سقوط صاعقة

الصاعقة على منزل مارون عبود

اختارت الصاعقة بيت مارون عبود في عين كفاع، فانقضت على البيت … ولحسن الحظ لم تجد ناقدنا الكبير هناك؛ فقد كان منكبًّا على عمله التعليمي في عاليه.

ولكن الصاعقة وجدت في البيت فولتير، وشكسبير، وهيجو، وبرناردشو، والجاحظ … وجدتهم في لوحات كبيرة على جدران البيت، رسمها فنانون طليان وفرنسيون، كما وجدتهم في كتب أنيقة حسنة التجليد على رفوف المكتبة، فخرقت الجدران، ومزقت الكتب، وانتقمت من أعلام الفكر شر الانتقام …

وما انتقمت في الواقع إلا من مارون عبود، الذي أنفق ما أنفق على رسم هذه اللوحات الفنية على طول الجدران وعرضها، فغدا منزلهُ بها تحفة فنية صنعها الإنسان في الداخل، ومتعة رائعة خطتها يد الطبيعة في مدرجات أخاذة حول القرية.

ومن غريب المصادفات أن أستاذنا يحب الصواعق، ويصادق الزوابع منذ زمن طويل، فديوانه الشعري يحمل اسم «زوابع»، كما يحمل كتاب آخر من كتبه اسم «زوبعة الدهور» … ولكن يظهر أن الصاعقة لم تفِ لهُ هذا الحب … فأدركت هذه الصاعقة بيته في عين كفاع، كما أدركت صاحبه حرفة الأدب.

ونحمد الله على أنه لا يزال معلمًا يمارس مهنته؛ فالتعليم أنقذه من الصاعقة!

صدى لبنان
٢٣ / ١٢ / ١٩٥١

كلمة نور الدين بيهم عن نبأ الصاعقة

لم يَكَد الصديق البحاثة الأستاذ نور الدين بيهم يتصل بعلمه نبأ الصاعقة التي انقضت على دار أديبنا الكبير الأستاذ مارون عبود، حتى هرع إلى إدارة هذه الجريدة يبدي أسفه للكارثة التي ألمَّت بتحف صديقه وصوره، ويُعرب عن إرادته في تقديم لوحة زيتية للرسام الروسي الشهير «جيل شيرية» باسمه، وبتمثال خشبي فرعوني يعود عهده إلى ٧٠٠ سنة ق.م، باسم حفيدته حياة عبد الله سلام؛ علَّ هاتين التحفتين تعوضان بعض الخسارة التي حاقت بشيخ أدباء لبنان.

إننا باسم الأدب الرفيع الذي يُمثله الأستاذ مارون عبود، نحيي الأستاذ نور الدين بيهم. ولعلها أول مرة يحاول فيها «نور» من الأرض أن يَرْتقَ ما أحدثه نورٌ من السماء …

صدى لبنان
٢٣ / ١٢ / ١٩٥١

أخي نور الدين١

لقد كانت الصاعقة كبيرة كهديتك الملوكية، وأدبك الجم، وعلمك الواسع. يظهر أن الله — سبحانه وتعالى — قد اتصل به — وهو العليم الحكيم — خبر اختراع القنبلة الذرية، فسمح بها وأراد تجربتها في بيتك الصغير في عين كفاع.

أكتب إليك من جو الصواعق، ومن بين أشلاء ضحاياها المبعثرة غير الضارة إلا بالجيب.

فلو كان همٌّ واحد لاتقيته
ولكنه همٌّ وثانٍ وثالث

نشكر الله الذي كبرنا في عين جبروته وجلاله، فرأى أن واحدةً لا تكفينا فجاد علينا بثلاثة كأنهن يتسابقن إلى زيارتي، وكأنه يشن غارة طائرات وقاذفات … ولا بدع في هذا الثالوث الصاعق؛ ألسنا نصارى؟!

ولكن هذه الصواعق الثلاث وقف في وجهها ثلاثة حققوا حكاية بدوي بني صخر، الذي قال لإمام كان يصف لهم في سهرة هول ساعة القيامة والدينونة.

