الوزير

في قاعة مجلس النواب صباح يوم ١٦ يناير ١٩٥٠، رئيس الوزراء مصطفى النحاس باشا يلقي خطاب العرش ويصل إلى الفقرة الخاصة بالتعليم، وقد أعدها طه حسين، فيعلن باسم الملك أن حكومته ترى «أن خير الوسائل لرفع مستوى الشعب وتمكينه من الحياة الخصبة المنتجة التي تنفعه وتنفع الناس، وتحفظ على المواطن مكانته بين الأمم المتحضرة الراقية، إنما هو تعليم أبنائه، وتثقيف نفوسهم، وتزكية عقولهم، وتهذيب أخلاقهم، وتزويدهم بكل الوسائل التي تتيح لهم الجهاد المنتج في سبيل الرقي والتقدم؛ ولذلك فهي لن تبخل بأي جهد لنشر التعليم وتيسيره، والتوسع في مجانية التعليم حتى تصل به إلى المجانية الشاملة، تحقيقًا لتكافؤ الفرص لجميع المواطنين دون تفريق، وقد قررت فعلًا مجانية التعليم الابتدائي والثانوي والفني منذ اليوم.»

وفي مقهى بحي السيدة زينب بالقاهرة يستمع رواد المقهى في سكون إلى خطاب العرش، فيتعالى ضجيجهم وهتافهم عند سماع هذه الفقرة.

يقول عامل لزميله: «لا أنسى أبدًا يوم كنت أقف مع زملائي في المدرسة الابتدائية في طابور الصباح، ونزل الناظر إلى حوش المدرسة، وبعد التعظيم والتفتيش، قرأ ضابط المدرسة كشفًا فيه أسماء عشرين تلميذًا، أنا واحد منهم، وأعلن الناظر أن آباءنا لم يدفعوا المصروفات، وصرخ بالبواب ففتح البوابة على مصراعيها، وصرخ فينا نحن العشرين فخرجنا إلى الطريق وتفرقنا غارقين في الخجل إلى بيوتنا، وكنت بعد ذلك أتجنب المرور أمام المدرسة، ولم أفتح من يومها كتابًا، ونسيت كل ما كنت تعلمته وأصبحت من الأميين.»

ويرد زميله بعد صمت قصير: «الحمد لله! الآن أولادنا لن تُفتح لهم البوابات للخروج إلى الشوارع … ولن ينضموا إلى جيش الأميين!»

وفي مبنى وزارة المعارف يزدحم الفناء بوفود تتوالى، تحضر لتهنئة الوزير، والوزير قد انتدب موظفًا جهير الصوت، ليشكرهم عنه ويرجوهم الانصراف. ويصل وفد الاتحاد العام للتعليم الحر، الذي كان قد أقام حفلًا لتكريم طه حسين وهو خارج الوزارة في صيف العام الماضي، فيأذن الوزير بدخول بعض مندوبيهم بعد إلحاحهم في طلب مقابلته، ويقول لهم: «أنتم مهتمون بمستقبلكم، وبمستقبل التعليم الحر، ولكم الحق في هذا الاهتمام.

أنا شخصيًّا تعلمت في معهد حر كريم هو الأزهر الشريف، وتخرجت في معهد حر آخر وهو الجامعة المصرية القديمة، وقمت بالتدريس متطوعًا في مدارس حرة وهي مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية والمدارس الإعدادية التي كان المرحوم الشيخ عبد العزيز جاويش ينشئها، ثم إنني قمت بالتعليم في الجامعة المصرية حين كانت حرة لا تخضع للحكومة ولا تتصل بها، وأنا أنظر إلى المدارس الحرة في مصر فأرى الذين يعلِّمون فيها مصريين، والذين يتعلمون فيها مصريين، ويجب ألا يكون هناك فرق بينهم وبين زملائهم في التعليم الأميري في الحق وفي الواجب أيضًا. هذه هي نظرتي، فأرجو أن يطمئنكم ذلك وأن تنصرفوا لأقوم أنا أيضًا بما عليَّ من الواجبات.»

وينصرف المندوبون وتعلو عند خروجهم الهتافات للوزير.

الوزير يقول لمدير مكتبه: «أريد مذكرة عن حالة مدارس التعليم الحر في كل البلاد، لا أريد أن تكون لدينا طبقات مختلفة من المدارس، بعضها يصلح وبعضها لا يصلح.

وأريد مذكرة عن إنشاء نقابة للمعلمين تضمهم جميعًا وترعى شئونهم جميعًا، وتحمل عنهم الأعباء لينصرفوا إلى إتقان مهنتهم، فإن أساس التعليم الصالح هو الأستاذ الصالح.»

ومدير المكتب يرد: «طلبتم وكلاء الوزارة لتبحثوا معهم الاستعدادات التي يجب اتخاذها بعد إعلان مجانية التعليم.» ويأذن الوزير لهم في الدخول.

•••

تنتقل الوزارة إلى بولكلي في رمل الإسكندرية لانتقال الملك إلى الإسكندرية للاصطياف.

وطه حسين يترك دار الوزارة في الإسكندرية ويتجه إلى مستشفى كوتسيكا؛ حيث رُزقت ابنته أمينة بمولودها الثاني، بنت سمتها «سوسن».

يدخل غرفة ابنته بالمستشفى فيفاجئ طبيبها الدكتور حسين طبوزاده وهو يغني «آه سوزانا»، وهي أغنية أمريكية أخطرها على باله الاسم الذي سميت به المولودة. يرحب الطبيب بالوزير، والوزير يرجو أن يكون فن الطبيب خيرًا من صوته! ويستأذن الدكتور طبوزاده في الانصراف ويخرج معه الدكتور الزيات ليودعه.

ويجلس طه حسين إلى جانب ابنته ويقبلها ويسألها: «أين هي؟ أين «سوسن»؟» وتقدم أمينة المولودة «سوسن» إليه، فيحملها بين ذراعيه في حنان بالغ.

وتقول أمينة معتذرة عن ابنتها: «إنها لا تجيد الشعر الجاهلي حتى الآن!»

