية الجهل بالقراءة والكتابة فحسب، وعدم حصول المواطنين على شهادات رسمية من مؤسسات علمية حكومية أو خاصة في مراحل التعليم المختلفة من المدارس الابتدائية حتى الجامعات والمعاهد العليا. هذا هو التعليم الرسمي. إنما يكون التعلم في مثل هذه المجتمعات عن طريق التراث الشِّفاهي، ونقله جيلًا عن جيل. يتضمن حكمة الشعوب وتجارِبها التاريخية عبر الأجيال. كما تحتوي كتبها المقدسة على مصادر معلومات تم تجريب الكثير منها واعتُمد عليها في الزراعات والصناعات التقليدية. وقامت عليها حضارات قديمة بأكملها ما زالت في بعض جوانبها عنوانًا للحداثة ونموذجًا للتقدم. وهناك فرق بين «العلم الجاهل» وهو العلم الرسمي، الفني، والذي يحمله الخبير الأجنبي، المتعلم المتعالي على واقعه والذي يطبَّق على الوافد في مجتمع تقليدي محلي ذي ثقافة موروثة، وبين «الجهل العالم»، وهو العلم الموروث الفعال الذي حافظ على وجود المجتمعات التقليدية ونموها التاريخي حتى الآن، والذي يعتبر جهلًا بمقياس العلم الحديث الوافد. إن البداهة الشعبية والفطرة الإنسانية والذكاء الطبيعي لَمَصادر علم يجتمع فيه الموروث والوافد، ويكون مقياس الحكم عليهما.
وصحيح أيضًا أن معدل الوفَيَات بسبب الأمراض لدى شعوب العالم الثالث أعلى بكثير من معدل الوفَيَات لدى الشعوب المتقدمة التي استطاعت بالطب الوقائي والطب العلاجي مقاومة الأمراض والحفاظ على صحة المواطنين. ذلك صحيح ولكنه مقدور عليه، يمكن تجاوزه، ولا يقلل من أهمية دور الريادة الذي يمكن أن تقوم به شعوب العالم الثالث في المستقبل. فمعدل الإنجاب لديها أعلى بكثير من مثيله لدى الشعوب المتقدمة. الفاقد لديها كثير ولكن الإنتاج أكثر، وهذا عنصر قوة لا عنصر ضعف بالرغم من كل المحاولات لتحديد النسل التي يكمن خطؤها في تكييف العامل البشري طبقًا للموارد وليس تكييف الموارد طبقًا للإمكانيات البشرية. وإن الضغط البشري لعامل في الحركة الاجتماعية، ووسيلة ضغط على النظم الحاكمة، ومفجر للثورات. كما يمكن تحويل الثقافة الوطنية التقليدية من الرُّوح إلى البدن، ومن الشفاء الإلهي إلى العلاج الطبي حتى تتحول الثقافة التقليدية إلى وعي طبي. ويمكن توفير البنية التحتية للعلاج الطبي مثل تشييد العيادات الطبية داخل القرى والنجوع، وإقامة المستشفيات العامة في المدن، وإيقاف هجرة العقول من العالم الثالث إلى الغرب، وتوفير الاعتمادات اللازمة للاستثمارات الطبية. وبارتفاع مستوى المعيشة تستطيع الأسرة أن تنفق جزءًا من دخلها على الطب الوقائي مثل نظافة المأكل والمشرب والملبس والمسكن، وإعداد الطعام المغذي، والمياه النقية، واللباس الكافي، والملبس الصحي. وبارتفاع مستوى الدخل تقل نسبة الأمراض.
قد تنطبق هذه الظواهر على التجارِب العربية المعاصرة، ولكنها في الحقيقة عامة لدى شعوب العالم الثالث كلها. المشاكل متشابهة والحلول متقاربة. وإن كل محددات البدن الضعيف لا تصيب الرُّوح السليم. وهما مستويان متمايزان: الواقع والماهية. وإذا كانت الشعوب الأوروبية قد استطاعت تجاوز محددات البدن إلا أن الرُّوح خاوية، فإن شعوب العالم الثالث وإن كانت لم تتجاوز محددات البدن بعد إلا أن الرُّوح عامرة.
سادسًا: من الغرب إلى الشرق
لو كانت مظاهر العدم في الوعي الأوروبي حقيقة ومظاهر الأمل فيه وهمية، صحوة ما قبل الموت، ولو كانت مظاهر الردة والانكسار في وعي العالم الثالث ظاهرية ومظاهر الأمل فيه حقيقة بإمكانياته التاريخية، يكون جيلنا قد عاصر نقطة تحول رئيسية في مسار الحضارات البشرية كلها، نقطة تحول المسار الحضاري البشري من الغرب إلى الشرق. ويعني الغرب هنا أوروبا الغربية والولايات المتحدة واليابان الحديثة لو استمرت في مشروعها الإنتاجي الحالي. ويشمل الشرق العالم الثالث، أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. فالتقابل بين الغرب والشرق وإن كان له أساس جغرافي إلا أنه تقابل حضاري. الغرب يعني المشروع الإنتاجي الغربي الحديث، والشرق يعني إمكانيات الحضارات التاريخية وهي تتحقق من جديد. فالحضارات تتبادل فيما بينها دور الريادة، إذ لا توجد ريادة دائمة لحضارة واحدة، تلك سنة الكون. والرُّوح في التاريخ ليست ثابتة في عصر معين وفي حضارة بعينها بل تنتقل في التاريخ في عدة حضارات. لو كان ذلك حقًّا، يكون الوعي الأوروبي قد أخذ مكان الصدارة في العصور الحديثة، وكانت له الريادة في القرون الخمسة الأخيرة. ونحن الآن نشاهد نهاية العصور الحديثة الأوروبية وبداية العصور الحديثة في العالم الثالث. ويكون السؤال: هل يمكن لحضارات أخرى أن تأخذ مكان الصدارة ويكون لها الريادة بدلًا من الوعي الأوروبي وأن تقود الإنسانية إلى طور جديد؟
(١) انتقال الحضارة من الشرق إلى الغرب
بدأ مسار الحضارة البشرية قديمًا من الشرق إلى الغرب وكأن رُوح التاريخ في فجر الحضارة الإنسانية قد بدأ في الشرق. ولا يهم هنا التتابع الزماني، إذ إن الحضارة المصرية القديمة أقدم حضارات الشرق، وتليها في القدم حضارات الشام، كنعان، وحضارات ما بين النهرين، بابل وآشور وأكاد، وآخرها حضارة الصين والهند قبل أن تبدأ حضارة اليونان، المصدر الأول للوعي الأوروبي. ولكن يهمنا سريان الرُّوح في التاريخ على مستوى الماهية من الشرق إلى الغرب، من تعدد الآلهة إلى التوحيد، ومن ديانات السماء إلى دين الأرض، ومن الشعائر والطقوس إلى الأخلاق والسياسة. ويحدث هذا التطور داخل كل حضارة شرقية مثل الانتقال من عبادة آتون إلى عبادة آمون في مصر القديمة وتوحيد الآلهة تدريجيًّا في إله أكبر في مصر وفي حضارة ما بين النهرين، وفي الانتقال من كتاب «التغيرات» في دين الصين القديم إلى الدين الأخلاقي الاجتماعي والسياسي عند كونفوشيوس، والانتقال من تعدد الآلهة في الهندوكية إلى الاستنارة الداخلية في البوذية. ولكن بوجه عام تسري رُوح التاريخ من الشرق إلى الغرب، من الصين إلى الهند إلى فارس إلى ما بين النهرين إلى الشام ثم إلى مصر حيث يكتمل مسار الرُّوح، ويبلغ التوحيد قمته، وتتأسس الدولة.
وعندما تبلور وعي الأنا بظهور الإسلام وارثًا مسار الرُّوح في التاريخ من الشرق إلى الغرب، حمل الأنا التوحيد، وريث التطور القديم إلى الغرب. واستمر مسار الرُّوح من الشرق الأوسط إلى الغرب الأقصى من خلال انتقال الحضارة الإسلامية في العصر الوسيط الأوروبي حتى استقر مسار الرُّوح في العصور الغربية الحديثة. وقد وصف جميع فلاسفة التاريخ وَفق مقدمتهم هردر وكانط ولسنج وهيجل هذا المسار من الشرق إلى الغرب، وتصوروه حيويًّا عضويًّا بيولوجيًّا. وشبهوه بمراحل أطوار الإنسان، من الطفولة إلى المراهقة إلى الرجولة، من الآلهة إلى الأبطال إلى البشر، من الدين إلى الميتافيزيقا إلى العلم.
