الفصل الخامس

لا يستطيع أحد أن يتحدث عن طفولته وذكرياته، وينسى البيت الذي نشأ فيه، وذكريات الطفولة في أرجاء هذا البيت.

وأذكر من طفولتي أنني كنت أجد تسلية كبرى في مشاركة مربياتنا في أداء الأعمال المنزلية المختلفة مثل نظافة البيت وغسل الملابس. وكن في البداية يتذمرن من اشتراكي في هذه الأعمال، ولكن عندما وجدنني جادة وراغبة، اشترين لي طستًا صغيرًا للغسيل، ولكنهن لم يكن يسمحن لي باستخدام المكواة إلا نادرًا؛ لأنها كانت تملأ بالفحم، وكن يخشين عليَّ من رائحة الفحم المحترق ومن تطاير الشرر من فوهتها.

إنني أجد سعادة قصوى في تذكر تلك الأيام النائية، وبخاصة عندما أصطدم ببعض العادات الحديثة التي تدفعني إلى استرجاع الماضي وما كان فيه من عادات وذكريات.

أذكر مثلًا بيتنا الكبير ذا الحجرات الفسيحة والبهو الواسع، والذي كان يغص بالجواري والمماليك. كانوا مدربين على العمل، مخلصين في أداء واجباتهم، شاعرين بالمسئولية الملقاة على عواتقهم، محترمين مخدوميهم، محافظين على ما بين أيديهم من الأشياء، محبين لصغار مخدوميهم الذين ولدوا بين أيديهم، كل واحد يقوم بعمله خير قيام، ويشاركنا في السراء والضراء، ولا تمتد يده إلى شيء مهما كانت قيمته، ولا يطمع إلا في رضاء أولياء أمره. وكنا نبادلهم هذا الحب، ونقدر لهم هذا الإخلاص.

واليوم، أغمض عيني وأستعيد ذكريات الغرف الخالية واحدة بعد الأخرى، فأرى والدتي جاثية على ركبتيها تفصل ثيابنا فوق ملاءة بيضاء مفروشة على البساط في وسط غرفتها، أو جالسة على الشلتة وأمامها ماكينة اليد التي تحيك بها ثيابنا، أو تلعب الطاولة أو الورق مع صديقاتها مبتسمة متهللة إذا كانت هي الغالبة، أو تناقش بعض الأمور فيرتفع منها الصوت الذي تعودناه هادئًا، وهي تدافع عن وجهة نظرها.

ثم أتحول إلى غرفة والدتي الكبيرة، فأراها مستلقية على سريرها وبيدها المصحف ترتل آيات القرآن الحكيم، أو تذاكر الدرس اليومي الذي فرضته على نفسها حبًّا في تعلم اللغة العربية وتعلقًا بها. وأراها مرة أخرى جالسة في فراشها ومن خلفها خادمتها الصغيرة تدلك ظهرها بيديها الصغيرتين، فإذا رأيتها على هذه الحال، دنوت منها ورجوتها أن تسمح لي أيضًا بتخفيف آلامها، فتضحك وتصرف الفتاة وتقول لي: قومي بدورك، فأصعد إلى السرير، وأتفنن في تدليكها بكل ما عندي من قوة.

وأتجول في أنحاء البيت، فأرى الجواري كالنحل يصعدن في الصباح الباكر إلى الدور العلوي، وتتوجه كل واحدة منهن إلى موقعها لتقوم بأداء ما هو مطلوب منها، بعد أن يشتركن جميعًا في تنظيف البهو الفسيح.

وكانت غرفة المائدة لا تتميز عن باقي الغرف إلا بوجود دولابين في الحائط لحفظ الأطباق الفضية والأكواب، وحمالة الطست والإبريق التي كانت تشغل ركنًا بجانب الباب، وكرسي مرتفع مستدير في وسط الغرفة توضع عليه صينية كبيرة وقت تناول الطعام، ثم ترفع بعد ذلك وتسند إلى الحائط.

أما غرفة الاستقبال فكانت فسيحة، وعلى جانبيها مرآتان كبيرتان، أمام كل واحدة منهما «كونسول» مذهب عليه قطعة من الرخام، وفي الوسط منضدة من الطراز نفسه، والمقاعد والكتب مذهبة ومكسوة بالحرير، وأمام كل كنبة منضدة صغيرة.

وكان يزيد من بهجة هذه الغرفة أبسطة ثمينة ونجفة جميلة من الكريستال والبرونز المذهب مدلاة من السقف، وعلى جانبي المرآتين مجموعة من المصابيح، وقد بقي كل ذلك مجللًا بالسواد منذ وفاة والدي حتى قرب زواجي.

أما غرف نومنا فكانت بسيطة للغاية، تضم الأسرة والدواليب والمقاعد وبعض الأبسطة والثريات. وكانت مربياتنا يدخلن غرفتنا في الصباح لإيقاظنا، وتتولى «سياح» مساعدة أخي في غسل وجهه وارتداء ملابسه بينما تتولى «دادة زهرة» مساعدتي في ارتداء ملابسي وتمشيط شعري.

وكان بيتنا يسوده النظام ويشمله الهدوء وترفرف عليه الطمأنينة نتيجة الوفاق بين الخدم وحسن التفاهم والتعاضد بين من فيه، وظل حال بيتنا هكذا مدة طويلة، ولكن يبدو أن لكل فردوس شيطانًا، وكان لا بد لفردوسنا من شيطان يعكر صفوه وينفث فيه سموم الفتن. وكان هذا الشيطان في شخص امرأة بدينة، قصيرة القامة، مستديرة الوجه، خضراء العينين حادة النظرات، رقيقة الشفتين، ذات أنف مدبب كمنقار الببغاء، وهي من أصل جركسي وتدعي «فطنات» وكانت معتوقة لأحد الباشوات وتزوجت في المنيا من رجل يمت بصلة إلى بعض محاسبينا، وكان يعمل كاتبًا في إحدى المحاكم.

وقد جاءت فطنات ومعها طفلة في مثل سني تقريبًا هي ابنة أخت زوجها اليتيمة التي تكفل بها خالها، وقامت هي بتربيتها، وكانت غاضبة؛ لأن زوجها تزوج من أخرى، فقابلتها والدتي كعادتها بالترحيب والإكرام، وقالت لها: اعتبري نفسك في بيتك إلى أن نعمل ما فيه راحتك. وأرسلت والدتي إلى زوجها تؤنبه فأتى بعد مدة طويلة يطلب الصلح، ولكنها أقسمت ألا تعود إليه، وطلبت منه الطلاق، فما كان منه أمام إصرارها إلا أن طلقها، وما كاد يحدث ذلك حتى شاهدنا منظرًا لم نر مثله في حياتنا، إذ قامت «فطنات»، ثائرة تفتح صناديقها وتخرج منها ملابسه وتقذف بها إليه من النافذة إلى فناء البيت، ثم كادت تلقي إليه أيضًا بابنة أخته؛ لأنه طلبها، وطوال ذلك الوقت كانت تتناهى إلى أسماعنا أنواع من السباب والشتائم لم نسمع بها من قبل، ولما كانت الطفلة قد مكثت عندنا مدة من الزمن ولعبت معنا وتعودنا عليها، فقد عز علينا فراقها وتمسكنا بها لدرجة أننا بكينا ونزلنا إلى خالها نرجوه أن يبقيها معنا، وبعد إلحاح وافق على أن تبقى في رعاية والدتي، بشرط أن نحميها، من شر «فطنات».

أما ليالينا فقد كنا نمضي معظم السهرات جالسات على «الشلت» حول فانوس كبير؛ لأن الكهرباء لم تكن قد انتشرت بمصر بعد. وكانت مربياتنا يقصصن علينا كيف أسرن، وكيف كانت بلادهن وعادات أهلها، حتى يغلبنا النعاس، فنأوي إلى فراشنا. وكانت تلك السهرات تطول وتكتسب كثيرًا من الأهمية والبهجة عندما كانت تحضر لزيارتنا سيدة كانت تستخرج ماء الزهر ونسميها «الست الزهارة». كانت طويلة القامة، ضخمة الجسم، مستديرة الوجه، عليها سيماء الهيبة والوقار، ترتدي دائمًا الملابس البيضاء وعلى رأسها طرحة بيضاء. وكنا نحبها كثيرًا وننتظر زيارتها بشوق ولهفة لنسمع منها القصص المسلية. ولشدة حبنا لها كنا نخفي إزارها لنضطرها للبقاء عندنا مدة طويلة، وكنا نترقب المساء لتتصدر المجلس وتقص علينا بصوتها الجهوري حكاياتها الممتعة، فنجلس حولها وكلنا عيون شاخصة وآذن مصغية. وكانت تخرج من قصة إلى أخرى إذعانًا لإرادتنا وإلحاحنا. وكانت الغرفة في مثل تلك الليالي تكتظ بجميع أهل المنزل الذين يجيئون تباعًا ويجلسون حتى تتسع الدائرة وتبلغ باب الغرفة، وما كان النعاس في تلك السهرات يتسرب إلى أجفاننا حتى نرغم على القيام للنوم، فكنا نتوسد الفراش ونتخيل ما كانت تقصه علينا، ونسبح في عالم الخيال. وأظن أنه كان لهذه السيدة الفضل الأكبر في اتساع دائرة خيالنا.

