الفصل الثالث والثلاثون

بعد أن عدنا من مؤتمر باريس، وبعد أن شاركنا فيه بقسط وافر، وحققنا فيه نتائج باهرة من أجل قضية المرأة والتطور الاجتماعي والسلام العام، كان علينا كعادتنا أن نعكف على دراسة ما قام به أعضاء الوفد المصري في المؤتمر، ولذلك دعوت أعضاء الاتحاد النسائي لعقد عدة جلسات من أجل هذا الغرض، وقد انتهت هذه الجلسات إلى إعداد تقرير، رفعته جمعية الاتحاد النسائي المصري في ٢١ نوفمبر ١٩٢٦ إلى أصحاب الدولة والمعالي رئيس مجلس الوزراء ووزير الحقانية ورئيس مجلس الشيوخ ورئيس مجلس النواب.

وكان هذا هو نص التقرير:

حضرة صاحب …

تتشرف جمعية الاتحاد النسائي المصري بأن تعرض على أنظاركم أربعة مطالب حيوية تحتاج لشيء من عنايتكم، وترجو — ولها كبير الأمل في غيرتكم — أن توفقوا في القريب العاجل لوضع نظم لإصلاحها؛ لأنها تمس حياة كل عائلة مصرية تقريبًا، ولها كبير الأثر على راحة الأسر وسلامها.

إننا نطلب إصلاح القوانين العملية للعلاقة الزوجية، وجعلها منطبقة على ما أرادته الشريعة من إحكام الروابط العائلية وسيادة الهناء فيها، ولذلك نطلب صيانة المرأة من الظلم الواقع عليها:
  • أولًا: من تعدد الزوجات بدون مبرر.
  • ثانيًا: من الإسراع في الطلاق بدون سبب جوهري.
  • ثالثًا: من الظلم والإرهاق اللذين يقعان عليها فيما يدعى بدار الطاعة.
  • رابعًا: من أخذ أولادها في حالة افتراق الزوجين في سن هم فيها في أشد الحاجة لعناية أمهم وحنانها.

ونكاد نكون واثقات أن ترى معنا أننا لا نطلب إلا عدلًا وسلامًا هم غرضان مهمان من غرض الشارع، لا شك أن في إباحة الدين لتعدد الزوجات عند الضرورة وفي إباحة الطلاق عند انقطاع الرجاء من إصلاح ذات البين، حكمة ورحمة، ولو أن كل رجل اتقى الله واستعمل هذا الحق عند الضرورات التي شرع لها، لما كان هناك محل للشكوى، غير أن هذين السلاحين اللذين أوجدهما الشارع ليكونا نعمة ورحمة عند الضرورة، أسيء ويساء استعمالهما خصوصًا من الجمهور الجاهل وهو الأغلبية الساحقة في هذه البلاد، وأصبحنا … وهذان السلاحان سيفا نقمة مسلولان يهددان هناء العائلات وسلامها، ومن أدرى سواكم بعدد ضحايا الظلم والجهل.

فإذا نحن طالبنا بسن قانون يمنع تعدد الزوجات إلا لضرورة، كأن تكون الزوجة عقيمًا أو مريضة بمرض يمنعها من أداء وظيفتها الزوجية (وفي هذه الحالات يجب أن يثبت ذلك الطبيب)، وإذا نحن طالبنا بسن قانون يلزم المطلق ألا يطلق زوجه إلا أمام القاضي الشرعي الذي عليه معالجة التوفيق بحضور حكم من أهله وحكم من أهلها قبل الحكم بالطلاق، فلأن هذه القوانين تزيل الفوضى الحاصلة في مسائل الزواج والطلاق، وبالتالي تزيل التعس والشقاء اللذين يرزح تحتهما الألوف من النساء بسبب سوء تصرف الرجال في ذلك الحق، فكم من نساء يطلقن لأوهى الأسباب، وفي لحظة تنحل الرابطة العائلية المقدسة، وكم من نساء يتزوج أزواجهن بغيرهن لغير سبب إلا أنانية الرجل، ناهيك بما يصيب الأولاد في الحالتين من جراء قطع الصلة بين والديهم، مما لا يحتاج إلى شرح.

أخطر من السجن!

أما المسألة الثالثة، أي إكراه الزوجة على الذهاب إلى ما يدعى دار الطاعة، فتتطلب النظر في تحديد الحقوق المقررة في باب ولاية الزوج وما يدعيه من الحقوق على زوجته؛ لأن المسألة من الأهمية بمكان وأصبحت سلاحًا يستعمله الرجل حينما تخرج زوجته من دار الزوجية لسوء معاملته أو تعذر العيش معه بهدوء وراحة. تخرج فيتركها تخرج لأي وقت شاءت، وقد يجد سعادة في هذا الفراق. فإن حدثتها نفسها بطلب الإنفاق عليها (وقد يكون الباعث لها على هذه الرغبة هو الطلاق من الزوج)، تراه يطلب من القاضي الشرعي الحكم عليها، لا رغبة في معاشرتها، وإنما هو سلاح يريد إكراهها به (إن كانت موسرة) على إعطائه مبلغًا مقابل الطلاق، وإن كانت معسرة فلإكراهها على إبراء ذمته من نفقة وغيرها.

