السودان مصري ومن مصر وجزء لا يتجزأ عن مصر

بقلم صاحب الدولة حسين باشا رشدي١

(١) السودان حياة مصر

إنما السودان لهو الحياة بذاتها لمصر؛ لأنه منبع النيل، ومصر هي التي فتحت السودان في الأصل، ولم تضن في هذا السبيل بأية ضحية بالرجال أو بالمال، وهذا الفتح بدأ على عهد محمد علي، وتم على عهد إسماعيل الذي ضم مناطق البحيرات الكبرى حتى منابع النيل وبحر الغزال وخط الاستواء ثم سواحل البحر الأحمر حتى رأس غردفوي، وجعل الأوغندا تحت حماية مصر، ونال من الباب العالي إدارة سواكن وزيلع وملحقاتهما، واتخذ لنفسه لقب خديوي مصر وصاحب نوبيا ودارفور وكردوفان وسنار، واعترفت الفرمانات السلطانية التركية لمصر بامتلاك هذه الأقاليم السودانية، واعترفت الدول بهذه الفرمانات ذاتها.

وفي سنة ١٨٨٥ أَجْلَت الحكومة المصرية تحت ضغط الحكومة الإنكليزية عن أكثر هذه الأقاليم السودانية، ولكنها خرجت منها على نية العودة إليها، ومع العزم الأكيد على احتلالها ثانية عند سنوح أول فرصة ملائمة، وهذا العزم واضح كل الوضوح من المستندات الرسمية المصرية فوزارة شريف باشا فضلت الاستعفاء على قبل ترك السودان ولو تركًا موقوتًا.

وفي ٩ ديسمبر ١٨٩٤ أرسل رياض باشا إلى السير إيفلن بارنج مذكرة قال فيها:

لا يستطيع أي إنسان أن ينازع في أن النيل هو حياة مصر، وهذه حقيقة واضحة كل الوضوح لا تحتاج إلى مناقشة، وحيث إن النيل هو السودان فلا جدال في أن العلاقات والروابط التي تربط مصر بالسودان لا يمكن أن تقبل أي انفصال، وما مثلها في هذا التماسك إلا كمثل العلاقة التي تربط الروح بالجسد، وإذا تمكنت دولة من الاستيلاء على منابع النيل فإن هذا الاستيلاء يكون بمثابة حكم الإعدام على مصر.

فمن هذا كله يتبادر إذن إلى كل ذهن أن حكومة سمو الخديوي لا ترضي قط بحال من الأحوال باختيارها وبدون أن تكون مكرهة إكراهًا بمثل هذا التهجم على وجودها.٢
وفي الكتاب الأزرق الذي أصدره اللورد سالسبوري في سنة ١٨٩٨ عن مسألة فاشوده كتاب من بطرس باشا غالي وزير الخديوي قال فيه:

إن حكومة الخديوي كما تعرف سيادتكم لم يَغِبْ عن نظرها في حين من الأحيان العودة إلى استئناف احتلال الأقاليم السودانية التي هي مصدر الحياة ذاتها لمصر، ومصر لم تنسحب من تلك الأقاليم إلا عقيب ظروف قوة قاهرة، وإن استعادة الخرطوم تفقد الغاية منها إذا لم يعد إلى مصر وادي النيل الذي ضَحَّتْ مصر في سبيله الضحايا العظيمة.

ولمعرفة الحكومة المصرية أن مسألة فاشودة في هذا الأوان هي موضوع المكالمة بين بريطانيا العظمى وفرنسا، فهي (الحكومة المصرية) تكل إليَّ أن أطلب من سيادتكم أن تتفضلوا بحسن الوساطة لدى اللورد سالسبوري؛ ليتم الاعتراف لمصر بحقوقها التي لا تقبل نزاعًا، ولكي تعاد إليها الأقاليم التي كانت تحتلها حتى قيام ثورة محمد أحمد.٣

هذا، وفي نظر أوربا ذاتها لم تفتأ تلك الأقاليم السودانية — التي تركت تركًا موقوتًا — معتبرة مصرية.