قال البدوي: يا شيخ، في هاتيك الساعة سيدنا موسى لا يكون؟

فأجاب الشيخ: نعم.

فقال البدوي: وسيدنا عيسى؟

فأجاب الشيخ: نعم.

فقال: ورسول الله ألا يكون؟

فأجاب الشيخ: مؤكد يكون.

فضحك البدوي بملء فمه وقال: قُمْ عنا يا شيخ، رعبتنا، هؤلاء ثلاثة أجاويد بوجودهم لا يصير شيء.

وأنا أعتقد أن هؤلاء الثلاثة قد صانوا مقرهم — قاعة الخالدين — فما دخلته شرارة. أما بعد اليوم فأعتقد أيضًا أن «بطلك» الذي أبدعه جيل شيرية — الفنان الفرنسي العظيم — سيكون له مع الصواعق شأنٌ يُذكر؛ ففي وقفته معانٍ ومعانٍ … كأنه في وقفته الجبارة الراقصة، يتحدى الصاعقة برأسه ويديه وعينيه وشاربيه صارخًا بها: هلُمِّي، أنا هنا.

وكأنه وقد قام على كعب «جزمته» مقعنسًا يردد قول ابن كلثوم: حُدَيَّا الناس كلِّهم جميعًا … إذا انفختت الأرض أسدُّها برجلي، وإذا سقطت السماء تلقيتها بيدي. حقًّا إن الفن الحق الذي نعم به بيتي بفضل هديتك ليخلق المعاني، ويبث الحياة في الظلال فتصير أجمل كثيرًا من الحياة النابضة.

أما هدية حفيدتك الكريمة الآنسة حياة عبد الله سلام — صان الله حياتها، وأقرَّ عينك بها، وجعلك جدًّا لأحفاد أحفاد — فقد جعلتني أُومن بوجود «شق أنمار» في الفن كما في الطبيعة، ولكن أين هذا من ذاك؟ ذاك صار ترابًا، وهذا لا يزال بعد أربعة آلاف سنة.

لقد شئت بلسان حفيدتك أن تستقبل الظلم الجوي بهدية فرعونية، وهكذا داويتنا بالتي كانت هي الداء، وإذا كانت كل صاعقة وإن أفحشت في المضرة تعقبها مثل هذه الهدية الدهرية؛ فأهلًا ومرحبًا بالصواعق.

إن عطف الأديب على الأديب لَمِمَّا يحلو ويطيب. أحياني الله إلى ساعة أستطيع فيها أن أرد تحيتك فقط؛ لأنه لا يوجد أحسن منها، وما أظنه يخيب رجائي بعدما خرجت من محنته هذه كما يخرج النضار من النار.

حقًّا إن المرء كثير بأخيه، وخصوصًا متى كانوا مثلكم يصح فيهم قول شاعرنا:

أولئك إخواني فجئني بمثلهم
إذا جمعتنا يا جريرُ المجامع

وختامًا أكتفي بجهد المقل؛ وهو التحية والدعاء.

عين كفاع
٣١ / ١٢ / ١٩٥١

أخي عبد الله٢

لقد قابلت الصاعقة بصواعق، فحققت قول من قال: جراحاتُ السِّنَان لها التئام.

دخلت أنت من «ثقب الباب» ففعلتَ فعلك … أما هي فدخلت من ثقب القبة وراحت تطوف في البيت، ولكنها لم تستلم إلا خطوطًا من حديد، وشريطًا من نحاس، وأخيرًا تدهورت في البئر. وهذا مصير الظالمين المعتدين.

قال الإنجيل: اطلبوا ملكوت الله وبره أولًا. أمَّا غير ذلك فتُزادونه. ونحن، يا أخي عبد الله، لسنا نطلب إلا ملكوت الأدب — حاف — أي بدون بر، ولا أحاشي من المعروف إلا عطف الإخوان ومحبتهم، وليس في الدنيا شيء أعظم من المحبة.

