أوديسيوس يلقى تليماك

لقد كانت هَدْأة الفجر الساكنة الجميلة حينما هبَّ يومايوس وضيفه من نومهما ليلبسا ثيابهما ويُعِدَّا فطورهما، وليُرسل الراعي عماله وراء قطعانه النائمة بين السهل الصامت الوديع، وحينما أقبل تليماك أُهرِعت إليه الكلاب تلحس ثيابه وتلعق قدَمَيه، وتهتز في نشوة وطرب؛ لأنها رأته بعد طول الغياب، وقد لحظ أوديسيوس ذلك فقال يتحدَّث إلى الراعي: «يومايوس، هذا أحد معارفك أو الأودَّاء إليك مقبل، لشد ما تملقه الكلاب التي أوشكت من قبل أن تعقرني! لا تنبح ولا تكثر، بل تقعي في أثره ذليلة.» وما كاد يفرغ من حديثه حتى كان ولده واقفًا أمامه في رحبة الدار، وما كاد يومايوس يلمحه حتى هبَّ من مقامه مسبوهًا مرتبكًا، وحتى انقذفت الكئوس التي كان يمزج فيها الخمر من يدَيه، بيد أنه ذهب إليه يُقبِّله ثم يُقبِّله، ويُبالغ في تقبيله، كأبٍ مشوق لقي ولده فجأة بعد بضع سنين من مرارة البُعْد وألم الفراق، ثم قال يُكلِّمه: «أواه تليماك! أهو أنت يا نور عيني؟ أنت نفسك؟ أوَقَد عدت؟ تالله ما كان يخطر بخَلَدي أنك عائدٌ من سفرك بعد الذي دبَّروا لك، هلم يا حبيبي، تعال يا بني؛ فلقد عادت روحي من سفر سحيق برؤيتك! تعال تليماك فما أندر ما تزورنا هنا لطول اشتغالك بالمعاميد المناكيد!» وقال تليماك يُجيبه: «أجل أيها الصديق، غير أنني أتيت لأسألك عن أمي؛ ألا تزال مخلصة لذكرى أوديسيوس قائمة على عهده، أم أنها هجرت مهاده لتقع في شَرَك من شِراك العناكب المحدِقة بها؟!» وأجابه الراعي فوصف له ما تلقاه الأم المحزونة من الضنى والحزن، وما تذرف من الدموع في جنح الليل لما يرميها به الحدثان. ثم دخل تليماك بعد أن أخذ الراعي حربته، فنهض أوديسيوس ليُخلِّي لولده مقعده، فأبى تليماك؛ «لأن المكان فسيح، ولأن يومايوس يستطيع أن يُعِدَّ لنا مقعدًا آخر، فوالله لتجلس أيها اللاجئ الكريم.» وهيَّأ الراعي لسيده مقعدًا من الحشائش الغَضَّة والحَلْفاء الرطبة جعل عليها فروة كبيرة مما عنده، وجلس تليماك، وأحضر يومايوس فطوره في أطباق من أطباق أمس وشيئًا من الخبز والخمر، ونثر الصِّحاف على الخوان أمام مولاه، وأخذ الثلاثة يلتهمونها أكلة مريئة هانئة. حتى إذا فرغوا، توجَّه تليماك بالحديث إلى راعيه فقال: «مَنْ ضيفك يا أبتاه؟ ومتى وصل إلى إيثاكا؟ وكيف؟ وأي الملاحين حملوه إلى شاطئنا؟» قال الراعي: «والله يا بني ما أستطيع أن أُخْفِي عنك ما قال، فهو يدَّعي أنه من نسل الأماثل الأمجاد من أمراء كريت، وأنه طوَّف في الآفاق، وسافر في البلاد ورأى من المدن ما لا عين رأت، وهو يقول: إن فُلكًا قبرصيًّا حمله إلى شاطئنا قبل أن تحمله رِجْلاه إلى كوخي هذا، ولكن لِمَ هذا؟ ولِمَ أتولَّى أنا الإجابة؟ إنه أمامك وأنا أدع أمره لك، فاصنع به ما تشاء، إنه لائذ بك قاصد بابك، وأحسب أن له حاجة عندك؟» وبدا الألم في محيَّا الشاب فأجاب: «تالله لقد آلمني حديثُك أيها الأب يومايوس، أنت تجعله لائذًا بي قاصدًا بابي، وأنت تعرف مِن حالي ما تعرف، وتعلم أنني مُرزَأ بهذه الطُّغمة، مشغول بوالدتي التي لا أستطيع أدفع عنها إصْرَ هؤلاء الأنجاس المناكيد الذين طال لُبْثُهم حولها وتوقُّحهم بسببها، حتى لأخشى أن تضيق بهم فتختار مرغمة أفضلهم بعلًا لها أو أكثرهم عطاءً وأوسعهم ثراءً … بيد أنني أُوثِر أن أمنحه دثارًا وصدارًا ونعلَين وسيفًا جُرزًا، ثم أُرسله إلى أيِّ أقاليم العالم شاء في حمايتي، وإن أحبَّ فليبقَ في ضيافتك أنت، وسأرسل إليه ما هو حسبه من طعام وشراب؛ خشية أن يُرهقك وأن تضيق به؛ أما أن يصحبني إلى القصر الذي تعلم من أمره ما لا تعلم فذاك ما لا أرضاه له، فقد يغمزه أحد بكلمة فيجرحه، وأُجْرَح أنا بسببه، وأنت لا يخفى عليك أنني صغير لا أستطيع مهما أوتيت من الشجاعة أن أردَّ عادية هؤلاء الأوغاد.» وتولَّى أوديسيوس الإجابة فقال: «أوه أيها الحبيب الطيب القلب! لشد ما تتمزَّق نياط قلبي لما سمعت من أمر هؤلاء العشاق الأشقياء الذين يستبيحون منزل فتًى كريم مثلك! ولكن قل لي — إذا أذنت أن أتكلم في هذا الشأن — هل عن رضًا منك لصقوا بمنزلك فما يريمون، أو برغمك أيها العزيز؟ أليس لك إخوة يسندونك ويشدُّون أزرك فتطردهم من بيتك؟ أوَّاه لو عاد لي شبابي الآن، وأوَّاه وآه لو عاد الآن أوديسيوس، تالله لو أنني في حالك هذه لآثرت أن أُشْهِر سيفي في وجوههم فإما أن أُطهِّر بيتي منهم، وإما أن أخرَّ قتيلًا بينهم فلا تقع عيني على ما يصنعون، ولا أنظر إلى عيثهم وعبثهم بكل ما في منزل أبي من خير وميرة السنين الطوال.» فقال تليماك: «ليس سرًّا أيها اللاجئ الكريم ما بيني وبين قومي، وليس منهم من يُضمِر لي عداوة أو يطوي جوانحه لي على حقد … أما الإخوة والأشقاء فليس في أسرتنا مَن رُزِق هذه النعمة، بل هذا دأب عائلتنا منذ القدم، ذلك أرسباس لم يُنجِب غير ليرتيس، ولم ينجب ليرتيس غير أوديسيوس، وهذا لم ينجب غيري أنا، هذا المرزأ المحزون الموجع القلب؛ من أجل ذلك طمع هؤلاء الطامعون فينا، وتكالبوا على بيتنا من كل فج، فأقبلوا من ساموس ودلشيوم وزاكتوس وأطراف إيثاكا، ومن الجزر الكثيرة المنتشرة في هذا البحر؛ كلٌّ يرغب في أن تكون أمي له من دون العالمين زوجة يرغمها، فهم مقيمون لا يريمون آكلين ناعمين، يستنفدون غلة ما ترك أوديسيوس، آتين على كل ما في بيته وخزائنه، ويوشكون أن يأتوا عليَّ أنا الآخر.» ثم أمر يومايوس أن يذهب إلى القصر فيُخبر أمه بعودته سالمًا من بيلوس، فذكره يومايوس بجدِّه الضعيف الشيخ الذي امتنع عن الأكل والشراب منذ أن رحل تليماك يُسائل عن أبيه؛ وذلك مما أضواه من الهم، واستأذنه في أن يمرَّ عليه فيُخبِره بعودة مولاه حتى يطمئنَّ هو الآخر، ولكن تليماك أمره بأن يذهب من فوره إلى القصر فيُخبره، وانطلق يومايوس وكانت مينرفا تنتظر ذهابه لتبدو لأوديسيوس في صورة حسناء ذات وقار وحُسن سَمْت، وقد أخذت الكلاب بروعة مرآها فتكبكبت في أحد أركان الحظيرة، وراحت توقوق وتهر١ مما شدَهها من منظر مينرفا، وقد