وتدخل الجدة إلى الغرفة وتحمل المولودة وتعيدها إلى فراشها.

والجد لا بد أن ينصرف سريعًا ليقابل وكلاء الوزارة وموظفيها المختصين لمواصلة بحث موضوعَي مباني المدارس والكتب اللازمة لمقابلة الزيادة الضخمة المنتظرة في أعداد الطلبة بعد إعلان مجانية التعليم.

وفي مكتب الوزير: يدخل الأستاذ جعفر النفراوي، وكيل الوزارة، يعرض على الوزير تقريره.

والوزير بعد سماع التقرير وسماع الإيضاحات التي طلبها يقول للوكيل: «اترك التقرير والمقترحات معي، سأدرسها وأتحدث فيها مع وزيري المالية والأشغال، ثم أدعوكم غدًا مساء لمواصلة البحث، ولكن ليكن واضحًا أنني لا أوافق على أي تأجيل، المباني تكون أبسط ما يكون، الأثاث كذلك، أما المعامل وما يلزم للتدريس فلا بد أن تكون أحسن الممكن، نحن لا نريد أي تعليم، الهدف هو أحسن تعليم ممكن، وبلوغنا هذا الهدف أو تقصيرنا في بلوغه هو مقياس نجاحنا أو فشلنا، ليكن ذلك مفهومًا وواضحًا للجميع.

التعليم يجب أن يكون متاحًا للجميع كالهواء والماء، نعم، ولكن الماء لا بد أن يكون صالحًا، والهواء يجب أن يكون نقيًّا، والتعليم يجب أن يكون سليمًا مؤديًا إلى ما نطمح إلى تحقيقه من نتائج. عن المال، سأكلم وزير المالية عن المطلوب، وزارة النحاس باشا كلها مرتبطة بما جاء في خطاب العرش من إتاحة المجانية للجميع، ولكن الحقيقة أن القادرين من أبناء مصر لا بد أن يساعدوا أيضًا، وأن يساعدوا بسخاء إذا أرادوا أن يتحاشوْا فرض ضريبة خاصة وعالية لصالح التعليم. سأقوم بنفسي بزيارة المديريات لحث الأغنياء فيها على التبرع لإنشاء بعض المدارس المطلوبة.»

•••

وتعود الوزارة إلى القاهرة، ويعود طه حسين إلى بيته في الزمالك، وهو يجلس فيه يتحدث مع زوجته.

تقول سوزان وهي ترفع صوتها بالاحتجاج: «غير معقول أن تسافر في قطارات، وتطلع وتنزل، ألا تذكر ما حدث عندما كنا في قطار النحاس باشا المسافر إلى الصعيد؟ لقد كدنا نموت في الزحام.»

ويرد الوزير: «القطارات … أنا لي تاريخ قديم مع القطارات، حكيت لك عندما نسيني أهلي في القطار؟»

وتجيب سوزان: «نعم أذكر، ولكن المهم الآن هل أنت مصمم على السفر الآن، وبالقطار، وفي جولات في الريف؟»

ويقول الوزير: «أسافر، نعم، للدفاع عن أمثال ذلك الصبي البائس الذي نسيه أهله في القطار! ثم لا تنسي أنني لست زعيمًا ولا حتى قطبًا من أقطاب الوفد، لن تكون هناك جماهير ولن يكون هناك زحام.»

وتقول سوزان: «أحضر معك.»

ويرد طه: «هذا هو المستحيل، هل تعلمين عدد فناجين القهوة والشاي التي ستقدم لي، والتي سأشربها بإذن الله؟»

•••

محطة المنصورة غاصَّة بالجماهير التي تهتف بحياة الوزير عندما يقترب القطار.

طه حسين ينزل ويشق الزحام إلى السيارة التي تتجه به إلى السرادق الذي سيخطب فيه. الوزير يجلس على المنصة وإلى جانبه مدير الإقليم وعدد من المسئولين. الوزير يبدأ خطابه.

التيار الكهربائي يقطع أثناء الخطاب، وهناك من يعتقد أن بعض المسئولين الحكوميين الذين كانوا يعارضون حركة نشر التعليم قد تعمدوا قطعه، ولكن صوت الوزير الجَهْوَرِي يعلو ويُسْمع بغير ميكروفون، فإن الجمهور الضخم قد التزم الصمت التام ليسمع في هدوء وشغف، وينتهي الخطاب فينفجر التصفيق والهتاف.

ويقول مدير الإقليم للوزير: «يا معالي الوزير، هذا يوم لن تنساه مديرية الدقهلية، على فكرة الدعوات تنهال علينا، وبإذنكم سأعتذر عنها اكتفاءً بالاحتفال الذي تقيمه المديرية وندعو إليه الجميع.»

طه حسين: «لا، لا تعتذر عنها، قل لهم سأقبل الدعوات، ولكن بالثمن!»

المدير يضحك، ولكن الوزير يقول جادًّا: «فنجان القهوة بألف جنيه، والأكل غداء أو عشاء بخمسة، هذه المبالغ تستعمل في بناء المدارس … قل لهم إن الجهل كالحريق، ولا بد من تعاون الجميع على إطفائه بأي شكل، بأي مياه متاحة، ليس من الضروري أن يكون الماء مكررًا، أريد أراضي يتبرع بها أصحابها للمدارس، وأموالًا يتبرع بها أصحابها للمباني. إن وزير المالية، بناء على طلب رئيس الوزراء، قد أعطى كل ما يستطيع، البلد أيضًا لا بد أن تساهم في إنشاء هذه المدارس الجديدة حتى يمكن أن تفتح أبوابها في أول العام الدراسي الجديد، هذه هي المساهمة المطلوبة من أهل المديرية وأصحاب الرأي في المديرية، وكذلك أصحاب السلطة فيها يجب أن يعملوا على تقديمها.»

ويعود طه حسين إلى مكتبه بالقاهرة ليستقبل أعضاء مجلس نقابة المعلمين، لقد انتخبه المعلمون نقيبًا لهم بالإجماع، أعضاء النقابة يذكرون مقال الوزير المنشور في شهر أغسطس ١٩٤٩ بالأهرام عن المدرس بعنوان «إرهاق وإملاق»، ويقولون له: «إن المدرسين يحفظونه عن ظهر قلب ويسمعونه لبعضهم «محفوظات».»

