الفصل الرابع والعشرون

سبق أن قلت إنني كنت على اتصال بسعد زغلول في منفاه؛ لدرجة أننا فكرنا في وقت من الأوقات العمل لخلاصه من منفاه، لولا بعد المسافة، لكنني لم أكن أعدم وسيلة الكتابة إليه وإيقافه على مجريات الحوادث قدر الإمكان، كذلك فقد كتبت إليه أكثر من برقية للاطمئنان على حالته الصحية، كما أرسلت إليه برقية يوم ٢٥ مايو ١٩٢٢ أخبره فيها بهذا القرار: «لجنة الوفد للسيدات قررت عدم الاحتفال بالعيد بسبب إبعادكم، نبعث إليكم بتمنياتنا الطيبة.»

وكانت لجنة السيدات سباقة في هذا القرار، فبعد يومين اجتمع رجال الوفد، وأصدروا منشورًا تحت عنوان «نداء العيد من الوفد إلى الأمة»، أعلنوا فيه عدم الاحتفال بالعيد في ذلك العام، وقد جاء في هذا البيان:

أبناء الوطن

لن يضيع في سبيل الوطن بذل، أو مجهود عمل، وكل تضحية تحمل في نفسها جزاءها؛ فأشعروا بالصبر قلوبكم، وقووا بالمثابرة جهودكم، وظلوا على الاتحاد المتين والإرادة الصلبة التي لا تلين، فإنكم واصلون بإذن الله إلى تحقيق أمانيكم جميعًا.

سيعود سعد، وستحرر الحرية، وسيحل الاستقلال فيملأ القلوب والرءوس، ويعم أرجاء البلاد.

حينذاك ترتفع بالدعاء والحمد أصوات ملائكة السماء، ومن ارتفع في خدمة الوطن من الشهداء؛ فتمتزج أصواتهم بأصوات الأحياء.

وحينذاك يكون عيد في الأرض وعيد في السماء.

وقد وقع على هذا المنشور الذي صدر يوم وقفة عيد الفطر: حمد الباسل، ويصا واصف، جورجي خياط، مراد الشريعي، علوي الجزار، علي الشمسي، واصف غالي.

وقد ظلت الرسائل متبادلة بيني وبين سعد زغلول باشا، كما كنت أرسل البرقيات إلى زوجته السيدة صفية هانم زغلول للاطمئنان على صحتها، حتى عندما ذهبت في رحلة استشفاء إلى الخارج.

بيان لجنة الوفد للسيدات

وفي الوقت نفسه، فقد ظل نضالنا في الداخل متصلًا، وكان لنا رأي في كل المواقف والأحداث السياسية التي تجري … ومن ذلك أن لجنة الوفد المركزية للسيدات أصدرت بيانًا في ٣٠ يونيو ١٩٢٢ تتناول فيه الأوضاع القائمة في ذلك الوقت، وتحدد موقفها من وزارة عبد الخالق باشا ثروت التي لم تقم بأي عمل من الأعمال من شأنه تحسين الحالة في مصر. وكان نص البيان كالتالي:

تألفت وزارة ثروت في ظروف كانت ترى الأمة تشكيلها فيها مضرًّا بالقضية المصرية، فقررت اللجنة عدم الاعتراف بها لمخالفتها لإرادة الأمة، وأخذت ترقب أعمالها لعلها تجد بينها ما يبرر خروجها على إرادة الشعب، ولكنها مع الأسف لم تجد للآن ما يسوغ لها ذلك.

أبعد الزعيم وصحبه وكثير من أبناء مصر، فلم تطالب الوزارة بغسل الإهانة التي لحقت الأمة من جراء ذلك، ولو مجاملة للأمة، وليتها وقفت عند هذا الحد، بل استخفت بإرادة الشعب، وصادرت الحرية الشخصية بأكمل معانيها، فشددت الرقابة الصحفية، وحرمت على الصحف نشر الاحتجاجات وكل ما يتعلق بالزعيم وحرمه وصحبه حتى ذكر أسمائهم، ما جعل محلًّا للشك بأنها راضية عن إبعادهم، ومنعت الاجتماعات السلمية حتى لا يظهر معارض لها، وتعدت على حقوق الأمة بتشكيل لجنة الدستور، والأمة تطلب جمعية وطنية. أتت وزارة الاستقلال بكل ذلك، وانتهت بتعطيل لجنة الدستور عن العمل رغم إرادة أعضائها لأسباب ربما كانت عمل حضرات الأعضاء لصالح الأمة.

