الصيدلة في الكتاب المقدس

يُعَدُّ الكتاب من أهم المراجع العلمية وأدقها خصوصًا التوراة؛ إذ قال عنه علماء الإفرنج إنه يجب على مَن يرغب التعمُّق في دراسته أن يكون مُلِمًّا وعلى درايةٍ تامة بعلوم التاريخ الطبيعي والفلك وخواص العقاقير.

وليس غريبًا إذا علم الإنسان أنه جاء في الكتاب ذكر ما لا يقل عن ٣٠٠ عقار استعملها قدماء بني إسرائيل في وصفاتهم الطبية، وروائحهم العطرية، وزيوتهم المقدسة، ولم يأتِ ذكر الطب والأطباء كثيرًا في الكتاب المقدس؛ لأن الكهنة لم يتعاطوا هذه المهنة كقدماء المصريين، غير أن الكتاب ذكر لنا في سِفْر أخبار الأيام الثاني إصحاح ١٦ وجودَ طائفتين مختلفتين من أصحاب المهن الطبية في ذلك الوقت، يبرهن على ذلك أنه كان لكلٍّ منها صناعة مستقلة بذاتها لا يتعداها، هما الطب والصيدلة.

وكان الصيادلة الأولون نباتيين عشَّابين بحكم فطرتهم، وطبيعة الأرض التي أقاموا بها، فلم يعرفوا غير ما هو نباتي من العقاقير التي تحققوا من صلاحيتها وتأثيرها بالملاحظة. وأول هؤلاء سيدنا نوح؛ إذ يقول الكتاب في سِفْر التكوين إصحاح ٩: «فبدأ نوح يكون فلاحًا، وغرس كرمًا، وشرب من الخمر، فسكر وتعرَّى داخل خيامه، فلما استيقظ من خمره علم ما فعل به ابنه.» وبديهي من ذلك أن نوح عرف الخمر، وعرف مفعولها المسكر والمخدر، بل خبر نفسه كل أدوارها.

وتقدَّم هؤلاء الصيادلة العشَّابون شيئًا فشيئًا، وشغل الكثير منهم نفسه ووقته في صناعة العطور والتفنُّن في تحضيرها، وكان للعطور في الأزمان القديمة مركزٌ خاصٌّ ممتازٌ؛ فمنها ما كان يُحضَّر للزينة للملوك والملكات كما جاء في سِفْر إستير، ومنها ما كان يُحضَّر للبخور والمسحة كما جاء في سِفْر التكوين. وبذلك كوَّنت صناعة الأطياب فرعًا هامًّا من فروع دراسة العقاقير، وغلبت تلك الروح في الصيادلة القدماء حتى أُطلِق عليهم لفظة عطَّار، وترجمهتا بالإفرنجية Apothecary التي ترجمتها الصحيحة: صاحب مخزن العقاقير، وظلت الكلمة حتى القرن الثامن عشر مستعمَلة للدلالة على الصيدلي. وأما كلمة صيدلي فهي أحدث من عطار، وينسبها العرب إلى الصندل ذلك النوع من العطور الذي كان شائعًا عند العرب، ومنها جاءت كلمة صيدلي وصندلي.

وقد فرَّقَ الكتاب المقدس — كما قلنا — بين الطبيب والصيدلي في سِفْر أخبار الأيام الثاني؛ إذ يقول عن آسا الملك ابن أبيا بن رحبعام بن سيدنا سليمان: «ومرض آسا في السنة التاسعة والثلاثين من ملكه في رحيله حتى اشتد مرضه، وفي مرضه أيضًا لم يطلب الرب بل الأطباء، ثم اضطجع آسا مع آبائه ومات في السنة الحادية والأربعين لملكه، فدفنوه في قبوره التي شيَّدها لنفسه في مدينة داود، وأضجعوه في سريرٍ مملوءٍ أطيابًا وأصنافًا عطرة حسب صناعة العطارة.»

ويرجح كثير من علماء الدين والمؤرخين والصيادلة كما يبرهن الكتاب نفسه أن الإسرائليين أخذوا صناعة الصيدلة والعطارة عن الفراعنة أيام وجودهم بمصر، كما أخذوا غيرها من العلوم والفنون، وفي ذلك يقول الكتاب: «وتعلم بحكمة المصريين.»

وقد دلنا الكتاب عن شهرة قدماء المصريين الذائعة الصيت في صناعة العقاقير، وأنهم كانوا أئمة هذا العلم يستعملونه بكثرة ودراية، وفي ذلك جاءت الآية في سِفْر إرميا إصحاح ٤٦ عدد ١١: «اصعدي إلى جلعاد، وخذي بلسانًا يا عذراء بنت مصر، باطلًا تكثرين العقاقير لا رفادة لك».

