آلهة الطب والصيدلة عند قدماء المصريين
الطب والروحية والسحر جميعها ظلت متلازمة كأنها علم واحد في جميع مراحل التاريخ المصري القديم.
وإن تلك القوى الغامضة التي كانت شفاء للإنسان والتي أوحت إلى رجال الطب علومهم، كانت موضع رهبة المصريين وتقديسهم؛ مما دعاهم أن يوجهوا كل شيء تقريبًا في الدواء والطب إلى أرواح الآلهة، ومما دعاهم أن يعتقدوا أن الآلهة هم أول مَن تعاطى صناعة الطب والدواء، وفوق ذلك فقد حاول المصري القديم الذي تعاطى صناعة الطب والدواء أن يحفظ نفسه بهالة كبيرة من الغموض والرهبة والتقديس. ومن هنا كان لهذه الثقافة الطبية الفرعونية مكان مقدس بين عقائدهم الدينية، حتى إن صدى الماضي ظل يرن في وجدانهم من هذه الناحية رنينًا قدسيًّا خرجوا منه بأن الآلهة هم أول مَن احترف هذه المهنة المقدسة، ومن هنا كثرت آلهة الطب في العصور الفرعونية وبعدها، نذكر منها:
(١) أوزوريس Osiris
ومن أهم مصادر البردي عن هذه القصة واحدة من مجموعة المستر «شستر بيتي» التي اشتراها عام ١٩٢٨، والتي عثر عليها في دير المدينة الواقع في الجهة الغربية من النيل بالأقصر، ويرجع تاريخها إلى الأسرة العشرين والحادية والعشرين، أي منذ عهد الرعامسة، وقد أهدى شستر بيتي هذه المجموعة من أوراق البردي إلى المتحف البريطاني وسُمِّيت باسمه، وقد قام السير ألن جاردنر بترجمتها ونشرها في كتابٍ خاصٍّ، ومن بين هذه المجموعة قصة إيزيس وأوزوريس أو قصة الصراع بين حور وست.
وقد كان هذا الصراع عنيفًا على عرش مصر، وكان أوزوريس وديعًا كريمًا، وكان ست قويًّا شريرًا، وكانت إيزيس تحب أوزوريس وتحنو عليه، وتضعه من قلبها مكانًا قدسيًّا، كل هذه العوامل دعت ست أن يقاتل أخاه أوزوريس، وأن يلقي بأشلائه في ماء النيل، وقد بحثت إيزيس حتى جمعت هذه الأشلاء جميعها عدا عضو التذكر الذي ابتلعه السمك، ووضعت هذه الأشلاء واحدة واحدة مكانها، ورفعت صوتها إلى السماء، وتساقطت منها الدموع، ودبت الحياة في أوصال حبيبها أوزوريس، ولكنها حياة لم تسمح له أن يستمر في هذه الدنيا، بل عاش في عالم الآخرة يحكم بين المرحومين.
ويُعتبَر أوزوريس رب الخصب والعشاب الأول الذي علم الناس خواص النباتات والزراعة وزراعة الكروم، وصنع من الكروم الخمر، وهو في هذه الناحية ونوح صنوان؛ إذ جاء عن نوح في التوراة: «وابتدأ نوح يكون فلاحًا، وغرس كرمًا، وشرب من الخمر فسكر …»
(٢) إيزيس Isis
وقد عُبِدت إيزيس في مصر مع زوجها وأخيها أوزوريس على أنهما أول من اخترع الطب والدواء في العالم، وقد ظلت هذه الفكرة حتى أيام جالن إذ نسب إليها بعض الوصفات كما رأينا تمامًا في بردية إيبرس، مما يقطع أن جالن قد أخذ الكثير عن قدماء المصريين.
(٣) تحوت Thoth
بعد أن وضعت إيزيس ابنها البكر حورس تركته مرغمة بعض الزمن في مناقع الدلتا، فأرسل ست إله الشر عقربًا لدغت الطفل الإلهي فمرض حتى الموت، ولما رجعت إيزيس ووجدت ابنها حورس على هذه الحال ضرعت إلى رع الذي سمع إليها، وأوقف قارب اللانهاية الذي يسبح فيه، وأرسل إليها تحوت ليساعدها على شفاء الصبي.
ويعد بعض المؤرخين تحوت المصري، الذي يعرفه الإغريق باسم «هيرمس» ويرمزون له بالزنبق، أنه أول مَن اخترع الصيدلة والطب، ويغالون أنه وضع ستة مؤلفات في أبواب مختلفة استعملها قدماء المصريين في جميع مرافق الحياة، وكان من بين هذه المؤلفات كتاب ضخم خاصٌّ بالصيدلة، وينسبون إليه اختراع الكيمياء والكتابة والزراعة.
