هدم مملكة جهنم وتجديدها

١

قال الفيلسوف: حدث ذلك عندما نشر المسيح تعاليمه بين الناس، تلك التعاليم الواضحة القريبة المنال التي يسهل على كل إنسان فهمها وإدراكها واتِّباع ما جاء فيها من السنن والشرائع، ولا ريب أنها تنقذ الناس التابعين لها من الشر، وتخرجهم من ظلمات الآثام إلى النور الذي شعاره المحبة ودِثَاره الإخاء والمساواة. وقد انتشر ذلك التعليم بسرعة، ولم يقدر أحد أن يقف في وجه انتشاره أو يصدَّ تياره.

إن بعلزبول١ — أب ورئيس جميع طُغْمَات الشياطين — اضطرب جزعًا وارتعشت أعصابه فزعًا؛ ذلك لأنه علم حق العلم بأن سلطته على الناس أخذت في التقلص والزوال، وأنها ستتلاشى وتصبح أثرًا بعد عين إذا لبث المسيح مواصلًا تعاليمه وكَرَازته، ولم يقاومه أحد مقاومة عنيفة تحول بينه وبين مواصلة التعليم والإرشاد. أجل، لقد اضطرب وجعل يضرب أخماسًا بأسداس، وطفق يُعمل الفكرة الشيطانية لإيقاف تيار ذلك التعليم، فأخذ من الضعف قوة وحرَّض أتباعه والخاضعين له من الفريسيين والكتبة لكي يقاوموا المسيح ويبالغوا في تحقيره وسَوْمِه صنوف العذاب والهوان، وحرَّض تلامذة المسيح وجسَّم لهم الخوف والهلع وزيَّن لهم الهرب وتَرْكَ معلمهم وحيدًا فريدًا دون مؤاسٍ أو عضد. وقد فعل الشيطان ذلك زعمًا منه أن الحكم على المسيح بالموت صلبًا — وما كان يُصْلب في تلك الأيام إلا كبار المجرمين — ثم تحقيره والاستهزاء به وتركه من جميع تلامذته، وأخيرًا أن العذابات والآلام والإهانات؛ تحمل المسيح في آخر دقيقة من حياته على إنكار تعليمه، وهذا الإنكار يقضي القضاء المُبْرم على قوة ذلك التعليم، ولا يدع له قيمة في نظر الناس.

ولكن الأمر جاء على عكس ذلك، فقد ظهرت النتيجة الفاصلة والمسيح معلَّق على الصليب عندما صرخ قائلًا: إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟ ولمَّا سمع ذلك بعلزبول ارتعش فَرَقًا وأخذ القيد الذي كان معدًّا لتقييد المسيح وقيَّد به رجليه تقييدًا محكمًا، ثم سمع بعد ذلك كلمات المسيح التي لفظها على الصليب بصوتٍ عالٍ، وهي: «يا أبي، اغفر لهم لأنهم لا يدرون ما يفعلون»، ثم أتبع المسيح ذلك بقوله: «قد تم وأسلم الروح.»

وقد أدرك بعلزبول حينئذ أن جميع مساعيه ذهبت عبثًا، ومكايده التي كادها ذهبت أدراج الرياح ولم تُجْدِه أقل نفع، فأراد أن ينزع القيود التي قيد بها نفسه عن رجليه ويولي الأدبار فلم يستطع إلى ذلك سبيلًا؛ لأن القيود قُفلت قَفْلًا محكمًا، فحاول فتحها فلم يقدر، وحاول أيضًا أن ينهض بواسطة جناحيه ويطير ولكنهما خاناه ولم يتحركا لا ذات اليمين ولا ذات اليسار. ثم رأى بعلزبول — وهو على تلك الحالة الحرجة — كيف أن المسيح بنوره اللامع وقوته الفعالة فتح أبواب الجحيم، وأبصر أيضًا كيف أن جميع الخُطاة من آدم حتى يهوذا خرجوا منها، ورأى بعينَي رأسه كيف أن جميع أتباعه الشياطين ركنوا إلى الفرار وتفرقوا أيدي سبا، وشاهد سقوط جدران جهنم الأربعة حتى لم يبقَ منها حجر على حجر؛ فخانته قواه ولم يستطع احتمال كل ذلك، فأَنَّ أنينًا مؤلمًا، وسقط سقطة هائلة، وهوى إلى هاوية مظلمة حيث لبث لا يبدي حَرَاكًا ولا يَنْبِس ببنت شفة، وقد أيقن بالبقاء على تلك الحالة إلى الأبد.

٢

مرَّ على ذلك مئة عام، ثم مئتان، ثم ثلاثمئة، حتى إن بعلزبول خانته ذاكرته ولم يعد يذكر الزمن الذي مرَّ عليه، فضلًا عن أنه كانت تحيط به ظلمة حالكة وتحدق به سكينة الموت، وكان مطروحًا على الأرض دون حراك، يجتهد بأن لا يعيد على مخيلته ذكرى الحوادث الماضية التي قادته إلى هذا المأزق الحرج، وكان يَحرِق الأَرَّم ويَصِرُّ بأسنانه غيظًا، وينفُث من فِيه صنوف الشتائم، ويوجهها إلى ذاك الذي سبَّب له هذا الهلاك.

ولبث على تلك الحالة غير مفتكر بالخلاص من هذه الورطة الشنعاء أو الخروج من تلك الظلمة الظلماء، ولكنه سمع ذات يوم فجأة أصواتًا مختلطة آتية من فوق رأسه، وقد أخذت تلك الأصوات في الازدياد حتى قاربت الغوغاء، وسمع وقع أقدام وأنَّات وصراخًا وصرير أسنان، فرفع بعلزبول رأسه ووجَّه سمعه وهو جاثم لا يبدي حراكًا، ولم يخطر بباله أن جهنم تتجدد وتعود إليها حالتها الماضية التي تقوَّضت بعد انتصار المسيح وفوزه، ومع ذلك فإن الجلبة والضوضاء ووقع الأقدام وصرير الأسنان كانت تزداد وضوحًا وجلاءً، فرفع جثته وانتفض ثم حرك رجليه الرفيعتين الطويلتين ذات الحواف المخيفة اللتين كانتا مطويتين تحت جسمه أعوامًا وأيامًا، ولشدة دهشه ومزيد استغرابه شعر بأن القيود المقيدة فيها سقطت من نفسها ووجد نفسه حرًّا، فزاد فيه النشاط وتجدد في فؤاده الأمل بالرجوع إلى سابق عهده، فنهض ورفرف بجناحيه وصفَّر ذلك الصفير المزعج الذي كان يستدعي به في أزمان سلطته الماضية خدمه وأتباعه من الشياطين الذين لا يُحصى لهم عدد.

ثم أبصر كُوَّةً فُتحت فوق رأسه ولمع منها نور أحمر ساطع، وجمهورًا غفيرًا من الشياطين يتساقطون من تلك الكوة — دافعين بعضهم بعضًا — إلى تلك الهاوية، وأحاطوا ببعلزبول إحاطة الغربان للجثة أو النسور للرِّمَّة.

وكان هؤلاء الشياطين مختلفين في الحجم والطول والعرض، فمنهم الكبير والصغير والسمين والضئيل المهزول، ولهم أذناب بعضها طويل وبعضها قصير ورفيع وقرونٌ مستطيلة مستقيمة أو عوجاء معقوفة.

وكان أحدهم عاري الجسم، ولكنه وشَّح أعلى جسده بوِشاح من أطمار بالية، ولون بشرته أسود لامع، ولم ينبت بوجهه شعر، وقد انتفخ بطنه وبرز بروزًا ظاهرًا مضحكًا. جلس هذا الشيطان القُرْفُصاء أمام بعلزبول وجهًا لوجه، ولكنه ما كان يستقر على حالة بل كان يلتفت ذات اليمين وذات اليسار مجيلًا بصره الناري في تلك الهاوية، ولم يفارق الابتسام فمه، ويلوِّح بذَنَبه المتناهي في الطول.

٣

فقال بعلزبول مشيرًا بيده إلى العلوِّ: ما معنى هذه الضوضاء والغوغاء؟ ماذا حدث؟ … ماذا جرى؟ …

فأجابه الشيطان الموشَّح بالوِشَاح: حدث ما كان يجري سابقًا، ورجعت الأمور إلى مجاريها القديمة، وعادت مملكة جهنم فتجددت وامتلأت بالناس.

فقال بعلزبول: وهل يوجد الآن في العالم أشرارٌ وخُطَاة؟

فأجاب ذو الوشاح: أكثر من الكثير.

فسأله قائلًا: وأين ذهب تعليم ذاك الذي لا أريد ذكر اسمه؟

فضحك الشيطان ذو الوشاح حتى برزت نواجذه، ثم قهقه سائر الشياطين قهقهة أحدثت ضجة هائلة.

ثم قال الموشَّح: إن تعليمه لا يوقف سير أعمالنا؛ لأنهم يصدقون بذلك التعليم ولا يسيرون الآن حسب منطوقه وأوامره.

فقال بعلزبول: ولكن ذلك التعليم واضح كالشمس في رابعة النهار، ولا ريب في أنه ينقذ متَّبعيه من سلطتنا، ولا يدع لمكايدنا سبيلًا إلى الوصول إليهم، وقد أيده صاحبه ووطَّده بموته.

