الفصل التاسع والثلاثون

كانت مسز بانكهرست من أعظم الشخصيات النسائية التي برزت في بداية القرن العشرين، وكانت ابنة رجل من أعيان مدينة مانشستر، وقد تزوجت من الدكتور ريتشارد بانكهرست، وهو من كبار المحامين الإنجليز، وأنجبت منه ثلاث بنات وابنًا واحدًا، وكانت قد تلقت دراستها في مانشستر وباريس، وكان زوجها يُعنَى بكثير من الإصلاحات الاجتماعية، فكانت تساعده في ذلك وتؤيده، وبخاصة في كل ما له علاقة بإصلاح حال المرأة وتحريرها، وفي أوائل هذا القرن انتخبت عضوًا في مجلس التعليم بمانشستر، ولكنها استقالت في عام ١٩٠٦ وتفرغت للدفاع عن حقوق المرأة وإصلاح حالة الفقراء.

وكان زوجها قد مات قبل وفاتها في منتصف يونيو ١٩٢٨ بثلاثين عامًا، فانصرفت كلية طوال هذه الفترة لقضايا الوطن والمرأة، وعندما نشبت الحرب العالمية الأولى، وقفت نفسها لخدمة الوطن، وتغاضت عن حقوق المرأة مؤقتًا، وأخذت تعمل بين الشبان وتبث الدعوة للتطوع للحرب دفاعًا عن الوطن … وكانت لها خطب حماسية مشهورة يرددها الجنود في طريقهم إلى الميدان لترفع معنوياتهم وتزيدهم حماسة وصلابة.

وقد اهتمت الصحافة المصرية بنبأ وفاة مسز بانكهرست، باعتبارها زعيمة نسائية مرموقة على المستوى العالمي، وكتبت جريدة السياسة تقول:

في منتصف الشهر الحالي … نعت الأسلاك البرقية مسز بانكهرست زعيمة المطالبات بحقوق المرأة في بلاد الإنجليز، وصاحبة الفضل الأكبر في تمتع النساء الإنجليزيات بما يتمتعن به من حقوق الانتخاب وما يتصل به من المزايا السياسية المختلفة، ولسنا نغالي إذا قلنا إن الثورة التي حملت مسز بانكهرست لواءها في إنجلترا ردحًا من الزمن، هي سبب ما تتمتع به النساء اليوم في جميع أنحاء العالم من الحقوق السياسية والاجتماعية، فقد سرى لهيب تلك الثورة إلى جميع الأنحاء، وأيقظ في نفس المرأة الرغبة في التحرر من أصفاد الرق التي كانت ترسف بها منذ العصور المظلمة.

واستطردت الصحيفة تتحدث عن جوانب شخصية مسز بانكهرست، فقالت:

ولم تكن زعامة النهضة النسوية السياسية لتلهي مسز بانكهرست عن السعي لرفع مستوى تعليم المرأة والعناية بالعمال والعاملات وإصلاح شئونهم، وقد وقفت على ذلك قواها العقلية والجسدية … ولحسن حظها كان زوجها يؤيدها في جميع مساعيها … فكانت تزور المراكز التي تكثر فيها النساء العاملات فتدرس أحوالهن وتقف على جميع مطالبهن، ولم تكن حالة المرأة الإنجليزية يومئذ أحسن بكثير من حالة المرأة في العصور المتوسطة، ومع أن مسز بانكهرست رفعت صوتها بالشكوى من تلك الحالة مرارًا … إلا أن عظماء السياسة من الرجال وجميع الذين كان بيدهم مقاليد الأمور كانوا يسخرون بمطالبها ويصمون أذانهم عن سماع صوتها ضاحكين هازئين، ولم يكن عنادهم يزيدها إلا عنادًا، فأخذت من سنة ١٩٠٦ تجمع الأموال اللازمة لها لبث دعوتها … وقد نجحت في هذا نجاحًا غير منتظر، حتى قيل إنه ما من نهضة في إنجلترا جمعت لها الأموال التي جمعتها مسز بانكهرست لنشر دعوتها وإصلاح حالة المرأة الإنجليزية.

