الفصل الحادي والثلاثون

دخلت المرأة المصرية في الحياة العامة من باب السياسة؛ لأننا في الوقت الذي كنا نفكر فيه في إصلاح حال المرأة وتنويرها، قامت ثورة ١٩١٩، وكان حتمًا أن يقف كل مصري ومصرية في صفوف الثوار حتى تنال بلادنا استقلالها وحريتها، وتكون صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في أمورها ومستقبلها، ولقد كانت المرأة المصرية صورة طيبة للمشاركة وصدق المشاعر الوطنية، حتى إن الكتاب قارنوا بين موقفها وموقف بعض الرجال، واعترفوا للمرأة بأنها أكثر إيجابية وموضوعية.

وبعد أن استقرت الأمور بعض الشيء في عام ١٩٢٦ كان علينا أن نتجه بالجهد الأكبر إلى المجال الاجتماعي وأن نهتم بالقضايا الاجتماعية والنسائية باعتبار أن المرأة هي نصف مجموع الأمة، وكل ما تحققه ينعكس على الحياة العامة ويدفع إلى تطور المجتمع.

ولذلك فقد دعوت نساء مصر إلى لقاء في جمعية الاتحاد النسائي المصري في نهاية أبريل ١٩٢٦، وألقيت فيهن خطابًا حول القضايا الاجتماعية والنسائية.

وقد نشرت بعض الصحف هذا الخطاب في أول مايو ١٩٢٦. وقد جاء فيه:

حضرات السيدات

دعوتكن اليوم لا لأعرض عليكن عملًا من الأعمال السياسية التي ألفنا غير مرة الاجتماع للتحدث عن شأن من شئونها، ولا لأحدثكن عن شأن من شئون أي حزب من الأحزاب التي تشتغل بهذه السياسة، فإني أرى اشتغال المرأة بمثل هذه الشئون كان يجب أن يكون بعد أن تنظم من شأنها في العائلة مركزها في المجتمع.

أيتها السيدات: إذا كنا في الماضي بدأنا بمشاركة الرجال في الاشتغال بتلك المسائل، فعذرنا في هذا أن حالة البلد كانت مدة الحرب العالمية وعقبها في مركز استثنائي يثير النفس مهما تعودت الصبر؛ لأن ما نال البلاد في تلك الأيام من الغبن وسوء المعاملة كان يحتم على كل كائن فيه إظهار تذمره وصياحه في وجه الظالمين.

أما اليوم وقد استقرت الحالة على نوع ما، ونالت البلاد الحكم الدستوري، فإن من الواجب علينا أن نترك تلك الأمور السياسية مؤقتًا اكتفاء بأولي الشأن فيها من الرجال لنتفرغ لما هو خاص بنا. على أننا قد رأينا بالرغم من مشاركتنا للرجال عدة سنوات؛ إهمالهم شأن المرأة في تقرير حقها السياسي، حتى في أبسط الحقوق الأولية كقبولها ناخبة، مع أن هذا حق لكل رجل مهما كانت درجته من الجهالة وتجرده من أي ميزة تميزه عن أقل امرأة في الهيئة الاجتماعية، لذلك كانت دعوة اليوم للتحدث معكن فيما تم على يد جمعية الاتحاد النسائي التي لها الحظ الأوفر بمعاضدتكن لها واشتراككن فيها، ولست بحاجة إلى أن أذكركن أن هذه الجمعية تأسست سنة ١٩٢٣ لتكون واسطة تعارف وتعاون بين المرأة المصرية وأختها الغربية. لقد كان هذا التعارف ضروريًّا جدًّا لإزالة ما علق بأذهان الغربيين من تصور المرأة المصرية عضوًا أشل أو لعبة من لعب الزينة في أيدي الرجال، ولست أدعي أن الجمعية استطاعت أن تحقق كثيرًا من مقاصدها، وذلك:
  • أولًا: لأن كل عمل إصلاحي تعترضه في بدايته عقبات من ذوي الأفكار الرجعية الذين انطبعوا بطابع التقاليد العتيقة الجامدة.
  • ثانيًا: لأن المعونة اللازمة لتقوية هذه الجمعية ونشر مبادئها، لم تكن مصحوبة بالغيرة الكافية والمثابرة الواجبة.