فقال الشيطان ذو الوشاح بعد أن كنس الأرض بذَنَبه: إنني قد حوَّرت ذلك التعليم وقلَبته انقلابًا يخالف صورته الأصلية.

فسأله بعلزبول: وكيف تسنى لك ذلك؟

فأجابه: لقد قلَبتُه وشوَّهته، حتى إن الناس أصبحوا لا يعتقدون به، بل يعتقدون بتعاليمي ويصدقونها، وهم يسمونها باسمه وينسبونها إليه.

– أخبرني كيف تم لك ذلك؟

– لقد جرت الأمور من نفسها، وأنا كنت مساعدًا على تنفيذها وزيادة شيوعها.

فقال بعلزبول: اذكر لي ذلك باختصار، وتباعدْ عن الإسهاب والإطناب.

فأطرق الشيطان الموشَّح رأسَه كأنه يجمع أفكاره وصمت برهة، ثم رفع رأسه وقال: عندما حدثت تلك الحادثة الهائلة التي قوَّضت أركان جهنم وجعلتها أثرًا بعد عين، وجعلت أبانا ورئيسنا يبتعد عنَّا بعدًا ظننَّا أن لا تلاقي بعده؛ ذهبت عند ذاك إلى تلك الأماكن التي يبشرون فيها بذلك التعليم الذي كاد يقضي علينا القضاء المبرم ولا يدع لنا ذكرًا في الوجود؛ لأرى كيف يعيش أولئك الناس الذين قبلوه واتَّبعوه، فرأيت ما أدهشني وجعلني أندب سوء حظنا وأَذرف الدمع السخين، ولا أبالغ إذا قلت بأني بكيت بدل الدمع دمًا، وجثمت أَرثي مملكتنا العظيمة التي دالت دولتها ودَرَسَت معالمها، ذلك لأني أبصرت الناس العائشين بحسب ذلك التعليم يجرُّون مَطَارف السعادة والهناء، وأيقنت أن لا قدرة لي ولأمثالي على تضليلهم أو التغرير بهم.

فهم لا يغضبون على بعضهم بعضًا، بل على عكس ذلك يتساهلون تساهلًا عظيمًا في أعمالهم وتصرفاتهم المتبادلة، ولم يكن لجمال النساء تأثير عليهم، وكثيرون منهم لم يتزوجوا ولم يخضعوا لشهوات الجسد، والمتزوجون منهم اقتصروا على امرأة واحدة اقتصارًا حقيقيًّا، فلم يهجروها ولا خانوها ولم يعرفوا غيرها مطلقًا، وفوق ذلك فإنهم جميعًا ما كانوا يهتمون بجمع حطام هذه الدنيا ولا التفتوا إلى زخارفها، بل كان جميع ما يمتلكونه مشتركًا بين الجميع على السواء، ولم يقاوموا المعتدين عليهم بل كانوا يقابلون الشر بالخير والاعتداء بالتجاوز والإغضاء، ولذلك كانت حياتهم حياة طيبة منزَّهة عن النقائص والشوائب، ولذلك كان يتوافد عليهم الناس المختلفو الأجناس وينضمون إليهم وينسجون على منوالهم في عيشة الصلاح والتقوى والمحبة. ولما رأيت ذلك أيقنت بتقلص سيادتنا وزوال سلطتنا، وعزمت على الهرب والفرار.

ولكنه حدث على حين فجأة حادث قليل الأهمية بحد نفسه، ولكنه ظهر لي أنه مما يستوجب الالتفات، فلبثت مكاني متتبعًا سيره مراقبًا نتيجته.

ظهر بين أولئك الناس اختلاف طفيف، وهو أن بعضهم رأى أنه يجب على جميع متَّبعي هذا التعليم الجديد أن يختتنوا ويمتنعوا عن تناول أطعمة عبدة الأصنام، ورأى البعض الآخر أنه لا حاجة للتمسك بهذه الأمور، وأنه يجوز عدم الاختتان وتناول جميع الأطعمة أيةً كانت ولأيٍّ كانت.

أما أنا فقد اغتنمت هذه الفرصة الثمينة وصورت للفريقين أن اختلافهم هذا على جانب عظيم من الأهمية، وأنه لا يجوز مطلقًا لفريق أن يتنازل عن رأيه واعتقاده لأن ذلك يتعلق بعبادة الله، ومن حسن حظي أن ما وسوستُ به لهم صادف في قلوبهم تربة جيدة مستعدة له، فصدَّقوني وثارت في أفئدتهم عوامل الشقاق والنزاع، فقاوموا بعضهم وجهًا لوجه، وهذا ما تمنيته وسعيت إليه.

ثم اتسع بينهم خرق الخلاف، وثارت في نفوسهم براكين الغضب بعد خمودها أمدًا طويلًا، وكنت أنا لا أغفل دقيقة عن التحريض والتهييج، وزيَّنت لهم أخيرًا أن يبرهنوا على صحة تعليمهم بالعجائب.

ومما لا مشاحَّة فيه هو أن العجائب لا يمكن أن توضح حقيقة التعليم أو تبرهن على صحته؛ لأن النور ليس في حاجة للدليل، ولكن ميل كل فريق للفوز على الآخر بأنه هو المحقُّ في اعتقاده جعلهم جميعًا يطلبون من بعضهم تأييد دعواهم بالعجائب، وكان من السهل عليَّ اختلاق العجائب وإرشادهم إليها، وسرعان ما صدَّقوني وآمنوا بأقوالي وتحريضاتي، وأصبحوا ميَّالين لإيجاد العلل والأسباب المؤيِّدة لأقوالهم المثبِتة لتعاليمهم.

فقال بعضهم إنه نزلت عليهم ألسنة نارية، وقال البعض الآخر إنهم رأوا نفس المعلم الذي مات. وقال الفريقان غير ذلك مما هو من هذا القبيل، فاختلقوا أمورًا ما أنزل الله بها من سلطان ولم تكن في الحسبان، وكذبوا باسم ذاك الذي دعانا نحن معشر الشياطين كَذَبَةً مفترين، ولكن أتباعه زادوا علينا بالافتراءات والاختلاقات، ووصموا نفوسهم بوصمة الكذب التي كانت خاصة بنا، فساوونا في ذلك وهم لا يشعرون. وقال أحد الفريقين للآخر: عجائبنا هي الحقيقية وعجائبكم مختلَقة، فضلًا عن أنها لا أهمية لها، فتصدى هذا الفريق لتكذيب هذه الدعوى وحاول إثبات صحة عجائبه وأهميتها.

ولقد سار الحال على هذا المنوال، ولكني خشيت أنهم يلحظون هذا الخداع الظاهر والمكر المحسوس فاضطُرِرت لاختلاق «الكنيسة»، ولما آمنوا بالكنيسة اطمأن فؤادي وأيقنت أن مساعينا تكلَّلت بالنجاح، وعلمت أننا نجونا وأن مملكة جهنم عادت للظهور والانتشار، وتجدد بناؤها وغَصَّت رَحَبَاتها بالرعايا الذين خضعوا لها وانساقوا إليها.

٤

إن بعلزبول لم يستطع التصديق بأن أتباعه كانوا أغزر منه عقلًا وأوفر إدراكًا وأوسع حيلةً، وللتأكد من ذلك سأل محدثه قائلًا: ما هي الكنيسة؟

فأجابه بقوله: الكنيسة هي عبارة عن أن الناس عندما يكذبون ويشعرون بأن سامعيهم لا يصدقونهم يتهجمون على الله ويقول الواحد منهم: «والله العظيم إن ما أقوله هو حق لا ريب فيه»، وهذه هي الكنيسة.

ولكن يجب أن نضيف إلى ذلك أن الناس الذين انتظموا في سلك الكنيسة يعتقدون في نفوسهم القداسة، وأنهم معصومون عن الغلط، بعيدون عن الضلال، ولذلك فمهما اختلقوا من الحماقات والسخافات فلا يستطيعون إنكارها في المستقبل؛ لأن ذلك — على زعمهم — يُلْحق بهم العار ويُظْهر نقص تعليمهم وقيمة اعتقادهم.

وزيادة للإيضاح أقول: إن الكنيسة تتم على الطريقة الآتية: أن الناس يؤكدون لأنفسهم وللآخرين أن معلمهم الله الذي — احتراسًا على تعليمه الذي علَّم به الناس من أن تتلاعب به الأفكار وتحوِّله عن معناه الحقيقي وتشوِّه جوهر حقيقته — اختار رجالًا خصوصيين ليفسروا ذلك التعليم تفسيرًا صحيحًا، وأعطاهم السلطة المطلقة لكي ينتخبوا لهم بدورهم خلفاء يحافظون على التعليم ويفسرونه تفسيرًا مطابقًا لأصل وضعه، وهؤلاء وأولئك سموا نفوسهم بالكنيسة، وأصبحوا بعد ذلك يعتقدون اعتقادًا ثابتًا بأنهم موجودون ضمن دائرة الحق، وليس ذلك لأن ما يبشرون به هو الحق بنفسه، بل لاعتقادهم أنهم خلفاء شرعيون لتلامذة تلامذة تلامذة ذاك المعلم الإله. ومن ذاك الحين أصبح كل واحد من أولئك الناس يدَّعي أنه عضو عامل في الكنيسة الحقيقية الواحدة (كما كان ذلك في كل مكان وزمان)، وصار كل واحد يعلِّم طبقًا لأهوائه وأمياله، ولا يمكنه أن ينكرها فيما بعد مهما بلغت من الضلال وتضمنت من الأباطيل، ومهما حاول الآخرون إظهار فسادها وعدم مطابقتها للحقيقة.

