سلخ السودان وطريق المواصلات الإمبراطورية

مصر والسودان وقناة السويس وفلسطين والعراق وإيران لازمة لإنكلترا؛ لأنها طريق الهند كما يقول اللورد كرزون فيصفق النواب لقوله ولبلاغة حجته (؟) وإذا قالت مصر: السودان مني ولي وأنا له وهو حياتي ومني وحدي كانت حياته. صاح الكتاب الإنكليز يا لها من بدعة ويا للحق من الجور؟!

ظلت إنكلترا قرنًا تنقض من قوة مصر وتأبى عليها النُّمُوَّ إلى أن غنمت فرصة ثورة عرابي على الحكومة بحُجَّةِ تحويل الحكم إلى يد الشعب فاحتلت البلاد، فاختل حبل الأمن في السودان فكانت إذا قال لها العالَم: مصر. تجيبه: السودان. إلى أن جعلته شركة بينها وبين مصر يحلل هذه الشركة التي أمرت بها إنكلترا أمرًا ولم يُرَاعَ فيه شرع ولا قانون «أن الدول لم تعترض عليها» كما قالت المانشستر غارديان، وتجاهلت أن تركيا احتجت وهي صاحبة الشأن على فصل مصر عن السودان.

وتقول التيمس: إن مصر أمة والسودان أمة أخرى، ويضاعِف في ذلك كله أن السودان إذا أعطي لمصر فإن الأوغندا وراء السودان، ومنها تُحَوَّلُ مياه النيل عن مصر كما يقول الكتاب الآخرون، ويتجاهلون أن الأوغندا كانت تابعة لمصر قبل أن يأكلوها ثم يحاولون هضم السودان.

•••

بدأت حياة مصر المستقلة سنة ١٨٤١ بالمعاهدات بين الدول وبالفرمانات المستندة إلى تلك المعاهدات، وهذه الفرمانات تجعل في إدارة محمد علي وذريته — أي مصر الممثَّلة بأميرها وواليها — بلاد النوبة ودارفور وكردوفان وملحقاتها أي السودان كله، فبسط أمراء مصر حكمهم، ووطدوا إدارة ملكهم حتى خط الاستواء، وفي سنة ١٨٧٠ لم تكتفِ مصر بذلك؛ بل أرسلت حملة على رأسها صموئيل باكر إلى منابع النيل، وأخضع الزبير بحر الغزال، ونظم غوردون خط الاستواء، وفي سنة ١٨٧٤ أبرم صاحب الأوغندا معاهدةً مع مصر قبل فيها حماية مصر على بلاده، وعين إسماعيل باشا لنا ن دي بللفون بك حاكمًا على السودان الشرقي، وقسمت بلاد السودان إلى ١٦ مديرية، وكل مديرية إلى دور وأخطاط، ووضع شالو بك المهندس الأكبر لبلاد السودان خطط تلك البلاد الطبيعية والسياسية، ومنها يؤخذ أن الأقسام السياسية كانت:
  • (١)

    خط الاستواء.

  • (٢)

    بحر الغزال.

  • (٣)

    فاشودة.

  • (٤)

    الفاشر.

  • (٥)

    دارا.

  • (٦)

    توغا.

  • (٧)

    سولكون.

  • (٨)

    كبكبية.

  • (٩)

    كردوفان.

  • (١٠)

    خرطوم.

  • (١١)

    سنار الفازوغلي.

  • (١٢)

    القضارف.

  • (١٣)

    القلابات.

  • (١٤)

    تاكا.

  • (١٥)

    بربر.

  • (١٦)

    دنقلة.

