كتاب وجواب

بين مارون عبود والخوري يوسف الحداد

يا ابن أخي أمي، رافقك التوفيق طول الطريق

سمعتُ عنك وقرأتُ لك في هذه المُدَّات، ولي فيك قلب حافظ من ورائه لسان ينتظر كلمة الحكم هربًا من القول … كل فتاة بأبيها معجبة …

وبموقفك العكاظي في الحكمة إحياءً لجبران، وبجولتك الوثابة في الجرائد تخليدًا لذكره. كنت ناظرًا إليك غير متشيع لك أو عليك، حتى إذا حكَّ النقد جبران، ونزل ابن عبود إلى الميدان؛ افترَّ مبسمي افترار الزهرة قبَّلها الندى، وضاحكها الصباحُ، وانطلق لسان زكريا في حفيد جدي واقفًا بوجه فرسان الأدب، «شديدًا على الأقران عَضْبًا لسانه»، يوقد من فكرته مشعلًا على أدب ابن الشمال، ويريهم من جبران درهمًا وازنًا.

ووازنه ومن انتقوا حجة لمنهاج البكالوريا من غير وزن، فرجح به وشالوا، ولم يرتفعوا فوق جبران إلا في الميزان، وحملت على منظومهم ومنثورهم.

وهالهم أن هناك قصورًا لبناة الأدب تسقط عليك، فأهاب منذرهم بك، فآويتهم أكواخًا ما حسبوها صروحًا، وأنك ماضٍ في تقويضها.

وضيقت عليهم فصدوا عن المنطق إلى المغالطة؛ وهي سلاح المغلوب على أمره، وما كان أهداك إلى عطوس تاريخي أرغمت معاطسهم بنشقة منه لا يعطس بعدها متفيقه متقمط، ولا متمنطق متمذهب. ضاجوا فضجوا، وكابروا وأكبروا، وراموا التقييد بآرائهم، وما كان أدهاك بمثل صاحب الأباريق تضربه لهم ضربة على …

إلى الأمام يا ابن المزرعة، والمزرعة بابن الأدب برجُ داود معلقة عليه تروس الجبابرة.

إلى الأمام على نبذ أباريقهم إلى خابية جبران، واملأ الجرة بالسقوق وأدره دفقًا جرعًا على دائرة المعازف، فلعلهم يتذوقون فيسكروا من معتقه، النائم في الدير، نبي الأدب، فلا يحرموا طلاب البكالوريا من منتخباته.

ولئن فعلوا لتخلدن ذكرك بذكر جبران.

أخبرني الأستاذ يوسف الحويك أنك اكتفيت بما صار إليك من معلومات عن جبران. مع مواصلتي له في شأن جبران، قطع الحبل. لا شيء عندي جديد غير الذي قرأته لك في القرية عن جبران.

الطريق من غلبون إلى عين كفاع سيسمع فيها ضرب المعاول إن شاء الله من أول الصيف؟!

ابن عمتك الخوري يوسف الحداد
١٥ حزيران ١٩٣٦

ابن عمتي وأستاذي

فرحت بكتابك فرح النهم بالرغيف السخن، ولا أقول في رسالتك البارعة شيئًا، فأنت سيد المترسلين — أبقاك الله سراجنا الوهاج — ادع لي وزودني رضاك؛ فأنا ماضٍ في طريقي لا أبالي بالعقاب، ولا أشكو قطعها كما فعل أبو الطيب.

أنا في حاجة شديدة إلى كلمتك بتلميذك جبران، فلعل عند الحويك خيوطًا ولو ضئيلة نطرز بها مطرف ابن الأرز الخالد.

أما الطريق فقد صدر أمر فخامة رئيس الجمهورية إلى النافعة لتوفد المهندس الفني ليخططها من غلبون إلى دير مار يوسف، أأعجبك هذا؟ أما المال فيصرف لها بعد رجوع العميد والشروع بأعمال النافعة الموقوفة. وفي العام القادم يرصد لها في الميزانية المبلغ اللازم لإيصالها إلى آخر الخط.

