الفصل الرابع

نماذج اللغة في الدماغ

لماذا ينشئ العلماء نظريات ونماذج عن العالم؟ ألا تكفينا نتائج الملاحظات والتجارب لفهم الكيفية التي تجري بها الأمور؟ أحيانًا يمكن أن تكون كافية، لكن غالبًا ما تكون الأنظمة التي نهتم بها أكثر تعقيدًا وديناميكية من أن نستطيع إدراكها بمجرد معالجة البيانات، حتى لو كانت قدراتنا على القياس والملاحظة معززة بأحدث التقنيات. في العلوم، عادة ما يتحقق الفهم عن طريق نوع من البناء النظري، يمكن أن يتمثل في أي شكل ما بين مجموعة مصغرة ومكثفة من المعادلات الرياضية وبين محاكاة حاسوبية لعملية معينة. ويمكن للبيانات التجريبية أن تقدم المعلومات اللازمة لتوجيه النظرية في الاتجاه الصحيح. لكن هذا يؤتي ثماره على أفضل وجه عند الاستعانة بالنظرية لتوجيه الملاحظات والتجربة، بحيث يمكن الإجابة عن أسئلة غاية في التحديد. وينخرط العلماء بشكل أساسي في وضع النظريات وإنشاء النماذج، وعلى حد التعبير البليغ للفيلسوف باز فان فراسين «التجريب هو الاستمرار في إنشاء النظريات بأساليب أخرى.»1
تُعنى اللغويات العصبية أيضًا بتطوير النظريات، ويُقر معظم علماء اللغويات العصبية بأن البيانات التجريبية ينبغي على الأقل أن تضطلع بالدور المذكور أعلاه. غير أن المخ أحبط حتى الآن أفضل جهودنا لصياغة نموذج له. إنه بيئة حاسوبية عجيبة، لا يماثله أي شيء صمَّمه البشر (تأمل — أو بالأحرى لا تتأمل — الكمبيوتر الرقمي). ولهذا الأمر عاقبتان رئيستان. الأولى أن البحث الاستكشافي عادة ما يلقى تقديرًا في اللغويات العصبية. ففي بعض الأحيان لا تكون هناك نظرية متاحة يمكن أن توجه عملية التجريب والنمذجة، أو ربما تكون النظريات الموجودة غير قابلة للتطبيق لأسباب متعددة ومختلفة. حينها يكون من المنطقي إجراء تجارب محكومة تطرح أسئلة عامة ومفتوحة يمكن للنظريات الناشئة أن تستند إليها. وقد اكتشفت الاستجابتان N400 وP600 (انظر الفصل الثاني)، على سبيل المثال، بهذه الطريقة. واستنادًا إلى ذلك النهج، يمكن على الأقل وضع إجراءات قوية يمكن الاستعانة بها في التجارب المستقبلية. وثمة اكتشافات مثمرة يمكن أن تحدث خارج النطاق النظري؛ فقد ازدهرت اللغويات العصبية بناءً على هذه الاكتشافات على مدار فترة زمنية طويلة.
