الفصل الثالث

كانت والدتي لم تبلغ الخامسة والعشرين من عمرها بعد عندما مات والدي في مدينة جراتس بالنمسا.

إنني ما زالت حتى الآن أتذكر يوم وصل إلينا نعي والدي الحبيب. ثم أيام الحزن العميق التي اجتزناها، والسنين المدلهمة الطويلة التي جلل فيها السواد كل أثاث المنزل ورياشه.

لقد وقع الخبر مثل الصاعقة على رأس والدتي، وما زلت أذكر صورتها وهي طريحة الفراش يعودها الأطباء من آن لآخر، وكانوا يأخذونني أنا وأخي فنقف بجانب فراشها، وإذ ذاك تنظر إلينا بحزن ثم تخنقها العبرات وتدس رأسها تحت الغطاء، وهي تقول: أبعدوا الطفلين عني! …

وعندما كنا نذهب إلى الغرفة المجاورة … عند والدة أخي إسماعيل … التي كنا نناديها باسم «ماما الكبيرة» … كنا نشاهد منظرًا أقسى لشابة أخرى فقدت ابنها قبل وفاة زوجها، ففقدت كل أمل في الحياة، ومرضت مرضًا ألزمها الفراش طوال السنوات الثماني التي عاشتها بعد ولدها، وعندما كان يلح عليها من حولها لترك الفراش وترييض جسمها، كانت تذعن في النهاية تحت إلحاحهم، فتتمشى من غرفة إلى أخرى، وكنا نفرح لذلك كثيرًا ونجري أمامها مهللين مصفقين، فتعلوا شفتيها القرمزيتين — بفعل الحمى — ابتسامة باهتة واهنة ممزوجة بالأحزان التي تنبع من أعماق قلبها. كنت أحب هذه السيدة حبًّا عظيمًا، وكانت تبادلني الحب وتعطف علي، وكانت هي الوحيدة التي تجاذبني الحديث بصراحة في مختلف الأمور والشئون، وقد لاحظت ما كنت أحاول أن أخفيه من آلام نفسية؛ بسبب تفضيل أخي عليَّ سواء من جانب والدتي أو أهل البيت جميعًا، فكانت تحاول أن تقنعني بأن هذا ليس تفضيلًا، ولكن لأن الولد هو الذي يحمل اسم الأسرة وهو الذي يحمل مسئوليتها.

وكان بيتنا مفتوحًا لكل زائرة ولكل قاصد، ذلك أن والدتي كانت خيرة وديمقراطية، ولذلك كان منزلها لا يكاد يخلو من الضيوف يومًا واحدًا، وكثيرًا ما كانت تطول تلك الضيافة نظرًا لما يجده الضيوف من حسن الوفاء وكرم المعاملة، وكثيرًا ما وفد الزائرون فجأة، في الأوقات المناسبة وغير المناسبة. ولذلك كانت مائدتنا مستعدة دائمًا لاستقبال الضيوف، وكانت الغرفة معدة لإقامة النازلين، وكثيرًا ما كنت أثور على هذا التطفل الذي يضطرني إلى ترك غرفتي لإحدى الضيفات أو قبولها شريكة لي فيها، وكنت دائمًا أفضل الحالة الأولى؛ لأنني أتألم من بعض الروائح ومن عدم تجدد هواء غرفتي.

وكان «السلاملك» هو مهبط الأقارب والموظفين، وكنت أحتفي بمن أصطفيهم من هؤلاء، وفي مقدمتهم زوج أختي الكبيرة إسماعيل بك؛ لأنه كان يبالغ في ملاطفتي وكان مع كبر سنه لطيفًا، واسع الصدر، يدلعني ويقربني منه، كذلك كنت أؤثر من أقاربي أحمد حجازي ابن عم والدي الذي كان كثير الاهتمام بأمري، وكان يحدثني عن أبي ويقص عليَّ بعض صفاته وتاريخه، كذلك كنت أفرح لمجيء أحمد بك مرزوق؛ لأنه كان مرحًا خفيف الروح، وكان يملأ البيت سرورًا بفكاهاته وصوته العالي.

وعندما كان يحضر علي بك شعراوي الوصي علينا وناظر أوقاف والدي، كانوا يأخذونني أنا وأخي للسلام عليه، وبعد ذلك كنت أتحاشى الذهاب إلى السلاملك؛ لأنه لم يكن يلتفت إليَّ على الإطلاق، وكان يوجه كل حديثه واهتمامه إلى شقيقي الذي كان يحبه حبًّا جمًّا. وكان منزلنا يتخذ شكلًا غير مألوف طوال مدة إقامته بسبب الخوف الذي كان يستولي على الخدم وعلى الأقارب والزائرين.

