القصة في شعر المُتنبي

كان المُتنبِّي مشغولًا بنفسه شُغلًا أخذَ عليه جوانب حياته جميعًا، وقد أُصيب بالنرجسية فأكلتْ حياته، وأسلَمَتْه إلى الموت أيضًا، فقد قيل إنه هجا قومًا بقصيدته الشهيرة «لم يُنصفِ القوم ضبة»، وحين أرادَ أهل ضبَّةَ أن ينتقموا له منه خرج عليه بعضهم في الطريق، فحاول أبو الطيب الهروب، فقال له فتاه: أتهرُب وأنت القائل:

الخَيلُ والليلُ والبيداءُ تَعرِفُني
والسيفُ والرمحُ والقِرطاس والقلمُ

فعاد إلى الحلبة ليحدث حتف شِعره.

ولا أعرف أحدًا جديرًا بأن يُصاب بالغرور والنرجسية مثل أبي الطيب المُتنبي، فالواقِع أنه شاعر فذٌّ عِملاق، خرج على جيله كالمُعجِزة، ولقد قَبِلنا من كثيرٍ غيره أن يكون مغرورًا، بل أحبَبْنا هذا الغرور عند الشعراء، فمن حقِّ المُتنبي أن يبلُغَ من الغرور ما يشاء، وأن نُرحِّبَ نحن بِغرورِه هذا، وإلَّا فكيف نرفض؟!

أعيذُها نظراتٍ منك صادقةً
أن تحسَبَ الشحمَ فيمن شحمُهُ ورَمُ
سيعلمُ الجمعُ مِمَّن ضمَّ مَجلِسُنا
بأنَّني خَير من تسعى به قدَم
أنا الذي نظَرَ الأعمى إلى أدَبي
وأسمعَتْ كلِماتي من بِهِ صَمَمُ
أنامُ ملءَ جُفوني عن شوارِدِها
ويَسهَرُ الخلْق جرَّاها ويختَصِمُ

ليكُن نرجسيًّا مغرورًا كما يشاء؛ فقد تَعِبَ هُوَ بغُروره، وتَمتَّعنا نحن. فهو الذي أراد من زمنه ذا أن يُبلِّغَهُ ما ليس يبلُغُه من نفسه الزمن، وهو الذي دفع ثمنَ ما أراد ولم يَنَلْ.

أغلبُ شِعر المُتنبِّي في المديح والهجاء، أمَّا الفخر فيتخلَّل المديح والهِجاء على السواء. وهكذا كانَ من الصَّعب أن أجِدَ عنده ما يُعينني في هذا البحث، وخشيتُ أن يَخذُلني كما خذلَني أبو تمام، الذي استعصى شِعره أن يُوصف بأي لونٍ من ألوان القصص المعروفة.

ولكن المُتنبي في آخِر الأمر كان أحنى عليَّ من أبي تمام، ووجدتُ عنده قَصيدتَين في كلٍّ منهما لونٌ من ألوان القصص، أمَّا القصيدة الأولى فهي التي يقول فيها:

على قدْرِ أهل العزْم تأتي العزائمُ
وتأتي على قدْر الكِرام المكارمُ
وتعظُمُ في عَين الصغير صغارُها
وتصغُر في عينِ العظيمِ العظائِمُ

ويبدأ قِصَّتَهُ بأبياتِهِ الشهيرة:

وقفْتَ وما في الموتُ شكٌّ لواقِفٍ
كأنَّكَ في جَفنِ الرَّدى وهوَ نائمُ
تمرُّ بِكَ الأبطال كَلْمى هزيمةً
وَوجهُك وضَّاحٌ وثَغرُكَ باسِمُ
تجاوزتَ مِقدارَ الشَّجاعةِ والنُّهى
إلى قولِ قومٍ أنتَ بالغَيبِ عالِمُ
ضمَمْتَ جَناحَيهِم على القلبِ ضمَّةً
تموتُ الخَوافي تحتَها والقوادِمُ
بضربٍ أتى الهاماتِ والنَّصرُ غائبٌ
وصارَ إلى اللَّباتِ والنَّصرُ قادِمُ
ومن طلَبَ الفتحَ الجليل فإنما
مفاتيحُهُ البِيض الخِفافُ الصَّوارِمُ
نثرتَهُم فوقَ الأُحيدِبِ كُلِّهِ
كما نُثِرَتْ فوقَ العَروسِ الدَّراهِمُ