فقال بعلزبول: ولكن أريد أن أفهم لماذا هذه الكنيسة أضحت تفسر تلك التعاليم وتكرز بها على طريقة موافقة لمصلحتنا؟

فاستطرد الشيطان ذو الوشاح الكلام، وقال: إن الرجال أعضاء الكنيسة جنحوا إلى ذلك؛ لأنهم عرَّفوا أنفسهم بأنهم هم وحدهم مفسرو شريعة الله والقابضون على زمامها، وبذلوا الوُسْع لحمل الناس على الاعتقاد بهم بذلك، ومع مرور الزمان أصبح هؤلاء المفسرون الكارزون ملجأ للناس الذين توافدوا عليهم لمناقشتهم ومساءلتهم، فأعطاهم ذلك بعض الامتيازات والسلطة التي أخذت في الازدياد، حتى جاء يومٌ على أولئك المفسرين عدُّوا فيه نفوسهم رؤساء لجميع متَّبعي ذلك التعليم.

ولما أحرزوا السيادة على الناس أخذوا يتدرَّجون في العظمة والكبرياء، ثم تطرَّق إليهم الفساد رويدًا رويدًا حتى غدوْا بعد مدة مبشرين للرذائل، فكرههم الناس وأبغضوهم بغضًا ظاهرًا وأظهروا لهم العداء وصادروهم مصادرةً عنيفة، ولم يجد أولئك الرؤساء سلاحًا يحاربون به أعداءهم غير القوة، فجعلوا يضطهدون ويقتلون ويحرقون ويعذبون كل من لا يوافقهم على تعاليمهم ولا يخضع لسلطتهم.

ثم إن هذا المركز الذي أصبحوا فيه وقادهم إليه حب السلطة والكبرياء؛ جعلهم مضطرين إلى تفسير ذلك التعليم بما يطابق أهواءهم ويزكِّي حالة معيشتهم ويبرر تلك الفظائع والجرائم التي يقترفونها مع أعدائهم. والأنكى والأدهى من كل ذلك أن تلك التفاسير الباطلة كان يصدقها أتباع أولئك الرؤساء ويؤمِّنون عليها ويعتقدون بقداسة أعمال رؤسائهم الفظيعة وأنها موافقة للدين، فينصرونهم وينكِّلون بأعدائهم تنكيلًا فظيعًا.

وبوجه الإجمال أصبح ذلك التعليم المشوَّه آلة للانتقام وجرِّ الويلات على العالم، وسلاحًا حادًّا لاغتيال النفوس واضطهاد الناس وإقلاق راحتهم.

٥

أما بعلزبول فلم يقتنع بما سمع، ولم يشأ أن يصدق ما قام به أعوانه من النجاح في إفساد الناس وحملهم على تشويه ذلك التعليم البسيط، الذي لا يقبل التأويل والتحريف، ولذلك قال لمحدثه: إن ذلك التعليم واضح وضوحًا جليًّا فضلًا عن قرب مأخذه، فقد جاء فيه: «افعل مع الناس ما تريد أن يفعلوا بك»، فهل مثل هذه الآية مما يجوز تحريفها وقلب معناها؟

فقال الشيطان ذو الوشاح: أجل، إنها قابلة للتحريف، وإن الناس حسب مشورتي لهم استعملوا لذلك وسائل عديدة، وإني سأضرب لك مثلًا أظن أنه كافٍ لإقناعك: إن الناس يتداولون حكاية مآلها أن ساحرًا صالحًا أراد أن ينقذ رجلًا من ساحر آخر ماكر شرير، فحوَّله حبة قمح، فمسخ الساحر الشرير نفسه ديكًا وأراد أن ينقد تلك الحبة، ولكن الساحر الصالح نثر فوق تلك الحبة أردبًّا من القمح، فلم يستطع الساحر الشرير أن يأكل الأردب، كما أنه لم يستطع معرفة الحبة المطلوبة. وعلى مثال هذه الحكاية تصرف الناس — حسب مشورتي لهم — بتعليم ذاك الذي قال إن الناموس كله محصور بالكلمات الآتية: «اصنع مع غيرك ما تريد أن يصنع بك».

لم يقتصروا على ذلك بل جعلوا ناموس الله المقدس وشريعته الطاهرة في تسعةٍ وأربعين كتابًا، واعتقدوا أن جميع ما جاء فيها مكتوبٌ بإلهام الله — والروح القدس — وبذلك هالوا على ذلك الحق المفهوم الواضح رُكامًا من الحقائق المقدسة، التي اعترفوا بأنه موحى بها وآمنوا بما جاء فيها، وقد ضاع بينها الحق اللازم للناس، ذلك الحق الذي جعل الناس أطهارًا أبرارًا، وعاشوا بموجبه زمانًا في الطهارة والتقوى والصلاح والسلام. وما تقدم هو إحدى الطرق التي استعملها الناس.

والطريقة الثانية التي استعملوها بنجاحٍ باهر وفوزٍ مبين في خلال ألف عام؛ هي أنهم جعلوا يقتلون ويحرقون ويضطهدون كل من حاول إظهار الحقيقة. أما الآن فقد توقفوا مرغمين عن سفك الدماء وإحراق النفوس، ولكنهم ما زالوا يستعملون تلك الطريقة على صورةٍ أخرى؛ فإنهم يضطهدون كل من يحاول إظهار الحقيقة، ويشون عليه الوشايات الفاسدة، فيعكرون صفو حياته بما يدسونه له من السموم القتَّالة، ويندر وجود من يقاومهم وجهًا لوجه ويحاول إماطة النقاب عن خزعبلاتهم وسفسطاتهم.

ولهم أيضًا طريقة ثالثة لتشويه ذلك التعليم؛ هي أنهم عندما ألفوا الكنيسة أصبحوا يعتقدون أنها مقدسة طاهرة معصومة عن ارتكاب الخطايا والآثام، وغدوا بعد ذلك يعلِّمون الناس تعاليم مطابقة لأهوائهم مضادة لذلك التعليم الحقيقي، بل هي وإياه على طرفي نقيض، ويجهدون النفس في إقناع تلاميذهم وطوائفهم بأن تعاليمهم هذه مقدسة موافقة للتعليم الوارد في الكتاب المقدس، وتأييدًا لما أقول أضرب مثلًا من تعاليمهم: جاء في الكتاب المقدس: «معلِّمكم واحد هو المسيح»، وجاء فيه أيضًا: «لا تتخذوا لكم أبًا على الأرض مطلقًا أيًّا كان؛ لأن أباكم واحد الذي في السموات، ولا تقولوا إن لنا معلمين على الأرض؛ لأن معلمكم واحد هو المسيح»، ولكنهم ضربوا بهذه الأقوال عرض الحائط وجعلوا يقولون إننا وحدنا — دون سوانا — آباء الناس وإننا نحن معلموهم. وجاء في الكتاب المقدس أيضًا: «إذا أردت أن تصلي فادخل مخدعك واقفل بابك وصلِّ لأبيك الذي في السموات، فأبوك الذي يراك في الخفاء يجازيك علانية»، وأما هم فإنهم يعلِّمون بأنه يجب على المسيحيين أن يصلُّوا علنًا مجتمعين في المعابد والهياكل تحت أنغام الموسيقى ورناتها الشجية. وجاء في الكتاب المقدس: «لا تحلفوا البتة»، ولكنهم يعلِّمون بأنه يجوز للناس إقسام الأَيْمان أمام الحكام ليستطيع هؤلاء تنفيذ النظام والقوانين. وجاء في ذلك الكتاب: «لا تقتل»، وأما هم فيحلِّلون قتل النفوس في الحروب، ويُفتون للحكام بإصدار الأحكام القاضية بقتل النفوس.

قال هذا الشيطان ذو الوشاح، ثم أغمض عينيه وضغط برأسه على عنقه حتى مسَّت أذناه كتفيه.

فقال بعلزبول: إن جميع ما سمعته حسن جدًّا جدًّا. وابتسم ابتسامة تدل على ارتياحه وانشراحه مما فعله أتباعه، وقد أجاب الشياطين المحدقون به على تلك الابتسامة بقهقهة دوَّت لها أركان المكان.

٦

ثم سأل بعلزبول أتباعه قائلًا: أصحيح ما تقولون إنه أصبح عندكم الآن أناس مضلِّون نهَّابون قُطَّاع طريق قتلة وسفاكون للدماء كما كان يوجد أمثال هؤلاء من ذي قبل؟

فبدت على وجوه الشياطين سمات الارتياح والسرور، ولذلك أجابوا بصوتٍ واحد: نعم، إن الحالة الآن كما كانت عليه من ذي قبل. وصاح واحدٌ منهم بصوتٍ عالٍ: بل أكثر بكثير.

