مشروع ري الجزيرة

ليس لدى المصالح المصرية ولا في دواوين الدولة مستندات يرجع إليها في مسألة ري الجزيرة وقروض السودان التي بلغت حتى الآن ١٣ مليون جنيه ونصف مليون.

كأنما اتفاق ١٨٩٩ الذي يتمسك به الإنكليز، وقد أخذ من مصر كرهًا وقوة، بات هو حبرًا على ورق، أو دخل في ذمة التاريخ، فلا مندوحة للباحث المصري من الرجوع إلى الكتب والمجلات والصحف الإنكليزية؛ ليعرف ما هو مشروع التعمير في السودان وما هي شروطه وما هي الأغراض التي يرمون إليها من ورائه؟

وقد حدث مرة في مجلس نواب إنكلترا سنة ١٩٢٠ أن أحد النواب سأل وكيل الخارجية إبان البحث بقرض سبعة ملايين جنيه للسودان: «هل اطلع المصريون على شروط هذا القرض؟» فأجابه: يكفي أن يطلعوا على المناقشة التي تجري الآن هنا ليقفوا على الحقيقة. ثم أرسلوا بعد هذا السؤال نسخة من المناقشة إلى الحكومة المصرية مطبوعة بالإنكليزية.

لذلك نرانا مضطرين إلى اختيار أخبار التعمير في السودان عن جرائدهم ومناقشات مجلسهم.

ففي مجلة «موني ماركت» و«إنفستورز كرونيكل» (مارس ١٩٢٤) ما محصله: «شغلت مسألة إيجاد مناطق واسعة لزراعة القطن بال كثير من رجال السياسة وزعماء صناعة المنسوجات في إنكلترا أعوامًا عديدة، وتتوقف صناعة الغزل في لانكشير على وجود كميات كافية من القطن الرخيص، أما القطن الغالي فيقيد التجارة ويمنع تقدم المشروعات ويجعل الأعمال التجارية مقتصرة على سياسة «من اليد إلى الفم». على أن القطن الرخيص يجب أن يتوقف قبل كل شيء على قلة نفقات الإنتاج، وهذا يعلل ما تراه بعض الدوائر، وهو أنه يتعذر الحصول على القطن رخيصًا حيث يُستخدَم عمال من البيض بصرف النظر عن المجهودات التي تبذل الآن للحصول على كميات كبيرة من القطن؛ إذ يقولون: إن في البرازيل والمكسيك ما يبعث على الأمل بوقوع تطورات عظيمة في زراعة القطن خلال الأعوام القليلة المقبلة.

على أن أوسع خطوة قطعت في الوقت الحاضر في سبيل زيادة محصول القطن زيادة عظيمة هي الخطوة التي قطعتها نقابة السودان الزراعية. فقد تألَّفت هذه النقابة سنة ١٩٠٤ لتقوم بأعمال تجارية عامة تتعلق بالأراضي علاوة على زراعة القطن وإنمائه، وفي السنة الماضية تحولت المنطقة الأصلية التي رخص للنقابة بزراعتها في البداية، إلى ملكية النقابة الحرة، وهذه المنطقة تبلغ مساحتها عشرة آلاف فدان، وموقعها بجوار الزيداب شمالي الخرطوم.

وقد عقد اتفاق مدته عشر سنوات تأخذ النقابة بموجبه ٢٥ في المئة من صافي أرباح مشروع الجزيرة العظيم، وتستولي حكومة السودان على ٤٥ في المئة منه، والباقي للفلاحين الوطنيين الذين يقومون بزراعة الأراضي، وهذه الأنصبة يجوز تعديلها في نهاية العشر سنوات.

عقدت حكومة السودان قروضًا تبلغ نحو عشرة ملايين من الجنيهات بضمان الحكومة البريطانية للإنفاق على بناء السد الكبير وحفر الترع الكبيرة اللازمة لري أراضي هذا السهل العظيم التي ستزرع قطنًا، والمنتظر أن ينتهي العمل في شهر يوليو سنة ١٩٢٥، وإذ ذاك يصير من السهل الحصول على الماء اللازم لري الجزء الأكبر على الأقل من الثلاثمائة ألف فدان التي يراد زرعها في البداية؛ إذ تبلغ مساحة الأراضي التي يمكن زرعها في هذا السهل نحو ثلاثة ملايين من الأفدنة.

وتشتغل النقابة ريثما يتم بناء السد في القيام بالأعمال التمهيدية كإنشاء الطلمبات في بضع محطات، وقد جاءت أعمالها هذه بنتائج مالية مرضية، ولو أن مجموع المنطقة التي زرعت في الجزيرة في العام الماضي لم يتجاوز نحو عشرة آلاف فدان.

ولما كانت النقابة تملك جميع الأسهم الممتازة (وعددها ٢٥٠ ألف سهم) وتملك ٤٧٥ ألف سهم من الأسهم العادية وعددها مليون سهم فإنها تستولي فعلًا على نصف أرباح شركة القطن في كسلا.