وإنَّا لنورد دليلًا على صحة ذلك تصريحات عظماء الإنكليز ذاتهم بصدد حادثة فاشودة والمعاهدة الإنكليزية الطليانية ١٨٩١–١٨٩٤:
  • (١)
    في ١٢ أكتوبر ١٨٩٨ صرح اللورد سالسبوري لسفير فرنسا «أن وادي النيل كان ولا يزال ملكًا لمصر، وأن جميع العوائق وكل الانتقاص الذي أحدثه فتح المهدي وإخلاله في صفة هذه الملكية قد زال بفعل انتصار الجيش الإنكليزي المصري في أم درمان.٤
  • (٢)
    قال اللورد روزبري في خطاب ألقاه في أبسون في ١٢ أكتوبر ١٨٩٨: «نحن نعمل الآن لنرجع إلى مصر ما يؤلف — حسب تصريحات جميع الوزارات الفرنساوية — أرضًا مصرية.»٥
  • (٣)
    وأثبت اللورد كمبرلي في مأدبة أقيمت إكرامًا للورد كتشنر ما يلي: «أن الجلاء عن فاشودة لا يمكن أن يمس كرامة فرنسا؛ لأن الحكومة الفرنساوية ذاتها صَرَّحَتْ بأن الأراضي المختَلَف عليها هي ملك مصر.»٦
ومن جهة أخرى أن البند الثاني من الاتفاق الإنكليزي الطلياني المبرم سنة ١٨٩١ و١٨٩٤ نص فيه:

يكون للحكومة الطليانية في حالة اضطرارها للعمل قيامًا بحاجة موقفها العسكري أن تقبل كسلة والإقليم الملاصق لها حتى الأتبرة. إلا أنه يكون معروفًا لدى الحكومتين أن كل احتلال عسكري موقوت للأراضي الإضافية المعينة بهذا البند لا يلغي حقوق الحكومة المصرية على تلك الأراضي فهذه الحقوق تظل موقوفة فقط إلى أن تتمكن الحكومة المصرية من استئناف احتلال المنطقة المشار إليها.

وعند ما استعادت مصر الأقاليم السودانية التي كانت قد تركتها وقتيًّا عاونتها إنكلترا في ذلك، ولكن:
  • أولًا: إن استعادة تلك الأقاليم تَمَّتْ على حساب مصر وباسمها، وكانت إنكلترا تعمل بمعاونتها بوصف أنها حليفة بالواقع لمصر، وهذا ما يستنتج استنتاجًا مقطوعًا به من التصريحات المذكورة آنفًا، ثم إن اللورد كتشنر قائد الجيش المصري صرح للقومندان مارشان في فاشودة بقوله: «إن التعليمات التي تلقاها تقضي بأن يعيد بسط: «السلطة المصرية» على مديرية فاشودة، وأنه يحتج على رفع العلم الفرنساوي على «أملاك سمو الخديوي».

    ثم كتب إليه بعد ذلك: «يجب عليَّ أن أبلغك أني وقد رفعت اليوم العلم المصري على فاشودة بأن حكم هذه البلاد قد استعادته مصر ليدها نهائيًّا (راجع تقرير اللورد كرومر السنة الثالثة ١٨٩٨).