وهناك سعي آخر كان موفقًا؛ فقد صدر أمر مدير البريد والبرق إلى مركز جبيل ليوصل البوسطة إلى عين كفاع يومًا بعد يوم. وهذا يسرك أيضًا.

المهندس تأخر عن الذهاب بطلب مني لأكون حاضرًا؛ لأن مهمته تستغرق زهاء أسبوعين.

وختامًا، أقبِّل يديكم وأدعو لكم.

عاليه
١٩ حزيران سنة ١٩٣٦
figure
نموذج من خط المؤلف سنة ١٩٣٦.

ابن العمة العزيز

أعاد الله عليك أعيادًا عديدة وأنت بحال راضية نفسًا وجسدًا، ومتعنا ببقائك الثمين طويلًا؛ لننتفع بعلمك وفضلك.

فتقبل تهنئتي بعيدك، ودُمْ لنا فخرًا وذخرًا.

ابن الخال العزيز

تجري الرياح بما لا تشتهي السفن: كان في العزم أن نحتفل بعيدك في بيتك، إنما شباط الأعور الناقص عكس صفاء العيد بغيمه وشتاه وهواه، وأنت أدرى بما يخافه الشيوخ من هذا الشهر الخلاط اللباط الشباط، حتى لو اجتمع مار مارون ويوحنا مارون في دارك لما أمكنهم أن يزيحوني من حول الكانون في غرفتي؛ وذلك ما أدى أن يسبق القلم إليك القدم. إنما سبق الاثنين قلبٌ أنت فيه يحملك إليك، وبقي ابن عمتك كالبيت بلا سكن. جعل الله أيامك كلها أعيادًا.

تفضل بقبول عذري يا ابن الخال العزيز.

٩ شباط

سيدي ابن العمة العزيز

أقدم لكم التهنئات الخالصة بعيد شفيعكم المجيد، وأتمنى أن نتبادل هذه العاطفة عشرات السنين. سلمتَ لنا وبقيتَ مفخرةً لا تطاول. وختامًا، أصافحكم على أمل اللقاء القريب.

ابن الخال العزيز

الخوري يوسف الحداد يهنئ ابن خاله مارون بك عبود بفوزه بشق الطريق، وأحمد الله بك على أنك خلصتنا من بين حانا ومانا، وأرحتنا من عرقوب وأبي براقش، ولم يعادل سروري بنجاحك سوى إعجاب ابن أخي حنا بسياستك ومقدرتك. إننا بحاجة إلى رجال يعرفون قدر الرجال، وإن شاء الله في مثل هذا الشهر ١٩٣٦ نسمع صفير السيارات مطلة من صليب غلبون على عين كفاع الصغيرة التي تكبر بهمة بَنِيها البررة. وألف سلام وتحية على وجهها، وأحب أناسها إليَّ ابن الخال مارون بك عبود.

١٤ / ١ / ١٩٣٥

ابن الخال الأديب النجيب، زادك الله شأنًا

هنيئًا لك العيد. دُمتَ لنا عيدًا ولك في كل عرس قرص، وقرصك عسل في مائدة الأدب «وسنتان في مدرسة الحكمة» قمر بين نجومه. قرأتك في الجريدة المكشوف تمر بالمغطى والمكشوف بين تلميح وتصريح، وتفصِّل لكل قدٍّ لباسه، وما كان أحلى ذكريات الصبا، والوصل بين الأب والأم! لا زلت يا ابن الخال رائحة الزهرة، وشجو الموسيقى يشمك، ويسمعك أبو خمس وسبعين لم تفسد السنون ذوقه.

ابن عمتكم الخوري
عن جونيه، مكتب الكريم
٨ شباط ١٩٣٩
figure
نموذج من خط الخوري يوسف الحداد.