أما العاقبة الثانية المترتبة على التعقيد الذي يتسم به المخ، فهي أن إنشاء نماذج أو نظم محاكاة تمثِّل الهيكل السببي والدور الوظيفي للعمليات العصبية المهمة — والذي غالبًا ما يتم بطريقة مبسطة ومثالية — يكون أسهل بكثير من تلخيص آليات عمل النظام في مجموعة مكثفة من المعادلات. في اللغويات العصبية — وكما هو الحال في مجال علم الأعصاب بصفة عامة — عادةً ما يكون للنمذجة المادية الملموسة الأولوية على النظرية المجردة. وهذا يسهِّل الفهم من خلال تمثيل أو وصف العمليات الذهنية عند مستويات وسطى أو دنيا من التحليل، يتم عندها تحديد البنى المعرفية والخوارزميات والآليات الخاصة بالعمليات الذهنية. وتصمم النماذج اللغوية العصبية بحيث تظل قريبة من البيانات، ويكون من السهل تعديلها بناءً على الأدلة. تتسم مثل هذه النماذج بالمرونة بطبيعة تصميمها، وهو ما يُعَد ميزة وعيبًا في آنٍ واحد؛ فالنماذج اللغوية العصبية التي تكون أسهل في إصلاحها تكون أيضًا أصعب في نقدها ورفضها.2

اللغويات، واللغويات النفسية، واللغويات العصبية

كيف يمكن إنشاء نماذج للغة في الدماغ أصعب في تغييرها في مواجهة البيانات الجديدة، بحيث يمكننا أن نتعلم ليس من هذه البيانات فحسب، بل أيضًا من إخفاقات النموذج؟ تتمثل إحدى طرق تحقيق ذلك في تضمين نماذج اللغويات العصبية — التوصيفات السببية لما يحدث في المخ ومتى يحدث ومكان حدوثه أثناء معالجة اللغة — في نظريات شكلية تغطي مستويات متعددة من التحليل. في علوم اللغة، تتوافر المستويات ذات الصلة مباشرة من خلال اللغويات (مستوى البنى الفونولوجية والنحوية والدلالية التي يخزنها المخ أو يبنيها لحظيًّا)، واللغويات النفسية (مستوى البنية والخوارزميات التي يستخدمها المخ بفاعلية في إنشاء البنى والتراكيب اللغوية)، واللغويات العصبية (مستوى الآلية العصبية الحيوية التي تشغِّل هذه الخوارزميات).3 نحن في حاجة إلى نظريات لغوية دقيقة ومنطقية من الناحية المعرفية لوصف الخوارزميات التي قد يستخدمها المخ لتوجيه عملية اكتشاف الآليات القشرية المسئولة عن العمليات المعرفية. ولا بد أن تقيد النظريات والنماذج عند كل مستوًى نظيرتها عند كل مستوى آخر؛ إذ يتعين أن تكون جميعها مترابطة. وهذا يجعل من التعديل التدريجي للنظريات والنماذج بفعل نقاط البيانات الشحيحة أمرًا أصعب بكثير. فالاتساق الداخلي مهم بقدر أهمية الكفاءة التجريبية، وقد تُنتقد النظريات وتُرفض بسبب إخفاقها في استيفاء أيٍّ من هذين المعيارين.

في اللغويات العصبية — كما هو الحال في مجال علم الأعصاب بصفة عامة — عادة ما يكون للنمذجة المادية الملموسة الأولوية على النظرية المجردة.

لنتأمل بعض القيود الجوهرية التي تفرضها اللغويات النظرية واللغويات النفسية على النماذج اللغوية العصبية قبل أن نناقش بتفصيل أكبر بعضَ النماذج المتاحة حاليًّا في المجال. وأستخدم فهم اللغة مثالًا على ذلك فيما يلي. من المتطلبات الأساسية أن المخ لا بد أن يعيِّن معنًى للمدخلات (وعلى الأرجح أن علماء اللغة من كل مذهب قد يتفقون معي في هذا المقام)، باستخدام معرفته بمعاني الكلمات على الأقل، وأيضًا باستخدام البناء النحوي والمعلومات المتاحة من مصادر خارجية عن المتحدث وعن السياق وعن أهداف المحادثة. لا يزال نوع المعلومات اللغوية أو غير اللغوية التي يمكن استخدامها في عملية إنشاء المعنى موضوعًا مفتوحًا للبحث، لكن يمكن على الأقل وضع خريطة لمجال الاحتمالات. يمكن أحيانًا أن تستمر عملية الفهم بناءً فقط على معاني الكلمات المعجمية في المدخلات (الأسماء والأفعال وما إلى ذلك) والمعرفة بالطرائق المنطقية التي يمكن أن تدمج بها الكلمات (انظر الفصل الثاني)؛ أي يمكن للأنظمة الدلالية أن تعالج المعنى ذاتيًّا.4 ومن وجهات نظر أخرى، تُستخدم معلومات القواعد النحوية وجوبًا لاستنباط التفسيرات، مثلما تتطلب النظريات في الدلالات الشكلية. السؤال إذن هو كم يبلغ مقدار النحو الذي يدخل في عملية التفسير.