  • الثاني: أن القوات العسكرية التي استخدمت للاستعادة قد كانت من جانب المصريين ٢٥ ألفًا، أما التي كانت من جانب الإنكليز فقد كانت من بادئ الأمر ٨٠٠ جندي، ولم يتجاوز عددها ألفي جندي.
  • الثالث: أن نفقات الاستعادة ٢٤٠٠٠٠٠ جنيه دفعت مصر ثلثيها، وإذا كانت إنكلترا قد تحملت الثلث الثالث فالخطأ ليس خطأ مصر ولكنه ناشئ من معارضة صندوق الدَّين التحكُّمية.
  • الرابع: إن مصر وحدها دفعت منذ استعادة السودان نفقات الأعمال والمشروعات ما عدا خزان مكوار فبلغ ما أنفقته نحو ٥٦٠٠٠٠٠ جنيه، ومصر وحدها هي التي دفعت العجز المتوالي في ميزانية السودان فبلغ ما دفعته في هذا السبيل ٥٣٥٠٠٠٠ جنيه.
  • الخامس: منذ استعادة السودان تنفق مصر على عشرة آلاف جندي مصري في السودان للدفاع في الخارج ولمنع كل ثورة في الداخل، فتحملت مصر من وراء ذلك إنفاق ١٣ مليون جنيه مع أن القوة الإنكليزية في السودان نحو ألف رجل لم تزد النفقة عليهم على مليوني جنيه.

إن مصر تحملت في سبيل السودان نفقة مالية كبيرة جدًّا كما تدل سجلات الحسابات، وقد تحملت هذه الأعباء رغم الديون المتراكمة عليها ورغم شدة حاجتها إلى الأموال؛ لتقوم بالأعمال العمومية لا سيما أعمال الري التي يحول بها ري الحياض إلى ري دائم، وقد كان بالإمكان إصلاح مليوني فدان لا تزرع الآن بنصف الأموال التي أنفقتها.

•••

فالاستنتاج الطبيعي المعقول من كل ما تقدم هو أنه يجب اعتبار السودان جزءًا من مصر لا يقبل التجزئة حتى إن اتفاق ١٨٩٩ ذاته لا يعارض ذلك؛ فإن ذلك الاتفاق يشرك إنكلترا مع مصر لا في السيادة على السودان، بل في الإدارة، وإذا كان العلم الإنكليزي قد ظل يخفق على السودان إلى جانب العلم المصري فمرجع ذلك إلى الاهتمام باتقاء العراقيل التي تنجم عن تنفيذ حكم الامتيازات هناك فتحول دون تقدم تلك البلاد.

وفي الواقع أن اتفاق ١٨٩٩ قد تضمن ما نصه: «من حيث إنه صار لازمًا اختيار طريقة للإدارة وسن قوانين للأقاليم المستعادة المذكورة» وزاد على ما تقدم قوله: «ومن حيث إنه ظاهر ولأسباب عديدة يمكن أن تُدَارَ وادي حلفا وسواكن إدارة أفعل إذا ضمتا إلى الأقاليم المستعادة» وبالفعل تم ضم حلفا وسواكن إلى الأقاليم المستعادة حتى يكون الجميع خاضعًا لنظام الحكم الذي قرره الاتفاق.

وهذه وادي حلفا وهذه سواكن لم تجل عنها الجنود المصرية قط فضمُّهما إلى الأقاليم المستعادة يثبت أن ذلك الاتفاق ما كان يرمي إلا إلى الوجهة الإدارية، ولم يكن الغرض منه أن يخرج السودان من السيادة المصرية.

وتأييدًا لهذا الإيضاح لاتفاق ١٨٩٩ نستعين بحكم اللورد كرومر الذي هو بلا شك أصدق مفسر له؛ لأنه هو الذي وضعه، فإليك ما يراه القارئ في تقريره لعام ١٩٠١ و١٩٠٣.

