السودان مصري فقط

قبل أن تُكْرَهَ حكومة مصر على إخلاء السودان بأمر الحكومة الإنكليزية عُرِضَ على عبد القادر باشا حلمي وهو وزير الحربية سنة ١٨٨٥ أن يعود إلى السودان فيسكن ثائرته. فاشترط لذلك شرطين؛ الأول: أن يُعْطَى ١٥ ألف جندي، والثاني: أن تتحول الحكومة الإنكليزية عن طلب الجلاء. فارتَضَوْا بالشرط الأول ولم يَرْتَضُوا بالشرط الثاني؛ لأن الغرض لم يكن إعادة السودان إلى أُمِّهِ مصر، بل إخراج من كانوا في السودان وهم نحو ٤٠ ألفًا من المصريين وسواهم، فأَبَتْ نفسه قبول هذه المهمة، وعبد القادر باشا تولى حكم السودان من سنة ١٨٨٢ إلى سنة ١٨٨٣، وتمكن من كَبْحِ جماح العصاة وإخماد الفتنة في سنار رغم ضعف قوته، وكان كُلَّمَا طلب نجدة أجابوه أن الإنكليز حَلُّوا جيش عرابي وليس لمصر جيش ثانٍ، ولكن هذا القول لم يُثَبِّطْ هِمَّتَهُ حتى رأى أن خلفه وصل إلى الخرطوم بينما هو مشتغل بإعادة تنظيم سنار.

ولعبد القادر باشا كلمة تفضح سر عزله وردت في كتاب السودان لمؤلفه نعوم بك شقير قال: «سألت عبد القادر باشا: لماذا اسْتُدْعِيتَ من السودان وأنت ناجح في تدويخ الثوار وإعادة السلام إلى ربوعه؟» فأجاب: «إنهم اتهموني بالطمع بالاستقلال» وهذه الكلمة لا ندرك مغزاها إلا إذا عدنا إلى الروح التي كانت سائدة يومئذٍ، وتلك الروح هي روح الخوف من بقاء الإنكليز في مصر حتى أخذ بعضهم يجهر باستخدام السودان وما فيه من قوة لطرد الإنكليز من وادي النيل، وكان جمال الدين الأفغاني يتظاهر بذلك وينادي به ويدعو الرسل ليذهبوا إلى تنشيط المهدي محمد أحمد وتنظيم قوته لهذا الغرض، وشعر عبد القادر ذاته بممالأة فَرِيقٍ من الموظفين للمهدي والثوار عملًا بهذه الروح فعزلهم، ولما سأل اللورد سالسبوري منشئ الأهرام عن ثورة السودان قاله له: «إنها ثورة؛ أي فتنة محلية جعلتموها أنتم الإنكليز بخطتكم وسياستكم ثورة عامة، فاتركوا السلطة للخديوي يَسْتَعِدِ السودان حالًا، وتخضع له جميع القبائل» ولم يكن شيء من ذلك يغيب عن الإنكليز كما أنهم يعرفون أكثر من سواهم أن والي مصر محمد سعيد باشا زار السودان في سنة ١٨٥٨ وجهر في الخرطوم بأنه ينوي سحب جيوشه ورجال حكومته من تلك البلاد؛ فجاء مشائخ القبائل وأعيان السودانيين من كل حدب وصوب يتوسَّلون إليه بألا يفعل، وأعادوه عن عزمه الذي لم يفصح لنا التاريخ عن سببه حتى الآن. أليس في ذلك دليل على ميل السودانيين وتمسكهم بولاية مصر عليهم؟

إن سعيدًا ذاته عين وهو في الخرطوم بعد ذلك الطلب الذي طلبه المشايخ والأعيان والوجوه كاتبه الأرمني أراكيل أفندي واليًا على تلك البلاد فهبَّ أولئك الأعيان ذاتهم للشكوى والفتنة «لأن الوالي عين نصرانيًّا حاكمًا لبلادهم» فلم يفعل أراكيل ما فعله غوردون وسواه؛ بل قصد الجماهير الحاشدة للثورة عليه، ووقف في جمعهم، وقال لهم: «إذا كنتم قد نقمتم على حكومة الوالي لأنه عينني حاكمًا عليكم فهذا دمي أريقوه، وظلوا على الولاء لحكومة مصر» فانطفأت جذوة غضبهم، وتحولوا من الفتنة إلى الطاعة، وتقدموا لخدمة الحكومة في ضبط الأمن والراحة في أنحاء السودان كله.

