الفصل الثالث عشر

كانت أخبار الحرب تطاردني في كل مكان في أوروبا، وكانت نداءات باعة الجرائد لا تتوقف طوال الليل، ولذلك فإنني لم أستطع النوم حتى الصباح. وفضلًا عن ذلك فقد كان قلبي يتمزق من أجل هؤلاء الذين يقدمون حياتهم سدى، ظنًّا منهم بأنهم يخدمون الوطنية وهم لا يدركون أنهم يحاربون الإنسانية ويقتلونها بأيديهم! …

وكنا قد وصلنا ميلانو، وهي مدينة واسعة جميلة ذات متاحف وكنائس كبيرة، ولكننا لم نتمكن من زيارة هذه الأماكن لقلة النقود بين أيدينا، لدرجة أننا لم نعد نستخدم السيارات في تنقلاتنا، وإنما أصبحنا نركب الترام أو نسير على الأقدام.

وكانت إقامتنا في ميلانو قصيرة جدًّا، فقد تركناها إلى جنوة لنبحر إلى مصر؛ حيث كان الباشا قد التقى بأحد المصريين الذي تنازل لنا عن محلات على إحدى البواخر الإيطالية العتيقة؛ لأن البواخر كانت جميعها مزدحمة جدًّا وليس بها سرير واحد خال.

وهكذا بارحنا ميلانو يوم الثلاثاء ١١ أغسطس ١٩١٤ بقطار الساعة التاسعة والربع؛ حيث وصلنا إلى جنوة في الساعة الثانية عشرة والثلث، وقد ركبنا الباخرة الإيطالية ليلة وصولنا إلى جنوة، وكنت أتوق إلى العودة بأسرع ما يمكن إلى وطني، خوفًا من انزعاج والدتي — التي تركتها مريضة — إذا علمت بنشوب الحرب، وكنت أعلم أن كل صدمة نفسية عنيفة كانت تدنيها من القبر.

قامت بنا الباخرة بعد منتصف الليل بقليل، وعندما أردنا النزول إلى غرف النوم، لم يمكننا أن نبقي فيها أكثر من دقائق نظرًا لقذارتها وشدة الحر فيها، فتوجه الباشا إلى القبطان يرجوه أن يستبدل لنا هذه الغرف بغيرها، ولكن لم يتيسر ذلك لعدم وجود غيرها. ولكن قوميسيري الباخرة عرضوا عليه تأجير غرفهم نظير مبلغ باهظ، فقبل من أجل راحتنا ودفع كل ما كان يمتلكه تقريبًا، وصعدنا فرحين إلى تلك الغرف، وكانت ذات منافذ كثيرة يدخلها الهواء، ولكن ما أن وضعنا رءوسنا على الوسائد حتى تزاحمت علينا الصراصير من كل صوب وحدب ورفعنا المراتب لننظفها، فإذا بالغرفة مكتظة بهذه الحشرات، فغادرناها بأسرع ما يمكن، ثم صعدنا جميعًا إلى ظهر الباخرة وأمضينا ليلتنا على المقاعد حتى الصباح …

وفي الصباح، طلبنا من القبطان أن يضرب لنا خيمة بالقرب من الدفة لننام فيها، ونقلنا المراتب ووضعناها للأولاد على خشبة مرتفعة بالقرب من الدفة، وكنت أنا على مقعد بجوار فراش «محمد» وكنت أخشى إن أنا غفوت أن يقع أحد الأولاد على الأرض، فكان الخوف يمنعني من النوم.

وذات ليلة غفت عيناي رغمًا عني نظرًا لشدة التعب، وقبل أن نستغرق في النوم، قمت مذعورة صارخة عندما سمعت صوت ارتطام جسم بالأرض وكانت «بثنة» هي التي تدحرجت فلما صرخت سمعتها تقول: لا تنزعجي يا أماه، لم يحدث لي شيء.

وقد أمضينا ثلاثة أيام على هذا الحال. وفي اليوم الرابع ونحن نقترب من نابولي امتلأ الجو بضباب كثيف، فهدأت الباخرة من سيرها وأخذت ترسل صفير الإنذار مستمرًّا، بشكل مزعج، وأثناء ذلك شعرنا بهزة عنيفة أعقبها صراخ من ركاب الدرجة الثالثة فهرولت نحو الحاجز لأبحث عن أولادي، ظنًّا مني أن المركب قد اصطدمت بغيرها، ورأيت شبح الموت أمامي عندما نظرت إلى البحر ووجدت قطعًا من الخشب وعددًا من القبعات طافية على وجه الماء، ولم أشك لحظة واحدة في أن الباخرة قد تحطم جزء منها إثر الصدمة وإنها على وشك أن تغرق، فجريت أبحث عن ولديَّ ليكونا بجانبي وقت الغرق. ولكن القبطان أسرع فطمأن الركاب بأن باخرتنا قد حطمت سفينة صيد. وأسرع البحارة بإنزال قوارب النجاة ليبحثوا عن الغرقى.