ويمكن القول بتمايز مجموعتين حضاريتين في الشرق القديم؛ الأولى: المجموعة الهندية الصينية الفارسية التي أعطت الهندوكية والبوذية والكونفوشيوسية والبوذية والشِّنتوية والمانوية في الألف الأولى قبل الميلاد، والثانية: المجموعة الساميَّة في مصر والشام وما بين النهرين والتي أعطت الحضارة المصرية القديمة وحضارات بابل وآشور وأكاد وكنعان. والأولى أحدث من الثانية، والثانية أقدم من الأولى تاريخيًّا، ولكن بالنسبة لوعي الأنا الذي يتمثل المجموعة الثانية، المجموعة الأولى تمثل جناحها الشرقي، وتنتقل الرُّوح من شرقها إليها، وتصب في وعائها، وكأن الأحدث يصب في الأقدم. ولا يوجد تفاعل بين المجموعتين الرئيسيتين أو تداخل بينهما بالرغم من وجود أنصار لنظرية امتداد الحضارة المصرية شرقًا إلى الصين وغربًا إلى المكسيك. كل مجموعة تمثل وحدة حضارية أوسع؛ حضارة الشرق الأدنى: الصين والهند، وحضارة الشرق الأوسط: بابل، آشور، كنعان، أكاد، مصر. وربما تربط فارس بين المجموعتين نظرًا لوجودها بين الأطراف على حافتَي التقاء محيطَي الدائرتين. ومع ذلك تشترك المجموعتان في بعض الخصائص مثل: الارتباط بالتراث، والأدب، والأمثال العامية، والحكم التي تعبر عن رُوح الشعوب.
ثم كانت حضارة اليونان بداية جديدة، أخذت الريادة من الشرق الأقصى والشرق الأوسط، وبدأت تؤسس الوعي الأوروبي في مرحلة المصادر. نهلت من مصر القديمة أساسًا كما ارتبطت بفارس والنِّحَل الشرقية، واتصلت بحضارات الشام، خاصة كنعان، وبجزر البحر الأبيض المتوسط، خاصة كريت. وظهرت الآثار الشرقية في نِحلة أرفيوس وفي فلسفة فيثاغورس وفي فلسفة أفلاطون في المجموعة الهِرمسية، وأخذ يقل شيئًا فشيئًا على مدى تحول الحضارة اليونانية من الأسطورة إلى العلم، ومن الخيال إلى العقل. ثم تلتها حضارة الرومان. واستمر أثر الشرق في الدين الروماني، خاصة دين ميترا، نظرًا لاتساع الإمبراطورية الرومانية في أرجاء الشرق منذ فتوحات الإسكندر.
وبنشأة المسيحية استمرت رُوح الشرق تسري في الغرب عن طريق التصوف الشرقي والدين الشرقي والمسيحية والأخلاق الشرقية. وساهمت المسيحية المصرية والمسيحية الإثيوبية والمسيحية الفلسطينية والمسيحية البيزنطية في تكوين المسيحية الغربية. قاوم آريوس المصري التثليث باسم التوحيد كموروث شرقي قديم، كما ثار دوناتوس في شمال أفريقيا باسم الدين الوطني ضد دين الاستعمار الروماني الغربي الجديد، وثارت المسيحية الشرقية الباطنية الصوفية ضد الأيقونات الوثنية الغربية الناتجة عن صناعة التماثيل في الموروث الروماني القديم. ونشأت كنيسة مستقلة كنيسة الشرق الأرثوذكسية في مقابل كنيسة الغرب الكاثوليكية. واقترحت مصر التصوف والزهد والرهبنة كرد فعل على الخارجية والشعائرية والرومانية المادية الغربية، وحمل الشرق لواء الطبيعة الواحدة للسيد المسيح ضد الطبيعتين في المسيحية الغربية. وكان نِسطوريا يؤكد على إنسانية المسيح وليس على ألوهيته، عيسى بن مريم وليس ابن الله. وكان الإسلام صياغة جديدة لمسيحية الشرق، وتأكيدًا لوحدانية الشرق، واكتمالًا لمسار الرُّوح عبر التاريخ من الشرق إلى الغرب. فالمسيحية الشرقية لها شخصيتها الاعتبارية وليست انحرافًا عن المسيحية الغربية. شارك العرب فيها، ونقلوا تراثها إلى الحضارة الإسلامية الناشئة إبان عصر الترجمة.
واستمرت رُوح الشرق في مدرسة الإسكندرية وفي العصر الهلينستي تعطي مناهج التأويل بعدًا باطنيًّا رُوحيًّا غائبًا في المسيحية الغربية. ونشأت الغنوصية تعبيرًا عن الشرق الصوفي في الغرب اليوناني، خاصة في البيئة الأفلاطونية، ثم توارت في العصر المدرسي بالتحول من الأفلاطونية إلى الأرسطية، ولكن سرعان ما عادت رُوح الشرق في التصوف المسيحي الغربي في مدرسة شارتر والتصوف التأملي ونظم الرهبنة وفي الأخلاق والفضائل المسيحية العملية.
ثم تجلت رُوح الشرق من جديد واكتملت في مسارها الأخير في الذاتية الأوروبية في بداية الوعي الأوروبي وحتى النهاية ممثلة في التصوف الإشراقي في عصر النهضة عند يعقوب البوهيمي، بل حتى عند جيوردانو برونو، وهامان، والتصوف الألماني، عبر الرومانسية التي كانت مولعة برُوح الشرق، وكما تجلى ذلك في ديوان جوته «الديوان الشرقي للشاعر الغربي». وقد استمرت رُوح الشرق في المثالية الألمانية عند هيجل، وألهمت الأوبانيشاد والفيدانتا شوبنهور في «العالم إرادة وامتثال».