ويدعو النقيب وأعضاء النقابة الوزير لحضور الاحتفال الذي تقيمه النقابة.

وفي احتفال النقابة طه حسين يلقي خطابه عن ضرورة إنصاف المدرس.

يقول طه حسين:

… وأقسم لو استطعت ألا أترك من المعلمين مظلومًا إلا أنصفته، ولا متأخرًا إلا قدمته، ولا طالبًا إلا أجبته إلى ما يطلب، ولا ساخطًا إلا أرضيته؛ لكنت أسعد الناس في هذه الدنيا.

ويقول في نفس الخطاب:

وأنا أتمنى مع ذلك للمعلمين إتقان موادهم، وإتقان تعليم هذه المواد في المدارس …

وفي مكتبه بالوزارة يتحدث في اليوم التالي إلى بعض معاونيه فيقول: «إننا محتاجون إلى مدرسين، إلى أعداد كبيرة، ليس لمصر فقط بل للبلاد العربية كلها، وربما لغيرها أيضًا. ولتخريج المدرسين تلزمنا الجامعات، التي تلزمنا طبعًا لتحقيق أهداف أخرى هامة غير تخريج المدرسين. مصر هي قبلة التعليم العالي في العالم الإسلامي منذ زمن طويل، لدينا الأزهر أقدم جامعات العالم حتى الآن، وفي العصور القديمة كان عندنا جامعة الإسكندرية، وقبلها وفي عصر أقدم كانت لدينا جامعة عين شمس، هذه الجامعات يجب أن تعود إلى الوجود، القاهرة موجودة والإسكندرية موجودة، والآن يجب أن نُعنى بإنشاء جامعة عين شمس، هناك جامعة رابعة جامعة أسيوط وهي تحت الإنشاء، وأنا أرجو أن يوافق البرلمان على إنشاء هاتين الجامعتين الجديدتين رغم معارضة بعض الأعضاء، بعضهم يعارض لأنه لا يريد التعليم، وبعضهم لأنه لا يريد إنفاق المال. أما الذي يعارض لأنه لا يريد أن يتعلم الشعب فإننا لا نشغل أنفسنا بالرد عليه، أما الذي يعارض رغبة في اقتصاد المال فإننا نقول له إن هذه الأموال لا تُهدر، بل تُستثمر. ولا بد من أن يكون هذا واضحًا للجميع، إننا لا نريد إسرافًا ولا نقبله ولا نتسامح فيه، ولكننا نريد أن ندرج في الميزانية الجديدة كل ما يلزم للنهضة العلمية التي يريدها الشعب وتريدها الوزارة؛ لأن هذه النهضة ضرورية لتقدمنا المادي، إلى جانب ضرورتها للتقدم الثقافي. ولا تنسوا أنني سأكون المطالب بالدفاع عن هذه الميزانية أمام البرلمان، وأنا لا أريد أن أدافع عن أي عبث أو إسراف.»

ويقول وكيل الوزارة: «المهم أن نجد معاونة من وزارة المالية واستجابة من البرلمان.»

ويرد الوزير: «المفروض أننا نحن الذين نستجيب للبرلمان؛ لأنه برلمان الشعب وما نطلبه هو بعض ما يطلبه الشعب. أريد الميزانية جاهزة، ببياناتها وأرقامها واضحة، سأحتاج إلى هذه الأرقام والإحصائيات في خطابي أمام البرلمان.»

•••

مدير مكتب الوزير يذكره بأن احتفال جامعة القاهرة بإعطاء درجة الدكتوراه الفخرية للمسيو إدوار هريو سيكون بعد باكر، ويقول له: «ومعاليكم تقدمون ميزانية الوزارة في مجلس النواب بعد ذلك بيوم.»

•••

الجامعة تحتفل بمنح درجة الدكتوراه الفخرية لرئيس البرلمان الفرنسي إدوار هريو وقد حضر ليتلقى الدرجة، وحين ينتهي مدير الجامعة من إلقاء كلمته في الاحتفال يقف طه حسين وزير المعارف ويلقي كلمة يقول فيها:

سيدي الرئيس …

إني سعيد حقًّا بأن أشارك في هذا الاحتفال الجامعي البسيط، لأعرب لك عما تجده حكومتنا من الغبطة حين تشارك الجامعة المصرية في الترحيب بك والتقدير لك والإعجاب بآثارك الخصبة المتنوعة …

لقد شاركت، موفقًا، في كثير من ضروب البحث العلمي والإنتاج الفني؛ فأنت الأديب الفذُّ، وأنت المؤرخ الثبت، وأنت الموسيقىُّ البارع. وساهمت موفقًا أيضًا في أنواع مختلفة من النشاط العلمي، فأنت المصلح الاجتماعي، وأنت المربي الماهر، وأنت السياسي العظيم.

وإن حبك لمدينتك «ليون» ليُضرب به المثل، كما أنك لا تدخر جهدًا إلا بذلته في سبيل مجد وطنك الكبير «فرنسا». وأنت بعد هذا الرجل الذي يتجاوز نشاطه وتفكيره حبَّه مدينته ووطنه إلى الإنسانية كلها، فيُعنى بما تحتاج إليه من السلم، وبما تحتاج إليه من تنظيم التعاون السياسي والاقتصادي والعقلي بين الشعوب.

سيدي الرئيس

إن حياتك الخصبة درس قيم للشباب وللشيوخ جميعًا، فثق أن هذا الدرس قد فهم في مصر في كثير من الحب والإعجاب. وأْذن لي بأن أقدم باسم الحكومة المصرية أصدق التحيات وأخلص الأماني.

ويعود الوزير إلى مقعده بجوار مدير الجامعة ويقول له: «لم أكن مرتاحًا وأنا أتحدث باعتباري وزيرًا.»

ويرد المدير بقوله: «لقد تحدثت أيضًا باعتبارك أستاذًا، تحدثت باسمنا جميعًا، تحدثت في الواقع باسم مصر.»