ومن الزائرين الذين كنا ننتظر قدومهم بلهفة وشوق جدتي وأخوالي، وكانوا يأتون من تركيا كل سنة أو سنتين تقريبًا لزيارتنا، ويغمروننا بهداياهم الكثيرة التي كانت تزيد على حاجتنا فنهدي منها للجيران والأصدقاء.

كانت جدتي على خلاف والدتي، قصيرة القامة ليست بالبدينة أو النحيفة، ناصعة البياض، زرقاء العينين، ترتدي الثياب البيضاء، وتضع على رأسها طرحة بيضاء تتخللها ضفيرتان من شعرها الأبيض تكادان تعادلان جسمها طولًا، وكانت تبدو في هذا البياض الشامل كالقديسة وكانت السماحة تشيع في محياها فتكسبها إشراقًا وطيبة.

ولقد أحببت جدتي كثيرًا، وإن كنت لم أستطع التفاهم معها إلا بالإشارة لجهل كل واحدة منا بلغة الأخرى، ولكن هذا ما كان ليمنعنا من تبادل العواطف وكانت تدللني ببعض كلمات وأغان شركسية ما زلت حتى الآن أحفظ الكثير منها.

وكان خالي الكبير يوسف شديد الشبه بوالدته في طوله وسماحة وجهه ودماثة خلقه، أما خالي إدريس — والد حواء وحورية — فكان شديد الشبه بوالدتي في رشاقته وجمال قسمات وجهه، وكان طويل القامة، نحيف القوام، رقيقًا في حركاته ومعاملاته، وكان يحبنا الحب كله ويقضي معظم أوقاته معنا لدرجة أنه كان لا يغادر المنزل إلا قليلًا.

كان هؤلاء الأهل يقضون معنا فصل الشتاء، حتى إذا أقبل الصيف بدأت جدتي تتأثر بحر بلادنا، فتلتهب أجفانها وتدمع عيناها ويحمر وجهها، فتطلب العودة إلى تركيا، ولكن خالي إدريس كان يبقى معنا لميله الشديد إلى تعلم اللغة العربية، فكان يتتلمذ معنا على أيدي مدرسينا.

ولما توفيت جدتي، وكان خالي الكبير قد تزوج، جاءت معه زوجته، فقلت له يومًا: لماذا لا تبقون معنا هنا ولم يبق لكم في الآستانة أحد بعد وفاة جدتي؟ فابتسم وقال: لقد عرض عليَّ المرحوم والدك ذلك، ولكنني اعتذرت؛ لأن في ذلك هدمًا لبيتنا ومحوًا لاسم عائلتنا.

قلت: وهل بندرته التي تقطنونها كانت بلاد آبائكم وأجدادكم؟ ألستم من القوقاز لا من الأناضول؟

فابتسم مرة ثانية وهز رأسه قائلًا: هذه الألفاظ نفسها قد سمعتها من والدك عندما ألح علينا للبقاء في مصر، ولترغيبنا وعدني بأن يكل إليَّ إدارة أعماله الزراعية ويدخل أخي المدارس ليتم تعليمه، ولكنني لم أقبل حفاظًا على اسمنا في بلادنا، كما اعتذرت عن عدم استبقاء أخي؛ لأن كل من أتم تعليمه من أفراد عائلتنا مات ميتة غير طبيعية.

وبعد ذلك بمدة، تخلف خالي إدريس وبقي بيننا يتعلم، ولما ألحت عليه والدتي في الزواج، أراد أن يتزوج من مصر ويبقى بجوارنا، فخطبت له إحدى فتيات البيوت العريقة، وعندما تحدد موعد القران اشترط أهل العروس ألا تفارقهم ابنتهم، وألا تسافر معه إذا سافر، ورفض هو هذا الشرط قائلًا: إن الزوجة لا بد أن تتبع زوجها في حياته وتنقلاته، وسافر إلى بلاده وتزوج هناك، وأنجب ابنتيه حواء وحورية.

وذات يوم دعي هو وأخوه مع أهل القرية لحضور فرح في قرية مجاورة، وكانت العادة هناك أن يركب المدعوون عربات تجرها الثيران، وطلب خالي الكبير من أخيه أن يصحبه في هذه العربات، ولكنه اعتذر لوجود ضيوف عنده، ووعد بأن يلحق به على ظهر جواده الجديد السريع، وكان الجواد قويًّا فجمح به أثناء الطريق وصدمه مقدم السرج في صدره؛ فسقط من فوق الجواد ميتًا، وانقلبت الأفراح أتراحًا، وتحقق بذلك اعتقاد خالي الخبير بأن من يتم تعليمه من أفراد الأسرة يموت ميتة غير طبيعية، وهكذا قضى خالي المسكين تاركًا طفلتيه الصغيرتين حواء وحورية، وكبراهما لم تبلغ الثانية بينما الصغرى ما زالت رضيعًا.