إن دار الطاعة هي أخطر من دور السجن المعدة لإيواء الأشقياء والمحكوم عليهم بارتكاب الجرائم والمنكرات؛ لأن المسجونين تحت إشراف أناس محدودة سلطتهم في القانون وليس بينهم وبين المحكوم عليهم عداء أو خصومة تستفزهم إلى التنكيل والتعدي على حدود السلطة التي لهم قانونًا، أما الزوج (وهو الخصم والحارس على المرأة التعيسة المقضي عليها بالدخول تحت طاعته) فلا سلطان لأحد عليه أمام هذه المسكينة. وهو يملك كما يقول بعض الفقهاء إغلاق الباب عليها ومنع كل إنسان من الدخول عليها إلا بإذن، كما يملك الادعاء عليها وهي في السجن أنها خالفت أمرًا، ويتعدى عليها بالسب والضرب، والمحاكم الشرعية لا تعتبر كل هذا خروجًا من الزوج على الحدود التي له شرعًا على زوجته.

أيكون للحكومة تشريع عام يعاقب أي شخص يعتدي على حرية الغير بالحبس طال الوقت أم قصر. ويعاقب أي شخص اعتدى على كرامة الغير بالسب أو بالشتم، ويعاقب أي شخص آذى غيره مهما كان الإيذاء خفيفًا. كل هذا التشريع يتمتع به جميع أفراد الأمة إلا هذه الزوجة المسكينة إذا كان المعتدي عليها زوجها، يحبسها ولا عقوبة عليه … ويسبها ولا عقوبة عليه … ويضربها ولا عقوبة عليه … كل هذه الجرائم ترتكب باسم الدين، ونحن نعتقد ببراءة الدين من كل ذلك، بدليل قوله تعالى: وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا وقوله أيضًا: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ.

المسألة الرابعة، وهي رعاية الطفل وتقرير من له حق الولاية عليه عند اختلاف الأبوين أو موت أحدهما، من المسائل التي تستدعي النظر في إصلاحها؛ لأننا نرى أن الجاري عليه العمل في القضاء الشرعي ليس وافيًا دائمًا بوضع الطفل تحت مراقبة صحيحة عطوفة ويد باردة تُعنَى بتربيته تربية صحيحة جسميًّا وأخلاقيًّا، وأسوأ الحالات وأبعدها عن الإنصاف حالة وجود أم للطفل مطلقة وغير متزوجة، أي متفرغة للسهر على مصلحة أولادها، ينزع ولدها من حضانتها في سن السبع إن كان ذكرًا والتسع إن كانت أنثى، ينتزعون منها وهم في سن أحوج ما يكونون فيها لرعايتها وعنايتها، ينزعون منها وهي أحق الناس برعايتهم وأحن عليهم من أي إنسان، تقضي المحاكم الشرعية بحرمان الأم من أولادها في السن المذكورة مع أنه بمقتضى حكم الشريعة يبقى الولد في حضانة أمه حتى يستغني عن النساء، والبنت حتى تحيض، والإمام مالك نص على أن يبقى الصبي في حضانة أمه حتى يحتلم والبنت حتى تتزوج. فهل يصح، وهذا نص الشريعة ورأي إمام مشهور، أن تكون السابعة أو التاسعة سن الاستغناء عن النساء، وإن صح ذلك محتمل يوم أن كانت الحياة أقل تعقيدًا وأقرب إلى البداوة منها اليوم، فهل يصح في العصر الذي نعيش فيه وقد تضاعفت الحاجات وتعددت وسائل التربية وطرق الوقاية الصحيحة؟ المشاهد أنه لا يمكن الاستغناء عن معونة الأم ونصائحها قبل السادسة عشرة، والدليل على ذلك أن الحكومة نفسها جرت على هذه القاعدة وقررت حديثًا اعتبار سن الرشد مبتدئًا من الحادية والعشرين.

الإصلاح الاجتماعي

ولقد كان ما ينادي به الاتحاد النسائي المصري موضع تقدير الرأي العام. وكانت الصحافة تؤيد المطالب التي ننادي بها، ليس باعتبارها مطالب نسائية وإنما باعتبارها في الواقع مطالبة بالإصلاح الاجتماعي.

وقد كتبت جريدة السياسة اليومية في عددها الصادر بتاريخ ٥ ديسمبر ١٩٢٦ تحت عنوان «الاتحاد النسائي المصري ومطالبه في سبيل الإصلاح الاجتماعي» تقول:

يقوم الاتحاد النسائي المصري برئاسة السيدة الجليلة هدى هانم شعراوي إلى جانب نشاطه السياسي بنشاط اجتماعي بعيد المدى في حياة الأسرة المصرية.