ثمة سؤال آخر، وهو كيف يمكن للمخ أن يتجاوز معنى الكلمات والعلاقات الدلالية المنطقية، إن لم يكن من خلال معالجة البنية النحوية. يُعَد السياق أحد العوامل البارزة في هذا الصدد. لقد قدمت اللغويات نماذج شكلية للكيفية التي تنتقي بها فئات بعينها من التعبيرات الإحالية أوقاتًا وأماكن محددة (على سبيل المثال، الزمان والمكان الراهنان)، ومن ثَم تربط المعنى بسياق الكلام. كذلك صار من المفهوم جيدًا الآن كيف يمكن للكلمات المختلفة أن تكون لها إحالات مشتركة في الكلام، مثل الجمل الاسمية وضمائر الإحالة كما في: «الرجل يملك قطة. هو يطعمها كل يوم.» علاوة على ذلك، عادة ما يكون الاستدلال المنطقي أو التداولي مطلوبًا لاستعادة المعنى المقصود؛ فينبغي تفسير السؤال «أيمكنك أن تغلق الباب؟» باعتباره طلبًا بغلق الباب، وليس سؤالًا حول قدرة المستمع على فعل ذلك. أخيرًا، تزخر اللغة بالمعاني الدلالية، الأمر الذي يتخطى سعة نظرية تركيبية (المعاني الأساسية + البناء النحوي)؛ فالتعبيرات الاصطلاحية والاستعارات وأشكال الكلام الأخرى متغلغلة في استخدام اللغة.5 فبأي شكل تقيد هذه الرؤى المستقاة من علم اللغويات النماذج اللغوية العصبية؟ ينبغي للغويات العصبية أن تفسِّر الآليات العصبية التي لا تدعم التركيب النحوي والدلالي للكلمات في الجمل فحسب، وإنما تفسير الكلام في سياق معين، وكذلك استنباط المعنى المجازي أو التداولي المقصود.
ينبغي أن تكون النماذج اللغوية العصبية أيضًا مقيدة بالنتائج المستمدة من اللغويات النفسية، التي تتمتع بإرث ثري من البحث النظري والتجريبي، سابقًا في ذلك كلًّا من اللغويات الحديثة (الشكلية) واللغويات العصبية.6 فهو مجال شديد التنوع من الناحية المنهجية، ولَّد بعضًا من أقوى الاكتشافات والنتائج في علم النفس البشري ككلٍّ. وهناك أربع مجموعات من النتائج مهمة للغاية في هذا المقام، توضح معًا بنية المخ والخوارزميات التي تدعم عملية معالجة اللغة.
  • أولًا: لا تُسترجع الكلمات ومعانيها من الذاكرة باعتبارها أجزاءً منفصلة من المعلومات. بل تكون بنًى موزَّعة يمكن لتنشيطها أن يكون حساسًا لخصائص الكلمات نفسها (على سبيل المثال، مدى تكرارها في اللغة)، وعلاقاتها بالكلمات الأخرى، والمعلومات المتاحة بالفعل في السياق. وهذا يجعل عملية معالجة معنى العبارة أو الجملة أو الكلام متوقفة على الموقف وبنية الذاكرة البشرية الطويلة المدى.
  • ثانيًا: يتسم فهم اللغة بالتراكمية التدريجية؛ إذ يتكشَّف مع ورود المدخلات، كلمة تلو الكلمة أو حتى وحدة صرفية (مورفيم) تلو الأخرى. وبناءً على ذلك، يمكن للنظام أن يتخذ قرارات أو يرتبط بالتزامات قد يكون من الضروري مراجعتها في مراحل لاحقة؛ على سبيل المثال، يمكن تحليل جملة The Horse Raced the Barn Fell (وتعني «الحصان الذي تسابق عابرًا الحظيرة سقط») باعتبارها جملة بسيطة مبنية للمعلوم حتى نصل إلى الاسم Barn (حظيرة)، لكن الفعل fell (سقط) يقتضي ضمنيًّا إعادة تحليل الجملة بحيث تكون عبارة Raced the Barn عبارة وصل، باعتبار أن الفعل Fell هو الفعل الأساسي للجملة وليس Raced.7 وتحدث عملية إعادة المعالجة بصورة روتينية عبر مستويات الشكل والمعنى اللغويين.