وما كادت الحرب تنشب في سنة ١٩١٤ حتى تناست مسز بانكهرست وجميع نساء إنجلترا قضيتهن، فسكتن عن المطالبة بحقوقهن مؤقتًا وأخذن يوجهن كل جهودهن لخدمة الوطن وبث الدعوة بين الرجال لكي يتطوعوا للحرب، وفي مدة الحرب كلها لم يسمع أحد في إنجلترا بقضية حقوق المرأة، ولكن لما وضعت الحرب أوزارها وعاد الرجال إلى أعمالهم، عادت مسز بانكهرست وأترابها إلى النضال والكفاح، وكانت نفسيات الرجال في إنجلترا قد تغيرت إذ ذاك، فأصبح القوم أكثر عطفًا على مطالب المرأة لما أدته لهم من الخدمات الجليلة في الحرب، وفي الواقع أن تلك الخدمات عادت على قضية المرأة الإنجليزية بأحسن النتائج؛ فقد شعرت الحكومة الإنجليزية بعد الحرب بأن الجنود العائدين من ميادين القتال، قد أصبحوا من أكبر مؤيدي المرأة العاطفين على مطالبها، فلم يكن من حسن السياسة الاستخفاف بعواطف الجنود وبدعوة مسز بانكهرست التي تكهربهم كلما وقفت للخطابة فيهم، ولا شك في أن مسز بانكهرست كان في إمكانها أن تسقط أية وزارة وأن توقد في إنجلترا نار حرب أهلية في ختام سنة ١٩١٨ لو أصرت الحكومة الإنجليزية على مناصبتها العداء، ولذلك رأت الحكومة أن تصغي إلى صوت العقل والحكمة، فهدمت جميع الحواجز التي كانت تحول دون وصول المرأة إلى حقوقها السياسية وإجابتها إلى جميع مطالبها … فلم يكن من حسن ذلك كله لمسز بانكهرست التي كانت أعظم زعيمة نسوية عرفتها إنجلترا، بل أعظم زعيمة ظهرت في التاريخ.

كتاب مفتوح

هكذا كانت تتحدث الصحافة عن القيادات النسائية في مختلف أنحاء العالم، وهكذا كانت تؤازر النهضة النسائية المصرية، لكن رغم ذلك كان علينا أن نشق طريقنا وسط الصعاب، ولذلك وجهت كتابًا مفتوحًا إلى صاحب الدولة رئيس مجلس الوزراء وصاحب المعالي وزير الحقانية بشأن الدعوة النسائية للإصلاح الاجتماعي.

وقد جاء في هذا الكتاب المفتوح ما يأتي:

في شهر يونيو ١٩٢٣ أوفدت جمعية الاتحاد النسائي التي لي شرف رئاستها وفدًا من أعضائها لرئيس مجلس الوزراء يرفع إليه طلبين مهمين: تحديد سن زواج البنت، ومساواتها بالبنين في التعليم الثانوي والعالي، فرحبت وزارة صاحب الدولة يحيى إبراهيم باشا بهذين الطلبين مقتنعين بعدالتهما، وعملت فعلًا على تنفيذهما.

امتلأنا غبطة وسرورًا لإنصاف حكومتنا وحبها في الإصلاح، فشجعنا ذلك على تقديم مطالب أخرى حيوية تكفل سعادة الأسرة المصرية لما فيها من عدل وإنصاف يتفقان مع مقتضيات العصر الحاضر وروح الشريعة السمحاء.

رفعنا تلك المطالب في شهر نوفمبر ١٩٢٦ في عهد وزارة صاحب الدولة عدلي باشا يكن إلى صاحب المعالي أبي السعود باشا وزير الحقانية إذ ذاك، فأعارها من الاهتمام ما هو معهود فيه من حب الإصلاح، ثم رفعناها أيضًا إلى مجلس الشيوخ والنواب فصادفت ارتياحًا من قبل الحكومة ونواب الأمة، فأحيلت على لجنة مكونة من نخبة من رجال الدين والقانون لدرسها درسًا دقيقًا، فرأت هذه اللجنة (اتقاء التصادم بأفكار الرجعيين) إدخال تعديلات كادت تذهب بمزاياها، وبعد الانتهاء من تعديلها، عرضها على مجلس النواب للتصديق عليها، فلم تسمح الظروف بنظرها، وتأجلت من جلسة لأخرى لاشتغال المجلس بغيرها من الأمور المستعجلة.

والآن وقد عطلت الحياة النيابية، وأخذت الحكومة الحاضرة على عاتقها القيام بتحقيق كل إصلاح ترى فيه سعادة الأمة المصرية بأسرها، رجالها ونسائها أغنيائها وفقرائها، كنا نأمل أن تعير مشروع الأحوال الشخصية ما يستحقه من العناية والاعتبار، غير متأثرة بعامل من العوامل إلا حب الإصلاح.

ولما كانت هذه عقيدتنا في الوزارة الحاضرة، هالنا ما قرأناه في جريدة المقطم مما يفهم منه أن الحكومة شارعة في إهمال مسألتي تعدد الزوجات وفوضى الطلاق أو تعديلهما تعديلًا يذهب بالبقية الباقية من مزاياهما، بحجة أن تعدد الزوجات أخذ في التلاشي بسبب كثرة النفقات ولانتشار العلم والمعرفة، ولأن وقوع الطلاق على يد القاضي بعد ذكر أسبابه قد لا يكون في مصلحة الزوجين إذا فرض وكان لرجل ولزوجته ابنة في الثامنة عشرة من عمرها مثلًا، وقد أتت الزوجة عملًا منكرًا يستحق الطلاق، فيكون في ذلك من التشويه بسمعة البنت ما يضر بمستقبلها ويقف حجر عثرة في طريق زواجها.