وهذا المهدي الذي مثلوه غولًا قامت الثورة في جميع أنحاء البلاد لقيامِه إذا أخذنا تاريخه عرفنا أنه كان كهؤلاء الذين يَدَّعُونَ المهدية في هذا العهد، فمنذ دخول كتشنر السودان إلى اليوم قام ١٥ مهديًّا في تلك البلاد، والتَفَّ حول كل واحد منهم جماعة من الناس لسذاجتهم، ولكن بعض الجنود تمكنوا من أخذهم من نواصيهم، وحادثة أبي السعود الضابط الذي أرسله رءوف باشا حاكم السودان إلى محمد أحمد يوم قيامه ودعوته مشهورة؛ فإن أبا السعود وصل إلى الرجل وهو في غارٍ مع أصحابه فاحتقر أمره وتركه، ولو أنه أراد تكبيله أو التنكيل به لما عَزَّ عليه الأمر ولا صعب، ولكن الفتنة التي بدأت على ما رأيناها وأنكرها علماء السودان ذاتهم تحولت بعد ذلك وشملتهم جميعًا للأسباب التي ذكرناها، ويثبت ما تقدم منشور ونجت باشا إلى السودانيين يوم تعيينه حاكمًا على السودان وسردارًا للجيش المصري، وونجت باشا أكبر خبير بأميال السودانيين وعواطفهم، ولخبرته بهذه الأميال والعواطف لم يَقُلْ لهم أنه مُعَيَّنٌ لإدارة بلادهم من حكومة جلالة الملك والخديوي، ولكنه اسْتَهَلَّ منشوره بالعبارة الآتية:

فإن سمو الأمير خديوي مصر عباس باشا حلمي الثاني — حرسه الله — قد اختارني لأن أكون سردارًا لجيشه وحاكمًا عامًّا للأقطار السودانية بعد اتفاقه مع دولة بريطانيا العظمى على ذلك إلخ.

وختم منشوره بقوله: «والله المسئول أن يكون لي عونًا على تنفيذ إرادة سمو الخديوي المعظم.»

فقد جعل الاتفاق مع إنكلترا غامضًا في التعبير عن تعيينه؛ ليفهم السودانيون أن الخديوي قد عَيَّنَهُ منفردًا بهذا التعيين كعادتهم في العبارات السياسية.

فأي قول فوق هذا القول يدحض مزاعم القائلين بنفور السودان من حكم مصر وعَدِّ السودانيين أمة منفصلة عن الأمة المصرية، ولولا وثوقُ الجنرال ونجت من ميول السودانيين وعواطفهم لافتتح منشوره باسم جلالة الملكة، ولأورد اسم حكومة مصر أو خديويها على الأسلوب الذي أورد فيه اسم «دولة بريطانيا العظمى».

وإذا نحن عدنا إلى كتاب الجنرال ونجت ذاته وإلى غيره من المؤلِّفين عرفنا أن الذين يُعْتَدُّ بهم في السودان ويعدون الأمة السودانية هم العرب الذين وفدوا على السودان من مصر، فهم الأسياد وهم أصحاب النفوذ وهم السودان.

فإذا أخذنا بقولهم هم وبقول علمائهم فليقل لنا أولئك الكُتَّاب الذين يزعمون أن مصر أمة والسودانيين أمة كيف التوفيق بين أقوال المؤرخين الخبراء من الإنكليز ذاتهم وبين ادِّعائِهِم هم، ألا يَحِقُّ لنا أن نقول إنَّه ادعاء لا يبرره سوى السياسة أو هو ادعاء لتبرير السياسة فقط.

