الفصل الخامس

السَّبَبُ في وضْع الشعائر، والإيمان بالقصص

السَّبَبُ في وضْع الشعائر، والإيمان بالقصص، لأيِّ سبب، ولأيِّ نَوع من الناس كان ضروريًّا.

***

بَيَّنَّا في الفصل السابق أن القانون الإلهي الذي يُعطي الناس السعادة الحقَّة ويعلمهم الحياة الحقيقية مُشترَك بين الناس جميعًا، بل إنَّنا استنبطناه من الطبيعة الإنسانية، بحيث يجِب علينا أن نعتبِرَه فطريًّا في النفس الإنسانية، وكأنه مَسطور فيها. وعلى العكس من ذلك وضعت الطقوس الدينية، أو على الأقل طقوس العهد القديم للعبرانيين وحدَهم، وتكيَّفَت حسب دولتهم بحيث لم يكن من المُمكن إقامة مُعظم هذه الشعائر إلا بوساطة الجماعة بأسْرِها، لا الأفراد كلٌّ على حِدة. فلا شكَّ إذن أنه لم تكن لها صِلة بالقانون الإلهي، وإنها لا تُسهِم بشيءِ في السعادة والفضيلة، بل تتعلَّق باختيار العبرانيين فحسب أي (طبقًا لِما بيَّنَّاه في الفصل الثالث) بالنعيم الدنيوي للأجساد وبسلامة الدولة١ وحدهما؛ إذ لا تكون لها أيَّة فائدة إلَّا خلال وجود الدولة. وإذن، فإذا كانت هذه الشعائر قد أرجعت في العهد القديم، إلى قانون الله، فما ذلك إلَّا لأنَّها وضعت بفضل الوحي أو صدرَتْ عن مبادئ مُوحى بها. ومع ذلك، فلَمَّا كان الاستدلال مهما بلغَتْ قوَّتُه لا قِيمة له عند اللاهوتِيِّين العاديين، فإنه يَحسُن أن نُبرهِن، عن طريق سُلطة الكتاب، على ما قُلناه الآن.٢ وبعد ذلك سَنُبيِّن، زيادة مِنَّا في الإيضاح، السبب الذي كانت الشعائر من أجله عاملًا على المُحافظة على دولة اليهود والإبقاء عليها، وكيف تَمَّ ذلك. إن أوضَحَ دعوة في سِفر أشعيا هي دعوته للتوحيد بين القانون الإلهي بالمعنى المُطلق لهذه الكلمة والقانون الشامل الذي يكون قاعدة صحيحة للحياة، لا بَين القانون الإلهي والشعائر. ففي الإصحاح الأول، الآية ١٠٣ يدعو النبي أُمَّتَه إلى أن تسمع منه القانون الإلهي ويبدأ باستبعاد كُلِّ أنواع القرابين وكل الأعياد من هذا القانون، ثُم يدعو للقانون نفسه (انظر: ١: ١٦-١٧)،٤ وُيلخِّصه في هذه الوصايا القليلة: تطهير النفس، مُمارسة الفضائل بصفةٍ مُستمرَّة؛ أي القيام بالأفعال الحسنة، الإحسان إلى الفقراء. ونَجِد في المزمور ٤٠، الآيات ٧، ٩ شهادةً لا تقلُّ وضوحًا عن ذلك، إذ يُخاطب كاتب المزمور الله قائلًا: «ذبيحة وتقدِمة لم تَشَأ لكنَّك ثقبْتَ أُذني٥ ولم تطلُب المحرقات ولا ذبائح الخطيئة، لأعمل بمشيئتك يا الله، إني في هذا راغب، وشريعتك في صميم أحشائي.» فهو إذن لا يقصد إلَّا هذا القانون المسطور في الأحشاء وفي النفس، ويَستبعِد منه الطقوس؛ إذ لا تصحُّ الطقوس إلَّا في إطار نظام مُعيَّن، لا بطبيعتها الخاصة، ومن ثَمَّ فهي ليست مسطورة في النفس. وتشهد نصوص كثيرة أخرى في الكتاب على ذلك، ولكن يَكفينا منها النَّصَّان السابقان. وفضلًا عن ذلك، فإن الكتاب ذاته يُقرِّر أن الطقوس لا تؤدِّي إلى السعادة مُطلقًا، بل تتعلَّق فقط بالمَنفعة الدنيوية للدولة، إذ لا يُبشِّر الكتاب من يُقيم هذه الطقوس إلَّا بمزايا مادِّية ولذاتٍ حِسِّية، ويقصُر السعادة الرُّوحية على من يُحافظ على القانون الإلهي الشامل. فالأسفار الخمسة التي تَشيع نِسبتُها إلى موسى لا تُبشِّر — كما ذَكَرْنا من قبل — إلَّا بهذا النعيم الدنيوي، أعني التكريم أو الشهرة والانتصارات والثروات واللَّذَّات وسلامة البدن. وعلى الرغم من أنَّ الأسفار الخمسة تحتوي، بالإضافة إلى هذه الشعائر المفروضة، على كثيرٍ من الوصايا الخلقية، فإنَّ هذه الأخيرة لا تُوجَد فيها بوصفها تعاليم خلقية مُشتركة بين الناس، بل بِوصْفها أوامر تُكيَّف بوجهٍ خاص طبقًا لفهم أُمَّة العبرانيين وحدَها وطبقًا لِمِزاجها الخاص، وتتعلَّق بمنفعة دولتهم فحسْب. فمثلًا لا يُعلِّم موسى اليهود تحريم القتل وتحريم السرقة كما يُعلِّمها الفقيه أو النبي، بل يأمرهم بذلك كما يأمُر المُشرِّع والحاكم، ولا يُثبِتُ تعاليمه بالدليل بل يَقرِن أوامره بالتهديد بعقابٍ قد يُمكن، بل يجِب، أن يَتبايَن، كما أثبتت التجربة تبعًا للمِزاج الخاص بكلِّ أُمَّة. وهكذا فإنه لم يقصد من تحريم الزِّنا إلى المصلحة العامَّة ومنفعة الدولة، ولو كان قد قصد إعطاءنا تعاليم خُلقية لتحقيق اطمئنان النفس والسعادة الحقَّة للأفراد لَما أدان الفعل الخارجي فحسْب، بل لأدان أيضًا مُوافقة النفس عليه كما فعل المسيح الذي لم يُقدِّم إلَّا تعاليم شاملة (انظر: متى، ٥: ٢٨).٦ ولهذا السبب يُبشِّر المسيح بجزاءٍ رُوحي، لا بمكافأة مادية، كما فعل موسى؛ وذلك لأنَّ المسيح، كما قلتُ، لم يُبعث للمحافظة على الدولة ولتشريع القوانين، بل لتعليم القانون الشامل وحدَه. من ذلك نُدرك بسهولة أنَّ المسيح لم ينسخ شريعة موسى مُطلقًا، لأنَّهُ لم يشأ وضع قوانين جديدة للمُجتمع، وكان هَمُّه الوحيد إعطاء تعاليم خُلقية وتمييزها عن قوانين الدولة،٧ وهذا يرجِع بوجهٍ خاصٍّ إلى جهل الفريسيين الذين كانوا يَظنُّون أن تطبيق القواعد القانونية للدولة، أي شريعة موسى، كافٍ ليعيشوا سُعداء، مع أنَّ هذه الشريعة — كما قُلنا من قبل — لم تكُن تهدُف إلا مصلحة الدولة، ولم تكن غايتُها تنوير العبرانيِّين، بل إرغامهم. ولكن لنعُد إلى موضوعنا الأول، ولنذكُر نصوصًا أُخرى من الكتاب لا تُبشِّر مَن يُقيم الشعائر إلَّا بمزايا مادية وتقصُر السعادة على من يُحافظ على القانون الإلهي الشامل وحدَه. لقد كان أشعيا أوضحَ الأنبياء في الدَّعوة لذلك، فبعد أن أدان النِّفاق في الإصحاح ٥٨، وبعد أن أوصى بالحرية وبالإحسان إلى النفس وإلى الجار، أعطى هذه الوعود: «حينئذٍ يتبلَّج كالصُّبح نورُك، وتُزهر عافيتك سريعًا، ويسير بِرُّك أمامكَ ومجدُ الربِّ يجمع شملك.»