فهل هذه هي الأسباب الخطيرة التي من أجلها ترى الوزارة إهمال النظر في المسألتين السابقتين الحيويتين؟

لا نظن أن وزير الحقانية على ما نعهده فيه من الحكمة وسداد الرأي، يبدي مثل هذه الأسباب التافهة إذا أراد إهمال النظر في هاتين المسألتين.

أما عن المسألة الأولى، فإذا كنا نسلم بأن تعدد الزوجات قد أخذ في التلاشي، فقد يكون ذلك منحصرًا في الطبقة الراقية من الأغنياء؟ لأننا لا نزال نرى بمزيد من الأسف كثيرًا من المتعلمين يتزوجون بغير واحدة لا لسبب سوى إرضاء شهواتهم، كما نرى تعدد الزوجات شائعًا بين الطبقتين المتوسطة والفقيرة، بالرغم من غلاء المعيشة، حتى إن بعض الفقراء إذا ادخر شيئًا ولو قليلًا من أجره اليومي، سارع إلى الزواج بزوجة أخرى بدلًا من إنفاق ما ادخره في حاجات بيته الضرورية والعناية بأولاده وذويه.

أما المسألة الثانية، فإننا فضلًا عن استيائنا لإهمال الوزارة جانب المرأة وحقوقها في هذا التعديل، فقد دهشنا كل الدهشة عند قراءة هذا السبب الغريب، إذ ليس من المعقول أن يعطل إصلاح عام حجم المزايا لفرض جزئي نادر الوقوع، على أن طلب الطلاق قد يكون من جانب المرأة لمثل هذه الأسباب أو غيرها.

ولو فرضنا وقوع مثل هذا الحادث الشائن، يظن أن الأولى بالتفكير في وقاية سمعة الأبناء والأحفاد هما الأبوان دون المشرع، وهما لا يعدمان حيلة تدبير الأسباب المعقولة لعرضها على القاضي عند طلب الطلاق.

وإذا فتشنا عن أسباب الطلاق، قل أن نجد من بينها مثل السبب الذي يخشاه المشرع.

بيد أن تقييد الطلاق بإذن القاضي قد يحفظ كيان الأسرة ويضمن طمأنينتها وسعادتها وفيه مجال للتريث وأناة، وهذا هو ما يرمي إليه القرآن الكريم إذ أمر بالتحكيم بين الزوجين إذا خيف شقاق بينهما، فقال تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَا إِنَّ الله كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا.

فنرجو الوزارة باسم العدالة والحق أن تعير هذا المشروع ما يستحقه من العناية والرعاية، واضعة نصب أعينها أن سعادة الأسرة مرتكزة على سعادة المرأة، وأن امرأة اليوم ليست هي امرأة الأمس، وأنها لن تستطيع صبرًا على هضم حقوقها إرضاء لشهوة الرجل.

ولنا أمل عظيم أن الوزارة تقدر الموقف، وتتدارك ما عسى أن يكون من ثورة نفس المرأة ونتائجها، فلا يكون نصيب هذا المشروع الحيوي المفيد في عهد وزارة الإصلاح الحاضرة نصيب قانون سن الزواج الذي سنته وزارة صاحب الدولة يحيى إبراهيم باشا، فجاءت وزارة المرحوم سعد باشا وأردفته بمنشور جرده من كل مزاياه وذهب بالفائدة التي كانت مرجوة منه، إذ أباح لموثقي العقود أن يكتفوا بشهادة الآباء والأولياء في تحديد السن دون أن يقدموا وثيقة رسمية بشهادة الميلاد أو شهادة طبيب تثبت السن الحقيقية.

وكان الغرض من سن هذا القانون، وقاية البنت من الزواج المبكر وحمايتها من تحكم آبائها وأوليائها في زواجها.

وبهذه المناسبة، نلفت نظر الوزارة إلى ما أحدثه هذا المنشور من إباحة زواج الصغيرة، وإلى الضرر المادي والمعنوي الذي ينشأ من هذا التصرف كالتشجيع على الكذب والتزوير وتضحية صحة الصغيرة والقضاء على نسبها.

ولنا رجاء عظيم أن الوزارة تحقق آمالنا فيها، ولا تتبع سنة بعض الوزارات السابقة كل منها تهدم ما بنته سالفتها. وأن يكون رائد وزارة الإصلاح في كل مشروع تقوم بتنفيذه العدل والإنصاف. وفقها الله إلى الخير والسداد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