وصاروا ينشلونهم واحدًا بعد الآخر فيما عدا واحد منهم ظلوا يبحثون عنه أكثر من ساعتين حتى يئسوا من العثور عليه، وعادت قوارب النجاة بمن فيها وانقشع الضباب كأن لم يكن وكأنما تلك الساعة التي خيم فيها الضباب ما مرت إلا ليقع هذا الحادث وليغرق ذلك الرجل المسكين، وكأنها ساعة من ساعات القضاء التي يهبط فيها ملك الموت ليأخذ من اختاره القدر.

وقد وصلت الباخرة إلى نابولي عند المساء، وأمضينا فيها الليل، ثم وصلنا إلى كتانيا في الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الأحد ١٦ أغسطس ١٩١٤ وطوال الوقت، ظلت الباخرة تشحن كميات هائلة من البطاطس، فلم نتمكن من النوم. وظللنا في انتظار تحرك الباخرة في قلق، فإننا نخشى أن تعلن إيطاليا الحرب بين آن وآخر، فنحجز في أي بلدة من بلادها.

وعندما قامت الباخرة، فرحنا كثيرًا ولكنها ما كادت تخرج من الميناء حتى رأينا زورقًا بخاريًّا يتبعنا ويشير إليها بالعودة، فجزعنا وقلنا في أنفسنا لقد دخلت إيطاليا الحرب. وتمثلت بقول القائل: «لقد كان ما خفت أن يكونا»، ولما سألنا القبطان عن سبب رجوعنا، وصارحناه بمخاوفنا من اشتراك إيطاليا في الحرب، رد علينا مازحًا: «لقد شحنا من البطاطس ما يكفي لطعامنا مدة طويلة وحتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا! …»

وقد رأيت بعض السيدات يبكين مثلي من هذه المفاجأة السيئة، كانت نقودهن قد نفدت فتساءلن عن كيفية كسب عيشهن وليس لمعظمهن مهنة يتكسبن منها في ظروف الحرب، أما أنا فقد كنت أبكي؛ لأن هذا التأخير يمكن أن يكون سببًا في القضاء على حياة والدتي المريضة، أما بالنسبة لأسباب الحياة، فقد كان معي من الحلي والجواهر ما يكفيني ثمنها أنا وأولادي لعدة سنين.

وكنت وأنا في عزلتي داخل الخيمة أسمع إحدى السيدات تقول: إنني أحسن الطهو، فإذا حجزت في إيطاليا، فيمكنني أن أشتغل في بنسيون أو عند عائلة، وأخرى تقول: أما أنا فأحسن الحياكة والتفصيل، ويمكنني إذا احتجت أن أزاول هذه المهنة … وثالثة تقول: أما أنا فلا أعرف حتى رتق فتق في ملابسي، ولا طهو أي نوع من الطعام، والقيام بالخدمة … فماذا أصنع؟ ثم أضافت بعد برهة قائلة: أعمل مربية أطفال! …

كنت أسمع كل ذلك وأسأل نفسي … ماذا كان يمكن أن أفعل لو كنت في مثل ظروفهن؟

وجدتني لا أحسن الطهو، ولا أجيد الحياكة، ولا يمكنني أن أترك ولدي وأدخل بيتًا للخدمة، وأعترف أن هذا كان درسًا لي، لأنني بعد ذلك اجتهدت في تعلم الطهو، وتقدمت في فن التفصيل والحياكة.

وعندما عادت الباخرة إلى ميناء كتانيا، عرفنا السبب، وهو أن شركة البواخر طلبت من الإسكندرية تموين الباخرة بالفحم اللازم لرحلة العودة، فرفضت طلبها، ولذلك أعيدت لتتزود باحتياجاتها، وبذلك اضطررنا للبقاء ليلة أخرى موعد وصولنا إلى الإسكندرية أربعًا وعشرين ساعة، ولكننا من ناحية أخرى كنا في منتهى الفرحة لعدم دخول إيطاليا الحرب حتى ذلك الوقت.