والحقيقة أنني لم أجرؤ في يوم من الأيام على سؤال والدتي عن أصلها وسبب نزولها في مصر، فقد كانت رحمها الله زاهدة في الكلام عن نفسها، قليلة الشكوى والجهر بآلامها، تتحكم في عواطفها وتخفي في قرارة نفسها كل ما يؤلمها، على إنني كنت تواقة لمعرفة شيء عن حياتها وأهلها. ولذلك سألت خالي يوسف عن سبب هجرة عائلته من القوقاز إلى الأناضول، وكيف وصلت والدتي إلى مصر إلى أن تزوج أبي منها، فقص عليَّ أنه عندما شبت الحرب بين الجراكسة وروسيا القيصرية حوالي عام ١٨٦٠، دافع الجراكسة عن القوقاز بكل شجاعة وبسالة، وكان جدي لأمي أحد القواد المشهورين، وكان يدعى «شار الوقه جواتيش»، وكان هو الذي يقود المعركة في القرم. وأثناء الحرب هزمت فرقته ووقع أسيرًا وكان له بين القواد المعروفين خصم هو القائد الداغستاني الشهير «الشيخ شامل» فانتهز هذا القائد فرصة أسره للتشهير به، وأشاع أنه انضم إلى الروس وخان بلاده، فقبضت السلطة المحلية على ولده يوسف الذي كان دون السادسة عشرة من عمره، وألقت به رهينة في الحبس توطئة للحكم عليه بالإعدام إذا لم يعد أبوه؛ وعندئذ قررت جماعة من حزبه وأقارب والده وأصدقائه، التطوع لتخليص والده وأصدقائه من أسر الروس؛ إنقاذًا لابنه المسكين. فارتدوا ملابس الجنود الروس واندسوا بينهم وقد ساعدهم على ذلك معرفتهم للغة الروسية، وصحبتهم في هذه المغامرة ابنة أخيه «حورية»، وكانت مع جمالها مغامرة فلم تتردد في الاندماج مع الرجال الذين تطوعوا لخلاص عمها، وقد ساعدهم الحظ، فوفقوا إلى تحقيق خطتهم وتمكنوا من تخليصه، ولكن الروس فطنوا إلى خلاصه فتعقبوه وقاتلوهم في الطريق، ولما كانوا قليلي العدد والعدة، فقد تغلب عليهم الروس، ومات وجرح معظمهم، وكان بين الجرحى جدي «جواتيش» الذي احتمى ببعض الصخور وظل يحارب المتعقبين من الروس في انتظار نجدة من الجراكسة كانت «حورية» قد ذهبت لإحضارها، وما زال يحارب حتى أصابته رصاصة أودت بحياته، وحمله منقذوه ميتًا إلى مسقط رأسه ليدفن هناك، وليثبتوا كذب الشائعات التي روجها خصمه الشيخ شامل وبذلك أنقذ ابنه من السجن والموت.

وقد روت «حورية» عن عمها أنه أنبأها خلال فترة الخلاص، أن الروس عندما أسروه بدءوا يلاطفونه ويطرون شجاعته ومعرفته بأصول الحرب وقيادة المعارك، ثم طلبوا منه أن ينضم إليهم ويحارب في صفوفهم للاستفادة من خبرته الحربية ومن شجاعته النادرة. فما كان منه عندئذ إلا أن خلع «الكلبق» من على رأسه وألقى به على الأرض، ثم أمسك بسيفه وكسره على ركبته وألقى به في وجه القائد الروسي الذي كان يفاوضه في هذا الأمر، وكان معنى ذلك أنه يمتهن كرامة الدولة التي أهانت شرفه.