٨ بعد ذلك يُوصي بالاحتفال بالسبت ويعِدُ من يحرصون المحافظة عليه: «فحينئذٍ يتنعَّم بالرب،٩ وأنا أوطِّنك مَشارف الأرض١٠ وأطعِمُك ميراث يعقوب أبيك لأنَّ فمَ الربِّ قد تكلَّم.» نرى إذن أنَّ النبيَّ يُبشِّر من يُريد أن يكون حرًّا مُحسِنًا بنفسٍ قريرةٍ في جِسمٍ سليم، وبالمجد الإلهي بعد الموت، ولا يُبشِّر جزاء على إقامة الشعائر إلَّا بسلامة الدولة وبالنعيم والرخاء الدنيوي. ولا يُوجَد في المزامير ١٤، ١٥١١ أي ذكرٍ للشعائر، بل للتعاليم الخلقية فقط. وهذا يَرجِع ولا شكَّ إلى أنَّ الموضوع هنا يتعلَّق بالسعادة الرُّوحية وحدَها، وهي الموضوع الوحيد الذي يُعالِجه المُؤلِّف، وإن كان يتحدَّث عنه بالمِثل. ويَجِب بلا شكٍّ أن نفهم في هذا النصِّ الجبال وخيام الله والإقامة في هذه الأماكن على أنها السعادة واطمئنان النفس، لا على أنها جَبَل أورشليم أو مَظلَّة موسى،١٢ فلم يكُن في هذه الأمكنة أي إنسان، وكانت قبيلة لاوي هي التي ترعاها. هذا بالإضافة إلى أنَّ جميع حِكَم سليمان التي ذكرناها في الفصل السابق تُبشِّر بالسعادة الحقَّة مَن يُنمُّون الذهن والحِكمة، لأنَّهم وحدَهم يعرفون خَشية الله ويُبجِّلون العلم. ومِمَّا يُثبت أيضًا أن العبرانيين لم يعودوا مُلزمين، بعد انهيار دولتهم، بإقامة الشعائر، ما أشار إليه إرميا الذي رأى تخريب المدينة وتنبَّأ به، وقال: «بل بهذا فليفتَخِر بأنه معهم، ويُعرِّفني أنَّ الرَّبَّ المُجري الرحمة والحكم والعدل في الأرض لأني بهذه ارتضيتُ بقول الربِّ» (انظر: ٩: ٢٣)، وكأنه يقول إنه بعد تخريب المدينة لم يعُد الله يُطالب اليهود بشيءٍ مُعيَّن، بل أصبح لا يَطلُب منهم إلَّا مُراعاة القانون الطبيعي الذي يخضع له جميع البشر.١٣ ويؤكد العهد الجديد هذه الحقيقة تأكيدًا تامًّا، إذ لا نجِد فيه — كما قُلنا من قبل — إلا تعاليم خُلقية، ولا يَعِد بملكوت السموات إلَّا من يُحافظ على هذه التعاليم، أما الشعائر فقد ترَكَها الحواريون بعد أن بدءوا في التبشير بالإنجيل بين الأُمَم الخاضعة لقوانين دولةٍ أخرى. وإذا كان الفريسيون قد احتفظوا بقدرٍ كبير من الشعائر الإسرائيلية بعد ضياع الدولة، فإنَّ ذلك ينبغي أن يُفسَّر على أنه مظهر لعدائهم للمَسيحيين أكثر من كونِهِ تعبيرًا عن رغبتهم في إرضاء الله. فبعد الهدْم الأول للمدينة، عندما أُخِذ الأسرى إلى بابل ولم يكونوا — على ما أعلم — قد تفرَّقوا شيعًا بعدُ، تركوا الطقوس في الحال، بل ورفضوا شريعة مُوسى، ونسوا تمامًا قانون وطنهم، وكأنه شيء لا قيمةَ له، وبدءوا في الاندماج بالأمم الأخرى، كما يذكر عزرا ونحميا بالتفصيل. وإذن فليس من شكٍّ في أن اليهود لم يَعودوا مُلزَمين بعد انهيار الدولة بالمحافظة على شريعة موسى أكثر مِمَّا كانوا قبل إقامة مُجتمَعِهم ودولتهم. وطوال الفترة التي عاشوها بين الأمم الأخرى، قبل خروجهم من مصر، لم تكن لدَيهم قوانين خاصة، ولم يكن عليهم إلَّا المحافظة على القانون الطبيعي، وكذلك على القواعد المُطبَّقة في الدولة التي يعيشون فيها، بقدر ما كانت غير مُتعارِضة مع القانون الإلهي الطبيعي. أمَّا عن الضحايا (القرابين) التي كان البطارقة يُقدِّمونها إلى الله، فيُمكن تفسيرها برغبتهم في أن يُثيروا في نفوسهم — التي تعوَّدت منذ الطفولة على هذه الضحايا — مزيدًا من الخشوع؛ فقد تعود كلُّ الناس منذ عانوس١٤ على تقديم الضحايا ليُثيروا على أنفسهم أكبر قدْرٍ من الخشوع، ولم يُضحِّ البطارقة لله مُطلقًا تنفيذًا لأمرٍ إلهي على أساس معرفةٍ استخلصوها من الأُسُس الشاملة التي يقوم عليها القانون الإلهي، بل اتِّباعًا لعادة عصرهم فحسْب. وإذا كانوا قد أُمِروا بهذه الضحايا، فإنَّ هذا الأمر لم يكن سوى أمرٍ صادرٍ عن قانون الدولة التي يعيشون فيها، وهو القانون الذي كان عليهم بدَورهم الخضوع له، كما بَيَّنَّا في الفصل الثالث في حديثنا عن مليكصادق.١٥
أعتقد الآن أني قد بيَّنتُ على هذا النحو وجهة نظري بسلطة الكتاب. يبقى أن أُبيِّن كيف أفادت الشعائر في المحافظة على بقاء دولة العبرانيين، وما السبب في ذلك، وهي مسألة سأعتمد في إيضاحها على مبادئ كلية، مُوجِزًا الكلام فيها بقدر المُستطاع.