ولقد ورد عن الصيدلة أو صناعة العقاقير والعطارة في الكتاب آيات كثيرة غير ذلك دلَّتْ على ما كان للصيدلة من مركزٍ سامٍ ورفعةٍ علميةٍ، وما كان يحيطهم من التقدير والإجلال؛ إذ كلَّمَ الرب موسى في سِفْر الخروج إصحاح ٣٠ قائلًا: «وأنت تأخذ لك أفخر الأطياب مرًّا قاطرًا خمسمائة شاقل، وقرفة عطرة نصف ذلك مائتين وخمسين، وقصب الزريرة مائتين وخمسين، وسليخة خمسمائة شاقل بشاقل القدس، ومن زيت الزيتون هينًا، وتصنعه دهنًا مقدَّسًا للمسحة عطر عطارة صنعة العطار.»

وفي هذه الآية يعلِّم الله موسى تلك الوصفةَ الطبية المقدسة لزيت المسحة مُبيَّنة بها مقادير كأحسن التذاكر الطبية الحديثة، ويأمره أن لا يحيد فيها عن طريقة العطار وأصول الصنعة، أو ما يسمونه في العلم الحديث Seeordum Artem، وأن يتبع هذه الطريقة بحذافيرها، وذلك دليلٌ قويٌّ على أن هذه الصنعة كانت غاية في الرقي في ذلك العصر، أي منذ حوالي ٣٠٠٠ سنة تقريبًا.

وقال الرب لموسى خذ لك أظفارًا وميعةً وقنةً عطرةً ولبانًا تكون أجزاءً متساويةً، فتصنعها بخورًا عطرًا صنعة العطار.

وكذلك في سِفْر نحميا الإصحاح ٣ والعدد ٨: «وبجانبه رمم حنانيا من العطارين»، وظل زيت المسحة عادة متوارثة من أقدم العصور في تدشين أعظم الملوك، وأبرز الأمثلة على ذلك زيت المسحة الذي يستعمله الإنجليز لدهن ملوكهم عند توليتهم العرش.

وعلى ذلك الاعتبار نرى كثيرًا من أنبياء ذلك الزمان صيادلة عالمين بخواص كثيرٍ من العقاقير النباتية، وكانوا يصفونها في كثير من الأحيان فتشفي المرضى بقوة إيمانهم، وبالسر الإلهي الموكل إليهم، كما جاء في سِفْر الملوك الثاني: «فقال إشعياء: خذوا قرص تين، فأخذوها ووضعوها على الدبل فبرئ.»

ومَن يدري فقد يكشف البحث الحديث عن بعض أسرار طبهم وعقاقيرهم. وقد وصلت الصيدلة في العصر المسيحي في مصر مركزًا ممتازًا، يدلُّك على ذلك قرطاس زويجا الذي عثر عليه علماء الآثار، والذي يُعَدُّ دستور الأدوية عندهم في ذلك الوقت، وهو مكتوب باللغة القبطية الصعيدية، وترجمه شاسينا، وأغلب عقاقيرهم مما كان متداولًا عند قدماء المصريين، غير أنهم استبدلوا في تعاويذهم الطبية أسماء إيزيس ورع وآمون بجبرائيل وروفائيل وميخائيل.

واسمع إلى الكتاب المقدس كيف يجيد تشخيص الأمراض، وخاصةً الجلدية منها في سِفْر اللاويين إصحاحات ١٢، ١٣، ١٤ إذ يقول: «وكلَّمَ الرب موسى وهارون قائلًا: إذا كان إنسان في جلد جسده ناتئ أو قوباء تصير في جلد جسده ضربة، يؤتى به إلى هارون الكاهن أو أحد بنيه الكهنة، فإن رأى الكاهن الضربة في جلد الجسد، وفي الضربة شعر قد ابيضَّ، ومنظر الضربة أعمق من جلد جسده، فهي ضربة برص. ولكن إذا كانت الضربة لمعة بيضاء في جلد جسده، ولم يكن منظرها أعمق من الجلد، ولم يبيضَّ شعرها؛ يحجز الكاهن المضروب سبعة أيام، فإن رأى الكاهن في اليوم السابع وإذا في عينه الضربة قد وقفت ولم تمتد الضربة في الجلد، يحجزه سبعة أيام ثانية، فإن رأى في اليوم السابع وإذا الضربة كامدة اللون ولم تمتد من الجلد، يحكم الكاهن الضربة أنها حزاز. وإذا كان رجل أو امرأة فيه ضربة في الرأس أو الذقن، ورأى الكاهن الضربة وإذا منظرها أعمق من الجلد وفيها شعر أشقر دقيق، يحكم الكاهن بنجاسته أنه قرع …» وهكذا يضع الكتاب منذ آلاف السنين تشخيصًا دقيقًا للبرص والحزاز والقرع.