ولما بدأ الوعي الأوروبي يتحول من المثالية الترنسندنتالية، الصياغة الحديثة للمسيحية، إلى السيطرة والانتشار خارجه بعد أن تكشفت العنصرية الدفينة فيه، المادية الرومانية القديمة، تحول الشرق من رُوح سارٍ تجاه الغرب إلى صورة الشرق في وعي الغرب، وظهر ذلك في فلسفة التاريخ عندما تحول الشرق إلى بدايات للإنسانية التي اكتملت في الغرب. تكلست رُوح الشرق في الوعي الأوروبي وتحولت إلى صورة من صنعه، ثم سهل عليه بعدها تحويلها إلى شيء، إلى شعوب يستعمرها، ومواد أولية ينهبها، ومناطق شاسعة يحتلها، وإلى قوًى بشرية يستعبدها وينقلها من أفريقيا لبناء العالم الجديد. أصبح الشرق في الوعي الأوروبي في ذروة المد الاستعماري مادة بلا رُوح، وعلى أقصى تقدير، عالم السحر والخيال والأساطير، البساط السحري وعلاء الدين وشهرزاد، يظهر أحيانًا في الفن، في الخيال الأوروبي عند الشعراء والكتاب وفي الإيقاعات الأفريقية عند الموسيقيين، وفي المدارس الفنية الحديثة عند الرسامين على مستوى التجريد. وبعد أن فشل الغرب في توجيه الطعنة إلى الشرق، إلى القلب في فلسطين إبان الحروب الصليبية تم الالتفاف حوله أثناء ما يسمى بالكشوف الجغرافية عن طريق جنوب أفريقيا وصولًا إلى جزر الهند الشرقية، الهند وإندونيسيا، والملايو، والفلبين حتى الهند الصينية والصين ثم إلى جزر الهند الغربية حتى الأمريكتين، شمالًا وجنوبًا. وما إن تحررت أمريكا الشمالية أولًا حتى انضمت إلى النهب الاستعماري الغربي في تجارة العبيد، ثم في وراثة الاستعمار القديم. وكان عصر التحرر من الاستعمار بداية ليقظة الشرق من جديد واستيقاظ الرُّوح، وخروجه من أسر البدن، وانبعاثه بعد التكلس. وظهر وعي العالم الثالث كتعبير جديد عن رُوح الشرق في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
(٢) عودة الحضارة من الغرب إلى الشرق
وفي نهاية الوعي الأوروبي وتكشف مظاهر العدم فيه، ومع يقظة شعوب العالم الثالث وبداية عصر التحرر من الاستعمار، يكون السؤال: هل يعود مسار الحضارة من الغرب إلى الشرق؟ هل تنتقل رُوح التاريخ عكس ما انتهت إليه وإلى موطنها الأول الذي بدأت منه؟ هل انتهى دور الريادة للحضارة الأوروبية وبدأ دور ريادة الحضارة الشرقية كما بدأت أول مرة؟ هل وصلت الحضارة الأوروبية إلى مرحلة الشيخوخة بعد أن تعبت وهرِمت على ما يقول هُوسِرل؟ هل يمكن لحضارات الشعوب المتحررة حديثًا أخذ الريادة ووضع فلسفة جديدة للتاريخ تكون الحضارة الأوروبية فيها جزءًا من الماضي، وتوضع في حجمها الطبيعي في تاريخ الإنسانية العام، تكون إحدى حلقاته، وليست ممثلًا له؟
إنه في نفس الوقت الذي ظهر فيه مفكرون أوروبيون معاصرون مثل نيتشه واشبنجلر، وهُوسِرل، وشيلر، وبرجسون، وتوينبي … إلخ، ينعُون نهاية الحضارة الغربية، يظهر مفكرون آخرون من العالم الثالث يعلنون ميلاد حضارة جديدة: فانون، وديبريه، وجيفارا، وأميه سيزير، وبِن بركة، ونكروما، ونيريري، وسيكو توري، وناصر، وهوشي منه، وماوتسي تونج، وغاندي، ونهرو، وتيتو، ومانديلا، وكاوندا، وبن بِلَّا، ويبشرون بميلاد وعي جديد للعالم الثالث، يتجسد في تكتل الشعوب المتحررة حديثًا في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية في مواجهة الاستعمار القديم والجديد. ويقدم هذا الوعي الجديد مُثُلًا جديدة في الحرية، والعدالة الاجتماعية، والمساواة، والتقدم، وحقوق الإنسان. وهي المُثُل التي نادى بها الوعي الأوروبي وهو في عصر التنوير. ويكملها بمُثُل جديدة في مقاومة العنصرية والاستعمار الاستيطاني واستغلال الشعوب ونهب ثرواتها، ويجعل الإنسانية واحدة لا فرق فيها بين غرب ولا غرب، فحقوق الإنسان واحدة، لا تتجزأ ولا تتحطم على الحدود الجغرافية، ولا تنحسر خلف أسوار الشعوب والأعراق.
إن ازدهار حضارات الشرق القديم بعد الثورة الاشتراكية في الصين، وحروب التحرير في الهند الصينية، والاستقلال الوطني في الهند، والثورة الإسلامية في إيران، والنهضة الحديثة في بلاد ما بين النهرين وثروات الخليج، والثورة العربية انطلاقًا من مصر، وحرب التحرير في الجزائر والانتفاضة في فلسطين، وحركات التحرر في العالم الثالث كله، ونشأة وعي عالمي جديد، عدم الانحياز، التضامن الآسيوي الأفريقي، أصوات الأغلبية في الأمم المتحدة، إجماع إنساني جديد على مقاومة الصهيونية والعنصرية، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وإنشاء نظام عالمي جديد، ونظام إعلامي جديد، ونظام ثقافي جديد، كل ذلك يوحي بميلاد عالم جديد، تتغير فيه موازين القوى بين المركز والأطراف، وتنتقل فيه الرُّوح من الغرب إلى الشرق من جديد، كما بدأت في الشرق أول مرة. وتوضع مسألة: لمن الريادة اليوم؟
(٣) صورة الشرق والغرب في وعي الأنا والآخر
وصورة الغرب في وعي الشرق تكاد تكون عكسية، فالغرب في وعي الشرق نموذج التقدم والنهضة والحداثة والتغير الاجتماعي والمستقبل. هو نمط للتحديث، وقدوة للمستقبل، خاصة بعد أن ذاع النموذج الغربي من خلال سيطرة الغرب على أجهزة الإعلام مما أنشأ في كل وعي لا أوروبي ولدى كل شعب خارج أوروبا ظاهرة «التغريب». وهو مهد العلم والاكتشافات العلمية والنهضة العلمية وتطبيقاتها في الصناعة وما نتج عنه من تكنولوجيا متقدمة. وهو نموذج لحضارة الإنسان، وحقوق الإنسان والمواطن والنظام الديمقراطي البرلماني التعددي. كما أصبحت العقلانية الأوروبية نموذجًا يحتذى بها في التفكير والترشيد والتنظيم الاجتماعي. وأصبح التخطيط العمراني الأوروبي نمطًا عامًّا وشاملًا يوجد في كل المدن خارج أوروبا وتُسمى المدينة الأوروبية خارج أسوار المدينة القديمة تنافسه بعض بلدان الشرق مثل اليابان في مشروعه الإنتاجي وتتخذه غريمًا مضمرًا. تحوِّل هزيمتها العسكرية أمامه إلى نصر اقتصادي.
أما بالنسبة لنا فإن صورة الشرق في وعينا القومي صورة غامضة، ليس لها حدود. قلبنا معه ولكن عقلنا مع الغرب. نُعجب به ولكن نتحالف مع غيره. اليابان ثم كوريا أوضح بلدانه لما تمده لنا من منتجات وصناعات إلكترونية للاستهلاك الحديث استردادًا لأموال النفط منا ومن الخليج. وقد تتراءى الصين الشعبية في أذهاننا كنموذج للثورة الاشتراكية، وكفاية حاجات الألف مليون نسمة، وما ينالنا منها من أقمشة شعبية وأدوات كتابية. وقد يكون مصدر التوابل للأطعمة الحِرِّيفة والحلوى الشرقية والأغاني والأفلام الهندية، أغاني الحب والمؤامرة، بنات الشعب والأمراء. وجاء كسر احتكار السلاح أخيرًا ليكشف عن جانب مجهول في حياة الشرق، الصناعة العسكرية، والمعونة الفنية لبناء السدود والطرقات العامة، والفن الرفيع، الموسيقى والأوبرا، كما تعلن عن ذلك مراكز الثقافة للبلدان الشرقية في عواصمنا. ونادرًا ما يظهر المسلمون في آسيا إلا في صورة العنف السياسي والكوارث الطبيعية حتى برزت صورة المجاهدين في أفغانستان أخيرًا كنموذج للإيمان وللاستقلال الوطني ضد الاحتلال والغزو الأجنبي. كما أثار إعجابنا مقاومة غاندي السلمية للاستعمار، وتعاطفه مع قضايانا الوطنية، استقلال مصر، وحقوق شعب فلسطين بعد أن اتحدنا معًا في يوم ٢٢ فبراير ١٩٤٤م، يوم الطلاب العالمي، عندما أطلق الاستعمار البريطاني النار على مظاهرات الطلاب في مصر والهند في آنٍ واحد. ونذكر بخارَى وسمرقند وطشقند وبلخ وفرغانة كبلدان إسلامية انحسر عنها الحكم الإسلامي بعد ضعف بغداد ودمشق والقاهرة، مركزها الطبيعي، وهي في الأطراف، وشدها نحو مركز آخر أقوى في روسيا القيصرية.