ابن الخال الحبيب١
السلام عليك، وعلى شق الطريق إلى عجوز ابن الخطاب

كتبت إليَّ تستفسرني عن جبران، وهل كان من تلاميذي في مدرسة الحكمة، ثم تشعرني بتوفيقك إلى شق الطريق …

أما جبران فهاك عنه ما يعلق بذاكرة أستاذه: درس عليَّ جبران سنة واحدة كنت له فيها لسانًا وقلمًا، وكان أذنًا تعي ما عناها، وقلبًا تابعًا لهوى متبوع، ونفسًا وثابة، وعقلًا متمردًا، وعينًا هازئة بكل ما تقع عليه مقلًّا من الإخوان يزرع حقله في عقله، وفي يوسف سعد الله الحويك، مجتزئًا به بين سائر الرفاق، كثير الانتقاد، شديد التمسك برأيه، مفكرًا قلَّما ترتسم الابتسامة على ثغره، طموحًا تحت مهماز لا رفق معه، يجدُّ ليجد، ناظرًا في أفق بعيد.

وفي قص خبر اتصاله بي ما يفتح لدرسه منفذًا يطل عليه، وكثيرًا ما يقاس الحاضر على الماضي «والطبخة الطيبة تعرف من العصر.» اسمع: في أواخر تشرين أول سنة … قُرع عليَّ باب غرفتي، وعلى كلمة «تفضل» دخل شاب ربعة ذو وجه حنطي مشرب حمرة، وعينين ناعستين ما بين أجفان ذابلة كزهرة تطل من أكمامها، ترسلان نظرات طويلة مثبتة، وله شعر مرسل يلامس أذنيه.

– الاسم الكريم؟ وهل أصلح لخدمتك في شيء؟

– أنا جبران خليل جبران من بشراي. أنهيت دروسي في الإنكليزية، نائل شهادة الفلسفة، أتيت لبنان لأدرس آداب لغة وطني وأبدي فيها أفكاري، فكان نصيبي الصف الابتدائي.

– ماذا تعرف من مبادئ العربية؟

– أحسن القراءة فقط.

– أفلا تعلم أن السلم يرقى درجة درجة؟!

– وهل يجهل الأستاذ أن الطائر لا ينتظر السلم في طيرانه؟

– إنني لم أرك قبل الساعة، فمن دلَّك عليَّ؟

– عيني رأتك وقلبي دلني.

اقشعر بدني من الجوابين، وشعرت أن أمامي عقلية بارزة في فتى له حكمة الشيوخ، وذكرت للمتنبي: «ليس الحداثة من حلم بمانعةٍ.»

– والآن ماذا تريد مني؟

– رأيتك مرارًا فسألت تلميذك يوسف الحويك من يكون هذا الخوري؟ فقال: هذا أستاذنا الحداد، وله رفق بتلاميذه وعطف، وكلمته مسموعة عند الرئيس، فجئتك في أمري. دعني أحضر عندك لا أسأل ولا أُسال، وإني دافع مرتب المدرسة كله حالًا، وأنا المسئول عن نفسي لا أمي ولا أبي، وإن لم أنل مطلوبي فتشت عن غير هذه المدرسة التي تتعلق بحرفية القانون ولا تفهم تلاميذها.

– مهلًا وأعود … وما زلت بالرئيس حتى قال كلمته «التاريخية»: النتيجة يا حبيبي أنت المسئول، وأين راتب المدرسة؟

– حاضر …

وعدت إلى جبران، وما رآني حتى أقمر ليله وابتدرني قائلًا: انقضى غرضي يا أستاذي.

– ومن أين عرفت؟

– من وجهك الضاحك وعينيك.

وثاني يوم كان جبران بين تلاميذي على مقعد التدريس، وقدامي على المكتب كتابة منه: قبل مرور ثلاثة أشهر لا تسألني عن شيء، وبعد ذلك سل ما تشاء …

لم يكن جبران وقت إلقاء الأمثولة يفتح كتابه، بل كان أذنًا وعينًا، وتلك الأذن العطشى لا ترتوي، وتلك العين لا تشبع. وكان يختلف إليَّ حينًا إثر حين يلقي عليَّ الأسئلة ويستشيرني في انتقاء كتب المطالعة، فحوَّلته على كليلة ودمنة، والأغاني، ومقدمة ابن خلدون، ونهج البلاغة، ورسائل بديع الزمان، والدرر لأديب إسحق، والمتنبي، والبهاء زهير، والتوراة … ودرس الطبيعة وطبائع البشر وأخلاقهم وعاداتهم والتواريخ.