سيداتي: بالرغم من السببين السالفين، وبالرغم من أن العاملات المثابرات على خدمة هذه الجمعية من أعضائها لم يزدن على عدد أصابع اليد إلى اليوم … وبالرغم من كل ذلك، أتت هذه الجمعية بثمرات باهرة في خارج القطر وداخله، ونالت من حسن السمعة ما يشجعنا على مضاعفة مجهوداتنا، ويقوي يقيننا في قرب تحقيق أغراضنا.

أيتها السيدات: عقب إنشاء هذه الجمعية، سافر أول وفد عنها إلى المؤتمر النسائي الدولي العام الذي عقد بمدينة روما في مايو ١٩٢٣. وهناك تبينت رسلكن وكادت تلمس الفرق العظيم بين حياة المرأة الغربية ومركزها في الهيئة الاجتماعية وبين زميلتها في الشرق، وقد كان هذا الدرس أول قبس اتخذ أساسًا لوضع قواعد الإصلاح الواجبة للمرأة عندنا؛ لذلك فكرنا فيما يجب أن نبدأ به؛ لذلك فكرنا في الإصلاح وتنظيم حالة العائلة.

ولما كان الزواج أول مرحلة من مراحل تأسيس العائلة، كان الاشتغال بتنظيمه الحجر الأول في بناء الإصلاح، ولما كان الزواج المبكر عندنا هو أول عقبة تحول بين الفتاة وبين تكوينها تكوينًا صحيحًا ينهض بها في معترك الحياة، وكان هذا النوع من الزواج شائعًا بطريقة مفزعة في أنحاء القطر ولا سيما في القرى والريف: رأينا أن نبدأ عملنا بطلب تشريع يعصم الفتاة من الزواج قبل بلوغها السادسة عشرة من عمرها، ليكون لديها من الوقت ما يسمح لجسمها بالتكوين ولعقلها بالتهذيب والتثقيف.

وقد كان نظام التعليم لذلك الوقت يحول بين الفتاة وبين أمانيها في التعليم الثانوي، فطلبنا أيضًا إلى الحكومة أن تذلل هذه العقبة وتساوي بين الولد والبنت في جميع درجات التعليم.

سيداتي: تذكرن أن وفدًا منكن ذهب بتقرير أقرته هذه الجمعية إلى رئيس الوزارة يومئذ صاحب الدولة يحيى باشا إبراهيم، ومما يستحق أن يخلد بجميل الذكر ما نالته هذه الطلبات من عناية دولته؛ إذ قبل انقضاء سنة ١٩٢٣ صدر المرسوم بمنع مأذوني عقود الزواج عن تحرير أي عقد إلا بعد التثبت من بلوغ البنت السادسة عشرة من عمرها والولد الثامنة عشرة.

وفيما يتعلق بطلب المساواة في التعليم بين الجنسين، قد تلقت الجمعية من صاحب المعالي زكي باشا أبو السعود وزير المعارف في ذلك الوقت كتابًا أنه أخذ في درس هذا الطلب ويعد تحقيقه وإجابته قريبًا، وها قد تحقق أمر المساواة في التعليم من أوائل سنة ١٩٢٤.

إذا ذكرنا هذا — ونحن نغتبط بما صادفناه من النجاح — فلا يسعنا أن نمر بدون إظهار أسفنا واستيائنا مما تلا مرسوم الزواج الصريح من صدور منشور سنة ١٩٢٤ يفسره تفسيرًا لا يتفق والروح التشريعية التي صدر من أجلها، إذ إن الحكمة في هذا التشريع صيانة البنت من تصرف والديها تصرفًا ضارًّا بتزويجها تزويجًا مبكرًا قبل بلوغ تلك السن، فوزير الحقانية أجاز للقضاة في تفسيره أن يقبلوا زواج أية فتاة مهما كانت سنها إذا شهد أبواها أو أحد من أولياء أمرها أنها بلغت السادسة عشرة دون أن يقدموا مع هذه الشهادة ما يؤيدها كورقة الميلاد أو أي وثيقة أخرى رسمية، فكأنه في ذلك اعتبر الخصم حكمًا، وبهذا أضاع المصلحة وساعد الأولياء على تأدية شهادة قد لا تكون في كثير من الأحوال متفقة مع الواقع.