١٦ إنَّ المجتمع لا يكون نافعًا أو ضروريًّا للغاية لأنه يَحمي الأفراد من الأعداء فحسب، بل أيضًا لأنه يسمح بجمْع أكبر قدرٍ مُمكن من وسائل الراحة؛ ذلك لأنَّهُ لو لم يكن الناس يُريدون أن يتعاوَنوا مع بعضهم بعضًا فلن تتوافَرَ لَدَيهم المهارة الفنية أو الوقت اللازم لتدبير شئون حياتهم وللمحافظة عليها بقدر الإمكان. فلن يتوافر لأحدٍ الوقت أو القوة اللازمة لو كان عليه أن يَفلَح ويبذُر ويحصُد ويطحن ويطهو وينسج ويَحيك، وأن يقوم بأعمالٍ أخرى كثيرة نافعة لتدبير شئون حياته، ناهيك بالفنون والعلوم التي هي ضرورية إلى أقصى حدٍّ لكمال الطبيعة الإنسانية وللحصول على السعادة. والواقع أنَّنا نرى هؤلاء الذين يعيشون حياةً همجية، بلا مَدنيَّة، يَحيَون حياةً بائسة تقرُب من مستوى حياة الحيوانات، ومع ذلك لا يستطيعون الحصول على هذا القليل الذي لديهم، والذي يتَّسِم بأنه هزيل فج، إلَّا إذا تعاونوا مع بعضهم البعض على أي نحو. ولو كان الناس بطبيعتِهم على استعدادٍ لئلا يرغَبوا إلَّا فيما يُمليه العقل السليم، لَمَا احتاج المجتمع قطعًا إلى أية قوانين، ولكان تنوير الناس ببعض التعاليم الخُلقية كافيًا لكي يفعلوا بأنفسهم، وبِرُوح مُتحرِّرة، ما هو نافع لهم بحق، إلَّا أنَّ الطبيعة الإنسانية لها استعداد مُختلِف كلَّ الاختلاف. صحيح أنَّ جميع الناس يحرصون على مَنفعتهم، ولكنهم لا يفعلون ذلك حسبما يُمليه العقل السليم، بل تدفعهم دائمًا شهوة اللَّذَّة وانفعالات النفس (التي لا تأخُذ المُستقبل في حسابها ولا تعمل حسابًا إلَّا لِلَذَّاتها) عندما يرغبون في شيء ويحكمون عليه بأنه نافع، ومن ثَمَّ لا يستطيع أي مُجتمع أن يبقى دون سُلطة آمِرة ودون قوة، وبالتالي دون قوانين تُلطِّف من شهوة اللَّذَّة وتُسيطِر على الانفعالات التي لا ضابط لها. إلَّا أنَّ الطبيعة الإنسانية لا تتحمل أن تظلَّ في حالة قَهْر مُطلَق، وكما يقول سنيكا، الكاتب المسرحي:١٧ «ما استطاع أحد أن يُمارس العُنف في الحكم مدَّة طويلة، أمَّا الاعتدال في الحكم فيدوم.» فطالما كان الناس يسلكون بدافعٍ من الخوف وحده، فإنهم يفعلون أشدَّ الأشياء تَعارُضًا مع إرادتهم ولا يتأمَّلون الفعل من حيث فائدته وضرورته، بل إنهم لا يهتمُّون إلا بإنقاذ أنفسهم وبعدَمِ تعرُّضهم للألم، ويستحيل عليهم ألا يتلذَّذوا بما يُصيب سيِّدَهم وصاحِبَ السُّلطة عليهم من شرٍّ وخسارة، حتى لو كان في ذلك ضرَرٌ بالِغٌ عليهم، كما يستحيل ألَّا يتمَنَّوا له الشَّرَّ وألَّا يرتكبوه عندما يستطيعون. والواقع أنَّ أشدَّ ما يؤلم الناس خضوعهم لأمثالهم وسيطرة هؤلاء عليهم. وأخيرًا، فليس هناك أقسى من سَلْبِ الناس حُريَّتهم بعد حصولهم عليها، ومن ثَمَّ يجِب أولًا على كل مجتمع — إن أمكنه ذلك — أن يُقيم سلطة تنبثِقُ من الجماعة على نحوٍ من شأنه أن يكون الجميع مُلزَمين بأن يُطيعوا أنفسهم لا أمثالهم، أمَّا إذا وُضِعت مقاليد السُّلطة في أيدي أفرادٍ قلائل أو في يدِ فردٍ واحد، فيَجِب أن يكون لدى هذا الفرد شيء أسمى من الطبيعة الإنسانية، أو على الأقل يَجِب أن يُحاول بقدْرِ طاقته أن يُقنِع العامَّة بذلك. ثانيًا، يجِب أن تُوضَع القوانين في كلِّ دولة بحيث يكون الباعث على ضبط الناس هو الأمل في تحقيق خيرٍ مُعيَّن، يرغَبُ فيه بوجهٍ خاص، أكثر من خوفٍ يُحيط بهم، وبذلك يقوم كلُّ فردٍ بواجبه بحماس بالغ. وأخيرًا لَمَّا كانت الطاعة هي تنفيذ الأوامر بالخضوع لسُلطة الرئيس الآمِر وحدَها، فإنا نرى أنَّ هذه الطاعة لا مَكان لها في مُجتمع تكون السُّلطة فيه مُنتميةً إلى جميع أفراده، وتُوضَع فيه القوانين برضاء الجميع، ففي مِثل هذا المجتمع، سواء أزاد عدد القوانين أم نقَص، يظلُّ الشعب حرًّا لأنه يفعل برضائه الخاص،١٨ لا بخضوعه لسلطة الآخرين. ولكن الأمر يختلِف كُلَّ الاختلاف عندما تكون لفردٍ واحد سُلطة مُطلقة، فعندئذٍ يُنفِّذ الجميع أوامر السلطة بدافع الخضوع لسُلطة فرد واحد؛ وعلى ذلك، فما لم يكن الناس قد دُرِّبوا منذ البداية على أن تكون مصائرهم مُعلَّقة بكلمة القائد الذي يأمر، فسوف يصعُب عليه إذا دَعَتِ الحاجة أن يضع قوانين جديدة، وأن يَسلُب الشعب حُريَّة حصل عليها من قبل.
بعد هذه الاعتبارات العامَّة، لنَعُد إلى التنظيم السياسي للعبرانيين، فعند خروجهم من مصر لم يَكونوا مُلتزِمين بقانون أية دولة؛ لذلك كان في إمكانهم وضع قوانين جديدة كما يُريدون، أي وضع تشريعٍ جديد وتأسيس دولتهم في المكان الذي يختارونه، واحتلال ما يشاءون من الأراضي. على أنهم لم يكونوا على استعدادٍ لوضْع قواعد التشريع بحكمة، ولمُمارسة السلطة بطريقٍ جماعي؛ فقد كان طابع الجهل يغلِبُ على الجميع، وكان استعبادهم قد شوَّهَ نفوسَهم؛ لذلك كان من الضروري أن تظلَّ السُّلطة في يدِ فردٍ واحدٍ قادرٍ على أن يُسيِّر الجميع وعلى إجبارهم بالقوة على سنِّ القوانين وتفسيرها بعد ذلك. ولقد استطاع موسى بسهولةٍ أن يستمرَّ في المحافظة على هذه السلطة بما كان يتميَّز به على الآخرين من فضيلةٍ إلهية، وقد أقنع الشعب بذلك وأثبتَهُ لهم بشواهد عديدة (انظر: الخروج، ١٤: الآية الأخيرة؛ ١٩: ٩).١٩ وإذن فقد وضع قواعد التشريع وفرَضَها بالسُّلطة الإلهية التي كانت مُميِّزة له، ولكنه حرص حرصًا عظيمًا على أن يقوم الشعب بواجِبِه لا عن رهبةٍ بل عن طِيبِ خاطر. وقد اضطر إلى ذلك لسبَبَين: أولًا العصيان الطبيعي للشعب (الذي لم يكن يتحمَّل أن يخضع لسيطرة القوة وحدَها)، ثانيًا خطر الحرب وما يتطلَّبُه النصر من خروج الجند للحرب عن اقتناعٍ لا بالتهديد والعقاب، حتى يُحاول كلُّ فردٍ أن يتميز بشجاعته وبعظمة نفسه، لا أن يهرب من العذاب فحسب؛ لهذا السبب، أدخل موسى الدين في الدولة بسُلطتِهِ الإلهية وبناءً على أمرٍ إلهيٍّ حتى يقوم الشعب بواجبه بإخلاص لا عن رهبة. ومن ناحيةٍ أخرى، فقد ربط العبرانيين بالمنافع وأعطاهم وُعودًا كثيرة باسم الله، ولم يضع قوانين صارِمة أكثر مِمَّا يَجِب، وهذا ما يُسلِّم الجميع به إذا شرَع في دراسة هذا التاريخ، وإذا نظر إلى الأدلَّة المطلوبة لإدانة مُتَّهَمٍ ما.
