الفصل الرابع والثلاثون

كنت أريد أن يصل صوت المرأة المصرية إلى كل مكان في العالم، وكنت حريصة على أن تعرف الدنيا كلها ما حققته المرأة المصرية الحديثة من تطور، وكنت أدرك أن هذا كله في صالح مصر وفي صالح القضية المصرية، ولا شك في أن الرأي العام يتجاوب مع مطالب بلد تحققت فيه للمرأة مكانة طيبة، فضلًا عن أن هذا يعتبر في حد ذاته دليلًا على تطور مجتمع هذا البلد.

وكان قد سبق أن التقيت مع مستر ومسز بيرت تايلور، وهما من الشخصيات المعروفة في المجتمع الأمريكي، وكانا في زيارة إلى القاهرة، فانتهزت هذه الفرصة لدعوتهما للوقوف على تطور المرأة الحديثة، وكان هذا اللقاء مدعاة للتفكير في زيارة الولايات المتحدة الأمريكية، وقد شجعني على القيام بهذه الخطوة أن ابنتي كانت متزوجة من محمود سامي باشا، الذي كان يشغل منصب وزير مصر المفوض في واشنطن في ذلك الوقت.

وقد وصلت إلى أمريكا يوم ٢٧ يوليو ١٩٢٧، وكنت قد أعددت للقاءات واجتماعات في هذه الرحلة، أكشف فيها عن حقيقة أوضاع تخلفها عن الركب الحضاري، ولكن قبل أن أبدأ نشاطي هناك، استقبلني مندوبو الصحف الأمريكية ليسألوني عن قضية تعدد الزوجات … وقد قلت لهم: إن تعدد الزوجات أمر شرعي في مصر، ولكنه غير مألوف الآن؛ إذ إن أغلب الناس لا يمكنهم تحمل نفقات أكثر من امرأة واحدة، وأضفت أيضًا بأن مصر تحاول الآن سن قانون لمنع تعدد الزوجات، وإن وزير الحقانية قدم مشروعًا بذلك إلى البرلمان المصري. كذلك فقد تحدثت إلى مندوبي الصحف عن أهمية التعليم بالنسبة للمرأة، وقلت: إنه أكثر أهمية من المطالبة بحقوقهن الانتخابية، وإن كان هذا لا يمنعني من المطالبة بحق المرأة في التصويت في الانتخابات النيابية.

وقد تمثل لي شعور الأمريكيين نحو المصريين في حادثين مختلفين كل الاختلاف. فقد أكرموني الإكرام كله وأحسنوا استقبالي في نيويورك وواشنطن وبخاصة في ديترويت، وكان ذلك فوق ما أستحق، لولا أنني عرفت أن هذا إعلان لشعور العطف نحو مصر، أما في المرة الثانية فقد تجلى ولكن بشكل آخر، فقد رأيت سيدة كبيرة السن تذرف الدموع السخية تأثرًا لوفاة الزعيم الجليل سعد باشا زغلول، وخوفًا على مصر من بعده، وتأبى قبول العزاء. وقد أشرت إلى هذا في خطابي الذي وجهته إليهم على صفحات جرائدهم. وهذا نصه:

إلى الشعب الأمريكي …

أريد قبلما أبرح أرض الولايات المتحدة الأمريكية أن أرسل تحية ود خالصة إلى الأمة الأمريكية ممثلة في الأصدقاء العديدين الذين علموني كيف أحبها.

إلى هؤلاء الأصدقاء الذين مهدوا لي مثل ذلك الاستقبال الودي والترحيب القلبي، والذين يؤسفني استئذانهم في الرحيل، أريد أن أقول ما أصعب الفراق على النفس بعد شهرين تمتعت خلالهما بلذة صحبتهم والتغلغل في مجتمعهم والإعجاب عن كثب بهمتهم ونشاطهم وحبهم الخير وعملهم البر.

لذلك أود قبلما أغادر هذه البلاد الجميلة، أن أقول لهم إلى اللقاء لا وداعا؛ لأن من يذوق كرم الضيافة الأمريكية كمن يشرب من ماء النيل، كلاهما يعود.

إلى اللقاء أيها الأصدقاء الأمريكان الأعزاء، وشكرًا لترحيبكم وبخاصة لما أظهرتموه نحو مصر من عطف وحنان مؤثرين بمناسبة وفاة زعيمنا الوطني المأسوف عليه أشد الأسف زغلول باشا، على الرغم من مشاغلكم المرهقة.

