الفصل الثاني والأربعون

كان صوت النهضة النسائية الصاعدة في مصر قد بدأ يحقق صدى طيبًا بالنسبة للمرأة العربية في كل البلدان الأخرى، وكان من مظاهر ذلك أن قام المجمع النسائي العربي في بيروت، الذي يضم نساء لبنان وسورية وفلسطين، بعقد اجتماع في أكتوبر ١٩٢٩ قرر فيه عقد مؤتمر نسوي عام في الربيع المقبل بمدينة دمشق، وذلك للنظر في حالة المرأة، وإحياء آداب اللغة العربية، وترويج المصنوعات الوطنية، وتعزيز الوحدة القومية بين نساء الطوائف المختلفة، وتعليم الفتيات وتهذيبهن لرفع مستواهن.

وقد كتبت الأديبة المعروفة «مي زيادة» مقالًا مسهبًا عن هذا المؤتمر في جريدة الأهرام الصادرة بتاريخ ١٢ أكتوبر ١٩٣٩ قارنت فيه بين اهتمام الرجال بالسياسة، واهتمام المرأة بما هو أهم وأفعل وأنفع.

المرأة والتطور العالمي

وفي ١٢ نوفمبر ١٩٢٩، ألقيت محاضرة في الجامعة الأمريكية تلبية لدعوة المستر مكلنهن مدير الجامعة، عن دور المرأة في حركة التطور العالمي، تناولت فيها كفاح المرأة في الغرب من أجل الحرية والمساواة، ثم تطرقت إلى دور الاتحاد النسوي المصري في المؤتمرات النسائية الدولية ابتداء من مؤتمر روما عام ١٩٢٣ ثم مؤتمر جراتس عام ١٩٢٥، وباريس عام ١٩٢٦، وأمستردام عام ١٩٢٧، وبرلين عام ١٩٢٩، ثم رحلتي إلى أمريكا ولقائي مع المؤسسات النسوية ومعارضنا التي تصور النهضة المصرية، بالإضافة إلى ما حققه الاتحاد من تقدم كبير في حالة المرأة المصرية والغربية.

وقلت: «إذا كنا في نهضتنا لم نجد أساسًا من الماضي نبني عليه، فما عدمنا من بين الرجال عضدًا في فتح الطريق أمامنا وتشجيعنا على السير فيه.

فقد كان لصاحب الشريعة الإسلامية الفضل الأول في منح المرأة أمانة التشريع منذ ثلاثة عشر قرنًا ونيفًا؛ حيث قال: «خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء»، وهو يشير بذلك إلى السيدة عائشة رضي الله عنها إلى غير ذلك من مكاسب المرأة؛ نتيجة جهود الاتحاد ومؤازرة رجال مصر النابهين.»

وقلت أيضًا: «إن موقف المرأة الغربية إزاء الرجل في الحركة النسائية غير موقف المرأة الشرقية، فالغربية وهي تنشد استقلالها تصادف موانع كثيرة أساس معظمها القوانين، فكأنها في جهادها تعمل على إنقاص حق من حقوق الرجل، أما الشرقية فشأنها غير ذلك، فهي لا تطلب من الرجل إلا فتح أبواب الثقافة والتجارب أمامها لتحسن إدارة شئون واستقلال حقوق خولتها لها الشريعة الإسلامية.»

مبنى الاتحاد النسائي

وفي شهر أبريل ١٩٣١، قمنا بوضع حجر الأساس لمبنى الاتحاد النسائي قرب قصر العيني، وحضر هذا الاحتفال أعضاء اللجنة الاستشارية المكونة من محمد علي باشا، والدكتور محمد شاهين باشا، والدكتور طه حسين، والدكتور محمد حسين هيكل، والدكتور منصور بك، وأحمد فهمي العمروسي بك، ومصطفى عبد الرازق بك، وأنطون الجميل بك. ومن أطباء المستوصف التابع للاتحاد الدكتور سامي كمال بك والدكتور حجار.

