الفصل الثالث والعشرون

طوال الفترة التي أعقبت اندلاع ثورة ١٩١٩، كانت البلاد تغلي بالأحداث، وكانت الموافق تتصاعد في بعض الظروف والأوقات، وكان الزعماء يتنافسون ويتناحرون؛ ولذلك كثرت البيانات التي تشايع فريقًا، والتي تتهم الفريق الآخر.

ومن ذلك أنه بعد أن ألف عدلي باشا يكن وزارته، وأعلن بيان هذه الوزارة، قام الوفد المصري بنشر رده على هذا البيان، ذهب فيه إلى أن الوزارة بدلًا من أن تقوم بواجبها الأول من تقوية رابطة الاتحاد بين الجميع واحترام إرادة الأمة، تخلت عن هذا الواجب وطلبت من الأمة أن تهيئ لها جوًّا صالحًا يسهل عليها المفاوضة … وتساءل البيان: إنها فقدت نفوذها في الأمة، فكيف تلاقي الأجنبي وعلى أي قوة تعتمد أمامه؟

وكان كل فريق لديه ما يتذرع به من حجج ومواقف لإثبات أنه على حق، وأن الفريق الآخر على باطل، وفي غمار هذه الأحداث، أكدت المرأة المصرية أن الوفاء لمصر أولًا وأخيرًا، وأنها مخلصة لهذه القضية أكثر من إخلاص الرجال.

لقد كنا حريصات على حقيقة واحدة، وهي أن نكون حيث يكون الحق؛ ولذلك فقد أرسلنا كتابًا إلى دولة رئيس الوزراء في يوم ٧ مايو ١٩٢١، جاء فيه:

دولة رئيس الوزراء:

بالاطلاع على بيانكم المنشور أمس ومقارنته بكتابكم لعظمة السلطان في ١٧ مارس ١٩٢١، وجدنا بهما ذكر «استقلال مصر» فقط خاليًا من الكلمة التي يترنم بها كل مصري ويهتز طربًا على ذكرها، وهي «الاستقلال التام لمصر والسودان»، مع أنكم صرحتم بأنكم ستحققون الآمال الوطنية مسترشدين بما رسمته إرادة الأمة، وليس للأمة آمال غير الاستقلال التام لمصر والسودان، فهي لا تنزل على إرادتها قيد شعرة، ولا تعضد من يسلك سبيلًا يخالف خطتها مهما كانت شخصيته وعقيدته؛ لأنها لا تنظر للأشخاص ولا تغتر بالظواهر والتمويهات، ولكنها تنظر للمبادئ والأعمال، ولذلك فإن لجنة الوفد المركزية للسيدات قررت بجلستها المنعقدة اليوم عدم تعضيد الوزارة للأسباب الآتية:
  • (١)

    عدم برها بوعدها إلى الآن من رفع الأحكام العرفية والرقابة الصحفية، بل على العكس شددتها بدليل إصدار قرار جديد يمنع التجمهر وعدم نشر ما يرسل إلى الجرائد من القرارات، وهذا ينافي تصريحاتها، وأيضًا حوادث طنطا المؤلمة.

  • (٢)

    عدم اتباعها برنامج الأمة وهو المطالبة بالاعتراف باستقلال مصر والسودان.

  • (٣)

    الاستعداد لانتخاب وفد رسمي بدون وكيل الأمة الذي تثق به وثوقًا تامًّا.

واقبلوا ما يليق بمقامكم من الاحترام.

وكانت اللجنة قد أصدرت قبل ذلك بيانًا بتاريخ ٤ مايو ١٩٢١، وكان أيضًا موجهًا إلى رئيس الوزراء، بشأن حادثة طنطا المحزنة المؤلمة، وصدور الأمر بإعادة تنفيذ قانون التجمهر، علاوة على بقاء الأحكام العرفية والرقابة الصحفية.

وقد تلقيت خطابًا من سعد باشا زغلول بتاريخ ٩ مايو ١٩٢١، تعليقًا على موقف اللجنة والبيانين اللذين أصدرتهما. وكان نص الخطاب كالتالي:

حضرة صاحبة العصمة رئيسة لجنة الوفد المركزية للسيدات

اطلعت على صورة الكتابين اللذين أرسلتهما لجنتكن لرئيس الوزراء ومنعت الحكومة نشرها بالجرائد، ويظهر أن الوزارة عاملة جهدها الآن في منع نشر كل ما من شأنه أن ينمي روح الوطنية في صدور الوطنيين والوطنيات ويشد عزائمهم، ويظهر بمظهر المطالبين للحق الغاضبين لإنكاره، ولكن الظلم لا يدوم، والضغط على الحرية لا يضرها بل يقيدها، وإني أعجب لوطنية السيدات عمومًا ووطنيتكن خصوصًا، وأعتقد تمام الاعتقاد أنه ما دام هذا الشعور الحي موجودًا في صدور الأمة، فلا بد أن تصل إلى مطلوبها مهما وضع أمامها من العقبات، وأرجو تبليغ تشكراتي إلى أعضاء لجنتكن البهية ووافر احتراماتي، وأهديكن تهنئاتي بحلول شهر الصوم المبارك، وأدعو الله أن يعيده علينا جميعًا ببركات الاستقلال التام.