إنني لن أنسى العبرات التي رأيتها تجري من تلك العيون النجل، عيون خير أصدقاء مصر، عند إعلان ذلك الخبر المشئوم، هذه العبرات قد جمعتها في قلبي حتى أضيفها إلى عبرات بني وطني، فإنها ستزيد روابط الأمتين القوية الوثيقة قوة ووثوقًا باتحاد المشاعر والتذكار الحزين والشجن الواحد المقدس.

وأذكر أن الكاتب الصحفي المعروف أحمد الصاوي محمد كان قد التقى بي في باريس عقب عودتي، وأجرى معي حديثًا صحفيًّا عن رحلتي إلى أمريكا نشرته جريدة السياسة … الأسبوعية في عددها الصادر بتاريخ ١٠ نوفمبر ١٩٢٧، وبطبيعة الحال فقد سألني عن انطباعاتي عن أمريكا، فقلت له: لقد أردت أن أدرس حركة المرأة فقط، ولكن الحياة الاجتماعية الأمريكية شاقتني، فقد رأيتهم ذوي حيوية نادرة ونشاط خارق، وأمكنني بمساعدة مدام تايلور التي كانت ضيفتنا في مصر في العام الماضي وأرادت ضيافتي هذا العام، أن أزور مستشفيات ومعاهد للأطفال وبيوتًا لتعليم الفقراء، أخذت عنها مذكرات أظنها تنفع البلد، وسأعرضها عند عودتي على أولي الشأن لتطبيقها بقدر الإمكان.

أما بالنسبة لمعرض الخزف، فقد استحسنت عرض هذه المصنوعات المصرية في أرض مصرية، ولذلك رفضت عروض بيوت المعارض في نيويورك، واخترت عرضها في المفوضية المصرية بواشنطن. وكانت محل إعجاب كل من رآها وبخاصة من الشرقيين كسفراء اليابان والصين والهند وغيرهم من رجال السياسة.

ومما جعلني لا أعرضها في «جاليري» هو عدم وجود صور زيتية أو تماثيل ودمى؛ لأنهم يعتقدون أن الفن الجميل قد مات في مصر، فأبيت أن تثبت هذه الفكرة، ولو بطريق غير مباشر، فعدلت عن المعرض. وعندنا مختار ويوسف كامل وعياد وناجي وأحمد يوسف وهدايت وغيرهم ممن لا تحضرني أسماؤهم … ولذلك أبقيت ذلك للاتفاق مع جماعة محبي الفنون لعمل معرض واف في السنة التي بعدها في فرنسا وأمريكا، ولا شيء يرفع من شأن مصر مثل هذه الأشياء، وكان إقبال الجمهور وإعجابه مما يشجع على عمل مشروع أكبر وأعظم، وأتمنى على مواطني في مصر مساعدتي، ومما لوحظ أن عرض هذه المصنوعات وحدها غير كاف، بل يجب أن يكون مكتوبًا «صنع في مصر» على كل قطعة، فهذه وحدها لها قيمتها الكبرى.

وقد سألني الأستاذ الصاوي: وما حكاية المؤتمرات التي تتنازع فخر وجودك فيها؟

فقلت له: لقد وصلتني وأنا في أمريكا دعوة من مؤتمر التدبير المنزلي بروما، فأرسلت تلغرافًا بالاعتذار لبعدي عن المكان، وأرسلت إليَّ الحكومة المصرية تعرض عليَّ رئاسة وفدها، وهي ثقة أقدرها وأشكرها عليها، ولكنني اعتذرت لأنني مضطرة لحضور مؤتمر الاتحاد النسائي الدولي العام الذي أنا عضو في مكتبه الرئيسي. وسيعقد في ٢١ الجاري في أمستردام … وكنت قد رجوت وزارة المعارف الاشتراك في مؤتمر روما؛ لأن الاطلاع على ما يعمل في البلاد المتمدنة يهم بناتنا، ولأنني أحب أن تكون مصر ممثلة في جميع بلاد العالم لأننا في صف الأمم الممتازة، والاحتكاك بالغربيين له نفع جزيل.