وصرخ ثانٍ: إن منزلة المضلين الغشاشين الآن أرفع من منزلة المضلين السابقين، والحاليون أمهر في زيادة التضليل والتغرير بالناس ممن سبقهم من المضلين في العهد القديم.

وقال ثالث: إن سلَّابي العهد الجديد أشد شراسة وقساوة من سلَّابي العهد القديم.

وقال رابع: وقد كثر القتل واغتيال النفوس إلى حد أن صُبغت الأرض فيه بالدماء.

فقال بعلزبول: لا تتكلموا جميعًا دفعة واحدة، بل فليتكلم كل من أسأله. وليدنُ مني ذاك الذي يشتغل بالفساد، وليخبرني كيف يقود تلاميذ ذاك الذي منع طلاق المرأة إلى الفساد، وقال لتابعيه لا تنظروا إلى المرأة نظرًا فاسدًا، ويستميلهم إلى خيانة نسائهم.

فقال واحد: أنا هو ذلك الرجل. ودنا من بعلزبول زحفًا على أليته، وكان شيطانًا ذا منظرٍ مضحك، ووجهٍ مدهش، وفمٍ لا ينقطع عن المضغ وإرسال اللعاب.

خرج هذا الشيطان من صفوف الشياطين، وزحف حتى قابل بعلزبول وجلس أمامه القرفصاء، ومدَّ ذَنَبَه من بين رجليه إلى الوراء، وجعل يكنس الأرض بمؤخَّره، وحَنَى رأسه إلى جهة اليمين، وقال بصوتٍ رخيم …

إني أسير على الطريقة القديمة التي كنت تستعملها أيها الرئيس الأعظم والإمام الأكبر والأب الأمجد، تلك الطريقة التي استعملتها في الفردوس وجعلت فيما بعد كل الجنس البشري في قبضتنا وتحت سلطتنا. وإننا نستعمل هذه الطريقة الآن هكذا: نحن نقنع الناس بأن الزواج لا ينحصر فيما يفهمونه منه وهو اتحاد الرجل بالمرأة، بل إنه لا يكون زواجًا حقيقيًّا إلا إذا ارتدى العريسان أفخر الملابس، وتزيَّنا بالحلي النفيسة، وسارا إلى بناءٍ فخم مبني لهذه الغاية، حيث يقفان في مكانٍ معين محاطَيْن بمعارفهما وأقاربهما، وجميعهم يحملون الشموع المضاءة، ثم يُلبس بعض الرؤساء العريسين إكليلين خاصَّين مصنوعين لهاته الغاية باحتفالٍ عظيم بين الأنغام والأناشيد، ثم يدوران مع المحيطين بهما ثلاث دورات حول مائدة توضع أمامهما. وقد تمكنَّا من إقناع الناس بأن هذا هو الزواج الحقيقي، وبدون الاحتفالات المذكورة لا يدعى زواجًا، وقد انخدع الناس بهذه الخدعة، وبالغوا في التفنن بتلك الاحتفالات وإنفاق الأموال في سبيلها؛ حتى إنهم ينفقون عليها كل مرتخَصٍ وغالٍ، وكل واحد يسعى ليكون احتفاله أفخم وأعظم من احتفالات الآخرين.

وقد توغل الناس في هذا الاعتقاد إلى درجة أنهم أصبحوا يعدونه فريضة مقدسة وعقيدة دينية لا يتم ارتباط الزوجين بدونها، وزادوا على ذلك أنهم جعلوا ينظرون إلى الزواج نظرًا فاسدًا واتخذوه آلة للملذات والشهوات الجسدية، فضلُّوا بذلك سواء السبيل، وانتشر الفساد فيما بينهم ونَخَر سوسه جوهر عقائدهم الصحيحة، وحلت محلها هذه الخرافات والخزعبلات.

ولما أنهى هذا الشيطان كلامه حنى رأسه وصمت منتظرًا تأثير كلامه في نفس رئيسه الأعظم، فحنى بعلزبول رأسه إشارة الرضاء والارتياح، وابتسم ابتسامةً تشفُّ عما خامر فؤاده من السرور، وقد دعت تلك الابتسامة شيطان النساء أن يستطرد كلامه ويقول:

وإننا لا نكف عن استعمال تلك الوسيلة الشيطانية التي استعملتها أيها الرئيس الأعظم في الفردوس، وهي استمالة الرجل والمرأة إلى الأكل من الثمرة الممنوع أكلها، وبإضافتنا عليها الوسائل التي أشرت إليها توصلنا إلى أحسن النتائج وأنجعها فائدة. أجل، إن الناس يتزوجون زواجًا كنائسيًّا شريفًا، وبعد اتحاد الواحد منهم بزوجته نَقُوده إلى خيانتها ونزين له اختيار غيرها، وسرعان ما ينقاد إلينا ويضرب في طول الفساد وعرضه، ويتزوج مئاتٍ من النساء زواجًا سريًّا، وقد تنسج المرأة على منواله، وبذلك يتدرجون في الفساد ويقعون في الضلال، وقد انتشر الفجور بينهم انتشارًا يصعب تصديقه، والأدهى من كل ذلك أن كثيرين منهم أخذوا يطلِّقون نساءهم ويتزوجون ثانيةً، ويقيمون الاحتفالات التي ذكرناها آنفًا، ويؤيدون أعمالهم هذه بقولهم إن الزواج الأول فاسد وهذا الزواج الثاني هو الصحيح.

ثم صمت بعد هذا شيطان النساء، ومسح بمؤخَّر ذَنَبه اللُّعاب الذي ملأ فمه وسال على ذَقْنه، ثم حنى رأسه ووجه بصره نحو بعلزبول.

٧

فقال له بعلزبول: إني موافق كل الموافقة على هذه الطرق الناجعة التي استعملتها فأُثني عليك مزيد الثناء، وواظب على السير الذي سرت فيه. ثم قال سائلًا: من يقود النَّهَّابين المغتصبين فليدنُ مني ويخبرني عن الطرق التي استعملها لذلك.

فقال واحد من بين الشياطين: ها أنا ذا، وتقدم من بعلزبول، وكان شيطانًا مريدًا وجبارًا عنيدًا، له قرنان طويلان معقوفان، وشاربان مفتولان مرفوعان إلى فوق، وأرجل طويلة قبيحة. دنا هذا من بعلزبول، وأصلح شاربيه، ووجَّه إليه بصره منتظرًا الإذن بالكلام.

فقال بعلزبول: إن ذاك الذي هدم جهنم علَّم الناس أن يعيشوا كطيور السماء، وأمر تابعيه أن يعطوا السائل ويُؤْووا الغريب، وقال: من طلب منك ثوبك فأعطه الرداء أيضًا، وقال أيضًا: من أراد أن يخلص نفسه فليوزع كل أمواله على الفقراء. فكيف أنتم الآن تفعلون حتى جعلتم سامعي ذلك الكلام ينهبون بعضهم بعضًا، ويبذل كل واحدٍ وسعه لاغتصاب ما في يد الآخر؟

فقال الشيطان ذو الشاربين المفتولين: لقد توصلنا إلى ذلك باستعمال تلك الطريقة التي استعملها رئيسنا الأكبر لدى انتخاب شاول ملكًا على الإسرائيليين، وما حدث في ذلك العهد القديم صار يحدث الآن في هذا العهد الجديد، والتاريخ الديني يعيد نفسه حرفًا بحرف، وهي طريقة حميدة المسعى ذات تأثيرٍ شديد تدعو الناس إلى النهب وابتزاز الأموال وتسخير العمال. والعجيب المدهش في ذلك أنهم يعتقدون فيما يفعلونه من طرق النهب والسلب أنها طرق قانونية مشروعة، ولا إثم ولا حرج عليهم من استعمالها.

وإننا توطيدًا لهذا الاعتقاد في النفوس، أو بعبارةٍ أوضح لكي نجعل لشخصٍ ما حقًّا واضحًا في استباحة أموال الناس وابتزازها ابتزازًا علنيًّا مشروعًا غير قابل للاعتراض والانتقاد؛ نقود ذلك الرجل للكنيسة، ونتوِّج رأسه بتاجٍ فخم، ونجلسه على عرش مجيد عالي الأركان مصفح بالذهب، مرصَّع بالحجارة الكريمة، وندفع إليه صولجانًا وكرة، وندهن رأسه بزيت الزيتون، وباسم الله وابنه ننادي به ملكًا، ويصبح هذا الرجل المدهون رأسه بالزيت شخصًا مقدسًا بل ورأسًا للكنيسة، وندعو الناس إلى الاعتقاد بقداسة شخصه وعلو مكانته، وسرعان ما يصدقوننا ولا يقفون عند حد الاعتقاد البسيط الذي قدناهم إليه، بل نراهم يتوغَّلون في التلفيقات والاختراعات واختلاق الألقاب الغريبة لهذا الشخص المقدس، فيلقبونه بالقابض على السلطة الفعلية، وظل الله في أرضه، ومدير شئون الرعاية الدينية والمدنية، والحاكم على رقاب العباد و… و… و… إلخ، مما هو من هذه الصفات التي دونها صفات الآلهة. وسار النهب على هذه الطريقة المقدسة سيرًا تدريجيًّا حتى بلغ أقصى درجات الزيادة، وجعل الأشخاص المقدسون وأعوانهم وأتباعهم ومساعدوهم ومساعدو مساعديهم ينهبون الشعب نهبًا علنيًّا ليس فيه شيء من الخطر والعواقب الوخيمة، وأخذوا يسنون قوانين وشرائع تجيز لهم هذا النهب.