ففي تقرير ١٩٠١ ما نصه:

ألاحظ في أعمال مجلس شورى القوانين الخاصة بالاعتمادات قوله: «إن المجلس يصادق على المصروفات المقترَحة للسودان؛ لأنه يعد السودان جزءًا لا ينفصل عن مصر» وهذا الرأي صحيح في الحقيقة فإن نظام الحكم السياسي في السودان مقيَّد على كل حال بالاتفاق المعقود بين بريطانيا العظمى ومصر، وموقع عليه في ١٩ يناير سنة ١٨٩٩، ولما كان من المحتمل أن بعض أعضاء مجلس الشورى غير مُلِمِّينَ تمام الإلمام بفحوى ذلك الاتفاق فإني انتهز هذه الفرصة لأبين أنه لم تكن هنالك نية أو رغبة عند صوغه في انتقاص حقوق مصر الشرعية، فقد كانت الأغراض الأساسية التي رمى إليها واضعو ذلك الاتفاق هي أولًا ضمانة وجود حكومة صالحة للأمة السودانية وثانيًا اتِّقاء الارتباكات الخصوصية التي أوجدها أسلوب الحكم الدولي بمصر في السودان.

وفي تقرير ١٩٠٣ قوله:

لقد سئلت أحيانًا: لماذا لا تتحمل الخزانة البريطانية قسمًا من نفقات الإدارة في السودان ما دامت الراية البريطانية تخفق إلى جانب الراية المصرية على ربوعه؟ وهو سؤال طبيعي، ولكن الإجابة عليه سهلة جدًّا على جميع الواقفين على تاريخ اتفاق ١٩ يناير سنة ١٨٩٩ الذي بموجب نصوصه أوجِدت للسودان حالة سياسية خاصة، وذلك أن حكومته شكلت لغرض صريح وهو إنقاذ السودان — وبناء على ذلك إنقاذ مصر — عند حكمها تلك المديريات من جميع تلك الأوضاع الدولية المعرقلة التي لها النصيب الأوفر في تعقيد الإدارة في مصر، ولولا هذا الاعتبار لما كان لرفع الراية البريطانية على الخرطوم — من وجهة النظر البريطانية — من سببٍ أدعى إلى رفعها على أسوان أو طنطا.

وفوق كل ما تقدم كيف كان بالإمكان أن يشرك اتفاق ١٨٩٩ إنكلترا مع مصر في السيادة على السودان؟ فليس إرسال بعض الجنود الذين لم يتجاوز عددهم الألفين ولا إنفاق بعض المال القليل ممَّا يسوِّغ مثل هذه الشركة. فإذا كان العون الاختياري يخول من ذاته حقًّا ما، فإن الواجب أن يكون لمصر حق في سوريا وفلسطين؛ لأنه بفضل رجال مصر وسككها الحديدية وموانيها وإمدادها الجيش الإنكليزي بالأكل والماء والمعدات من كل نوع سهل فتح تلك البلاد، وأنفقت مصر أكثر من أربعة ملايين جنيه من المال فوق الفرق في أثمان ما جمعه الجيش الإنكليزي حتى إن هذا الفرق بلغ في القطن وحده الملايين دون حسبان الحبوب من كل صنف والمواشي التي نقصت الثلث مدة الحرب.

وقد اعترف المارشال اللنبي بقيمة المساعدة المصرية إبَّان حملة فلسطين وسوريا، وورد في تقرير اللورد ملنر قوله: «ليس من العدل إلا أن نذكر الخدمات التي أداها فيلق المتطوعة المصرية فإن قيمتها كانت فوق التقدير، ولم تكن عنها مندوحة لفتح فلسطين.»

إنه كان لمصر على إنكلترا دَيْنٌ أدبي لتساعدها على استعادة السودان. أولم يكن إخلاء السودان بفعل ضغطها على مصر؟ ألم تكن إنكلترا بمثابة القَيِّمَةِ على مصر؟

فقد قال السير إدوارد غراي أمام مجلس النواب الإنكليزي في ٢٨ مارس ١٨٩٥: «إن إنكلترا تشغل من وجهة الدفاع عن مصالح مصر المركز الخاص للقيم، فمطالب مصر لم نسلم بها نحن وحدنا؛ بل سلمت بها أيضًا وأثبتتها كل الثبوت الحكومة الفرنساوية.»

•••

وفضلًا عن أن النيل هو رباط الحياة بين القطرين، فإن هناك اعتبارات اقتصادية تربط السودان بمصر.