•••

مجانية التعليم وانتشاره يترتب عليهما زيادة ميزانية وزارة المعارف، وهذه الميزانية تحتاج إلى دفاع طه حسين عنها أمام البرلمان.

طه حسين ينتهي من خطابه في مجلس النواب، ويقول أحد النواب لزميله بعد رفع الجلسة: «أربع ساعات عرض فيها طه حسين ميزانية وزارته بأرقامها وإحصائياتها بتبسيط ووضوح ومنطق شديد الإقناع.»

ويرد النائب الثاني بقوله: «الإقناع صادر عن الاقتناع.»

ويقول نائب ثالث: «أكثر المدارس المطلوبة بُنيت، والمدرسون تم إعدادهم وتعيينهم، والكتب كذلك، المال وُجد، هذه معجزة، بل هذه معجزات.»

ويقول النائب الأول: «مجلة المصور هذا الأسبوع تقول — ولها حق — إن رؤية طه حسين في وزارته تشبه رؤية قائد بين جنوده.»

ويقول النائب الثاني: «وأنت تعرف ماذا كان الإنجليز يقولون عن نابليون، كانوا يقولون إن وجود نابليون بين جنوده يعادل وجود عشرة آلاف جندي مسلح.»

ويقول العضو الثاني: «طه حسين نعم القائد! ربنا ينصره! هل عرفت أن جامعة أكسفورد قررت إعطاءه درجة الدكتوراه الفخرية؟»

•••

الوزير يخرج من قاعة مجلس النواب ويقابله الدكتور سليمان حزين والأستاذ محمد فتحي والأستاذ محمد رفعت وكيل وزارة المعارف.

يقول حزين: «لقد عرفناك أستاذًا عظيمًا لنا، ها أنت ذا قد أصبحت أستاذًا عظيمًا لنواب الأمة، لقد أقروا الميزانية كما هي، وستُنشأ جامعة أسيوط وجامعة عين شمس بالشكل الذي رسمته وأردته.»

ويقول وكيل الوزارة الأستاذ محمد رفعت: «أردت أن أطلع معاليك على الشكل الأخير لبرنامج السفر إلى أكسفورد، وعندي مشروع تكوين الوفد المسافر معك، وفيه الأستاذ محمد فتحي والأستاذ حسين عزت.»

ويقول الأستاذ محمد فتحي: «لي رجاء أن تأذنوا لي في السفر قبل معاليكم.»

ويقول الوزير للثلاثة: «اركبوا معي نقرأ ما عندكم بالسيارة.»

•••

في قاعة الشلدونيان في مدينة أكسفورد، طه حسين يدخل لابسًا الثوب الخاص بدرجة الدكتوراه بجامعتها، وخارج القاعة طلبة وجمهور يتجمعون لرؤية الوزير المصري، ينتظرون انتهاء مراسم الاحتفال، وتنتهي المراسم، ويخرج طه حسين مع حرمه وولده مؤنس وهو يقول لهما: «علينا الآن أن نسافر إلى مانشستر.»

ومن خلفهم يخرج محمد فتحي وحسين عزت وهما يعلقان على الاحتفال، يقول حسين عزت: «ما أروع الاحتفال!»

ويقول محمد فتحي: «وما أروع تقاليد الجامعة!»

ويرد حسين عزت: «وأهم من هذا كله ما أروع الوزير!»

ويقول حسين عزت: «الوزير قال لنا مرة إن التقاليد الجامعية، وحتى الأرواب الجامعية، متطورة عن تقاليد الأزهر القديمة.»

ويرد محمد فتحي: «لقد وصف الوزير الأزهر بأنه مَشْرِق النور الديني للبلاد الإسلامية كلها»، ثم يقول: «هذا يوم من أيام طه حسين»، ويقول صاحبه: «بل هذا يوم من أيام مصر.»

•••

ويصل الوزير طه حسين ومن معه إلى مانشستر، ويخرج حسين عزت ومحمد فتحي إلى السوق ليشتريا ربطات للعنق، ويسألهما البائع بعد أن اختارا ما يريدان: «أي شيء آخر؟»

ويرد فتحي: «لا، شكرًا.»

ويقول حسين: «الثمن من فضلك.»

ويسأل البائع: «أنتما في معية الوزير المصري؟»

ويقول فتحي: «نعم.»

فيقول البائع: «إن لكما أن تفخرا به، ولبلدكما أن تفخر به كل الفخر.»

ويقول حسين: «هذا صحيح، نشكرك جدًّا.»

ويسأل محمد فتحي: «والثمن؟»

ويرد البائع: «لا شيء، لقد أسعدني هذا الصباح أن أقابل رجلين من أصحاب هذا الرجل العظيم.»

ويسأل حسين: «شكرًا، ولكن هل تعني …؟»

ويقول البائع: «أعني أنني لن أقبل منكما ثمن ما اشتريتماه.»

والمشتريان يلحان والبائع يرفض، ويضطران للانصراف شاكرين، ويقول حسين عزت: «هل رأيت؟ هل تصدق؟ لقد كانوا يحذروننا ونحن صغار قبل أن نغادر مصر لأول مرة من أن «نفاصل» ولو في بنس واحد في بلاد الإنجليز، والآن هذا الرجل …!»

ويقول محمد فتحي: «يرفض أن يأخذ ثمن الكرافتات إكرامًا لطه حسين!»

•••

وتقيم جامعة مانشستر حفل عشاء لتكريم طه حسين، وبعد العشاء يقف أستاذ إنجليزي لإلقاء كلمته: الأستاذ الإنجليزي:

سيادة وزير معارف مصر، سيدي مدير الجامعة، سيداتي وسادتي

اسمح لي يا سيدي الوزير أن أحييك بأبيات من شعر شاعر عظيم من شعراء لغتكم؛ لأني وجدت هذه الأبيات أصدق ما أصفكم أنتم به، هذه الأبيات هي من شعر شاعر القرن العاشر الميلادي أبي الطيب المتنبي، يقول فيها:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم
تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى
إلى قول قوم أنت بالغيب عالم

وتضج القاعة بالتصفيق الشديد، ويقول طه حسين لزوجه: هذه الجامعة درس العربية فيها أستاذ فاضل هو الأستاذ مهدي علام.

