التعليمات لغوردون

وَكَّلَتْ حكومة إنكلترا إلى غوردون١ إخلاء السودان دون استشارة الحكومة المصرية، ونشرت بلاغًا قالت فيه: «إن حكومة جلالة الملكة سألت غوردون: هل هو مستعد لأن يذهب إلى الخرطوم ليقيم في السودان حكومة وطنية سودانية، ويبذل جهده لإعانة الحاميات المصرية الموجودة هناك؟ فسأل الجنرال: هل تناط به هذه المهمة باسم جلالة الملكة، أم باسم الخديوي؟ وبما أنه ضابط عظيم من جيش جلالة الملكة فهو ينفذ الأوامر التي يكون له شرف تلقيها من جلالتها، فهو لا يرضى بحال من الأحوال أن يذهب إلى السودان كممثل للخديوي، فالوزراء أجابوه بأنه سيكون بالسودان مندوب الحكومة البريطانية وليس له أقل شأن مع الخديوي، ولكي يكون ذلك أكثر وضوحًا فهو يسافر إلى الخرطوم بطريق السويس إلى سواكن ويقابله في السويس السير بارنغ ويتفق معه على الجلاء وتسكين السودان.»
ذلك هو البلاغ الرسمي، أما التعليمات السرية التي تلقاها فإنها تضمنت أن هذا العمل هو البدء بتنفيذ برنامج اللورد دوفرين، وهذا البرنامج هو:
  • (١)

    إخلاء مصر للسودان.

  • (٢)

    جلاء الجنود والموظفين المصريين.

  • (٣)

    استعادة السودان لمصلحة إنكلترا وحدها.

ولما وصل غوردون إلى بورسعيد تحول عن عزمه وحضر إلى القاهرة وأخذ أمرًا من الخديوي بإخلاء السودان.

كان هَمُّ غوردون قبل وصوله إلى الخرطوم أن يعلن مقاصده فأرسل من أسيوط إلى حسين باشا خليفة مدير بربر تلغرافًا يأمره بأن يبلغ عُمَدَ البلاد وأعيانها أنه سُمِّيَ واليًا على السودان، وأنه عند وصوله سيعزل جميع الموظفين الترك والمصريين، ويولِّي حكامًا من أهل البلاد؛ ليعيد الحكم إلى ما كان عليه قبل الفتح، وأنه أعفى أهل السودان من ضرائب ١٨٨٣ وأباح تجارة الرقيق.

ولما وصل إلى كورسكو أرسل كتابًا إلى المهدي بأنه عيَّنه سلطانًا على كردوفان ودارفور، وعندما وصل إلي بربر خطب بالأهالي بأنه جاء ليُخْرِجَ الجنود المصرية من السودان ويعيد الحكم إلى السودانيين أنفسهم، ثم عين مجلس شورى لحكم تلك الجهة من السودانيين وفتح الطريق إلى محمد أحمد وكان مُقْفَلًا فأخذ الناس يُهْرَعُون إليه بعد منشور غوردون ويزيدون قوته إمَّا خوفًا منه وإمِّا حبًّا به.

ولما وصل إلى الخرطوم فعل الفعل ذاته، ثم زاد على ذلك أنه جمع دفاتر المالية وأحرقها أمام الجمهور؛ ليزيد في ثقة السودانيين، وفي إضعاف قلوب المصريين.