ولم يقف نشاط الاتحاد النسائي عند السعي لتطور العادات القديمة تطورًا يكفل سير المرأة في السبيل الصالح ويحول دون الطفرة المفسدة. بل أضاف إلى ما قام به في هذه الناحية والسعي لتطور التشريع في الأحوال الشخصية تطورًا يجعله دائمًا في حدود الشريعة الإسلامية السمحة، على ما أقرها أكابر الفقهاء عليهم رضوان الله مع اتفاقه وحاجات هذا العصر الذي نعيش فيه.

والقراء يذكرون ما تقدم به الاتحاد النسائي في شأن تحديد سن الزواج وما لقيه من نجاح. كما يذكرون مطالبه في شأن الطلاق وتعدد الزوجات وسائر الإصلاحات التي طالب بها ملحًّا في تحقيقها.

ومن الخطأ تصور هذه الطلبات على اعتبارها نسائية، وهي في الواقع مطالبة بالإصلاح الاجتماعي يشمل النساء والرجال معًا … وهل في الحياة شيء يتأثر به أحد الجنسين ولا يتأثر به الجنس الآخر.

ومضت الصحيفة في مقالها تقول: «ومن الخطأ كذلك النظر إلى هذه المطالب التي تقدمها السيدات نظرة خصومة بين الجنسين، ذلك لأنها كما سبق القول لا تتناول النساء وحدهن بل هي تتناول الأسرة كذلك. والأسرة تجمع الرجل والمرأة والطفل. والأسرة نواة الجماعة، ثم إن تصوير الخصومة بين الرجل والمرأة في الإصلاحات الاجتماعية أو السياسية تصور عتيق أساسه باطل، فالحياة تضمن حتى في التنافس، وأول ما يكون التضامن وأشده وأبعده عن منطقة التنافس، تضامن الرجل والمرأة فهما قوام العائلة. وأنت لا تستطيع أن تتصور عائلة قائمة على التنافس والخصومة بين أعضائها، من غير أن تتصور البؤس والشقاء حليفين لهذا التنافس.»

وواصلت الصحيفة مناقشة بموضوعية، فقالت: «ومن الخطأ النظر إلى هذه المطالب بعين التهاون أو الاستمهال فهي ليست بنت اليوم بل هي بنت سنة ١٨٩٩ حين تقدم بها المرحوم قاسم أمين في كتابه تحرير المرأة، بل هي أقدم من ذلك عهدًا، فقد كان الناس في كل زمان ومكان يطالبون بإصلاح نظام الأسرة وبالعمل لإزالة كل ما يقوم عائقًا في سبيل هناءتها وتمكينها من القيام بالواجب الاجتماعي والسياسي العظيم الملقى على عاتق كل فرد من أفرادها. وهبها كانت بنت اليوم، فهي لن تكون كذلك أقل خطورة واستعداء للعناية والاهتمام فليس من ينكر أن لحالة العائلة في مصر اليوم تأثيرًا مباشرًا على كثير من أمراضنا الاجتماعية، وأن إصلاح هذه الحال يترتب على شفاء هذه الأمراض.»

وانتهت الصحيفة إلى القول: «ومسألة الطلاق ليست أقل من مسألة تعدد الزوجات خطرًا. ونحن في غنى عن وصف الشقاء والبؤس المترتب على إلقاء حبل الرجال على غاربهم في هاتين المسألتين، وفي غنى عن القول إن الشقاء والبؤس لا يتناول النساء والأطفال وحدهم بل يتناول الرجال معهم. وهم إذا لم يحسوا به أول ارتكاب هذه الآثام فإنهم يحسون به فيما بعد.

وما دام في مذاهب الشرع السمح الحنيف ما يسمح بهذا التنظيم كما نظم الزواج والتعاقد عليه من قبل، وكما نظمت أشياء كثيرة تنظيمًا أقره الفقهاء؛ لأن الشرع أقره، فإنا نكرر أن من حقنا ومن الواجب علينا تأييد الاتحاد النسائي في مطالبه، ومن حق الحكومة ومن الواجب عليها أن تعمل لتنفيذ هذه المطالب، وأن تسن القوانين الخاصة بها لتقدم إلى الهيئة التشريعية لإقرارها وإصدارها.»

وكانت صحيفة «الأهرام» قد أجرت معي حديثًا بشأن تعدد الزوجات، أكدت فيه أن منع الرجل من الزواج بامرأة ثانية إلا إذا أذن القاضي، يضع عقبة إلى حد ما في طريق ذوي الشهوات من الرجال، ولكن هذا وحده ليس كافيًا لدرء ويلات الجمع بين الزوجات، والحل الأمثل هو منع الرجل المتزوج من أن يتزوج بامرأة ثانية إلا في حالة ما إذا كانت زوجته مصابة بالعقم أو بمرض غير قابل للشفاء.

وقد علقت على هذا مجلة «الحسان»، فقالت: «يجب أن يكون قانون الزواج صريحًا في نصه بعدم تعدد الزوجات إلا في حالة الضرورة القصوى التي تضطر الرجل أن يأخذ زوجة أخرى؛ لأن الرجل لا يتزوج بامرأة واثنتين إلا لشهوته ومطامعه البهيمية، وبذلك أصبحت المرأة في نظره مثل الثياب تتغير مع الموضات ويجددها بتغير الفصول!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