منشأ مهنة الصيدلة

العشاب – العطار – الصيدلي – التخصص في المهن الطبية

(١) العشاب والعطار الصيدلي

لا بد وأن تكون صناعة الدواء ملازِمة لظهور الإنسان على البسيطة، ولا بد وأن الإنسان الأول حين كان هائمًا مع الوحوش يبحث عن الغذاء بين النبات والحيوان لاحَظَ بعض خواص ما كان يصادفه أو يستعمله بتأثيره عليه. ولا بد وأنه كان يعلِّم ابنه بما أوحت إليه الطبيعة، وهكذا توارثت الأجيال مشاهدات السلف.

والإنسان أول نشأته زراعي، ولا بد أنه قد لاحَظَ بعض خواص ما قد رزقه الله من النباتات التي كان يأكلها بتأثيرها عليه، فأحَبَّ ما كان منها سائغًا، وأعرض عن ما غض منها، وكان تأثيره عنيفًا غير مرغوب فيه. وهكذا اختار له من بين النباتات مجموعةً كان يتداوى بها في شكل يعبر عنه اليوم أنه بدائي خشن، ولكنه كان يتناسب على كل حال وطبيعة ما حولهم.

ومن هنا نشأ العشاب الأول Herbalist ونشأت صناعة العقاقير النباتية، واعتقد العشابون الأوائل في بلاد الشرق في Sumer وبابلونيا وسوريا ومصر أن هذه المهنة مقدَّسة، أنشأها الآلهة الذين علَّموا الإنسان ما لم يعلم من الخواص الشفائية للماء والأعشاب والنباتات والزيوت، وأن هؤلاء الآلهة أنفسهم قد تعاطوا المهنة قبل أن يُخلَق البشر.

ومن هنا خلال آلاف السنين نشأت العقيدة المقدسة عن صناعة الطب والدواء على مر العصور المتتالية.

وظلَّ البشر يتوارثون تلك الصنعة المقدسة آلاف السنين، يحفظونها خلفًا عن سلفٍ دون كتابة.

وعندما تعلَّمَ الإنسان الأول فنونَ الكتابة بدأ العشابون يكتبون علومهم على لوحات من الطين كما حصل في بابل بالخط بالمسماري، ويكتبونها على شرائح البردي كما حصل في مصر، وكانت هذه المعلومات المكتوبة هي الخطوة الأولى لوضع Herbals المجموعات النباتية، ولا شك أن دساتير الأدوية الحالية تحوي الكثير من تراث هذه Herbals١ المجموعات النباتية الشرقية التي كانت في الغالب تحوي الوصفات التي امتزج فيها السحر بالدواء. ورغم هذا فقد ثبت على مر العصور أن هذه المدونات القديمة، وهؤلاء العشابون كانوا على معرفة حقة بخواص بعض العقاقير، ولو أنها كانت معرفة بدائية. وعلى أي حال فعلومهم الطبية الفطرية هذه تُعتبَر اللبنة الأولى في أساس البناء الطبي الحديث.

وقد كان فضلُ العشاب الأول المصري كبيرًا في تأثيره على الحضارة اليونانية، والتي أنتجها فيما بعدُ ديستوريدس وجالن، والتي تُرجِمت بجميع لغات أوروبا اللاتينية والإيطالية والألمانية والفرنسية والأسبانية والأنجلوسكسونية.

وتدلنا جميع المستندات التاريخية التي عثرنا عليها من حضارات البلاد الشرقية القديمة مثل الصين والهند وبابل؛ على أن العشاب الأول كان من بين الآلهة، وأن هؤلاء الآلهة العشابين هم الذين أوحَوا للبشر بما في علمهم.

وكان البشر يعتقدون أن الأعشاب الطبية ما هي إلا رسالات عن الآلهة، وأن عصاراتها كذلك، وأن بعض العقاقير النباتية الشافية كانت تحوي بعض ما في روح الآلهة.