وعندما وضعت الحرب أوزارها وخسر الجراكسة، لم تشأ جدتي البقاء في القوقاز فهاجرت مع من هاجروا إلى الآستانة، مصطحبة أولادها الخمسة بنتين وثلاثة ذكور، وقد قص عليَّ خالي يوسف ما قاسوه في هذه الهجرة من ألم الجوع ومرارة الحرمان طوال المدة التي قضتها الحكومة التركية في إجراءات البحث في أمر المهاجرين، وتعويضهم عن بعض أملاكهم وأموالهم. وأثناء ذلك مات أصغر الذكور، وكان يدعى «يعقوب»؛ نتيجة إصابته بالتهاب رئوي، كما سرقت أخته الرضيع من مرضعتها، وخوفًا من سرقة الأخت الباقية — وهي والدتي — قرروا إرسالها إلى مصر للإقامة عند خالها الضابط يوسف باشا صبري، فقد صادف أن كان أحد أصدقائهم قاصدًا مصر لزيارة عائلة راغب بك، فسلموها له ليوصلها إلى خالها، ولكنه عندما وصل مصر، كان خالها في رحلة حربية في السودان، وذهب بالطفلة إلى زوجة يوسف باشا، فأنكرت أن يكون لزوجها أقارب، ورفضت قبولها وهكذا بقيت والدتي في بيت راغب بك على أمل أن يعود خالها ويطلبها، ولكن يبدو أن زوجته أخفت عنه هذا الخبر، وكان أن استمرت والدتي في رعاية ابنة راغب بك التي أحبتها كثيرًا وعنيت بأمرها ولكن بعد أن تزوجت هذه السيدة، دبت الغيرة في قلبها من والدتي التي كانت على جانب كبير من الجمال، وأرادت التخلص منها، وكان من حسن حظها أن اختارها والدي زوجة له.

وذات يوم، كانت تساعد والدي على ارتداء ملابسه، وتصادف أن كانت قريبة من النافذة المطلة على الحديقة، فدمعت عيناها، وهنا سألها والدي عن سبب بكائها، فقالت له: إنها لمحت بين الزائرين الوافدين إلى السلاملك شابًّا يشبه أخاها يوسف، فلم تتمالك نفسها من البكاء، فسألها والدي عن أهلها وعشيرتها، ولما قصت عليه قصتها، أرسل على الفور إلى منزل علي بك راغب من يستفسر عن عنوان أهلها، ولحسن الصدف كان قريبهم الذي أحضر والدتي موجودًا في مصر، فحضر عند والدي الذي كلفه بإحضار العائلة بعد أن سلمه تكاليف السفر، وبالفعل سافر إلى بندرته وأحضرهم؛ فكان لهذا اللقاء فرحة عظيمة وتأثير كبير في حياة والدتي التي أنزلها والدي المنزلة الأولى من نفسه وبيته، وبعد ذلك دعوا خاليها للتعارف، وهما يوسف باشا والد منيرة هانم حرم المرحوم المهندس علي باشا فهمي، وموسى بك والد اللواء محمد رفقي باشا، والبكباشي أحمد فخري، وعلي بك رضا؛ فأصبحت بذلك بين أهلها وعشيرتها.

هذا عن والدتي …

أما والدتي الكبيرة، فلقد كنت أطمئن إلى عشرتها لما كنت ألقاه منها من عطف وحنان وصراحة تزيد من ثقتي بها، وتخفف من أحزاني التي كنت أبثها إياها، إذا ضاقت بي الحال وأزعجتني الهواجس والأفكار. وكثيرًا ما كنت استأذن والدتي في تمضية بعض الليالي مع والدتي الكبيرة، فكانت تأذن لي رغم علمها بمرضها ولكنها لم تكن تخشى العدوى. وكنت أقضي معها ليالي عديدة، أنام معها في سرير واحد مسرورة قريرة العين منتعشة؛ لأنها كانت مثلي تحب الهواء الطلق، ولا تنام إلا والنوافذ مفتوحة وبخاصة في الصيف، وذلك على خلاف والدتي التي كانت تغلق علينا الأبواب والنوافذ خشية أن يصيبنا البرد، فكنت أسهر معها حتى يغلبني النعاس، وأستيقظ في الصباح الباكر على صوت الأطيار وتغريدها، وكانت الطبيعة بما فيها من جمال وجلال تأخذني فأسبح في جمالها إلى ما لا نهاية، وأشعر بالسعادة والهناء لما ألقاه من عطف وما أسبح فيه من خيال.

وكان يلذ لي أن أشارك هذه السيدة البارة الرحيمة أفكارها لتشابه أذواقنا في كل شيء، كانت تحب اللبن البارد المغلي في المساء والمغطى بالقشدة، فكنا نغمس فيه الخبز اليابس ثم ننتهي بالفاكهة. وفي ليالي الشتاء كنت أجلس القرفصاء بجانب الموقد للتدفئة وأضع الكستناء على الفحم المتوهج واحدة بعد الأخرى، وكلما فرقعت إحداها، قفزت من مكاني ضاحكة، فتضحك هي الأخرى وهي ترنو لي بعين الشفقة والحنان.