  • ثالثًا: تتعرض عملية معالجة اللغة لمؤثرات من مصادر المعلومات الداخلية أو الخارجية المتعددة الوسائط التي تساهم في إنشاء المعنى أو توضيحه (على سبيل المثال، الإدراك البصري؛ انظر الفصلين الثاني والثالث). وعادةً ما تستخدم هذه المعلومات بمجرد أن تصبح متاحة، بالاستفادة من المعالجة المتوازية التفاعلية في الدماغ.
  • رابعًا: تمثيلات المعاني المبنية لحظيًّا تكون جيدة بما يكفي لتحقيق الفهم، لكنها غالبًا ما لا تكون ثرية ومفصَّلة مثل البنى التي تفترضها نظريات البناء النحوي أو الدلالات. كذلك قد تُستخدم المعلومات الفونولوجية والصرفية والنحوية في عملية الإنشاء، لكن قد يُتخلص منها بمجرد إنشاء المعنى والاستقرار عليه.8 ينبغي استخدام هذه القيود المنبثقة من بحوث اللغويات واللغويات النفسية على الأقل — وربما من بحوث أخرى غيرها — لبناء النماذج الحالية للغة في الدماغ وتقييمها. وفيما يلي أعرض بإيجاز ثلاثةَ نماذج كانت هي الأكثر تأثيرًا في السنوات الأخيرة.

النماذج الحالية للغة في الدماغ

تُعتبر النماذج الكلاسيكية للغة في الدماغ — التي وضعها جال وبروكا (إن كانت الفرضيات الأولى الخاصة بالتموضع الوظيفي في الدماغ تُعَد نماذج) وفيرنيك وليشتهايم وآخرون — محدودة على الأقل من حيث افتقارها إلى واحد أو أكثر من مكونات عملية المعالجة التي تجمع الكلمات والمعاني في تمثيلات نحوية ودلالية للعبارات والجمل والحديث. فعلى مدار معظم القرن التاسع عشر، كانت الرؤى اللغوية الأساسية ناقصة إلى حد كبير، وعلى مدار معظم القرن العشرين وحتى وقتنا هذا، وعلى الرغم من التقدم المحرَز في العلوم الشكلية، ثبت أن من الصعب استخدام الرؤى والنظريات الخاصة باللغويات النظرية للكشف عن الكيفية التي يعالج بها المخ الشكل والمعنى اللغويين بناءً على مدخلات حسية. بعبارة أخرى، لم يكن متوقعًا وجود صعوبة في نقل المعرفة من مجال اللغويات إلى علم الأعصاب واستخدام هذه المعرفة لاكتشاف حقائق جديدة عن تنظيم اللغة في الدماغ، وذلك باستثناء بعض المجالات اللغوية المحدودة (لا سيما علم الأصوات وعلم وظائف الأصوات؛ الفصل الثالث). رغم ذلك، حاول ثلاث على الأقل من الفرضيات الراهنة القيام بذلك تحديدًا: استخدام بعض من أفضل الرؤى المتاحة من علم اللغويات لتسليط الضوء على اليولوجيا العصبية للغة.9
الفرضية الأولى هي نموذج وضعته أنجيلا فريدريتسي، يضطلع فيه علم النحو وبناء الجملة بدور حيوي.10 والفكرة النظرية التي انطلق منها هذا النموذج هي النسخة الأحدث من قواعد النحو التوليدية، التي تُشتق فيها البنى النحوية عبر التطبيق المتكرر لعملية واحدة، وهي عملية «الدمج» (انظر الفصل الثالث). تأخذ عملية الدمج وحدتين نحويتين، مثل الكلمتين «أزرق» و«سماء»، وتضعهما معًا في وحدة نحوية جديدة أكثر تعقيدًا، لنقل إنها الجملة الاسمية «سماء زرقاء». تتطلب عملية الدمج آلية إضافية لإنتاج التمثيلات النحوية لجمل اللغات الطبيعية، مثل خوارزميات لوسم كل وحدة نحوية منهما بالجزء من الكلام الخاص به (على سبيل المثال، اسم، صفة) ولترتيب الوحدات النحوية المدمجة (فالدمج لا ينتج إلا مجموعات غير مرتبة). على سبيل المثال، قد يختلف ترتيب الصفة والاسم في العبارات الاسمية بين مختلف اللغات (Blue Sky في الإنجليزية في مقابل Cielo Blu في الإيطالية). في نموذج فريدريتسي، ينفذ الجزء الخلفي من التلفيف الجبهي السفلي الأيسر (منطقة برودمان ٤٤، أو الوصاد الجبهي) عملية الدمج، فيما قد تدخل مناطق جبهية وصدغية أخرى في تنفيذ العمليات النحوية الإضافية اللازمة.