لَفَتَ فعلها أوديسيوس فهبَّ مسرعًا إلى ربة الحكمة التي قالت له: «الآن ينبغي لك أن تكشف نفسك لولدك فتَقِفه على حقيقة الأمر، ثم تذهب معه إلى المدينة وفي قبضتك الموت الزؤام تُجرِّعه صابًا ويحمومًا للعشاق، وسأكون دائمًا معك وسأُشْرِف على المعركة بنفسي.» ولمسته بعصاها السحرية فارتدَّ إلى صورته الحقيقية، وعاد إلى الكوخ في حُلَّته الضافية التي كانت عليه من قبل، فلما رآه تليماك شده وفرق وقال له: «أيها النازح الغريب، ماذا أصابك؟ لقد تبدَّلت أيما تبدُّل، خبِّرني أرجوك وأتوسل إليك، أأنت إله كريم فتُعْقَر لك القرابين، وتُذْبَح من أجلك الأضاحي؟» قال أوديسيوس: «ليفرخ روعك يا بني، فما أنا إله، إن أنا إلا بشر، وإن أنا إلا أبوك الذي ذهبت تذرع الدنيا من أجله، والذي بسببه غصصت بكل هذه الآلام، وصبرت للؤم هؤلاء الناس.» ثم ضمَّ إليه ولده وطفق يُقبِّله ويذرف دموعه على خدَّيه، بيد أن تليماك لم يُصدِّق وراح بدوره يقول: «أبي؟ لن تكون مطلقًا أبي، بل أنت إله تنزَّل من السماء ليعبث بي، وليزيدني شِقوةً وأشجانًا، أي بشر يستطيع أن يصنع ما صنعت وكنت منذ لحظة عجوزًا محدودبَ الظهر مجعَّد الوجه غائر العينَين، تلوح في مزق وأسمال، ثم تخرج هنيهة وتعود في هذا البدن الفينان وذاك المظهر الفتان الذي لا يكون إلا للآلهة؟» فقال أبوه: «أي بني، أنا أوديسيوس ولن يرجع إليك أوديسيوس آخر سواي، اطمئن فقد صنعت مينرفا ما رأيت بأبيك، وما صنعته أنا بنفسي، إنها ربة، ولها القدرة على كل شيء؛ ففي وُسْعها أن تُظْهِر مَنْ تشاء في صور شتَّى، وليس هذا على مينرفا بعزيز.» وأحس تليماك ما كان يشيع في كلمات أبيه من حرارة وإخلاص لا يصدران إلا عن قلب أب، فانطلق يُبادل والده عناقًا بعناق ودمعًا بدمع وقبلات بقبلات، ثم سأله كيف عاد إلى الوطن بعد كل تلك السنين الطوال؟ فقصَّ عليه قصته ثم قال له: «ولكن حدِّثني أنت عن أمر أولئك العشاق الأوغاد ما عددهم؟ وهل نستطيع، كلانا، أن نقف لهم فنظفر بهم؟» فأجاب تليماك: «أبتاه لقد سمعت الثناء على شجاعتك وسعة حيلتك وجليل حكمتك في كل ملحمة وبكل نقع؛ ثناء يلهج به فمُ الدنيا جميعًا، بَيْدَ أنه ينبغي ألا نُجازف هذه المجازفة التي لا نعرف ماذا وراءها؛ إذ ماذا يصنع اثنان بعشرين ومائة من خيرة صناديد إيثاكا وما حولها؟ الرأي أن نُفكِّر في أنصار يشدُّون أزرنا ويكونون عونًا لنا.» فقال أوديسيوس وهو يبتسم: «وما قولك يا بني في اثنَين الله — جوف العلي — ثالثهما، ومينرفا نصيرتهما على القوم الظالمين، إذا كان هذان معنا أفنحتاج إلى عون آخر؟» فقال تليماك: «بلى. تعالى جوف وجلَّت مينرفا، إن لهما لأيديَ فوق أيدي الناس؛ لأنهما يحكمان من فوق عرشهما الممرَّد فوق السحاب في الأرض وفي السماء على السواء.» وقال أبوه يزيده طمأنينة: «وسيكونان معنا في الحلبة حين يجدُّ جدُّها، فإذا كان الصباح فاذهب إلى القصر واختلط بالعشاق، وسيقودني راعينا الأمين إلى هنالك متنكِّرًا في صورة الشحَّاذ الفقير الذي رأيت، فإذا فرطوا عليَّ فلا تأس، حتى ولو كان فرطهم بالضرب والسباب، ويسرُّني أن تحتمل وتصطبر، فإذا زادوا فاصرف عني أذاهم بكلمة طيبة حتى يحكم الله بيني وبينهم حين يحين حينهم، واحذر أن تخبر أحدًا بعودتي حتى ولا أبي، بل على الأخص أمك بنلوب، أو هذا الراعي يومايوس؛ إذ ينبغي أن نستعين على أمرنا بالكتمان حتى نعرف أصدقاءنا ونخير أعداءنا.» وطمأنه تليماك وأكد له كل شيء. ثم وصل يومايوس إلى بنلوب فأخبرها بعودة تليماك، وذاع النبأ بين العشاق فذُعِروا لفشل مؤامراتهم ضده، وانتشروا خارج القصر، واعتزموا أن يبعثوا نفرًا منهم بهذا النبأ إلى الطغمة التي ذهبت تتربص بالفتى لتغتاله إذ هو عائد من بيلوس، ثم اجتمعوا يمكرون السيئات، ويُدبِّرون قتل تليماك حين تتيح فرصة أخرى، وكان ميدون قريبًا منهم فاسترق سمعهم، وطار به إلى بنلوب التي هالها ما مكروا وما دبَّروا، فذهبت في جميع وصيفاتها إلى رحبة القصر، حيث اجتمع أعداؤها إلى شياطينهم، فصاحت بزعيمهم أنطونيوس من وراء حجابها قائلةً: «أنطونيوس، تبَّت يداك يا ألأم الناس! أنت يا مَنْ يدعونك التقي الصالح وأنت أسفه مما يظنون طويةً وأخبثُ سريرة، كيف حدَّثتك نفسك بهذا التدبير السيئ فترسم لأشرارك قتل ولدي الذي لم يعد لي في الحياة رجاء غيره؟ ألأنه ضعيف بنفسه؟ ألا فاعلم أنه قوي بالله الذي ينتقم لعباده من الظالمين. أيها اللئيم، أبمثل هذا تجزي جميل أوديسيوس الذي حال مرة بين أبيك وبين أعدائه معرِّضًا بنفسه للتهلكة ولولاه لظفروا به، ولولا أن قَتَلَ منهم مَنْ قتل وصرع مَنْ صرع لعجلت روحه إلى نيران هيدز وبئس القرار، أفلم يكفك ما تأكل بغير حق من زاده، وتعبث غير عابئ بعتاده فترسم لأشرارك غيلة ابنه؟» وانبرى يوريماخوس يُهدئ من ثورتها ويُطمئنها أن أحدًا من العالمين لا يستطيع أن ينال تليماك بأذًى ما دام هو حيًّا يدبُّ على قدمَين، وكان يتكلم برغم ما كان ينطوي عليه قلبه؛ لأنه كان من أكبر المتآمرين على حياة ابنها العزيز الحبيب. وبعد أن توارت أورورا عاد الراعي إلى حظائره يدب على عُكَّازه، وكانت مينرفا قد لمست أوديسيوس بعصاها السحرية فعاد إلى صورة الفقير الشحَّاذ، وعادت إليه مزقه وأسماله، فوجد سيده وضيفه الفقير يُعِدَّان عشاءهما، ولما لمحه تليماك قال له: «ما وراءك يا يومايوس الصالح؟ أعلمت عن الطغمة التي استأنت في ساموس تتربص بي شرًّا؟» فأجابه الراعي: «تالله لا علم لي بشيء يا مولاي، فأنا لم أنتظر طويلًا في المدينة لأتسقط الأبناء؛ لأنك أمرتني أن أرتدَّ على عَجَلٍ بيد أنني لمحت مركبًا يطوي البحر إذ أنا عائد ويدخل المرفأ، وفيه من العُدَّة والعدد ما يبهر النظر ويخطف البصر، وأحسب أنهم هم الأمراء الذين تعني، غير أنني لا أجزم بهذا.»

ونظر تليماك إلى والده متبسمًا محاذرًا أن ينتبه الراعي إلى شيء.

١  الوقوقة: صوت الكلاب إذا خافت، والهرير صوتها إذا أنكرت شيئًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