وقد استمرت هذه السيدة تتردد علينا طوال حياتها كما كانت تتردد على كل البيوت الكبيرة لتبيع ما تستخرجه من ماء الزهر وماء الورد وغير ذلك من المياه العطرية.

وكانت تأتي على عربة نقل تسميها «الفيتون» … ولما كانت تدخل منزلنا، كان يمتلئ الجو بتلك الروائح الزكية، كما كان يمتلئ فرحًا.

وكانت صورتها تختلف تمامًا عن البائعات الجائلات اللاتي كن يحضرن أحيانًا، وهن يحملن بضائعهن داخل ربطات «بقج» أو يحملنها لفتيات صغيرات يصحبنهن لهذا الغرض، ثم يفتحن هذه الربطات وسط الغرفة ويعرضن بضائعهن على أهل المنزل، وللترغيب في شرائها كن يذكرن أن حرم فلان باشا اشترت من هذا القماش، وكريمة فلان بك اختارت هذا النوع، وهكذا … وإذا سأل أحد عن تلك السيدات، انطلقن يسردن ما رأينه في بيوتهن أو ما سمعنه عنهن مع المبالغة في سرد هذه الأخبار.

وكنت أكره هؤلاء النسوة؛ لأني كنت أعلم إنهن كثيرًا ما تسببن في خراب البيوت الكبيرة ماديًّا وأدبيًّا عن طريق الربا الفاحش أو بذور الخلاف والشر … وكانت صديقتي «مدام ريشار» هي التي حذرتني منهن، وروت لي حوادث واقعية كن بطلاتها، وقد تحققت من ذلك عندما كبرت وحاولت بعضهن استغلال الشقاق الذي كان بيني وبين زوجي في التدخل في أموري. وقد وصلت الجرأة بإحداهن أن صرحت لي يومًا بأنها وزوجها يشفقان عليَّ ويضعن نفسيهما رهن خدمي وأن زوجها بما له من الاتصال بعظماء البلد يمكنه أن يساعدني على الطلاق من زوجي، وأن في إمكانه أن يأتي لي بفتاة تخول لي حق الانفصال عنه، ولكن هذا يستدعي مصروفات كثيرة. وكانت صديقتي «مدام ريشار» قد حذرتني من هذه المرأة بالذات … وكنت لحسن ظني بالناس أتصور أن صديقتي تغالي أحيانًا في سوء ظنها بهم، ولكن في تلك الساعة ظهرت لي هذه السيدة في صورتها الحقيقية، فقلت لها وقد منعني الحياء لصغر سني من طردها أو إظهار امتعاضي منها أو سوء ظني بها، إنني لا أملك المبالغ التي يتطلبها مثل هذا العمل، فقالت لي في خبث ودهاء: إن عندك من الجواهر كثيرًا، فيمكنك أن تبيعي منها، فأجبتها بأن والدتي هي التي تحفظ لي هذه الجواهر، فقالت: يمكنك أن تعطيني فردة من هذا القرط الجميل الذي ترتدينه، وأعتقد بأن ثمنها يفي بكل المصروفات ويزيد، وإذا سألتك والدتك عنه فقولي لها إنه فقد منك في زيارة أو فرح، عند ذلك تجلت لي في صورة أبشع مما صورتها لي صديقتي، فقلت لها وقد أعيتني الحيلة: إنني أبغض الكذب، ولا أريد الانفصال عن زوجي ولا أسعى إليه …

وكانت هذه هي الحقيقة …

ولكن هذا الموقف لم يثن من عزمها، بل أخذت تتحين الفرص للتقرب مني واستغلال سذاجتي لتصل إلى الاستفادة المادية التي تنشدها، فلما اشتريت قطعة الأرض التي بنيت عليها فيما بعد منزلي الحالي، كان الشراء بوساطة زوجي الذي كان وكيلًا عنا، وقد حاولت هذه السيدة أن تدس عليه، فسألتني يومًا عن ثمن المتر من هذه الأرض، فأجبتها، فقالت لي: كم يظلمونك. إن هذه الأرض لا تساوي نصف ثمنها. فأثر في ذلك وصدقته إلى حد ما، ولكن لم يمض شهر حتى عادت تقول لي إن زوجها وجد مشتريًا لهذه الأرض بالقيمة التي دفعت فيها، ونصحتني بأن أنتهز هذه الفرصة فأبيعها وأشتري بثمنها قطعة أفضل منها، فرفضت.