يُفترض أن منطقة الدمج في التلفيف الجبهي السفلي الأيسر تدعم عملية إنشاء التركيب النحوي في وقت مبكر من عملية الفهم. وتُعتبر فريدريتسي من المؤيدين لفرضية النحو أولًا، حيث تُنشأ البنية النحوية قبل المعنى (تذكَّر الفصل الثاني). على المستوى التشريحي، تُعَد هذه المنطقة الأساسية لبناء الجملة جزءًا من شبكة أوسع تشمل أيضًا مناطق من الفص الصدغي الخلفي الأيسر، تتصل معًا بحزم من المادة البيضاء تمتد ظهريًّا في شكل قوس صاعد يمتد ليشمل المناطق الصدغية والجبهية. ولنموذج فريدريتسي صلات وثيقة بفرضيات لغوية عصبية مؤثرة أخرى، كفرضيات أندريا مورو ويوسف جرودزينسكي وآخرين غيرهما، بشأن الدور الذي تضطلع به القشرة الجبهية السفلية اليسرى في المعالجة النحوية للغة.11
الفرضية الثانية هي نموذج العناصر الثلاثة التي وضعها بيتر هاجورت، الذي يفترض وجود ثلاثة عناصر قشرية لنظام اللغة: عنصر الذاكرة، الذي يحتوي على التمثيلات المعجمية (الفونولوجية والنحوية والدلالية) للبِنات بناء اللغة (المورفيمات أو الوحدات الصرفية، والكلمات، والتراكيب)؛ وعنصر التوحيد، الذي يعمل بمنزلة بيئة عمل نشطة تدمج فيها لبنات البناء تلك معًا بالتوازي عبر مستويات مختلفة من التمثيل اللغوي؛ وأخيرًا عنصر المراقبة، الذي يشرف على العمل المشترك بين عنصرَي الذاكرة والتوحيد في استخدام اللغة (مثل تبديل الأدوار في المحادثة والتبديل بين اللغات لدى ثنائيي اللغة).12 ينفذ عنصر الذاكرة في مناطق الفص الصدغي (الأيسر)؛ لا سيما في الأجزاء الوسطى والخلفية منه. وينفذ عنصر التوحيد في التلفيف الجبهي السفلي الأيسر؛ إذ يدخل الجزء الخلفي منه في التوحيد الفونولوجي، والجزء الأوسط في التوحيد النحوي، والجزء الأمامي في التوحيد الدلالي.13
تنتج عملية التجميع اللحظي المباشر لتركيب لغوي معقَّد من التفاعل الديناميكي بين عنصرَي الذاكرة والتوحيد، أي بين المنطقتين الصدغية والجبهية. تدخل مناطق أخرى من خارج الشبكات اللغوية البريسلفية التقليدية — مثل القشرة الجبهية أمامية الوسطى والقشرة الجدارية السفلية — في عملية التفسير في إطار أوسع، ينطوي أيضًا على الاستدلال أو اشتقاق المعنى المجازي أو التداولي.14 يتطلب مكون التوحيد، على المستوى الوظيفي، نسخ المعلومات المعجمية من عنصر الذاكرة وإتاحتها دومًا بمرور الوقت، وإلا فلن يستطيع عنصر التوحيد أن يولِّد تمثيلًا متسقًا لمعنى الجملة أو الحديث، الذي يمتد عادة ليشمل عدة كلمات؛ ومن ثَم يمتد عدة ثوانٍ أو أكثر. ولآلية النسخ أهمية خاصة. فاللغة تتألف من رموز (حالات أو «نسخ») لأنواع معجمية مخزنة في الذاكرة. وقد تتكرر الكلمات في الحديث كما في جملة «النجم الصغير يقع بالقرب من النجم الكبير». هنا استخدِم نوع الكلمة نفسه «نجم» بالمعنى نفسه مرتين، باعتبارهما رمزين، للإشارة إلى نجمين مختلفين في سياق كل عبارة اسمية: «النجم الصغير» و«النجم الكبير». ولكي نتجنب الخلط بين هذين المدلولين، يتعين على المخ أن يفرق بين الأنواع والرموز، وأن يعيِّن تلك الرموز إلى ما يناسبها من مدلولات.15 ويمكن لعملية الدمج وعنصر التوحيد أن يعملا على الرموز بصورة مباشرة. ونحن في حاجة لمزيد من البحث لتحديد الكيفية التي تتولد بها تلك الرموز من الأنواع وكيفية تعيينها لمدلولاتها.