ومن الآلهة انتقلت تلك المعلومات القيِّمة عن كثير من العقاقير إلى الكهنة بحكم وظائفهم الدينية، وكانت لهم حكمة عالية تحدَّث عنها التوراة عند الكلام عن موسى فقال: «وتعلم بحكمة المصريين.» ومع مضي الزمن، وفي ظل تلك الأسرار الخفية المقدسة التي كان الكهنة يعالجون بها المرضى اكتسبوا صناعة السحر والفلك والكيمياء لما بين هذه جميعًا من علاقة وثيقة.

وظلت صناعة العشاب تتطور مع دورات الزمن، ونشأت عن هذه المهنة صناعة العطارة التي احترفها العطار، والتي جاء ذكرها كثيرًا في التوراة.

والعطَّار في القاموس هو بائع العِطْر، وقد تُرجِم الأصل العبري لهذه الكلمة وهو Rakach إلى اليونانية Apothecary، وحفظت جميع اللغات الأجنبية هذا الاسم حتى الآن، وترجمته هذه اللغات بمعنى صانع العطور أو العطَّار، ثم أُطلِق مجازًا فيما بعدُ على الصيدلي؛ لأن كلمة صيدلي أصبحت أهم وأعم وأحدث. وكلمة Apothecary أصلها من المحزن Apotheca وهي كلمة يونانية. ويُرجِع الكثير من المؤرخين أن صنعة العطارة التي وردت كثيرًا في التوراة قد أخذها الإسرائيليون عن مصر أيام وجودهم بها، كما أخذوا غيرها من العلوم والفنون الأخرى.
ولا زال في صعيد مصر من أعمال مديرية أسيوط يوجد بلد اسمه أبو تيج يحمل هذا الاسم Apotheca، وقد كان هذا البلد مخزنًا عامًّا أيام الرومان. وقد جاء في سِفْر الخروج إصحاح ٣٠ ما يأتي: «وأنت تأخذ لك أفخر الأطياب مرًّا قاطرًا خمسمائة شاقل، وقرفة عطرة نصف ذلك مائتين وخمسين، وقصب الذيرة مائتين وخمسين، وسليمة خمسمائة شاقل بشاقل القوس، ومن زيت الزيتون هينًا، ونصفه دهنًا مقدسًا للمسحة عطر عطارة صنعة العطار.» After the Art of Apothecary. وظلت صنعة العطار من أرقى المهن المتداولة، وكانت تعبر عن صناعة الصيدلة، وظلت كذلك حتى الآن في فرنسا حيث صدر فرمان عام ١١٧٨ يحدد طبقات الشعب، ومنها Apothecarie.

وأما الصيدلية، فهي كلمة عربية أعم منها إلى المراد بها، وهي في القاموس بيع العطر والأدوية، وصيدلان: بلد أو موضع، والنسبة صيدلاني وصدناني وصندلاني، وهو بياع العطر والعقاقير والأدوية، والمشهور في بائع العطر: العطَّار، وبائع الأدوية: الأجزائي نسبةً إلى أجزاء، وعقاقير من عقار وعقر، والعقار: هو النبات الذي يعقر الإبل في الصحراء أيْ يسمها وعينها، ومنها أُطلِق لفظ عقار على النبات السام، وعمَّمه العرب على النباتات ذات الفائدة الطبية، وأقرباذين لفظة فارسية جاءت من «كربدن» وهو دستور الأدوية، ومعنى أقرباذين: هو فن تركيب الدواء.

وجاء في قاموس آخر أن الصيدلة هي بيع العطور والأدوية، والصندلاني هو بائع الصندل، والصيدلاني هو بائع الأدوية، والأعطار والأجزائي من جزء.

