مقدِّمة
كثيرٌ منَّا توقَّف فجأة وسأل نفسه: «لماذا فعلتُ ما فعلتُه؟» ربما نكون قد توقَّفنا مؤقتًا، ونظَرنا حولنا، وأدركنا أننا قد وصلنا إلى منتصف الطريق إلى المنزل بينما كانت أفكارنا في مكانٍ آخر. أو ربما جلسنا بجوار شيءٍ اشتريناه ونحن نتساءل عما إذا كنَّا نُريده أو نحتاج إليه حقَّا، بعد أن وجَّهَتْنا التحفيزات والتطمينات نحو شرائه دون عناء.
تُسلِّط هذه الأمثلةُ الضوءَ على أن سلوكنا غالبًا ما يتأثر بعواملَ تقع خارج إطار إدراكنا الواعي. ولا يُمثِّل هذا مشكلةً بالضرورة؛ إذ كنا سنجد صعوبةً كبيرة في القيام بوظائفنا إذا كان علينا استيعابُ كل شيءٍ نقوم به بوعيٍ والموافقةُ عليه. لكننا — وكذا الحكومات أو المؤسَّسات الأخرى — غالبًا ما نَميل إلى التقليل من أهمية هذا الجانب «التلقائي» من سلوكنا. وقد تكون النتيجة سياساتٍ أو منتجاتٍ أو خططًا غير فعَّالة.
يُحاوِل نهج الرؤى السلوكية معالجة هذه المشكلة عن طريق أخذِ أحدثِ الأدلة حول ما يؤثِّر على السلوك، ثم تطبيق هذه الرؤى على قضايا عملية. وبما أن النهج يُعطي الأولوية أيضًا لتقييم تأثير تدخُّلاته، يُمكننا أن نعرف بالضبط كيف أحدث فارقًا في مشكلاتٍ ملموسة. ومن ثَم، انتشر استخدامُ نهج الرؤى السلوكية من قِبل الحكومات والشركات والأفراد بقوة على مدى السنوات العشر الماضية.
ولكن كان هناك أيضًا أسئلةٌ عديدة حول ما إذا كان منهج الرؤى السلوكية موثوقًا به، وما إذا كان يمكنه معالجة القضايا الكبيرة التي تُواجه المجتمع، وما إذا كان يطرح أسئلةً أخلاقيةً جادة. هناك أيضًا قَدْر كبير من الالتباس حول ما يَعنيه مصطلح «الرؤى السلوكية» في الواقع. ويتناول هذا الكتاب هذه الأسئلة من خلال تقديم تاريخ الرؤى السلوكية وممارسته الحالية وتوجُّهاته المستقبلية.
يلخِّص الفصل الأول السماتِ الأساسية للنهج، ألا وهي الاهتمام بالمشكلات العملية، واستخدام الأدلة المتوافرة حول السلوك البشري لتطوير حلول لهذه المشكلات؛ واستخدام التجريب لتقييم تأثير هذه الحلول. ونبيِّن أن أفضلَ طريقةٍ لفهم هذا النهج هي اعتبارُه عدسةً تسمح لنا برؤية السياسات والبرامج والخدمات بمنظورٍ جديد. يتَتبَّع الفصل الثاني تاريخَ نهجِ الرؤى السلوكية، الذي نشأ عندما اجتمعَت ثلاثة خيوطٍ فكرية معًا، هي: الاقتصاد السلوكي، ونظريات المعالجة المزدوجة في علم النفس، والتحوُّل في رؤية الحكومات للسلوك. ونشرح كيف ولماذا شهدَت الفترة منذ عام ٢٠١٠ نموًّا هائلًا في استخدام هذا النهج. ويقدِّم الفصل الثالث خمسةَ أمثلةٍ موجزة للتطبيق العملي للرؤى السلوكية.
يقدِّم الفصل الرابع نظرةً عامة عن كيفية تطبيق الرؤى السلوكية بالعمل من خلال مثالٍ حقيقي لزيادة نسبة حضور أولئك الذين يبحثون عن عمل في معارض التوظيف. ونُدرِج عشر خطواتٍ تُغَطي تحديد النطاق والسلوكيات ذات الصلة، وتنفيذ التدخُّل وتقييمه، والنظر في الخطوات التالية. أما الفصل الخامس فمُخصَّص للأسئلة والانتقادات. فنتَناول أوجُه القصور فيما يُقدِّمه النهج على المستوى العملي، بما في ذلك استمرارية آثاره وتأثيره على السياسات الرفيعة المستوى. كما نفحَص أوجُه القصور في النظريات ذات الصِّلة، ونقاط الضعف في قاعدة الأدلة. وأخيرًا، نستعرِض ما إذا كان نهج الرؤى السلوكية أخلاقيًّا أو مقبولًا أم لا. يتطلَّع الفصل السادس إلى المستقبل. فنذهَب فيه إلى أن الحفاظ على استمرارية نهج الرؤي السلوكية يحتاج إلى تعزيز قاعدة الأدلة الخاصة به وتقويتها، وإيلاء الأولوية للتقنيات والتطبيقات الجديدة. أخيرًا، لا بد أن يُدمِج نفسَه في الممارسات التقليدية للمؤسسات؛ والمفارقة أن النجاح الحقيقي قد يتحقَّق عندما نتوقَّف عن الحديث عن «الرؤى السلوكية» باعتباره فكرةً قائمة بذاتها.