•••

وفي أثناء حفلة العشاء التي أقيمت تكريمًا له في الجامعة يسقط طه حسين مغمًى عليه، ويذاع الخبر في الإذاعة البريطانية وتنشره صحف الصباح في إنجلترا، وتطيره عنها البرقيات والتليفونات إلى مصر وجميع أرجاء العالم.

وفي مصر في ساحة الجامعة في الجيزة طالب يقول: «هذا نتيجة إنهاك العميد لنفسه وعدم مبالاته بالتعب، لقد سافر إلى مدينته نيس في فرنسا وانتهت زيارته هناك بإنشاء كرسي مصر لدراسات البحر الأبيض، وإلى روما حيث مُنح درجة الدكتوراه الفخرية، وحيث شارك في أعمال أكاديمية عالمية جديدة مثل مؤسسة نوبل تقريبًا اسمها أكاديمية لينشي وقع عليه الاختيار ليكون أحد محافظيها، وإلى أثينا فاستقبله الملك والملكة هو وسفيرنا الأستاذ عدلي أندراوس استقبالًا رائعًا وانتهت الزيارة بإنشاء كرسي لتدريس اللغة العربية في اليونان، وسافر إلى مدريد حيث افتتح المعهد المصري للدراسات الإسلامية في ذلك البلد ذي الصلة الوثيقة بالإسلام والعرب، الذين عاشوا فيه مئات السنين، وقد اشترك في الاحتفال أحد العلماء الإسبان البارزين وهو جارسيا جوميز الذي كان تلميذًا لطه حسين، فتحدث عن فضل وزيرنا على العلم والعلماء في مصر وفي إسبانيا أيضًا.»

•••

وفي القاهرة، في كلية الآداب، يقول طالب من طلاب قسم التاريخ لزميل له: «أستاذنا شفيق غربال ألقى أمس محاضرة هامة عن كتاب «الحضارة العربية بإسبانيا» تأليف ليفي بروفنسال.»

ويرد زميله: «نعم عرفت، ومن حسن الحظ أن الأستاذ شفيق غربال بعد أن أصبح وكيلًا لوزارة المعارف، لا يزال يبحث ويقرأ ويحاضر أيضًا!»

ويقول الطالب الأول: «المحاضرة كانت ضمن سلسلة اسمها «حديث الكتب الجديدة»، المقصود منها تعريف المشتغلين بالتعليم بما يظهر من الكتب الهامة، وشفيق غربال انتهز مناسبة سفر الوزير طه حسين إلى مدريد لافتتاح المعهد المصري هناك فاختار هذا الكتاب ليحاضر عنه، وقد تعرض الكتاب لمسائل منها مسألة تأثير فتح العرب لإسبانيا على حضارة البحر الأبيض المتوسط، واستشهد بعبارات للكاتب الإسباني كلوديو سانشيز ألبورنز، الذي كان مديرًا لجامعة مدريد ثم وزيرًا لخارجية إسبانيا، قال فيها: «إن للإسباني أن يفتخر بما لإسبانيا الإسلامية من تأثير على حضارة أوروبا الغربية؛ لأن إسبانيا الإسلامية كانت من أهم أسباب نهضة أوروبا الحديثة.» ويقول زميله: لا شك أن في مثل هذا الحديث العلمي خير دعاية لنا نحن العرب.»

ويقول طالب آخر: «لقد سمعت أن طه حسين يعمل لإنشاء معهد مصري في الجزائر أيضًا.»

ويرد الأول: «لقد سمعت أن هناك وزراء حاليين ينتقدون فتح المعاهد الثقافية المصرية في خارج البلاد.»

•••

وينعقد مجلس الوزراء ذات يوم وينصرف الوزراء بعد الاجتماع، ويلزم الدكتور طه حسين منزله في اليوم التالي ليملي على سكرتيره خطابًا إلى رئيس الوزراء يقول فيه:

حضرة صاحب المقام الرفيع رئيس مجلس الوزراء١

أتشرف بأن أرسل إلى مقامكم الرفيع استقالتي من الوزارة بعد الدرس القيم الذي سمعته أمس من أحد الزملاء الوزراء، الذي علمني التواضع وأقنعني بأني لا أصلح للوزارة لأني أحسن القشور من إنشاء المعاهد التي لا تغني.

ولست أرى بأسًا من أن يأخذ مجلس الوزراء برأي الزميل الكريم، فيعدل عن إنشاء معهد الجزائر، ويلغي معهد مدريد وكرسي محمد علي بمركز البحر الأبيض المتوسط بمدينة نيس وكرسي اللغة العربية بجامعة أثينا، فكل هذه قشور لا تحارب الاستعمار ولا تحقق استقلال الأمم العربية.

عزيز عليَّ أن أشق على مقامكم الرفيع بهذه الاستقالة في وقت أنتم أحوج ما تكونون فيه إلى التفرغ لما تُعنى به البلاد كلها من جلائل الأعمال، ولكن من تواضع لله رفعه، وصدق الشاعر حين قال:

ومن جهلت نفسه قدرها
رأى غيره فيه ما لا يرى

وقد كنت أجهل قدر نفسي إلى أمس فقد عرفته الآن.

ولمقامكم الرفيع أخلص تحياتي وأصدق مودتي وأمتن وفائي.

طه حسين
أول أكتوبر ١٩٥١

•••

وترفض الاستقالة.

وبعد أيام في مجلس الوزراء يتحدث وزير المعارف مع رئيس الوزراء، فيقول طه حسين: «فيما يخص معهد الجزائر، الإخوة أهل الجزائر يرحبون به بل يطالبون به، وكنت أتحدث في هذا الموضوع مع السفير الفرنسي في مصر فرحب به هو شخصيًّا، وكتب لحكومته التي أخذت تبعث بأسئلة واستيضاحات لا معنى لها ولا سبب إلا الرغبة في التسويف ثم الرفض.»