وقد كتب الأستاذ أحمد الصاوي محمد في عموده «ما قل ودل» بجريدة الأهرام الصادرة في ٤ أبريل ١٩٣١، يقول: إن يوم الاتحاد النسائي هو يوم مجيد عزيز على الأيام … وهو يتوج مجهودات السيدة النبيلة هدى هانم شعراوي، وهو يشهد بهمة السيدات الفضليات اللواتي يقفن إلى جانبها، ويعاونها في المكرمات، وهو يوم فخر لمصر.

وقد ألقيت خطبة بهذه المناسبة، قلت في نهايتها:

ليس لدي ثوب أقدمه لحضراتكم اليوم سوى هذا العلم الذي يمثل وحدتنا القومية، وهو العلم الأول الذي اتخذناه رمزًا لنهضتنا في أول مؤتمر دولي نسائي اشتركنا فيه بمدينة روما عام ١٩٢٣. فهيا سادتي وسيداتي نحمل حجرنا الأساسي في هذا العلم المبارك إحياء لهذه الذكرى الجليلة التي نفخر بتدوينها في تاريخ نهضة المرأة المصرية.

مظاهرات السيدات

في أوائل مايو ١٩٣١، قامت مظاهرات وطنية قابلتها الحكومة بالقمع الشديد … وكان أن قامت مظاهرة من النساء في القاهرة تحتج على هذا العنف … فإذا بها تواجه مثل هذا العنف. وكان أن نشرت في الصحف تحت عنوان «خطاب مفتوح لرئيس الوزراء إسماعيل صدقي باشا» قلت فيه: «علمنا بمزيد من الحزن والأسف ما لحق سيدات مصر من الإهانة والتعدي على كرامتهن، وسوقهن إلى مراكز البوليس بطريقة وحشية عند خروجهن، للاطمئنان على ذويهن وعلى كبار رجال الأمة.

فباسم العدالة والإنسانية نرفع لدولتكم احتجاجنا هذا، ولعلكم تفطنون إلى أن مثل هذه التصرفات لا تربح منها الحكومة شيئًا، سوى نفور الأمة وزيادة انحرافها عنها، وليس هذا من الحكمة السياسية في شيء.»

كذلك فقد قمت بزيارة بيت الأمة، وقابلت أم المصريين، وعبرت لها عن مشاعر المشاركة، وفي اليوم التالي كررت الزيارة مع نحو ستين سيدة في سياراتهن، وتعالت الهتافات بحياة دستور ١٩٢٣، وحياة الزعيمين المؤتلفين مصطفى النحاس باشا ومحمد محمود باشا، وسقوط الانتخابات، وكانت هذه المظاهرة مفاجأة لوزارة الداخلية التي حاصرت السيارات، ثم أفرجت عنها واحدة بعد الأخرى، على أن تسير كل سيارة في اتجاه مخالف.

رفقًا بالأطفال

وقد هالنا فيما بعد ما اتصل بنا من أخبار تعدي رجال البوليس على الأطفال الصغار الذين تجمعوا في شوارع القاهرة لمشاهدة مواكب السيدات، وأصدرنا احتجاجًا باسم الإنسانية والقانون ضد هذه التصرفات التي لا مبرر لها إلا نشر الرهبة والفزع بين كل طبقات الأمة.

كذلك فقد احتجت الهيئات النسائية في مصر على هدم الدستور، واستمرار وزارة صدقي باشا في نشر سياسة الطغيان والإرهاب في البلاد، وأعلنا مقاطعة الانتخابات.

وقد امتدت المظاهرات إلى كل أنحاء البلاد، لدرجة إلقاء القبض على الأطفال في بني سويف، وتصدى البوليس لمظاهرة النساء في بور سعيد، ما أدى إلى جرح ثلاثين عسكريًّا.