وكان يأتيني بمقالات من عندياته يستقل بها، فأرى منها جسمًا متناسق الأعضاء عليه مسحة من الجمال تحت ثوب من اللفظ لا يُشاكل المعنى، فأمشي معه في ثقافته مشية من يرى تلميذه أكبر من تلميذ. وضعت له هذه القاعدة: فكِّر طويلًا، واكتب قليلًا؛ تكتسب كثيرًا، إلى أن تفيض القريحة فيضًا.

ومن أول مقال له أدركت ما هو جبران وقلت له: إنك صائر شاعرًا مطبوعًا، وكاتبًا خياليًّا؛ فاتَّق الله. إلى الأمام.

وكان جبران ينمو في أسلوبه نمو الحورة، وينبثق انبثاق الحوض، ومعه تقوى الروح الوثابة العابثة المتمردة.

وفي آخر السنة تركت المدرسة ولم أعد أذكر إلى أين أتجه، إلى أن أهدى إليَّ كتابه وعليه العبارة: «أنت أولى بأولى بواكيري.» فكتبت إليه في بعض نقط فقطع الحبل … وكل ما أقوله: لا تتعجل بنشر نقد جبران قبل أن تلمَّ به من كل ناحية. وجبران كان يحذق فن التصوير وهو في المدرسة.

لا أقدر أن أبدي رأيي في جبران؛ لأني لم أطالع تآليفه كناقد، ولا جلد لي اليوم، بل أعتقد أنك بدرسك له الدقيق تجد الغث والسمين، وعسى نقدك أن يكون نظير عصا موسى وراء عصي سحرة مصر … إن شاء الله الذي لا توفيق إلا منه.

ابن عمتك الخوري
٩ آذار سنة ١٩٣٦

الجمهورية اللبنانية، مجلس النواب
أخي مارون

أجدت أمس كما أجدت في بعض ما كتبته قبل أمس، شأن كل كاتب وناقد يصيب أحيانًا ويخطئ أحيانًا، وقد خرج الخطباء على الأثر من الحفلة فحييناهم، ولم تخرج معهم فنحييك.

أما جبران فقد أصبت فيما ذكرت عنه، ولكنك أطلت وطلبت ما أرجح أن المدرسة لا تجيبك إليه، ولا شك أنك تذكر أني كنت وإياك في جانب جبران وزيدان في لجنة المعارف فلم نفلح، ولا يعني انتصارنا لجبران انتقاصًا من قدر المنفلوطي، فإن أسلوبه في الإنشاء «العربي» يفوق أسلوب جبران، ويجب أن نضم الرجل إلى ناشري لواء البلاغة والتهذيب في الشرق، فقولك: «إن اللجنة أبدلت المنفلوطي من جبران.» فيه تحقير للمنفلوطي، ولا أظنك تعني هذا، بل تعني وجوب وضع جبران في مَصَفِّ الكُتَّاب المصلحين في منهاج البكالوريا.

وأما حملتك على شعراء العصر في التهاني والترحاب والاستقبالات، فحملة مردودة؛ لأن كل شاعر مهما علت منزلته في مثل هذه المناسبات مضطر أن يقول كلمة شكر، ولا تكون كلمة الشكر آية من آيات الفن والخيال والتصور والابتكار.

وهناك أبيات كثيرة من غير هذا الباب فسَّرتها، يا أبا محمد، بغير ما يريد صاحبها، أو شرحتها باستهزاء، والمعنى فيها مقبول مأنوس، وليس بالصعب على كل ناقد أن يزدري قول أعظم شاعر متهكمًا، ويجعل ألفاظه مبتذلة ومعانيه مسروقة.