ويرد رئيس الوزراء النحاس باشا: «طبعًا فرنسا تعتبر الجزائر جزءًا منها، واللغة الفرنسية هي لغة المستوطنين الفرنسيين الذين يعتبرون أنفسهم أصحاب البلاد، وإنشاء مصر معهدًا للحضارة الإسلامية والعربية في الجزائر معناه مقاومة هذا الاتجاه الاستعماري، وهذا لن تسمح به باريس، لن تسمح به حتى يضطرها الجزائريون وتضطرها مصر ويضطرها العرب جميعًا إلى ذلك!»

ويقول طه حسين: «وزارة المعارف كانت تفكر في التقدم لمجلس الوزراء بمشروع إنشاء مدارس مصرية ثانوية في شمال أفريقيا وغيرها، على مثال الليسيه التي تنشئها فرنسا خارج بلادها، ولو توافرت لنا الإمكانات لاستطعنا أن نفرض إنشاء هذه المدارس في البلاد العربية الواقعة تحت الاستعمار، وذلك بتهديدنا للحكومات الاستعمارية بإغلاق مدارسها عندنا إذا هي لم توافق على إنشاء مدارسنا في الأراضي العربية التي تحتلها.»

ويقول النحاس باشا: «طبعًا، هذه الأفكار واردة في كتاب «مستقبل الثقافة»، وطبعًا ستذكرني بأنني مرتبط، أنا غير ناسٍ … لكن واحدة واحدة.

والآن ندخل الجلسة وسترى أن أحدًا من إخواننا لن يعارض آراءك.»

•••

في منزل الوزير، الوزير يتحدث مع الدكتور الجراح محمد كامل حسين ومع الدكتور حسين فوزي والأستاذ توفيق الحكيم عن معهد الأحياء المائية المقام في قايتباي، ومجهود الدكتور حسين فوزي هناك، ويستطرد الحديث إلى الموسيقى وإلى دور الكونسرفتوار في مستقبل الموسيقى في مصر، يقول الدكتور حسين فوزي: إنكم ساعدتم على إحداث ثورة في التمثيل في مصر بإنشاء معهد التمثيل، وشاركتم في أول امتحان عُقد في عام ١٩٣٠ في نادي الموسيقى الشرقي للمتقدمين والمتقدمات للالتحاق بالمعهد.

يقول طه حسين: «نعم، كانت لجنة الامتحان برياسة الأستاذ محمد حسن العشماوي، السكرتير العام لوزارة المعارف في ذلك الوقت، وكان من أعضائها الأساتذة جورج أبيض وزكي طليمات وإبراهيم رمزي، ثم جاء الوزير حلمي باشا عيسى فألغى المعهد، ولكن حلمي باشا عيسى ذهب والمعهد بُعث بعد ذلك من جديد، وكان له أثره الكبير في تطوير التمثيل.»

ويقول كامل حسين: «نريد مزيدًا من الاهتمام بالمعاهد الثقافية في الخارج أيضًا.»

ويرد طه حسين قائلًا: «نحن الآن مشغولون بإنشاء معاهد للغة العربية والدراسات الإسلامية خارج مصر، إن اللغة العربية مهددة في الجزائر وشمال أفريقيا، ويجب على مصر أن تعين أهل المغرب في جهادهم للمحافظة على لغتهم وثقافتهم.»

كامل حسين: «إن كتاباتك وكتابات الأدباء المصريين تهرَّب إلى إخواننا في المغرب تهريبًا، ومجلة مثل «الرسالة» يتداولها أهل الجزائر سرًّا، ويعرفون منها أن اللغة العربية لغة حية كاللغة الفرنسية، وليست لغة متحجرة منقرضة كما يريد المستعمر أن يفهمهم؛ ولهذا تحارب سلطات الاستعمار مؤلفات طه حسين وزملائه ومجلة الرسالة وما يماثلها.»

ويرد طه حسين: «هيهات! لن يفلحوا في أن ينسى أهل المغرب لغتهم، إن جامعة الزيتونة لها في المغرب مقام يقارب مقام الأزهر عندنا.»

•••

وفي كلية الآداب يقول أستاذ لزميله: «ما هذا العيد الألفي لمدينة القاهرة والعيد الألفي لجامعة الأزهر اللذان لا يزالان يُذكران منذ سنين، تستيقظ البلاد لتتحدث عنهما ثم تنام؟!»

ويقول زميله: «المفروض أن نحتفل هذا العام بالعيد الألفي للأزهر والعيد الفضي لجامعتنا المصرية.»

ويقول الزميل الأول: «العيد الفضي يعني مرور خمس وعشرين سنة، وقد مر على إنشاء الأزهر أكثر من ألف عام! مصر إذن ستحتفل بأقدم جامعة وأحدث جامعة في العالم هذا العام.»

ويقول الزميل الآخر: «نرجو ذلك، على أن جامعتنا الحديثة قد أخذت فعلًا في إعداد الاحتفال، وأُرسلت الدعوات وعُيِّنت المواعيد.»

•••

ويُقام حفل كبير في «أنشاص» للمدعوين للاحتفال بعيد جامعة القاهرة الفضي، يتجولون في الحدائق ويتحدثون عن معرض الفن الإسلامي الذي أقيم في مناسبة هذه الاحتفالات في سراي المانسترلي في موقعها البديع المطل على النيل في منيل الروضة، وقد أبرز المعرض معالم الحضارة في مصر والحواضر الإسلامية على مدى ألف وأربعمئة عام. كذلك يتحدث المدعوون عن الحفل الذي سيُدعى إليه سفراء الدول جميعًا في القاهرة في مناسبة عيد الجامعة، وعن معهد الصحراء الذي سيفتتحه الملك في هليوبوليس ويحضره جميع المدعوين للمشاركة في احتفالات العيد الفضي للجامعة.