فالسودان بلاد لا تزال بكرًا وتجارته مُعَدَّةٌ للنمو وحاصلاته للزيادة بسرعة نظرًا لسعة أراضيه وخصبها. فإذا كان له منفذ إلى البحر في پورسودان فإن هذا الميناء لا يستطيع وحده تصريف تجارة هذه البلاد عندما تنال بعض التقدم.

وفي مصر سيمر دائمًا شطر كبير من بضائع السودان، لا سيما إذا بدت المزاحمة في تجارة تلك البلاد فإنها حينئذٍ تفضل الطريق الأخصر، وأكبر شطر من اتِّجَار السودان هو الآن مع مصر، وسيظل دائمًا كذلك، ومصر هي في العالم من البلاد التي يزدحم سكانها وهؤلاء السكان يزيدون زيادة سريعة، وقد أخذت أرضها تعجز عن أن تكفي هؤلاء السكان، وبعد بضع سنين تصبح هذه المسألة من المسائل الاجتماعية المتحرجة التي يقضي على السلالة الآتية حلها فليس في الأرض مكان مُعَدٌّ بذاته لقبول زيادة السكان في مصر غير السودان فهو بلاد متاخمة لمصر وبلاد زراعية بحتة ومتصلة بمصر بروابط من كل نوع.

ومن جهة أخرى إن من المبدأ المسلَّم به من الجميع الآن والذي كان مرشدًا وهاديًا لسياسة الإنسانية بعد الحرب الكبرى مبدأ الجنسية المنحصر في تأليف وحدات سياسية من الطوائف المتجمعة إذا كانت من عنصر واحد، وهذا المبدأ ينطبِق على مصر والسودان؛ لأن غالبية السودان من العنصر العربي يتكلم لغة المصريين، وله دِين غالبيتهم، ومتخلِّق بأخلاقهم.

(٢) بحث في حالة السودان السياسية بقلم صاحب الدولة حسين رشدي باشا

إن اتفاق ١٨٩٩ — بين الحكومة المصرية والحكومة الإنكليزية — هو اتفاق في نظر المصريين باطل وفي نظر الإنكليز صحيح ترتبط مصر بأحكامه.

وتستند حجة المصريين في بطلانه إلى أن تركيا لم تُقِرَّ ذلك الاتفاق. ثم يزيدون على ما تَقَدَّمَ: أن مصر ذاتها لم تقره برضاها ولم تسلِّم به إلا مُكْرَهَةً مقصورة بقوة إنكلترا.

ويرد الإنكليز على هذه الحجة بأن اتفاق ١٨٩٩ يربط مصر؛ لأنها وقَّعته وإن لم تكن تركيا قد سلَّمت به. أما مسألة عدم تسليم تركيا فكل ما يقال فيه من الوجهة المصرية أن مصر تعاقدت على ملك الغير، وفي هذه الحالة لا يكون للمغتصب أي مصر حق إنكار عقد التعاهد، بل إن هذا الحق لصاحب الحق المغتصَب وهي تركيا، ويزيد في نقصان تمسُّك مصر ببطلان اتفاق ١٨٩٩ أن عقد الاغتصاب الذي وقعته قد تأيَّد بعدول تركيا عن ادِّعاء أي حق لها على مصر.

وإذا كانت معاهدة سيڨر لا تزال قيد التعديل فإن من المأثور أن التعديل المطلوب فيها يرمي إلى وجوهٍ أخرى غير ذلك العدول عن حقها في مصر، وهو العدول الذي صار نهائيًّا.