أما صورة الغرب في وعينا القومي، فهو الآخر بالأصالة في وعي الأنا. ويهدف «علم الاستغراب» إلى تحويل هذه العَلاقة غير المتكافئة بين الأنا والآخر إلى علم دقيق ومنطق محكم وجدل تاريخي، فجدل الأنا والآخر واقع لا ينكره أحد، والأنا الحضاري لا يحتاج إلى إثبات، فمنه خرجت الصحوة الإسلامية والثقافات القومية. والآخر بالنسبة لنا هو الغرب الذي نعيشه منذ بداية الاستعمار القديم، منذ الحروب الصليبية، والكشوف الجغرافية، حتى الاستعمار الاستيطاني الحديث. وهو نمط الاستهلاك الذي يصدِّر لنا منتجاته، والتي نستوردها نحن حتى نصل إلى مستوى العصر وأسلوب حياته. وهو نموذج العلم والعقل، يعطي المنهج والمنطق، ويرشد إلى الحس السليم. وهو أيضًا نموذج الحرية والديمقراطية والمجتمع المدني، والنظام الليبرالي، والتقدم والنهضة. كان نمطًا للتحديث في فكرنا المعاصر بتياراته الثلاثة.
إن جدل الأنا والآخر واقع في كل مجتمع ولدى كل شعب. الأنا بمفرده نرجسية وغرور، والآخر بمفرده تبعية وتقليد. لا يوجد مجتمع ليس به أنا وإلا كان في حاجة إلى إثبات وجوده أولًا، وقد حدث ذلك في مجتمعاتنا في حركات التحرر الوطني. «أنا أتحرر فأنا إذًا موجود». ولا يوجد مجتمع ليس به آخر، فالآخر بالنسبة لأمريكا الشمالية هو روسيا الاشتراكية، والآخر بالنسبة لروسيا الاشتراكية هو أمريكا الرأسمالية. والآخر بالنسبة لليابان هو اللاياباني، العالم الأجنبي كله. والآخر بالنسبة للأوروبي، الآخر القريب الصديق العدو أمريكا أو العدو الصديق روسيا، والآخر البعيد العدو الدائم، مصدر المواد الأولية والأسواق والشعوب المتحررة حديثًا في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. والآخر بالنسبة للصين هو الاتحاد السوفيتي المنافس والغريم أو أمريكا العدو المذهبي أو الصديق المصلحي، أو اليابان العدو القديم أو الجار ذو القربى. والآخر بالنسبة إلى كوريا الجنوبية الصين الأب الرُّوحي أو اليابان العدو التقليدي أو كوريا الشمالية الأخ الوطني والعدو المذهبي. ولكن يظل الآخر بالنسبة لنا هو الغرب، وكذلك بالنسبة إلى كل شعوب القارات الثلاث: أفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية.
والأمر بالنسبة لنا أولًا هو التحرر من الآخر الأوحد وهو الغرب. فوضع الأنا في المنطقة الوسطى من العالم، في قلب الحضارات ومركزها وبموقعها الجغرافي وثقلها التاريخي يجعل الآخر عندها آخرَين: الآخر الغربي الذي ساد وأصبح هو الإطار المرجعي الأوحد، والآخر الشرقي الذي تمد جذوره في التاريخ عبر سيناء وآسيا، والجنوبي عبر السودان وأفريقيا. وثانيًا: إيجاد ميزان التعادل بين الآخرَين الغربي والشرقي الجنوبي حتى لا ينحاز القلب إلى الآخرين وحتى يستطيع القلب أن يستقبل ريح الشرق التي تهب عليه، وأن يشعر بمسار الحضارة الجديدة في التاريخ في طوره الجديد، من الغرب إلى الشرق. وأمريكا اللاتينية هي جزء من بعدنا الجنوبي، فخط الاستواء يعبرها من آسيا وافريقيا، وكما هو واضح في حوار الشمال والجنوب، أو على الأقل هي الغرب الجنوبي بالنسبة لنا في حين أن الغرب التقليدي بالنسبة لنا هو الغرب الشمالي أو الشمال. فإذا ما أمكن اتحاد الشرق والجنوب والغرب الجنوبي (أمريكا اللاتينية) ضد الشمال (أوروبا) أمكن حصار الأطراف للمركز من نصف الكرة الجنوبي إلى مركزها الشمالي. وبالتالي يتحقق الهدف الأقصى من «علم الاستغراب».
خاتمة: النقد الذاتي وحدود العمر
ختامًا لهذه المقدمة في «علم الاستغراب» وبعد أن انتهت صياغتها بانت عيوبها، فالعيوب لا تظهر إلا في النهاية، وأوجه النقص لا تنكشف إلا بعد الاكتمال. فهناك فرق بين الإمكان والتحقق، بين عالم الأذهان وعالم الأعيان؛ الأول كماله سهل ونظري، والثاني ناقص ومَعيب. وإن كل المشاريع في أذهان أصحابها تبدو قبل التحقق حلمًا، ثم تتكشف بعد التحقق واقعًا ناقصًا، ثم يُستثمر هذا النقص في مشروع آخر يبدو كاملًا قبل التحقق، ثم تنكشف عيوبه بعد أن يتحقق، وهكذا. وحتى لو تمت إعادة صياغة هذه المقدمة من جديد لتلافي أوجه النقص وللاقتراب من الكمال النظري الأول لبدت عيوب أخرى، وتلك طبيعة التحقق العملي للمشروع النظري. فرق بين التمني والواقع، بين أمنيات الأم أثناء الحمل وبين الطفل الرضيع بعد الولادة؛ الأول مشروع وجود، والثاني تحقق وجود. والوجود بطبيعته توتر بين الكمال والنقص، ودقة الإحكام تجعله أقرب إلى الكمال وأبعد عن النقص إلى ما لا نهاية من محاولات الإحكام. إنما يتعلق الأمر بأهمية النقد الذاتي لبيان المسافة بين الكمال والنقص، بين الإمكان والتحقق، بين المشروع النظري والإنجاز العملي. ويتم ذلك في حدود العمر مرة واحدة وإلا ظل الإنسان باحثًا عن الكمال، فيتحول الإبداع إلى وَسواس وتطهر لا مخرج منه إلا التآكل البطيء، والذاتية الفارغة، ثم انقضاء العمر طبقًا لقاعدة «افعل فتخرج الأشياء إلى المنتصف، وكرر الفعل فينقضي العمر».
(١) محاولة في النقد الذاتي
- (أ) التذبذب المستمر بين التحليل والمادة العلمية، بين العلم الجديد والمعلومات القديمة. وقد نشأ ذلك من الرغبة في الكتابة على مستويين ولجمهورين أو قارئين: الأول مستوى التخصص الدقيق ولجمهور الخاصة من العلماء وأهل الاختصاص الذين يبغون الجديد، والثاني مستوى المعلومات العامة ولجمهور الطلاب الراغبين في العلم. كتاب تعليمي لطالب العلم وفي نفس الوقت إيحاء لطالب الفكر. ولما كانت حضارة الآخر هي موضوع الدراسة وليست حضارة الأنا كان من الضروري عرضها قبل تحليلها، وتقديمها قبل الحكم عليها وإلا وقع التحليل في فراغ، وكان الوصف للاشيء. في حين أن حضارة الأنا معيشة بين المؤلف والقارئ يمكن تحليلها ووصفها مباشرة دون عرض أو تقديم لها.٧٩ كان الهدف أن تكون هذه المقدمة النظرية عن الجبهة الثانية «موقفنا من التراث الغربي» دليلًا للطالب الجامعي في الدراسات العليا حتى يختار المذهب أو الاتجاه أو الفيلسوف وهو على دراية بموقعه من خريطة الفكر الأوروبي. وفي نفس الوقت كان الهدف هو قراءة ما بين السطور ومعرفة الاتجاه العام والقصد الكلي للوعي الأوروبي. كان ذكر الفيلسوف موطنه وحياته ومؤلفاته بالعربية وبالإفرنجية وسنوات إصدارها الأولى معلومات مفيدة للطالب، وتحليل أفكاره والحكم عليه رؤية موحية للأستاذ. كان مضمون الفلسفة مهمًّا للموضوع وكانت صورتها العامة مهمة للذات، لذلك آثرتُ أن تخرج المادة العلمية مزيجًا بين الموضوع والذات، الفلسفة الأوروبية كما أعيشها، أحلل نفسي كما أحيا ثقافة الغير، الحرص على الاتجاه قدر الحرص على المؤلفين، التمسك بالفلسفة قدر التمسك بالفلاسفة، ذكر المذاهب قدر ذكر الشخصيات في وعي حوَّل شخصياتِه إلى مذاهب، أسماء وصفات. لا تُذكر الطبعات المختلفة وترجماتها خشية الإثقال، ولكن تواريخ الطبعات الأولى لمعرفة التطور الزماني للفيلسوف، وإثبات تاريخية الوعي الأوروبي. قد يقع خطأ هنا أو هناك، وهي أخطاء تحتويها قواميس الفلسفة ذاتها. مهمة أجيال قادمة من المستغربين التحقق من صدق تواريخها كما فعل المستشرقون مع تواريخ حياة فلاسفتنا القدماء. وقد توجد أخطاء في عرض هذا الفيلسوف أو ذاك. إنما المهم هو الحكم العام عليه، ومكانته في المذهب ككل، ومكانة المذهب في تطور الوعي الأوروبي. هناك على الأقل الحد الأدنى من المعلومات التي تسمح بالحكم على الفيلسوف داخل مذهبه، توجِّه الطلاب، وتعطي الانطباع الأول لمزيد من الدراسة فيما بعد، مجرد توجيه للبحث وافتراض فيه، وليس تحقيقه والقيام به بالفعل، دليل للبحث العلمي أو برنامج للدراسات العليا الموجهة حتى لا تتناثر الموضوعات عفويًّا وعشوائيًّا والتي سرعان ما يطويها النسيان.