وأخيرًا، رفَضَ أن يقوم أفراد الشعب — الذين اعتادوا العبودية — بأيِّ فعلٍ بمحضِ إرادتهم، حتى يظلَّ هذا الشعب، الذي لم يكن يستطيع أن يَحكُم نفسه، مُقيَّدًا بكلمة الرئيس الآمِر؛ إذ لم يكن الشعب يستطيع أن يفعل شيئًا دون أن يلتزم بالقانون؛ وهو أن يُنفِّذ الأوامر الصادرة عن الرئيس وحده. فلم يكن مسموحًا له أن يفعل شيئًا بمحضِ رغبته، وكان عليه أن يُراعي طقسًا دينيًّا مُعيَّنًا للفلاحة والبَذْر والحصد، ولم يكن باستطاعته أن يتناوَلَ طعامه ويلبَس ويُعنى بشَعر رأسه ولِحيتِهِ ويلهو أو يفعل أيَّ شيءٍ إلَّا بالامتثال لشعائر دينية إجبارية ولأوامر تفرِضُها القوانين.٢٠ ولم يكن هذا كله كافيًا، بل كان عليهم أن يَضعوا على عتَبات المنازل وفي الأيدي وبين العَينَين علامةً ما تُذكِّرهم بالطاعة.٢١ هذه إذن كانت غاية الشعائر الدينية: ألَّا يفعل الناس شيئًا بمحض إرادتهم بل تنفيذًا لأوامر الآخرين دائمًا، وأن يَعترِفوا بأنهم في جميع أفعالهم وفي جميع أفكارهم ليسوا أحرارًا مُطلقًا، بل خاضِعين كليَّةً لقاعدةٍ من وضع الآخرين.٢٢ ويتَّضِح من هذا كله وضوح الشمس أنَّ الطقوس الدِّينية لا تُوصِّل إلى السعادة الروحية، وأن طقوس العهد القديم، بل وشريعة موسى كلها، تتعلَّق بدولة العبرانيين وحدَها، وبالتالي تهدُف إلى تحقيق بعض وسائل الراحة المادية.٢٣ أما فيما يتعلق بطقوس الدين المَسيحي، مِثل العماد وتناوُل قُربان الربِّ والأعياد والصلوات العلنية، وكل ما يشترك فيه جميع المسيحيين، سواء أكان المسيح هو الذي وضَعَها أم الحواريُّون (فهذا أمرٌ لم يثبُت في رأيي على نحوٍ قاطع بعد)؛ فهي بمثابة آياتٍ خارجية للكنيسة الشاملة، وليسَتْ أمورًا تُوصِّل إلى السعادة الرُّوحية أو لها في ذاتها أي طابع مُقدَّس؛ ولهذا السبب، فإنَّ هذه الطقوس، وإن لم تكن قد وُضِعت لمصلحة سياسية فإنها قد وُضِعت لصالح المُجتمع كله، وبالتالي فإنَّ من يعيش وحدَه لا يرتبِط بهذه الطقوس مُطلقًا، بل إنَّ من يعيش في دولةٍ يُحرَّم فيها الدين المسيحي عليه أن يَمتنِع عن إقامة هذه الطقوس، ويستطيع مع ذلك أن يعيش مُتمتِّعًا بسعادة الرُّوح.٢٤ ونجِد مِثالًا لهذا الموقف في اليابان، حيث تُحرَّم الديانة المسيحية وذلك لأنَّ الهولنديين الذين يَسكنون هذه البلاد مُلزَمون بأمرٍ من شركة الهند الشرقية بالامتناع عن كُلِّ عبادة علنية.٢٥ ولا أظنُّ أني أستطيع الآنَ إثباتَ ذلك بسُلطةٍ أخرى، ومع أنه ليس من الصَّعب استنباطه بمبادئ من العهد الجديد، وقد يُمكن إثباتها بشواهد واضحة، فإني أفضل ترْك هذه المسألة جانبًا؛ لأني أودُّ أن أُسارع إلى مُعالجة مُشكلة أخرى. وسأستمرُّ إذن وأنتَقِل إلى النُّقطة الأخرى التي اعتزَمتُ مُعالجَتَها في هذا الفصل وهي: لأيِّ نَوعٍ من الناس يكون التصديق بالرِّوايات التاريخية الواردة في الكُتُب المُقدَّسة ضروريًّا، ولأيِّ سبَب؟ ولكي نقوم بهذا البحث بالاستعانة بالنور الطبيعي يَجِب علينا أن نَسير على النَّحو الآتي:
إذا طلبْنا من الناس أن يَعتنقوا أو أن يرفُضوا عقيدة تتعلَّق بشيءٍ غير معروف بذاته يتحتَّم علينا أن نبدأ من نقاطٍ مُعيَّنة مُتَّفقٍ عليها، وأن نعتمد في الإقناع على التجربة أو على العقل، أي أن نعتمِد على الوقائع التي يتحقَّق الناس بحواسِّهم من وجودها في الطبيعة، أو على بديهيات العقل المعروفة بذاتها. ولكن، ما لم يكن في استطاعة التجربة أن تُعطِيَنا معرفةً واضحة ومُتميِّزة، فإنَّها مع استطاعتها إقناع المرء، لن تُؤثِّر في الذهن، ولن تُبدِّد الغيوم التي تُخيِّم عليه، كما يفعل الاستنباط بالترتيب السليم للحقيقة التي نُريد إثباتها، بالاعتماد على بديهيات العقل وحدها، أي تلك التي تقوم على سُلطة الذهن وحدَه، لا سيما حين يكون الأمر مُتعلِّقًا بموضوعٍ رُوحي لا يقَعُ مُطلقًا تحت الحواس. ومع ذلك ففي أغلب الأحيان يكون من الضروري، لإثباتِ حقيقةٍ باعتمادٍ على أفكار العقل وحده، الحصول على سلسلةٍ طويلة من المُدرَكات الحِسِّية، هذا فضلًا عن الحرص الشديد والبصيرة النافِذة والقُدرة الفائقة على السيطرة على النفس، وكلُّها صِفات لا تُوجَد في الناس إلَّا نادرًا. ومن ثِمَّ تراهم يُفضِّلون التعلُّم بالتجربة على استنباط مُدركاتهم الحِسِّية مع عددٍ قليلٍ مِن البديهيَّات ثُمَّ ربط بعضها ببعض. وإذن، فلو أردْنا أن نُعلِّم أُمَّةً بأكملها — إن لم نَقُل الجنس البشري كله — عقيدةً ما، وأن نجعل جميع الناس يَفهمونها بكلِّ تفصيلاتها، فإنَّنا نَجِد لزامًا علينا أن نُثبِتَها بالالتِجاء إلى التجربة، وأن نجعل أسبابها وتعريفات الأشياء المُراد تعليمها مُلائمة بِدقَّةٍ لمُستوى فَهم العامَّة التي تُكوِّن الجُزء الأعظم من الجنس البشري، فنتخلَّى عن التَّسلسُل المَنطِقي للأسباب وعن إعطاء التعريفات اللازمة لأحكام الرَّبط بينها على أفضل نحوٍ مُمكن. ولو لم نفعل ذلك لكُنَّا نكتُب للراسِخين في العِلم وحدَهم، أي إنَّه لن يستطيع فهمَنا إلَّا عددٌ ضئيل نِسبيًّا من الناس، وإذن فلَمَّا كان الكتاب قد أوحى أولًا لكي تُفيد منه أُمَّةٌ كاملة، ثم الجنس البشري كله، فقد كان من المُحتَّم أن يتلاءم مُحتواه مع أفهام العامَّة، وأن يكون الإثبات فيه بالتجربة وحدها. ولكي نجعل هذه النقطة أكثر وضوحًا، نقول: إنَّ تعاليم الكتاب النظرية تتضمَّن أساسًا أنَّ هناك إلهًا، أي موجودًا صنَعَ كُلَّ شيء، يُسيِّره ويحفظه بحكمةٍ عُليا، وهو يرعى البشر أعظم رعاية، أعني أنه يَرعى منهم من يَحيَون حياةَ التقوى والأمانة ويُعاقِب من سواهم بمختلِف ألوان العذاب ويَفصِلهم عن الأخيار. ويُثبِتُ الكتاب هذه التعاليم بالتجربة وحدَها، أي عن طريق القصص التي يرويها. وهو لا يُعطي مطلقًا تعريفات لهذه الأمور، بل يُكيِّف أفكاره وعِلَله كلها على مستوى فَهم العامة. ومع أنَّ التجربة لا تستطيع أن تُعطي أيَّةَ معرفةٍ واضحة بهذه الأمور، أو أن تُنبِّئنا بما يكونه الله وكيف يحفَظ جميع الأشياء ويُدبِّرها ويرعى الناس، فإنَّها تستطيع مع ذلك أن تُعلِّم الناس وأن تُنيرَهم بقدرٍ يكفي لكي تطبع نفوسهم على الطاعة والخشوع.