أما الزعم بانفلات مصر من روابط اتفاق ١٨٩٩ بحجة أن رضاها به كان مشوبًا ومشوهًا بقوة الإكراه من جانب إنكلترا إكراهًا لم يكُن بالإمكان دفعه، فهو ملابسة بين مبادئ الحق المدني ومبادئ الحق العام، وهذه معاهدات الصلح التي أكره المغلوبون على توقيعها بقوة الحديد والنار، هل يجوز لهؤلاء ألا يحترموا أحكامها؟

والذي نعتقده نحن أن اتفاق ١٨٩٩ لا يربط مصر للأسباب الآتية:

أن السبب الذي دعا إلى إبرام هذا الاتفاق هو الاهتمام بمنع تنفيذ الامتيازات في السودان ووقاية مصر ولو في هذا الشطر من الأراضي المصرية من مساس نظام الامتيازات بسيادتها.

فهذا الاتفاق إذن قد عقد لمصلحة مصر لا لمصلحة إنكلترا، وفي الواقع إن إنكلترا لم يكن لها في ذاك الحين أية مصلحة خاصة من وراء ذلك الاتفاق؛ لأنها كانت تحكم مصر ذاتها.

فأيه حاجة كانت بها لأن تبرم مع مصر اتفاقًا يخوِّلها إدارة السودان؟ فهل هي كانت تلقى من الحكومة المصرية مقاومة لا ترد، وهي هي التي استطاعت أن تكره حكومة مصر على إخلاء السودان رغم إرادتها لو أنها طلبت من الحكومة المصرية بقطع النظر عن كل اتفاق — وأمامنا السابقة في مسألة غوردون — أن تسلم حكم السودان إلى حاكم عام حتى ولو كان إنكليزيًّا تختاره إنكلترا وله السلطة المخوَّلة الآن للحاكم العام؟؟ سؤال لا يجاب عليه بغير «لا».

إن تلغراف غرنفيل المشهور جعل للمشورة الإنكليزية صبغة الأمر، وجعل موقف الحكومة المصرية بين أمرين: إما الخضوع، وإما الاستعفاء.

وكما أنه ليس ما يمنع أي شخص تعاقد مع آخر على مصلحة له من أن يتنازل عن تلك المصلحة، فكذلك مصر لا يمنعها مانع قانونيًّا عن أن تعدل عن اتفاق ١٨٩٩ إذا هي ارتضت أن تتحمل في السودان نظام الامتيازات أو أي نظام يقوم مقامه.

وهذا اللورد كرومر يعترف صريحًا بتقريره عن الاتِّفاق بأن الغرض الوحيد منه هو إنقاذ مصر في السودان من عراقيل الامتيازات. نعم، إنه أضاف إلى هذا الغرض غرضًا آخر جعله في المقام الأول وهو ضمانة الإدارة الحسنة لأهالي السودان، ولكن هذا لا ينقض بوجه من الوجوه مذهبنا.

هل النظام الأساسي النافذ في السودان بمقتضى اتفاق سنة ١٨٩٩ أو بعبارة أخرى هل الحكم الإنكليزي المصري المزدوج هناك يجعل لمصلحة السودان حقًّا مكتسبًا تجاه مصر؟! إنهم إذا قالوا ذلك كان جوابنا القاطع: ليس للسودان شخصية ممتازة عن مصر، وإذا كانت له شخصية ممتازة فمصر لم تتعاقد مع السودان، ولكن ما الفائدة من الوقوف أمام هذه الافتراضات؟ فلنُجَابِهِ الحقيقة وجهًا لوجه، والحقيقة هي — كما قلنا — أنه ليست للسودان شخصية خارجة أو منفصلة عن شخصية مصر، ومن هنا تنجم الاستحالة القانونية على السودان بأن يكتسب حقوقًا تجاه مصر.

لقد قلنا ونقرر هنا القول: إن اتفاق ١٨٩٩ لا يربط مصر من الوجهة القانونية، ولكن إذا وصلنا إلى العمل نجد أن مفاوضينا سيصطدمون بمقاومة شديدة من جانب إنكلترا العاضَّة بكل نواجذها على ذلك الاتفاق، وهذه الأموال الإنكليزية قد استُخْدِمَتْ أو هي على وشك الاستخدام في السودان، ومجال العمل الواسع في السودان — وهو بلاد خصبة لم تستثمر حتى الآن — ليتجلى أمام أصحاب الأعمال من الإنكليز، وخطأ الرأي العام الإنكليزي الذي يعتبر نصف السودان إن لم نقل السودان كله ملكًا إنكليزيًّا، واهتمام الإنكليز بإنجاز الخط الحديدي الممتد من رأس الرجاء الصالح.