- (ب)
صعوبة التصنيف والاختيار. نظرًا لتداخل المذاهب الفلسفية، وتولد بعضها من بعض، وقسمة بعضها من بعض، وجمع بعضها لبعض كما تفعل الخلايا الحية حين تتكاثر أو تموت، صعب تصنيفها تصنيفًا دقيقًا كما صعب وضع الشخصيات وضعًا جامعًا مانعًا في مذاهبها نظرًا لأنها تجمع بين أكثر من مذهب، فكل تصنيف يقابله آخر، وكلاهما لا يخلو من بعض جوانب الصحة. ومع ذلك يتكون الفكر الأوروبي من شخصيات تكوِّن مذهبًا أكثر مما يتكون من مذهب يحتوي على شخصيات، لذلك ارتبطت المذاهب باسم أصحابها مثل الديكارتية، والكانطية، والهيجلية، والماركسية، والبرجسونية … إلخ. على عكس التراث الإسلامي الذي يتكون من اتجاهات أكثر من تكونه من شخصيات؛ فهناك الفلسفة الإشراقية، ولا يقال السينوية أوالفارابية، كما أنه يسهل ذكر الشخصيات في إطار المذهب لأنها أسهل معرفة، إذ يتطلب المذهب معرفةً بالدوافع والمقاصد الأساسية في الوعي الأوروبي، وهو ما يتطلب تحليلًا في الأعماق للكشف عما وراء الشخصيات. وما زال جيلنا أثيرًا بدراسة الشخصيات أكثر من دراسة المذاهب على نحو نمطي: فلان حياته وعصره ومذهبه، لذلك غلب عرض التيار من خلال الشخصيات كما تكشف أشكال الموزايكو أو الأرابيسك عن الاتجاهات الهندسية العامة، وكما توضع حبات العِقد في خيط واحد، عيبها التراص والتجاور والتخارج، وميزتها الرصد والترتيب والتجميع. ومع ذلك يظل التركيز على الشخصيات معيبًا لأنه يعطي أمانًا مزيفًا لطالب يظن أنه يدرس موضوعًا وهو يرتدي حلة الآخرين، كما أنه قد لا يتعرف على رؤية الفيلسوف لواقعه، إذ إن الفيلسوف وعي حضاري والطالب خارج عنه، كما أنه يمنع الطالب من رؤية الواقع مباشرة سواء واقع الفيلسوف أو واقعه الخاص.
كما تصعب الإشارة إلى كل الفلاسفة والمفكرين والكتاب، بل اقتصرنا على البارزين منهم والذين تشهد لهم قواميس الفلسفة العامة، واستبعدنا المفكرين المحليين القوميين الذين لا يُذكرون إلا داخل القواميس القومية الخاصة. ولكن الحديث عن المعروفين جدًّا في ثقافتنا المعاصرة مثل ديكارت وكانط وهيجل وماركس ووليم جيمس وبرجسون يمثل صعوبة كبرى نظرًا لطول معرفتنا بهم. ويُعد الحديث عنهم من نافلة القول نظرًا لوجود صورة ذهنية لهم في وعينا القومي. وقد يكون من الأفيد الحديث عمن هم أقل منهم شهرة والذين نحتاج لهم صورًا ذهنية نعيشها بالإضافة إلى الكبار. ولم نشر إلى كل المؤلفات للفيلسوف بل إلى أشهرها، ولا إلى كل الطبعات بل إلى الأولى منها للتعرف على تطور الفيلسوف، ولا إلى كل الترجمات فإن ذلك أدخل في دراسة أكبر عن الشخصية أو المذهب أو العصر. وآثرنا عدم ذكر أسماء الأعلام والمؤلفات بالإفرنجية حتى لا نثقل على القراء الوطنيين، وتخفيفًا للطباعة، وتأجيل ذلك لحين تنفيذ المشروع ذاته بالرغم من صعوبة قراءة أسماء الأعلام بالعربية دون الإفرنجية، واحتماله أكثر من ترجمة عربية للمؤلفات وأعمال الفلاسفة.
كما تبدو صعوبة ثالثة في التذبذب بين العصور والتأريخ بالقرون، خاصة منذ الخامس عشر حتى العشرين، بعد أن أصبح كل قرن يمثل مذهبًا: النهضة في السادس عشر، والعقلانية في السابع عشر، والتنوير في الثامن عشر، والوضعية في التاسع عشر، والوجودية في العشرين، وبين المذاهب المتداخلة مع العصور والمعارضة لها. فالقرن التاسع عشر هو في نفس الوقت عصر الوضعية (دارون، كومت، سبنسر) وعصر المثالية المطلقة (هيجل، شلنج)، والعشرون عصر الوجودية وعصر التحليلية وعصر البنيوية وعصر التفكيكية. فهناك تضاد أحيانًا بين العصور والمذاهب، في عصر واحد ينشأ تياران متعارضان، كما تتداخل العصور مثل تداخل آخر الثامن عشر وأوائل التاسع عشر، وآخر التاسع عشر وأوائل العشرين. لذلك تعطَى الأولوية للمذهب حتى ولو كان ممتدًّا في أكثر من عصر. وإذا كانت المذاهب تعبيرًا عن رُوح العصر فكيف تفرز رُوح العصر مذهبين متضادين؟ في هذه الحالة آثرنا المذهب على العصر، وتعددية المذاهب على رُوح العصر، وكأن رُوح العصر تتشعب في أكثر من مذهب، وتتجلى في أكثر من اتجاه. ولكن المذهب الواحد يتفرع إلى عدة مذاهب، ويتضمن عدة جوانب تتداخل مع المذاهب الأخرى، فهناك تيارات مثالية واقعية، وعقلية حسية، وفردية اجتماعية، وهي معظم مذاهب الوسط التي حاولت الجمع بين تيارين متعارضين خاصة في القرن العشرين، وبالتالي صعب تصنيفها في أحد المذاهب نظرًا لأنها تند عن التصنيف القائم في عصرها. كما أن التيار الواحد يجمع أكثر من فيلسوف تم استعراضهم طبقًا للترتيب الزماني حتى يمكن رؤية تكوين الوعي الأوروبي في تياراته ومذاهبه المختلفة. وكان المحك في ذلك تاريخ الوفاة نظرًا لإبداع الفيلسوف في أواخر حياته. وفي حالة تطوره يكون مذهبه الأخير هو المقياس. ولكن تفاوت الفلاسفة في الأعمار بين من تُوفُّوا صغار السن في الثلاثين ومن تُوفُّوا شيوخًا فوق الثمانين جعل التحديد الزماني صعبًا للغاية. كما أن وجود إرهاصات للتيار قبل ولادته ثم استمراره وتمثيله في شخصيات في عصور لاحقة جعل وضع حد زمني للتيار بداية ونهاية أمرًا صعبًا للغاية. فالتيار في حاجة إلى زمان حتى يولد، وإلى زمان ثانٍ حتى يزدهر ويكتمل، وإلى زمان ثالث حتى يتلاشى.
