في بحر الغزال

زيارات اللورد اللنبي للسودان

في كل عام يزور معتمد إنكلترا السودان، وكانت زيارة اللورد اللنبي السودان في عام ١٩٢٤ غير زيارته له في العام السابق، ولكنها لا تقل عنها أهمية، ولا يسع المصري إلا أن يرقبها ويتدبر نتائجها؛ ففي العام الماضي كان الغرض من تلك الزيارة جمع الذين أطلقوا عليهم اسم «أعيان السودان وأشرافه وأرباب العشائر والقبائل» ليُلقوا على مسامعهم بفم بعضهم ما يريدون هم أن يكون رأي السودانيين بأنفسهم وبشقيقتهم مصر، وفي هذا العام كان الغرض التوغُّل في أعالي السودان حتى الحدود التي ضربوها له على ما يهوون ويريدون كالحدود التي ضربوها لمصر مع السودان. فحال السودان مع منابع النيل الآن كحال مصر مع النيل ذاته. فإذا نحن أوجسنا خيفة من كل يد تسيطر على النيل في السودان فإنه يحق للسودانيين أيضًا أن يوجسوا خيفة من كل يد تسيطر على منابع النيل، فنحن والسودانيون في ذلك سواء، ونحن وهم تحت سيطرة القابضين على منابع النيل؛ لأن هذه المنابع التي كانت لنا ولهم معًا صارت اليوم لا لنا ولا لهم؛ بل للإنكليز يتصرفون بها على هواهم. إن الإنكليز يسيرون هنا وفي الهند على وتيرة واحدة فهناك يقبضون على عنق البلاد بالبوليس والري، وهنا أيضًا يقبضون على عنق مصر والسودان بالبوليس والري.

•••

كل مصري يعرف أن النيل يؤلَّف من نهرين؛ النيل الأبيض والنيل الأزرق، فالنيل الأبيض: يجري من بحيرة فيكتوريا نيانزا عند خط الاستواء، ثم يجري على مسافة ٢٩٠ ميلًا فيصب في بحيرة ألبرت نيانزا الواقعة شمالي الأولى، وكلتا البحيرتين كانت في قبضة مصر على عهد إسماعيل باشا، وأطلق عليهما اسمان إنكليزيان؛ لأن إسماعيل باشا استعمل على تلك المنطقة صموئيل باكر الإنكليزي، فأوحت إليه حكومتة بهذه التسمية؛ لأنها كانت ترمي بنظرها إلى تلك البلاد وإلى مصر معًا، فأرادت أن يسجل بالتاريخ، وأن تعرف الأمة الإنكليزية أن البحيرتين إنكليزيتان.

•••

وبعد أن يخرج النيل الأبيض من بحيرة ألبرت نيانزا يجري في خط الاستواء وهو الإقليم المصري الذي كان يتولى الحكم فيه أمين باشا حتى سنة ١٨٨٩ ولكنهم سلبوه سلبًا، وبعد أن يجري على مسافة ٦٧٠ ميلًا يلتقي ببحر الغزال، وهو نهر كبير، ويتغير بعد ذلك الاسم، ثم يلتقي بالنيل الأزرق عند الخرطوم بعد أن يجري من منبعه ١٥٣٠ ميلًا.

أما النيل الأزرق: فيخرج من بحيرة تسانا في بلاد الحبشة، ويجري شمالًا إلى الغرب حتى يدخل سنار، وتصب فيه أنهر أخرى، ويصل إلى الخرطوم بعد جريه ٨٤٦ ميلًا، وكلنا يعرف مساعي الإنكليز في الحبشة؛ لتكون بحيرة تسانا في قبضتهم كما هي الآن بحيرة فيكتوريا نيانزا، وكما يطمحون إلى بحيرة رودلف.

ذانك هما النهران اللذان تعيش بهما مصر والسودان معًا، وتلك سياسة الإنكليز في أن تكون في يدهم حياة مصر والسودان بالقبض على منابع النيل.

