الفصل الثاني والثلاثون

انعقد المؤتمر النسائي الدولي العاشر في باريس، وقد اختيرت جامعة السوربون مقرًّا لهذا المؤتمر الذي عقد تحت رعاية وزير المعارف الفرنسي، وذلك في الفترة ما بين ٣٠ مايو و٦ يونيو ١٩٢٦، وجدير بالذكر أن جلسات هذا المؤتمر قد بدأت بصفة غير رسمية قبل موعد انعقاده بخمسة أيام، كما استمرت بعد موعده الرسمي بيومين، وبذلك تكون أعماله قد امتدت إلى خمسة عشر يومًا.

وقد اشتركت في هذا المؤتمر ٤٢ دولة، مثلتها حوالي ٥٠٠ من الأعضاء الرسميات إلى جانب بضع مئات أخرى جئن بصفة غير رسمية لمتابعة قضايا المرأة في مختلف أنحاء العالم.

وتناول المؤتمر الذي عقد برئاسة مسز «اشبي» رئيسة الوفد الإنجليزي، عديدًا من الموضوعات الاجتماعية والنسائية، وشكلت اللجان المختلفة لدراسة هذه الموضوعات وهي:
  • الأم غير المتزوجة، وجنسية الزوجة، وحقوق الزوجة.

  • المساواة بين الجنسين في العمل، وحق المرأة في أن تكون ناخبة وقابلة للانتخاب.

  • منع تجارة الرقيق ومقاومة البغاء.

  • السلام العام.

  • النشر والدعوة لتحرير المرأة.

وبالإضافة إلى ذلك، فقد كان من الأعمال غير الرسمية التي سعى إليها المؤتمر توثيق الروابط بين الشعوب، ولتحقيق ذلك دعيت الوفود المشتركة في المؤتمر لزيارة البلدية، والمستشفيات الخاصة بالنساء والأطفال، والمعاهد، والمصانع، ودور الفنون.

وقد انتخب الوفد المصري سبع سيدات للذهاب إلى مؤتمر باريس، اعتذرت منهن سيدتان وسافرت الخمس الأخريات. وكان هذا الوفد تحت رئاستي؛ حيث تحدثت في جلستين رسميتين هما حفلة الافتتاح الكبرى بالسوربون وحفلة السلام في تروكاديرو، وتحدثت السكرتيرة الآنسة سيزا نبراوي في حفلة ممثلات الشعوب في مركز الجمعيات البلدية، وتحدثت السيدة أستر فهمي ويصا بالإنجليزية عن رأيها في عصبة الأمم.

وقد وقعت حادثة صغيرة في جلسة الافتتاح، فقد كنت قد سلمت العلم المصري إلى سكرتارية المؤتمر لترفعه بين الأعلام الأخرى في انفتياترو السوربون، ولكن حدث سهو أدى إلى عدم رفعه وعندما جاء دور مصر في إلقاء كلمتها، بدأت خطبتي بإعلان الأسف إذ لم يكن العلم مرفوعًا بين الأعلام الأخرى، رغم أن مصر كانت ولا تزال مهد السلام والاعتراف بحقوق المرأة، وهما الأمران اللذان اجتمع المؤتمر للدفاع عنهما. وقد اعتذرت رئيسة المؤتمر لهذا النسيان، كما اعتذر وزير المعارف الفرنسي الذي كان يرأس جلسة الافتتاح، وأضاف أن مصر التي هي أول مناهل الحضارة والتي لا تزال تتصل وفرنسا بروابط ود لا تُنسى لا يمكن أن يحصل إزاءها هذا النقص قصدًا؛ بدليل العطف والتقدير اللذين أظهرهما جمهور الفرنسيين عند قيامي بإلقاء كلمتي، وقد تم رفع العلم المصري بعد ذلك في كل المواقع التي كان للمؤتمر شأن فيها.

وجدير بالذكر أن الوفد الفرنسي قد عبر عن أطيب النوايا عندما بدأ بترشيحي عضوًا في اللجنة التنفيذية للاتحاد النسائي الدولي، وقد تبعته الوفود الأخرى في تزكية هذا الترشيح. وبذلك أصبحت الممثلة الوحيدة للمرأة في بلاد الشرق الأقصى والأدنى في هذه اللجنة.

كذلك فقد انتخبت ضمن أعضاء اللجنة المعنية ببحث مسألة السلام الدولي، وكان هذا الانتخاب انتصارًا لمصر التي كانت تسعى للسلام، وترغب في دخول عصبة الأمم مساواة بالبلاد المستقلة الحرة، وقد صادف هذا الاختيار سعي عدلي باشا يكن لإدراج مصر ضمن عصبة الأمم.