من أجل ذلك كله قد يفوتني فيلسوف، هنا أو هناك، أو مذهب صغير فرعي، في عصر أو في غيره، وقد أخطئ في التصنيف أو في حكم أو في وصف أو في تاريخ نظرًا لتداخل المذاهب، وقد لا أوَفِّي بعض الفلاسفة الكبار حقهم، وقد أذكر فيلسوفًا أصغر على نحو مطول وفيلسوفًا أكبر على نحو مختصر، ولكن المهم هو الرؤية العامة للمذهب وللتيار كقصد رئيسي في الوعي الأوروبي. ما يهم هو «البانوراما» وليس الوقائع الجزئية والأسماء الفردية. ما يهم هو تجميع الفلاسفة في خيط واحد كحبات العِقد من أجل صنع مجموعة من العقود تزين عنق الوعي الأوروبي. ومع ذلك لا يُعفِي ذلك من الخطأ والنسيان.
- (جـ)
وتختلف أساليب الفصول لدرجة عدم التجانس وكأن كلًّا منها قد كُتب لقارئ بعينه. فكُتب الفصل الأول «ماذا يعني علم الاستغراب؟» برُوح الخطابة للقارئ العريض حتى يتأسس العلم في وعي الناس وفي رُوح المواطن العادي. وكتبت الفصول الثاني والثالث والرابع والخامس والسادس وهي فصول التكوين، تكوين الوعي الأوروبي، في مرحلة المصادر (الثاني)، والبداية (الثالث)، والذروة (الرابع)، ونهاية البداية (الخامس)، وبداية النهاية (السادس) للطالب والمتعلم والدارس والباحث من أجل وصف تكوين الوعي الأوروبي لمن لا يعلم، ولمن يعلم فإنه يكون تأكيدًا على ما يعلم. ففيها رُوح التلميذ والتعليم والمعلم، رُوح المدرسة والفصل والامتحان. وكتب الفصل السابع عن البنية للأستاذ والممارس والمتمرن والعارف، وهو لب علم الاستغراب. وكتب الفصل الثامن والأخير عن المصير للسياسي والمخطِّط للسياسات القومية للشعوب برُوح التنبؤ بمسارات الإنسانية في المستقبل.
كما تختلف فصول التكوين عن فصل البنية كمًّا إذا اعتبرنا الفصل الأول «ماذا يعني علم الاستغراب؟» مقدمة والفصل الأخير «مصير الوعي الأوروبي» خاتمة. إذ يشمل التكوين خمسة فصول: المصادر، البداية، الذروة، نهاية البداية، بداية النهاية. وقد كان في الأصل واحدًا «تكوين الوعي الأوروبي». ولكن تشعَّب التكوين. كان من المستحيل عرض نشأة الوعي الأوروبي وتطوره على مدى عشرين قرنًا في فصل واحد. وقد كان يحدث تراكم تاريخي قرنًا بعد قرن، لذلك سهُل عرض ستة عشر قرنًا فيما يسمى بالفكر الأوروبي في عصر آباء الكنيسة والعصر المدرسي وعصر النهضة في فصل واحد؛ لأن التراكم التاريخي لم يكن قد اشتد بعد. ثم اشتد بعد ذلك قرنًا بعد قرن، فالقرن الثامن عشر أكثر تراكمًا من القرن السابع عشر، فكلاهما بداية الوعي الأوروبي. والقرن التاسع عشر، الذروة، أكثر تراكمًا من القرنين السابع عشر والثامن عشر. والقرن العشرون أكثر تراكمًا على نحو بارز من القرون السابقة كلها، التاسع عشر، والثامن عشر، والسابع عشر. ولما تضخم القرن العشرون أكثر مما يجب انشطر اثنين: نهاية البداية حتى الظاهريات وبداية النهاية في الوجودية وماركسيات القرن العشرين، ومنها مدرسة فرانكفورت والشخصانية والتوماوية الجديدة والأوغسطينية الجديدة والتحليلية والتفكيكية. كان يمكن ترك القرن العشرين متورمًا يُعلن عن ذروة التراكم التاريخي في نهاية الوعي الأوروبي في إيقاع ثلاثي بعد المصادر: البداية، الذروة، النهاية، ولكنني آثرت أن يلد الوعي الأوروبي بدلًا من تركه امرأة حاملًا منتفخة البطن. وإن كان التراكم التاريخي قد حدث لدينا عند القدماء في علوم الحكمة من الكندي إلى الفارابي إلى ابن سينا إلى ابن رشد في النهاية فإنه لم يحدث لدينا بالقدر الكافي في فكرنا المعاصر لعدم وجود خطة واعية للمسار الفلسفي، أو هدف حضاري قومي نسعى إليه يسانده الفكر ويتأسس في التاريخ.
وإذا كانت فصول التكوين من الثاني حتى السادس تصف التطور الزماني للوعي الأوروبي على نحو تتابعي، فإن فصل البنية، السابع، يحلل الوعي الأوروبي في المعية الزمانية.٨٠ ونظرًا لتضخم التكوين عن البنية فإن البنية بنت التكوين على النقيض من «من العقيدة إلى الثورة»، فالبنية هي الأساس، عشَرة فصول من الثالث حتى الثاني عشر، والتكوين فصل واحد، الفصل الثاني «بناء العلم» وتحت اسم البناء. وهذا نتيجة لطبيعة الحضارتين الأوروبية الطردية، والإسلامية المركزية؛ الأولى التي تنفر من المركز طردًا فتسير في التاريخ وتخلق البنية، والثانية التي تنشأ من المركز دورانًا فتنشأ البنية متحكمة في التاريخ. - (د)
ولكن النقد الأهم والأكثر شيوعًا، والذي سمعته مرات عدة ليس فقط بصدد هذه المقدمة في «علم الاستغراب» ولكن أيضًا بصدد «من العقيدة إلى الثورة» وفي كل كتاباتي السابقة، هو أنني أحلل الوعي الحضاري للأنا في تراثنا القديم أو للآخر في التراث الغربي دون أساسه التاريخي، الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، الذي تكوَّن فيه. فالوعي الذي أحلله معلق في الهواء لا أساس له، ماهية مجردة لا وجود لها، مثالية أفلاطونية لا واقع لها. وهو النقد الماركسي المعروف للفلسفات المثالية. ومع علمي بأهمية هذا النقد ووجاهته بل وضرورته من أجل إحكام البحث العلمي وإكماله إلا أنني غير قادر عليه، و«رحم الله امرأ عرَف قدر نفسه»، إذ يحتاج ذلك إلى جهد تاريخي لا طاقة لي به، كما يحتاج إلى تكوين أساسي لم أحصل عليه، وإلى مزاج فلسفي وطبيعة فلسفية ليس وليست لي. وإنما أترك ذلك لباحثين آخرين يعطون البدن بعد أن أعطيت الرُّوح، ويؤسسون الحامل المادي بعد أن جلبت المحمول عليه. تكاتف الباحثين ضروري، وعمل الفريق أكثر ضرورة، فالباب مفتوح على مصراعيه بعد أن طرقته وتركته موارَبًا.
لقد حاولت أحيانًا وقدر الإمكان ولكن منتقلًا من البنية إلى التاريخ، ومحولًا التاريخ إلى بنية. التاريخ بالنسبة لي مجرد سند أو حامل لإكمال الصورة دون الوقوع في الرد التاريخي٨١ الذي يقع فيه الماركسيون والتاريخيون الخُلَّص. التاريخ عندي هو فلسفة التاريخ، أي تاريخ الوعي والوعي بالتاريخ، مسار الرُّوح في التاريخ ومسار الحضارة والوعي فيه. ولا يوجد اشتراط عِلِّي بين الوعي والتاريخ بل عَلاقة محمول بحامل، وماهية بواقعة، ورُوح ببدن. العَلاقة موجودة ولكن التمايز قائم. وقد يقال إنني استعضت عن غياب التحليل التاريخي بالتحليل السياسي ووضعت الفلسفة في سوق السياسة بالحديث عن اليمين الديكارتي واليسار الديكارتي، واليمين الكانطي واليسار الكانطي، واليمين الهيجلي واليسار الهيجلي، واليمين الوجودي واليسار الوجودي. والحقيقة أن هذين هما اتجاهان في الفكر ومصير كل مذهب بعد نشأته عند مؤسِّسه الأول. يتجابه تياران: الأول محافظ نظري والثاني تقدمي علمي. فاليسار الهيجلي واليسار الفرويدي مصطلحات في تاريخ الفكر أقرب منها إلى مصطلحات في علم السياسة. وقد يكون ذلك أيضًا تعبيرًا عن موقفنا الفكري في واقعنا المعاصر الذي تتجاذبه قوى اليمين واليسار في الدين والفكر والاجتماع والسياسة.
