خاتمة

تعبِّر جميع النصوص والأعمال التي وصلتنا من الفلاسفة الطبيعيين في الفترة الحديثة المبكرة عن حماستهم المتقدة نحو الاستكشاف، والاختراع، والحفاظ، والقياس، والجمع، والتنظيم، والتعلم. وقد قوبلت نظرياتهم وتفسيراتهم وأنظمتهم العالمية التي لا حصر لها، والتي تنافست من أجل نيل الاعتراف والقبول بمصائر مختلفة. تشكِّل الكثير من المفاهيم والاكتشافات في الفترة الحديثة المبكرة — مثل فكرة كوبرنيكوس عن مركزية الشمس، واكتشاف هارفي الدورة الدموية، وقانون التربيع العكسي لنيوتن عن الجاذبية — أُسُس فهمنا الحديث للعالم. وهناك بعض الأفكار — مثل مفاهيم المذهب الذري، وتقديرات حجم الكون — خضعت للتحديث والتنقيح بفعل النشاط العلمي التالي، وبعضها الآخر — مثل دوامات ديكارت، أو التفسير الميكانيكي للجذب المغناطيسي — قوبل بالرفض التام.

ولا يزال العلم الحديث يتتبع الكثير من تساؤلات الفلاسفة الطبيعيين في الفترة الحديثة المبكرة، وأهدافهم التي ورثوا بعضها عن العصور الوسطى أو ربما العصور القديمة؛ فعلى خطى جاسيندي وديكارت وفان هيلمونت، لا يزال علماء الفيزياء المعاصرون يبحثون في الدقائق النهائية للمادة كي يفهموا كيفية اتحاد دقائق الكون غير المرئية وتفاعلها من أجل تشكيل العالم. وعلى خطى كبلر وكاسيني وريتشيولي، لا يزال علماء الفلك المعاصرون يفحصون السماء ويرسمونها فيعثرون على أشياء وظواهر جديدة، بفضل استخدام أجهزة تفوق في تنوعها وقوتها الرُّبعيات والتليسكوبات التي استخدمها تيكو أو جاليليو أو هفيليوس. أما المستكشفون في إسبانيا الجديدة، مثل هرنانديز ودا كوستا، فلديهم ورثة من العلماء الذين يواصلون البحث عن أدوية جديدة في النباتات والحيوانات التي تعيش في الغابات والأدغال والصحاري، أو عن صور جديدة للحياة في أعماق المحيطات المظلمة، وحتى على الكواكب البعيدة. وعلى خطى الأسلاف الباراسيلسوسيين والمؤمنين بتصنيع الذهب من المعادن الرخيصة، يبذل علماء الكيمياء قصارى جهدهم من أجل تعديل المواد الطبيعية وتحسينها، واستحداث مواد جديدة، مُواصِلينَ طموحات بويل في فهم تغير المادة، وطموحات بيكون في تقديم أشياء مفيدة للحياة البشرية. وعلى خطى فيزاليوس ومالبيجي وليفينهوك، يستكشف علماء الأحياء والأطباء المعاصرون أجسام الحيوانات والبشر باستخدام أدوات جديدة، فيُظهرون في أثناء ذلك التراكيب الأكثر دقة وآليات العمل الأكثر إثارة للدهشة؛ فكل جهاز إلكتروني جديد يظهر في الأسواق ينعش ارتباطات التكنولوجيا بالعجائب ومثيرات الدهشة.

إلى جانب روابط الاستمرارية هذه، فإن أشياء كثيرة قد تغيرت أيضًا؛ فلم يعد الحافز الديني والتعبدي القوي الذي دفع الفلاسفة الطبيعيين في الفترة الحديثة المبكرة إلى دراسة «كتاب الطبيعة» — للعثور على الخالق منعكسًا في خلقه للعالم — يقدم قوة دافعة رئيسة للبحث العلمي. وقد فُقِد، بوجه عام، الوعي المستمر بالتاريخ، وبأن البشر جزء من موروث طويل متراكم من البحث في الطبيعة؛ فقليل من العلماء اليوم سيفعلون مثلما فعل كبلر حينما وضع عنوانًا فرعيًّا لكتابه التعليمي عن كوبرنيكوس «تَتِمَّة لأرسطو»، أو يبحثون عن إجابات في النصوص القديمة حيث بحث نيوتن عن سبب الجاذبية. أيضًا تصدَّعت فكرة وجود كون محكم الترابط؛ بسبب الانصراف عن قضايا المعنى والغاية، وبسبب ضيق أفق وجهات النظر والأهداف، وبسبب تفضيل التفسير الحرْفي الذي لا يصلح لفهم أوجه التشبيه والاستعارة التي كانت أساسية للفكر في الفترة الحديثة المبكرة. أما الفيلسوف الطبيعي، ونطاق فكره ونشاطه وتجربته وخبرته الواسعة، فقد حل محله العالِم المهني والمتخصص والتقني؛ وأدى ذلك إلى ظهور نطاق علمي منفصل عن الآفاق الأكثر رحابة للوجود والثقافة البشرية. ومن المستحيل ألا نفكر في أنفسنا على أننا الأفقر؛ لفقداننا النظرة الشاملة التي كانت تميز الحياة في الفترة الحديثة المبكرة، حتى لو اضطررنا للاعتراف بأن التطور العلمي والتكنولوجي الحديث قد أكسَبَنا مستوًى مذهلًا من الثراء المادي والفكري.

لقد كانت الثورة العلمية فترة من الاستمرارية والتغيير معًا، ومن الابتكار والتقليد أيضًا، وكان ممارسو الفلسفة الطبيعية في الفترة الحديثة المبكرة يأتون من كل حدب وصوب في أوروبا، ومن جميع الديانات، ومن جميع الخلفيات الاجتماعية، وتنوعوا ما بين مجددين محرِّكين وتقليديين متحفظين. وقد أسهمت تلك الشخصيات المتفاوتة في إرساء منظومات من المعرفة، ومنشآت، ومنهجيات تعتبر أساسية لعالم العلوم في يومنا هذا؛ ذلك العالم الذي يمس كل إنسان حي. ربما يكون بإمكاننا اليوم أن نخبر هؤلاء بأشياء كثيرة كانوا يتحرقون شوقًا لمعرفتها، وربما كان باستطاعتهم هم أيضًا أن يخبرونا بأشياء نتحرق شوقًا لسماعها. يبدو لنا عصرهم مألوفًا وغريبًا في وقت واحد، مثل عصرنا، وإن كان مختلفًا اختلافًا لافتًا للنظر؛ فتعقيد الفترة الحديثة المبكرة وفرط حيويتها هما ما يجعلانها أهم فترة في تاريخ العلم بأكمله، وأكثرها تشويقًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