وقد وصلنا إلى الإسكندرية يوم ١٩ أغسطس ١٩١٤، وقد عجبنا لعدم وجود أحد في انتظارنا إلا الكاتب وفتاة كانت تعلم ابنتي اللغة العربية. وقد شكرتها وفي الوقت نفسه عاتبتها لتكبدها مشاق السفر وهي تعلم أنني لا أستطيع البقاء في الإسكندرية أكثر من ليلة واحدة لأنني في لهفة للقاء والدتي والاطمئنان عليها.

وتوجهنا بعد ذلك إلى محطة الرمل، ولم أكد أنزل من العربة حتى وجدت عامل التلغراف على الباب وسلمني برقية فتحتها بيد مرتعدة، ولما وقع نظري على سطورها، أحسست أن الأرض قد اهتزت وأن الدنيا تدور بي، فقد كان التلغراف يحمل نبأً مشئومًا هو خبر وفاة والدتي المسكينة.

وإنني أنقل من مفكرتي الخاصة ما كتبته عن هذه الفاجعة.

يوم الخميس ١٠ أغسطس ١٩١٤

عدمت في هذا اليوم أعز إنسان لدي، وحرمت بزواله من أعظم نعيم كنت أتمتع به، ما أتعسني!

بعدت وكنت أظن في القرب التلاقي، وعدت فعز في القرب المزار، لا يمكنني أن أصف وقع النبأ المروع على نفسي، فما تلك الساعة المشئومة يمكن أن يغيب هولها عن خاطري مهما طال الأبد.

يا لسخرية القضاء وقسوة القدر، أفي الساعة التي تطأ قدماي أرض بلادي، وفي اللحظة التي كنت أمني نفسي فيها بقرب لقاء والدتي، وأسعد بأني سأطمئن خاطرها وأدخل بعض السرور على نفسها الحزينة، أفي تلك الساعة تغادر والدتي الحياة بما في قلبها الرحيم من لوعة الفراق والجزع على حياتنا. وقد علمت أنها لما فقدت النطق، كانت تحول نظرها من الساعة إلى الباب ومن الباب إلى الساعة مخافة أن يدركها القضاء فتفارق هذا العالم دون رؤية ولديها والاطمئنان عليهما، وكانت «عطية هانم» التي لازمتها مدة غيابي قد اصطنعت لها برقية توهمها بوصولنا إلى الإسكندرية.

كانت الساعة حوالي الثانية بعد الظهر لما وصلنا المنزل، فتركت ولديَّ مع مربيتهما والمعلمة، وسافرت أنا وزوجي فورًا إلى مصر بقطار الساعة الثالثة. ولما وصلنا القاهرة أمضيت الليلة بجانب فراشها أبكيها حتى الصباح. ثم نقلنا جثمانها إلى المنيا ومنها إلى مقابرنا في الشرق، ودفناها بجوار قبر والدي؛ حيث كانت قد أعدت لنفسها قبرًا هناك. وعدت في اليوم التالي كاسفة البال حزينة النفس.

لا يمكنني أن أصف ما انتابني من حزن عميق بفقد أمي التي كنت أشعر نحوها بعاطفتين مختلفتين … عاطفة البنوة وعاطفة الأمومة اللتين امتزجتا أثناء مرضها الطويل، وما كانت تستلزمه حالتها المحزنة من ملاطفة واهتمام مستمرين.

نعم، شعرت عند موتها بيتم وثكل في وقت واحد. شعور غريب مؤلم أضناني، وكنت أظنه أقصى ما يكون من درجات الحزن، وما كنت أحسب أن القدر يخبئ لي بين طيات غيبه نكبة أفدح وأقسى … وفاة أخي العزيز وعمادي الوحيد، وأن أحتمل هذه المصيبة كما احتملت غيرها. وكم حمدت الله أن اختار والدتي إلى جواره قبل هذه الفاجعة الكبرى.

ماتت والدتي، وكان يخفف من حزني عليها زيادة عطف أخي عليَّ وملاطفته لي في كل لحظة، إذ ما من يوم يمر إلا وأراني وجهه المحبوب في الصبح والمساء، وغمرني بجميع أنواع البر والحنان، وقد كان هذا من جانب أخي المحبوب يعوضني ما فقدته، كأنه كان يحس بأنني سأحرم منه عاجلًا، فكان يفيض عليَّ من حبه وحنانه ليمتعني بأكبر قسط من محبته، وقد عشت بعد ذلك ثلاث سنوات كدت أنسى خلالها مصابي في أمي العزيزة بفضل رعاية أخي وعنايته.