(٢) هموم قِصر العمر
ولكن العيب الأكبر في هذه المقدمة في «علم الاستغراب» هي هموم قِصر العمر، فالوقت يمر، والعمر يقصر، والأجل قادم، وقد حتَّم ذلك سرعة الإنجاز دون شطب أو تعديل، صياغة أولى ولا وقت لثانية. يكفي أسلوب التدفق الصادق، وتكفي الحدوس والرؤى. ولعل جيلًا آخر لديه أكبر فسحة من الوقت يكون أقدر على الإكمال لمزيد من الإحكام.
-
(أ)
كان يهمني عرض ملحمة الوعي الأوروبي، أن أحكي قصته من البداية إلى النهاية، معلنًا نهاية وعي الآخر وبداية وعي الأنا في طور تاريخي جديد. كنت أريد أن أعيد كتابة «أزمة العلوم الأوروبية» لهُوسِرل من خارج الوعي الأوروبي ومن باحث لا أوروبي، أن أعيد تأليف سيمفونية تمت، أن أصف المشروع الأوروبي، الذاتية الترنسندنتالية، بدايتها وتطورها ونهايتها. فكل حضارة لها مشروع، كما أن لفجر نهضتنا العربية الحديثة مشروعًا يزدهر الآن في عدة مشاريع عربية معاصرة، ومنها مشروع «التراث والتجديد». يهمني القصد العام، الرؤية الكلية، البانوراما العريضة، رؤية طائر في السماء.٨٢ وذلك كله من أجل إثبات تاريخية الوعي الأوروبي، وأن المذاهب فيه تنشأ في ظروف خاصة، تغطية الواقع العاري بوجهات نظر جزئية، وأنها تتوالد فيما بينهما طبقًا لقانون الفعل ورد الفعل ثم محاولة الجمع بين النقيضين في مذهب ثالث. تهمني البواعث العامة في الوعي الأوروبي، والمقاصد الكلية والروافد التي ساعدت على اكتشاف عالم الذاتية وتجلياتها في الفلسفة والأدب والموسيقى السمفونية والتصوف. كانت الغاية الحكم على مشروعه المعرفي، إلى أي حد يقال إنه ملحمة العقل. وإذا كان الأمر كذلك فكيف انتهى هذا المشروع إلى تحطيم العقل؟٨٣ كان هم قِصر العمر هو الذي دفعني إلى الاكتفاء بالكليات تاركًا الجزئيات لأجيال أخرى قادمة. أحدد المعالم، وأضع الأسس، وأترك لغيري وضع البناء.
-
(ب)
حاولت إعطاء وجهة نظر في تاريخ الفلسفة الأوروبية بعد أن مارستها على مدى أربعة عقود من الزمان نصفها خارج مصر ونصفها الآخر داخل مصر. أردت أن أعطي الحصيلة كلها مرة واحدة. فقد لا يكون في العمر متسع إذا ما أجلت أداء الرسالة. فالكتابة عندي تخليص من هم، وتخفيف من تبعة وثقل. كما أن الكتابة عندي لحظة انفعال وإثبات وجود، لحظة تحرر الأنا من الآخر بوصفه وموضعته وتحويله إلى موضوع للحكم. اقتضى قِصر العمر أن أخرج الثعبان أولًا من تحت قميصي ثم بعد ذلك أصفه مدقِّقًا محقِّقًا طوله وعرضه وسمكه ولونه، أن أحوِّله من ذات إلى موضوع، ومن رُوح إلى بدن، ومن عالم الأذهان إلى عالم الأعيان. كما أردت في لحظة عاجلة، والعمر قصير، إبعاد الخوف من الآخر والتخلص من إرهابه، وتجاوز عقده النقص أمامه التي يشعر بها بعض الباحثين. فالوعي الأوروبي موضوع أيضًا وليس ذاتًا، وأنا أيضًا ذات ولست موضوعًا. ويمكنني أخذ كل فلاسفة الغرب وأضمهم في طابور عرض وأكون أنا قائدهم، أوجههم وأحركهم، وأستعرضهم في حركات وتشكيلات وتحيات كيفما أشاء، وطبقًا لاستراتيجيتي وخططي وأهدافي، بل أن آخذ طوابير الأعداء بعد حصارهم وأضعهم جميعًا في الأسر، وأضع كل مجموعة منهم في زنزانة، وأغلق عليهم أبواب السجن، وبالتالي تضيع من نفوسنا رهبة الأعداء. لقد وقع العدو الذي كانت منتصرًا بالأمس في أسرنا اليوم كما حدث مع العدو الإسرائيلي في حرب أكتوبر ١٩٧٣م. وعلى هذا النحو قد تضيع من نفوسنا رُوح الرهبة أمام الفلسفة الأوروبية وقوة الجذب التي نشعر بها تجاهها. كما يساعدنا كثيرًا تجميعهم في مذاهب وتيارات واتجاهات على أخذهم جميعًا في شَتَلات في قبضة واحدة حتى لا نتوه في الأجزاء والأفراد والشخصيات والمذاهب التي ما يجمعها أكثر مما يفرقها. هدفنا كان وضع الوعي الأوروبي، بدلًا من تركه مطلق السراح يصول ويجول كيفما يشاء، في سجن كبير ومذاهبه في زنازين متجاورة حتى لا يتوه أحد منهم ونتوه معه في اقتفاء الأثر. الصورة العامة واستعراض الفلاسفة فيها تنزع الرهبة من النفوس. وإذا ما تحول الرائي إلى مرئي (وعي الآخر) وتحول المرئي إلى راءٍ (وعي الأنا) فإن ذلك إحدى علامات التحرر، أن يتحول المخرج إلى ممثل وأن يتحول الممثل إلى مخرج. إن سرد قصة الوعي الأوروبي دليل على اكتماله في وعي الأنا واحتواء الأنا له، رصده في شريط سينمائي من أوله إلى آخره، في استعراض عسكري. أتحرر منه برفع ثقله عن كاهلي، أحمل همي وهمه، وأنوء بالحملين. وكان هذا هو السبب في أن ظهر التكوين على أنه تصنيف للفلاسفة أكثر من دراسة لتكوين الأفكار أو «تكوين العقل الأوروبي الحديث». إنما تلك مرحلة تالية. نحن ما زلنا أسرى لسحر الإعلام وبريق الشخصيات، وكان لا بد أولًا من فك الأسر، ويصبح السجين سجانًا والأسير آسرًا. لقد حاولنا في فكرنا العربي المعاصر أن نتعلم من الفكر الغربي وانتهينا إلى أن أصبحنا ميدانًا له وممثلين له وروافد لمذاهبه واتجاهاته، وأصبح منا الديكارتيون والكانطيون والهيجليون والماركسيون والوجوديون والتوماويون والشخصانيون … إلخ. وكثرت لدينا الدراسات عن الفلاسفة الأوروبيين على مدى أجيال عدة بالمصادفة دون هدف قومي أو خطة موحدة، كغايات وليس كوسائل. درسنا جميع اجتهادات الوعي الأوروبي ونظراته الجزئية، الأخطاء وتصحيحاتها بأخطاء أخرى ومجموع الخطأين لا يكوِّن صوابًا، ونحن لسنا طرفًا فيها، ولم تنشأ في ظروفنا. إن إثبات تاريخية الوعي الأوروبي جزء من عملية تحرر الأنا من الآخر. فالآخر تاريخ والأنا تاريخ، ولكل مرحلة وعصر إبداع. وفي هذا الهم يبدو قصر العمر، ونظرًا لقصر العمر أحمل هذا الهم. كان بودي بعد عرض كل مذهب أو فيلسوف ذكر موضعه في الفكر العربي المعاصر، ماذا ترجمنا منه وأية دراسات أقمنا عليه وأية فائدة حصلنا عليها وأي نقد وجهنا إليه. ولكني خشيت أن يطول الأمر، وأجلت ذلك إلى ميدان للبحث يعمل فيه الجميع عن روافد الفكر الغربي في الفكر العربي المعاصر.