إني أقول:

أمطري نقمة جبال سرنديب
وسحِّي آبار تكرور تِبرا
أنا إن عشت لا أعدم قوتًا
وإذا مِتُّ لست أُحرم قبرا

فلولا السوط الذي يلهب ظهري وهو كذنب الصاعقة ما كنت كتبت شيئًا مما كتبت، ولا استحققت ثقتك وثقة محيي الدين ونور الدين والإخوان جميعًا.

جاء في مثلنا: لا تدع لصاحبك بالسعادة تخسره. فأنا أحمد الله — كما قال أخوك محيي الدين — على «الشقاء»، ولعلَّ هذا المثل إذا صحَّ في اللئام فهو أصدق في الأدباء. إن الألم خير مهماز لنا؛ فلتهمز الدنيا وتنخس؛ فالجلد تمسح …

لقد أجملنا فلنُفصِّل: أنت دخلت إلى نصرتي من ثقب الباب. أما صاحبتنا فثقبت ثقبها ودخلت، واجترأت على خارج البيت وداخله، حتى لم تترك فيه مغرز إبرة إلا صقر المحمدين: محمد الأعظم وجارُهُ يسوع، اللذين حميا «قاعة الخالدين»، ومحمد الأصغر الذي ظلله سَمِيُّه بشفاعته، فما تجرأت الصاعقة على دخول غرفته.

ولما كان الشيء بالشيء يُذْكر، اسمح لي أن أروي لك قصة محمدي:

«عندما مرض محمد بداء «هزة الحيط»، ويئس الطب منه، استعملت مع النبي الكريم فظاظة الأعراب وقلت له: لا تستطيع أن تحمي واحدًا من خمسمائة مليون، سميناه باسمك تبرُّكًا وتيمنًا! فكأنه استجاب دعائي، واكترث لقضية سميِّه الدقيقة، فشفي. ومِن بعد هزة الحيط صارت لبطته تهد الحيط، ومَن لا يصدق فالتجربة أصدق برهان.»

لا تلمني على فظاظتي التي اعترفت لك بها، ولستَ أول مَن سمعها، بل أنتَ أولُ من كتبت له، ولكن لا لوم ولا تثريب؛ فالنبي احتمل أكثر منها من غيري.

أما أنا فتعلمتها من راهبات مار يوسف. أما هؤلاء الراهبات فكنَّ إذا شح زادهن، ولم يرزقن خبزهن اليومي، يُهرعن إلى تمثال شفيعهن مار يوسف، ويعاقبنه بالوقوف — أوزاريه — عفوًا إذا استعملت لغة التانتات في هذه المناسبة. وهكذا يظل مار يوسف موليًا وجهه شطر الحائط حتى تأتي الرزقة.

يظهر يا أخي أن الإيمان يرفع الكلفة، وهذا ما حصل عندما أعيا الطب، والحمد لله على حسن النتيجة.

ولنعد إلى «الحربة» التي ماتت في ساحة الواجب، فمن حقها أن تُذكر بالخير؛ قد عملت ما عليها ولكن:

تكاثَرَتِ الظِّبَاء على خِراشٍ
… … … … …

أمَّا الآن فقد حلت محلها واحدة أمنع، ولعلها ترد عن «الحمصي» إذا كان في قميصه …

إن خسارة تعب عام وعامين تُعوَّض؛ فالحمد لله على أن هذا «الانقلاب» في بيتنا لم يلطخ بنقطة، فهو محتاج إلى «التكريس» من جديد.

صدقني إذا قلت لك: إن ليلة الضيعة كانت سوداء مرهوبة الحمية … فكثير من البيوت تشققت جدرانها والسُّرُج انطفأت في كل بيت، وحرم الناس النوم انتظارهم صواعق أخرى، ولكن الله رحيم وإن غضب. كانت الصاعقة الأخيرة قاضية على الحربة، وقد ذهب الحمار بأم عمروٍ …

وقبل وبعد، فإن ما كتبتموهُ ليساوي خراج عين كفاع كلها لا بيتًا من بيوتها، وإني أحمد الله على أنني وجدت في إخوتكم جميعًا ما حقق بيت بشار حيث قال:

ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة
يواسيك أو يسليك أو يتوجع

صانكم الله وأبقاكم لأخيكم بالأدب الذي أقمناه مقام الوالد، ولا زال بيتكم عامرًا إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.

