القصة في شعر حافظ إبراهيم

إذا اقتربْنا إلى الشِّعر الحديث، وجدْنا القصة قد أخذتْ فيها سِمات، فنَجِد عند حافظ مثلًا كثيرًا من الشِّعر يتلوَّن بلَون القصة، وإن كانت القصة حتى ذلك الحين قد ظلَّتْ غريبة على الأدب العربي، يتلمَّسُها فيما كتَبَ الغرب، ولا يُنشئها المُنشئون في الأدب العربي، ولكن الرياح الغربية كانت قد داعبَتِ الذَّوقَ العربي، حتى لقد حمَلَتْ حافظًا على أن يُترجِمَ البُؤساء لفيكتور هوجو، وحملتْ حافظًا نفسه أن يكتُب ليالي سطيح قريبة كل القُرب من القصة. ولعلَّ هذا الاتجاه هو الذي جعل حافظًا يُداعِب القصة في شعره دُون أن يقصد إلى ذلك قصدًا عامدًا.

ولعلَّ مِن طريفِ ما يُروى عنه أنه كان ضَيفًا على أبي في البلدة، وطلبَ طعامًا، فتأخَّرتْ عليه الخادِمة، وكان اسمُها فاطمة، فلجأ إلى رئيس الخدَم، وكان اسمُهُ أحمد، فسارَع إلى تلبيةِ أمره، فكتب هذه القصة في بَيتَين:

إذا جئتَهُم طالبًا لُقمةً
وجدتَ مُظاهرة قادِمَةْ
ألَا بارك اللهُ في أحمدٍ
ولعنةُ رَبِّي على فاطِمَةْ

وهي قصة يُبين فيها المُزاح، وقد شاع كثير مثلها لحافِظ، من ذلك أنه كان يشرَب مع أحد المشايخ الأجلَّاء وبعض الأصدقاء، وفجأةً جاء للشيخ مَن يُخبِره أن بعض مُريديه قدِموا ليؤمهم في الصلاة، فقام الشيخ إلى مُريديه وكتب حافظ:

الشيخ قام يُصلي
ونحن نَسْكَر عنه
تقبَّل الله مِنَّا
ولا تقبَّلَ منهُ

وكان معروفًا عن رُشدي باشا وعدلي باشا رئيس الوزارة أنَّ تعليمهما فرنسي، وأنهما لا يُصلِّيان، ولكنَّهما اضطُرَّا أن يُصاحِبا الملك «فؤاد» في الصلاة، ولم يستطِع حافظ أن يسكت:

عدلي يُصلِّي ورُشدي
آمَنتُ بالله ربِّي
يا ربِّ أبقِ فؤادًا
حتى يُصلِّي أللنبي

وقد كان أللنبي المُعتمد البريطاني في مصر في ذلك الحين.

وفي عام ١٩٠٨م وقع في مسينا — وهي بلدة بجنوبي إيطاليا — زلزال عَنيف لا يَجوز لي أن أصِفَه وإنما أترُك حافظًا يقول:

نبِّئاني إن كُنتما تَعلمَان
ما دَهى الكون أيُّها الفرْقَدانِ
غضِبَ اللهُ أم تمَرَّدَتِ الأر
ضُ فانحنتْ على بَني الإنسانِ
ليس هذا سُبحان رَبِّي ولا ذا
ك ولكن طبيعةُ الأكوانِ
كنتُ أخشى البِحار والمَوتُ فيها
راصدٌ غفلةً مِن الربَّانِ
فإذا الأرضُ والبِحار سَواء
في خَلاقٍ كِلاهُما غادِرانِ
ما لِمسلين عُولِجَتْ في صِباها
ودعاها مِن الرَّدى دَاعِيانِ
خفَّتْ ثُمَّ أُغرِقَتْ ثُمَّ بادَتْ
قُضِيَ الأمرُ كله في ثَواني
بغَتِ الأرضُ والجبالُ عليها
وطغى البحرُ أيَّما طُغيانِ
تلكَ تَغلي حِقدًا عليها فتنشَقُّ
انشِقاقًا مِن كثرةِ الغَلَيانِ
فتُجيبُ الجِبال رَجمًا وقَذْفًا
بشُواظٍ من مارجٍ ودُخانِ
وتَسوقُ البحار رَدًّا عليها
جيشَ مَوجٍ نائي الجَناحَين داني
فاستحالَ النَّجاءُ واستحْكَمَ اليأ
سُ وخارَتْ عزائمُ الشُّجعانِ
رُبَّ طفلٍ قد ساخَ في باطِنِ الأرض
يُنادي: أمِّي، أبي، أدرِكانِي
وأبٍ داخِلٍ إلى النارِ يَمشي
مُستميتًا تَمتدُّ منه اليَدانِ
باحِثًا عن بَناتِهِ وبَنيه
مروع الخطر مُستطير الجنانِ
تأكُل النارُ منه لا هو ناجٍ
مِن بِطئها ولا اللَّظى عنهُ داني

أترى ظِلالَ الواقعيَّةِ في هذه القصة المنظومة؟ إنه يصِفُ بتفصيلٍ دقيق شأن كُتَّاب الرواية الواقعِيِّين حِين بدأ مذهبهم هذا يَسُود الفنَّ الروائي، وإن كان الوصف المُفصَّل هنا أخَّاذًا بفضل اللغة الجميلة والألفاظ المُنتقاة، فقد كان في الرواية الواقعية في أول نَشأةِ المذهب الواقعي مُمِلًّا، يكاد يصْرِفُ القارئ عن إكمال الرواية؛ فإن القارئ قد تعوَّدَ الأدب الرُّوماني الذي كانت الإطالة فيه إطالةً في المديح أو الذم. أمَّا هذه التفصيلات في وصف الحدَثِ وما يُحيط به من جميع جوانبه فهو ابنُ المذهب الواقِعي. وما زال هذا المذهب بقُرَّائه وما زال قُرَّاؤه به حتى اعتدَلَ وعدَلَ عن الإطالة في التفاصيل. ولعلَّ دخول السِّيريالية والتَّعبيرية في الفنون قد جعل أغلب الكُتَّاب الواقعيِّين يَكتفون بلمسةٍ هنا وأخرى هناك، فإذا الشخصية أمامك واضحة المعالم، مُكتملة الملامح.

وأنا لا أعرِف إن كانَ حافِظ قد قرأ في الأدب الواقعي أم لم يقرأ، بل إنني أُرَجِّح أنه لم يقرأ منه ولا عنه ولا سمِع به، وجرى منه القلم، فكانت هذه القصة الواقعية. تُرى أيَّ مذهبٍ من الفن القصصي نحنُ واجِدُون عند أمير الشعراء حين نُلاقيه به في نهاية المطاف.

فلننتظِر حتى يتمَّ اللقاء. نرى معًا القصة عند أحمد شوقي أمير الشعراء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