وأود أن أذكر القليل من تلك العقاقير التي ذُكِرت في الكتاب وفوائدها:

(١) قصب الذريرة Acorus Calamus

نبات كالغاب والقصب ينمو في الولايات المتحدة وألمانيا وإنجلترا وروسيا والهند، وأعطر أصنافه هو الهندي، ويُستعمَل من هذا النبات أجزاء السيقان المدادة التي تُسمَّى بالريزومات، ويُجمَع في فصل الخريف، ويحتوي على ١٫٥٪ إلى ٣٫٥٪ من زيتٍ عطريٍّ، ومادة راتنجية، وأخرى قابضة.

ويُستعمَل في الطب طاردًا للأرياح ومنعشًا مرًّا مقويًا في جرعات تتفاوت إلى ٣ جرامات، واستُعمِل كثيرًا في التوراة للتعطير والبخور، وقد ورد ذكره في سِفْر الخروج ونشيد الإنشاد الإصحاح الرابع، العدد ١٤؛ إذ يقول: «ناردين وكركم قصب الذريرة وقرفة من كل عود اللبان مر وعود من كل أنفس الأطياب.»

(٢) البلسان أو بلسم جلعاد Balsamo-Dendron Jileadense

وهو الراتنج أو المادة الصمغية المتحصلة من هذا النبات، وهو شجيرة تنمو في شرق الأردن ومدينة جلعاد، وكانت تُستعمًل في التكوين طبيًّا؛ إذ جاء في إصحاح ٤٣ أنه كان بين الهدايا التي أرسلها يعقوب إلى ابنه يوسف في مصر: «خذوا من أفخر جَنْي الأرض في أوعيتكم، وأنزلوا للرجل هدية قليلًا من البلسان، وقليلًا من العسل، ولادنًا وفستقًا ولوزًا.»

وفي إصحاح ٣٧ عدد ٢٥: «ونظروا إذا قافلة إسماعيليين مقبلة من جلعاد، وجمالهم حاملة كثيرًا وبلسانًا ولاذناد، ذاهبين لينزلوا بها أرض مصر.»

وفي إرميا إصحاح ٤٦ عدد ١١: «اصعدي إلى جلعاد وخذي بلسانًا يا عذراء بنت مصر، باطلًا تكثرين العقاقير ولا رفادة لك.» وفي إصحاح ٥١ عدد ٨: «سقطت بابل بغتةً وتحطمت ولولوا عليها، خذوا بلسانًا لجرحها لعلها تشفى.»

ويحتوي هذا البلسان على زيتٍ عطريٍّ بنسبة ٠٫٥٪ وكذلك راتنج وحمض العفصيك، وتُستعمَل كمقوٍّ وطاردٍ للبلغم وقابضٍ للجروح.

(٣) الأفسنتيين Yaruous artmiaia

وهو من الفصيلة المركبة، ومن أنواع الشيح، وهو نبات شجيري ينمو في الولايات المتحدة وأوروبا وشمال أفريقيا، وتحتوي أوراقه — وهي المستعملة طبيًّا — على زيت عطريٍّ بنسبة ٠٫٥٪ وراتنجات ومواد مرة، وهو سامٌّ ويُستعمَل بجرعات صغيرة، مقوٍّ ومنشِّط وطارد للديدان ومجهض، وقد ورد ذِكْر ذلك كثيرًا في سِفْر إرميا إصحاح ٢٣: ١٥: «ها أنا أطعمهم أفسنتينًا، وأسقيهم ماء العلقم. أيحرث عليه البقر، حتى حوانم الحق سمًّا وثمر البر أفسنتينا.»

(٤) الحشيشة الزوفاء Hyssop or Capparis spinosa

وهي حشيشة لا يزيد طولها عن ٤٠سم، تنمو في آسيا الوسطى وشواطئ البحر الأبيض، ومن النباتات التي موطنها مصر، وخواصها عطرية ومقوية وطاردة للأرياح ومسكنة.

وهو نباتٌ سامٌّ، وهو الآن موضع أبحاث كثيرٍ من العلماء لاكتشاف جميع خواصه العلاجية وموارده الفعالة، وكان يُستعمَل أيام اليهود للرش والتطهير.

وذكرت في سِفْر الخروج إصحاح ١٢ عدد ٢٢ يقول: «خذوا باقة زوفاء واغمسوها في الدم الذي في الطست …» وكذلك في سِفْر اللاويين إصحاح ١٩.