وتلك قصة تستطيع أن تنسِبها إلى الأدب الرُّوماني وأنت مُطمئن، فهي تصِف البطولة وتُبالِغ فيها ما شاء الكاتِب أن يُبالغ، ثم هو يصِف أحداثَ الحرب في دِقَّةً وإفاضة لا يصِلان بها إلى الأدب الواقعي، وإن كانا يُومِئان إليه إيماءً؛ فضمُّ الجَناحَين على القلب ووصفُ الضربِ الذي يبدأ بالرءوس حين النصر بعيد، والذي ينتهي بأعالي الصُّدور حين النصر قادم، هذا الوصف يُوشِك أن يكون واقعيًّا لولا مُبالَغة الشِّعر فيه. وعلى أيَّةِ حالٍ فليس من المعقول أن يُقدِّم إلينا الشِّعر قصصًا خالصًا، وإلا أصبح نثرًا لا شِعر فيه، إنما جمالُهُ أنه يَجمَع بَين الشِّعر والقصة، آخِذًا من خصائص كِلا الفَنَّين بِنصيب.

وننتقِلُ مع المُتنبي إلى لَونٍ آخَرَ من ألوان القصص هو التجربة الشخصية، وإنَّ كثيرا من الكُتَّاب يلجئون إلى ضمير المُتكلم، ليتحدَّثوا عن تجربة شخصية لهم، أو لِيوهِموا القارئ أنهم يُقدِّمون له تجربة شخصية، وهذا اللون من القصص قريب دائمًا إلى نفس القارئ؛ فهو يُشعِرُه أن الكاتب يَصدُقه القول. ولستُ أدري لماذا يُحِبُّ القارئ دائمًا أن يُحسَّ أن الكاتِب يَصدُقه القول. أغلبُ الأمر أنه يُحسُّ بالمُتعَةِ في التوهُّمِ أنه الصِّدْق. بنا إلى المُتنبي لنرى تَجربته الشخصية تلك:

أقمتُ بأرضِ مصرَ فلا ورائي
تخبُّ بِيَ الرِّكابُ ولا أمامي

ولعلَّكَ أحسَسْتَ من الكلمة الأولى أنه في سبيله أن يقُصَّ علينا شيئًا:

ومَلَّنِيَ الفِراشُ وكان جَنْبي
يملُّ لِقاءه في كلِّ عامِ
قليلٌ عائدي سَقْمٌ فؤادي
كثيرٌ حاسِدي صَعْبٌ مَرامي
عليلُ الجِسم مُمتنِعُ القِيام
شديدُ السُّكْرِ مِن غير المُدامِ
وزائرتِي كأنَّ بها حياءً
فليسَ تَزُور إلَّا في الظلام
بذلتُ لها المَطارِفَ والحَشايا
فعافَتْها وباتَتْ في عِظامي
يَضيقُ الجِسمُ عن نَفَسي وعنْها
فتُوسِعُهُ بأنواع السِّقامِ
أراقِبُ وقتَها مِن غَير شَوقٍ
مُراقَبةَ المَشوقِ المُستهامِ
ويَصدُقُ وعدُها والصِّدْقُ شَرٌّ
إذا ألفاكَ في الكُرَبِ العِظامِ
جَرحتِ مُجرَّحًا لم يَبقَ فيه
مَكانٌ للسُّيوفِ ولا السِّهامِ
يقولُ لي الطبيبُ أكلتَ شيئًا
ودَاؤكَ في شَرابِكَ والطَّعامِ
وما في طِبِّهِ أني جوادٌ
أضرَّ بِجسمِهِ طُول الجمامِ
فإنْ أمرَضْ فما مَرِضَ اصطِباري
وإنْ أُحْمَمْ فما حُمَّ اعتِزامي
وإنْ أسلَمْ فما أبْقى ولكن
سلِمتُ من الحِمامِ إلى الحِمامِ
تمتَّعْ مِن سُهادٍ أو رُقادٍ
ولا تأمَلْ كرًى تحتَ الرجامِ

وهكذا يُنهي قصتَهُ بهذه الحِكمة التي كان يُصرُّ على إيرادها كُتَّابُ القصة في النشأة الأولى للقصة، وترك لنا مع الإعجاب بفنِّه الرائع في الشعر تلك الدهشة أن تَلتقي الفنون هذا اللقاء العجيب الذي يدلُّ على وحدانية الخالِق جلَّ وعلا، ووَحْدة الكون في فكره، وفي زمانه، مهما يَتباعَدْ فِكرٌ عن فِكر وزمانٌ عن زمان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