وفي معهد الصحراء في هليوبوليس، يفتتح الملك فاروق المعهد، ووزير المعارف «طه حسين» يتحدث أمامه عن أهمية الصحراء في العالم العربي والإسلامي كله، وأهمية دراسة إمكاناتها دراسة كاملة مستفيضة، بحثًا عن معادنها ومياهها، وصيانة لمعالمها وآثارها، ويذكر فضل بعض كبار المصريين الذين عُنوا بالصحراء واقتنوا مجموعات نافعة متصلة بحياة الصحراء، وقد أهدوها الآن إلى هذا المعهد، الذي سوف يتوفر على دراسة كل ما يهم العلماء، وكذلك كل ما يهم العاملين لخير مصر والعرب من أمور الصحراء.

ينتهي الاحتفال والملك يشكر الوزير بعد انتهاء الحفلة يقول له: «متشكر يا «باشا».»

•••

في منزله بالزمالك عام ١٩٥١ يدخل طه حسين «باشا» الصالون وهو يحمل صندوقًا متوسط الحجم، وزوجته تستمع إلى أسطوانة موسيقية تدور على «الفونوغراف» الذي اشترته عام ١٩٣٤.

يقول طه: «الدنيا تطورت، هذا الفونوغراف استُهلك.»

وترد سوزان: «لا، إنه يؤدي المطلوب منه، ما هذا؟»

ويقول طه: «هذا «ماجنتفون» أو ما يسميه الإنجليز «ريكوردر» … خليفة الفونوغراف الذي توفي إلى رحمة الله!»

وتقول سوزان: «أنت تعرف أنني لا أفهم كثيرًا في هذه الآلات.»

فيشرح طه حسين لها بالتفصيل ماذا يجب أن تفعل، وهي تعمل ما يطلبه، والريكوردر يشتغل، وتسمع ألحانًا من أوبرا حلاق أشبيلية.

وتقول سوزان: «حلاق أشبيلية! هذا تسجيل للفرقة الإيطالية التي كانت هنا في الشتاء الماضي! تذكر عندما ذهبنا …؟» وتسكت وهي تتخيل دار الأوبرا وبنوار الوزير وهو يسمع بانتباه، وتستعيد المنظر على مسرح الأوبرا وطه حسين يتابع الموسيقى ووقع خطوات الراقصين.

وتقول سوزان: «هل تذكر الخطاب الذي وصلنا في اليوم التالي؟»

ويرد طه: «نعم، الشاب المسكين الذي قال إنه كان يعاني من مصاعب وشدائد في حياته.»

وتقول سوزان: «لقد كتب لك أنه عندما رآك في الأوبرا أقسم أنك لم تكن تتابع الموسيقى فقط، بل كنت تتابع الرقص التوقيعي أيضًا، وأنه بعد أن رأى ذلك وأدرك كيف واجهت أنت بنجاح كل صعب وتحملت بنبل كل حزن، اتضح له أن مشاكله هو وأحزانه لا وزن لها، وأحس وهو يراك أنه يتخفف تمامًا مما كان يثقله من المشاكل، وأنه ينتصر هو أيضًا على أحزانه.»

ويقول طه: «نعم، أذكر الخطاب ولا أعرف من صاحبه حتى الآن، أذكر أنه قال إنه كان زميلًا لأولادنا في المدرسة. الانتصار على المشاكل ممكن، أما الحزن فإنه لا يعلن للناس، والناس لا تعرف إن كانت أحزاننا قد هُزمت أم لم تُهزم … كيف لهم أن يعرفوا؟»

ويقطع الحديث خادم يقول إن أحد إخوة الدكتور يتكلم من مدينة المنيا بالتليفون، ويتناول طه حسين التليفون فيسأل: «كيف كان ذلك؟ متى؟» ثم يقول: «في أول قطار.»

وتسأل سوزان: «أول قطار! هل تسافر؟! خير؟!»

ويقول طه: «أمي، كانت في أحسن ما تكون من الصحة والنشاط، ثم نامت وفي نومها أسلمت الروح.»

وترد سوزان في حنان قائلة: «خفف عنك، واترك دموعك تنزل، لا تبك بغير دموع، متى نسافر؟ تنام قليلًا؟»

طه حسين (يحدث نفسه) : إذا كان الصباح ووصل القطار إلى المنيا، ووصلت أنا إلى البيت وصعِدت السلم، وأردت أن آخذك بين ذراعيَّ، فلن أجدك، لن أراك بعد الآن.
سوزان : ماذا تقول؟
طه حسين : سيكون البيت خاليًا منها هذه المرة، كما خلا من قبل من والدي، هي المرأة الأولى في حياتي وأثرها باقٍ عظيم.

البرلمان المصري يقرر إلغاء المعاهدة البريطانية المصرية المعقودة عام ١٩٣٦.

رئيس الوزراء مصطفى النحاس يقول في البرلمان يوم ٨ أكتوبر ١٩٥١: «باسم مصر أمضيت المعاهدة وباسم مصر ألغيها.» الإنجليز يرفضون هذا الإلغاء، وتتصاعد الأحداث، ويهاجم جيش الاحتلال البريطاني مركز البوليس في الإسماعيلية، فتدافع عنه القوة الموجودة فيه دفاع الأبطال.

وفي ٢٦ يناير ١٩٥٢ يقع حريق القاهرة، وفي اليوم التالي تسقط وزارة مصطفى النحاس.

وفي منزل طه حسين يحضر عدد كبير من الأساتذة والصحفيين للزيارة بعد إعلان سقوط وزارة النحاس باشا، منهم الأستاذ إبراهيم مصطفى والأستاذ مصطفى عبد الرازق والدكتور محمد كامل حسين، كذلك ويحضر عدد من الزائرين من بينهم بعض أفراد أسرة رفاعة الطهطاوي ومعهم هدية الدكتور طه حسين وهي صورة لجدهم وعليها إهداء، هو:

… إلى طه حسين الذي أحيا في النصف الثاني من القرن العشرين مدرسة الألسن، التي أنشأها جدنا رفاعة الطهطاوي في عهد محمد علي باشا عام ١٨٣٦.

ويقول طه حسين: «أنا متأثر حقيقة لتقديمكم هذه الهدية، إن صراع مصر الثقافي طويل، نعم، محمد علي باشا أنشأ المدرسة، كانوا يدرسون فيها الإنجليزي والطلياني والتركي والفارسي، ولكن خلفاء محمد علي أغلقوها.»