وفي سِفْر الملوك الأول إصحاح ٤ عدد ٣٣ إذ يقول عن سليمان إنه تكلَّم عن الأشجار من الأرز النابت في لبنان إلى الزوفاء النابت في الحائط، ومن هذا نرى أن سليمان كان عالمًا نباتيًّا عظيمًا.

ومن المزمور الحادي والخمسين لسيدنا داود يقول: «طهِّرني بالزوفاء فأطهر، اغسلني فأبيضَّ أكثر من الثلج.» وترجم الإنجليز كلمة Purge التي معناها أعطني مسهلًا.

وجاء في يوحنا إصحاح ١٩: ٢٩: «وكان إناءً موضوعًا مملوءًا خلًّا، وإسفنجية من الخل وضعوها على زوفا …» وفي متى ٢٨: ٤٨.

(٥) المقل Bedellium

وهو راتنج صمغي ناتج عن أصناف النبات المسماه … وهو يشبه المر في منظره، ويباع قطعًا مثل المستكة ولكنه أحمر اللون طعمه يشبه طعم الفلفل، وينمو في أفريقيا والهند وبلاد العرب والنوبة، وهو من أقدم النباتات التي ذُكِرت في التوراة أيام آدم إذ يقول: «ذهب تلك الأرض جيد، هناك المقل وحجر الجزع …» تكوين ٢: ١٢، وفي سِفْر العدد إصحاح: «وأما المن فكان كبذر الكسرة، ومنظره كمنظر المقل.»

(٦) المر Myrrh

وهو من نفس فصيلة المقل، وينمو في شمال أفريقيا وبلاد الصومال واليمن، ويُستعمَل كدواء مَعِديٍّ منشِّط، وفاتح للشهية ومسهل، ولغسيل الأسنان، وكان يُستعمَل في التوراة في دهن المسحة ودفن الموتى، وجاء ذكره في إنجيل متى إصحاح ٢٧: ٣٤: «أعطوه خلًّا ممزوجًا بمرارة ليشرب، فلمَّا ذاق لم يرد أن يشرب.» وفي مرقص إصحاح ١٥: ٣٣.

(٧) بخور اللبان

وهو المادة الصمغية العطرية المتخلفة على النبات المسمَّى Pinus بعد إفراز العصير المسمى بالبلسم، ويُستعمَل للبخور، وجاء ذكره في:
  • سِفْر الخروج إصحاح ٣٠ عدد ٣٥.

  • سِفْر التثنية إصحاح ٣٣ عدد ١٠.

  • سِفْر أرميا إصحاح ١٨ عدد ٢٦.

  • سِفْر أرميا إصحاح ٤ عدد ٢٠.

  • سِفْر أرميا إصحاح ٤١ عدد ٥.

  • سِفْر أرميا إصحاح ٢٤ عدد ٢١.

  • سِفْر أشعياء إصحاح ٣٣ عدد ٣٣.

  • سِفْر أشعياء إصحاح ٦٠ عدد ٦.

  • سِفْر أشعياء إصحاح ٦٦ عدد ٣.

(٨) الزيتون

وتُعتبَر شجرة الزيتون شجرة مقدسة رمز السلام، وعنوان المحبة والإخاء، وأول ما جاء ذكرها أيام سيدنا نوح في سِفْر التكوين، واستُعمِل زيته في دهن المسحة.

(٩) الناردين Spikerardi

وهو زيت من فصيلة اللاوندة، ويُستخرَج من زيت الناردين الفاخر، وكان الناردين من أحسن العطور وأكثرها شيوعًا وأغلاها ثمنًا لرائحته الزكية، وقد ذُكِر عدة مرات في نشيد الإنشاد إصحاح ١ عدد ١٢ إذ يقول: «جاءت امرأة ومعها قارورة طيب ناردين خالص كثير الثمن، فكسرت القارورة وسكبته على رأسه.»

(١٠) الصبر Aloe

جاء ذكره في سِفْر العدد إصحاح ٢٤ عدد ٦، وسِفْر مزامير إصحاح ٤٥ عدد ٦، وسِفْر أمثال إصحاح ٧ عدد ١٧.

وقد جاء غير ذلك ذكر كثير من العقاقير مثل: القرفة العطرة، والحناء، والسليخة، والعود، والشبة، والتعطينة، والخردل، والكمون، واليانسون، والنعناع، والسيدار، والزعفران، وقشر الرمان، وجميعها تُستعمَل في الطب.

ووفق هذا وقبل كل هذا، فقد كان المسيح له المجد أكبر أطباء الروح والمعالج الأعظم؛ فقد شفى الأعمى والأكمه والأبرص وأقام الموتى.

وكان لوقا البشير من كبار أطباء عصره كما ينصُّ بذلك الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