كل ذلك والأمة صابرة صامتة تعلل نفسها بالآمال قائلة «لعل لها عذرًا وأنت تلوم»، وأما الآن وقد ظهر سوء نية الإنجليز وصاروا يعملون علنًا على سلبنا حريتنا وإذلالنا وأخذ أموالنا وبلادنا تدريجيًّا منا، مخالفين عهودهم وتصريحاتهم المتكررة؛ فهم يعملون الآن على سلخ السودان من مصر، وهو لها بمثابة الروح للجسد، واعتبار السودانيين رعايا بريطانيين رغمًا عنهم وعن شدة تمسكهم بمصر، والمصريين أجانب بالنسبة للسودانيين كما جاء في تصريح الحاكم العام للسودان، وصادقوا على عمل قرض لتتميم خزان مكوار، مع أن العمل كان قد وقف لحين البت في المسألة المصرية.

ويضيقون على التجار المصريين في السودان بفرض الضرائب الباهظة عليهم ويعاملون الموظفين المصريين في السودان معاملة سيئة حتى يحملوهم على ترك السودان لهم. ويحاكمون الموظفين الملكيين والعسكريين السودانيين لإخلاصهم لمصر، ويمنعون المحامين المصريين من الدفاع عنهم.

يقتل رجالهم العسكريون المصريين بدون ذنب جنوه، وحادثة بائع البطيخ بشارع الشيخ حمزة أعظم شاهد لذلك، وكثيرًا أمثالها من الحوادث التي لم ولن تعلم.

يعملون على منح الموظفين الإنجليز بمصر بدل اغتراب مع ضيق ميزانية الحكومة المصرية، ويطلبون فرض مبلغ كبير بصفة تعويض على الخزينة المصرية لكل إنجليزي يقتل بأي سبب من الأسباب، واعتبار أسباب القتل سياسية مع أنه لا توجد قرائن للآن تدل على أن القاتل مصري، ولم تعارض الحكومة في أي أمر من الأمور السابقة، ولم تقف موقف الدفاع عن حقوق مصر وأبنائها كما يجب، فلا يسعنا إلا مصارحتها القول ومطالبتها بالسهر والعمل لمصلحة البلاد، أو التخلي عن كراسيها إن كانت عاجزة عن القيام بتمام الواجب لمن يمكنهم العمل لمصلحة البلاد.

مواقف … وبيان

وقد دارت عجلة الأحداث، وإذا بسعد باشا زغلول يطري موقف نسيم باشا في السودان، ولم يكن هذا موقفي أو موقف لجنة الوفد المركزية للسيدات، ولذلك فقد فوجئت بوجود اسمي ضمن أسماء السيدات اللائي حضرن اجتماع يوم ١٣ نوفمبر ١٩٢٣ بنادي سيروس، وقد أدركت القصد من ذكر اسمي، وكان عليَّ أن أواجه هذا الموقف صراحة ولذلك أصدرت البيان التالي:

ذكرت جريدتا الأخبار والبلاغ اسمي ضمن أسماء السيدات اللاتي حضرن اجتماع يوم ١٣ نوفمبر بنادي سيروس، على أني لم أحضر هذا الاجتماع لأني لم أدع لحضوره، وكنت ظننت أن ذلك حدث سهوًا من سكرتارية الوفد، غير أنه باطلاعي على كلمة معالي الرئيس سعد باشا زغلول فهمت معنى عدم دعوتي لحضور الاجتماع، وأدركت القصد من ذكر اسمي بالجريدتين المذكورتين، يعلم الوفد أني مخالفة لنظريته في سياسة نسيم باشا التي كانت هادمة لحقوق البلاد، ولذلك لم يدعني لتلك الحفلة مكتفيًا بذكر اسمي بين أسماء الحاضرات، ولما كنت أخشى إذا لزمت الصمت أن يستنتج الشعب المصري الكريم من صمتي، موافقتي على نظرية معالي الرئيس والوفد في أعمال نسيم باشا وتمجيدها لحفلته التي احتجت عليها لجنتنا في حينه، فإني مع احترامي لمعالي الرئيس أرى من واجبي في الظروف الحرجة التي تجتازها البلاد أن أجاهر برأيي ورأي اللجنة، مجددة احتجاجنا على أعمال نسيم باشا وما نتج عنها من تفريط في حقوق البلاد، وأسأل الله أن يرشدنا جميعًا إلى الطريق السوي بمنه وكرمه.

هدى شعراوي
وأذكر أن إحدى الصحف قد علقت على هذا البيان فقالت:

إنا لنرى في هذا البيان الموجز معاني كبيرة تدعو إلى التبصر والتفكير. ليس في مصر من أقصاها لأقصاها من ينكر على هدى هانم وطنيتها العالية وإخلاصها الذي لا تشوبه شابة.

وليس في مصر من ينكر ما للسيدة هدى هانم من اليد البيضاء على الوفد المصري نفسه. وليس في مصر من ينكر عليها وعلى أعضاء لجنتها ما أبدين من الغيرة والشهامة على الاحتجاج على التصرفات الصادرة من وزارة نسيم باشا ساعة أحجم الوفد عن الاحتجاج، بل ساعة تقدم الوفد وكتابه مدافعين عن نسيم وعن آثام نسيم.