وإني في هذا المقام مضطرة لأن أطلب من الجمعية الاحتجاج على هذا المنشور، وأن يطلب من معالي وزير الحقانية الحالي إلغاؤه.

أيتها السيدات: إن نجاح الجمعية في فتح طريق التعليم للفتاة إلى آخر مدى، جعلنا نفكر فيما عسى أن يكون من مركز الأم الجاهلة أمام ابنتها المتعلمة؛ إذ كما بعدت الثقة بينهما في قوة الإدراك والحكم على الأشياء ضعف نفوذ الأم وكرامتها في نفس ابنتها، فرأينا علاجًا لهذه الحالة أن نصرف همنا أيضًا لإصلاح الأم وترقيتها بقدر الإمكان، فأنشأنا دارًا سميت «دار التعاون الإصلاحي» لتدريب الأمهات على المسائل الأولية المنزلية وتعليمها مبادئ القراءة والكتابة والحساب وبعض الصنائع اليدوية، وجعلنا بهذه الدار قسمًا آخر لمعالجة من يؤمه من المرضى الفقيرات وصرف الأدوية مجانًا، وتقديم النصائح في كيفية تنظيف أولادهن وتمريضهن وإلقاء محاضرات في قانون الصحة. وكان لنا رجاء أن تنال هذه الدار إقبالًا من الأمهات والزوجات الفقيرات معاضدة من السيدات بتطوع فريق منهن لإلقاء هذه المحاضرات والنصائح الصحية بالتناوب بينهن من يوم لآخر، وبالمساعدة المالية التي تمكن الجمعية من إنشاء دور أخرى على هذا النمط في أنحاء متعددة من المدينة، ولكن بقيت هذه الدار وحيدة إلى اليوم، ومما يؤسف له أن السيدات القليلات اللاتي تطوعن في بداية الأمر لإلقاء النصائح على الأمهات، حينما انقطعن عن العمل لأسباب مختلفة، لم يتقدم من يخلفهن في القيام بهذا الواجب الإنساني، وصار القسم الصحي عيادة عادية كالعيادات الأخرى المخصصة للفقراء.

أما القسم الخاص بتعليم القراءة والأشغال، فقد علمتن ما وصل إليه من الرقي والنجاح في مدة قصيرة، وأن ما عرض بنادي الاتحاد النسائي بقصر الدوبارة في أوائل الشهر الجاري من مصنوعات هذا القسم، حاز إعجاب من زاره من جميع الطبقات.

سيداتي: إذا شكوت إليكن من تقصير بعض منا إزاء هذا الواجب الإنساني المقدس، فلي عوض مقابل هذا، وهي تلك اليد البيضاء التي مدها حضرات الأطباء الذين تطوعوا من أول إنشاء هذه الدار بالحضور إلى عيادة المستوصف بعد أن قسموا العمل بينهم يوميًّا، وكثيرًا ما تبرعوا بأموالهم أيضًا لمواساة مرضاهم، كما اتفق غير مرة أن يأخذ بعضهم من مرضاه من كان في حاجة إلى إجراء عملية جراحية كبرى بعيادته الخصوصية وقام بإجرائها مجانًا.

بجانب هذا العمل الجليل الذي قام به حضرات الدكاترة، قامت سيدة أجنبية بخدمة هذه الدار مدة طويلة، تذهب إليها يوميًّا من الصباح إلى المساء، تقسم وقتها هناك بين قسم الشغل وبين المستوصف، تدخل في صفوف التلميذات فتراقب أعمالهن ونظافتهن مراقبة دقيقة، وفي الوقت نفسه تلقي النصائح وتجهد نفسها ليكون النظام تامًّا والسكون سائدًا، وعلى العموم كانت تعمل على إصلاح ما تراه ناقصًا، ولم تكن في المستوصف أقل نشاطًا في القيام بالواجب الإنساني، وطالما ذهبت إلى بيوت المرضى لتتحقق من حالها الصحية وما تحتاج إليه، وما كانت تطرق هذه المنازل كزائرة عادية ولكن كناصحة ومرشدة للخير.