عين كفاع
٣١ / ١٢ / ١٩٥١

أخي محيي الدين٣

إن ذكراك لي في كل مناسبة، ولفتتك الكريمة أمس في حينها تقيم لي كل يوم حجة على نُبل أخلاقك الفاضلة.

أبقاك الله لنا، يا زين الرجال؛ فكلامك بلسم يشفي كل جرح حتى شدوخ الصواعق.

عشت محيي الدين والدنيا، ولا زلت نصوليًّا يرمي ويصمي.

والسلام عليك ممن يحبك ويحترمك، ويعتدُّ بصداقتك.

عين كفاع
٣١ / ١٢ / ١٩٥١

أخي محيي الدين متعك الله بالدنيا طويلًا

تهنئة حارة — بالعود الأحمد — كالأنفاس الذكية التي تحملها إلينا صفحات «بيروت» من وحي باريز. إذا كان هذا ما توحيهِ باريز إلى «الشيوخ»، فما عساها أن توحي إلى فتًى أغر مثلي إذا زارها … ويا سلوة الأحباب موعدك الحشر.

وبعد، فقد قرأت في العدد ٤٣٠٧ من صحيفتكم الغراء أنني أحد المرشحين لرئاسة جمعية «أهل القلم» الذين تتجه إليهم الأنظار.

أرجو منك — يا أخي — وأنت ما خيبتني، بعد أن تسأل الله معي أن يرد عني «الأنظار»؛ فلا يصيبني إخواني الأحباء بعين.

أنا لم أتشرف بعد بالانخراط في سلك الجمعية لأُرشَّح لكرسي رئاستها السامية، وسوف أبقى خارجًا، لا بل «خارجيًّا» حتى يهبط هذا الضغط العالي عند بعضهم، وإذ ذاك يكون لكل حادث حديث.

يظهر أن مصيبتنا في أهل القلم أكبر من مصيبتنا بمحترفي السياسة عندنا؛ فلنسأل الزمن أن يطهر عقولنا من هذا «البرص» الاجتماعي. لا أعني إلا حب الرئاسة الذي نَعَتْه علينا جريدة التلغراف الغراء، مُنزِّهة الأدباء عن هذا الإسفاف.

وقلتم أنتم: «قد تنتخب السيدة إفلين بسترس — مثلًا — رئيسة للجمعية، إذا رُؤي تحاشي المنافسة بين الرجال»؛ فذكرتموني بكلمة كتَبها الخليفة العباسي المستعصم بن المستنصر للمصريين، لما طلَب منه ساسَتُهم أن يعترف بالملكة شجرة الدُّرِّ، قال — غفر الله لي وله: «إذا كانت الرجال قد عَدِمَتْ عندكم؛ فاعلمونا حتى نُسيِّر إليكم رجلًا.»

أنا لست أزعم أن السيدة إفلين لا تليق بهذا المنصب؛ فهي في نظري أجدر به ممن يتطلبون الرئاسة ويسعون لها سعيهم في الناس … ولكنها نكتة جاءت زائرة فاستحيتُ منها وكرهتُ رجعتها خائبة.

وأخيرًا، ما تقول يا أخي في مجمع يتنازع أهله وهو «ما هف بعدُ ولا قعد على الرف». إن خير ما يُفعل في هذا الموقف هو أن يعمل أهل القلم ما عمله أحبار النصارى في سالف العهد والأوان؛ إذ انتخبوا لهم رئيسًا أحد القسيسين البسطاء، فداسوا كبرياء المتعطشين إلى العظمة الفارغة.

إن بضعة أسطر تكتب على حقها لهي عندي وعندك وعند القارئ لا تعادلها رئاسة؛ فليكتب إخواننا أهل القلم ليرى الناس أنهم من أهله.

والسلام.

عين كفاع في ٣ آب ١٩٥٢
١  الأديب الأستاذ نور الدين بيهم.
٢  الأديب الأستاذ عبد الله المشنوق.
٣  الأديب الأستاذ محيي الدين النصولي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