وكانت الخرطوم القاعدة لمساحة ١٥٠٠ كيلو متر طولًا، وفاشودة قاعدة الحامية على مجرى النيل حتى البحيرات النابع منها، وفي سنة ١٨٦٥ كتب باكر١ بك عن السودان يقول: «يستطيع السائح الأوربي أن يطوف هذه البلاد — التي تعادل مساحتها فرنسا وألمانيا وإنكلترا معًا — وهو في أمن وراحة قد لا يلقاها المتنزِّه في هيدپارك — حديقة لندن الكبرى — إذا تأخر فيها مساء. أما الأهالي فلَيِّنُو العريكة مطواعون لحكومتهم» فماذا غيَّر هؤلاء في ٢٠ عامًا؟ وكيف اتَّقَدَتْ ثورتهم والثورة العرابية بوقت واحد؟ ذلك سر — يقول جميع المؤرخين — مفتاحه بيد الإنكليز، ومما قال شايه لونغ بك الذي انتدبه إسماعيل باشا لبسط حماية مصر على الأوغندا، وإبرام المعاهدة مع ملكها «متزه» في كتابه «مصر وأملاكها الضائعة»: «إن إدارة غوردون وباكر هي التي أغضبت السودانيين وأثارت ثائرتهم، ولا شك ولا ريب بأن إنكلترا تركت النار تَتَّقِدُ؛ ليكون لها فيه مبرر لإخراج مصر والحلول محلها، ولكنها لم تدبر الثورة المهدية» فالسودان هاج لإلغاء الرقيق واحتكار سن الفيل ولشدة الموظفين، ولكن هياجه كان محليًّا فقابلت إنكلترا ذلك بملء الارتياح، ولعبت بعقل عرابي حتى سحب الجيش من السودان فلم تَبْقَ هناك قوة ما، وقد أثبت الجنرال ونجت هذه الأسباب الثلاثة في كتابه: «المهدية والسودان» ولكن مصر ظلت قادرة على إخماد الفتنة بعد سنة ١٨٨٢ لولا أن الإنكليز أرسلوا رجالهم لِيَتَوَلَّوُا الأمر فكتب هوبار باشا إلى التيمس في ٣ فبراير ١٨٨٥ يقول: «والآن صارت ثورة السودان حربًا دينية يقوم بها المسلمون ضد المسيحيين الذين مدوا يدهم لامتلاك هذه البلاد» ولكن موظفي الاستعمار ظلوا على نغمتهم بأن الثورة ناجمة عن ظلم الموظفين المصريين، ولما أرسل عبد القادر باشا في سنة ٨٣ إلى الخرطوم كسر الثوار لأول مرة وسكن جهات سنار ثم كسرهم مرة ثانية وبسم له الفوز في كل مكان على قلة عدد جنوده، ولكن ذلك لم يَرُقْ للإنكليز فأشاروا بتعيين علاء الدين باشا حاكمًا على السودان، وجردوا حملة هيكس برياسة سليمان نيازي باشا الاسمية، وتلقى سليمان نيازي باشا الأوامر بأن يتبع إشارة هيكس، ولكنهم رأوا أن يعزلوه من منصبه لأنه عسكري ومن الممكن أن ينازع هيكس في إرادته، وعينوا علاء الدين باشا الذي لم يكن عسكريًّا حتى يخضع ويطيع؛ فكانت النتيجة ضياع الحملة كلها، ونهوض السودان كله للثورة حتى كتب غوردون في مذكراته: «عندما أفكر بما ضُحِّيَ من حياة الرجال في السودان منذ سنة ١٨٨٠ لا يمكنِّي أن أمنع نفسي عن حب الانتقام من السير أو كلدكولفين والسير أدوار مالت والسير تشارلس ديلك؛ لأنهم هم الذين دبروا ذلك كله»، ويقول سلاتين باشا: إنه تلقى الأوامر في سنة ١٨٨٣ ليجمع جنوده في الفاشر، وليختار واحدًا من سلالة الملوك القدماء هناك فيسلمه البلاد، ويجلو عنها.

لم تَكْتَفِ السياسة الإنكليزية بذلك بل قضت على مصر بأن تخلي السودان، وزادت على ما تقدم بأن وجود الإنكليز في مصر لازم خوفًا على القاهرة من عصابات الدراويش كأن الدراويش صاروا جيوشًا منظمة تقهر مصر التي مزقت قبل ذلك بخمسين سنة أقوى الجيوش المنظمة وأمتنها وأكثرها عدة.

حدثت واقعة هيكس يوم وصول أفلن بارنغ (اللورد كرومر) إلى مصر فأبلغ الخديوي أن إنكلترا لا تهتم بالسودان ولا تساعد مصر على البقاء فيه أو استعادة بعض أقاليمه، وشرح اللورد ملنر كلام أفلن بارنغ للخديوي بقوله: «إن الرجل التعب المنهوك القوي الفقير — كما كانت مصر يومئذٍ — لا يكون له بُدٌّ من أن يتنازل عن بعض أملاكه مخافة أن يناله الإفلاس» فأجاب الخديوي السير أفلن بارنغ أنه لا يستطيع ترك السودان، وإذا كانت مصر لا تلقى المساعدة لتعزز جيشها فهو يفضل أن يلجأ إلى سلطان تركيا في هذه المساعدة، فأجاب بارنغ: «ولكن على شرط أن لا تدخل الجنود العثمانية مصر وأن تجعل سواكن مركزها» وفي اليوم التالي حمل إلى الخديوي «المشورة والنصيحة بترك السودان» حتى يصبح بلا سيد فتبسط إنكلترا سيادتها عليه، ولما رفضت الوزارة المصرية ترك السودان أكرهت على الاستعفاء، وقال اللورد ملنر: «إن الحكومة البريطانية اتَّبَعَتْ رأي معتمدها وأمرته بأن يبلغ الحكومة المصرية التحتيم عليها بترك السودان حالًا، وإذا أبى أحد الوزراء فَلْيَسْتَعْفِ، وبذلك كذبنا يومئذٍ النظرية القائلة بأن سياسة مصر والسودان لا تعنينا.»