تلك السيدة اليابانية حرم المرحوم أحمد بك فضلي، وفي الواقع كانت اليد اليمنى لإدارة هذه الدار، وكل ما رأيته من تقدم ونجاح، فإنما هو ثمرات مجهودات هذه السيدة الفاضلة. وأنه ليحزنني جدًّا أن أخبركن أن هذه السيدة بارحت القطر في أوائل هذا الشهر، وقد دعتها إلى السفر ضرورات شخصية، فشيعت منا ومن كل من يعرفها بالعبرات والحسرات.

بعد هذا فوجئنا بصدمة أخرى لوفاة عضو عامل كفؤ في جمعيتنا، تلك هي صغرى أخواتنا الناهضات العاملات الآنسة «فكرية الصلح» وافتها المنية في الأسبوع الماضي وهي في الثالثة والعشرين من عمرها في السن التي لا تفكر فيها مثيلاتها إلا في ملابسهن وزينتهن، كانت كرفيقتها مدام فضلي بك تمضي أيامها في دار الإصلاح دون أن تضن بوقتها ومجهوداتها.

وإن هذه الصدمة لتذكرنا بخسارة كبيرة أخرى لحقتنا في السنة الماضية، وفي مثل هذا الميعاد تقريبًا، بوفاة المأسوف عليها زميلتنا «سعاد الهلباوي»، وكانت بين أعضاء الجمعية مثلًا أعلى في الإخلاص والنشاط ومكارم الأخلاق، فتكريمًا لذكراهما أسمح لنفسي بطلب وقف الجلسة خمس دقائق حدادًا عليهما ومناجاة لروحيهما.

سيداتي بجوار هذه الأعمال رأينا أن نعرض عليكن في ختام كلمتنا هذه ثلاثة أمور مهمة:
  • الأول: عزمنا على إجابة دعوة مؤتمر النساء الدولي العام الذي سيعقد بباريس في ٢١ مايو المقبل لتمثيل جمعيتنا هذه التي هي فرع من فروعه، وحبذا لو سنحت الفرصة لبعض منكن بالسفر معنا لهذا الغرض، إذ كلما كثر عدد الوفد الذي يمثل هذه الجمعية، زادت شأنًا وكانت أعظم أثرًا في تأييد المشروعات الناقصة التي ستنظر في المؤتمر هذا، ولن تكون مباحث المؤتمر مقصورة على المشروعات النسوية، بل ستتناول مسألة كبرى تطمح إلى تحقيقها جميع شعوب العالم، تلك المسألة هي طريق الوصول إلى تحقيق السلام العام، وإن أكبر فخار لمصر أن يكون لنفر من أبنائها قسط وافر في بحث هذا المشروع ودرسه والمساعدة على تحقيقه.
  • الثاني: ملخص التقرير الخاص بإدارة هذه الجمعية والدار التابعة لها من الوجهة المالية، وهذا لكي ترين يقينًا أن المساعدة المالية كانت أيضًا ضئيلة، ولعل ذلك يستنفر غيرتكن وغيرة كل مصرية ويدعو إلى زيادة البذل والتضحية وانضمام عدد كثير من السيدات إلى صفوفنا.
  • الثالث: مشروع تقرير نرغب في عرضه على الوزارة، ويتضمن طلب إصلاح خمس مسائل كبرى تخص المرأة، وهي:
    • (١) وضع حد لتعدد الزوجات.
    • (٢) وضع حد لفوضى الطلاق الحاصل الآن.
    • (٣) إصلاح القوانين الخاصة بما يسمى دار الطاعة.
    • (٤) حق الأم في حضانة أولادها.
    • (٥) إلغاء منشور سنة ١٩٢٤ المعطل لقانون تحديد سن الزواج.

وإني لا أشك في أنكن ترين المصلحة العظيمة في إقرارنا على هذه المطالب، فأرجو إذا صح ظني هذا أن تنتخبن بعد الموافقة لجنة لتقوم بتقديمه إلى صاحب الدولة رئيس الوزراء وصاحب المعالي وزير الحقانية.

هذا ما أردت بيانه اليوم، وأسأل الله أن يوفقنا جميعًا إلى النجاح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