ثم أخرج العساكر المصرية من الخرطوم، وألَّف مجلسًا من السودانيين لحكم البلاد، وبعد ذلك أرسل ستيوارت باشا وكيله ليرى كيف كان وقع عمله في البلاد فوجد أن الثورة عامة وليس لها رأس، وأن المهدي لا يريد مخاطبة الإنكليز والاتفاق معهم كما كان يأمل حين نادى به سلطانًا على دارفور وكردوفان فأخذ يبحث عن رجل قوي يُوَلِّيهِ الحكم ويتفق معه، فطلب الزبير باشا من مصر ووعده بمنحه رتبة الفريق والنيشان العثماني، وراتبًا سنويًّا قدره ٦٠٠٠ جنيه، وأن تعطيه الحكومة المصرية كل سنة مليونين ونصف جنيه لمدة سنتين، وأن تترك له سلاحها وذخائرها، وأن يكون له جمرك سواكن فلم يقبل الزبير، ولم يسلم الإنكليز مخافة أن يكون كالمهدي أو ينضم إليه، فقرروا ترك الفوضى تأكل السودان إلى أن يستعيدوه، ولكن مركز غوردون تَحَرَّجَ، ولم يستطع الخروج من السودان فذهب ضحية السياسة مع من ذهبوا مع الإمبراطورية المصرية السودانية التي هدموها.

ولما عثروا على مذكرات غوردون وأعادوها إلى أهله نزعوا منها التعليمات التي تفضح السياسة، فطبعت تلك المذكرات وفيها خمس صحائف بيضاء.

حاولت الحكومة الإنكليزية بعد حصار الخرطوم إنقاذ غوردون فألفت حملة بقيادة اللورد ولسلي، وقالت في الأوامر الصادرة إليه: «إن الغرض إنقاذ غوردون وستيوارت، فمتى تم ذلك لا يجوز القيام بأعمال أخرى» فاستخدم ولسلي الجيش المصري و٩ آلاف من الجيش الإنكليزي و٩٠٠ زورق نيلي، وقامت الحملة في ٢٧ سبتمبر ١٨٨٤ وسارت متقدِّمة، ولكن الخرطوم سقطت في ٢٦ يناير ١٨٨٥، ووصل السير تشارلس ويلسون إليها بوابورين عند ظهر ٢٨ يناير، ولما عرف الخبر عاد راجعًا إلى اللورد ولسلي الذي أقلع بحملته إلى مصر، وهكذا تمَّ جلاء المصريين عن السودان، ولم يَعِشْ محمد أحمد بعد سقوط الخرطوم سوى ٥ شهور فتوفي في ١٤ يونيو ١٨٨٥، وخلفه عبد الله التعايشي الذي استعاد الجيش المصري السودان من يده سنة ١٨٩٨ أي بعد ١٦ عامًا لم ينقطع فيها القتال يومًا واحدًا بين المصريين وثوار السودان على الحدود، وما كان عبد القادر باشا يطلب منهم لإخماد الثورة نصف ما عرضوه على الزبير باشا ولا عُشْرَ معشار ما حمَّلُوا مصر من الأعباء بعد ذلك ليستعيدوه لأنفسهم لا لمصر؛ فقد كانت الوقائع الشديدة بين الجيش المصري وثوار السودان ٢٤ واقعة، وكانت الوقائع لاستعادة السودان ١١ واقعة، والإعانة التي تقدمها مصر للسودان بعد استعادته ٤٦٠ ألف جنيه في السنة ما عدا الجيش والوابورات والموظفين الذين يتناولون رواتبهم من الخزانة المصرية.

ولكن مجلس الشورى يقرر عند دفع الأموال «من حيث إن السودان جزء من مصر لا يُجَزَّأُ فهو يوافق على دفع مبلغ كذا، إلخ.»

هوامش

(١) كان غوردون ضابطًا في الجيش الإنكليزي، شهد حرب القريم، ثم سافر إلى الصين ودخل في جيشها، وفي سنة ٦٥ عاد إلى إنكلترا، وفي سنة ١٨٧٤ طلب ولي عهد إنكلترا من الخديوي إسماعيل باشا أن يعينه مديرًا لخط الاستواء خلفًا لصموئيل باكر فأجاب طلبه. وفي سنة ٧٦ استعفى وعاد إلى إنكلترا تاركًا الكولونيل بروت الذي لم يلبث أن لحق به وصارت الولاية بعدهما لأمين باشا، ولما عزموا على إخلاء السودان عينوا غوردون لهذه المهمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