إذا كان هذا هو تصرف الوفد مع هدى هانم على مكانتها من هذه الأمة، فما بالكم بتصرفه مع من لم يسعدهم الحظ بأن تكون لهم مكانة هدى هانم؟!

لا نريد أن نسترسل اليوم في الكلام على نفسية الوفد، فإننا نفضل أن نترك للأيام وحدها تشريح هذه النفسية وبسطها أمام الناس حتى يروا بأعينهم، ويلمسوا بأيديهم حقيقة هذه النفسية من غير حاجة إلى من يفسر أسرارها أو يشرح غوامضها.

عندئذ يدرك الناس مبلغ ما قاسى ذوو الضمائر من أنصار الوفد، إذ لم يستطيعوا مجاراته في الخير وفي الشر جمعيًا، فكان جزاؤهم منه الطرد من حظيرة الوطن والحرمان من رحمة الله.

رسالة سعد باشا

وقد تلقيت بعد ذلك رسالة من سعد باشا زغلول بتاريخ ١٨ نوفمبر ١٩٢٣، حاول فيها أن يعطي الأمور اتجاهًا آخر. وهذا يبدو من سطور الرسالة المنشورة مع هذه المذكرات.

على أن ما يعني هنا هو أن هذا الخلاف قد أثار حوارًا ساخنًا على صفحات الجرائد.

فقد كتبت إحدى الصحف تقول:

يأبى الوفد أن يدعو هدى هانم لحضور حفلته بأنها مخالفة لنظريته، فهو يحكم بحرمانها من التشرف بحضور اجتماعاته عقابًا لها على حرية رأيها، ولكنه لا يريد أن يعلم الناس بأن هدى هانم مخالفة له في هذه النظرية، إذن يجب أن يذكر اسم هدى هانم بين الحاضرين الذين قالوا إنهم صفقوا لنسيم وهتفوا باسم نسيم، يجب أن يذكر اسم هدى هانم — ويجب أن تقبل هدى هانم بهذا الحكم.

فالوفد أجبن من أن يتحرش بهدى هانم، ولكنه أهل لأن يدس اسم هدى هانم دسًّا في بلاغه للصحف، ليخدع الناس ويضللهم.

ولكن هدى هانم شجاعة وجريئة، فهي لا تهاب تحرش الوفد ولا تقبل دسه؛ تعلن على رءوس الملأ براءتها من نظريته في نسيم وتفضح دسه عليها.

وردت صحيفة أخرى على ما نشرته صحيفة «الليبرتية»، فقالت: يتعرض ذلك الكاتب السفيه في الليبرتية لهدى هانم، فيصف كلمتها للصحف بأنها باعثة على السخرية والضحك، لا يستحي هؤلاء المتطفلون على مصر أن يرموا أبر أبناء مصر بسفاهاتهم ووقاحتهم … ولكن ماذا يضير كتاب الليبرتية أن يطعنوا في كبار مصر وكبيراتها؟

يظهر هؤلاء الكتاب التحمس لسعد ولنسيم؛ لأن مال سعد وفير، ولأن نسيمًا أغدق عليهم النعم في وزارته، وسعد ونسيم لا يهمهما إلا أن يطعن كل إنسان يحاول أن يحتفظ بكرامته وحرية رأيه فكيف إذن تجرؤ هدى هانم على تبرئة نفسها من أي مخالفة لرأي أريد إلصاقه بها غصبا؟!

ولست أريد أن أستطرد في ذكر تفاصيل كل ما حدث في ذلك الوقت، ولكنني فقط أردت أن أبين أبعاد الموقف الذي حدث في احتفال ١٣ نوفمبر ١٩٢٣، وهو الموقف الذي ترتب على حوار سابق دار بيني وبين سعد باشا زغلول أثناء عودته إلى مصر من منفاه، فقد حدث أنني كنت في أوروبا في ذلك الوقت، وشاءت الأقدار أن أعود على الباخرة نفسها التي عاد عليها سعد، وتطرق الحديث أثناء رحلة العودة إلى مسائل شتى، إلى أن انتهى عند موقفي من وزارة نسيم باشا بسبب التفريط في السودان.

ورغم أنني ذهبت إلى بيت الأمة مهنئة بعد عودة سعد باشا إلى البلاد، فإنه ظل على موقفه مني، وبدا ذلك بوضوح في احتفال ١٣ نوفمبر ١٩٢٣، وإن كان قد حاول أن يغلف هذا الموقف بدواع وتفسيرات أخرى، أراد بلباقته أن يردها إلى موقف لجنة الاحتفال، وليس إلى موقف الوفد نفسه.

أما ماذا دار بيننا من حوار العودة، فهذه هي القصة على ظهر الباخرة أثناء رحلته، وهي قصة نشرت في ذلك الحين، وكان نشرها هو الذي دفع سعد باشا إلى كتابة رسالته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