خلال هذا التسلسل رأينا كيف تطوَّرت صناعة الصيدلة في الأزمان القديمة من العشاب إلى العطار إلى الصيدلي. وكلمة Pharmacy الإفرنجية التي معناها الصيدلة أصلها يوناني قديم، يرجع بها العهد إلى العصور اليونانية أيام أبقراط وهومير، فقد استعملوا كلمة Pharmakan للدلالة على عقار أو دواء أو سم، وهي كلمة من أصل لغوي معناه يخلط أو يمزج، وكلمة Pharmakeia التي تُرجِمت فيما بعدُ بالصيدلي Pharmrcist، وكلمة Pharmaka بمعنى العقار السام أو الشافي.
وفي عصر النهضة الإسكندرية في مصر أيام الرومان ظهرت مصطلحات طبية صيدلية لا زالت مستعملة حتى الآن:
  • العقاقير Medicina = Drugs.
  • دواء أو سم Medicamentus = Medicine or Poison.
  • مخزن دواء Apotheca = Warehouse for drugs.

ولا شك أن دول الشرق العريقة تتنافس في أيها أقدم في هذه المعلومات الدوائية، وأيها كان عنده أقدم الآلهة العشابين، ويقول بعض المؤرخين إن إمبراطور الصين هوانج تي الذي حكم حوالي ٢٦٣٧ قبل الميلاد، والإمبراطور شين نونج حوالي عام ٢٦٩٩ق.م قد وضَعَا مصنفًا في الأعشاب الصينية أو ما يشبه دستور الأدوية.

ومع ذلك فقد أثنى كتاب اليونان على مهارة العشاب المصري القديم، ومما لا شك فيه أن العشاب المصري القديم في عصور ما قبل التاريخ وعصور ما قبل الأسرات، ومن بعدها عصور الأسرات؛ كان على علم ودراية بالأعشاب المصرية الطبية، بدليل ما وجدناه وعرفناه من عقاقيرهم النباتية التي وردت في بردياتهم، والتي لا شك أنها لا تظهر فجأةً وطفرة واحدة، وإنما موروثة عن الأسلاف، فقد رأينا صور بعض النباتات الطبية على أوانيهم الفخارية مثل نبات الصبار.

والآلهة المصرية القديمة التي اشتهرت بمعرفتها لخواص الأعشاب هي ولا شك نتيجة صدى الماضي البعيد الذي يرى في آذان الشعب المصري القديم ومخيلته حتى خلق هذه الناحية المقدسة.

ولا بد أن هذه الآلهة كانت تحكم الأرض منذ أزمان سحيقة جدًّا، وظل الشعب يتداول تقديرها والرفع من مكانتها حتى وصلت إلى تلك المكانة المقدسة، وأن العقل المصري القديم لم يخلق هذه الآلهة خلقًا وبدعًا وطفرةً، بل قد توارثها عن الأجيال التي مرت فيها من مرتبة الإنسان إلى مرتبة الألوهية، ويغلب على الظن أن أغلب الآلهة التي خلقها الفكر البشري كان ملوكًا في أزمان سحيقة جدًّا.

ومن أهم الآلهة العشابين في مصر القديمة هم: أوزوريس، وإيزيس، وتحوت، وأنوبيس وإيمحتب، ورع، وحاتحور، وخنسو، وسخمت، وغيرهم، وسنذكرهم بالتفصيل فيما بعدُ.

(٢) التخصُّص في المهن الطبية لدى الفراعنة

لم تكن العلوم الطبية الفرعونية تؤخذ ارتجالًا بل علمًا ووراثةً، وكان هناك مدارس خاصة لتعليم الحرف الطبية المختلفة؛ إذ إنه لدينا الأدلة القوية التي تجعلنا نعتقد أنه كان بمصر منذ أكثر من ٣٠٠٠ عام مدرسة للعشابين من علماء الطب.