بقيت المحاسن يا مارون … أين هي؟ فقد يكون للشاعر بيت في قصيدة يعادل قصائد، ويظهر أنك تريد أن تهدم البيوت على أربابها، فتقتل جميع ما فيها، وكم هنالك من كنوز تضيع تحت الأنقاض! وليس هذا عمل النُّقاد المُنْصفين.

أحييك وأدعو لك.

أخوك المنذر
بيروت
٤ / ٥ / ١٩٣٦

أخي وشيخي إبراهيم

لا أنسى يوم كنت تشجعني فتًى — عفوًا ما عنيتُ أنك أَسنُّ مني كثيرًا — ولكني أذكر بلذةٍ أيامًا كنت أمرُّ بها على «مكتبك» فتبسم لي وأعدُّها نعمة، وإني لا أزال أحرص على رضاك الغالي جد الحرص.

قلت في كتابك الكريم المفتتح بهذا التعبير — فلا حيا الله ولا سلم الله: «أجدت أمس كما أجدت في بعض ما كتبته قبل أمس، شأن كل كاتب وكل ناقد يصيب أحيانًا ويخطئ أحيانًا، وقد خرج الخطباء على الأثر من الحفلة فحييناهم، ولم تخرج معهم فنحييك.»

لم أخرج مع الخطباء؛ لأن همتي قليلة فسبقوني، واكتفيت بتسليمي عليك سلام الأحباب بعد الغياب قبل أن صعدت المنبر، ولم يدر في خلدي قط أني غير حاصل على رضاك. أما الإصابة والإجادة فحسبنا منهما الإفادة، وإنهاض أدبنا المقعد ما نستطيع. أما الخطأ — والعصمة لا أدري لمن — فليتك تدل عليه ولك من الأدب أجر غير ممنون.

يا شيخنا

حَملَ إليَّ استياءك وبلغني رسالتك الشفهية، بل نصيحتك الأخوية مَن حمَّلته إياها، فشكرًا، وعذرًا وإن كنت تأمر فتطاع، فأنا ماضٍ في سبيلي؛ فادع لي بالتسهيل … فإن تقدمت بهذا الأدب خطوة صغيرة بلغت أقصى الأماني، فأنا رجل قنعان.

أما قولك أني أصبت فيما ذكرت عن جبران؛ فلك الشكر على ذلك مني ومن نزيل وادي قاديشا ومجاور الأرز، وأما إني أطلت الكلام عنه وطلبت ما ترجح أن المدرسة لا تجيبني إليه، فجوابه: إننا في زمن «مطالبات»، أولستم كذلك في المجلس؟ فإن فعلت المدرسة أحسنت، وإلا فلا حرج عليها، الزاد زادها تأكل منه ما تشاء، وتطعم ما تشاء، كما قال معن بن زائدة للأعرابي.

ثم قلت لي: «تذكر أني كنت وإياك في جانب جبران وزيدان في لجنة المعارف فلم نفلح.» إني أذكر ذلك ولا أنساه، وقد أشرت بقولي: ولم يبق في جانب جبران إلا المتهمون في دينهم مثله؛ أي أنت وأنا ومن لفَّ لفنا …

أما إني قلت: «إن اللجنة أبدلت المنفلوطي من جبران.» فما هكذا قلت، بل: وهكذا أقر المنفلوطي في المنهاج ونفي جبران من وطنه الذي يردد كل يوم:

ملء عين الزمن
سيفنا والقلم
أرزهُ عزهُ
رمزهُ للخلود

أما إن أسلوب المنفلوطي يفوق أسلوب جبران؛ فإننا لا نتفق في هذا يا شيخ. إننا نريد غير هذا الكعك، إنما من العجين. وبكلمة أوضح: قد قرفنا خبز الملة …

ثم تقول لي: «وأما حملتك على شعراء العصر في التهاني والترحاب والاستقبالات، فحملة مردودة؛ لأن كل شاعر مهما علت منزلته مضطر في مثل هذه المناسبات أن يقول كلمة شكر، ولا تكون كلمة الشكر آية من آيات الفن والخيال والتصوير والابتكار.»