وقد كتب المؤرخ العظيم «جاميليكس» الكثير عن معتقدات المصريين، وقال إن قساوستهم كانوا ينسبون إلى تحوت اثنين وأربعين مؤلفًا، منها ستة على التوالي للتشريح والأمراض الباطنية وأمارض النساء والجراحة والصيدلة.
وقد كان تحوت رب الأشمونين بجوار مدينة ملوي، وقد رمزوا له بالطائر أبو قردان لأنه دائم البحث عن غذائه ينقب عنه في باطن الأرض، وقد رسموه كثيرًا في جسم إنسان ورأس إيبس.
(٤) أنوبيس Anubis
هو إله الموتى وحارس الجبانة ورب التحنيط، وكان تقديسه شائعًا في جميع أنحاء مصر، وكان أهم مراكز هذه العبادة مدينة ليكوبوليس وهي أسيوط حاليًّا، وكان له منطقة عبادة أخرى في الدلتا في مدينة ليكوبوليس الشمال.
ومما يدل على هذا ما جاء في مقدمة بردية إيبرس، كما ذكرت من أنها قد وُجِدت تحت قرص أنوبيس في مدينة ليتوبوليس، وأن هذا الكتاب قد سُلِّم إلى سمتي خامس ملوك الأسرة الأولى.
(٥) الإله خنوم
عُبِد أولًا في صورة كبش، وعُبِد لأمر واضح هو قدرته على الخصب والإنتاج، ونجد أنه قد تطور واتخذ صفة أخرى وهي صفة الخالق، حتى صوره المصريون في بني حسن على هيئة آدمي له رأس كبش، أي إنه ذلك الإله الذي عُبِد أولًا على صورة حيوان لم يبقَ من حيوانيته الأولى سوى الرأس. ثم اتخذوا له إله الفخار يديرها ليخرج منها الخلائق من الطين، ولذلك سُمِّي «الفخراني»، ونرى ذلك واضحًا في الدير البحري. وقد أصبح هذا الإله فيما بعدُ طبيبًا وموَلِّدًا يهرع إليه الحوامل من النساء ليستعنَّ به، واتخذ له زوجًا على صورة ضفدعة. وكان يُعتبَر طبيب الحوامل في منطقة بني حسن، وعُبِد في فيلة على أنه حارس منابع النيل.
(٦) سخمت
زوجة الإله بتاح وأم الإله نفرتوم، وعُبِدت في منف، ورمز إليها المصريون باللبؤة (أنثى السباع)، واعتبرت ربة السطوة والجبروت. وأُطلِق عليها اسم الجراحة، وكان إذا نزل طاعون نسبوه إلى سخمت لقوتها، وكان الأطباء الجراحون يُنسبون إلى سخمت ويُعتبَرن كهنة لها، ولدينا نصٌّ في بردية إيبرس يذكر ثلاثة أنواع من الأطباء بينهم الطبقة المعروفة باسم «سخمت واب»، أي كاهن هذه الإلهة أو الطبيب الجراح.
(٧) إيمحتب Imhetep
لم تجد بين مَن وصلوا إلى درجة التقديس من البشر أو مما خلقه الفكر الفرعوني مَن عاصَرَ جميع أزمنة التاريخ المصري القديم رغم تيارات السياسة والدين فيها مَن ظلَّ محتفظًا بمكانته مثل إيمحتب.
وأول ما ظهر إيمحتب المصري الخالد على مسرح التاريخ وزيرًا وطبيبًا للملك زوسر في الأسرة الثالثة في بلدة «عنخ تاوي»، أي مدينة حياة القطرين.
- (١)
منصب الوزير الأول.
- (٢)
منصب وزير الأشغال.
- (٣)
رئيس الكهنة.
- (٤)
الساحر الأعظم.
- (٥)
رئيس الكتبة.
- (٦)
الطبيب الأعظم ورجل الدواء الأول.
- (٧)
رئيس القضاء.
- (٨)
حامل أختام الملك.
- (٩)
الفلكي الأعظم.
- (١٠)
المشرف الأول لخيرات السماء وأرض النيل، أو رئيس مخازن الملك.
من بين هذه الألقاب جميعًا لم يحمل التاريخ ذلك التقديس الرهيب إلا عن طريق العلاج والطب والصناعة الطبية التي أسبغت عليه مرتبة الألوهية، وأصبح في فترة من التاريخ المصري أحد ثالوث طيبة، فهو ابن بتاح وسخمت، وقد امتدت عبادته حتى أقصى بلاد النوبة، وقد وصلت أيضًا إلى أقصى ما يصل إليه التقديس، وأقصى ما تصل إليه العبادات أيام البطالسة، حتى إننا عثرنا في معابدهم على كثيرٍ من الرسوم التي تشير إلى ذلك.
وقد شيدت له المعابد في أنحاء القطر التي كان أهمها معبد ممفيس، الذي أصبح فيما بعدُ مدرسة للدواء والطب والسحر.