مؤتمر أمستردام

عقد المؤتمر النسائي الدولي بأمستردام في موعده، أي في ١٢ نوفمبر ١٩٢٧، وقد بدأ المؤتمر يوم الخميس واختتم أعماله يوم الأحد التالي، وجدير بالذكر أن هذا المؤتمر لم يقتصر على بحث المطالب والرغبات النسائية، ولكنه كان ذات أهمية عامة بما لأعضائه وعضواته من الشخصية والصفات الفردية، وبما كان للموضوعات التي طرحت على بساط البحث من الصبغة السياسية الدولية.

فقد تحدث المسيو مرييت في أسباب الحروب، وأكد أن العامل الاقتصادي له تأثير كبير في هذه الأسباب، واختتم حديثه بالدعوة إلى تشييد نظم الدول على قاعدة اقتصادية عامة تقاوم الروح الاقتصادية التي تسودها الوطنية.

وتكلمت مدام مالاتير، وهي فرنسية، فقالت إن التعاون الدولي يتم بحركة تطور وتحول كالحركة التي أدت إلى إفهام الناس أن الوطنية والحماسة لا تعنيان بغض الأجنبي.

وخطب مسيو شايمان فدعا إلى ضرورة نزع سلاح الدول العظمى بعبارات فصيحة قابلها الحاضرون بالهتاف وقوفًا.

وقد خصص المؤتمر يوم الجمعة لبحث مسألة التحكيم والسلامة الوطنية، وفي مساء ذلك اليوم تحدثت في مأدبة العشاء التي أقيمت للوفود، باسم المرأة المصرية، وقد بسطت في كلمتي حالة مصر المفجعة، وقلت: إنها بلاد مسالمة جدًّا ولكنها مستهدفة بحكم موقعها الجغرافي لأن تعاني حربًا لا تريدها ولا تدعو إليها ولا يد لها فيها بسبب قناة السويس المراد بها خدمة السلم … فإن هذه القناة تقرب من مصر شعبًا قد يهددها فجأة، كما أنه يهدد السلم أيضًا إذا لم تكفل سلامة الحالة باتفاقية دولة تضمن حياة القناة إلى الأبد.

أما في يوم السبت، فقد بحث المؤتمر مسألة نزع السلاح، وقد استرعى الأسماع بوجه خاص الخطاب الذي ألقاه المسيو مادارياجا مندوب بلجيكا في المؤتمر.

وقد اختتم المؤتمر مباحثاته بإبداء رغبات متعددة فيما يتعلق بالموضوع الاقتصادي، ومسألة التحكيم، ومسألة نزع السلاح، ورغبة النساء في الاشتراك في عضوية اللجنة الاستشارية الاقتصادية المؤلفة في جنيف، وقد انتهزت هذه الفرصة لأعبر للمؤتمر عن رغبة خاصة في إلغاء الامتيازات الأجنبية في مصر، وقد أحيلت هذه الرغبة إلى لجنة البحث، ومن ناحية أخرى فقط طلبت إلى زميلاتي في المؤتمر أن يعملن على معاونة مصر في سبيل إلغاء هذا النظام العتيق.

وبعد انتهاء المؤتمر، عدت إلى مصر يوم ٣ ديسمبر ١٩٢٧، وفي اليوم التالي نشرت جريدة السياسة هذا التعليق على رحلتي إلى أمريكا ثم هولندا:

وصلت في منتصف الساعة الحادية عشرة من مساء أمس صاحبة العصمة السيدة الفاضلة هدى هانم شعراوي، عائدة من رحلتها الطويلة التي تنقلت فيها بين أوروبا وأمريكا، باذلة جهودها في سبيل رفع اسم مصر وإعلاء شأن المصريات.

فقد أقامت حضرتها في المفوضية المصرية بواشنطن معرضًا للمنتجات المصرية النسوية، كان له أحسن الأثر في نفوس الأمريكيات والأمريكيين الذين لم يكونوا يعرفون مصر إلا من خلال الأقاصيص التي تروى لهم.

وقصدت حضرتها إلى أمستردام؛ حيث مثلت مصر في المؤتمر الدولي الذي عقد في المدينة الهولندية، فرفعت صوتها بالاحتجاج على نير الامتيازات الأجنبية، وطلبت إلى زميلاتها في المؤتمر أن يعملن في بيئتهن على معاونة مصر في سبيل إلغاء ذلك النظام العتيق.

وإنا لنهنئ السيدة شعراوي بعودتها، ونذكر لها ما بذلته أثناء رحلتها من جهود … راجين أن تتوج كلها بالنجاح … كما نرجو للسيدة الفاضلة دوام الصحة ودوام عملها في سبيل التحرر النسوي المصري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