كان أخي يأتي لزياراتي إن لم يكن صباحًا ففي المساء، وكنا نتحدث في الأمور السياسية، وكان رأيه مخالفًا لرأيي، فقد كنت أعجب بالحلفاء، بينما كان يرى أنهم أناس مستعمرون وأنهم الذين أثاروا الحرب، وكان يطلب النصر للألمان والأتراك.

أثناء رحلتنا في أوروبا … وصلنا خبر محاولة الاعتداء على حياة الخديوي عباس في إسطنبول، وكان الذي حاول اغتيال الخديوي هو شاب مصري يدعى «محمود مظهر». وكان الخديوي في طريقه إلى الباب العالي، فانقلب الشارع إلى معركة حربية؛ لأن الجندرمة (الشرطة) ظنوا أن هناك انقلابًا دبره حزب الائتلاف والحرية ضد حكم حزب الاتحاد والترقي، فسقط في الشارع أكثر من ثلاثين شخصًا، وقتل أيضًا الجاني «محمود مظهر»، وأصيب جلال باشا إصابات انتهت بقطع قدميه، فغضبت عليه زوجته وهي بنت الخديوي وكانت قد تزوجته في مصر يوم سقوط «درنة» وقال فيه أحمد شوقي بك:

فرح هنا وهناك قام مآتم
مولى ينوح وتابع يترنم

وقد أصرت على طلب الطلاق منه، وما زالت حتى طلقت.

وبعد أسبوعين تقريبًا من حادث الاعتداء، أعلنت الحرب العظمى، وكشفت الحكومة البريطانية عن كراهيتها للخديوي … وأبلغت قائمقام الخديوي حسين رشدي باشا على لسان ناب اللورد كتشنر في ١٢ أغسطس ١٩١٤ بأنها لا ترغب في عودته في مصر. وبدأت الحرب والخديوي ما زال موجودًا خارج مصر، وبعد ذلك بقليل تردد أن الإنجليز أعلنوا عزل الخديوي، وأن جريدة الطان الفرنسية كتبت مقالًا افتتاحيًّا في هذا الموضوع قالت فيه: «إن إنجلترا قد أحسنت بعزل الخديوي؛ لأنه لم يكن صديقًا لإنجلترا أو فرنسا.»

وفي يوم ٢١ ديسمبر وصل إلى الخديوي نبأ إعلان الحماية على مصر، وأنها صارت سلطنة، وأن الأمير حسين كامل عم الخديوي قد عين سلطانًا عليها، وأنه نظرًا لأن الخديوي قد انضم إلى أعداء ملك الإنجليز، فقد حرم من الرجوع إلى مصر وإن حفظت له أملاكه الخاصة.

حلم رهيب

ذات ليلة رأيت حلمًا مزعجًا أبكاني حتى صرت أشهق في نومي، واستيقظ زوجي وسألني عن سبب بكائي، فأجبته بأني رأيت في منامي أنني سافرت إلى المنيا وقصدت بيت أخي وكان إذ ذاك هناك، فرأيت والدتي أمام باب غرفة نومه تكنس الأرض وهي كئيبة كاسفة. فسألتها عن أخي وزوجته فقالت: لقد افترقا. فخرجت أبحث عنهما، ودخلت غرفة بجانب الباب فوجدت زوجة أخي في ثياب سوداء وبجانبها أختها حرم حسين بك رياض مرتدية أيضًا إزارها الأسود، وكأنهما تتأهبان للخروج في غضب، فحاولت منعهما، فنظرتا إليَّ نظرة حنق، فعز عليَّ ذلك وبكيت.

تشاءمت من ذلك الحلم … ولكن في صبيحة اليوم التالي حضر شقيقي من المنيا، وزارني وسألني عن سبب تأخري في السفر إليه مع صديقاتي اللاتي دعاهن معي لقضاء بضعة أيام عنده، ولما انتحلت له بعض الأعذار ألح عليَّ في السفر، في أقرب وقت. وكان ذلك يوم السبت ١٥ فبراير ١٩١٧ فوعدته بحضورنا يوم الثلاثاء.

ولكن حال مرض إحدى صديقاتي دون سفرنا في ذلك اليوم، كما اعترت ولدي في مساء اليوم نفسه حمى شديدة اضطرتني للسهر بجانبه حتى بعد منتصف الليل.

وفي صباح يوم الأربعاء أيقظني زوجي مبكرًا كما أيقظني ليلة حلمي، فقمت منزعجة وسألته عما حل بابني، فقال لي: «لقد أيقظتك لنسافر إلى المنيا؛ لأن أختك مريضة جدًّا.» فأجبته: «وكيف أسافر وولدي مريض؟» قال: «إنها في مرض الموت، أو في الحقيقة إنها توفيت» … فشعرت بحزن شديد لهذا النبأ.