وقد تخرج من هذه المدارس الطبية رجال أخصائيون في مختلف علوم الطب، فكان منهم الأطباء الجراحون، وأطباء الجيش، والأطباء البيطريون، وأطباء الأسنان، والأطباء الروحيون، والأطباء المحنطون، والأطباء العشابون وهم الصيادلة، وهذا يثبت أن التخصُّصَ كان قائمًا أيام الفراعنة.٢
وذكر ديودور العقلي٣ أن أطباء الجيش كانوا يعملون بدون أجر أثناءه، وأما أطباء الشعب فقد كانوا يتقاضون أجورهم منه، وذكر زوسيموس٤ حوالي عام ٣٠٠ب.م أن الكاهن الأعظم يمكن مقارنته بالطبيب الذي أخذ علمه من الكتب، ويمكن أن نسمي هذا بالطبيب العام، وقد أمكن التمييز بينه وبين الطبيب الساحر.
وذكر بليني٥ الأطباء الذين يقومون بعملية التحنيط، ووضعهم بين الأطباء الكهنة.
ويقول بدج٦ إن أقدم هؤلاء جميعًا هم الأطباء العشابون أو الصيادلة الأوائل، وهم الذين كانوا يعرفون خواص العقاقير النباتية وفوائدها الطبية والعلاجية، وهم الذين وضعوا أصول الصيدلة القديمة وبرعوا فيها.

وكان هناك طبقات ممتازة من الأطباء أيام الفراعنة، وهم أطباء القصور الملكية، وجاء ذكر هذه الطائفة لأول مرة في التاريخ المصري القديم أيام الملك نفر إير كارع من الأسرة الخامسة، بينما الملك يفتش بعض الأعمال وفي معيته وزير الأشغال بتاح واش، إذ جُرِح الوزير خلال هذه الرحلة الملكية، فدعا الملك رجال الطب، وأمر أن تُحضَر خزانة العقاقير والبرديات الطبية، وقام كبير الأطباء الملكيين بفحص الوزير … إلخ.

وقد كشف الأستاذ يونكر مقبرة «إيري» في الجيزة، وقد كان طبيبًا للقصور الملكية في الدولة القديمة، وكان رئيسًا للأطباء ووزيرًا للصحة، وكان فوق ذلك أخصائيًّا في أمراض العيون، والطبيب الرمدي للقصور الملكية.٧
كل هذه المستندات تثبت أن التخصص كان موجودًا في مهنة الطب عند قدماء المصريين، وكان بينهم:
  • (١)
    أطباء:
    • (أ)

      أطباء الجيش.

    • (ب)

      أطباء القصور الملكية.

    • (جـ)

      أطباء الشعب.

  • (٢)

    الأطباء الجراحون.

  • (٣)

    أطباء الرمد.

  • (٤)

    أطباء الأسنان.

  • (٥)

    الأطباء البيطرون.

  • (٦)

    أطباء التحنيط.

  • (٧)

    الأطباء العشابون أو الصيادلة.

وكان لهذه الفئات أسماء هيروغليفية خاصة تميِّزها، وقد جاء في وصفه في بردية إيبرس٨ ما ترجمته:
إذا وجدت أن الأمعاء ساخنة ووجدت مقاومة في فتحه المريء في المعدة Cardia، يمكنك أن تشخِّص المرض بأنه حالة كبد، ويمكنك أن تحضر له الدواء العشبي السري الذي يُصنَع بواسطة «السنو»، وهو العشاب أو الصيدلي.
وفي هذه التذكرة يخاطب صاحبُ البردية وكاتبها الطبيبَ الذي يفحص المريض ويشخِّص الدواء ويقول له أن يترك تحضير الدواء للطبيب المختص بالتحضير، وكأنه في هذه الحالة يوجد شخصان مهمان للقيام بالعلاج في هذه الوصفة:
  • (١)

    الطبيب الذي يعالج.

  • (٢)

    والطبيب الذي يحضِّر الدواءَ العشبي وهو الصيدلي.

نص التذكرة.

١  Sir E. A. Wallis Budge: The Divine origin of the craft of the Herba Herbalist.
٢  Herodotus II. 8, Maspero, Dawn 216. Eaman, Ranké 409, Sarton, Isis 1931, XV. 359.
٣  Diodorus Siculus I. 82, II. 223, III. 226.
٤  Berthelot, Collection des Anciens Alchim istes Grecs.
٥  Pliny VII. 56, XIX. 5.
٦  Budge, Hérbalist 1928, 12.
٧  H. Junker: “Die Stele des Hafarztes Iry”. Breasted: The Edwin Smith Surgical Papyrus, Vol. I, P Xill.
٨  Ebers 36, 7–10.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