وإذا أمعنا النظر وجدنا أن تلك الشرائع والقوانين أضحت ضربةً قاضية على الناس، وسوَّغت لأفرادٍ أخناث من أهل البطالة والفساد نهب الشعب العامل الذي يحصِّل الدريهمات بعرق جبينه، وما زال هذا النهب المشروع مرعيَّ الإجراء إلى يومنا هذا في أكثر الممالك، حتى في تلك التي لا يصبون الزيت على رأس ملوكها، وكما يرى أبونا ورئيسنا الأعظم أن هذه الطريقة التي نستعملها ليست من أوضاعنا في الحال، بل هي قديمة العهد من مبتكرات أفكار رئيسنا، غير أننا الآن عمَّمناها في جميع الممالك والإمارات، ونشرناها في جميع الأصقاع، ووطَّدنا دعائمها على قواعد متينة لا تتزعزع، وبنيناها على شرائع لا تنقض، ومن ذلك أن الناس كانوا يخضعون في العهد القديم إلى الأشخاص الذين ينتخبونهم ليكونوا عليهم ملوكًا ورؤساء، ولكننا اليوم عكسنا الأمر فجعلناهم يخضعون لأي شخصٍ كان ولو كانوا لا يريدونه أو يميلون إليه.

ثم أخذ الحكام يضربون الضرائب الفادحة على الشعب ويحصِّلونها منهم بالقوة والعنف، والشعب مضطر إلى دفعها وتأديتها بصفة أنها لازمة للإنفاق على مصالح البلاد، ولكن أكثرها — إن لم نقل كلها — تتسرب إلى خزائن الحُكام الذين ينفقونها على شهواتهم وملذَّاتهم، وكثيرون منهم يكونون من أصلٍ منحطٍّ دنيء، ولكنه لا تمضي عليهم أعوام معدودة حتى يصبحوا من أصحاب الثروة الواسعة والأراضي الشاسعة. ثم رأيتهم يقتنون الجواهر الكريمة ويدَّخرون الحجارة الثمينة، وكانوا في بدء أمرهم فقراء لا يملكون شَرْوَى نَقِير ولا أردبًّا من الشعير.

ومن النجاح الباهر الذي صادفته طريقتنا هذه أن الأمم المسيحية لم تقتصر على نهب رعاياها وسَوْمِهم صنوف المظالم وأنواع المغارم، بل جعل المسيحيون يمدون رواق سلطتهم على الأمم الأخرى التي لا تدين بدينهم، وأخذوا يبتزون أموالهم، ويضيِّقون عليهم ويقيدونهم بقيود الاستعباد، وهم يدَّعون أنهم يفعلون ذلك باسم المسيحية، ويبرِّرون أفعالهم بأن ديانتهم هذه تقضي عليهم بنشرها في مشارق الأرض ومغاربها، ولكنهم في الحقيقة ونفس الواقع مختلقون لتلك الأسباب الواهنة المخالفة لتعليم المسيح وروح الديانة المسيحية، وتطاولت أيديهم في السلب والنهب من أوروبا وأميركا إلى مجاهل أفريقيا وفيافي آسيا، حتى لم يدعوا أمةً ضعيفةً كانت أو قوية إلا واستحلُّوا أموالها واستباحوا ظلمها واستعبادها.

ولقد زاد نهب الممالك في هذه الأيام بسبب القروض العامة والدولية زيادةً تُذكر، حتى إنه لم يقتصر على نهب الأحياء بل تطاول إلى نهب الأبناء وأبناء الأبناء في المستقبل.

وإنني أيها الرئيس الأعظم لا أزيد في الإيضاح بأن طريقتنا هذه حصينة البنيان متينة الأركان، بسبب ما أدخلناه من الاعتقاد على الناس بأن حاكمهم شخصٌ مقدس، وذلك يجعلهم يخضعون لجميع أوامره ونواهيه، ويرضون بطرق النهب التي ينهب بها أموالهم، ولا يفتكرون بمقاومته والخروج عن طاعته، ويكفي للسلَّاب الأعظم والنَّهَّاب الأكبر أن يدهن رأسه بالزيت، وهو بعد ذلك في حلٍّ مما يفعل، وحر بنهب من يريد وقَدْر ما يريد.

وقد عملت مرة تجربة في روسيا بأن أقمت على عرش مملكتها عدة من النساء الواحدة بعد الأخرى، وكنَّ على جانبٍ عظيم من الجهل والحماقة، وعدم معرفة القراءة والكتابة، وفوق ذلك كُنَّ من المفسودات الأخلاق، المبيحات الأعراض، ولم يكن لهنَّ أدنى حق — بموجب نظامات المملكة — يخوِّلُهن ارتقاء العرش، ولم تكن الأخيرة منهن فاجرةً فقط بل مجرمة قاتلة؛ لأنها قتلت زوجها وولي عهدها الشرعي. وبما أنها كانت ممسوحة بالزيت خضع لها الناس، ولم يفقئُوا لها عينيها ويقطعوا أنفها ويجلدوها بالسياط كما يفعلون ذلك مع المجرمين وسفاكي الدماء لم يفعلوا شيئًا من ذلك، بل خضعوا لها خضوع العبيد الأرقَّاء مدة ثلاثين عامًا، وأباحوا لها ولأخلائها والواقعين في هواها أن ينهبوا كل ما يملكون من مالٍ وعقار وحرية شخصية، وقد زادت في عهدها المظالم والمغارم إلى درجةٍ قصوى.

ومما تقدم يظهر لك أيها الرئيس الأعظم أن النهب أصبح علنيًّا عموميًّا، ولم يقتصر على ما في الجيوب والأكياس والخزائن، بل تعداه إلى نهب الخيل والثيران والأنعام والملابس، وصار أصحاب السلطة يجيزون لأنفسهم هذه الأمور تحت شكلٍ منظمٍ قانوني مشروع، وقد تعدى النهب من الملوك إلى الناس بوجه الإجمال، حتى أصبح من مستلزمات الحياة الجوهرية التي لا غنى للناس عنها، وأصبحت بعد ذلك حياة الناس وقواهم الجسدية موجَّهة فقط إلى النهب والسلب بطرقٍ عديدة دونها طرق اللصوص الذين لا ينهبون إلا مدفوعين بدافع الجوع والحاجة. ولم يقف النهب عند ذلك الحد، بل إن زعماء النَّهَّابين الممسوحين جعلوا يزاحمون بعضهم بعضًا في السلب، وحمى بينهم وطيس المسابقة في هذا الطريق، حتى إنهم يلجئون أحيانًا إلى إشهار الحروب ويدفعون إليها أبناء رعاياهم؛ فيتلاحمون ويتطاحنون ويستشهدون على مذبح مطامع الممسوحين وأغراضهم الشخصية.

٨

فقال بعلزبول: إن هذا النجاح باهر، وإني أثني عليك وافر الثناء. ثم التفت إلى الشياطين وقال سائلًا: أيكم شيطان قتل النفوس؟ فليتقدم إلي ذلك.

فصاح واحد: أنا هو. وخرج من بين الشياطين شيطان ذو وجهٍ شديد الحمرة كالدم، ونابين طويلين تدلَّيا من فمه، وقرنين رفيعين، وذَنَبٍ مرفوع إلى فوق ثابت لا يتحرك.

فسأله بعلزبول: كيف تقود إلى ارتكاب القتل تابعي ذلك الذي قال: «لا تقاوم الشر بالشر وحب أعداءك»؟

فأجاب الشيطان ذو الوجه الأحمر بصوتٍ متهدِّج: نفعل ذلك اتِّباعًا للطريقة القديمة بهذا المعنى؛ فإننا نثير في قلوب الناس عوامل العنفوان، والكِبر، والخيلاء، والانتقام، والبغضاء، ونحرض معلمي الناس ونُفهمهم أن خير وسيلة تُبعد الناس عن ارتكاب جريمة القتل هي قتل القتلة وسفَّاكي الدماء قتلًا علنيًّا مشروعًا. ثم إن التعليم الجديد الذي انتشر بين المسيحيين عن عصمة الكنيسة من الخطأ، وكذلك التعليم والعقائد عن الزواج المسيحي، والمساواة المسيحية؛ جميع هذه التعاليم تقدم لنا جرائم القتل العديدة، فالتعليم عن عصمة الكنيسة قدم لنا في الأعصر الخالية ألوفًا بل ملايين من جرائم القتل. وتفصيل ذلك أن الناس عندما أصبحوا يعدون أنفسهم أعضاء الكنيسة المعصومة عن الغلط، جعلوا يقاومون من يخالفهم في اعتقادهم ويصادرونهم مصادرةً عنيفة، وأطلقوا عليهم اسم المعلمين الكاذبين الذين يشوِّشون أفكار الناس ويفسدون معتقداتهم، وأن عملهم هذا يعتبر جريمة لا تغتفر ولا يصح السكوت عنها؛ فحكموا بأن قتل أولئك الناس يرضي الله، بل عدُّوه ذبيحة مقدسة له تعالى، وارتكازًا على ذلك قتلوا أممًا برُمَّتها وأعدموا وأحرقوا مئات الألوف من الناس.