فرضية أخرى من الفرضيات المهمة في اللغويات العصبية تتمثل في نموذج المسار الثنائي لجريجوري هيكوك وديفيد بويبل. يعتبر هذا النموذج في الأساس نموذجًا لعملية معالجة اللغة المنطوقة التي لها تداعياتها على اللغة في الدماغ على نحو أعم.16 يفترض النموذج وجود مجريين لمعالجة اللغة في الدماغ يدعمان الكلام واللغة. يتوافق كل مجرى مع شبكة قشرية معينة مع تمتعه بدرجة من الاستقلال الوظيفي. فيقوم المسار البطني المزدوج — الذي يسري منخفضًا عبر الفصوص الصدغية — بمعالجة إشارات الكلام من أجل الفهم. أما المسار الظهري المتمركز في الجانب الأيسر — الذي يصل القشرتين الصدغية العليا والجدارية الصدغية بالقشرة الجبهية السفلية الخلفية اليسرى، ومن المحتمل أن يتضمن باحة بروكا التقليدية — فيدعم إنتاج اللغة المنطوقة وتطور النطق (المزيد حول ذلك في الفصل الخامس). يربط المسار البطني تمثيلات الصوت (علم الأصوات) والمعنى (علم الدلالات)، بينما يقدِّم المسار الظهري واجهة حسية حركية تصل بين الصوت وبرامج الحركة النطقية. وقد خضع نموذج المسار الثنائي إلى التحسين والاختبار الشامل عن طريق التجارب، ويتمتع الآن بدعم تجريبي كبير.
ثمة اختلاف بين نموذجَي فريدريتسي وهاجورت يتعلق بالدور الذي يضطلع به التلفيف الجبهي السفلي الأيسر، خاصة القطاعات المقابلة لباحة بروكا التقليدية. وفقًا لهيكوك وبويبل، تدعم هذه القطعة من القشرة عملية معالجة الكلام واللغة كدعامة للذاكرة تنشط عند الحاجة إلى حفظ المعلومات وإتاحتها مباشرة مع مرور الوقت. يشبه هذا إحدى وظائف القشرة الجبهية السفلية اليسرى في نموذج هاجورت، لكن هذا التشابه يتوقف عند هذا الحد. فيفترض كلٌّ من هاجورت وفريدريتسي أن هذه المنطقة تجمع المعلومات اللغوية في وحدات أكبر حجمًا. وتقصر فريدريتسي عملية الدمج على بناء الجملة، بينما يوسع هاجورت نطاق التوحيد ليشمل علم الأصوات وبناء الجملة والدلالات على حد سواء. إذن أين تعالج البنى اللغوية والمعاني المعقدة من منظور هيكوك وبويبل؟ ليس في القشرة الجبهية، ولكن في الفص الصدغي الأمامي، باعتباره جزءًا من المسار الظهري.17

النماذج الارتباطية والشكلية والآلية

تتميز جميع النماذج الثلاثة التي عرضتها — بل معظم النماذج اللغوية العصبية الحديثة — ببنًى وأهداف متشابهة. فهذه النماذج تعين وظائف مختلفة لمناطق أو شبكات مختلفة من المخ، بهدف تفسير سبب نشاط هذه المناطق أو الشبكات، سواء في دراسات التصوير المغناطيسي الوظيفي أو تخطيط مغناطيسية الدماغ أو في دراسات أخرى، استجابة لمثيرات أو مهام بعينها، وكذلك السبب في احتمال ارتباط خسارة وظائف لغوية بعينها بأضرار تصيب مناطق أو شبكات معينة في الدماغ (المزيد بشأن ذلك في الفصل الثامن). وما هذه إلا بداية لا أكثر. قد يتفق الكثيرون في المجال على أن هذه التفسيرات غالبًا ما تكون ارتباطية إلى حد كبير. فلو أن نموذجًا أنشئ على أساس ارتباطات أو تلازمات رُصدت بين المثيرات أو المهام وبين التنشيط العصبي، فلا عجب أنه يستطيع الآن «تفسير» وجود نمط ارتباطي مشابه في التجربة التالية. والفهم الصحيح للارتباطات ضروري من أجل أن تحظى التجربة بطابع الكفاءة التجريبية، لكن ثمة حاجة إلى المزيد. نحن نريد من نماذجنا أن تحدد عمليات المعالجة الذهنية التي يجريها النظام — على سبيل المثال، ما إن كانت عملية دمج أو توحيد أو شيئًا آخر — وكيف تتطور هذه العمليات الذهنية عصبيًّا. بصيغة أخرى، لا بد من تعزيز النماذج الارتباطية بتحليلات شكلية وآلية على الترتيب.