•••

لم يكن خروج الجيوش المصرية من السودان في سنة ١٨٨٤ و١٨٨٥ تخليًا عن السودان حتى يصبح «ملكًا لا مالك له» فيستبيح دخوله وامتلاكه كل من استطاع إلى ذلك سبيلًا؛ بل عد إخلاء السودان عملًا عسكريًّا فقط قضت به الضرورة العسكرية، والشاهد الأكبر على ذلك الأمر العالي الخديوي الصادر في ١٥ يناير ١٨٨٤ فإن هذا الأمر نص صريحًا على إلحاق إقليم السودان المصري بوزارة الحربية المصرية، وظل هذا الأمر نافذًا، وظلت وزارة الحربية تتولى شئون السودان إلى أن انتهت الثورة واستعيدت البلاد، والشاهد الثاني: كتاب بطرس باشا غالي وزير الخارجية المصرية إلى اللورد كرومر في ٩ أكتوبر سنة ١٨٩٨ ردًّا على مذكرة منه، قال فيه ما نصه: «إن حكومة سمو الخديوي كما تعرف سيادتكم لم تهمل في وقت من الأوقات أمر العودة إلى احتلال أقاليمها في بلاد السودان، تلك الأقاليم التي هي منبع حياة مصر، وهي إذا كانت قد انسحبت منها مؤقتًا فإنما كان ذلك عُقَيْبَ ظروف بقوة قاهرة، فاستعادة الخرطوم لا توصل إلى الغرض المراد منها إذا لم يَعُدْ وادي النيل كله — الذي ضَحَّتْ مصر في سبيله الضحايا العظيمة — إلى يدها وقبضتها، ولعلمي أن مسألة فاشودة هي الآن موضوع المكالمة بين بريطانيا العظمى وفرنسا، فالحكومة المصرية قد كلفتني أن أسأل سيادتكم أن تُولِينَا وساطتكم الطيبة لدى اللورد سالسبوري حتى يعترف لمصر بحقوقها التي لا تقبل شكًّا، وحتى تعاد إلى مصر جميع الأقاليم التي كانت لها إلى يوم فتنة محمد أحمد.»

وإذا كان كتاب بطرس باشا غالي قد اتَّخَذَ يومئذ حجة على فرنسا في فاشودة فإنه يعدُّ أيضًا حجة قائمة على الإنكليز إلى الأبد؛ فالإنكليز اعتمدوا في مكالمة الفرنساويين في مسألة حدود السودان المصري على هذا الكتاب، وعلى الخريطة التي وَضَعَهَا غوردون سنة ١٨٧٩ وفي كتاب بطرس باشا ذكر «الأقاليم التي كانت تحكمها مصر حتى ثورة المهدي» ومعلوم أن أمين باشا كان يحكم إقليم خط الاستواء حتى ١٠ يناير ١٨٨٩، وفي خريطة غوردون أن من إقليم لادو المنطقة الواقعة على الضِّفَّةِ اليسرى من النيل في سورمست، وهي المنطقة التي تصل بحيرة فيكتوريا نيانزا ببحيرة ألبرت نيانزا، وعلى هذه المنطقة يخفق الآن العالم الإنكليزي وحده، ولم يَكُنْ في سنة ١٨٨٤ شريك للعلم المصري في تلك الأرجاء، وتدل خريطة غوردون أيضًا على أن هرر وزيلع وبربره أراضٍ مصرية، وقال غوردون: إن حاميتها كانت ٣٤٠٠ جندي، ونفقات بربره ١٧٢٢٩ جنيهًا، ونفقات زيلع ٥٠٦١ جنيهًا، ونفقات هرر ٤٣٢٢٩ جنيهًا، وأن مصوع كانت تابعة لسواكن.

وقد عرف القارئ من كلامنا السابق أن إنكلترا عاملت السودان معاملة «ملك لا مالك له» فظلت تأخذ منه وتعطي حتى سنة ١٨٩٥ أي حتى اتفقت مع ألمانيا وإيطاليا، وشعرت بثبوت قدمها في مصر، فعادت إلى التمسك بحقوق مصر ولم يحسب لمصر في ذلك كله حساب حتى إن اتفاقها مع وزير خارجية مصر في ١٩ يناير ١٨٩٩ لم تُقِرُّهُ الأمة المصرية وهيئتها النيابية، وهو ذلك الاتفاق الذي يجعل إنكلترا شريكة مصر في السودان، وأجمع رجال القانون على أنَّ هذا الاتفاق مخالف للشرائع والقوانين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