غاندي في مصر

كان الزعيم الهندي المهاتما غاندي عائدًا من لندن إلى الهند بعد حضوره مؤتمر المائدة المستديرة في ديسمبر ١٩٣١، وكان المفروض أن ترسو الباخرة في السويس، وهذا يتيح له زيارة القاهرة، ولكن السلطات البريطانية غيرت هذا الترتيب؛ بحيث ترسو الباخرة في بورسعيد فلا يتمكن من القيام بهذه الزيارة، وبخاصة أنها كانت تعلم مكانة غاندي في قلوب المصريين وإعجاب سعد باشا به، وكان أن فكرت الهيئات في إرسال وفود عنها لتحيته والتعبير عن مشاعر المصريين نحوه، وقد سافر محمود فهمي النقراشي باشا مندوبًا عن الوفد وهو أحد الأعضاء البارزين فيه، والآنسة سيز نبراوي مندوبة الاتحاد النسائي، وقد طلبت منه سيزا أن يوجه كلمة للسيدات المصريات، فكتب بالإنجليزية ما نورد ترجمته بالعربية:

أرجو أن تلعب الأخت المصرية الدور نفسه الذي تلعبه أخواتها الهنديات في حركة تحرير أراضيهم المحترمة؛ لأنني أعتقد أن عدم القسوة هو امتياز المرأة.

محاضرات الاتحاد النسائي

استن الاتحاد النسائي سنة جديدة، وهي إقامة موسم ثقافي يحاضر خلاله كبار الأساتذة والعلماء الأفاضل … وقد افتتح هذه المحاضرات الدكتور طه حسين عن «الأدب العربي من عهد الحملة الفرنسية إلى عهد الخديوي توفيق».

مقابلتي للملك فيصل

حدث أن كنت مسافرة إلى أوروبا على الباخرة شمبليون عام ١٩٣٣، وكان جلالة الملك فيصل الأول ملك العراق ضمن المسافرين على هذه الباخرة، وقد التقيت به بعد الغداء وأنا في طريقي إلى المصعد؛ حيث حييته فرد التحية على أحسن ما يكون، ودار بيننا حديث قصير، قال لي في نهايته: «لقد قرأت عنك كثيرًا، وأعجبت بجهادك كثيرًا، والآن لما رأيتك، اطمأننت على أن النهضة النسائية في بلادنا العربية بخير، ودفتها في يد ربان جدير بإدارتها.»

الاحتفال بأولى الخريجات

وفي شهر فبراير ١٩٣٢، دعوت عددًا كبيرًا من أعلام مصر وعظمائها لحضور حفلة احتفال الجمعية بأولى خريجات الجامعة وأول طيارة مصرية، وقد لبى الدعوة عدد كبير في مقدمتهم الأمير محمد باشا، والدكتور بهي الدين بركات باشا، وأحمد شفيق باشا، ومحمد علي علوبة باشا.

وقد تصدر المنصة الدكتور طه حسين والسيدة قرينته والآنسة الأستاذة نعيمة الأيوبي، وخريجات كلية الآداب: الآنسة سهير القلماوي، والآنسة فاطمة فهمي خليل، والآنسة زهيرة عبد العزيز، والآنسة فاطمة سالم، وفي الصفوف الأخرى كان الدكتور سامي كمال وبجانبه الآنسة الدكتورة كوكب حفني ناصف، والأستاذ فؤاد أباظة وبجانبه الآنسة لطيفة النادي، ثم جمعية شقيقات الاتحاد النسائي تتوسطهن الآنسة حواء إدريس، والآنسة أمينة السعيد، والآنسة عظيمة السعيد، ثم الآنسة سيزا نبراوي، وبجانبهن الشاعر الكبير خليل مطران.

وفي كلمتي التي ألقيتها بهذه المناسبة، قلت: «يقولون في الأمثال السائرة (أول الغيث قطرة ثم ينهمر المطر) غير أن الغيث المصري إذ بدأ، انهمر انهمارًا، والمصري أزلي في مدنيته، فإذا صادفه جو طيب جنح إلى أصله وتخطى دور الطفولة في نهضته.»

وقد قام محمد علي علوبة باشا بتقديم الآنسة نعيمة الأيوبي، وقام الدكتور طه حسين بتقديم خريجات كلية الآداب، وقام الدكتور سامي كمال — وهو أحد الأطباء الذين تطوعوا لخدمة الإنسانية في مستوصف الاتحاد منذ إنشائه — بتقديم الآنسة الدكتورة كوكب ناصف خريجة لندرة من بعثة مستشفى كتشنر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