وأتذكر إنني طلبت منها ذات يوم أن تفسر لي حكمة تفضيل شقيقي عليَّ، فأجابتني في ابتسامتها الحلوة: ألم تشعري الآن بالفارق الذي بينك وبينه، قلت: نعم ولكني أنا الأكبر وأنا الأولى، ويجب أن يكون نصيبي أوفر منه ومركزي أعلى من مركزه.

قالت: ولكنك فتاة وهو غلام. وليس هذا فحسب، بل أنت لست الفتاة الوحيدة وهو الولد الوحيد الذي عليه عمار الدار، أنت عندما تتزوجين ستذهبين إلى منزل الزوجية وتحملين اسم زوجك، أما هو فسيحيي اسم أبيه ويفتح بيته.

هذا الجواب الصريح المعقول، رد إليَّ رشدي، ولم أتألم من سماعه بل نزل على قلبي بردًا وسلامًا، وزادني حبًّا لأخي الذي سيخلد اسم أبي الحبيب ويحل محله في العائلة.

وقد فهمت والدتي الكبيرة ما أقاسيه من هذا الشعور، فأضافت: إن أخاك ضعيف البنية، لذلك يخافون على صحته ويعطفون عليه، أما أنت فقوية سليمة الصحة.

وقد تمنيت بعد ذلك أن أمرض لأتساوى معه في حب والدتي، وتصادف أن تفشت حمى الدنج في البلد، وكنت أول من أصيب بها في المنزل، ففرحت بهذا الاختبار ولازمت الفراش، وكم تأثرت من اهتمام والدتي بمرضي وانزعاجها منه؛ لأنها لم تتعود أن تراني مريضة، وأمرت في الحال بإحضار طبيب العائلة «علوي باشا»، وبعد يومين أو ثلاثة، أصيب أخي بالمرض نفسه، فقام أهل المنزل على قدم وساق، ورأيت الأطباء يدخلون غرفتنا قاصدين فراش أخي، ثم يقومون بفحصه ويغادرون الغرفة دون أن يلتفتوا إليَّ، رغم أن فراشه كان بالقرب من فراشي، وقد أثر في ذلك كثيرًا، وارتفعت الحمى من فرط تأثري، ولكن أحدًا لم يهتم بأمري إلا بعد أن ازدادت حالتي سوءًا.

ولقد زادتني هذه التجربة المريرة انكماشًا وحقدًا على من حولي، فصرت أقضي معظم أوقات الفراغ بعد الدرس في حديقتنا التي كانت أشبه بغابة صغيرة، وكنت أحب الحيوانات، وكان يخيل إليَّ أنها تفهمني وترثي لحالي، كما كنت أرى في الأشجار مرتعًا للألعاب الرياضية التي كنت مشغوفة بها.

وكنت أجد تسلية كبرى في أوقات الدرس، إذ كنا نمضي كل صباح في تلقي مختلف العلوم من المدرسين باللغات العربية والتركية والفرنسية، وكنت مغرمة جدًّا، باللغة العربية. وكان يحضر الدرس معنا مربينا «سعيد آغا» الذي كان يلازمنا في كل مكان. وكان صاحب الأمر والنهي على الخدم وعلى معلمينا. وبهذه المناسبة أذكر أنه لتعطشي للغة العربية، سألت أستاذي يومًا عن السبب في عدم إمكاني قراءة القرآن مثله دون خطأ، فقال: لأنك لم تتعلمي قواعد النحو.

ولما سألته إن كان في إمكاني أن أقرأ مثله بلا لحن ولا خطأ بعد تعلمي القواعد، أجابني بالإيجاب، فرجوته أن يعلمني القواعد، ففرح وقال لي: بكل سرور، وفي اليوم التالي أتى يحمل تحت إبطه كتاب النحو، فسأله سعيد آغا بعظمة وكبرياء: ما هذا الكتاب؟ قال: كتاب النحو، طلبته الآنسة نور الهدى لتتعلم القواعد، فقهقه الآغا وقال له: خذ كتابك … لا لزوم للنحو؛ لأنها لن تكون محامية يومًا من الأيام!

وقد أثرت هذه الصدمة الجديدة في نفسي تأثيرًا شديدًا، وبدأ اليأس يتسرب إلى قلبي ويتولاني الملل حتى أهملت دروسي، وصرت أكره أنوثتي؛ لأنها حرمتني متعة التعليم وممارسة الحياة الرياضية التي كنت أحبها، كما كانت تحول بعد ذلك بيني وبين الحرية التي كنت أعشقها …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