وإذا كان اللورد اللنبي قد أتم مهمَّته في العام الماضي مع مشائخ القبائل، فإنا لا ننسى أقوال صحف لندن وردها على صحف مصر «بأن هناك غير القبائل التي يدَّعي المصريون قرابتها ولُحمة النسب بها ووحدة اللغة والدين معها قبائل السود وهي أكثر عددًا وأوسع بلادًا ولا تربطها بالمصريين أقل رابطة؟» فهل السلطان «جومص كيانجو» الذي أهداه اللورد اللنبي المدالية «التي ينعم بها على رؤساء القبائل ووجوه القوم في أفريقيا» ومشائخ العشائر «الذي أنعم عليهم الحاكم العام بالهدايا» — كما قالت صحف الإنكليز — يمثلون السود؟ فيكون اللورد اللنبي قد أتم الآن مهمته في سنتين: سنة مع رؤساء العشائر والقبائل العربية المسلمة، وسنة مع رؤساء القبائل والعشائر السوداء غير المسلمة؟

•••

أما مديرية بحر الغزال فإنه يفصلها عن دارفور وكردوفان شمالًا بحر العرب وبحر الغزال، ويفصلها عن محافظة فاشودة بحر الجبل، وتفصلها الجبال غربًا عن الكونغو الفرنساوية، وتتصل جنوبًا بالكنغو البلجيكية، وجميع سكان بحر الغزال من السود، وهم يتعاملون بالخرز والحديد.

ثارت هذه المديرية بعد قيام المهدي، وكان لبتن بك مديرًا لها، ومحمود المحلاوي مفتشًا عامًّا لمنع تجارة الرقيق فتمكن محمود من إخماد الثورة، ومن إرسال المدد إلى أمين باشا في خط الاستواء، وانتهى الأمر بأن سلم لبتن لعامل المهدي. أما أمين باشا فثبت في خط الاستواء، وله حديث عجيب يدل على نيات الإنكليز منذ ذاك الحين.

أخلى الدراويش بحر الغزال سنة ١٨٨٦، وفي ١٤ يوليو سنة ١٨٩٤ عقد الفرنساويون اتفاقًا مع حكومة الكونغو على أن تكون بلاد بحر الغزال في دائرة نفوذهم، وأنشأوا مواقع عسكرية في ديم الزبير وبحر العرب وأرمبيك وإياك ومشروع الريك، ثم تقدموا إلى فاشودة فاحتلوها إلى أن اتفقوا مع الإنكليز على الخروج منها ومن بحر الغزال في سنة ١٨٩٨، وفي سنة ١٩٠٠ أرسل السردار قوة احتلت بحر الغزال، وجعلت واو عاصمة لتلك البلاد.

•••

أما خط الاستواء فتملكه المصريون سنة ١٨٧٢ وطلب ولي عهد إنكلترا من الخديوي إسماعيل أن يكون غوردون حاكمًا لخط الاستواء فعيَّنه من سنة ٧٤ إلى ٧٦ ثم تولَّاها أمين باشا، ولكن الإنكليز الذين أكرهوا حكومة مصر على الجلاء عن السودان أَبَوْا أن تظل الجرثومة المصرية في خط الاستواء فملأوا الدنيا صياحًا وعويلًا لمصاب «أمين باشا» وأخذوا يستصرخون الإنسانية لإنقاذه حينما كان أمين باشا بكل راحة وسكون وأمان مع الجيش المصري والعمال والموظفين. على أن الإنكليز الذين أوفدوا ستانلي «لإنقاذ» أمين باشا سنة ٨٩ كلفوا حكومة مصر أن تدفع له ١٢ ألف جنيه، وأن تصحبه بكتاب إلى أمين باشا ليغادر تلك البلاد؛ لأنه رفض مغادرتها بغير أمر الخديوي، ولما عاد أمين باشا إلى زنجبار مع ستانلي أبى فريق من الجيش المصري إخلاء تلك البلاد، وظل فضل المولى مع ذلك الفريق في واد لاي، وفي سنة ٩٢ أدخل البلجيك فضل المولى وعساكره في خدمتهم، وقتل الدراويش فضل المولى في تلك السنة.

•••

والآن اسمع قصة أمين باشا لتدرك سرَّ السياسة الإنكليزية، أي تلك السياسة التي لا يزالون يعملون لتحقيقها حتى الآن، والتي نعد سفر اللورد اللنبي إلى واو شطرًا منها أو تتمة لها.