ومن المدهش والمضحك معًا أن أولئك الناس الذين يقتلون ويحرقون الناس الذين كشف الله عن أبصارهم فابتدءوا يفهمون التعليم، جعلوا يعدونهم خدمتنا أو خدمة الشياطين، ولم يكونوا في الحقيقة إلا أعداء ألداء لنا. وأما خَدَمتُنا الخاضعون لإرادتنا المنفذون لأوامرنا، فهم هم أولئك الذين كانوا يحرقون الناس الأبرار الأطهار المتبعين التعاليم الحقيقية، ومع ارتكابهم هذه الفظائع الشنعاء التي يَبَرأ منها البرابرة والمتوحشون، كانوا يعدون أنفسهم أطهارًا قديسين يصدعون بأوامر الله وينفذون شريعته، والله وشريعته بريئان من أفعالهم وفظائعهم. والذي يمعن النظر يجد أن هذه الطريقة كانت مستعملة في العهد القديم، وقد زاد عليها العهد الجديد في سرعة التنفيذ والقساوة والهمجية.

ثم إن التعاليم والعقائد بشأن الزواج المسيحي والمساواة بين المسيحيين تقدمان لنا ضحايا كثيرة، فالزواج يقدم لنا أولًا: قتل الأزواج بعضهم بعضًا، وقتل الأمهات لأطفالهن. ثانيًا: فالأزواج والزوجات يقتلون بعضهم بعضًا عندما يجدون أن اتحاد الواحد بالآخر يحول بينه وبين التمتع بشهواته الجسدية، بل يقف سدًّا منيعًا في وجه حريته وأمياله الفاسدة، بداعي الشرع الكنائسي والعقائد المتعلقة بالزواج، التي تربطهما ببعض ارتباطًا ليس بعده انفصام إلا بإعدام أحدهما. والأمهات يقتلن الأطفال الذين يحملن بهم سفاحًا، وحوادث القتل التي من هذا القبيل كثيرة جدًّا لا تقع تحت حصر، ولا أبالغ إذا قلت إنه لا يمضي يوم دون أن تحدث به جريمة أو جرائم قتل.

ثم إن المسيحيين يعلمون أنهم متساوون جميعًا أمام شريعة المسيح، ولكن الناس المضطهدين الذين تُنهب أموالهم وتستباح أتعابهم يشعرون بأن هذا الادعاء كذب واضح، بل هو غبن فادح. ويرى هؤلاء أنه لا تعم المساواة إلا إذا كف النَّهَّابون السلَّابون عن ابتزاز الأموال، وأنه لا يوقفهم عند حدهم غير قوة واتحاد المهضومي الحقوق المنهوبي الأموال، فيثورون ثورةً هائلة عليهم وعلى أتباعهم وأعوانهم، ويهجمون عليهم هجمة شعواء، فتحدث بين الفريقين معارك هائلة تجري فيها الدماء أنهارًا، وتقدم لنا ضحايا كثيرة تضيق رَحَبَات جهنم عن استيعابها دفعةً واحدة.

٩

فقال بعلزبول: لقد أجدت تمثيل دورك في كيد المكايد، فأُثني عليك ثناءً مستطابًا. ثم استطرد الكلام فقال: فليتقدم إليَّ من يشتغل بإثارة الحروب بين الناس، ويستطيع أن يحمل تلامذة ذاك الذي قال إن جميع الناس أبناء أبٍ واحد، وأمر بمحبة الأعداء.

فخرج من بين تلك الصفوف عفريتٌ أزرق كان اللهيب والدخان يخرجان من فمه، وضرب ظهره بذَنَبه الثَّخِين، وزحف حتى أصبح أمام بعلزبول، وقال: إننا نفعل ذلك هكذا: نصور لكل شعب أنه أحسن وأرقى وأسمى جميع الشعوب الموجودة على الأرض، ونبذل الوسع في تصوير ذلك لفرنسا وإنكلترا وروسيا وألمانيا، وما زلنا كذلك حتى جعلناها تتصور في نفسها ذلك التصور، وتعد كل واحدةٍ ذاتها أقوى من الأخرى، حتى إن ألمانيا بالغت في ذلك مبالغةً عظمى، وجعلت شعارها العبارة الآتية: Deulrelaes d übtsc hlan ومعناها: «ألمانيا فوق الجميع».

وجعلت كل أمة تعمل على حدة لمدِّ رواق سلطانها على جميع الأمم الأخرى، وإخضاعها لها، وأخذت كل واحدة تعد لذلك عدتها، فأصبحت تلك الأمم في شغلٍ شاغل من دوام الاستعدادات والتأهبات الحربية، وإعداد المدافع الضخمة والمدرعات والمصفَّحات والطَّرَّادات والحرَّاقات والنَّسَّافات من طرز هذا العالِم الذي اخترع هذه المهلكات، وطرز ذلك المخترع الشهير الذي رُفعت له الأنصاب لاختراعه تلك المدمِّرات. وكل أمة تنظر إلى استعدادات جارتها ومن جاور جارتها بعين الحذر والعداء، فتصر بأسنانها وتكثر من الوعيد والتهديد، وتجعل نفسها على أُهْبة الهجوم في كل أيْنٍ وآونة حتى لا تُؤخذ على غرة.

وإذا ألقى الإنسان نظرة على أوروبا بأجمعها يجدها لا تكف عن الاستعدادات الدائمة، ويجد شياطين سياستها يدفعون أبناء بلادهم للحروب الهائلة التي يشيب من هولها الولدان. وبناءً على ما تقدم، فإن جميع تابعي تعليم ذاك الذي دعانا نحن الشياطين قتلةً سفاكين لا يكفُّون برهة عن إقامة الاستعدادات لارتكاب جرائم القتل، أو بعبارةٍ أوضح: إنهم جميعًا أضحوا قتلة مجرمين يستحلون إهراق الدماء وقتل الأبرياء.

١٠

فقال بعلزبول: لقد أصبت كيد المكايد في أفعالك، فأبالغ في مدحك وثنائك. وأطرق برأسه إلى الأرض وافتكر مليًّا ثم قال: أمرٌ واحد يحير أفكاري ويدهش إبصاري، وهو كيف أن الناس الأفاضل الأحرار الذين لم ينخدعوا بتلك الأوهام، ولم يؤثر خداعكم عليهم شيئًا، لم يروا أن الكنيسة شوهت جوهر التعليم الحقيقي، فلم يقاوموها ولا عملوا لتطهير التعليم من تلك الأدران التي علِقت به وصرفته عن معناه الحقيقي؟!

وما أنهى بعلزبول كلماته هذه حتى دنا منه شيطان أغبر اللون، وشَّح جسمه برداء يشبه البُرْنس الطويل، وله أذنان مستطيلتان، وجلس أمام رئيسه، ولكنه لم يجلس القرفصاء، بل جلس على العادة الشرقية، وهي أنه طوى رجليه تحته وأسند جسمه عليهما، وقال: أيها الرئيس الأعظم، إن أولئك العلماء ذوي الأبصار النيرة لا يستطيعون أن يفعلوا ما أشرت إليه.

فقال بعلزبول: ولمَ ذلك؟

فابتدأ الشيطان الأغبر في الكلام دون توقف وقال بلسانٍ فصيح ونطقٍ مليح ما يأتي: إنهم لا يستطيعون ذلك لأني أصرف أفكارهم عما يجب أن يعرفوه ويقدروا أن يتوصلوا إلى معرفته لو وجَّهوا أفكارهم إليه، ومع ذلك فإني أوجه أفكارهم إلى البحث في أمورٍ لا لزوم لها، وليست معرفتها بالأمر المهم النافع لهم أو لغيرهم، وفوق هذا وذاك فإن تلك الأمور التي أوجه أفكارهم إليها مما يعسر الوقوف على حقيقتها؛ لأن لا حقيقة لها! والبحث في الأوهام يدعو إلى الضلال الدائم، ويقود الباحثين إلى اختلاق الخرافات والخزعبلات المبنية على أسبابٍ واهية ضعيفة.

فقال بعلزبول: وكيف تفعل ذلك؟

أجاب: إني أفعل الآن ما فعلته منذ ألف عام ونيِّف، وزيادة للإيضاح أقول: إني أحرض الناس على أن أهم ما يتحتم عليهم معرفته هو: نسبة كل أقنوم من الأقانيم الثلاثة إلى الآخر، وعلاقتهم مع بعضهم، وماهية الله … وهلم جرًّا. وقد وقع تحريضي إياهم في نفوسهم موقع الاستحسان والأهمية، فتوغلوا في هذه الأبحاث واختلفوا بشأنها الاختلافات العديدة، وبرهنوا عليها بالآيات والعجائب، واشتد بينهم النزاع الذي قادهم إلى الغضب والشجار أولًا، ثم إلى تقسيمهم فرقًا فرقًا ثانيًا، ومن ذلك ظهرت الطوائف المسيحية المتعددة التي ما زالت ولن تزال متباغضةً متنافرة، وتعدُّ الواحدةُ الأخرى هالكة، حتى إن بعضها زاد في الغلو وحظر رؤساؤها أتباعهم من مخالطة أتباع الطوائف الأخرى وزيارة معابدهم ومطالعة كتبهم أو التزوج منهم.