وذهبت إلى غرفة ولدي لأطمئن على حالته. وبعد أن أعطيت مربيته التعليمات اللازمة، خرجت وكان موعد الرحيل قد أزف، فارتديت إزاري وخرجت باكية على أختي. مشغولة على ولدي.

ولما وصلت إلى المحطة، وجدت سعيد آغا في انتظارنا وعلى وجهه علامات الحزن الشديد. ولما ركبنا القطار تركني زوجي كعادته وتوجه إلى محل الرجال، وبقي معي سعيد آغا، فقصصت عليه الحلم الذي رأيته، فقال: «لقد تحقق حلمك» … قلت: كيف ذلك ثم هل حدث خلاف بين أخي وزوجته استدعى فراقهما؟ فسكت ولم يرد.

وطوال مدة السفر، كنت أتخيل أخي ينتظرني كعادته، وأفكر فيما أحدثته عنده وفاة أختي من الكدر؛ لأنه كان يحبها ويجلها إذ كانت عطوفة علينا، وتربى أولادها محمد وإبراهيم وفؤاد سلطان عندنا، وكان شقيقي يحب «فؤاد» ويناديه بابنه، وإن كان في مثل سنه ورضع معه، وهو الذي أعطاه اسمه وسماه «فؤاد سلطان»، وكانت أختي هذه ثانية بنات والدي من ابنة عمه، وكانت تحب والدتي التي كانت في مثل سنها تقريبًا، وكانت والدتي تبادلها الحب.

ولما وصل القطار بنا إلى محطة المنيا، لم أجد شقيقي في انتظارنا بل وجدت الآغا … فظننته مشغولًا بالمعزين … وسألت الآغا إلى أين أذهب … إلى بني أحمد أم إلى دار شقيقي! فأجابني: طبعًا عندنا. فتبادر إلى ذهني أن أختي قد توفيت عند شقيقي.

وكم دهشت لما رأيته من علامات الحزن الشديد على وجوه الناس جميعًا، ولما شاهدته من إغلاق المحلات التجارية … وازدادت دهشتي أكثر لما سمعته من ندب النساء وعويلهن في الطرق والمنازل.

لاحظت كل ذلك ولم يخطر ببالي قط أن سوءًا قد أصاب أخي، وأن كل هذا من أجل وفاته، ولما وصلت المنزل دهشت من كثرة الزحام حتى صار من الصعب عليَّ أن أشق لنفسي طريقًا رغم أنهم كانوا يفسحون لي الطريق. وكان الناس ينظرون إليَّ ذاهلين … وقد علمت فيما بعد أنهم حسبوني قد فقدت عقلي من هول الصدمة لأنني لم أبك ولم تبدو عليَّ إلا علامات الاندهاش والاستغراب. وقابلتني زوجة أخي قائلة: «انظري ما أصابنا.» فقلت لها: «هل توفيت أختي عندكم؟» فقالت: «إن مصيبتنا في أخيك»، فأحسست كأنها طعنتني بخنجر وصل إلى أعماق قلبي.

وخيل إليَّ كأنما أخي حي وأنه مغمى عليه، فهرولت مسرعة نحو غرفته، ورأيت ابتسامته الحلوة تعلو شفته، ولم أر عليه اصفرار الموت ولا علاماته، فارتميت عليه أقبله وأناديه وأدلك جسده على أمل أن تدب الحياة فيه. وبقيت بجانب فراشه أرقب يقظته في لهفة وأناجيه لعله يتنبه بسماع صوتي أو يفيق، ولكن للأسف لم يستجب أخي لندائي كما كانت عادته دائمًا في أن يلبي ندائي.

ودفن أخي إلى جانب والدي في قبر يضمهما معًا، وقضينا هناك تلك الليلة، وكانت أسود الليالي في حياتنا جميعًا … وقد استمرت ليالي المآتم أربعين ليلة دون أن أفكر في ولدي الذي تركته مريضًا.

وبرحيل أخي، رحلت معه كل آمالي في الحياة؛ لأنه كان بهجة حياتي ومبعث الأنس والبشر فيها. وبدأت صحتي تتدهور، ولولا وجود ولديَّ وشعوري بالواجب نحوهما، لما بقيت بعده لحظة واحدة.

وطالت مدة مرضي حتى يئست من الشفاء، واهتم الأطباء بحالتي، ولما بدأت أسترد قوتي، صدمت صدمة أخرى جعلتني أشعر أكثر بالخسارة التي لحقتني بوفاة شقيقي!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