هناك حاجة إلى نماذج شكلية للعمليات اللغوية التي يمكن (أو لا بد) أن يجريها الدماغ — بالنظر إلى المهمة — من أجل توجيه عملية تحليل البيانات التجريبية المعقدة. فعادةً ما يكون من الصعب أو المستحيل استخلاص ولو صورة تقريبية عما يقوم به المخ من البيانات. وتخفق الأساليب اللغوية العصبية الحالية أيضًا لدى تطبيقها على أنظمة نفهمها جيدًا — من حيث الأجهزة والبرمجيات — كما اتضح مؤخرًا مع معالج دقيق يشغل لعبة فيديو من شركة «أتاري».18 إن الوضع المثالي في مجال اللغويات العصبية أن يخبرنا علماء اللغويات النظرية أن عملية بعينها (ولتكن عملية تكوين المعنى) ضرورية لحدوث الفهم؛ بعدها يمكن لعلماء اللغويات العصبية إنشاء نماذج تشمل مثل هذه العملية والبدء في استخدام هذه النماذج للبحث عن آثار تلك العملية على المخ. تكمن المشكلة في أن علماء اللغة يختلفون فيما بينهم على ما يجب أن تكون عليه التمثيلات أو العمليات الأساسية، الأمر الذي قد يعلِّق مشروع اللغويات العصبية أو يجبره على أن يكون مشروعًا استكشافيًّا بقدر كبير. ولا أقصد بهذا إلقاء اللائمة على علماء اللغة. فمن الصحيح والمثير للحيرة في الوقت ذاته أن بالإمكان إعادة بناء اللغة البشرية شكليًّا بطرائق مختلفة. لكن يكمن السر في أن نبني على أوجه التشابه والتقارب أو الالتقاء بين النظريات، وأن نستخدم الأفكار والرؤى المشتركة في توجيه البحث؛ على سبيل المثال، لا غرابة في الإشارة إلى أن عمليتَي الدمج والتوحيد تشركان شبكات قشرية متداخلة فيما بينها جزئيًّا. بمجرد أن تتحدد العمليات الأساسية — بعيدًا عن الاختلافات البسيطة بين النظريات اللغوية — يمكن البدء بالبحث عن الآليات اللغوية الفسيولوجية الكامنة وراءها. ويركِّز علماء اللغويات العصبية في الوقت الراهن على آليات للتنشيط المعجمي، والتنبؤ (الفصل الثاني)، والتكوين اللغوي، والإحالة. وفي بعض هذه المجالات، نجد النتائج واعدة للغاية، وتقدم لنا لمحة عن إجابات ذات أسس حيوية للأسئلة المهمة والكبيرة في مجال اللغويات العصبية.19

هناك حاجة إلى نماذج شكلية للعمليات اللغوية التي يمكن (أو لا بد) أن يجريها الدماغ — بالنظر إلى المهمة — من أجل توجيه عملية تحليل البيانات التجريبية المعقدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