سعد زغلول
وفي يوم ٢٥ مايو ١٩٢١، تلقيت رسالة أخرى من سعد باشا زغلول، هذا هو نصها:

حضرة صاحبة العصمة رئيسة وفد السيدات

تشرفت بخطابكم الكريم ومعه صورة كتابكم المملوء عزة وغيرة وحماسًا إلى عدلي باشا، ونظرًا لما اشتمل عليه من العواطف الرحيمة قد وضعت رجاء للأمة بالمعنى الذي تفضلتم بالإشارة إليه.

وأتشرف بأن أرسل لكم نسخة منه، وأملي أن يحل هذا الرجاء من الجمهور محل القبول.

وفي الختام أرجو أن تتقبلوا تشكراتي وتبلغوها لحضرات السيدات أعضاء لجنتكن البهية.

سعد زغلول
وقد نشرت جريدة المقطم في عددها الصادر بتاريخ ٢٩ مايو ١٩٢١، تحت عنوان «صوت السيدات المصريات» ما يأتي:

أرسلت حضرة صاحبة العصمة حرم صاحب السعادة شعراوي باشا الكتاب التالي بالفرنسية إلى حضرات معتمدي الدول وهو:

بصفتي رئيسة للجنة السيدات المصريات المركزية، أعرب باسم جميع بنات وطني لجنابكم عن حزننا الشديد من جراء الخبر الذي نشرته أمس جريدة «الجورنال دي كير» وسواها من الصحف الأوروبية بمناسبة حوادث الإسكندرية الأخيرة التي يؤسف لها كل أسف، فقد جاء في هذا الخبر أن قناصل الدول أرسلوا التلغرافات إلى حكوماتهم يبلغونهم الحالة ويطلبون أن تحمي حياة مواطنيهم حماية وافية.

إنه يتعذر علينا أن نصدق أن جنابكم قد سعيتم هذا السعي إذ لم يقع حتى الآن ما يسوغ هذا الخوف؛ نعم إن بعض الصحف شرع من مدة يجسم الحالة ويظهر بمظهر المعادي لحركتنا لأسباب نجهلها حتى الساعة.

فإذا صح ما وقع في ظننا فإننا نرجو منكم يا جناب المعتمد أن تكذبوا هذه الشائعات الباطلة التي تصير موقف شعب حسبه ما لقي من أشياء بأن ينسب إليه خطأ لم يرتكبه وبإثارة الرأي العام عليه.

فإذا كنتم قد أوجستم شرًّا من هذه الروايات الباطلة التي لا يفتأ أعداؤنا يذيعونها عنا بجميع الطرق، ويشوهون الحقيقة خدمة لمصالحهم، فسعيتم هذا السعي الضار بقضيتنا والذي لا تستحقه، فإننا نناشدكم بإنصافكم وتنزهكم عن الأغراض، ونطلب أن توقفوا حكومتكم على الحقيقة التامة حالما تتبين على من تقع تبعة ما جرى.

ونرجو أن تتفضلوا فتبلغوا حكومتكم عن لساننا أن الشعب المصري الذي يقدس الضيافة، والذي عرف كيف يكسب عطف مواطنيك وإعجابكم في أعظم ساعات أزمته السياسية، إن هذا الشعب الشاعر بتبعاته دقة، وشدة، وحقوقه، سيظل أهلًا لتلك العواطف إلى النهاية.

وتفضلوا يا جناب المعتمد بقبول احترامي الفائق.

هدى شعرواي
وفي ١٧ يونيو ١٩٢١، سلم وفد من السيدات احتجاجًا إلى اللورد اللنبي، على أن يقوم بإبلاغ هذا الاحتجاج إلى الحكومة البريطانية. وقد جاء في هذا الاحتجاج:

في اليوم الثالث والعشرين من شهر ديسمبر، رأيتم لثروت باشا أن يؤلف وزارته ولبريطانيا العظمى أن تنفذ سياستها في مصر، وأن يلقى القبض على مختار الشعب «سعد باشا» وأن يرسل إلى المنفى من غير أي مراعاة لشيخوخته وحالته الصحية، ومن غير مبالاة بكرامة شعب هو زعيمه ورمز أمانيه، واحتقارًا للعدالة وكل قانون بدون أي سؤال أو محاكمة أو حكم، أخذ سعد إلى عدن ومنها إلى جزيرة سيشل.