وبعد انصراف أكثر الزوار يقول الدكتور محمد كامل حسين للوزير السابق: «مبروك، تعود إذن للإنتاج، لا أقول تأخذ شيئًا من الراحة!»

ويقول طه حسين: «نعم، سأجد وقتًا أكثر للمجمع ولجانه، وكذلك لإملاء الجزء الثاني من كتاب الفتنة الكبرى، خطتي أن يصدر الكتاب في أربعة أجزاء لم يصدر منها حتى الآن سوى الجزء الأول عن سيدنا عثمان، الآن أبدأ الجزء الثاني، وقد اخترت عنوانه وسيكون «علي وبنوه».

لا بد من الدراسة العميقة لكل هذه الأحداث الخطيرة التي أدت إلى مصرع الخليفة عثمان، والتي انتهت بانقسام العالم الإسلامي، وقد كان من بين هذه الأسباب سخط المصريين لما نزل بهم من المظالم.»

ويقول إبراهيم مصطفى: «يظهر أن المظالم مكتوبة على المصريين منذ زمان بعيد … وأن سخطهم لا يتأخر أيضًا، لو سمعت تعليقات الناس هذه الأيام على تصرفات السراي …»

•••

وفي دار المجمع اللغوي طه حسين يقول لأمين سر المجمع «الدكتور إبراهيم بيومي مدكور»: «في هذا المبنى ومع أعضاء اللجان أتذوق لذة العمل المخلص، الذي يتحاشى الأضواء، في خدمة اللغة التي هي أساس القومية العربية، لا أجد هنا الفائدة فحسب بل أجد الراحة أيضًا. صديقنا الأستاذ محمود عزمي — أطال الله بقاءه — يستعمل تعبير «بلاد العربية» لأن الحقيقة أن الرابطة بين هذه الملايين هي أساسًا اللغة الفصيحة، التي يصونها هذا المجمع الذي يتصدى لهجمات المطالبين باستعمال اللهجات العامية، وهذه مطالبة شديدة الخطر لا على لغتنا فقط، بل على تراثنا الفكري وعلى قوميتنا العربية.»

ويقول الدكتور مدكور: «إن زميلنا عبد العزيز باشا فهمي يرى — كما تعلم — أن نكتب العربية بالحروف اللاتينية.»

ويرد طه حسين: «عبد العزيز باشا فهمي عقله من أكبر العقول في مصر، ولغته العربية فصيحة بليغة، وهو كما تعلم صديق من أعز الأصدقاء، ولكني أرفض رأيه هذا وأحاربه حربًا لا تتوقف حتى نقضي تمامًا على هذه الفكرة. اللغة التركية يمكن أن يكتبها أهلها باللاتينية، أما اللغة العربية فلا، اللغة التركية ليست لها حروف خاصة بها أصلًا.»

•••

مايو عام ١٩٥٢.

طه حسين في مكتبه بالمنزل يملي على سكرتيره الجزء الثاني من كتاب «الفتنة الكبرى»، يقول: «… وكان شديد الحرص على أن يحقق المساواة بين الناس في قوله وعمله وفي وجهه، وفي قسمته لما كان يقسم فيهم من المال، بل كان يحرص على هذه المساواة حين يعطي الناس إذا سألوه … جاءته امرأتان ذات يوم تسألانه، وتبينان فقرهما، فصرف لهما حقهما، وأمر من اشترى لهما ثيابًا وطعامًا وأعطاهما مالًا، ولكن إحداهما سألته أن يفضلها على صاحبتها لأنها امرأة من العرب وصاحبتها من الموالي، فأخذ شيئًا من تراب فنظر فيه ثم قال: ما أعلم أن الله فضل أحدًا من الناس على أحد إلا بالطاعة والتقوى.»

ويتوقف الإملاء للرد على التليفون.

ويسمع طه حسين حديث محدثه ثم يضع السماعة.

ويقول طه حسين: «وزارة جديدة! إن الوزارة السابقة لم تكمل شهرًا واحدًا! مسكينة مصر، كيف يمكن العمل في هذا الجو؟!»

ويقول السكرتير: «لن ننتهي إذن من هذا الكتاب قبل السفر.»

ويرد طه: «لا بأس، نكمله في إيطاليا، قبل أو بعد مؤتمر اليونسكو في البندقية في سبتمبر القادم إن شاء الله، لا تنسَ أن نأخذ معنا كتاب «بحار الأنوار» وكتاب «فرق الشيعة».»

ويقول السكرتير: «جاهزان، وهل نأخذ أيضًا الكتاب الذي كنا نقرأ فيه أمس؟»

ويقول طه حسين: ««الأصول المهمة في معرفة الأئمة» لابن الصباغ؟ نعم، أرجو أن يكون لدينا الوقت في الصيف لمراجعة هذا كله ثم لإتمام الكتاب.»

ويقول السكرتير: «وهناك كذلك البحث الذي يجب إلقاؤه في مؤتمر البندقية.»

ويرد طه حسين: «ربنا يهون … أظن أن عندنا بعض الخطابات؟»

ويقول السكرتير: «هذا خطاب بشأن وصول السيدة هيلين كيلر إلى مصر وطلبها مقابلتكم.»

ويقول طه حسين: «هذه هي السيدة الأمريكية التي لا تبصر ولا تسمع ولا تتكلم والتي تغلبت بعزيمتها الحديدية على كل هذه المعوقات، لا، أنا الذي أذهب إلى زيارتها في الفندق، أظنه فندق «سميراميس»، وأظن أن زوجتي وولديَّ يحبان أن يذهبا معي، ولكن كيف يكون الحديث معها؟»

ويقول السكرتير: «الخطاب يقول إن معها سكرتيرة اسمها «مس طومسون» تعرف كيف تتحدث إليها، وتنقل ردودها.»

ويقول طه حسين كأنه يخاطب نفسه: «إنها لا ترى ولا تسمع ولا تتكلم … إنها لا تتكلم!»

١  نص خطاب أرسله الدكتور طه حسين إلى رئيس الوزراء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