وفوق ما ذكرت، فإن أبحاثهم في تلك الأمور التي أشرت إليها آنفًا قد أشغلت أفكارهم وأبعدتهم عن تلك الحياة الجديدة، حياة الهناء والسعادة والطمأنينة حياة الراحة والسلام، تلك الحياة التي أرشدهم إليها معلمهم الأعظم الذي قضى على مملكتنا القضاء المبرم، وعلمهم التعاليم الواضحة التي لو ساروا بمقتضاها لبلغوا ميناء الراحة والخلاص وما رأينا واحدًا منهم عاد إلينا، وما كنا رأينا مملكة جهنم عائدة إلى التجديد والاكتظاظ بالناس.

ثم استطرد الشيطان الأغبر الكلام وقال: ولما تمكنتُ من قيادة المتنورين والعقلاء منهم إلى تلك الأبحاث التي لم يتوصلوا للآن إلى حل رموزها وطلاسمها، حتى وما عادوا يفهمون ما يقولون ويكتبون؛ حينئذ أرشدت بعضهم إلى ضرورة شرح وتفسير كتابات ذلك الإنسان المدعو أرسطاطاليس، الذي ظهر في بلاد اليونان قبل ألف عام، الذي يسميه الناس فيلسوفًا؛ لأن كتاباته حَرِية بالالتفات والاعتبار. وأرشدت البعض الآخر منهم إلى أن أهم ما ينبغي أن يوجِّهوا التفاتهم إليه هو وجود الحجر الذي بواسطته يمكن صنع الذهب وإيجاد إكسير يشفي جميع الأمراض والعلل ويمنع الموت عن الناس. وقد جازت مكايدي عليهم حتى إن جميع علمائهم وأصحاب الأفكار الفياضة منهم وجهوا كل قواهم العقلية إلى هذه الأمور.

أما أولئك العلماء الذين لم ترقهم تلك الأبحاث، فقد نبَّهتُهم إلى أبحاث أخرى أشغلت بها عقولهم؛ فأدخلت في أفكارهم أن أهم شيء يجب أن يبحثوا به هو معرفة أيهما تدور حول الأخرى؛ الشمس تدور حول الأرض أم الأرض تدور حول الشمس. ولما عرفوا أن الأرض تدور وأن الشمس ثابتة وحددوا مقدار ملايين الأميال من الشمس إلى الأرض، ابتهجوا ابتهاجًا عظيمًا بهذه الاكتشافات الجليلة، ومن ذاك الحين إلى اليوم وهم يواصلون الأبحاث لمعرفة أبعاد النجوم، ومع أنهم يعلمون حق العلم أن لا نهاية لهذه الأبعاد التي لا يمكن أن يكون لها نهاية لأن عدد تلك النجوم لا يمكن حصره مطلقًا، ومثل ذلك لا لزوم لمعرفته لأنها غير ممكنة. وخلا ما تقدم فقد حركت فيهم الميل إلى ضرورة معرفة تسلسل جميع الحيوانات والديدان المختلفة والنباتات المتباينة وجميع الهوام والحشرات الصغيرة التي لا نهاية لها. والأمر واضح وضوح الشمس في رابعة النهار بأن هذه المعرفة لا لزوم لها، فضلًا عن أن معرفتها مستحيلة جدًّا جدًّا؛ لأن الحيوانات على اختلاف أجناسها لا تقع تحت حصر كالنجوم سواءً بسواء، ومع ذلك فتراهم يوجهون جميع قواهم العقلية إلى البحث في مظاهر الطبيعة المادية، ويعجبون في الوقت نفسه بأنهم كلما عرفوا شيئًا (مما لا لزوم لمعرفته لهم) يزيد ذلك الشيء غموضًا، مما يدعوهم إلى زيادة البحث والتنقيب.

ولقد أفضى بهم ذلك إلى قضية راهنة هي أنهم كلما زادوا في البحث اتسع أمامهم نطاق المباحث، وزادت المواد التي يدرسونها غموضًا وتعقيدًا. ومما لا ريب فيه هو أن تلك الأبحاث الطويلة لم تُجْدِهم نفعًا ولم تفِدْ حياتهم شيئًا، غير أن ذلك لا يثبِّط عزائمهم ولا يزيل اعتقادهم بأهمية ما يشتغلون بدرسه والبحث عنه، ولذلك فهم يواصلون البحث والتنقيب والتعليم والكتابة والطبع ونقل أبحاثهم واكتشافاتهم من لغةٍ إلى أخرى، تلك الأبحاث التي لا فائدة منها وإن كانت أحيانًا ذات فائدة فإنها لا تفيد إلا فئة قليلة من الأغنياء، وتجلب في الوقت نفسه الضرر الجسيم للسواد الأعظم من الفقراء؛ حيث تزيد سوء حالتهم وتفسد نظام معيشتهم.

ولو كان لديهم مسحة من الإدراك لفقهوا أن أهم شيء تجب معرفته والوقوف عليه هو تنظيم نواميس الحياة الموضَّحة بتعليم المسيح إيضاحًا ظاهرًا، ولكنهم لم يفتكروا قط بذلك وصرفوا نظرهم عنه. وتوصلًا لغاياتي فإني أدخلت في أفكارهم اعتقادًا أصبح راسخًا في أذهانهم ولا يزول منها أبدًا، وهو أنهم لا يستطيعون معرفة نواميس الحياة الروحية، وزدت في تضليلهم والتغرير بهم حتى أصبحوا يعتقدون أن كل تعليم ديني — ومن ضمن ذلك تعليم المسيح نفسه — ما هو إلا ضلالات وأباطيل وخرافات وخزعبلات، وأن أحسن طريقة توصلهم إلى معرفة كيف يجب عليهم أن يعيشوا هي العلم الذي ابتكرته وأغريتهم على الاشتغال به، وهو العلم المسمى Sosiologie (علم أحوال الهيئة الاجتماعية)، وهذا العلم يبحث عن كيفية ما تقدم، فإنهم بدلًا من أن يحسنوا نواميس حياتهم بمقتضى تعليم المسيح الدالِّ على ذلك، فإنهم يزعمون بأن درس حياة الأمم السابقة هو أفضل من تعليم المسيح؛ لأنهم يستطيعون من ذلك الدرس استنباط نواميس الحياة الصحيحة، ولا ينقصهم لبلوغ هذه الأمنية غير تطبيق النظامات التي يستخرجونها على الزمان والمكان الموجودين فيه، وأن ذلك خير وسيلة توفر لهم أسباب السعادة ورغد العيش.

ثم إني توصلًا إلى رسوخهم في الضلال استنبطتْ لهم فكرتي شيئًا مبتكرًا يماثل تعليم الكنيسة، وهو العلم المستخرج من استنتاجات أبحاثهم المختلفة، وجعلتهم يعتقدون أن تلك الاستنتاجات معصومة عن الخطأ مثل تعاليم الكنيسة سواءً بسواء.

وما زلت بهم حتى جعلت رجال العلم يعتقدون صحة تعاليمهم وعصمتهم عن الخطأ، حتى أصبحوا ينشرون بين الناس بصورة حقائق ثابتة كثيرًا من السَّفْسَطات والحماقات والخزعبلات، التي فضلًا عن أنها لا لزوم لها فإنها تشغل أفكارهم وتبعدهم عن معرفة الحقائق الراهنة، ونجم عن ذلك أن أولئك العلماء إذا ابتكروا شيئًا وأعلنوه بين الناس يؤيدونه بالبراهين والأدلة، ولا يستطيعون إنكاره في المستقبل حتى ولو ظهر أنه من الحماقات غير المحدودة.

وما دمت أحرك فيهم الميل الشديد إلى العلم الذي ابتكرته لهم، فهم لا يزالون متطوعين له، يخدمونه بإخلاص ولا يتحولون عنه، وما داموا على تلك الحال فأنا أكون قرير البال مطمئن الفؤاد وواثقًا من أنهم لا يفهمون ذلك التعليم الذي كاد يقضي علينا القضاء المبرم، ويجعل مملكتنا أثرًا بعد عين.

١١

فقال بعلزبول بعد سماعه هذا الكلام: حسنًا حسنًا، وإني أشكركم على جهادكم هذا. وقد أشرق وجهه وأبرقت أسرَّته. ثم استطرد الكلام وقال: ولا ريب أنكم تستحقون المكافأة والجوائز السَّنِية، وسأكافئكم مكافأةً تليق بكم.