وارتفعت على إثر ذلك الاحتجاجات من كل ناحية تطلب لسعد إصلاح الظلم الذي ارتكب، وتطلب للأمة غسل الإهانة التي لحقت بشرفها، ولكن هذه الاحتجاجات الصادرة من شعب بأسره وصوت العدالة الصارخ وصوت الشرف المثلوم لم يستطع أن يحرك أولئك الذين لم يريدوا أن يصغوا إلا لصوت الشهوة والمصلحة.

والآن وقد ظهر تقرير رسمي بأن سعد باشا مريض، وأن جماعة من خيار الإنجليز قد طالبوا بإطلاق سراح هذا المنفي العظيم، فها نحن أولاء: سيدات مصر ننتظر بفارغ الصبر جواب الحكومة البريطانية.

أتراها ستفهم أن شرفها ومصلحتها يحتمان عليها إطلاق سراحه فورًا، أم تراها ستضيف إلى جنايات ارتكبت غلطة لا تمحى على مر الدهور؟

أتراها ستجدد فينا روح الثقة وتخلق فينا شعور الصداقة، أم تراها تفضل استفزاز قضيتنا وإثارة الحقد والكراهية في صدورنا؟

إن آتون «رواية» قد جعل من راعية صغيرة أعظم رمز لأطهر وطنية، وإن أسر «سان هيلانة» قد أكسب نابليون من المجد ما لم تكسبه مئة نصر.

وسيشل قد جعلت من سعد زغلول رجلًا مقدسًا، وإن اعتقاله بها لو طال سيجعل منا شعب أبطال وشهداء.

هدى شعرواي

قرار

وفي ٢٠ يناير ١٩٢٢ اجتمعت السيدات المصريات في جلسة فوق العادة، وقررن ما يأتي:
  • أولًا: إعلان إيمانهن القوي في مستقبل بلادهن.
  • ثانيًا: تقديم أسمى عبارات الاحترام إلى زعيم الأمة وإهداء تحياتهن إلى رفاقه في المنفى.
  • ثالثًا: المعارضة بكل ما لديهن من قوة لفكرة تشكيل وزارة في الظروف الحاضرة.
  • رابعًا: مشاركة الأمة في عدم إمكان تشكيل أي وزارة قبل تحقيق الشروط الآتية:
    • (١) سحب مشروع كيرزون ومذكرة اللورد اللنبي.
    • (٢) عودة صاحب المعالي سعد زغلول باشا وزملائه من منفاهم وإعادة حريتهم إليهم.
    • (٣) إلغاء الأحكام العرفية وجميع الأحكام الظالمة المترتبة عليها …
    • (٤) إلغاء الحماية الباطلة التي أعلنت على مصر سنة ١٩١٤ وصادقت عليها الدول.
  • خامسًا: تسجيل العار على كل مصري يتقدم بأي بيان سياسي لتشكيل الوزارة قبل تحقيق جميع الشروط السابقة.
  • سادسًا: إبداء أسفهن الشديد؛ لأن البنوك الأجنبية لم تحتج بلهجة الحزم على المساس بحق سر المهنة.
  • سابعًا: إبداء أسفهن لعدم ارتفاع صوت ممثلي الشعوب التي انتصرت لقضية العدل وقاتلت في سبيل حق تقرير مصير الشعوب بالاحتجاج على أعمال العسف والقهر التي حلت بنا.
  • ثامنًا: إعلان المقاطعة العامة لكل ما هو إنجليزي من بضائع وأشخاص سواء كانوا تجارًا أو موظفين أو أطباء أو صيادلة … إلخ، وعدم معاملتهم قطعيًّا.
  • تاسعًا: يقسمن أنه إذا لم يتدخل الشعب الإنجليزي لتقويم خطة حكومته نحو مصر وحملها على حل قضيتنا حلًّا يتفق مع الوعود التي قطعتها على نفسها وتنطبق على الشرف والعدل، ليبذرن في قلوب أبنائهن بذور البغض الشديد ضد الغاصب، ذلك البغض الذي تتوارثه الأجيال المقبلة جيلًا بعد جيل.

وقد قامت لجنة الوفد المركزية للسيدات بالفعل بنشر الدعوة إلى المقاطعة، وقررن تشكيل لجان في كل أنحاء القطر المصري لنشر المقاطعة في كل واد وناد، في المنازل، في الأكواخ، في الدور، في القصور، في المزارع، في الأسواق بين الرجال والنساء، وفي الوقت نفسه نشرت كشفًا بأسماء المحلات المصرية الجديرة بالتعضيد.

وكانت هذه بداية الدعوة إلى التعامل مع كل ما هو وطني، وبخاصة الصناعات الوطنية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