٢٦ وأعتقِد أنِّي قد بيَّنتُ بذلك، بما فيه الكفاية، نوع الناس الذين يكون الإيمان بقصص الكُتُب المُقدَّسة ضروريًّا لهم وما أسباب ذلك؛ إذ يتَّضِح تمامًا مِمَّا بيَّنتُه الآن أن معرفة هذه القصص والإيمان بحقيقتها ضروريٌّ إلى أقصى حدٍّ للعامة الذين لا تقوى أذهانهم على إدراك الأشياء بوضوحٍ وتَميُّز. ومن ناحيةٍ أخرى، فإنَّ من يُنكِرها، نظرًا إلى كونه لا يعتقِد بوجود إلهٍ أو بعناية إلهية، يُمكن أن يُعدَّ كافرًا، أمَّا من يَجهلها ومع ذلك يؤمن، عن طريق النور الفطري، بوجود إله، وبكلِّ ما يَترتَّب عليه، ويُطبِّق من جهةٍ أخرى قاعدة السلوك الصحيحة في الحياة، فإنه يحصُل على السعادة الرُّوحية الكاملة، بل يحصُل منها بالفعل على أكثَرَ مِمَّا يحصُل عليه العامي؛ إذ ليست لدَيه أفكار صحيحة فحسْب، بل لدَيه أيضًا معرفة واضحة ومتميزة. وأخيرًا، يَترتَّب على ما بَيَّنتُه من قبلُ أن من يَجهَلُ قصص الكتاب هذه ولا يعلم شيئًا بالنور الفطري، هو شخص إن لم يكن كافرًا، أي عاصيًا، فهو على الأقلِّ كائنٌ سُلِبَت إنسانيتُه وأصبح أشبَهَ بالبهائم لا يَملك أيَّةَ هِبةٍ من الله. ومع ذلك فلنذكُر أننا بحديثنا هنا عن الضرورة القصوى التي تُحتِّم على العامَّة معرفة قصص الكتاب لا نقصد أن تكون المعرفة الكاملة بجميع هذه القصص ضرورية؛ إذ تكفي فقط معرفة أكثرها أهمية، وهي القصص التي تَعرِض بنفسها بوضوحٍ كافٍ، ودون الاستعانة بالأخرَيات، العقيدة التي أشَرْنا إليها من قبل، ويكون لها من القوة ما تستطيع أن تُؤثِّر به على النفوس الإنسانية. والواقع أنه لو كانت جميع قصص الكتاب ضرورية لإثبات هذه العقيدة — وكنَّا لا نستطيع أن ننتهي إلى نتيجة تؤيده إلَّا بعد تأمُّل هذه القصص كلها — لكان البُرهان على هذه العقيدة والتصديق النهائي بها يتجاوَز فهم الجمهور وقُواه ويَعلو على فَهم الإنسانية جمعاء. فمن الذي يستطيع أن يَعيَ في وقتٍ واحدٍ مثل هذا العدد الكبير من الرِّوايات والمُلابسات وتفصيلات العقيدة التي يجِب استِخلاصها من هذه القصص المُتعدِّدة المُتنوِّعة؟ إنَّني، على الأقل، لا أستطيع أن أُقنِع نفسي بأنَّ أولئك الذين تركوا لنا الكتاب بوضعه الحالي كانوا يَتمتَّعون بقُدراتٍ ذِهنية تُمكِّنهم من القيام بمِثل هذه الطريقة في العرض، كما أنَّني أقلُّ اقتناعًا بالزَّعم القائل إنه لا يُمكن فَهم عقيدة الكتاب إلَّا بعد معرفة المُنازَعات التي وَقَعت بين آل إسحاق٢٧ ونصائح أحيتوفل إلى أبشالوم،٢٨ والحرب الأهلية بين يهوذا وإسرائيل٢٩ وغير ذلك من الأخبار، كما لا أستطيع أن أُقنع نفسي بأنَّ أوائل اليهود المعاصرين لموسى لم يكونوا قادرين على أن يَستخلِصوا من القصص المعروفة لدَيهم بُرهانًا على عقيدة الكتاب بالسهولة نفسها التي كان مُعاصرو عزرا٣٠ قادرين بها على ذلك. وعلى أية حال، فسنقِف فيما بعد عند هذه النقطة وقفة طويلة. ليس على العامة إذن، إلَّا أن يعرِفوا القصص التي يُمكن أن تُحرِّك النفوس إلى أقصى حدٍّ وتحثُّ على الطاعة والخشوع. ومع ذلك، فإنَّ العامة لا يستطيعون الحُكم على هذه الأمور من تلقاء أنفسهم، خاصةً أنهم يُعجبون بالروايات والنهايات العجيبة غير المُتوقَّعة للأحداث، أكثر من إعجابهم بالعقيدة نفسها التي تُعلِّمها هذه القصص؛ لذلك كان العامة في حاجة، بالإضافة إلى هذه القصص، إلى قُسُس أو إلى كهنة الكنيسة يُعطونهم تعاليم تتناسَبُ مع ضَعف تكوينهم الذهني. ومع ذلك فلنكُفَّ عن الابتعاد عن موضوعنا ولنلتزِمْ بالنتيجة التي أرَدْنا إثباتها، وهي أنَّ التصديق بالروايات — أيًّا كانت هذه الرِّوايات في آخِر الأمر — لا صِلة له بالقانون الإلهي، ولا يُعطي بنفسه السعادة الروحية للناس، ولا فائدة فيه إلَّا بقدْر ما يُساعد على إقامة عقيدة. وأخيرًا، فإن بعض الرِّوايات تُفضِّل البعض الآخر من هذه الناحية، فروايات الكتاب تكون أعظم قِيمةً من التاريخ الدُّنيوي، ويكون بعضُها أعظم قيمةً من البعض الآخر، بمقدار ما تُفيد في نشر أفكارٍ نافِعة. وإذن، فإذا قرأنا روايات الكتاب المُقدَّس ثُمَّ صدَّقناها دون أن نهتمَّ بالعقيدة التي أخَذَ الكتاب على عاتقه أن يُبشِّر بها بوساطة هذه الروايات، ودون أن نُقوِّم حياتنا — فكأنَّنا نقرأ القرآن٣١ أو الشعر الدرامي، أو على أقلِّ تقدير كأنَّنا نقرأ أخبارًا عادية بالرُّوح نفسها التي اعتاد العامَّة أن يقرءوا بها. وعلى العكس من ذلك، يُمكننا أن نتجاهل هذه الروايات تمامًا، كما ذكرنا من قبل؛ فإذا كانت لدَينا مع ذلك أفكار نافعة، وكنَّا نُطبِّق في حياتنا قاعدةً سليمة للسلوك،٣٢ فإنَّنا بالفعل نحصل على السعادة الرُّوحية المُطلَقة، وتَحلُّ فينا حقًّا رُوح المسيح. ولكن اليهود لهم نظرة مُخالفة كلَّ الاختلاف؛ إذ يَرَون أنَّ الأفكار الصحيحة وتطبيق قاعدة سليمة للسلوك في الحياة لا تُؤدِّي على الإطلاق إلى السعادة الرُّوحية ما دُمنا نَستعين في إدراكها بالنُّور الفطري وحده، دون أن ننظُر إليها على أنها تعاليم أُوحِيَت إلى موسى عن طريق النبوَّة، وقد أيَّد