والمفهوم أن الأعمال جارية الآن بسرعة لإنشاء الخط الحديدي في منطقة كسلا وهو العمل الذي يُعَدُّ من الأعمال الأساسية اللازمة لترقية زراعة القطن في تلك المنطقة.

حصلت النقابة في السنة الماضية (١٩٢٣) على نحو ١٢٣٠٠ بالة قطن من زرع ١٤٦٨٦ فدانًا في مناطق مختلفة، وقد أخذت النقابة تشتهر في الأسواق المالية كشركة تدفع أرباحًا وافرة، والواقع أن ما دفعته من الأرباح بلغ ٢٥ في المئة في سنتي ١٩١٨ و١٩١٩، و٣٥ في المئة في سنة ١٩٢٠ (وقد زاد رأس مالها إذ ذاك إلى ثلاثمائة ألف جنيه) و١٥ في المئة في سنة ١٩٢١، و٣٥ في المئة في سنة ١٩٢٢، و في المئة في سنة ١٩٢٣ (ورأس مالها ٤٥٠ ألف جنيه كما هو الآن) أما رأس مالها المصرَّح به فهو ٧٥٠ ألف جنيه.

وقد تم إنشاء المضخَّات الجديدة في وادي النو، وسيزرع في هذه المنطقة عشرة آلاف فدان أخرى في سنة ١٩٢٣–٢٤ فتتضاعف بذلك مساحة المنطقة التي تزرع قطنًا في الجزيرة بالنسبة إلى العام الماضي.

وتكلم رئيس النقابة في اجتماعها السنوي الذي عقدته في شهر نوفمبر الماضي عن التقدم المرضي الذي تَمَّ فيما يتعلق بالسد ومديرية كسلا وانتهاء محطة وادي النو، ومن المسائل الهامة التي ذكرها توفُّر العمال الأكْفَاء، ولدى الشركة أموال وأمانات مودَعَة تقدر بنحو ثمانمائة ألف جنيه، وستنفق في العامين التاليين أموالًا طائلة من رأس المال؛ ولذا ينتظر صدور أسهم جديدة بشروط سخية كما حدث في العام الماضي، وهذا يعلل السبب في ارتفاع سعر السهم الذي قيمته جنيه واحد إلى سبعة جنيهات.

لا يزال المشروع في عهد الطفولة، وقد تمضي أعوام عديدة قبل أن تستطيع نقابة السودان الزراعية أن تقول إنها لا تستطيع إيجاد أعمال لاستثمار رءوس الأموال التي ستزاد تبعًا لحاجة الإمبراطورية الآن وحاجتها الشديدة في المستقبل لزراعة القطن داخل دائرتها، فقد بلغ محصول النقابة من القطن في العام الماضي ١٢٣٠٠ بالة، وما تحتاج إليه مصانع لانكشير من القطن سنويًّا هو ٣٥٠٠٠٠٠ بالة.

•••

وفي الشهر ذاته بسط مراسل التيمس الكلام عن مشروع ري السودان بعنوان: «مليون فدان لزراعة القطن» فقال:

خطر مشروع ري أراضي الجزيرة بالسودان ببال السر وليم جارستن في سنة ١٨٩٩، وهذا المشروع يتعلق بمنطقة مساحتها ثلاثمائة ألف فدان واقعة بين خطي العرض الشمالي ١٤ و١٥، وتمتد على طول النيل الأزرق. وينتظر بعد إتمام المشروعات الإضافية في المستقبل أن تتسع هذه المنطقة حتى تبلغ مساحتها مليون فدان يمكن ريُّها وزرعها.

لم يَفُتِ الذين وضعوا مشروع السد أن يحسبوا حساب هذا التوسع في المشروع فيما بعد، بحيث يمكن سد الحاجة متى حان الوقت؛ فإن الخزان الذي أُعِدَّ لحجز المياه بإقامة هذا السد يمتد في الواقع إلى بلدة «سنجا» أي إلى المسافة ٥٨ ميلًا على طول النهر، وسيحجز خلفه نحو ٦٣٦ مليون متر مكعب من الماء، وهذا المقدار سيكون كافيًا لري المنطقة الكبرى.

وهناك نقطة هامة وهي أن الماء اللازم للمشروع الحالي زائد عمَّا تحتاج إليه مصر، ومتى حان الوقت لتوسيع نطاق المنطقة الزراعية أنشئ سد آخر على المنابع العليا للنيل الأزرق، وبهذه الوسيلة تستخدم أرض الجزيرة المياه التي كانت تصل إلى البحر وتذهب عبثًا (كذا).