هذه كلها عوامل تحمل الحكومة الإنكليزية على أن تتفانى بالتمسُّك بذلك الاتفاق. فإذا فرضنا أنَّا توصلنا غدًا إلى الاتفاق المرضي مع الإنكليز على التحفظات التي وردت في «التصريح لمصر» ولم يَبْقَ من وجهٍ للخِلَافِ إلا على السودان هل يقطع مفاوضونا المفاوضات من أجل ذلك؟؟

إنَّ الجواب على هذا السؤال الخطير في مثل هذه الحالة يكون من حق البلاد، وبعبارة أخرى أنه يكون من شأن نواب الأمة الذين تستشيرهم الحكومة، ولكن إذا هم عقدوا العزيمة على أن يقبلوا في المسألة هوادة فلا يجوز بحالٍ من الأحوال أن يكون مآل الحل جعل مركز مصر أدنى من المركز الذي يكون لها حسب اقتراحٍ خطر لنا، وكان في العزم نشرُه لولا حب التفادي عن ذلك الآن، ولولا تساؤلنا: أليس الأفضل سياسيًّا الاحتفاظ بتبليغ هذا الاقتراح إلى المصريين وحدهم لا سيما ممثلي الأمة ونوابها وللحكومة وللمفاوضين في المستقبل.

وبمناسبة ذكر التحفظات الإنكليزية غير مسألة السودان نذكر عرضًا أن لجنة الدستور الفرعية قد أزالت كل سبب كان يدعو إلى وجود واحد من تلك التحفُّظات وهو تحفظ يمس مساسًا خطيرًا بالاستقلال؛ لأن أقل ما يرمي إليه تثبيت سيادة إنجلترا على مصر — ونعني بذلك: التحفظ الخاص بحماية الأقليات.

فإن تلك اللجنة — إذا صَحَّ ما لدينا من المعلومات — قد قررت أن تدمج في الدستور المصري المبادئ المسماة: «بضمانات الأقليات» وأعلنت عدم إمكان المساس بتلك المبادئ. فحماية الأقليات تكون مضمونة في نظام البلاد الأساسي، والغرض الذي يرمي إليه التحفظ المحكي عنه قد أصبح محقَّقًا.

وسيكون المفوضون المصريون والحالة هذه في أحسن مركز لإبعاد هذا التحفظ الممقوت إبعادًا تامًّا لا سيما وأنه يعد مطلبًا جديدًا من جانب الإنجليز؛ لأننا نعرف من مصدر موثوق به أنه لم يصدر مطلقًا من المفوضين الإنجليز في خلال مفاوضات الصيف الماضي ما يؤخذ منه طلب اعتراف مصر لإنجلترا بحق حماية الأقليات بمصر» ا.ﻫ.

هوامش

(١) نشر دولته هذين الفصلين في ١٧ مايو ١٩٢٢ عندما نصت لجنة الدستور في المشروع الذي كلفت بوضعه بأن ملك مصر هو ملك مصر والسودان.
(٢) راجع الوقائع المصرية ١٨٩٤ الملحق ٦٥٥ صفحة ٨٥٥.
(٣) راجع الكتاب الأزرق ٥ أكتوبر سنة ١٨٩٨.
(٤) راجع الكتاب الأزرق ٥ أكتوبر سنة ١٨٩٨.
(٥) راجع التيمس ١٢ و٢٤ أكتوبر سنة ١٨٩٨.
(٦) راجع التيمس ١٥ نوفمبر سنة ١٨٩٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