ابن ميمون ذلك بجرأةٍ في هذه الفقرة (الفصل ٨ من كتاب الملوك،٣٣ القانون ١١): «من يَقبَل الوصايا السبع٣٤ ويعمل بها بجميع جوارحه يكون من بين الأتقياء في الأمم ويَرِث الحياة الأخرى، شريطة أن يكون قد قَبِلَ هذه الوصايا وعَمِل بها لأنَّ الله وضعها في الشريعة وأوحى لنا عن طريق موسى أنه أعطى هذه الوصايا من قبل أبناء نوح، ولكنه لو عمِل بها كما يُمليها العقل فليس له بينَنا حقُّ المواطن، ولا يكون من بين الأتقياء أو من بين عُلماء الأمم.» هذا ما قاله ابن ميمون، ويُضيف موسى بن شيم طوب٣٥ في كتابه «كيبود ألوهيم» أو «مجد الله» قائلًا: إن عِلم أرسطو (الذي كان يعتقد أنه كتب أرفع أنواع الأخلاق وكان يُعلي مكانته فوق كل ما عداه) بكلِّ وصايا الأخلاق الحقَّة، التي عرضها هو نفسه في كتاب «الأخلاق»، والتي عمل بها بكلِّ جوارِحِه؛ لم ينفَعْه في الوصول إلى الخلاص لأنه لم يتلقَّ هذه العقيدة بوصفها وحيًا عن طريق النبوَّة بل تكوَّنَت لديه بإملاء العقل. ولكن هذه الأقوال في الحقيقة أخطاء كاذِبة لا أساس لها في العقل أو سُلطة الكتاب، وهو ما أعتقد أنَّ كلَّ من قرأ هذا الفصل بإمعانٍ يُوافِقني عليه. وإذن فمُجرَّد اختيار هذا الرأي كافٍ لتنفيذه، كذلك فإنَّني لا أعتزِم أن أُفنِّد ما يقوله أولئك الذين يُسلمون بأن النور الفطري لا يستطيع أن يَدُلَّنا على الصواب فيما يتعلَّق بالخلاص؛ فالواقع أنَّ من يعتقدون هذا الرأي لا يستطيعون أن يُؤيِّدوه بالعقل؛ لأنَّهم لا يعترفون بأن لدَيهم أيَّ عقلٍ سليم، وإذا كانوا يتفاخَرون بأنَّ لدَيهم هبةٌ أسمى من العقل، فإنها في الحقيقة مَحْض خيال، أو شيء أدنى من العقل، كما يدلُّ أسلوبهم العادي في الحياة. على أنَّنا لَسْنا بحاجةٍ إلى الحديث عنهم بمزيدٍ من الصراحة، وكلُّ ما أودُّ أن أُضيفه هو أنَّ المرء لا يُعرَف إلَّا من أفعاله. وإذن فَمَن يحمِل بوفرةٍ ثمارًا كالإحسان والفرَح والسلام وعدالة النفس والطِّيبة وحُسن النِّية والحلم والبراءة وضبط النفس، كلُّها أمور لا تتعارَض مع الشريعة، كما يقول بولس (رسالة إلى أهالي غلاطية، ٥: ٢٢)؛٣٦ فسواء أكان قد تعلَّم هذه الأمور من العقل وحدَه أم من الكتاب وحده، فإنَّ الله الذي علَّمَه إياها بالفعل، وهو بذلك يملك السعادة الروحية، وبذلك أكون قد انتهيت من فحص النقاط التي اعتزمتُ مُعالَجَتها فيما يتعلَّق بالقانون الإلهي.
١  يدلُّ انزعاج فلتويزن L. de Velthuysen على خطورة هذا الرأي الذي يُقدِّمه سبينوزا (Lettres. 42).
٢  يُقال إنَّ سبينوزا هنا يُعارض السلطة بالسلطة ويُبيِّن التعارُض في الكتاب بمُعارضة نصوصه ببعضها. ومع أنه لا يَودُّ الاعتماد على العقل، إلَّا أنه يُبرهِن بالعقل على ضَعف حُجَج اللاهوتيين، ويذهب أبعَدَ من ديكارت ويُبرهِن على أنَّ العقل والحِسَّ السليم هُما أيضًا أساس السُّلطات اللاهوتية، ومن يتخلَّى عن العقل فإنه يُعارِض السُّلطة التي تُقيِّم حقوق العقل (انظر نصوص سُليمان عن العقل والسَّفَه).
٣  (أشعيا، ١: ١٠): «اسمعوا كلمة الرب يا حُكَّام سدوم. أصغُوا إلى شريعة إلَهِنا يا شعب عمورة.»
٤  (أشعيا، ١: ١٦-١٧): ١٦: «فاغتسلوا وتطهَّروا وأزيلوا شَرَّ أعمالكم من أمام عيني وكُفُّوا عن الإساءة.» ١٧: «تعلَّموا الإحسان والتَمِسوا الإنصاف أَغيثوا المظلوم وأنصِفوا اليتيم وحاموا عن الأرملة.»
٥   تركيب عبري يُشير إلى لحظة الموت، وتعني «يجتمع مع قطيعه» حرفيًّا «يموت» (انظر التكوين، ٤٩: ٢٩، ٣٣): ٢٩: «وأوصاهم وقال لهم أنا مُنضمٌّ إلى قَومي فادفنوني مع آبائي في المغارة التي في حقْل عفرون الجثي.» ٣٣: «فلما فرغ يعقوب من وَصيَّتِه لبَنيه ضمَّ رِجليه على السرير وفاضت رُوحه وصار إلى قومه» (النص من ذكر المترجم).
٦  (متى، ٥: ٢٨): «أما أنا فأقول لكم إن كلَّ من نظَرَ إلى امرأةٍ لكي يَشتهيها فقد زَنى بها في قلبه.»
٧  يُلاحظ القارئ ما يتظاهر سبينوزا بإثباته عرَضًا مع أنه يَرمي إلى إثباته بدقَّة وعناية.
٨   تعني هذه العبارة القُدرة على السمع.
٩   هذا يعني تذوُّق لذَّة شريفة كما يُقال في اللغة الهولندية Mit Godt en mite eere أي «مع الله ومع الشرف».
١٠   يقصد بذلك أن له القُدرة كما يقود الفارس حصانه بيدِه.
١١  (المزمور، ١٥ (١٤): ٢–٥) ٢: «السالك بلا عَيب وفاعل البِرِّ المُتكلِّم بالحقِّ في قلبه.» ٣: «الذي لا يَغتاب بلسانِهِ ولا يصنع بصاحِبِه شرًّا ولا يُلقي على قريبِهِ عارًا.» ٤: «وعنده الرذيل مَهين ويُكرم الذين يَتَّقون الربَّ ويَحلف للمسيء إليه ولا يُخلف.» ٥: «ولا يُعطي فِضَّتَه بالرِّبا ولا يَقبَل الرشوة على البريء، فمَن عَمِل بذلك فلن يتزعزَعَ إلى الأبد.»
(المزمور ٢٧ (٢٦): ٤): «النقي الكفَّين والطاهِر القلب الذي لم يحمِل نفسه إلى الباطل ولم يحلِف بالغش.»
١٢  مظلَّة موسى Tabernache أو خيمته Tente (وهي ترجمة الكلمة العبرية في الفولجاتا إلى Tabernaculum هي كما يتحدَّث النص الأصلي خيمة الاتحاد Tente de réunion أو الموعد Rendez-vous لأنَّ فيها تَمَّ لقاء يهوه مع موسى (الخروج، ٣٣: ١١) ويَستعمِلها التوراة ليُشير بها إلى معبد الإسرائيليين في الصحراء ولكنه يُعطيها دلالة رُوحية كما يفعل سبينوزا أي نُقصان معبد أورشليم كما يروي التراث الكهنوتي. ولكن من الصَّعب الحديث عن هذه الخيمة ويغلِب الظنُّ أنها خيمة عادية تُحمَل على الكَتِف على عادة الأعراب البدو كما أصبح المعبد صورةً للمنزل وللمُقيم فيه. الخيمة إذن هي مَسكن يهوه المُعتاد (كما يروي التُّراث الكهنوتي) أو مسكنه المؤقت (كما تروي بعض النصوص).