وما نطق بعلزبول بهاته الكلمات حتى صاح بقية الشياطين المختلفي الشعر المتباينين في الأشكال بين كبارٍ وصغار وذوي أرجل عوجاء ومتناهين في السِّمَن والنحول؛ صاحوا جميعًا بصوتٍ واحد موجهين الكلام إلى رئيسهم الأعظم بعلزبول وقالوا له: يظهر لنا أنك قد نسيتنا ولا تريد أن تسمع نتيجة أعمالنا التي لا تقل عن أعمال من تقدموا وسردوها على مسامعك.

فأجابهم بعلزبول سائلًا: وماذا صنعتم؟

– أنا شيطان الميكانيكيات.

– وأنا شيطان توزيع الأعمال.

– وأنا شيطان طرق المواصلات.

– وأنا شيطان طباعة الكتب.

– وأنا شيطان الفنون.

– وأنا شيطان الطب.

– وأنا شيطان الارتقاء.

– وأنا شيطان التربية والتهذيب.

– وأنا شيطان إصلاح الناس.

– وأنا شيطان التخدير.

– وأنا شيطان الجمعيات الخيرية.

– وأنا شيطان الاشتراكية.

– وأنا شيطان الأنثوية.

قالوا ذلك بصوتٍ واحد وهم يزحفون على ألياتهم متزاحمين إلى الدنو من بعلزبول وقد اختلطت أصواتهم بعضها ببعض.

فصرخ بهم بعلزبول وقال: «لا تتكلموا جميعًا، بل فليتكلم كل واحدٍ منكم، وليعتصم بالإيجاز ويبتعد عن الإطناب والإسهاب.» ثم التفت إلى شيطان الميكانيكيات وقال له: أخبرني أنت ماذا تفعل؟

فقال: إني أحرض الناس وأغريهم إلى أنهم كلما عملوا أشياء جديدة وكلما أسرعوا في صنعها، تحسنت معيشتهم وتوفرت لهم أسباب الراحة. وقد جازت حيلتي هذه عليهم فتراهم يهلكون أنفسهم في سبيل اختراع الأشياء الجديدة، وكل يوم يعملون منها عددًا كبيرًا، بقطع النظر عن أن تلك الأشياء لا تنفع أولئك المرغمين على عملها والاشتغال بها، كما أنها لا تفيد مخترعيها الفائدة المطلوبة.

– لقد أحسنت كل الإحسان.

ثم التفت إلى شيطان توزيع الأعمال، وقال له: وأنت ماذا تصنع؟

فأجاب: إني أغريت الناس أن صنع الأشياء لا يتوفر إلا بالآلات التي هي أسرع من الناس في صنعها، ولذلك ينبغي تحويل الناس إلى آلات صماء ليستطيعوا الإسراع في إنجاز الأعمال. وقد انطلت حيلتي عليهم فحولوا الناس إلى آلات وأرغموهم على القيام بالأعمال الشاقة، ومن هنا نتجت الأحقاد والبغضاء والضغائن، بحيث إن الناس المحوَّلين إلى آلات أصبحوا يبغضون محوِّليهم بغضًا شديدًا، وعلى استعدادٍ تامٍّ في كل آونة إلى الانتقاض عليهم واغتيالهم.

فقال بعلزبول: وهذا حسنٌ أيضًا.

ثم التفت إلى شيطان طرق المواصلات وقال له: وأنت ماذا تفعل؟

فأجاب: إني أحرض الناس بأنهم لا يستطيعون الإثراء وجمع الخيرات إلا إذا انتقلوا من مكانٍ إلى مكانٍ بسرعة تشبه سرعة الطير، فأصبح الناس بعد ذلك بدلًا من أن يجتهدوا في تحسين معيشتهم في مكانهم يصرفون حياتهم في التنقل من مكانٍ إلى مكان، فيجوبون الأقطار ويطوفون الأمصار ويفتخرون أنهم يقطعون أكثر من ٥٠ ميلًا في الساعة.

فأثنى عليه بعلزبول ثناءً مستطابًا.

ثم تقدم شيطان طباعة الكتب، وقال إن عمله يتضمن إغراء الناس على طبع تلك السخافات والحماقات التي تظهر وتكتب في الدنيا، والاجتهاد في نشرها وتعميمها بين الناس.

وقال شيطان الفنون إنه يحرك في الناس الميل إلى توفير أسباب التسلية واللهو وينبه شعورهم وإحساساتهم إلى ذلك، فيصرفون قواهم إلى تحسين الفنون واجتذاب الناس إليها، ولكنها تقودهم في أغلب الأحيان إلى الفساد والفجور.

وقال شيطان الطب إنه أدخل على أفكار الناس أن أهم شيءٍ لهم في هذه الدنيا هو المحافظة على أبدانهم. وبما أن الاهتمام بصحة الأجسام مما لا نهاية له فترى الناس قد وجهوا مزيد عنايتهم إلى ذلك بواسطة الطب، وتركوا الاهتمام والالتفات إلى حياتهم ونفوسهم، وتناسوا كذلك ضرورة الالتفات إلى حياة الناس الروحية.

وقال شيطان الارتقاء إنه أضلَّ الناس بإدخاله على أفكارهم أن الانتفاع بما يشتغل به شياطين الميكانيكيات وتوزيع الأعمال وطرق المواصلات وطباعة الكتب والفنون والطب أمرٌ لا بد منه لخيرهم وفلاحهم، وأنه بدون تلك الأشياء لا يستطيعون بلوغ أوج السعادة والصفاء.

وقال شيطان التربية والتهذيب إنه يحرض الناس وهم يعيشون عيشة الفساد والضلال، ودون أن يفهموا ماهية الحياة الحقيقية الصالحة، إلى تربية الأولاد على تلك المبادئ الفاسدة مع اعتقادهم بأنها مبادئ صحيحة قويمة.

وقال شيطان إصلاح الناس إنه يعلم الناس المفسودين الضالين بأن في استطاعتهم إصلاح الناس المتمرغين في حمأة الفساد دون أن يشعر الأولون بفسادهم، وأنه كان المتحتم عليهم أن يصلحوا نفوسهم أولًا.

وقال شيطان التخدير إنه يعلم الناس بأنه بدلًا من أن يتخلصوا من الآلام التي جلبتْها لهم حياة الضلال والفساد بإصلاح تلك الحياة والسير في طريق الاستقامة؛ أن يجنحوا إلى المخدرات التي تخدِّر أجسامهم وتسكِّن آلامهم، فأدمنوا على استعمال الخمرة على اختلاف أجناسها وتعاطي الأفيون والتبغ والحشيش والمورفين وما شابهها.

وقال شيطان الجمعيات الخيرية والإحسانات إنه يغري الناس بأنهم إذا نهبوا القناطير وأحسنوا بالقروش القليلة منها يُدْعون محسنين، ولا يحتاجون بعد ذلك إلى الكمال، وبهذه الطريقة نبعدهم عن الصلاح ونقودهم إلى الشر والضلال.

وقال شيطان الاشتراكية إنه باسم راحة الإنسانية العامة وكمالها الأسمى يثير الناس ضد بعضهم، ويهيج بين طبقات الناس عوامل البغضاء والأحقاد.

وقال الشيطان الأنثوي إنه عدا إثارة البغضاء في قلوب طبقات الناس التي يدعوهم إليها حب المساواة، فإنه يثير عوامل الخلاف بين الجنسين أي الرجال والنساء، ويدعوهم إلى التباغض والتنافر والتنابذ.

وقال آخر: أنا شيطان البذخ ورفاه العيش.

وقال غيره: أنا شيطان الموضة والأزياء.

وصاح آخرون غير ذلك، وكانوا يتزاحمون ويتدافعون ليدنوا من بعلزبول.

حينئذ قال بعلزبول بصوت الرئيس الآمر: هل تظنون أني شيخٌ أحمقُ خَرِف حتى غدوت لا أدرك أن التعاليم الكاذبة الفاسدة انتشرت بين الناس انتشارًا هائلًا، وأن كل ما كان مضرًّا بنا أصبح نافعًا لنا؟ قال ذلك وقهقه قهقهة دوت لها أركان المكان، ثم قال: يكفي الآن ما سمعته منكم، فأشكركم جميعًا على ما أظهرتموه من الكفاية والأهلية والجهاد. ثم نفض جناحيه ونهض قائمًا على رجليه، فأحاط به الشياطين، وكان في مقدمة جناحهم الأيمن الشيطان ذو الوشاح مبتدع الكنيسة، وفي مقدمة جناحهم الأيسر الشيطان مبتكر العلوم، ثم مد كل شيطان رجله إلى الآخر فتشابكوا ببعض وألَّفوا حلقة كبيرة.

وجميع الشياطين جعلوا يدورون حول بعلزبول وهم يرقصون ويصيحون ويصفِّرون ويلوِّحون بأذنابهم.

ثم إن بعلزبول بدوره رفرف بجناحيه وجعل يرقص وسط تلك الحلقة، وكان يرفع رجليه إلى العلو حتى تلمسا كتفيه ورأسه، وكانت تتصاعد من فوقهم غوغاء أهالي جهنم المختلطة بالصراخ والبكاء والأنين وصرير الأسنان.

١  بعلزبول هو رئيس طُغْمَات الشياطين، كما ورد ذلك مرارًا في الإنجيل الشريف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