أما نفقات المشروع فتسدد من القروض التي عقدت في إنكلترا بضمان الحكومة البريطانية في سني ١٩١٣–١٤ و١٩١٩ و١٩٢٠، ومجموع هذه القروض ١٣٥٠٠٠٠٠ جنيه، ويتضمن المشروع إنشاء سد في مكوار وترعة رئيسية طولها ٦٢ ميلًا، وعرض الخمسة وثلاثين ميلًا الأولى منها — أي إلى النقطة التي يخرج منها الفرع الأول — نحو ٨٧ قدمًا، ثم حفر ترع صغيرة طولها ٥٣٥ ميلًا، وترع إضافية طولها ٣١٢٥ ميلًا، ومجارٍ وسط الحقول طولها ٥٦٢٥ ميلًا.

ويبلغ مجموع الأتربة التي حفرت من الترع الصغرى والترع الإضافية والمجاري الأخرى (عدا الترعة الرئيسية) ثمانية أضعاف حجم هرم الجيزة الأكبر تقريبًا، وربما يجد القارئ صورة أوضح تبين له مقدار الحفر من الحقيقة الواقعة، وهي أنه صنع من الأتربة المحفورة طوب فإنه يكفي لبناء سور ارتفاعه خمس أقدام وسمكه قدم، حول الأرض عند خط الاستواء، وتتولى شركة بكيروس الأميركية حفر الترع الكبرى، وهي تشتغل ليلًا ونهارًا بآلاتها الضخمة لإتمام العمل قبل الميعاد المحدد في عقد الاتفاق.

وتتولى نقابة السودان الزراعية إنشاء المجاري في المزارع وإعداد الأرض وتهيئتها للزراعة، وقد اكتسبت هذه الشركة خبرة واسعة في زراعة القطن في هذه المنطقة. أما أعمال البناء الكبرى فقد عهد بها إلى شركة الخواجات بيرسون وولده الذين تعهدوا بأن يسيروا بالأعمال سيرًا سريعًا يوصل للحصول على محصول القطن في سنة ١٩٢٥.

وتقترح النقابة أن تقسم الثلاثمائة ألف فدان إلى عشرين منطقة مساحة كل منها خمسة عشر ألف فدان يدير كل جزء منها مفتش كبير، وستتولى النقابة أيضًا الإشراف على الزراعة وتنشئ مصانع الحلج اللازمة.

وتدرك ضخامة المشروع الذي تقوم به النقابة الزراعية في السودان من معرفة المنطقة الجديدة لزراعة القطن فإنها تعادل سبعة أضعاف مساحة أكبر منطقة تزرع قطنًا في أميركا وتملكها شركة واحدة.

أما السد فبناء صُلْبٌ من الجرانيت (حجر الصوان) المستخرج من المحاجر المجاورة لتلال سيجادة، وهو مؤسَّس فوق منطقة من الصخر اللامع، بارز في النهر عند هذه البقعة.

ويقدرون ما سيستخدم في بناء هذا السد بنحو ١٥٤٠٨٠٠٠ قدم مكعب من الحجر ومائه ألف طن من أسمنت پورتلند، ويبلغ طول السد ميلين تقريبًا ومتوسط ارتفاعه تسعين قدمًا، وسيكون به ثمانون عينًا كبيرة ارتفاع الواحد منها ٢٧ قدمًا وعرضها سبع أقدام، وأربع عشرة بوابة لضبط مياه الترع ارتفاع الواحدة منها ١٧ قدمًا وعرضها عشر أقدام أو أزيد بقليل، و١١٢ مصرفًا، وسيستخدم نحو ٣٣٠٠ طن من المصنوعات الحديدية في العيون والآلات الخاصة بها تقدمها شركة رانسومز ورابير الإنكليزية في أبسوتش.

ويصنع الأسمنت هناك من المواد المتوافرة كثيرًا في الأراضي المجاورة، وقد أنشئ معمل من أحدث طراز مجهز بأفران (قماين) وطواحين دائمة العمل تصنع يوميًّا نحو مئة طن من الأسمنت لا يقل جودة عن الأسمنت المصنوع في إنكلترا.

وقد ساعدت جزيرة صغيرة ناشئة عن نتوء صخري في النهر على بناء السد مساعدة مادية عظيمة؛ فقد سهلت تحويل مجرى الماء، وهو عمل لا مندوحة عنه لوضع أساس السد في النهر، وقد وضعت الأسس في الجهة الغربية، وحول مجرى الماء نحوها. ثم أقيمت سدود موقوتة من الطين لتصل طرف الجزيرة الشمالي بطرفها الجنوبي بالضفة الشرقية، وبدأ السد الدائم يرتفع في المجرى الرئيسي، وقد بانت الأجزاء المؤسَّسة من السد على أرض جافة في حين تم إنشاء الجزء الواقع على الضفة الغربية.

ولا ريب في أن إتمام مشروع ري أراضي الجزيرة في السودان لا يكون حجر الزاوية في سياسة إنكلترا الإمبراطورية فقط؛ بل يرجى أن يكون بداية عهد من الرخاء التجاري في بلاد استقرَّ كثير من البريطانيين فيها لإعلاء شأن حضارتها» ا.ﻫ.

ذلك هو مشروع ري الجزيرة، وذلك ما يرمون إليه من وراء إنجازه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