أظن — وبعض الظن إثم — أن هنا «التخلص» يا أستاذ، فإن شئت رأيي في شعر الفرح والترح فإليكه: ليقل الناس الترحيب والتهاني والتعازي نثرًا؛ فهو خير من هذا الشعر الدميم المقرف، وإن وفق الشاعر إلى إبداء عاطفته بفن وإبداع فليقل شعرًا. أما متى قال شعرًا مثل هذا الذي نقرأ فليطمره، ولا يدع الهرة أفطن منه، كما قال البديع للخوارزمي.

ثم قلت — وأراك تقول كثيرًا اليوم: «وهنالك أبيات كثيرة من غير هذا الباب فسَّرتها، يا أبا محمد، بغير ما يريد صاحبها، أو شرحتها باستهزاء، والمعنى فيها مقبول مأنوس، وليس بالصعب على كل ناقد أن يزدري قول أعظم شاعر متهكمًا، ويجعل ألفاظه مبتذلة مسروقة.»

أما إني فسرتها بغير ما يريد صاحبها، فلا أظن. أما شرحها باستهزاء فهذا لا شك فيه، ولكن هل يتيسر لي هذا الاستهزاء إذا لم تكن الألفاظ والمعاني مبتذلة؟ أما السرقة فأظنني قبضت على مرتكبيها متلبسين بالجريمة. أما المعاني فأعترف لك أنني ما عدت أقنع منها «بالمقبول» ولا أغصب نفسي عليه.

اسمح لي أن أصارحك بما في نفسي يا سيدي الشيخ: يظهر أنها قصة الباذنجان … لا قصة منفلوطي وجبران، وإنك لمروان كما قال علي لعثمان … ليتك تفقأ هذه الدملة فتستريح.

ثم قلت: «بقيت المحاسن يا مارون … أين هي؟ فقد يكون للشاعر بيت في قصيدة يعادل قصائد.»

أظن أنني أشرت إلى بعض المحاسن يا أستاذنا، ولكن يظهر أن ما يسرك منها أكثر مما يسرني، وأنا لا أستطيع أن أرى إلا بعيني، وهي ضيقة — كما يقول الناس — ولا تكبر الأشياء.

وأخيرًا قلت: «ويظهر أنك تريد أن تهدم البيوت على أربابها فتقتل جميع ما فيها، وكم هناك من كنوز تضيع بين الأنقاض! وليس هذا عمل النقَّاد المنصفين.»

لا يا شيخ — يقطع السم — تروَّ قليلًا، هل النقد في عرفك هدم؟ وهل هدمنا حتى الآن غير أكواخ عششت فيها البراغيث والبق والخنافس؟ ما هدمنا بعدُ يا شيخ غير أكواخ خشبية جريًا على قوانين «البلديات» الحديثة. ليتك تُسمِّي من تعني لنجول جولة حول هذه «الرمم» فتوافقني على هدِّها رحمةً بأولادنا، ولا يؤثر بقلبك الرقيق عويل أصحابها.

سيدي الشيخ

حييتَ ودعوتَ في ختامك، ولم تقبل وتصافح كعادتك. أما أنا فحالي معك لا تتغير، وهي دائمًا على حد قول شاعرنا العامي القديم:

لمَّن بشوفك بنفعطلك من بعيد
وبستحي سلم عليك بفرد إيد

وأخيرًا، وكأني بالغضب قد ضيَّق صدرك الواسع، فطويت كتابك على البطاقة التي سطرت عليها ما يأتي:

«إذا شئت يا أخي أن تنشر هذا الكتاب وتجيب عما فيه فلك ذلك.»

لبيك يا شيخ، والأمر لك. ها قد فعلت، وشرطي في الأمر ألا نقف، وأن تصرح في الآتي ولا تلمح … والسلام عليك من أخيك.

مارون عبود
الجامعة الوطنية، عاليه
٧ / ٥ / ١٩٣٦
١  لقد سبق نشر هذه الرسالة، وها نحن نوردها ثانية استكمالًا لوحدة الموضوع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