وقد انتهزنا فرصة انعقاد المؤتمر لعرض بعض المصنوعات المصرية الدقيقة إلى جانب معروضات البلاد الأخرى، وقد لقيت مصنوعاتنا إقبالًا ونجاحًا كبيرين، وكانت وسيلة طيبة للدعاية لمصر ولقضيتها.

وأذكر أن رئيسة المؤتمر «مسز كوريت اشبي» قد هنأتني على نجاح مجلة «المصرية» واعتبرتها من عوامل نهضة المرأة في مصر والشرق، وترجمانًا عن هذه النهضة في بلاد الغرب؛ حيث كانت تصدر باللغة الفرنسية، وقالت: إنها من أرقى المجلات النسوية في العالم.

الحركة النسوية في مصر

ولقد شهد مندوب جريدة السياسة هذا المؤتمر، وكتب إلى جريدته في أول يوليو ١٩٢٦ يتحدث عن المؤتمر فقال: «لقد ساعدني الحظ في شهود هذا المؤتمر فرأيت كيف تتضافر سيدات العالم في النضال عن حقوقهن وعن حقوق الإنسانية جمعاء، وعجبت كيف لا يزال بين المتعلمين النابهين من يمعن في الأثرة على حساب المرأة، وهي كما جاء في مطلب الاتحاد النسوي المصري نصف المجموع ومربية الجيل القابل جميعه، رجالًا ونساء، شعبًا ونوابًا. وشهدت المؤتمر وتتبعت آثاره في الإصلاح والنهوض والمعاونة، فازددت يقينًا على يقيني بأحقية المرأة في ضرورة فتح باب المساواة المطلقة يدخل منه كل من يستطيع بمقتضى الأحقية لا بمقتضى النوعية؛ لأن التمييز النوعي لا يفيد التفوق في الكفاءة.

على أنه لا محل للصخب ولا للأخذ والرد الآن ولا تزال مطالب المرأة المصرية محدودة ضمن دائرة صغيرة لا تكاد تتعدى إصلاح العائلة، كتحديد الزواج والطلاق، وحماية المطلقة والطفل، ومقاومة الأمراض الضارة بالنسل، وتعميم التعليم الأولي بين الفتيات، وفتح باب التعليم العالي لمن تريد منهن.

وعندي أن وزارة عدلي باشا في غنى عمن يقنعها بأحقية هذه المطالب في العصر الحاضر، وأظن أن ثروت باشا كان قد شكل لجنة في الحقانية لإنصاف المرأة حسبما يوافق الشرع وروح العصر.

وبمناسبة هذا المؤتمر، أقول إن هدى هانم شعراوي رئيسة الاتحاد النسائي ومؤسسته في مصر ورئيسة الوفد المصري النسائي خارج القطر؛ بذلت من الجهد سابقًا في روما وجراتز وواشنطن وفيينا، ولاحقًا في باريس، ما جعل مصر مرفوعة الرأس موفورة الكرامة.

إن هذه الجهود العظيمة على تواضعها، الشاملة على نزاهة مقصدها، الهادئة على ما فيها من تضحية، لتستحق التقدير، وكل ما يستطيع مثلي لا يملك إلا قليلًا إزاء هذه المصرية الكبيرة، هو أن يتقدم إليها على صفحات هذه الجريدة الغراء التي طالما خدمت قضية المرأة بأسمى عبارات الاحترام والتقدير.»

زعيمة النهضة النسائية

وبعد عودتنا من المؤتمر، تحدثت الصحف والمجلات عند دور الوفد النسائي المصري في باريس، وكان من ذلك ما كتبته الآنسة «فتاة الريف»، وجاء فيه:

جاء عصر قالوا فيه الرجال بالأعمال، وظهرت هدى هانم شعراوي فمن حقنا أن نقول: هدى من عظماء هذا العصر.

الرجل في كل زمان ومكان بعمله، وهدى لم تظهر بمالها وجاهها ولا بنبل عائلتها، إنما ظهرت بعملها.