وعادت بعد أسبوع تعطيني فيها ٥٠٪ زيادة على ثمنها الأصلي، فأظهرت لها دهشتي من عرض هذه الزيادة وقد كانت منذ حين تبخس قيمة هذه الأرض، وظلت تتردد بين الحين والآخر تزيد في الثمن حتى بلغ ما عرضته ثلاثة أضعاف الثمن الأصلي، وكان نصيبها الرفض في كل مرة.

ولقد وصلت الجرأة بزوجها إلى أن يتسلم عربونًا لبيع الأرض أثناء غيابي عن مصر، دون تفويض مني يخوله ذلك، كما أرسل إليَّ برقية يخبرني فيها أنه تسلم العربون ويطلب موافقتي على البيع، فكان ردي هو الرفض البات، فأثار هذا حقده، وحول مؤامراته للدس لي عند زوجي وشقيقي بخطابات مجهولة الإمضاء يحمل عليَّ فيها، ولما ضقت به ذرعًا، سردت على صديقتي حرم المغفور له حسين رشدي باشا هذه القصة، وسلمتها خطاباته لتطلع زوجها عليها، وكان لدي خطاب منه بخط الخطابات المجهولة نفسه … وكان رشدي باشا يشغل في ذلك الوقت منصبًا كبيرًا في وزارة الحقانية، فما كان منه إلا أن استدعاه وهدده بالنفي من مصر في ظرف أربع وعشرين إذا لم يرتدع، وبعد ذلك لم أسمع عنه أو عن زوجته شيئًا. وهكذا نجوت منهما.

ولعل هذه القصة تكون درسًا للسيدات والفتيات، فيأخذن حذرهن من أمثال هؤلاء النسوة اللاتي يترددن على البيوت، ويمشين بالشر بين أهلها.

كانت هذه هي صورة تسليتنا في حياتنا العائلية على ما كان بيتنا فيه من حداد.

وكان يزيد في اغتباطنا زيارة أصدقاء المرحوم والدي لنا، وحدبهم علينا، واهتمامهم بنا، وأذكر منهم الزبير باشا والشيخ علي الليثي والأنبا كيرلس بطريرك الأقباط وقليني فهمي باشا وحسن حسني باشا وثابت باشا الذي كانت تربطنا بأبنائه أواصر صداقة منذ الصغر؛ لأنه كان جارنا وصديقًا لوالدي، كما كانت والدتهم صديقة لوالدتي.

وكنا نقضي أغلب أوقاتنا في اللعب والمرح في حديقتهم الفسيحة المترامية التي كانت تشغل كل الأرض التي بنيت عليها لوكاندة سافوي القديمة وعمارة بهلر الحديثة. وكان ممرنا الموصل إليها حديقة قطاوي باشا التي كانت تمتد من شارع الشريفين إلى ميدان سليمان باشا. وكثيرًا ما كنا نلعب في تلك الحديقة ومعنا أنجال قطاوي باشا.

ومن كثرة اختلاطي بالصبيان ولعبي معهم، تطبعت بطباعهم وشببت عليها، وهنا أقرر أن اختلاط الجنسين منذ الصغر إن لم يكن له تأثير حسن في تربية الأطفال، فليس من ورائه الضرر الذي يحدث من الاختلاط في أدوار المراهقة وما بعدها؛ لأن اختلاط الأطفال يجعلهم يشبون على عدم الفوارق، وتربطهم الصداقة البريئة ومن كثرة تعود بعضهم على بعض يصبحون كأنهم إخوة.

وأؤكد أن كثيرًا من الفتيات اللاتي تآخين منذ الصغر مع زملائهن من الفتيان؛ كن أقل علمًا بكثير من الأمور التي عرفها أترابهن ممن تعارفن في سن كبيرة، فما من شك في أن الفوارق والنزعات في هذه الأعمار تكون ظاهرة ومحسوسة … أما الاختلاط منذ الصغر وبين أولاد من طبقة متساوية تربوا على أساس من الحشمة والاحترام، فهو قليل الشوائب والأخطاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