١٣  يُشير سبينوزا إلى يهود الدياسبورا Diaspora، وهم من الفريسيين الذين لا تُفرَض عليهم إقامة الشعائر لأنَّ الدولة العبرية في القرن السابع عشر لم يعُد لها وجود.
١٤  عانوس Enos بطريق من عصر ما قبل الطوفان تتحدَّث عنه التَّوراة كابن ﻟ شيث Seth، ويدلُّ اسمُه على الإنسانية كلها، وتعزو له النصوص اليهودية Yahviste عبادة يهوه (تحتوي التَّوراة على مجموعتَين من النصوص اليهودية والألوهية Elohiste).
١٥  انظر الهامش ١٩، من الفصل الثالث.
١٦  إذن يستطيع العقل أن يكون حَكَمًا على الكتاب.
١٧  سنيكا الكاتب المسرحي Sénèque le Tragique هو الفيلسوف الروائي المشهور. وُلد في قُرطبة في السنة الثانية الميلادية وتُوفِّي في السنة الخامسة والستين، ابن سنيكا الخطيب Sénèque le Rhéteur (المولود في قرطبة في السنة الخامسة والخمسين قبل الميلاد وتُوفِّي في السنة الخامسة والثلاثين الميلادية) ومُعلِّم نيرون Néron ولكن نيرون غضِبَ عليه وأمره بقطع شرايينه. وأهمُّ أعماله رسائل إلى لوسيليوس Lucilius وبعض المسرحيات (ميديا Médée، الطرواديات Les Troyennes، أجاممنون Agamemnon، فيدر Phêdre)، ويظنُّ بعض المُؤرِّخين أنَّ سنيكا الفيلسوف غير سنيكا الكاتب المسرحي.
١٨  نلحظ هنا أنَّ التفسير له مهمَّة تحرير العقول وتأسيس دولة ديمقراطية وهو الغرَض الأساسي الذي يرمي إليه سبينوزا من رسالته.
١٩  (الخروج، ١٤: ٣١): «وشاهد إسرائيل القوة العظيمة التي صنَعَها الربُّ بالمصريين فخاف الشعب الربَّ وآمنوا به وبموسى عبده.»
(الخروج، ١٩: ٩): «قال الرب لموسى هاأنا ذا آتٍ إليك في ظُلمة الفحام لكي يسمَع الشعب مُخاطبتي لك ويُؤمنوا بك أيضًا إلى الدهر، فأنهى موسى إلى الربِّ كلام الشعب.»
٢٠  الجانِب المظهري الخارجي في الشعائر أو في الفضائل هو دعامة النظام التيوقراطي أي المَلَكي التَّسلُّطي.
٢١  هذه العلامات Plyactéres (من اليونانية) Philacteria هي النقوش التي يضعها اليهود على الجبهة أو على الذِّراع واليَدِ دليلًا على الطاعة، خاصةً عند الفريسيين وتَجنُّبًا للعنة التي تَحلُّ بمن يتعدَّون حدود الشريعة (الخروج، ١٣: ٩، ٢٦، التثنية، ٦: ٨، ١١: ١٨، العدد، ١٥، ٣٧–١٤١).
٢٢  التَّزمُّت سبَب الانحراف.
٢٣  يرى سبينوزا أنَّ إقامة الشعائر عند العبرانيين كانت بهدفٍ واحد وهو المحافظة على الجماعة، ويصدُق ذلك في كلِّ الشعائر في أيَّةِ ديانة وطنية. أما الدِّيانة الشاملة (وهو الدين الذي ينتسِب إليه سبينوزا) فلا تحتاج لهذه الشعائر. قد تُقام بعض الشعائر وكأنَّها رموز خارجية للدِّين الشامل، ولكن هذه الرموز ليسَتْ ضروريةً لمن تعدَّى نِطاق الخيال. وتحتاج الشعائر إلى كنيسة، أمَّا الدين الشامل فلا يحتاج لأيَّةِ مُؤسَّسة دينية.
٢٤  يرى سبينوزا أن هذه الشعائر من وضع الحواريين (انظر الفصل الحادي عشر).
٢٥  الأرجح أنَّ سبينوزا أخطأ، وأنه يقصِد جُزُر الهند الشرقية، مِثل جاوة وسومطرة، حيث كان مجال نشاط هذه الشركة، أمَّا اليابان فمن المعروف تاريخيًّا أنَّ الهولنديِّين لم يكن لهم نشاط فيها، ولم يختلطوا بالأوروبيِّين لأول مرة إلَّا في القرن التاسع عشر (د. فؤاد زكريا).
٢٦  تستطيع التجربة التي لا تستطيع بمُفردها أن تُعطي معرفةً حقيقية لاعتمادها على الحِسِّ والخيال، أن تُحرِّك النفوس وتَحُثَّها على الإخلاص والطاعة، فهي إذن نافعة وضرورية ولكنها ليست فلسفية، ولكن هل تعطي هذه التجربة النعيم Beatitude؟
طالما يُطيع الإنسان كالعبد أو كطفلٍ مُطيع فإنَّهُ يظلُّ عبدًا لم يتحرَّر بعدُ. فإذا اقترَنَتِ الطاعة بالإخلاص، وإذا كان الإخلاص تجاه شخصٍ نُعجَب به لأنه نموذج للعدل والإحسان دون أن نخشاه أو ننتظِر منه الجزاء، يُصبح التحرُّر مُمكنًا، فمن لا يعرف الله بالذهن فإن حُبَّه لله يَظهَر في إخلاصه وسكينته ورِضاه. ولكن هذا الرضا Quiétisme مُخالف للرضا عند فنلون Fénelon الذي يرى أن اتِّحاد الإنسان بالله يتطلَّب التَّضحية بوحدة الإنسان على عكس ما يُريده سبينوزا بتحرُّر الحكيم وباتحاده مع الله بالحبِّ العقلي بالمعرفة التي لدَيه عن خلود بَدَنِه. (L. Brunschvicg: Spinoza et ses contemporains (Ethique V., prop. 30).)
فالمُخلِص غير الفيلسوف يستطيع — دون أن يتعدَّى المعرفة من النوع الأول — أن يتحرَّر وأن يُحبَّ الله الذي يَتخيَّله دون أن يحصُل على شيءٍ بشرط ألَّا يُقاوم ببدَنِه اتَّحاده بالله. وعلى هذا النَّحوِ يحصُل على السلام. أما فنلون فإنه يرى أنَّ طبيعتنا العُليا لا تعطي طبيعتنا السُّفلى السلام أو النعيم، على عكس سبينوزا الذي لا يرى أيَّ نعيمٍ قبلَ أن تتحقَّق وحدة الإنسان إما بالتزام الرُّوح بحدود الخيال وباستبعاد كلِّ انفعالٍ وبتطهير الجسد، وإما بالطريق الذي يرسُمه سبينوزا في «الأخلاق». فإذا كان سبينوزا قد عرَف فنلون فإنه يَختلِف عنه تمامًا لأنَّ الحُبَّ لدَيه ليس حبًّا حسيًّا أو صوفيًّا لله الذي نتخيَّله؛ لأنَّ سبينوزا ليس صوفيًّا ولا يُحبُّ التصوُّفُ؛ فالإخلاص والطاعة لدَيه تظهران في مُمارسة العدل والإحسان.
والمَسيحيُّون حقًّا هم الذين ينعمون بالسكينة مع الله دُون أن يَدرُوا.
٢٧  إسحاق Isaac ابن إبراهيم وسارة. وُلِد ولادةً غير طبيعية (مثل المَسيح ابن مريم) لأنَّ أُمَّه كانت عاقرًا، فهو إذن الطفل الذي وعده الله لإبراهيم (يعني لفظ إسحاق «فليبتسم الله») (التكوين، ١٧: ١٧، ٢١: ٦) وبعد أنَّ شبَّ حدثَتْ له المأساة، إذ طلَب الله من إبراهيم ذبح ابنه إسحاق ولَدِه الوحيد، وبعد قَبول إبراهيم تنفيذ الأمر الإلهي فداه الله بالكبش (التكوين، ٢٢)، ثم تَزوَّج إسحاق رفقة (التكوين، ٢٤) وأنجب منها توءمين عيسو Esau ويعقوب، ولكن إسحاق أعطى حقَّ الابن الكبير ليعقوب، وهنا نشأ الصِّراع بين الأخوين وبين نسليهما.