-
(جـ)
ومن هموم قِصر العمر أيضًا أنه لم يعد في العمر متسع لعرض النظرية ثم تطبيقها كما حدث في البيان النظري الأول عن الجبهة الأولى «موقفنا من التراث القديم» منذ عشر سنوات، ثم تحقيق أسسه ومبادئه ومناهجه في كل علم على حدة، وكما تم في علم أصول الدين في «من العقيدة إلى الثورة». في هذه المرة وتحت ضغط هموم قصر العمر كنت أكتب هذا البيان النظري الثاني عن الجبهة الثانية «موقفنا من التراث الغربي»، وأتى على غير قصد مني يجمع بين النظرية والتطبيق في آنٍ واحد، بل كان أقرب إلى التطبيق منه إلى النظرية. لم يتأسس «علم الاستغراب» خاصة من حيث المناهج والموضوعات وإن كان قد تم الإعلان عن الأهداف والغايات، فجاء الفصل الأول «ماذا يعني علم الاستغراب؟» إعلانًا عن حسن النوايا، وجاء الفصل الأخير «مصير الوعي الأوروبي» عن الغاية القصوى، ولكن أتت فصول التكوين كلها من الثاني حتى السادس، أي أكثر من نصف الكتاب، محاولات تطبيقية وحديثًا في الموضوع. وقد يقع الفصل السابع وحده «بنية الوعي الأوروبي» في الموضوع مباشرة وبنفس أسلوب البيان النظري الأول «موقفنا من التراث القديم». خشية ألا يمتد بنا العمر نظرًا لطول الجبهة الأولى واتساعها وإعادة بناء علومها العقلية النقلية الأربعة وعلومها النقلية الخمسة وعلومها الرياضية والطبيعة والإنسانية بفروعها جميعًا صدرت هذه المقدمة في «علم الاستغراب» وهي تلهث وراء الزمن لتلحق بما فات. وقد لا يسعف الزمن بإخراج أجزاء الجبهة الثانية الثلاثة: مصادر الوعي الأوروبي، بداية الوعي الأوروبي، نهاية الوعي الأوروبي. وإن حدث ذلك فإن إصلاح البيت من الداخل أولًا يسبق هدم بيوت الآخرين. يكفي هذه المقدمة أنها حاولت إقامة سور حول البيت دفاعًا عنه وحماية له من غزو الآخرين. وقد يأتي جيل آخر كي ينتقل من مرحلة الدفاع عن البيت إلى مرحلة الغزو على مناطق الغزو. هذا هو السبب في انشغالي في الجبهة الأولى، وانقضاء العمر قبل تحقيق الثانية إلا في بيانها النظري هذا «مقدمة في علم الاستغراب». أما الجبهة الثالثة فقد تبقى هدفًا ونية، حماسًا وباعثًا لي ولغيري بعد تعرية الواقع من غطاءيه الحضاريين القديم والحديث، تراث الأنا وتراث الآخر، كي يأتي جيل آخر فينظِّر له تنظيرًا مباشرًا، ويُنشئ حضارة جديدة، ويبدع نصًّا جديدًا بعد تفكيك النصين القديمين.
ولطالما أعلنا عن هذه الجبهة الثانية من قبل كخطة عمل وكمشروع بحث مؤجِّلِين تحقيقه إلى وقت لاحق.٨٤ ولحق الوقت ولم يتحقق. فخشية أن يستمر ذلك إلى ما لا نهاية حاولت إعطاء الممكن في حدود العمر المتاح. تكفي الحدوس الأولى والتوجهات الرئيسية. جمعت بين البيان كإعلان والتطبيق المؤقت تحت ضغط الأجل. فالعمل يتم في الزمان وليس خارجه. والزمان محدود الأجل، «وَلِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ». وإذا كان البيان النظري الأول «موقفنا من التراث القديم» ذا نزعة لا تاريخانية نظرًا لأنه يحلل حضارة الأنا المركزية التي نشأت علومها حول مركزها، وهو الوحي الجديد، فإن هذا البيان النظري الثاني «موقفنا من التراث الغربي» ذو نزعة تاريخانية لأنه يصف تكوين حضارة تاريخية نشأ بفعل الطرد المركزي بعيدًا عن المركز بعد أن اكتشفتُ عدم اتفاقه مع العقل والطبيعة. -
(د)
ومع ذلك كله، حاولت أن اجتهد رأيي لوضع أسس علم جديد ما زال مجرد نوايا صادقة، ونيات حسنة، يظهر بين الحين والآخر في كتابات المفكرين العرب المعاصرين، وفي هموم الشباب. بل لقد انتشر في الصحافة وفي أحاديث السياسيين، ولكن لم يتحول بعد إلى علم دقيق أنقله من مستوى الهواة إلى عالم المحترفين، ومن الإعلان عن النوايا إلى أصحاب الصنعة. هذا هو تصور العلم الجديد في ذهني. وقد يكون له تصورات أخرى ولا ريب. منهجه تحليل الآخر في وعي الأنا، والآخر كما أحياه. موضوعه الآخر كما هو عليه تكوينًا وبنية. غايته التحرر منه، ورده إلى حدوده الطبيعية، والقضاء على أسطورة العالمية، وضياع الرهبة والخشية منه والتوهان فيه. لغته عادية تجمع بين القارئ العريض والمتخصص الدقيق. وهو مجرد نموذج من هذه الصياغة الثانية وليس العلم ذاته، بل أقرب إلى الرؤية منه إلى العلم. بل إنني بمجرد أن انتهيت حتى قفزت إلى ذهني فصول أخرى، ورأيت بنية أخرى للعلم الجديد، متخففًا من فصول التكوين الخمسة، ومعطيًا نماذج لدراسة موضوعات العلم، كيف أقرأ الآخر من منظور الأنا، وكيف أعيد تقييم مذاهب الآخر ابتداءً من مقولات الأنا، وكيف أعيد بناء اتجاهات الآخر العقلانية والتجريبية وفلسفات الحياة بناء على تراث الأنا؟ كيف أستعمل تراث الآخر كعلوم للوسائل، وأستعمل تراث الأنا كعلوم للغايات، كيف أعيد صياغة علوم الغرب كعلوم للعجم وأعيد صياغة علوم الأنا كعلوم للعرب، كيف تستطيع الأنا أن تكون بؤرة أو نظرة كلية تجمع عليها شتات الآخر وتَبعثُرَه حولها وتجزِئتَه فيها؟ كنت في حاجة إلى مزيد من التروِّي لصياغة أسس هذا العلم، موضوعاته ومناهجه، أكثر من تطبيقه في تكوينه وبنيته ولكن لم أستطع لذلك دفعًا.٨٥أقول ذلك برُوح الفقيه القديم الذي يعي موقف حضارته بين الحضارات؛ يتمثل الأول، وينقد الثانية، ويبدع مرتين، في تأصيل الذات، وفي الاستقلال عن الآخر. وهي ليست مهمة مفكر بعينه بل مهمة عديد من الباحثين والمفكرين والعمل كفريق لتطوير العلم بعد تأسيسه، وللإسهام في إحكامه بعد إعلانه كنوايا.٨٦ تلك محاولة للنقد الذاتي تعترف مسبقًا بكثير من الانتقادات النظرية، ويتلاشى الكثير منها على حدود العمر.
«ريح الشرق»، وأيضًا المشروعان اللذان أدارهما ضمن أبحاث جامعة الأمم المتحدة وهما: «البدائل الاجتماعية والثقافية في عالم متغير» (SCA)، «الفكر الاجتماعي الجديد» (NST).