ألف الإنكليز شركة سموها الشركة الأفريقية على مثال شركة الهند الشرقية التي أوصلتهم إلى تملُّك الهند، وجعلوا غرضها تجاريًّا كتلك، وهي مثلها سياسية كلفت بتمهيد الطريق لتأليف الإمبراطورية الأفريقية فلما أخذت هذه الشركة بالعمل أيقنت أن بقاء أمين باشا حاكمًا مصريًّا على خط الاستواء يحول دون مرماها فأطلقوا عليه لقب «سجين خط الاستواء» بعد إكراه مصر على إخلاء السودان، وأرسلوا إليه ستانلي فلما سلمه أمر الخديوي بالعودة عاد معه إلى زنجبار، وهناك كشف له القنصل الألماني عن وجه الحقيقة فأبى المجيء إلى مصر، وعزم على العودة إلى وادلاي مع فريق ممَّن أتوا معه من هناك، ودخل في المسألة عامل جديد وهو السياسة الألمانية التي طلبت من أمين باشا وهو من أصل ألماني أن يكون في عودته تحت ظل علمهم، وحملت صحف الألمان على الإنكليز، واتهمتهم بالخيانة والغدر، فرَدَّ عليهم الإنكليز بأشد من ذلك، وأظهروا عجز أمين باشا عن العودة؛ لأن الشركة الأفريقية رفعت العلم الإنكليزي على خط الاستواء بعد خروج المصريين، واضطرار فضل المولى إلى خدمة البلجيكيين، وحدَّث ستانلي أحد الكتاب الألمان فقال له: «إني لما وصلت إلى أمين باشا خيَّرته بين ثلاثة أمور: إما البقاء في ودالاي تحت السلطة الإنجليزية والعلم الإنكليزي براتب ١٥٠٠ جنيه في السنة وإعانة ١٢ ألف جنيه تدفع له حالًا — وهو المبلغ الذي أخذه ستانلي من خزانة الحكومة المصرية — وإما أن يرحل عن وادلاي إلى جهة أخرى لنرفع على خط الاستواء العلم الإنجليزي، وإما أن يرجع معي إلى القاهرة ويترك تلك البلاد وشأنها» فرد عليه أمين باشا بأن ستانلي عرض عليَّ أن أترك منصبي في خدمة الحكومة المصرية فرفضت، وعرض عليَّ أن أجمع له جيشًا من السود يتولى هو قيادته ثم نذهب بالجيش لأوغندا فنجعلها مركزًا ثم نرجع إلى وادلاي باسم الشركة الأفريقية لا باسم الحكومة المصرية فرفضت. فهددني بتجريدي من قوتي وسلاحي وذخيرتي فاضطررت أن أرافقه.

أما ستانلي الذي أكسب الإنكليز منابع النيل في خط الاستواء فإنه رفع إلى مقام الأشراف، ورسم الخطة التي ينفذها الإنكليز اليوم فقال:

الآن وقد وضعت الشركة الأفريقية يدها على خط الاستواء، وصارت منابع النيل في قبضتنا بعدما أكرهنا المصريين على إخلاء السودان، وبات باستطاعتنا أن نفتح السودان بمد خط حديدي بين البحر الأحمر والنيل لا يكون طوله أكثر من ٣٠٠ كيلو متر، ثم نسير من بربر إلى الدرجة الخمسين طولًا فنأخذ الأبيض وسنار، ثم نصعد في النيل الذي يكون قد صار ملكنا إلى غاندوكرو، وبذلك يكون النهر لنا على مسافة ١٥٠٠ ميل، ونصل إلى البحيرات التي هي ملكنا، والتي منها ينبع النيل؛ فيصير بذلك السودان ثم مصر مستعمرات إنكليزية.

ولا شك بأن الألمان كانوا يزاحمون الإنكليز بالمناكب في تلك الجهات، ولكن انكسارهم بالحرب أوقع مستعمرتهم في قبضة الإنكليز فلم يَبْقَ لهم مزاحم هناك ولا عقبة في طريق سكة حديد الكاپ. على أن ذلك كله تم لهم على حساب مصر وبأموال مصر وعلى أيدي المصريين الذين يخادعونهم عن أنفسهم حتى الساعة بكلمة: «ضمانة مياه النيل» وهي ضمانة لا قيمة لها كما مَرَّ بالقارئ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