٢٨  أحيتوفل Achitophel هو الذي خان داود وانضمَّ إلى أبشالوم في ثَورتِهِ ضِدَّ أبيه ونَصَحَه بالعمل بقوَّة وعزيمة (صموئيل الثاني، ١٦: ٢١) وبمُتابعة داود (صموئيل الثاني، ١٧: ١) ولكن نصائح حوشاي Hushai المُعارضة هي التي تحقَّقت فانتَحَر أحيتوفل يأسًا، وهو حادث الانتحار الوحيد المذكور في العهد القديم (صموئيل الثاني، ١٧: ١٧، المكابيين الثاني، ١٤، ٤٢–٤٦).
٢٩  هي الحرب الأهلية المشهورة بين مملكة الشمال (إسرائيل) ومملكة الجنوب (يهوذا). وتبدأ مملكة يهوذا بملك داود حوالي ١٠١٥ الذي يُحقِّق الوحدة بين أسباط الجنوب ثُمَّ تَلاه ابنه سُليمان الذي وقعَت الفِتَن في عصره (حوالي سنة ٩٣٥)، فانعزلت يهوذا عن باقي الأسباط بالرغم من امتلاكها للتَّابوت وللمدينة المُقدَّسة. ويتوالى على المملكة من سنة ٩٣٥ إلى سنة ٥٨٦ عشرون ملكًا من نَسْل داود باستثناء حُكم عتاليا Athalie ومع تعرُّض المملكة لهجوم ملك السامرة من الشمال فإنها استطاعت أن تحتفِظ بقوى مُتعادلة مع القوى المصرية والعراقية، ولكنها كانت تابعة لإحداهما حتى أتى الملك نبوخذ نصر Nabuchodonosor ملك بابل واستولى على أورشليم وهدَم الحائط والمعبد وأسَرَ صفوةَ الشعب. وقد ظهر في المملكة بعض الأنبياء وهم: أشعيا Isaïe، ميخا Michée، صفنيا Sophonie, حبحقوق Habacuc, نحوم Nahum, إرميا Jérémie, حزقيال Ezéchiel.
أما مملكة إسرائيل فتتميز بعدم الاستقرار. كانت عاصمتها أولًا ترزا Tirsa وفي سنة ٨٨٠ أسَّس عمري Omri   السامرة Samarie. كانت تُهدِّدها سورية قرنين من الزمان، وفي بعض الأحيان يحدُث تحالف بين المملكتَين ضِدَّ يهوذا. وأهم ملوكها: عمري مؤسس المملكة، أحآب Achab الذي أقام سياسة السلام مع يهوذا، زَوج ابنته عتاليا Athalie إلى يورام Joram   ابن يوشافاط Josaphat، ويهو Jéhu مُؤسِّس عائلة جديدة ولكنه أصبح تابعًا لآشور لمُساعدته ضِدَّ دمشق يروبعام الثاني Jéroboam II الذي أعاد بناء مملكة سليمان باستثناء يهوذا مدَّة أربعين عامًا. وابتداءً من النصف الثاني من القرن الثامن ظهر الخطر الآشوري خاصةً بعد أن اتَّحدَت إسرائيل مع رازان Razan ملك دمشق ضدَّ أحآب ملك يهوذا وقد ظهر في مملكة إسرائيل بعض الأنبياء وعلى رأسهم إيليا Elie، أليشاع Elisée، عاموس Amos، هوشع Osée.
٣٠  عزرا Esdras من نسل هارون وموظف من الحكومة الفارسية فُوِّضت إليه شئون اليهود (عزرا: ٧، ١٢) وهو كاتب دقيق مُؤمِن، وقد كتَبَ مُذكِّرات عن تاريخ اليهود وهي التي رَواها كاتِبُ سِفري أخبار الأيام بعد أن أدخل عليها بعض التعديلات، وقد كتَبَ هذه المذكرات لإعادة الإيمان إلى بني وطنه، وذلك أنَّهُ في سنة ٣٩٨ رحل إلى أورشليم مع آلافٍ من الناس وأعطى السُّلطة المُطلَقة لفرض شريعة موسى كقانون للدولة (عزرا، ٧: ٢٥-٢٦) حتى يتوحَّد إقليم يهوذا، وقد شرع قانونَين: الأول قراءة الشريعة (نحميا، ٨: ١–١٢) والثاني السماح بالزَّواج المُختلَط (عزرا، ٩). ويُظَنُّ أنه أخذ دَورًا مُهمًّا في صياغة الأسفار الخمسة وفي جمع التُّراث اليهودي وفي الاعتماد على سِفر حزقيال (لأنَّ نحميا لا يستعمل إلَّا التثنية) ولا نعرف شيئًا يقينيًّا عنه، فلا يَذكُره سِفر الجامعة ويذكُر نحميا. ويُظنُّ أنَّ جهود عزرا لتوحيد اليهود السامريين قد انتهت بالفشَل. ولم تظهر أهمية عِزرا إلَّا عند الفريسيين حتى لَيُقال إنه كان على رأس المجمع اليهودي الكبير الذي نظَّم الحياة الدينية بعد الأسْر البابلي، ويُقال إنه أملى بعض الأسفار المقدسة، كما يُعزى إليه كثير من الأحكام الشفاهية التي كانت معروفة وقت ظهور المسيح والتي كانت تتقدَّم في بعض الأحيان على الشريعة المكتوبة نفسها.
٣١  يعتبر سبينوزا هنا أنَّ القرآن كتاب دنيوي محْض مُستوى الشعر الدرامي نفسه تبعًا لنظريته العامة في الكتب المُقدَّسة (انظر مُقدِّمَتَنا عن سبينوزا والتراث الإسلامي).
٣٢  يتمُّ الحصول على النعيم (Lettre, XLII) بالأفكار النافعة ومُراعاة القواعد السليمة للسلوك في الحياة.
٣٣  يقتبِس سبينوزا من مُوسى بن ميمون نصًّا مُحرَّفًا (من رسالة عبرية بعنوان Mishneh Torah يُفسِّر فيها أحكام الشريعة ويُقنِّنها) بالنسبة إلى المخطوطات، فربَّما قال ابن ميمون إنَّ من يُطبِّق أحكام الشريعة لأنه مُطيع العقل لا يكون من بين الأتقياء بل من بين العارِفين في الأمم.
٣٤   ملاحظة: يعتقِد اليهود أنَّ الله أعطى نوحًا سبع وصايا تَصلُح وحدَها لجميع الأُمَم وأعطى قدرًا عظيمًا من الوصايا الأخرى لأُمَّة العبرانِيِّين وحدَها حتى تحصُل على سعادةٍ أسمى وأعظم.
٣٥  مُوسى بن شيم طوب Moïse، fils de Shem Tob فيلسوف يهودي إسباني عاش في القرن الخامس عشر، وُلِد في قشتالة وتُوفِّي سنة ١٤٨٠، جادل المسيحِيِّين في التثليث، كما درَس كُتُب الجدل اليهودي، وله شروح كثيرة على أسفار التوراة وعلى رسالة الاتصال لابن رُشد وعلى شرحِهِ لكتاب النَّفس لأرسطو وعلى دلالة الحائرين لابن ميمون، وكتابه الرئيس هو الذي يُشير إليه سبينوزا يُحاول فيه التوفيق بين أخلاق التوراة والأخلاق اليونانية خاصةً عند أرسطو.
٣٦  (غلاطية، ٥: ٢٢): «أما ثَمَر الرُّوح فهو المَحبَّة والفرح والسلام والأناة واللطف والصلاح والإيمان والوداعة والعفاف وأصحاب هذه ليس ناموس ضدهم.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