بين الرجال والسيدات مكان من ذوي المال والنبل والجاه، وكلهم نكرات لا يعرفهم حتى جيرانهم، حياتهم في خمول فهم أحياء في قبور، ومن الناس كثيرون بلغوا الشهرة غير الخالدة، فهي شهرة لم تدعم ولم تقم على أساس متين، أما وقد برزت زعيمة النهضة النسائية في مصر، فقد جمعت إلى الثروة والنبل، العلم الصحيح والاطلاع الواسع والرغبة القوية في العمل المجدي وقوة الإرادة والاستخفاف بالمصاعب، صفات متى توفرت لإنسان، قام عمله على أساسات قوية متينة، فتلك هي هدى هانم، زعيمة بحق جمعت كل الصفات اللازمة للزعامة كاتبة وخطيبة ومبصرة حكيمة. إنها لم تعمل في دائرة محدودة متناسية قوة فرد من أفراد الجنس اللطيف، إنما طلبت العالم كله ميدانًا لعملها الخطير ورفعت صوتها عاليًا مطالبة بحقوق المرأة، لا لتسمع أهل مصر فقط، إنما رفعته باسم المرأة المصرية لترفع صوت مصر ومقام المرأة المصرية في نظر العالم المتمدين كله، وقد فعلت … كانت هدى في مصر زعيمة للنهضة تدبر الأمر بحزم، وظهرت في المؤتمرات النسائية الأوروبية في أرفع طبقة من طبقات الزعماء في أنحاء العالم، فقدرها الرأي العام قدرها الصحيح وعرف مكانها من العلم والأدب، فأدرك القاصي والداني مقام المرأة المصرية بين طبقات المتحضرات، وما ذلك كله إلا بفضل تلك الزعيمة الخالدة، وليس هذا مقامًا عن أعمالها وآرائها في المؤتمرات وفي كل مكان صاحت فيه باسم المرأة المصرية؛ لأن هذا الشيء إذا كتب لا تكفيه المجلدات، إنما كتبت هذه الكلمة بلسان النهضة النسائية لشكر الزعيمة الجليلة على المجهودات التي بذلتها في سبيل هذه النهضة المباركة لرفع اسم المرأة المصرية، ومن حقنا بل ومن الواجب أن نستقبل الزعيمة الخطيرة بقلوب تخفق ابتهاجًا بعودتها سالمة في صحة جيدة، وبصدور منشرحة تنطوي على الحب الكامن في القلوب لهذه الزعيمة الجليلة وتقديرها قدرها الذي استحقته بالتضحية والعمل المنتج، ولو أن في وسعنا أن نجعل الأفئدة سرادقًا تحل فيه للتكريم، لفعلنا مبتهجات، وإنما المعقول الذي في المقدرة هو تكريس قلوبنا لصورتها المحبوبة، فاتحة عصر جديد للنهضة النسائية تمدها بروح منها فتبعث فينا الهمة والرغبة في العمل. وفقنا الله جميعًا للسبيل القويم.

جمعية السلام

لقد قيل الكثير والكثير بالنسبة لمشاركة المرأة المصرية في المؤتمرات النسائية الدولية، وقد أردت هنا أن أسجل بعض ما قاله الرجال، وأيضًا ما قالت المرأة، وليس يعنيني هنا الحديث عن هدى شعراوي كشخص بقدر ما يعنيني هذا الحديث كرمز … فقد انطلق صوت المرأة المصرية في المحافل الدولية، واستطاعت أن تخدم القضية المصرية فضلًا عن خدمة القضايا النسوية والاجتماعية.

لقد كتبت الصحف تقول: «خطبت السيدة هدى شعراوي وهي لابسة الثوب الوطني عن النساء المصريات، وكان الاستحسان العظيم الذي قوبلت به خطبتها بمثابة أعظم «بروباجندا» لمصر في الصحف العديدة والأوساط الكثيرة، وقد أذيعت الخطبة باللاسلكي.»

ومن هذه السطور، يبرز معنى أننا كنا نحمل رسالة مصر إلى كل مكان، ونعبر عن وجه مصر في كل مؤتمر، ونتحدث باسم مصر في كل موقع.

ومن أجل هذا الهدف أيضًا ذهبت إلى جنيف في سبتمبر من العام نفسه تلبية لدعوة من المكتب الدولي لجمعية السلام، باعتباري عضوًا فيه، لحضور الاجتماعات والمناقشات الخاصة بتقرير أفضل الوسائل لاشتراك النساء في خدمة السلام العام، وقد انتهزت فرصة هذه الاجتماعات لكي أتحدث عن التطور العقلي للحركة النسائية المصرية، وأذكر أن أعضاء المكتب قد قابلن حديثي بإعجاب وتقدير، وكان هذا تعبيرًا عن نظرة مصر إلى السلام، وعن جهادها من أجله، وعن دفاعها عن حق الشعوب في أن تعيش حرة كريمة في ظل السلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