وأغرب ما في الحجج التي قدَّمَها اللورد كرومر للخديوي توفيق ليجلي جنوده عن السودان أن حكومة مصر تنفق على السودان ٦٤٠ ألف جنيه ولا تحصل من السودان سوى ٤٨٠ ألف جنيه فلا يجوز أن تنفق مصر في السودان في كل عام ١٦٠ ألف جنيه، وكانوا يستكبرون تجريد ١٦ ألف جندي مصري وسوداني لتدويخ السودان، ولكنهم لما صار السودان لهم وجدوا هذا العدد قليلًا فزادوه من كل سلاح وهيئة على حساب مصر وعلى نفقة الخزنة المصرية.

•••

أما مديريات السودان كما نظمت بعد استعادته واقتطاع أطرافه فهي على الوجه الآتي:
  • (١)
    حلفا: وهي تتناول حلفا والمحس وسكوت.
  • (٢)
    دنقلة: وهي تتناول أرقو ودنقلة الأودري والخندق والدبة وكورتي ومروي.
  • (٣)
    بربر: وهي تتناول الرباطاب وبربر ومدينة بربر والدامر وشندي.
  • (٤)
    الخرطوم: تتناول مدينة الخرطوم وحدها.
  • (٥)
    مديرية الجزيرة: تتناول الكاملين والمسلمية ورفاعية وود رملي وعبود والكوة القطنية وقوز أبي جمعة.
  • (٦)
    مديرية سنار: تتناول سنار وشيخة ووادمدني والرصيرص والدندر ودار الفونج وأبو نعامة.
  • (٧)
    مديرية النيل الأعلى: تتناول كودوك وهي فاشودة التي غيروا اسمها.
  • (٨)
    مديرية بحر الغزال: تتناول واو ومشروع الريك وديم الزبير وشامبي وشكوشك وتونج واورمبيك.
  • (٩)
    كسكه: تتناول كسله والقضارف والقلابات.
  • (١٠)
    سواكن: تتناول سواكن وطوكر.
  • (١١)
    كردوفان: تتناول الأبيض وباره والدويم وخربي والنهود والشنوط والطيارة والدكن وتندك وجديد.
  • (١٢)
    دارفور.

هوامش

(١) في سنة ١٨٥٨ أرسلت الجمعية الجغرافية الإنكليزية الرحالتين سبيك وغرانت لاكتشاف منابع النيل بطريق زنجبار. وفي سنة ٦٢ أرسلت صموئيل باكر إلى مصر للغرض ذاته حتى إذا عرفت تلك المنابع قبضت عليها لتقبض بواسطتها على مصر، وطلبت من الخديوي إمداده بما يحتاج، فقام من الخرطوم في ١٨ ديسمبر ١٨٦٢ فوصل إلى غاندوكرو في ٢ فبراير ١٨٦٣، وفي ١٥ منه التقى بسبيك وغرانت فأخبراه عن وصولهما إلى بحيرة أطلقا عليها اسم «فيكتوريا» ملكتهم. فسار صموئيل باكر جنوبًا لاكتشاف البحيرة الأخرى، فوصل إلى البحيرة التي أطلق عليها اسم ولي العهد «ألبرت» وعاد إلى بلاد الإنكليز.
وفي سنة ٦٩ طلبت حكومة إنكلترا من إسماعيل باشا انتدابه لحكم خط الاستواء، فأنعم عليه برتبة الفريق، وعقد له على جيش قوامه ١٥٠٠ جندي، ورتب له عشرة آلاف جنيه في السنة فأطلق على غوندوكرو اسم الإسماعيلية، وكانت الحكومة قد أعطت بلاد خط الاستواء التزمًا للسيد أحمد العقاد، فأبطل التزامه، وأسس نقطة عسكرية في شندي على ٥٠ ميلًا من ألبرت نيانزا، وعاد في سنة ٧٣ من تلك البلاد تاركًا ولايتها لرءوف باشا قومندان العساكر، ولكن ولي عهد إنكلترا طلب تولية غوردون فولي حتى سنة ٧٦، وخلفه برت، ثم أمين باشا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